البورصات :
ملاهى السفهاء بأموال الأمة
البورصات – لا بوضعها الحالى – هى التطور الطبيعى للأسواق التى حرص الإسلام على إيجادها وتوفير الظروف الموائمة لنجاحها فى تلاقى العرض بالطلب دون جهالة أو غش أو غرر أو خلابة أو ميسر…
لقد كان من أوائل ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة المنورة إقامة مسجد المدينة وسوقها.
وفى النهى عن تلقى الركبان ما يدل على أهمية السوق فى تلاقى العرض – عن ابن مسعود قال : <<نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن تلقى البيوع >>،(متفق عليه ).
– وعن أبى هريرة قال : <<نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب ،فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا ورد السوق >>،( رواه الجماعة إلا البخارى ) (1).
والمعنى المقصود هنا هو هو حماية البائع أو المشترى الغريب عن السوق حتى يختلط بالسوق ويعرف السعر فيكون بيعه وشراؤه حينئذ عن بينة ،بعيداً عن استغلال الطرف الآخر جهله بالسعر.
واستمرت سيرة المسلمين على هذا المنوال فى جميع مدنهم على مر العصور حتى صار السوق سمة من سمات المدنية العربية والإسلامية.
ولم يقف الأمر عند حد وجود الأسواق ،بل تخصصت هذه الأسواق وفقاً للمهن المختلفة ،فسوق الحدادين ، وأخرى للبزازين ،وثالثة للعطارين إلى آخر هذه الأسماء التى نجدها فى مدننا التراثية القديمة.
ولم يحل دون تجمع أصحاب كل مهنة فى سوق لهم خشية المنافسة السلبية فيما بينهم بل كان يرجح هذا الاعتبار اعتبار آخر أهم هو استقراء الأسعار عند الحد الوسط الذى يحقق ربحاً معقولاً للتاجر أو صاحب المهنة ،وييسر السلعة بسعر معقول كذلك للمستهلك ،سواء كانت السلعة بسعر معقول كذلك للمستهلك ،سواء كانت السلعة بضاعة أو خدمة.
ولم يخش من تجمع التجار وأصحاب المهن اتفاقهم على رفع سعر السلعة واحتكارها إن لزم الأمر لتحقيق ربح استغلالي فقد حرمت الشريعة الاحتكار ،كما ورد فى الكثير من الأحاديث : فعن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوى ،أن النبى صلى الله عليه وسلم أن النبى قال : <<لا يحتكر إلا خاطئ >>، وكان سعيد يحتكر الزيت ،(رواه أحمد ومسلم وأبو داود ). وعن معقل بن يسار قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<من دخل فى شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يعقده بعظم من النار يوم القيامة >>. وعن أبى هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم <<من احتكر حُكرة يريد أن يغلى بها على المسلمين فهو خاطئ >>،(رواهما أحمد ). وعن عمر قال : سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول : <<من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذم والإفلاس >>،رواه ابن ماجة )(2)
وكانت هذه التجمعات التجارية والمهنية أشبه بالنقابات والاتحادات الآن ،حيث كان لكل تجمع رئيس أو نقيب، وكان له نظمه وأعرافه الواجبة الاحترام ،حتى لقد جعلتها الشريعة مصدراً تشريعياً ملزماً لهم رغم أنهم هم الذين ينشئونه ،طالما أنه لا يخرج عن إطار الشريعة الربانية فيما رسمت من أوامر عامة ونواٍه عامة. وقبل أن نسترسل فى رسم الخطوط العريضة للضوابط الإسلامية للأ سواق ،نشيرعلى سبيل الموازاة إلى ما صارت إليه الأسواق فى عالمنا المعاصر فى ناحيتى التخصص والتنظيم :
فمن ناحية التخصص: نجدنا حالياً أمام العديد من الأسواق المتخصصة لا فى داخل كل دولة ومدينة وحسب بل على المستوى العالمي أيضاً :
فهناك للمعادن بورصات للذهب والفضة والبلاتين وغيرها.
وهناك للحاصلات الزراعية بورصات للقمح والقطن.
وهناك بورصات للنفط.
وهناك بورصات للعملات.
وهناك بورصات لأسهم الشركات.
وهناك بورصات للديون : من سندات وكمبيالات ،وغير ذلك كثير.
وفى كل من هذه المجالات بورصات للتعامل الآجل.
كما استحدثت بورصات للتعامل في الخيارات optionsوغيرها.
ومن ناحية التنظيم،هذه البورصات تراوحت بين اتجاهات مختلفة : ما بين التنظيم بواسطة الحكومات ، regulation وما بين تنظيم ذاتى من قبل الأسواق نفسها self- regulation،وما بين التحرر من هذه التنظيمات deregulation،وكلها تجاهات تميلها الأيديولوجيات والمصالح ،وتختلف من زمن إلى زمن ومن بلد إلى بلد.
أما فى الشريعة الإسلامية فقد كان هناك منصب منذ صدر الإسلام هو منصب المحتسب الذى كان يراقب الأسواق ويتدخل مباشرة فى حالة انتهاك الأحكام الشرعية الخاصة بالمعاملات ،فضلاً عن دوره فى حماية أحكام الشريعة الأخرى.
هذه لمحة سريعة عن هذا العالم الفسيح للأسواق العالمية الحالية (البورصات) أردنا بها أن نوضح اتساع الموضوع وتعقده وعدم إمكان الحكم عليه جملة بالحل أو بالحرمة من الناحية الشرعية.
كما أنه من ناحية الممارسات العملية وتفاصيل الآليات المتبعة ممن ينشطون فى هذا المجال المؤثرات التى تؤثر على قرارتهم والنتائج التى يحصلون عليها إيجاباً وسلباً والكوارث التاريخية الى لا تنسى ولا تنمحي آثارها سواء فى نيويورك أو الكويت أو جنوب شرق آسيا مما لاتزال دروسه تتناقلها وتتدارسها الأجيال ،أو تتجاهلها وتكرر الوقوع فيها مما لا يتسع هذا المقال لبسط الحديث فيه.
وحتى نحقق هدف هذا المقال نحدد مبدئياً بعض المجالات التى تبدو مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية ،ثم نتناولها بالبحث راسمين بهذه المناسبة الخطوط العريضة للضوابط الإسلامية للأسواق ،فنحقق بذلك هدفين فى وقت واحد.
أولاً : بين التنمية والمقامرة :
أول مسألة نتناولها هى بطبيعتها تتعلق بالممارسة لا بأصل المبدأ ،ولكن للأسف الشديد أصبحت هى السمة الغالبة فى نشاط البورصات وهى تحول عملاء البورصة عن هدفها الأصلى وهو تيسير لقاء العرض والطلب الجدين بغية تحديد السعر العادل إلى مقامرة specul – ation على تذبذب الأسعار بغية الاستفادة من فروق الأسعار. أقول : المقامرة ولا أسميها المضاربة كما عربها عمداً من أراد أن يسبغ عليها الشرعية فأعطاها هذا الأسم الذى هو أصلاً لمعاملة مشروعة هى عقد المضاربة أو القراض أو المقارضة ،وهى اتفاق صاحب المال مع من يستثمر له ماله لقاء اقتسام الربح بينهما بالنسبة التى يتفقان عليها.
أما هذه المقامرة فهى محاولة الاستفادة من فروق الأسعار فيشترى بقصد هذه الاستفادة حتى إذا ارتفع السعر باع ليحقق الربح ،وقد ينخفض السعر فيصبر حتى يعود إلى الارتفاع أو يستمر هبوطه فيسارع إلى تصفية موقفه بالخسارة.
هذا الانحراف فى وظيفة البورصة موجود فى معظم أنواعها إن لم يكن فى جميعا. ونأخذ على سبيل المثال بورصة الأسهم.
الأسهم التى يتعامل فيها فى البورصة هى شهادات ملكية حصة فى الشركة مصدرة السهم ،وشراء السهم يعنى انتقال ملكية هذه الحصة من البائع إلى المشترى ،وهذه العملية لا بأس بها من الناحية الشرعية ،ولا باس كذلك فى اتفاقهما على السعر الذى يرتضيانه إلا أن يكون بخساً أساسه الغرر ؛ولذلك تشترط قوانين البورصات شروطاً تتعلق بشفافية المركز المالى للشركة من إعلان ميزانيتها ومراكزها المالية حتى يكون المشترى على علم بحقيقة ما يشترى فتنتفى الجهاله عنه ،بل وأكثر من ذلك هناك مكاتب استشارية يمكن أن يلجأ إليها طالباً الرأى الاقتصادى والمالى السليم لمعاونته على اتخاذ القرار الرشيد.
ومما ينبغى أن يقال كذلك أن هناك عدة أسعار للسهم الواحد : سعر اسمى هو السعر الذى صدر به السهم عند إنشاء الشركة ،وسعر حسابى أو دفترى يتحدد بقسمة موجودات الشركة على عدد أسهمها ،وسعر ثالث هو سعر السوق الذى يضع فى اعتباره السعرين السابقين ويضيف إليهما اعتباراً ثالثا هو مدى فرصة هذه الشركة فى النجاح أو الخسارة ومدى إقبال المستثمرين أو إدبارهم عن شراء أسهمها ،وقد يشترى المستثمر السهم بأكثر من سعره الدفترى لثقته فى حسن إدارة الشركة وأن مستقبلها إلى ازدهار ،كما قد يبيع السهم بأقل من سعره الدفترى لتفادى خسارة يتوقعها للشركة بناء على معلومات لديه أو لمجرد حصوله على سيولة هو فى حاجة إليها لنشاط استثمارى آخر كأن يشترى لنفسه منزلاً أو ليشترى أسهم شركة أخرى هى أرجى فى نظره نجاحاً من الأولى..
إلى غير ذلك من الاعتبارات التى قد تختلف من شخص لآخر ،وعلى أساس المستوى العام للأسعار التى يتم التعامل بها فى يوم معين يتحدد سعر السوق لهذا السهم وذاك.
هذا كله لا بأس به ،ولعله مما ينطبق عليه قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الجماعة إلا البخارى عن جابر : <<لا يبيع حاضر لباد ،دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض >>.ولكن هذا شئ ،والمقامرة التى يقوم بها من ليس له اهتمام بنشاط الشركة ونجاحها الفعلى أو خسارتها ،وإنما همه هو ربح أو خسارة السهم وليس له الشركة ،فهذا شئ آخر.
وحتى لا ندخل فى متاهات المناقشات الفقهية حول أو حرمة هذه التعاملات ،لننتقل إلى صعيد آخر أقل قابلية للخطأ أو للخلاف ،وهو الصعيد الاقتصادى والذى لا يبعد عن الصعيد الفقهى ؛لأن المصلحة العامة من صميم الاهتمام الفقهى.
إن سحب الأموال التى تستخدم فى شراء وبيع الأسهم من سوق الاسهم لن يضر اقتصاديات الشركات موضوع هذه الأسهم فهى قائمة بالفعل وتنتج بالفعل وتربح أو تخسر بصرف النظر عن عمليات شراء وبيع أسهمها.
أما إذا وجهنا هذه الأموال إلى الاقتصاد الحقيقى بإنشاء شركات جديدة تزيد فى حجم الإنتاج وتنوعه نكون بذلك قد أضفنا إضافة حقيقية إلى الاقتصاد وأوجدنا تنمية.. فرص عمل.. ناتج قومى.. حققنا الوفرة.. أتحنا مزيداً من الإنتاج لتلبية احتياجات المحرومين والفقراء والمعدمين ،ورفعنا القدرة الشرائية للمستهلكين ، ونشطنا الإنتاج ،وأنعشنا الاقتصاد. وهذا كله يصب فى المصلحة العامة التى هى أحد الأدلة الشرعية ،والتى تقدم على المصلحة العامة التى هى أحد الأدلة الشرعية ،والتى تقدم على المصلحة الخاصة لقلة ممن بأيديهم فوائض من الأموال يفضلون تداولها فيما بينهم فى سوق وهمية لا تنتج مزيداً من الطيبات ،وإنما تنقلها من أيدى الخاسرين إلى إيدى الرابحين كما تفعل نوادى القمار فى مرتاديها.
فإذا عرفنا أن كم الثروات التى تنفق فى الاقتصاد الحقيقى لا يزيد عن 2,5% من جموع عمليات البورصة ، وأن الباقى ينفق فى اقتصاد وهمى (3) ،لعرفنا مدى الانحراف الذى انحرفت إليه البورصات بعيداً عن هدفها الأصلى ،ولعلاج ذلك نرى ضرورة اتخاذ عدة تدابير لإصلاح المسيرة الحالية للبورصات.
1 – تحقيق الشفافية الكاملة فى بيانات الشركات المسجلة أسهمها للتعامل بها فى البورصة ،والتشديد فى تطبيق هذا الأمر.
2 – توقيع جزاءات على مؤسسات الوساطة والخدمات المالية التى تغرر بالعملاء.
3- منع البنوك من تمويل المضاربين فى البورصة.
4- منع بيع الأسهم فور شرائها لاستبعاد المضاربين ،وذلك باشتراط مرور مدة على الأقل بين الشراء والبيع (شهر أو 3 شهور مثلاً) ،حسبما يرى الخبراء.
5- فرض ضريبة على كل تعامل فى البورصة تخصص حصيلتها للمشروعات الاجتماعية.
6- إيقاف التعامل فى الأسهم إذا زادت أسعارها فى البورصة عن أكثر من 20 % (مثلاً) من أسعارها الدفترية.
7- عدم السماح لجهات أجنبية بالتلاعب بالاقتصاد الوطنى عن طريق التعامل فى البورصة ،ومراقبة هذه التعامل فى البورصة ،ومراقبة هذه المحاولات والتدخل الفورى لمنعها.
ثانياً : التعامل فى الأسواق الدولية
أثار موضوع التعامل فى الأسواق الدولية كثيراً من التساؤلات الشرعية من قبل البنوك الإسلامية التى تدفقت إليها الودائع بأكثر من طاقتها على استيعابها واستثمارها محلياً ،وسارعت البنوك الدولية إلى مد يد
<<العون >>باقتراح القيام نيابة عن البنوك الإسلامية بالاتجار بهذه الأموال فى أسواق السلع معادن وحاصلات وغيرها ) بطريق المرابحة ،وكان هم هيآت الرقابة الشرعية هو التأكد من وجود عمليات فعلية ، وأنها ليست مجرد ستار لعمليات ربوية. ثم تطور الأمر إلى العمل فى سوق العملات بشراء وبيع عملات مختلفة مستفدين من الفرق بين السعر العاجل والسعر الآجل ،ووجدت هيآت الرقابة الشرعية المخرج المبيح للتعامل الآجل فى سوق الصرف خلافاً للقاعدة الشرعية فى أن يكون التعامل يداً بيد ،وكان المخرج هو اعتبار أن كل عملة تعتبر نقوداً فى بلدها وتعتبر بضائع خارج بلدها. ثم جاء دور الاتجار فى سوق الأسهم واستبعدت هيآت الرقابة التعامل فى أسهم الشركات التى ينحصر نشاطها فى محل محرم كالبنوك لتعاملها بالربا أو شركات صنع الخمور مثلاً ،كما رأت بالنسبة لباقى الشركات التى تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضاً دون أن يكون هذا محور نشاطها ،عزل جزء من ربح هذه الشركات باعتباره كسباً خبيثاً وقامت بتحليل ميزانيات هذه الشركات لتحديد نسبة الربح الخبيث فى كل منها ،ويبدو أن تصور مصدرى هذه الفتوى اتجه إلى استبعاد الربح الناتج عن إيداع الشركة فى البنك ،بينما هذه الحالة نادرة وضئيلة ،بينما العكس هو الغالب أى اقتراض الشركة من البنك ؛لأن غالبية الشركة تقترض من البنوك أضعاف رأسمالها ،وبالتالى سوف يكون استبعاد الربح المقابل لهذه النسبة هو غالبية الربح ،فلمصلحة من نفتى المسلمين باستثمار أموالهم فى الغرب ثم نستبعد غالبية عائد هذا الاستثمار ؟
إن القضية الحقيقية فى هذا الشأن هى حرمان العالم الإسلامى من استثمار أموال المسلمين لتنمية العالم الإسلامى الذى هو فى أشد الحاجة إليها ،وتقديمها لقمة سائغة للغرب سراء فى صورة ودائع فى بنوكه أو فى شراء أسهم شركاته. هذه هى القضية الحقيقية.. أن يسلم المسلمون أموالهم وهى سلاحهم فى معركة الحياة إلى غيرهم ثم تتعالى الأصوات الشاكية بأن الدول الغنية تزداد غنى والدول الفقيرة تزداد فقراً ،والأولى أن نوجه هذا النقد إلى أنفسنا لأن الخطأ خطؤنا أولاً وأخيراً.
يقال إن سبب اتجاه المسلمين بأموالهم إلى الغرب هو وجود مخاطر يتعرضون لها إذا استثمروا فى العالم الإسلامى. قد يكون هذا صحيحاً ،ولكن هل استنفذت الجهود فى البحث عن حل لهذه المسألة ،وعلى سبيل المثال لم يقوم البنك الإسلامى للتنمية بدور الوسيط أو الضامن لاستثمارات أموال المسلمين ومنها البنوك الإسلامية فى البلاد الإسلامية التى بها مخاطر للاستثمار ،ومعروف أن البنك الإسلامى للتنمية له وزنه للضغط على هذه الدول بسبب قروض البنية الأساسية التى يقدمها لها ؟ كما أن بإمكان البنوك الأسلامية أن تنزل إلى أسواق البلاد الإسلامية التى بها مخاطر للاستثمار ،ومعروف أن البنك الإسلامى للتنميه له وزنه للضغط على هذه الدول بسبب قروض البنية الأساسية التى يقدمها لها ؟ كما أن بإمكان البنوك الإسلامية بشكل جماعى فى صورة (كونسورتيوم) يكون له ثقله فى تأمين هذه الاستثمارات ؟ ثم لماذا لا تنشئ البنوك الإسلامية ومن ينضم إليها وبرعاية البنك الإسلامى للتنمية شركة للتأمين ضد مخاطر الاستثمار ؟
الحلول كثيرة إذا صدقت النوايا فى استثمار أموال المسلمين فى بلاد المسلمين.
ومن باب حماية هذه الأموال يمكن أن نقدم بعض الاقتراحات :
1- منع استثمار فوائض الأموال فى البورصات الغربية حتى لا تتعرض للضياع نتيجة تقلبات مصطنعة فى معظم الأحوال ،وتشجيع استثمارها فى تنمية اقتصادنا بدلاً من إنعاش اقتصاد الغير على حساب تدهور اقتصادنا وعملتنا.
ويمكن أن يأخذ المنع والتشجيع صور الترغيب والترهيب ،الترغيب فى صورة إعفاءات ضريبية وجمركية هامة لمن يستثمر داخل البلاد الإسلامية ،والترهيب فى صورة الحرمان من فرص تعاقدات وتراخيص لمن يهرب أمواله إلى الخارج ويحرم بلاده من استثمارات تنموية هى فى أشد الحاجة إليها.
2- فرض الوصاية على أموال السفهاء الذين يتلاعبون فى البورصة ،وإدراتها لحسابهم بما يحقق المصلحة العامة.
ثالثاً : التعامل الآجل فى البورصة
تدعو إلى التعامل الآجل مصالح حقيقية لا سبيل إلى تجاهلها ،وسأكتفى هنا بضرب مثالين لتوضيح الصورة :
المثال الأول: حالة المنقاصات حالة المنقاصات الكبرى التى يمتد تنفيذها لمدة يتوقع تغير الأسعار خلالها : أسعار المواد وأسعار العملات ،إذا لا يستطيع المناقصون شراء ما يلزم لتنفيذ المناقصة مقدماً ،والمعتاد أن يكون بإمكان المناقص الناجح الإنفاق على المشروع لمرحلة يتم بعدها قبض مستخلص من صاحب المشروع يتناسب مع حجم ما أنجز ،ومن هذا المستخلص يقوم المناقص الناجح بالإنفاق على المرحلة التالية وهكذا.
ونتيجة لذلك يكون طبيعاً أن يحرص المناقص على تثبيت سعر المواد اللازمة للمقاولة وسعر العملة الأجنبية بالنسبة للمواد التى سيتم استيرادها ،ومن هنا تكون المصلحة فى التعامل الآجل لضمان ثبات هذه الأسعار حتى لا يتعرض المناقص إذا ارتفعت الأسعار لكارثة تؤدى به إلى الإفلاس ،خاصة أن هامش الربح الذى يضيفه إلى التكلفة محدود ،حتى يستطيع الفوز بالمناقصة بأن يكون السعر الذى يتقدم به هو أقل الأسعار.
المثال الثانى : حالة المحاصيل الزراعية ،خاصة فى المزارع الكبيرة ،إذا يواجه المزارعون مسألة بيع هذه المحاصيل خلال مدة قصيرة ،وإلا اضطروا إلى نقلها وتخزينها لحين تيسر المشترين ،وما يستتبعه ذلك من مصاريف نقل وتخزين وتأمين ؛لذلك يكون البيع المسبق للمحصول هو الحل الأمثل للمسألة.
وهنا نكون بصدد مجموعة من النصوص تنهى عن بيع الغرر وعن بيع ما ليس عندك هى بمثابة محددات أو ضوابط لعمل البورصات فى البيوع الآجلة.
أ – فعن بيع الغرر نختار بضعة من الأحاديث النبوية :
1- عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر. (رواه الجماعة إلا البخارى).
2- وعن أبن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : <<لا تشتروا السمك فى الماء ؛فإنه غرر >>
(رواه أحمد).
3- وعن شهر بن حوشب عن أبى سعيد قال : نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن شراء ما فى بطون الأنعام حتى ضع ،وعن بيع ما فى ضروعها إلا بكيل ،وعن شراء العبد وهو آبق ،وعن شراء المغانم حتى تقسم ، وعن شراء الصدقات حتى تقبض ،وعن ضربة الغائص. (رواه أحمد وابن ماجة ،وللترمذى منه شراء المغانم ،وقال : غريب ).
4- وعن ابن عباس قال : نهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يباع ثمر حتى يطعم ،أو وصف على ظهر ،أو لبن فى ضرع. أو سمن فى لبن. (رواه الدارقطنى) (4).
ما معنى هذا ؟
معنى هذا أن الشريعة تنهى عن الغرر فى المعاملات بجميع صوره وأشكاله ،وأن الصور التى وردت فى هذه الأحاديث وغيرها ما هى إلا أمثلة لشرح المعنى وتأكيده ،وبعبارة أخرى :
أن محل المعاملة ينبغى أن يكون موجوداً متحققاً لا مجرد توقع واحتمال ،مهما كان هذا الاحتمال قوياً كما فى بطون الأنعام قبل وضعها ،وكالمغانم قبل قسمتها ،وكالثمر على الشجر قبل نضجه والصوف على ظهر الدابة واللبن فى ضرعها. فكل هذه صور احتمالية متوقعة ،بل والتوقع فيها قوى قريب من درجة التحقق ، ولكنها تظل من صور الغرر المنهى عنها بالنصوص الصريحة المتقدمة وليست مجرد تششد فى تفسير النص أو مغالاة فى فهمه وتطبيقه.
ب- ومن صور بيع الغرر بيع الثمر قبل بدو صلاحه (5).
1- فعن ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع (رواه الجماعة إلا الترمذى).
2- وفى لفظ : نهى عن بيع النخل حتى تزهو ،وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة (رواه الجماعة إلا البخارى وابن ماجة).
3- وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تتبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها.(رواه أحمد ومسلم والنسائى وابن ماجه ).
4- وعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يَسودَ ،وعن بيع الحب حتى يشتد (رواه الخمسة إلا النسائى ).
5- وعن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى ،قالوا : إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك. (أخرجاه)
ج – ومما يتصل بهذا الموضوع ما يسمى بوضع الجوائح :
فعن جابر أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح (رواه أحمد والنسائى وأبو دواد) وفى لفظ قال : إن بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً ،بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟
(رواه مسلم وأبو داود والنسائى وابن ماجة) (6).
د – وعن بيع ما ليس عندك نختار بضعة من الأحاديث :
1- عن حكيم بن حزام قال : قلت : يارسول الله ،ياتينى الرجل فيسألنى عن البيع ليس عندى ما أبيعه منه ،ثم أبتاعه من السوق ،فقال : لا تبع ما ليس عندك. (رواه الخمسة ).
2- وفى الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبى داود والترمذى وصححه والنسائى وابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<لا يحل سلف وبيع ولا شرطان فى بيع ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك >>.
قال البغوى : النهى فى هذا الحديث عن بيوع الأعيