أبحاث

العلاقات الدولية للأمة الإسلامية في منظومة فكر الإمام وحركته

العدد 119/120

المقدمة: منطلقات الدراسة وأهدافها:

1-    اتسمت ادبيات صادرة من فكر وحياة الإمام بعدة ملامح تجدر الإشارة إليها ابتداءً؛ لأنها تمهد لتحديد أهداف الدراسة ومنهجها، ومن أهم هذه الملامح- في حدود ما تمت قراءته من هذه الأدبيات- ثلاثة: تنوع مبررات الاهتمام بهذا الفكر، تعمد مداخل واقترابات دراسة الخبرة الفكرية والحركية، مدى التوظيف لفهم أو علاج مشاكل راهنة أو معاصرة تشهدها كل مرحلة ومنية من مراحل إصدار هذه الأدبيات.

2-    على ضوء الملاحظات الثلاث التمهيدية السابقة يثور التساؤلان التاليان: ما هو مبرر الاحتفال الآن بالأستاذ الإمام ودوافعه؟ وأين مدخل العلاقات الدولية بين مداخل دراسة فكر الإمام وحركته؟ ومن ثم فإن هدف دراستي له وجهان:

الأول- هو تحقيق إضافة وتراكم في مجال الدراسات عن الإمام من مدخل العلاقات الدولية.

الثاني- إعادة ما كتب عن الإمام وما كتبه انطلاقاً ن غايات تفعيل التراث وتوظيفه وليس مجرد إعادة سرده وتكراره. ومن أهم صور هذا التفعيل هو أن يكون هذا التراث مصدراً للعبرة والتذكرة أو البحث عن حلول للمشكلات.

ومن ثم نستطيع ان نقول أن هذه الدراسة بدأت من القراءة في ” الأعمال الكاملة” لمحمد عبده وبعض الدراسات عنه خلال العقدين الماضيين بهدف استكشاف حجم ما يتصل بالعلاقات الدولية وموضوعه وطبيعته.

كما أن القراءة الأولى لهذه الأعمال لا تساعد في التعرف على هذا المدخل وإن كانت القراءة الثانية تساعد كثيراً في أن لا نكتفي بما عرف بالكتابات السياسية عن الاقتراب من فكر الإمام من مدخل العلاقات الدولية، ذلك يطرح سؤالاً جوهرياً: ما العلاقة بين العلاقات الولية والإصلاح والتجديد الديني والتربوي والتعليمي ؟ سؤالاً يقع في  صميم الدراسة الأول.

ون ناحية أخرى لابد من إعادة القراءة على النحو الذي يجيب عن سؤالين متراكبين:

–         ما الذي تحقق من مشروع الإمام فىي واجهة القوى الخارجية؟ وما الذي لم يتحقق؟ ولماذا؟

–         وكيف انعكس ذلك على ما وصل إليه حال الأمة؟ وما هى الدروس التي تقدمها خبرة المائة عام( بعد الإمام) مقارنة بطموحات مشروعه لتجديد الدنيا بالدين.

بعبارة أخرى، الدراسة تميز بين مستويين: مستوى عصر الأمام وأثر سياقاته على دوافع فكر الإمام وأهدافه ومبرراته، ومستوى ما آل إليه مشروع الإمام ومنهجيه الإصلاحي ومدى مصداقيته عبر العقود.

وتنقسم الدراسات إلى جزأين وخاتمة:

    الأول- يتناول أسباب الاهتمام بمدخل العلاقات الدولية لدراسة فكر الإمام والإشكاليات التي يطرحها للاختبار انطلاقاً من طبيعة منظومة فكره التى تنبني حول مفهوم ” الإصلاح والتجديد الديني و التربوي”.

الثاني- يقدم ابعاد العلاقات الدولية وقضاياها فى منظومة فكر الإمام استناداً إلى منهاجية في القراءة، حددت محطات منهاجية وموضوعية تتصل بالعلاقات الدولية.

خاتمة: تقدم تصوراً عن الدلالات الراهنة لنتائج خبرة الإمام الفكرية.

أولاً- القراءة فى منظومة فكر الإمام وحركته من مدخل العلاقات الدولية:  

الأهمية والإشكالات:

إن العلاقات الولية فى تلك الفترة – عصر الإمام- وكما اتضح من القراءة الأولية فى مصادر الدراسة هى العلاقات بين الدول والشعوب والأفراد وهى أيضاً العلاقات فى موضوعات وقضايا متنوعة ابتداءً من الشأن العسكري والسياسي إلى الأقتصادي ووصولاً إلى المجتمعي- الثقافي- التربوي، وهى العلاقات التي تتراوح بين النماط الصراعية والأنماط التعاونية. ومن ثم فهذه العلاقات تعبر عن تفاعل عبر القومية ومن ثم يجسد أبعاد المنظور غير التقليدي لدراسة العلاقات الدولية بالمنظور التقليدي، وهما منظوران رئيسيان تبلور بينهما الجدل فى مجال دراسة نظرية العلاقات الدولية عبر النصف الأخير من القرن العشرين، ويعبر هذا النمط من العلاقات بدرجة أكبر عن أبعاد منظور حضاري إسلامي لإدارة العلاقات الدولية ودراستها. وهو المنظور الذى يجعل من الأمة مستوى للتحليل ومن الدعوة دافعاً ومحركاً للعلاقات بين الأمم ومن الجهاد بمستوى القتالي الصراعي والسلمي التعاوني أداة إدارة هذه العلاقات بل و القيمة المرجعية لهذه الإدارة. ومن الرؤية الشاملة مدخلاً لقضايا العلاقات في مجملها.

إنه المنظور الذى يجعل من كل ما سبق منهجية أساسية في فقه واقع هذه العلاقات الدولية.

ما هى خصائص عصر الإمام ومشاكل علاقات الأمة؟

تؤكد هذه الخصائص أهمية القراءة في منظومة فكر الإمام وحركته من مدخل العلاقات الدولية حيث أن دراستها توضح ما وصل غليه التحدي الخارجي للأمة وكذلك طبيعة التحديات الداخلية ودرجتها وقت تفاعلها مع التحديات الخارجية تأثيراً وتأثراً وتأكيداً لأهمية تأثير العصر على الإمام.

وعن خصائص العصر بصفة خاصة قدم العقاد رؤيته عن موضع الفترة التي ظهر فيها محمد عبده مقارنة بما قبلها ودلالة هذه الفترة بالنسبة لما هو آت، فلقد شخص العقاد حال الأزمة الكبرى للعالم الإسلامي وما نتج عند صدمة الاحتكاك المباشر بالمغرب مع الحملة الفرنسية.

وتمثل ذلك في أن القضية الكبرى في هذا العصر هى صدمة الغرب وأن اليقظة التي ترتبت عليها واجهتها بعض القيود من أهمها تصارع الاتجاهات والمرجعيات حول جدوى الإصلاح وسُبله، وأخيراً قيام مجموعة من النخب والعاة بمهام الإصلاح لمواجهة هذه الصدمة كان على رأسهم محمد عبده برؤيته ومنهجه الذي قدم نموذجاً متميزاً فى هذه المهمة الانتقالية الخطيرة وتتلخص خصائص ذلك العصر فما يلي:

1-    الأزمة الكبرى التى واجهت المسلمين ترجع إلى ضعف الدولة العثمانية وإلى الجمود والتخلف والأنحراف الفكري بالإضافة إلى الانحراف الاجتماعي السياسي الناجم عن التخلف في مجال العلم والقوة.

2-    بداية اليقظة الإسلامية بتياراتها الثلاثة: الإصلاح الديني (التوحيد) والإصلاح السياسي الاجتماعي.

3-    تزامن مع هذه اليقظة الإسلامية وتوازى معها تيار آخر ركز علىه الغرب الأضواء ألا وهو التيار العلماني  الذي وصفه الغرب بالحداثة والتقدمية في حين وصف التيار الأول بالجمود والتقليدية أو المحافظة.

4-    وبعد أن ركزت اليقظة الإسلامية في القرن الثامن عشر على اللغة والفقه والعقيدة والتصوف توسع نطاقها ليشمل قضايا: الوحدة، والعروبةودورها في مقاومة الاستعمار، والتربية و التعليم وإصلاح مؤسسات الأمة وعلى رأسها الأزهر، ميدان السياسة الوظنية، العلم والحضارة.

ومن ثم أضحت مجالات الإصلاح : عقيدية سياسية مجتمعية وثقافية.

ومن أهم نتائج القراءة المقارنة التراكمية في الأدبيات عن خصائص ذلك العصر ما يلي:

·        أن القرن التاسع عشر شهد قمة التصاعد في وزن التدخلات الخارجية في العالم الإسلامي.

·        بروز النقاش حول العلاقة بين العوامل المادية وغير المادية في تفسير ضعف المسلمين.

·        اختلفت استجابات الرواد وزعماء الإصلاح على ضوء درجة التعرض لتحديات خارجية ومن ثم درجة التأثير الخارجي، والعلاقة بين العوامل الإداريةوغير الإدارية في تفسير فكرهم وحركتهم. كانت لقضية الكبرى لعصر محمد عبده هي صدمة الغرب ولكن مع وضع الاحتلال العسكري والضعف الحضاري والأزمة الفكرية الحادة والتجزئة انعكست هذه القضية ثلاثية الابعاد: ” الاحتلال، الضعف، التجزئة” على فكر الرواد وزعماء الإصلاح في هذه المرحلة. ويظل مفتاح الاقتراب من البناء الفكري للإمام قضية منهاجية حيث تتعدد هذه المفاتيح بتعدد الاقترابات والتخصصات كما سبق التوضيح.

وغذا كان كل منها يركز عل منطقة تخصصه في البناء إلا انه يبقى لمدخل العلاقات الدولية ميزة الإسهام في عرض الرؤية الكلية لهذا البناء نظراً لطبيعة عصر الإمام الذى كانت قضايا العلاقات الدولية من أهم محدداته ومؤشراته على فكر الإمام وخبرته.

ومن ثم نستخلص من ذلك أن المقولة الأساسية التي يخلص إليها التحليل السابق هى أن الشيخ الإمام المفتي لم يتبنِّ رؤية مبسطة ولكن رؤية مركبة في تفاعله مع قضايا عصره وهذه الرؤية جمعت بين التحديات لكبرى لعصره.

كما أن دراسة العلاقات الدولية للأمة الإسلامية في منظومة فكر الإمام وحركته تتمحور حول مجموعتين من الغشكاليات: أولهما- منهجية ومعرفية، وثانيهما- موضوعية.

ثانيًا- توجه وقضايا العلاقات الدولية للأمة الإسلامية في فكر الإمام:

إن حديث العلاقات الدولية للامة الإسلامية يتطلب اقترابًا من التوجه العام في فكر الإمام تجاهها ومن كيفية تحديد قضايا هذه العلاقات وأدوات إدارتها وموضع ذلك كله من منظومة فكر الإمام ومن خبرته الحركية التي تأرجحت بين خبرة الإصلاح والثورة والنضال السياسي ضد الأستبداد المتحالف مع القوى الخارجية. وتتضمن الإجابة على هذا الاقتراب الإجابة على مجموعة من الأسئلة التى تتصل بهذه المحاور الثلاثة: التوجه، القضايا، الآليات؛ وهي:

–         كيف أدرك الإمام تأثير “الآخر” على حال المسلمين وسبل صعودهم؟

–         ما هى عناصر القوة الأساسية التي يلزم على المسلمين إدراكها لتفعيل منظومة قوتهم الشاملة؟ ما هو مفهومه عن القوة والمصلحة؟

–         كيف فسر سقوط مصر تحت الاحتلال المباشر وغيرها من الدول الإسلامية؟ وكيف شارك فى مقاومة هذا الاحتلال؟

–         وكيف تصور سبل مقاومة الاستعمار في مصر وباقي أرجاء الأمة؟

وما هي إشكالية العلاقة بين القوة الصلدة والقوة الرخوة في تصوره عن أفضل هذه السبل؟

1-    التوجه العام : إصلاح دين الأمة وفكرها هو في صميم السياسة، ومن الإسلام وبالإسلام من أجل القوة والحرية والأستقلال.

التوجه العام للسياسات الخارجية للدول وإدارتها لعلاقاتها الدولية.

ومن ثم نتساءل عن ما هى أهداف الإمام؟ وما هي استراتيجيته لتحقيق هذه الأهداف؟ وما هو تصوره  لما يجب أن تكون عليه أمته؟ وما هى ادواته؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتمحور في إشكاليتين أساسيتين وهما إشكالية العلاقة بين الفكري والسياسي، وإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي وكلاهما احتل نصيبًا وافراً في الأعمال الفكرية والأكاديمية التي اهتمت بدراسة سيرة الإمام وعصره وأبعاد فكره وحركته.

أولا – إشكالية العلاقة بين الفكري والسياسي:

 قولة الإمام المشهورة في كتابه عن ( الإسلام والنصرانية) : ” أعوذ بالله من السياسة ومن لفظ السياسة….”.

هناك العديد من التفسيرات حول رؤية الإمام وما كان يقصده من وراء هذه العبارة وإن كان يمكن لنا الإشارة غلى أن الأستاذ الإمام كان يرى أن الإنسان لم يخلق ميالاً للشر بل إنه مجبول على الخير محب للسلام كيف لا وقد فطره الله افضل فطرة وقومه أحسن تقويم وفضله على الحيوان بالعقل.

ومن ثم نجد أن توجه الغمام – بلغة العلاقات الدولية- هو توجه قيمي ولكن واقعي أيضًا يربط القيم والأخلاق النابعة من الدين والمنقولة بواسطة التعليم والتربية بمتطلبات تغيير الواقع وإداراته.

ومن ثم فهذا التوجه يعكس الرؤية الوسطية عن قضايا الجهاد وكذلك عن مفهوم القوة  وعناصرها وأيضًا بالنسبة لفواعل الإصلاح وقادته.

ولهذا فإن انتقال الإمام من الإصلاح إلى الثورة إلى الإصلاح في ظل الاحتلال لم يكن تأرجحاً بين الإصلاح والسياسة وغنما كان سياسة تدير عملية تحقيق الأهداف بأدوات متعددة وهذا هو المفهوم الواسع للسياسة الذي لا يقصرها على علاقة الحاكم بالمحكومين أو ممارسات السلطة العليا أو السياسات الحزبية فقط وبذا يصبح هذا المفهوم الواسع للسياسة هو الأقرب للمفهوم الإسلامي.

ولذا فإنه إذا كان الإمام قد ذمً السياسة فلقد ذمً الوقوع في إسار “السياسات العليا” فقط و “الأعمال الثورية” وما أسماه “الهياج والوفوضى” في حين أن السياسة ليست ثورة فقط ولكن درجات متنوعة من الممارسات بتداءًا من قمة السلطة السياسية وحتى قاع المجتمع.

الإشكالية الثانية-العلاقة بين الديني والسياسي:

لعل أعمال الإمام-وخاصة رسالة التوحيد، والإسلام والنصرانية-، التي يتصدى فيها جميعًا للدعوة إلى إصلاح العقيدة من ناحية وحسن فهم الإسلام والدفاع عنه من ناحية أخرى، لعل رسالة هذه الأعمال تبين أن نقطة البدء ومصدر الانطلاق لدى الإمام لمن يريد إنهاض الأمة وتقدمها هي الإسلام.

ومن ثم فإن رؤية الإمام كمجدد من مجددي الإسلام؛ عقيدة وأحكامًا وسننًا وموضع الإسلام لديه كمصدر للقيم والأخلاق والتربية وموضعه من السياسة ومن العلاقات بين الأمم يجب أن تؤخذ كل هذه الأمور بدقة حتى لا تقود إلى التباس كما حدث مثلاً مع تناول موقفه من “السلطة المدنية” ودلالتها بالنسبة للفصل بين الدين والسياسة، فهل الإمام قدم إسلامًا علمانيًا أو مدنيًا أو ليبراليًا أم ظل يتكلم عن الإسلام وبالإسلام كإطار مرجعي لتحديد الدنيا بالدين؟

فمن ناحية: يمثل الإمام تيارًا وسطيًا بين التيار الإسلامي التقليدي الذي هاجمه الإمام هجومًا شديدًا باعتبار رموزه لصوصًا سرقوا الإسلام وقادوا المسلمين إلى نوع من الشرك وبين تيار أنصار التغريب الذين أسماهم الإمام بالمتمدينين ورأى في تشديدهم على كون النقل تخلفًا وأن في التراث قيودًا تشد الأمة نقيضًا لأهل الجمود الذين يرون في العقل كفرًا وفي الحضارة الحديثة نقيضًا للإيمان بالدين.

ومن ناحية أخرى وعلى عكس انتقاد البعض لتمسك الشيخ بالتراث أكثر مما تتطلبه دعوة التجديد فإن البعض الآخر أشار إلى أن الإمام المصلح قد وظف الدين للإصلاح فقد اهتم أن تكون التربية الإسلامية في جوهرها.

ومن ناحية ثالثة وعن حديثه عن “السلطة في الإسلام” طرح مفهوم “السلطة المدنية” التي ليس لها سند ديني ولم يكن يعني بذلك في نظر البعض فصلاً بين الدين والدولة في الإسلام بل كان الإمام يؤمن بأن الإسلام نظام شامل لأمور الدين والدولة وتتضمن كتابات الإمام السياسية الكثير من الأدلة على هذا الأمر.

ومن ناحية رابعة كان لوضع الإسلام في منظومة فكر الإمام تأثيرها على رؤيته للعلاقة مع الغرب والتي يبرز من بينها أيضاً وضع الدين وتأثيره.

خلاصة القول على ضوء مناقشة الإشكاليتين السابقتين، أن الإمام المصلح الديني والتربوي قد – باعتباره مصلح الدنيا بالدين-جديداً في أمر قضايا العلاقات الدولية؛ ولهذا فإن امتدادات الداخل إلى الخارج واضحة بجلاء في فكر الإمام وحركته تجاه هذه القضايا، فالتربية الإسلامية والعلوم الحديثة سبل من أجل تنمية الرأي العام ومنع الاستبداد ومقاومة الاحتلال ومواجهة النفوذ الأجنبي. ويظهر ذلك جليًا من القراءة في العديد من أعماله التي وإن يبدوا أنها متصلة أساسًا بالإصلاح التربوي والتعليمي أو الإصلاح الديني إلا أننا نجد تشخيصها لواقع الأمة وسيل علاجها لا ينفصل أبدًا عن تشخيصها لوضعها في العالم وقدرتها على التخلص من الاستبداد والاحتلال والتجزئة.

ح- قضايا العلاقات: قضايا ثلاث كبرى:

الاستعمار/الاستقلال – العلاقة مع الغرب/تفاعل أو إلحاق – التجزئة/الوحدة، وهي قضايا غير منفصلة وتنعكس على مواقف الإمام ورؤاه تجاهها وخصائص التوجه العام السابق شرحه. كما أنها قضايا مركبة وشائكة في الوقت نفسه نظرًا لما ثار حولها من اختلاف في التقييم والتفسير، استكمالاً لما ثار من اختلاف وجدل بين التيارات المختلفة حول التوجه العام لمواقف الإمام.

وانطلاقا من الالتباس حول فكرة الإمام وخبرته والناجمة في مجملها من الجدال بين مواقف المحافظين والمجددين من فكر الإمام وحركته، تظهر ثلاثة أسئلة شاع طرحها حول القضايا الثلاث الكبرى للعلاقات الدولية للأمة الإسلامية وهي:

–         لماذا التحول – بعد العودة من النفي – عن السياسة بل والتعاون مع سلطة الاحتلال وهو الفقيه والمشارك من قبل في الثورة العرابية؟

–         لماذا الانفتاح على الغرب والأخذ عنه وهو الفقيه الإسلامي والإمام أليس في هذا تهديد للهوية والذاتية؟

–         هل تجاوزت وطنيته المصرية متطلبات روابط الأمة الإسلامية ووحدتها؟

وإذا كان الالتباس حول فكر الإمام ناجمًا عن طبيعة المرحلة حيث كانت صدمة الغرب وما ارتبط بها من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية من ناحية وبداية تنازع المرجعيات الأصلية والوافدة من ناحية أخرى؛ ولذا فمن الواجب أن تجري إعادة قراءة لفكر الإمام وحركته على ضوء هذه الأسئلة.

وقبل الدخول في تفاصيل الإجابة على هذه الأسئلة يجدر التوقف ابتداءً عند وضع السنن في فكر الإمام، وهي التي اهتم بها في نطاق رسالة التوحيد وفي نطاق تفسيره لآيات القرآن، أن سنن الله الحاكمة للكون والاجتماع البشري والتاريخي التي تبين أن قيام الأمم ونصرها أو هزيمتها مرتهن بأعمالها وسلوكها. وإذا كان الإمام محمد عبده قد وضع أسس التفكير في السنن فلقد توسع السيد رشيد رضا في ذلك ن بعده كما أن السنن عند الإمام يمكن ذكر بعض النقاط بخصوصها.

أولا – “إن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون مع الثبات من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقًا أو باطلاً، دائماً يصلون إلى مقصدهم بشئ من الحق والخير ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستنادهم إلى ما معهم من الحق وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات، بالإضافة لذلك اهتم الأستاذ الإمام بتوضيح أنواع عديدة من السنن مثل:

–         السنن الكونية والاجتماعية.

–         سنن الله في الغنى والفقر بين الأفراد والأمم.

–         سنن التدافع بين الحق والباطل.

–         من سنن الاجتماع البشري الإملاء للكافرين.

–         سنة التبديل والتغيير.

وفيما يلي تحليل للإجابات عن أسئلة كل من هذه القضايا الثلاث الكبرى:

القضية الأولى- الموقف من النفوذ الأجنبي والاستعمار والاحتلال:

الأسباب والعواقب وسبل المقاومة:

يمكن متابعة هذا الموقف من خلال أربعة مراحل من تطور خبرة الإمام قبل اشتراكه في الثورة العرابية وخلال الثورة ومع فشلها ووقوع الاحتلال وخلال ومع فشلها ووقوع الاحتلال وخلال مرحلة نفيه خارج مصر وأخيرًا بعد عودته إلى مصر وتوليه عدة مناصب :

1-    تشخيص واقع الأمة الإسلامية ومصر: القابلية للاستعمار:

هناك من يصنف الإمام محمد عبده في فئة المقاومين للقابلية للاستعمار انطلاقًا مما آل إليه واقع حال الأمة من تخلف وجمود واستبداد وانحطاط للرأي وانعدام للحرية ولقد سجل محمد عبده هذه الأسباب بوضوح وبأكثر من طريقة منذ انطلاقته الإصلاحية الأولى قبل المشاركة في الثورة العرابية ونفيه ثم عودته وهو يحمل على أربعة مصادر لما حاق بالأمة من ضعف.

–         المتاجرون بالإسلام من الذين قالوا الكثير من البدع التي لا علاقة لها بالإسلام.

–         الجبرية والجمود والتقليد.

–         عدم حركتهم تحت تأثير الجبرية والقدرية والتواكل في الوقت نفسه الذي تأكد فيه استبداد الحكام وجورهم وفسادهم.

–         أمام عدم قدرة المحكومين على الفعل.

وقد قدم محمد عبده تشخيص حالة المجتمع في جوانبها المتنوعة؛ اقتصادية وثقافية وسياسية وقدم رؤية نقدية للحياة المصرية في القرية والمدينة محدداً حالة الفقراء والأغنياء. كما قدم تشخيصاً تفصيلياً وشاملاً للحياة السياسية المصرية قبل الثورة وأسبابها.

ومن واقع هذا التشخيص الذي قدمه الإمام يتضح لنا أنه تشخيص مركب لا يقتصر على عامل واحد هو ” الفكري الثقافي” غنما ينطلق إلى سائر العوامل وهو الأمر الذي يفسح المجال للسؤال التالي:

ألا يدل ذلك على أن الإمام كان مستعداً لنهج مسالك أخرى للتغيير إلى جانب الإصلاح التربوي والتعليمي الذي يمثل ركيزة منظومته؟ ولكن متى؟ وكيف؟

2-    فشل الثورة العرابية واحتلال مصر: ما بين الأسباب الداخلية والأسباب الخارجية جاءت الثورة العرابية ممثلة لذروة ما وصلت إليه التطورات السياسية والمجتمعية للأزمة المصرية التي استحكمت خلالها قبضة الاستبداد وتزايد النفوذ الأجنبي وتدخلاته.

من المهم الإشارة إلى أن الإمام شارك في الثورة حين أضحى خطر التدخل الأجنبي والهجوم العسكري قائمًا وذلك بعد أن تردد لفترة في المشاركة، ولم يكف خللها عن انتقاد قادتها وأهدافهم واساليبهم ومعارضة انتقادتهم النخب المستنيرة وبيان خطورة الهياج وفوضى الراي العام بل والتخدير من نمط إدارة الثورة ومحدودية إمكانياتها العسكرية….الخ.

من ناحية اخرى فقد انتقد الإمام الخديوي واتهمه بالخيانة لتعاونه مع الإنجليز لوأد الثورة وحماية عرشه بل وتآمر مع محافظ الإسكندرية لخلق الفوضى بإثارة الفتنة بين المسلمين والأوربيين على نحو أدى إلى مذبحة الإسكندرية وفي طنطا ايضًا مثلت ذريعة من ذرائع  تدخل الإنجليز.

كما أرجع الاحتلال إلى افتقاد مصر للرجال ذوى العزيمة والإرادة والمانة والإخلاص رافضًا مبررات الإنجليز بأن الاحتلال ناجم عن أوضاع داخلية مؤكدًا أنه نتاج جشع إنجليزي.

وبعد نفيه ظل الإمام مستهدفًا الاحتلال بالهجوم والاتهام ولم يكن عمله مع الأفغاني لإصدار العروة الوثقى من فرنسا إلا سعيًا للتوعية وتعبئة الأمة من أجل مقاومة الأستعمار.

وقد تحول مسار الإمام في نضاله السياسي من التركيز على الدول والحكام للتركيز على الشعوب والأمم سواء في الداخل أو الخارج مستهدفًا إياهم بكلماته وأفكاره الرافضة للاحتلال والمنذرة لمبرراته.

ومن ناحية أخرى ظل الإصلاح التربوي والتعليمغاية وهدفًا أسمى لدى الإمام ولقد وفرت له فترة إقامته في الشام فرصة إعداد مشروع لإصلاح  التعليم في سوريا ولبنان قبل ان يضطر إلى مغادرتهما إلى أوروبا تحت وطاة ضغط السلطان العثماني بعد أن امتد انتقاد الإمام وهجومه إلى سياسات الىستانة. ولم يستعد الإصلاح مكانته الأساسية الظاهرة لدى الإمام إلا بعد عودته من المنفى ودخول علاقته بالاحتلال مرة أخرى.

3-    عواقب الاحتلال وسبل مقاومته: معضلة الإصلاح في ظل سلطة الاحتلال هل يمكن المقاومة

بغير القوة المسلحة والنضال السياسي؟

يمكن تصنيف الموقف من الاحتلال في التوجيهات التالية:

الاتجاه الأول-  الذي يقدم التفسيرات أو التبريرات أو التسويغات لتعامل الإماممع سلطة الاحتلال؛ سواء من حيث دعوته لمقاومة بالتربية والتعليم وعلى النحو الذي لا ينقض قيمته كمصلح ديني بل واعتبار دعوته للإصلاح الديني والفكري سلاحًا هامًا من أسلحة مقاومة الاحتلال بل وتعبيرًا عن المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل الذي لا يفصل بين الديني/ السياسي أو الفكري/ السياسي.

الاتجاه الثاني – يتهم محد عبده بمولاة سلطة الاحتلال حمايةً لنفسه والاستقواء بكرومر في مواجهة الخديوي ويرى أنصار هذا الاتجاه أن الإمام ضحى بمبدأ قاومة المحتل تحت وهم الإصلاح.

الاتجاة الثالث- ويرى وجوب  الفصل بين مشروع الإمام الإصلاحي الفكري والديني وبين مواقفه السياسية. فقد وصف مشروعه الإصلاحي بين أبرز المجددين في حين أن مواقفه مع المحتل قد أفادت المحتل أكثر ما خدمت أهداف محمد عبده.

ويمكن لنا إجمال رؤية ترى أن الإصلاح كان هو القيمة الكبرى لدى الإمام والقاعدة الحاكمة لتحقيق قيم أخرى ومن أجله قبل الإمام بفكرة المستبد العادل وبالتفاعل مع سلطة الاحتلال وبالانفتاح على الغرب ولكن في ظل ضوابط معينه ومبادىء محددة جعلت من عمله نمطًا من الجهاد.

ومن ثم الإمام لم يعلن قط قوله للاحتلال ولم يكف عن التذكرة بعواقبه بل ورفض التقليل من شأن مصر والطعن في استحقاقها وأهليتها للحرية والاستقلال وأكد رفض خضوع  الوطن لسلطة الحاكم الأجنبي.

ثانيًا: إن تحول الإمام عن السياسات  العليا لم يكن تحولاً بقدر ما كان بمثابة عودة لخطه الأساسي والذي فطره الله عليه.

ثالثًا:لقد برز جانب آخر من خبرة الإمام وهو الإعجاب بخبرة الأوربيين في اكتساب الحرية والقانون تحقيقا للتمدن الحقيقي.

وعلى ضوء محاولات شرح وتفسير عناصر رؤية ومواقف الإمام من سلطة الاحتلال بعد عودته من المنفى يمكن لنا الحديث عن بعض الدلالات : إن الإصلاح الديني/ الفكري/ التربوي/ التعليمي، لا يمكن أن ينفصل عن السياسي بشقيه ” الاحتلال والاستبداد”.

مهما كانت مبررات ودوافعه الإمام لعدم مقاطعة سلطة الاحتلال وعدم إعلان الحرب عليها والنابعة من طبيعة فهمه للواقع ومن ثم اختياره لكيفية مواجهة ضغوط هذا الواقع على مشروعه، ومهما كانت أسباب ذلك الاختيار المتصلة بطبيعة شخصية الإمام وما جُبلَ عليه من تفضيل إصلاح العل والتعليم إلا أن المر الواضح هو أنه لم يَخُن- كما يتهمه البعض- ولكن أخطأ حين أدان من عملوا بالسياسة العليا وهاجمهم. وأخطأ حين قال إنه ترك السياسة لأنه كان في صميم نوع آخر منها.

وقد زاد من خطأ الإمام حين أدان من عملوا بالسياسة وهاجمهم اعتقادًا منه أن سلطة الاحتلال يمكن أن تساعده في مقاومة استبداد الخديوي وإجباره على الدستور واعتقاده أيضًا أن الوطنية هي فقط العمل الدؤوب من أجل إصلاح التربية والتعليم وليس مجرد الهياج والحماس الوطني.

–         يظل المحك في النجاح هو وجود سلطة وطنية تقود عملية إصلاح حقيقية وليست شكلية ولا تحاربه خوفًا ن نتائجه على استمرارها في الحكم، سلطة وطنية تقود الإصلاح باعتباره ركيزة بناء القوة الشاملة اللازمة لمنع التدخل الخارجي ومواجهة مشروعاته.

ومن ثم فبوجهي العملة معًا يتحقق بالفعل المفهوم الشامل للإصلاح من منظور إسلامي، وهو المفهوم الذي تتضافر فيه وتنجدل الأدوات الفكرية والأدوات السياسية المباشرة معًا في مشروع إصلاحي شامل، وبذا يتحقق أيضًا معنى الربط الرشيد بين الدين والسياسة حتى يصبح المشروع السياسي مبنيًا على قيم ومبادئ الإسلام في الحكم وفي إدارة العلاقة مع بقية الأمة ومع الآخر.

القضية الثانية- العلاقة مع الغرب:

الإصلاح وتجديد القوة بين الداخل والخارج من الإصلاح الديني إلى التفاعل الحضاري مع الغرب: الدوافع والسبل والضوابط.

تقدم سيرة حياة الإمام خبرة حية للاحتكاك المباشر مع الغرب فكراًوواقعًا ومن هنا أدخله البعض في تصنيف الإصلاحيين المتاثرين بالغرب. ومجالات احتكاك الإمام بالغرب متعددة: ابتداءًا من القراءة في المصادر التاريخية والقانونية والفكرية الغربية إلى إقامته في فرنسا وزيارته لندن وتعلمه الفرنسية وصداقته مع مستر ديلفريد وحواراته مع هربرت سبنسر وهانوتو وغيرهما،….. إلخ.

ولقد أعطى هذا الاحتكاك بالغرب والدعوة للانفتاح عليه للإمام موقفًا متميزًا ومثيرًا للجدل في نفس الوقت بين المجددين في الإسلام. وقد مثل موقف الإمام هذا نقطة تحول مقارنة بموقف علماء الإسلام قبل هذه المرحلة.

ولذا فقد خضعت تجربة الإمام لتقييمات متنوعة سواء عن دلالاتها في سياقها الزمني أو عن دلالات امتدادتها في مرحلة تالية.

فهناك من اعتبر أن محمد عبده نموذجًا للجمع بين الدين والفلسفة والتوفيق بينهما وهناك من اعتبره من أظهر المصلحين الذين جمعوا بين الماضي والحاضر ووصفه فريق ثالث يصاحب سلفية عقلية” تميز بها عن مواقف السلفيين الذين أعلوا من قدر النصوص على حساب العقل وتميز أيضًا عن العقلايين الذين انطلقوا من العقل فقط لا غيره”.

كل هذه الرؤى والآراء تجلت في بحث علاقة الإمام بالغرب واتصاله به وموقفه من سلطة الاحتلال.

ابتداءًا يجدر القول: أنه إذا كان عدم مقاطعة الإمام لسلطة الاحتلال ذا دوافع ومبررات عديدة كما سبق البيان إلا أن أبعاد موقفه من الحضارة و الثقافة الغربية تعيد التوازن إلى فكر الإمام وخبرته، ذلك لنه قدم نموذجًا لأهمية التفاعل الحضاري وليس الإلحاق الحضاري، فبقدر ما انطلق فكره من ركائز تبرر الاتجاه نحو الغرب وبقدر ما حدد بوضوح أهداف هذا التوجه ( تجديد القوة الإسلامية) فلقد شرح بوضوح ضوابط العلاقة وحدودها والتي تنأى بهما  جملةً عن نموذج الإلحاق والاستتباع والتقليد وانطلاقًا من الإسلام وبالإسلام في ظل رؤية تجديدية لإحياء قوة الأمة وأوطانها.

وهو في رؤيته لتجديد الأمة الإسلامية كسبيل لنهوضها مرة أخرى يتطلب عملة ذات الوجهين؛ الإصلاح الديني من ناحية والتجدد الحضاري من ناحية أخرى.

الأول- يستهدف إصلاح العقيدة لتحرير العقل المسلم من آثار الجمود والقليد.

الثاني-  يستهدف أخذ العلوم الحديثة ومعارفها من الغرب. وفضلاً عن هذين المجالين الفكري والعلمي من دوافع التوجه نحو الغرب فلقد ارتكزت رؤية الإمام لهذه الدوافع والمجالات غلى ركائز فلسفية وأخرى شرعية تبرر هذا التوجه وتؤصله.

ركائز التوجه:

استندت رؤية الإمام لمبررات التوجه نحو الغرب على ركيزتين إحداهما فلسفية والاخرى شرعية مما يبين كيف مثل الإمام نموذجًا للربط بين الفلسفة والدين.

وكان الإمام يرى أن الإنسان لم يخلق ميالاً للشر وأنه مجبول على الخير محبًا للسلام . كما تكلم عن وجوب الجامعة الإنسانية الشاملة التي تؤلف بين الناس.

ومن الناحية الشرعية أجاز الإمام الاستعانة بغير المسلمين فقد وجه إليه بعض مسلمي الهند السؤال عن جواز استعانة المسلمين بالكفار وأهل البدع والأهواء وقد أجاز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة المسلمين طالما أن الموالاة لا تكون في الدين.

هذا وقد كان الإمام ف رده على هانوتو قد فصل في ثماني أصول للإسلام، يلاحظ أن الأصل السابع موضوعه مودة المخالفين في العقيدة وقد تحدث فيه الإمام أساسًا عن زواج المسلم بالكتابية.

وفي الأصل السادس من أصول الإسلام تحدث الإمام عن حماية الدعوة لمنع الفتنة وتحدث عن أن الدين الغسلامي دين جهادي كما أن دفع الشر بالشر عند القدرة عليه ليس خاصًا بالدين الإسلامي فقط وهو في طبيعة كل قادر يعذر إلى خصمه.

مجالات التوجه نحو الغرب:

نتحدث عن مجالين أساسيين: الغب كمصدر للخبرة والغرب كمصدر للعلوم الحديثة.

وقد كان موضع العقل والحرية والقانون من تجربة نهضة الغرب حاضرًا ومائلًا في رؤية الإما مقارنة بغيابهم التام على صعيد الأوطان ومسؤولية هذا الغياب عما حاق بهذه الأوطان من ترد وضعف.

الدعوة للاهتمام بالعلوم الحديثة: بديل أم مكمل للعلوم الشرعية؟

تطرح هذه الدعوة إشكالية العلاقة بين العلوم والدين والعلاقة بين العلوم الحديثة والعلوم الشرعية. كيف؟

لم تكن الدول الاوروبية- في نظر الإمام – مصدرًا فقط لخبرة واقعية تؤكد أهمية القانون والحرية ولكنها أيضًا كانت مصدرًا للعلوم الحديثة في مجالات الطب والهندسة والزراعة وغيرها.

كما لم يكن هذا الأهتمام بالعلوم الحديثة- على مستوى الأزهر- قاصرًا على دعوة الإمام ولكن بالنظر إلى اتجاه التطور في دور الأزهر ووظيفته بصفة عامة. وبدون الخوض في تفاصيل موقف الإمام من الأزهر يكفي القول أن بين ما أدخله من إصلاحات تقرير تدريس العلوم الحديثة مع الترغيب فيها بالمكافأة الحسنة والترشيح لوظائف التعليم والقضاء، وقد اقترح الإمام في مشروع تطوير التعليم العثماني تطوير التعليم الديني.

وقد واجه الإمام في معركته لإصلاح الأزهر مصادر داخلية وخارجية في آن واحد، فأمام موقف الغرب ” العلماني” من فصم العلاقة بين العلم والدين كان هناك موقف التقليديين السلفيين من العلاقة نفسها، وهو موقف الفصل أيضًا بين طرفيها ولكن لأسباب ومنطلقات مختلفة توصف بالعلمانية المادية في طرف وتوصف بالرجعية والسلفية في الطرف الثاني.

إن إعادة القراءة في فكر الإمام عن العلاقة بين العلم والدين ليقدم لنا رؤية تجديدية إحيائية هي ن صميم منظومة فكر الإمام ألا وهي الرؤية عن ضرورات ودواعي تجديد الإيمان بقيمة العقل والعلم في ل علاقة حميمية مع الدين. بل إن الإمام جعل الأصل الأول من أصول الإسلام هو النر العقلي لتحصيل الإيمان.

ضوابط علاقة النقل عن الغرب وحدودها:

 لم يكن تحريك الأمة إلى التجديد الحضاري يعنى في نظر الإمام إلحاقًا حضاريًا بالغرب يقبل نموذجه بكامله وخاصة علمانيته وماديته ولغته وتقاليده. ولكن كان هذا التجديد يعني أيضًا التمسك بالإسلام وبأصوله الحضارية كسبيل لهذا التحريك.

فاهتمام الإمام بالتربية كان أهتمامًا بتربية إسلامية تقوم على قيم الإسلام ومبادئه أساسًا.

  وقد كان اهتمامه بالأمر الذي مثل الهدف الثاني من الأهداف التي حددها الإمام لدعوته التجديدية ألا وهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية أو فيما تنشره الجرائد او في المراسلات بين الناس.

كما تجدر الإشارة إلى موقفه من المدارس الأجنبية رافضًا لها معتبرًا إياها من سبل تضليل المسلمين.

كما أن الإمام هاجم النقل عن الغرب نقلاً سطحيًا عاريًا سواء في سبل الحياة أو في الأفكار. وأيضًا أكد الإمام في أحد المواضع ضوابط الحرية مهما كانت قيمة هذه الحرية، حتى لا يتم من خلالها نقل عادات وتقاليد ضالة على حساب ماهو مطلوب تعليمه من قيم فاعلة باسم الحرية.

وقد طرح الإمام العديد من الأفكار من أبرزها.

في إطار تقاليد نمط العلاقة الاستبدادية بين الحاكم والمحكوم التي تعرفها البلاد منذ أجيال كثيرة والتي وصفها بأن بعض الاس خالط بعض المدن المتمدنة وطالعوا أحوالها ورأوا ما عليه أهلوها من إطلاق الإرادة وحرية الاختيار فطلبوا لبلادنا أن تكون في أحوال أهاليها الشخصية على مثال سكان البلاد المتمدنة.

كما ذكر أن النقل عن الأمم المتمدنة فيما يتصل بالحري اتسم بأنه لم يكن تقليدَا في إطلاق الإرادة من جهة الارتباطات العمومية الثابتة.

في حين أن الإمام رأى أن الاقتداء الأمثل بأوروبا في مجال الحرية هو الاقتداء بالإرادة من أجل الاستقلال الحقيقي من حيث تشكيل الجمعيات في القرى والمدن لتفهم القوانين واللوائح والمنشورات.

أما عن رؤية الإمام لدور الدين في مواجهة التوجه العلماني فإن رؤية الإمام عن احتياج الجماعات البشرية للدين وعن العلاقة بين الدين والعلم كانت من أهم ضوابط النقل عن الغرب وهي الضوابط التي أفصحت عنها حوارات الإمام مع ساسة ومفكرين غربيين.

واستنكر الإمام الرأي القائل بأن جمود المسلمين يرجع إلى دينهم الذي يمثل في نظر الطاعنين في الإسلام عثرة في طريق المسلمين مبينًا أن وضع المسلمين هذا ليس نتاج عداوة الإسلام للعلم أو اشمئزازًا منه، وإنما هو نتاج سياسة الظلمة وأهل الأثرة وأن الجمود علة وعارض يمكن أن تزول. ولذا فإن الإمام أفاض في شرح العلاقة بين الدين والعلم ودلالتها بالنسبة لدور العقل.

ون ثم يمكن لنا أن نقول أن الإمام مهما اشتد وعظم نقده لواقع حال الأمة في عصره ومهما قدم من دوافع ومبررات للاستفادة من خبرة الغرب ومهما كانت بواعث وأسانيد الانتقادات لموقفه من سلطة الاحتلال ولمقولاته عن أن الإنجليز أمة تعرف التسامح الديني أو أن الإنجليز حين احتلوا مصر علمونا الحرية ولكن هناك ضوابط أخرى قدمها لعلاقتنا مع الغرب.

أولها- أن كل ما حاق بالأمة هو عرض وليس أصل، سببه إسلامها لأن اصول الإسلام ثمانية  كان لها آثارها الإيجابية على المسلمين عبر القرون من حيث إنتاج العلم والأداب والفنون والحضارة بصفة عامة.

ولذا اشار الإمام في مواضع متفرقة في مقالاته إلى فضل الشرف على أوروبا حيث تعلمت منه واخذت عنه العلوم.

كما أن الضوابط  الفكرية والعرفية والسلوكية للنقل عن الغرب التي عبر الإمام عنها في مقالاته قد صدر عظمها قبل الاحتلال إلا ان سلوكه الفعلي والمناصب التي تولاها تبين كيف ظلت المرجعية الإسلامية  هي مرجعيته  الأساسية للإصلاح التربوي والتعليمي.

ورغم تأكيد الإمام على أن في الإسلام السلطة مدنية ، ولا تجيز الجمع بين السلطة الزمنية والدينية إلا أنه أقر حيث أن الإسلام دين وشرع فلقد وضع حدودًا ورسم حقوقًا ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام الا إذا وجدت قوة لاقامة الحدود. وتنفيذ حكم القاضي بالحق وصون نظام الجماعة يتطلب قوة لابد ان يكون في واحد وهو السلطان او الخليفة ولا يجوز الخلط بينه وبين ما يسميه الافرنج السلطان الالهي.

كما انه يهتم بالاعتبارات السياسية وعلاقتها بالإصلاح في ابعاده المختلفة والنابع من طبيعة ما آل إليه حال الدولة العثمانية.

وإذا كانت هذه الاعتبارات تبرز تمسك الامام بفكرة الأمة الإسلامية ويدعو للتمسك بالروابط العقيدية ومقاومة من يحاول النيل منها لأغراضه إلا أن هذه الاعتبارات تبين الحاجة غلى ادارة ضغوط الواقع  السياسي، فلم يكن رفضه للدولة العثمانية رفضًا لفكرة الخلافة أو تغليباً للمصرية والعربيه بقدر ما كان ناجماً عن ضعفها وتهونها والحاجة إلى اصلاحها كأساس  لدفع التضامن الإسلامي ، فلم تكن الوحدة السياسية من جهة الإمام ممكنة بين الدول الإسلامية وعلى ما هم عليه من تخلف وضعف بل رأى أن الإصلاح الشامل هو الشرط المسبق لتحقيق هذه الوحدة.

كما يظل أمر أولوية الاصلاح الديني والتربوي والتعليمي باعتباره غاية ووسيلة في الوقت نفسه وهو مفتاح تفسير التناقض في فكره وخبرة حركة الإمام.

من مجمل ما سبق نستطيع أن نؤكد على ثلاثة محاور :

الأول: التذكرة والفهم على ضوء نتائج دراسة الاشكاليتين الرئيستين (الديني/ السياسي، الداخلي/ الخارجي) في فكر الامام في سياق خصائص عصره.

الثاني: متابعة المآل والمحصلة عبر مائة عام للإجابة على السؤال : هل نجح مشروع  محمد عبده؟ ما الذي لم يتحقق منه وما الذي لم يتحقق ولماذا؟ وذلك في ضوء المسار عبر قرن.

الثالث: ما الللة المعاصرة أي ما هي العبرة الفكرية والعلمية على ضوء خصائص الوضع الراهن وإشكالياته؟

أولا: التذكرة والفهم والدلالة؛ نتائج الرؤية الكلية لموضع الإمام عن عصره: 

من الملاحظ أن المحاور الثلاثة المشار إليها تغطى سياقات زمنية ثلاثة. ذلك لأن  أحد أهم قواعد محاولة فهم الالتباس حول فكر الإمام  وتفسيره ثم تفكيكه وإعادة بنائه هو التمييز بين السياق الزمني المحيط بالإمام، والسياق الزمني المحيط بالقارئ أو الدرس، ومن القواعد الأخرى التمييز أيضاً بين النظرة الجزئية لاحد مكونات فكر الامام والنظرة الكلية التي تجمع هذه المكونات في رؤية كلية.

وهذا ما اجتهدت الدراسة لشرحه في الجزءين الاول و الثاني، ألا وهو النظرة الكلية من دخل العلاقات الدولية- ولابد أن تقدم لنا جديداً.

وهذا الجديد يتصل- بصفة خاصة- بشرح مجال الالتباس الاساسي حول فكر محمد عبده وخبرته ألا وهو التعاون مع سلطة الاحتلال.

ومن واقع تحليل القضايا الثلاث يمكن طرح الرؤية التالية:

لم يكن محمد عبده خائنا او غير وطني او مهادنا لمصلحته الشخصية؛ فهو الذي انضم للثورة العرابية  رغم تحفظاته على منهج الثورات  وعواقب الثورة  المحملة في ظل عدم الاعداد الجيد لها، وهو ايضا الذي هاجم الاحتلال بقوة خلال فترة  نفيه.

ولكن من ناحية أخرى وإن قبلنا فكرة أنه ناور بكرومر ضد الخديوي، يجب الإشارة إلى أنه ميز بين إنجلترا كسلطة احتلال وبين انجلترا كثقافة وحضارة، إلا أن حديثه عن الغرب كان عمله ذات وجهين: الغرب مصدر الخبرة عن أثر الحرية والعقل، وضوابط النقل عن حماية للدين حتى ولو باسم  العلم من ناحية أخرى.

ناهيك عن ان الاصلاح الديني- ثم التربوي، ها سبيل وليس غاية، وبدونهما لن يتحقق الاستقلال أو الحرية أو حتى الوحدة الإسلامية . فإن القراءة الدقيقة في منظومة فكر الإمام تبين أنه أدرك أنه ليس بالامكان مقاومة الاستبداد الداخلي  والاحتلال الخارجي  بدون إصلاح تربوي وتعليمي لأان جذور القابلية للاستعمار لا تكمن في الموارد المادية بقدر ما تكمن في الإرادات والعقول والأفكار بل وفي الوجدان ايضا. وقد كان تشخيصه لهذه الأمراض واقتراحه للحلول بمثابة الخيط الناظم الرابط بين القضايا  الثلاث للعلاقات الدولية: الاستعمار، التفاعل الحضاري، الوحدة.

ولذا فإن رؤيته عن الإصلاح هي في قلب ما هو سياسي. ومنظومة فكره هي منظومة سياسية يتقاطع فيها الداخلي والخارجي، وذلك لأن تشخيصه لآفات الجمود الديني والتخلف التربوي  والتعليمي يقوده غلى أسباب الجود والتخلف والأستبداد والاحتلال، كما أن تشخيصه للاصلاح واهدافه هو السبيل لعدم الغلو والتعصب واعمال العقل كسبيل للقوة والعزو و الحرية والاستقلال.

كما يجب ألا ننسى أن الإمام بالأساس صطلح ديني، وإن تطورت خبراته عبر ثلاث مراحل، فلقد عاد للاصلاح. وهو قد عايش لحظة صدمة هائله طالما حذر من وقوعها ألا وهي صدمة الاحتلال. وا اصعب عمليات الاصلاح في ظل ازمة والامة على حافة الهاوية، فلابد وأن تلتبس الرؤية من شدة الصدمة. وإذا كان المصلح شاملاً، شأن محمد عبده الذي قدم رؤية كلية حول جوانب عديدة، إلا أنه عند التنفيذ سرعان ما تلتبس الرؤية للأولويات من شده الصدمة  عند تنفيذ الاصلاح وخاصة من لكوادر.

 ولذا يبرز السؤال قوياً في أذهاننا اليوم – ونحن نعتبر من خبرته، من الذي يحدد الأولويات وهل كانت الأولوية للإصلاح التربوي   في وقت يجتاح الاستعمار البلاد؟ أم يصبح العمل الموازى من القاعدة ضرورة لإدارة الأمر الواقع؟

واخيراً لم تكن الوحدة  أو التضامن الإسلامي سبيلاً لمقاومة الامام في مرحلة العروة الوثقى- ولكن أضحت بدورها مشروطة بتحقيق الاصلاح الديني والتربوي.

وبذلك يصبح الاصلاح التعليمي  والتربوي من منطلق الإصلاح الديني-وهما جوهر منظوة فكر الإمام وخبرته- بمثابة المنطلق لحل المشاكل التي فرضها واقع قضايا العلاقات الدولية للامة في عصر الإمام.

 ثانياً : المال والمحصلة عبر مائة عام:

كان للإمام مقولة ، وإن لم تح بشهرة قولته في السياسة، إلا انها لا تقل أهمية، وهى أنه بدون الاصلاح التربوي والتعليمي- ومن منطلق الاصلاح الديني – سيعود الاستبداد والاحتلال بعد كل ثورة.

كما ان فكر الامام قد كشف أيضاً عن قضايا هامة في التغيير الاجتماعي وعلاقته بالخارج أو العكس أي اثر الخارج ( احتلالًا أو تفاعلًا حضارياً ) على التغيير الاجتماعي.

ومن هذه القضايا الاخذ باسباب التقدم وليس ظواهره ، ولا يمكن لعملية إصلاح داخلي أو تفاعلي حضاري أن تقفز على الإسلام، العلاقة بين العلوم  الشرعية، حوار الأديان، الاستعانة بغير المسلمين وضوابطه، إصلاح مؤسسات الأمة ( الأزهرن الافتاء، القضاء، التعليم، الاوقاف) في قلب عمليات الاصلاح بالتجديدد وليس الاستبدال، وغير ذلك من القضايا التي ظلت تمثل تحدياً للأمة عبر قرن.

وبالنظر الى الاشكاليتين الاساسيتين اللتين انطلق منهما تحليل الدراسة يمكن أن نتوقف عند بعض مما تبين كيف أن مشروع محمد عبده لم يحقق نتائجه بالرغم من كل امتداداته وتأثيراته الخارجية والداخلية. هذا و تثور بالطبع الاختلافات حول طبيعة التحديث ودرجته التي حاقت بالامة الاسلامية عبر قرن ، نظرا لاختلاف معايير القيم بين الاتجاهات ذات المرجعيات المختلفة ولكن ما اقوم على طرحه الان هو انه وفق منطلق مشروع الامام ذاته وجوهره والذي يمكن وصفه- وفق المصطلحات السيارة الآن- مشروع تربية مدنية من منظور اسلامي، فإن هذا المشروع لم يتحقق لعدة اعتبارات نوجزها فيما يلي: فالإصلاح الديني لم يتحقق من خلال الربط الفاعل بالنيوي ولذا فإن هدف  حفظ الدين- خوفاً ن تدخل السلطة السياسية الدنيوية وتلاعبها السياسي باسم الدين، خوفاً ايضاً ن عواقب صدمة الاحتكاك المباشر بالغرب- قد آل إلى حفظ بعنى الجمود. ومن ثم وفي مواجهة ضغوط التحدي المزدوج من جانب الاستبداد   الداخلي و الخارجي على حد سواء لم يعد بمقدور الاصلاح الديني ان يقدم طريقاً مستقلاً وفاعلاً يقاوم هذين النمطين من الاستبداد ولو بالمناورة بأحداهما ضد الآخر.

ومن ناحية أخرى: ل يتدعم الاسلام الحضاري، كقاعدة لاصلاح المجتمع، بقدر ما تدعم بالتدريج الاسلام السياسي.

فإذا كان جمال الدين الأفغاني قد اتهم محمد عبده بأنه مثبط للهمم، واذا كان تيار محمد عبده ، وتيار مصطفى كامل قد اتهم كل منهما الآخر بعدم الوطنية، فكان هذا بمثابة بداية لمسار ممتد من الاخطاء التي وقعت فيها  القوى الوطنية- باختلاف أطيافها الفكرية والسياسية عند ممارسة السياسات واتخاذ المواقف سواء ضد الاستبداد الداخلي أو الاحتلال والتدخل الخارجي. ومرد هذه الأخطاء أن حركة القوى الوطنية  لم تنطلق من رؤى استراتيجية تجمع كافة أنماط الجهود وفق متطلبات الاصلاح الشامل الحضاري ، وليس السياسي فقط، بحيث لا يبدو جابا النضال الوطني على صعيد الإصلاح المجتمعي وعلى صعيد النضال السياسي والعسكري- كما لو كانا بديلين يستبعد أحدهما الآخر، في حين  انهما متكاملان متعاضدان يعكسان نوعاً من توزيع الادوار الحميد الذي يخدم متطلبات بناء القوة الشاملة. إلا ان هذا النمط من الأستبعاد والإقصاء المتبادل، وان لم نقل التنافس بين الادوار النضالية  السياسية والأدوار الإصلاحية ، قد ظل ممتداً عبر مائة عام بعد محمد عبده، سواء على صعيد التيار الاسلامي او غيره. فنجد على صعيد التيار الاسلامي انه قد تفرغ الى روافد فكرية وحركية ينغمس كل منها اما في النضال السياسي او الاصلاحي العقيدي والتربوي والمجتمعي، كما لو ان هذه المجالات منفصلة او لا تمثل درجات متراكمة من الجهاد بمعناه الشامل، او ليس من المفترض ان تصب مخرجات  كل رافد في الاخرى ويدعم بعضها البعض، بل وقد تتبادل هذه الروافد الاتهامات وبذا غاب مفهوم الاصلاح الاسلامي الشامل في مرحلة ما بعد الاستقلال تحت ثأثير ظروف عديدة وحال الضعف الحضاري- بالرغم من ملامح تجدد عناصر القوة المادية دون تحقيق أهداف الحرية والاستقلال.

وفي ظل تجارب النظم الحاكمة في الدول القطرية ما بعد الاستقلال برزت أبعاد الوجة الآخر للعملة لدى التيارات الاخرى: سواء القومية أو اليسارية أو الليبرالية ألا وهو علو أولوية السياسي والاقتصادي ( سواء ضد الغرب أو الحاقاً به) على حساب الديني أو التربوي التعليمي والمجتمعي. فجميع هذه التيارات لم تعتبر الاصلاح الديني منطلقا مناسبا او على الاقل حصرته في نطاق ضيق- لا يتعدى حدود الفرد- ان لم يكن قد استبعدته على الاطلاق على اعتبار ان توظيف الدين اجتماعيا وسياسيا هو مصدر التخلف والاستبداد.

ولذا فان محصلة العمل الوطني الذي شاركت فية تيارات متنوعة تتنازع مرجعيتها بعضها البعض- عبر مائة عام-  لم يقدر الي تنمية شاملة او حرية او تحرير واستقلال كاملين. وكان هذا الوضع محصلة كل من المشروع الفكري  والمشروع السياسي.

 فعلى المستوى الفكري فان هذا العمل الوطني لم ينطلق من استرايجية كلية توظف الأدوار المتكاملة بين النضالي والجهادي والاصلاحي المجتمعي ، في حين تتمثل اهم عواقب التنمية والديمقراطية والاستقلال في عدم وجود رضاء من الجماعة الوطنية على توجه أو مقصد أساسي للأمة (وان يجمع بين طياته مرجعيات متنوعة).

أما على مستوى المشروع السياسي فإن المحطات المفصلية في تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين تبين انها لم تكن الا مجرد مغامرات عسكرية او سياسية قام بها قادة أو زعماء، ودون حسابات مصلحة رشيدة، وكانت اقرب الي الهبات غير المدروسة، والتي وإن ادعت مقاومة الاستبداد والاستعمار في صوره الجديدة- إلا انها لم تكن إلا نمطاً جديداً من الاستبداد والاستعمار المحلى الذى فشل بالطبع في تجديد قوة الامة الاصبية اي تجديد مواردها وفكرها في ان واحد، وفي ظل مرجعية أصيلة وعملية تجديدية في نطاق ثوابت هذه المرجعية وبتفاعل رشيد حضاري وليس إلحاقاً حضارياً.

إن مآل خبرة المائة عام هذه لتؤكد على أمور ثلاثة وهي أن الإصلاح التربوي – الديني والإصلاح السياسي وجهان لعملة واحدة، وأن جهود الإصلاح الحقيقية لا تحوز رعاية المحتل او قوى التدخل الخارجية وكذلك قوى الاستبداد الداخلى، وان مصالح هذه القوى لا تستقيم ودور فاعل للمكون الديني في عمليات الاصلاح. ونشير بهذا الصدد الي طرح للمستشار البشرى يرى ان في ظل الوجود العسكري للاحتلال لابد وان يحتل معه ميزان الاخذ من الوافد على حساب الأصيل.

ولذا فإن الموجة التجديدية الثانية وتحدياتها ” موجة محمد عبده وغيره” إلى الموجة التجديدية الثالثة ( في بداية عشرينات القرن العسرين اي بعد ما يقرب من نصف قرنعلى الاحتلال) واجهت تحديات تبين نتائح اختلال ميزان الاصلاح- في ظل الاحتلال العسكري- حيث لم تعد التكوينات المتأثرة  بالفكر الغربي قاصرة على النخب بل اصبحت تتسع وتنمو بسبب نظام التعليم الحديث الذي فصل علوم الدنيا عن علوم الدين.

بعبارة اخرى : فان مسار خبرة الاصلاح الاسلامي بعد صدمة الحملة الفرنسية، مروراً بالبعوث الي الخارج والمدارس التبشيرية وصولاً الي الاحتلال وما بعده، ومن ثم نتائج هذه الخبرة المحدودة حتى الآن (بيومي ص 27) لتبين كما يرى البعض : فقدان الميزان الاسلامي العصري للتعامل مع التيارات الحضارية الوافدة لتأخذ طابعاً اسلامياً قومياً مميزاً. فهذه هي الإشكالية التي تصدى لها الامام منذ مائة عام، ولكن لم ينجح ورثة مشروعه في تحقيقها . مما يدفع إلى السؤال: لماذا؟

ولهذا كله برزت الملامح التالية بصورة تدريجية تصاعدة عبر القرن:

–         علو السياسي على حساب التربوي والعلمي.

–         استيراد نماذج للتربية و التعليم جاهزة باسم الانفتاح والتفاعل والاستفادة من خبرة الآخرين، وبانفصال كامل عن الدين مما كرس فجوة العلاقة بين العلوم الدنيوية والعلوم الإسلامية.

–         سيادة عناصر القوة الشكلية الخطابية في ظل استبداد الدولة المركزية بعد الاستقلال، وهي التي ورثت ممارسات القصور الملكية المستبدة وسلط الاحتلال، وجففت منابع الإدارة والعقل والوجدان، فتكررت خبرة محمد على في التحديث التي أدانها محد عبده لعدوانها على ما يتصل بالإنسان شخصية وإدرة وعقلاً.

–         تصاعد تنازع المرجعيات لحساب الوافد الذي تمكن من جراء الضعف المادي، وما فتئ يستغل تفوقه المادي لتحقيق غلبه دينيه وثقافية.

–         قطرية الحلول واجتزاؤها من اطار الامة.

بعبارة أخرى؛ كان مجمل نظومة فكر الامام وحركته- كما اتضح من فكره عن الاصلاح الديني وعن ضوابط العلاقة مع الغرب، ومن رؤيته عن الامة الاسلامية وحقائق العلاقة بين شعوبها وحكامها، يبرز أنه كان يريد اصلاح النموذج الحضاري الاسلامي وعدم استبدله، فلقد كان يريد إحياء الامة الاسلامية وإنهاضها من منطلق تجديد ذاتي  وتفاعل حضاري منفتح على العالم في الوقت نفسه، كان يريد استدعاء الفهم العقلاني للاسلام وتحريره ممن خطفوه باسم الحفاظ عليه ، أي الذين من فرط خوفهم على الإسلام قد فرطوا في سنن الله أي مقتضيات جعله قوة دافعة ومحركة للامة من أجل النهوض ومن اجل الشهود. فلقد كان هو الإمام الذي أدرك ما وصل إليه حال الأمم الاخرى من نهوض ، فأراد أن يأخذ بيد أمته من داخل أسوارها وباطارها المرجعي الاسلامي، لتلحق بهذه الأمم الأخرى، ومن خلال تفاعل حضاري واع تحدده سنن الله ايضاً في الاجتماع البشري والعمراني إلا أن المآل عبر قرن لم يحقق للإمام رامه.

ثالثا: ما الدلالة الآن ؟ وبم نحتفى؟

ومن ثم وبعد مائة عام من رحيل الإمام محمد عبده – واستكمالا لما جاء ذكره في مقدمة الدراسة – فإن واقعنا المعاصر يتسم بالتعقيد والتشابك الكبير بين الداخلي والخارجي، بين الثقافي والسياسي، بين الديني – التربوي – التعليمي وبين السياسي، وعلى نحو أبرز وبقوة الآن وأكثر من أوقات سابقة – حديث الإصلاح،الذي بيّن وبطريقة أكثر ظهورَا إشكالية العلاقة بين الديني / والسياسي سواء الداخلي أو الخارجي (تجديد الخطاب الديني بين دوافع ومبررات ومجالات الداخل والخارج)وكذلك العلاقة بيت التربوي – التعليمي والسياسي الداخلي (التربية المدنية كشرط أو كداعم للتحول الديموقراطي) وأخيرَا العلاقة بين أنماط التفاعل الحضاري (حوارًا أو صراعًا من أجل التجديد الذاتي أو الإلحاق والتبعية الحضارية) وبين آفاق الاستقلال وبناء منظومة القوة الشاملة، حيث أضحى حوار الثقافات أو صراعها في صميم الفعل السياسي داخليًا وخارجيًا.

بعبارة أخرى، أضحت قضية الإصلاح في قلب قضايا العلاقات الدولية الراهنة للأمة الإسلامية أي في قلب المتطلبات الداخلية لإحياء الأمة والخارجية النابعة من صميم وضعها في النظام العالمي وعلاقاتها مع نظمه الفرعية ناهيك بالطبع عن نظامه السائد (في ظل الهيمنة الأمريكية) ومهما بدا لنا من بروز البعد العسكري في الحرب العالمية على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية – وحلفاؤها – ومهما بدا لنا أيضاً من ظهور البعد العسكري في نمط جديد هو الأعمال الإرهابية أحيانًا وأعمال المقاومة ضد الاحتلال والهيمنة أحيانًا أخرى لمواجهة مشاريع الهيمنة الأمريكية الصهيونية ليس على العالم العربي والإسلامي فقط ولكن العالم برمته، فإن البعد الديني، الثقافي، الفكري، التربوي والتعليمي يحوز أولويته أيضًا باعتباره دافعًا أو مبررًا أو أداة سواء للهيمنة أو لمقاومتها.

ومن ناحية أخرى، وإن بدا لنا أننا نتكلم عن دول عربية ومستقلة (لا تضاهي إلا أننا في الواقع نعايش حالة احتلال عسكري جديد وحالة استعمار في مرحلة ما بعد الاستعمارالجديد، وفي ظل وضع فكري وثقافي مجتمعي ليس أقل تأزمًا مما كان قائمًا منذ مائة عام حقيقة زادت المؤشرات الكمية عن التعليم والصحة … وغيرها من مؤشرات “التحديث” إلا أن الأثر على مضمون فكر وعقل ووجدان الأمة كان واهيًا بدليل تقلص علامات إرادة الفعل القوية المعارضة والمناهضة للاحتلال الداخلي والهيمنة الخارجية والتي كان يجب أن تترجم نفسها في حركة واسعة على صعيد الشعوب وليس صعيد النخب فقط.

ولذا  ومع صعود ملامح النضال السياسي والجهاد العسكري في أماكن متفرقة من الأمة ترتفع أيضًا من جديد ملامح للنضال الإصلاحي الديني – الثقافي – التربوي التعليمي، وبذا ألا يمكن القول أن الدلالة التاريخية لعصر محمد عبده تتكرر – من جديد – بعد مائة عام ولكن في ظل سياقات وطنية وإقليمية وعالمية مختلفة؟ وهذه السياقات وإن أفرزت تحديات متجددة إلا أنها تظل تعكس ثبات المضامين في ظل أشكال متغيرة. فها نحن الآن نعايش: تدخلاً أجنبيًا متزايدًا باسم حماية الأقليات وحقوق الإنسان والديموقراطية، وهو في الواقع من أجل مصالح استراتيجية كبرى، خطاب ديني مأزوم كجزء من أزمة مجتمعية وسياسية شاملة في ظل استماتة النظم القائمة للبقاء باسم مسؤولية الإصلاح، تجريم مقاومة الاحتلال والاستيطان والاعتداء على الإسلام ورموزه باسم محاربة الإرهاب، تفكيك كل رابطة من روابطة من روابط الانتماء والتماسك الداخلي الإقليمي عبر أرجاء الأمة على نحو يشيع مخاطر التجزئة على مستوى الوطن الواحد أو الدولة الواحدة …

ولهذا كله تبدو أهمية إعادة قراءة منظومة فكر الإمام وحركته للتذكرة والعبرة والنصح، في سبيل استراتيجية شاملة، ليس للنهضة أو الإحياء أو التحدي، ولكن ربما لأمر جلل أكبر من هذا هو حفظ الأمة، ليس بتجميدها – ولكن حفظ بقائها حتى يتيسر نماؤها، ذلك لأن الأمة تتعرض لعملية إفناء منظمة يشارك فيها الداخل والخارج على حد سواء، ولذا أتساءل لماذا لا يحظى الداعون إلى الإصلاح الديني والتربوي والتعليمي، من منظور حضاري باهتمام بمثل ما حظى به “المودعوون” بالإرهابيين من جانب “الاحتلال الداخلي” أي سلطة الاستبداد من الداخل، وسلطة الهيمنة الخارجية.

فإن إصلاح الأمة لن يتحقق بإصلاح سياسي أو اقصادي فقط ولكن بإصلاح مجتمعي شامل، في قلبه الإصلاح الديني والتعليمي، كما شخص محمد عبده مقتضيات الحاجة إليه وسبل تحقيقه. فهل يتيسر ذلك الآن أم هو ضرب من المثالية أو القيمية التي لا تظفر من النظر بالقدر الذي تظفر به الواقعية البرجماتية المادية، تلك التي لا ولن تقود بمفردها سواء جانب النظم أو القوى المعارضة (الإسلامية وغيرها) – لإصلاح رشيد وجذري، بقدر ما ستقوم ببعض الأعمال “الترقيعية” التي لن تغني ولن تسمن من جوع.

·        ولكن كيف لجوهر الإصلاح – الذي قدمه الإمام – أي الإصلاح كشرط لفاعلية النضال السياسي الرشيد والجهاد العسكري المثمر – وليس كبديل لهما – كيف له أن يتحقق في ظل احتلال عسكري أمريكي واحتلال ثقافي وتعليمي أمريكي في آن واحد ، وهو الاحتلال المزدوج الذي يتحالف سرًا وعلانية مع نظم قائمة باسم الإصلاح المجتمعي والتحول الديموقراطي (النظام السياسي)؟

·        إن هذا النمط من الإصلاح ، لا يمكن أن يتم بتعاون مع سلطة الاحتلال (حتى لا نكرر خطأ الإمام) ولن تقوم به النظم القائمة – طوعا واختيارًا – لأن في إثماره الإيجابي نهاية لتسلطها، كما أنه ليس بديلاً عن المقاومة المسلحة الرشيدة التي لا تنزلق إلى مزالق العنف العسكري – غير الشرعي وغير الإنساني، ولكنهما سبيلان متكاملان بجب أن يصب كل منهما في الآخر، فلا يظلان متوازيين بلا لقاء. ولذا فإن عملية الإصلاح المطلوبة المجتمعية الشاملة، ليست مهمة الحكومات والقادة السياسيين والحزبيين فقط ولكنها أساسًا وابتداء مهمة قادة الفكر والمجتمع الأهلي بمؤسساته المختلفة، وليس باعتبارها في صراع مع الدولة (وفق المنظور الواقعي عن وظيفة المجتمع المدني ودوره) ولكن باعتبارها ذوات دور مواز لدور النظم والمؤسسات الرسمية ووظائفها. فمهما استمسكت هذه النظم بالبقاء والاستمرارمدعية أنها قادرة على الإصلاح، ومهما كانت درجة خضوعها لتدخلات وضغوط خارجية باسم الإصلاح أيضًا فإن خبرة المائة عام المنصرمة لتبين أمرين يجب التمسك بهما:

·        أنه لا يقوم إصلاح رشيد في ظل سلطة احتلال أو في ظل نظام قاد إلى الفساد والتدهور وما زال يتمسك بقدرته على الإصلاح، بل إنه لا يقوم إصلاح رشيد يكون مصدره سلطة احتلال أو سلطة استبداد كما لا يمكن تصور إمكانية إجراء إصلاح ديني – تربوي رشيد في ظل غيارب إصلاح سياسي داخلي واستقلال فعلي. ويزداد هذا الأمرإلحاحاً مع اتجاه التدخل الخارجي – الصريح والضمني – إلى المطالبة بإصلاح ديني وإصلاح تعليمي وثقافي، وهو إصلاح ذو أهداف ومضامين يستحب لتصورات الغرب عما يجب أن تكون عليه مجتماعتنا، ويتم طرح أهداف هذا الإصلاح ومضامينه والسعي إلى فرضها في ظل أوضاع لا تعبر عن تفاعل حضاري مع الغرب – كما كان يطمح محمد عبده – ولكن عن حالة من الإلحاق الحضاري بل والاستلاب الحضاري.

·        وأنه لا يقوم إصلاح رشيد منقطعًا عن المرجعية الإسلامية للأمة فبقدر ما يمكن أن تصبح المرجعية مصدراً لقوة ما يمكن أن تصبح هذه المرجعية مصدرًا لقوة تعبوية من أجل العمران ومقاومة الاستبداد والفساد بقدر ما هناك حاجة ماسة وضرورية لصياغة مشروع حضاري محدد الأبعاد والسياسات والإجراءات، يستجيب لمتطلبات تجديد الدنيا بالدين، بعد أن ثبت عبر أكثر من مائتي عام، فشل محاولات التجديد بانقطاع عن الدين.

إذن لا يمكن على ضوء كل ما سبق أن نتساءل ما دوافع وما مبررات كل الاتجاهات الفكرية والسياسية الرئيسية من الاحتفال بذكرى مرور مائة عام على رحيل الإمام محمد عبده؟ ولهذا، أعود وأقول لماذا نحتفل بالإمام اليوم بعد مائة عام، هل يحتفي الليبراليون والعلمانيون ليذكًروا الإسلاميين أن الإمام قد أعلى من صوت العقل وقد دعا للفصل بين الدين والسياسة وأنه قال أن السلطة في الإسلام هي سلطة مدنية، وذلك في وقت تتردد فيه وبقوة مقولات تحديث الإسلام، الإسلام المدني، الإسلام العلماني..؟ وما فائدة تراث الإمام بالنسبة لهذا التيار؟ هل مزيد من الإبعاد والتقييد لدور الإسلاميين في هذه المرحلة الانتقالية من التحولات الاجتماعية والسياسية، التي تفصح عن مرحلة جديدة من الصحوة الإسلامية المعاصرة، أي الصحوة السياسية، وليس الدينية – المجتمعية – الاقتصادية فقط – على اعتبار أن القوى الإسلامية، سواء المحجوبة أو الظاهرة – تلعب دورًا فاعلاً بين قوى الحراك السياسي والمجتمعي الآن في عدة دول إسلامية؟

أم هل يحتفي به الوطنيون ليذكروا بعواقب التعاون مع سلطة الاحتلال – مهما كانت المبررات والدوافع لمواجهة الاستبداد السياسي أو الجمود الديني التقليدي – أم هل يحتفي به الإسلاميون ليذكروا بأهمية الإصلاح الديني وأهمية المرجعية الإسلامية كمنطلق أساسي من منطلقات التغييروالنهوض بحال الأمة الإسلامية، على اعتبار أن الخطأ ليس في المرجعية ذاتها، بقدر ما أن المسؤولية تقع على نمط فهم المسلمين لها واجتهادهم انطلاقًا منها متطلبات العصر؟ أم ليذكروا أيضًا بأن مسار خبرة المائة عام الماضية التي انحرف فيها مسار “الإصلاح الرسمي” عن متطلبات تفعيل دور الدين في المجتمع والسياسة، متجهًا نحو ما يسميه البعض “تأميم السياسة للدين” في مقابل المصطلح الغربي، عن النطاق الخاص الذي يجب أن يظل الدين تابعًا فيه لا يخرج منه إلى النطاق العام حتى لا ينال – وفق هذا الاتجاه – من مقتضيات المواطنة؟ أم ليذكروا أيضًا بما أضحى عليه دور الأزهر وقادته وهو دور للحفاظ على الوضع القائم، وأنه قد آن الآوان لدور إصلاحي لابد وأن يتعدى نطاق إصلاح الأزهر ومؤسسات الأمة إلى بعث الحياة في المجتمع والأمة، وفي مواجهة التخلف، وفي مواجهة الاستبداد، وفي مواجهة التجزئة وفي مواجهة التدخل الخارجي وما بعد الاستعمار (أي الاستعمار في مرحلة ما بعد الاستقلال وما بعد الاستعمار الجديد). فلقد آن الآوان في ظل :أيديولوجية” تجديد الطاب الديني الذائعة الصيت منذ 9/11/2001 أن يتحقق هذا التجديد ليس لمجرد مكافحة الإرهاب وفق المواصفات الأمريكية، ولكن للعمران ومقاومة الاستبداد وفق مواصفات ا حتياجاتنا الوطنية.

فهذه هي نتائج القراءة لدورالإصلاح الديني الذي أراده الإمام، فهذا الإصلاح الذي يكون منطلقًا وأساسًا وقاعدة لإصلاح تربوي وتعليمي شامل تكمن فيه حلول مشاكل قابلية الأمة للاستعمار والاستبداد والتخلف والتجزئة، فهذه المشاكل من قبيل العرض ولا من الأصل، إنه الإصلاح الديني اللازم لتربية مدنية من منظور إسلامي ما أحوجنا إليها، وتتفق عليها كل الاتجاهات (وإن اختلفت بالطبع حول درجة وطبيعة موضع الدين منها) وحول علاقتها بالإصلاح السياسي (شرط مسبق أو عملية موازية أو متقاطعة).

خلاصة: يمكن لنا القول:

أن ميزان المشروعات الإصلاحية والحكم عليها في تاريخ الأمة ليس بالأمر السهل وخاصة في ظل مراحل التأزم. فإن الالتباس الراهن حول محمد عبده كان ناجمًا عن عدم تقديم إجابات حاسمة طوال قرن من خبرة الأمة، عن أهم الإشكاليات التي تواجه عملية نهضتها وتجديد قوتها ألا وهي: هل يمكن الفصل بين الإصلاحي الفكري والنضال السياسي والعسكري، وهل يمكن للإصلاح أن يتم في ظل وطأة الاستبداد الداخلي والخارجي؟

ولذا وجب علينا الآن أن نتعلم طرح الأسئلة الصحيحة وتقديم الإجابات الشافية التي تحدد الأولويات من حيث مناط الحركة المطلوبة، والتي تأخذ في الاعتبار أهمية التمييز بين السياقات المحيطة وبين المآلات بعد فترة لاحقة، كما تولى الأهمية للفارق بين دلالة الجزئي والكلي.

إن الدراسة السابقة، نأمل أن تكون منوالاً ننسج عليه لدراسة نماذج أخرى من الفكر السياسي للعلاقات الدولية في الإسلام، بحيث نزيل دراسة كل نموذج من نماذج هذا الفكر (في عصوره المتتالية ومناطقه المتنوعة عبرالأمة) نزيلها بمجموعة الإشكالات التي لم تقدم لها إجابات شافية ولم يتم تخطيط تنفيذها بفعالية طوال قرنين من عمر الأمة، هما قرنا الأزمة الحديثة التي وصلت إلى حد دفع البعض للقول هل نعلن موت الأمة، أم كيف يكون الإصلاح ممكناً والأمة على حافة الهاوية؟.

الهوامش :

(*) هذه الورقة مختصر لبحث مطول قدمته الأستاذة الدكتورة نادية مصطفى في احتفال مكتبة الإسكندرية بالإمام محمد عبده في الفترة 4 -5 ديسمبر 2005م.

(**) أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة.

1-    د. عثمان أمين، رائد الفكر المصري: الإمام محمد عبده، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ط2، 1965، ص 19-20، ص 27-28.

2-    د. محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، سلسلة منشورات عربية، بيروت، ط2، 1979، مقدمة الجزء الأول، كتابات سياسية.

3-    د. عواطف العراقي ( إشراف وتصدير) : الشيخ محمد عبده 1849- 1905) ، بحوث ودراسات عن حياته وأفكاره، المجلس الأعلى للثقافة والعلوم والفنون، القاهرة، 1995.

4-    د. عبد العاطي محمد، الفكر السياسي للإمام محمد عبده، القاهرة: مركز الأهرام للنشر، 1980 وانظر:

5-    د. حورية توفيق مجاهد، الفكر السياسي ن أفلاطون إلى محمد عبده، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1986.

6-    د. زكريا سليمان بيومي، التيارات السياسية والاجتماعية بين المجددين والحافظين – دراسة تاريخية في فكر الشيخ محمد عبده، القاهرة: الهيئة الصرية العامة للكتاب، 1983.

7-    د. محمد عمارة، تجديد الدنيا بالدين، القاهرة: دار الوحدة، 1985.

8-    وهو المدخل الذي أبرزته الدراسات في تفسير الإمام للقرآن وفي إصلاح العقيدة والسنن. انظر على سبيل المثال :

9-      د. منى أبو زيد، منهج محمد عبدهفي دراسة العقيدة،مجلة المسلم المعاصر، العددان 75-76، 1995، ص 128 – 166 .

10-                   عبد الله المكي رشيد ، منهج الشيخ محمد عبده في التفسير، كلية أصول الدين، جامعة الأزهر، القاهرة.

11-                   محمد صالح محمد السيد،إعادة بناء علم التوحيد عند الأستاذ الإمام محمد عبده، القاهرة: دار قباء، 1998.

12-                   يستكمل هذا الأهتمام بمجال الفكر جهوداً سابقة في مجالا أخرى: التاريخ الاسلامين نظرية العلاقات الدولية من منظور إسلامي، العلاقات الدولية للعال الإسلامي في النظام الدولي المعاصر: انظر على التوالي:

13-                   د. نادية محمود مصطفى، مقدمة مشروع العلاقات الدولية في الإسلام: الأهداف، الدوافع، المنطلقات، (في):

د. نادية محمود مصطفى (إشراف)؛ المقدمة العامة لمشروع العلاقات الدولية في الإسلام، الجزء الأول من المشروع، القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1996.

–   د. نادية محمود مصطفى، مدخل مناهجي لدراسة التطور في وضع ودور العالم الإسلامي في النظام الدولي(في) :

د. نادية محمود مصطفى (إشراف) ؛ مشروع العلاقات الدولية في الإسلام المرجع السابق، الجزء السابع.

– د. نادية محمود مصطفى، العصر الملوكي. (في) : د. نادية محمود مصطفى (إشراف)؛ المرجع السابق، الجزء العاشر.

–   د. نادية محمود مصطفى، العصر العثماني. (في): د. نادية محمود مصطفى (إشراف)؛ المرجع السابق، الجزء الحادي عشر.

ب- د. نادية محمود مصطفى، عملية بناء منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية: إشكاليات خيرة البحث والتدريس؛ (في): د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح محرران)؛أعمال دوة المنهجية الإسلامية والعلوم الإجتماعية: العلوم السياسية نموذجًا. القاهرة: مركز الحضارة للدراسات السياسية والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 29/7- 2/8/2000، القاهرة2002.

د. نادية محمود مصطفى، إعادة تعريف السياسي: رؤية من داخل حقل العلاقات الدولية (في): د. نادية محمود مصطفى (إشراف وتحرير)؛ علم السياسة: مراجعات نظرية ومناهجية. سلسلة محاضرات الموسم الثقافي (4-5) 2001/2003، القاهرة: قسم العلوم السياسية ، كلية الاقتصاد- جامعة القاهرة، 2004 .

ج –  د. نادية محمود مصطفى، تحديات العولمة والأبعاد الثقافية الحضارية والقيمية (رؤية إسلامية) (في): مجموعة باحثين: مستقبل الإسلام. دمشق: دار الفكر العربي، 2004.

14-                   د. نادية محمود مصطفى،البوسنة والهرسك، من إعلان الاستقلال وحى فرض التقسيم (مارس 92- يوليو 93)، نجاح العدوان المسلح في فرض الأر الواقع أمام أنظار النظام العالمي الجديد، (في): تقرير الأمة في عام 1993) 1413هــــــ، القاهرة: ركز الدراسات الحضارية. 1994.

–         د. نادية محمود مصطفى، آسيا الوسطى والقوقاز بين القوى الاسلامية الكبرى وروسيا، أنماط ومحددات التطور التاريخي للتفاعلات الدولية، إطار مقترح للتحليل السياسي للاريخ الإسلامي، في): معهد البحوث والدراسات العربية: الوطن العربي وكومنولث الدول المستقلة. القاهرة، 1994.

–         د. نادية محمود مصطفى، كوسوفا بين التاريخ والأزمة الراهنة، (في): حولية أمتي في العالم (1998) القاهرة: مركز الحضارة والدراسات السياسية، 1999.

–         الإشراف على والتحرير المشترك لخمسة أعداد من حولية “أمتي في العالم” (1999-2005)، وموسوعة الأمة في قرن(2002)، ن إصدار مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة.

15-                    حول غايات البحث في التراث واهدافه وضوابطه انظر: د. حامد ربيع، التراث الإسلامي ووظيفته في بناء النظرية السياسية، القاهرة، مكتبة القاهرة الحديثة، 1970.

16-                   انظر على سبيل المثال:

–         د. نادية محمود مصطفى، الدعوة إلى نظور جديد في دراسة العلاقات الدولية، السياسة الدولية- أكتوبر 1985 .

–         د. نادية محمود مصطفى، لعولمة وحقل العلاقات الدولية؛ (في): د.سيف الدين عبد الفتاح، د. حسن نافعة إشراف وتحرير)، العولمة والعلوم السياسية، سلسلة محاضرات الموسم الثقافي (1)، العا الجامعي 1998- 1999 ، قسم العلوم السياسية كلية الأقتصاد، جامعة القاهرة، 2000.

–         د. نادية محمود مصطفى، إعادة تعريف السياسي: رؤية من داخل حقل العلاقات الدوليةن مرجع سابق.

17-                   د. نادية محمود مصطفى، عملية بناء منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية: إشكاليات خيرة البحث والتدريس، مرجع سابق.

–         د. إبراهيم البيومي: المبادئ العامة للنظرية الإسلامية للعلاقات الدولية، المسلم المعاصر، بيروت، العدد 100، ص ص 85- 111.

18-                   انظر على سبيل المثال:

–         د. محمد البهي، الفكر الإسلامي في تطوره، القاهرة‘ 1970.

–         د. محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث ، وصلته بالأستعمار الغربي، ط 8، 1975.

–         أ. أنور الجندي، يقظة الفكر العربي في واجهة الاستعمار، القاهرة: الأنجلو المصرية، 1971، ص ص 27-52 .

–         أحمد أمين،زعماء الإصلاح في العصر الحديث، القاهرة: النهضة المصرية، ط 5، 1989.

–         أحمد عبد الرحيم  مصطفى،  حركة التجديد الإسلامي في العالم العربي الحديث.

–         مجموعة باحثين ، الإصلاح والمجتمع الغربي في القرن 19، الرباط: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، (1983) على المحافظة:الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، (1798- 1914) القاهرة: الاهلية للنشر والتوزيعن ط4، 1985.

–         د. علي المحافظ، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة (1798- 1914)، القاهرة: الأهلية للنشر والتوزيع، ط2، 1985.

–         د. نازك سبايارد، الراحلون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة: ( الصراع الفكري والحضاري).

19-                   وانظر أيضًا: د. نادية محمود مصطفى،د. سيف الدين عبد الفتاح: قدمة حولية “أمتي في العالم” 1999، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2000. وكان موضوع هذا العدد ” العلاقات البينية في العالم الإسلامي”.

20-                   رضوان السيد: مراحل الخطاب الإسلامي في جوابه على التحديات خلال قرن،منبر الحوار، العدد 23 – 24 شتاء 1992.

21-                   طارق البشري: خريطة الفكر الإسلامي المعاصر؛ (في): طارق البشري، محمود سفر (محرران)، نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة، جامعة الخليج العربي، 1989، ص 128- 130.

22-                   حول العلاقة بي التعددية والوحدة، انظر على سبيل المثال:

–     James Piscatorie: Islam in a world of nation- states, Royal Institute of international affairs , Cambridge University Press, 1988.

–         وحول العلاقة بين الاستعار والجهاد، انظر على سبيل الثال: رودولف بيترز،الإسلام والاستعمار: عقيدة الجهاد في التاريخ الحديث، القاهرة: المعهد الهولندي للآثار المصرية والبحوث العربية، 1985.

–          وحول الإصلاح الداخلي انظر كل  ما سبق- ذكره- من أدبيات في هامش رقم 21.

23-                   انظر مناقشةً لمعايير  اتجاهات الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر (في):

–     William E. Shepard: Islam and Ideology: Towards a typology, International Journal of Middle East Studies, 19, (1987) p p 307-327.

–         وقد درجت بعض الأدبيات الغربية – أكثر من الأدبيات العربية- على التصنيف وفق معيار “درجة التأثر بالغرب والدلالة بالنسبة للفقه الإسلامي والفتاوى”، فما اتجه بها للمنحى العام في التحليل، أو النوعي الجزئي، دون الاحتفاء بتقدير الون النسبي للقضايا الثلاث في منظومة فكر كل علم. ويرجع هذا في جانب منه إلى اهتمامهم بدرجة أساسية بما أوقعته الحداثة وانتشارها من تأثير، في حين يجدر أن يقع في نطاق اهتماما تنا، واهتماات الباحثين في التراث سعيًا نحو الفهم والعبرة، وتحديد القضايا محل الأولوية وسبل معالجتها، سواء اقتضى الأمر نقلاً عن الغرب أو لم يقتضِ. انظر على سبيل المثال:

J.Esposito: op. cit

24- انظر في هذا المفهوم: د. سيف الدين عبد الفتاح، علم السياسة من منظور إسلامي: كراسات سياسية، القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية.

25- انظر في هذا المفهوم ( الإصلاح): د. نادية مصطفي، د. سيف الدين عبد الفتاح، خاتمة وفاتحة، (في) : ” أمتي في العالم”، العدد السادس، الجزء الثاني، القاهرة : مركز الحضارة للدراسات السياسية، 1426 هـ/ 2005م، ص ص 1009-1012.

26-  د. محمد عمارة ، الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، مرجع سابق ، ص ص 60-64 .

27- د. زينب الخضيري: التطور والإصلاح عند محمد عبده (في): د. عاطف العراقي؛ مرجع سابق، ص ص 81- 83.

28- علي شلش: سلسلة الأعمال المجهولة، محمد عبده، رياض الريس للكتب والنشر، بريطانيا، 1987، ص 29-30.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر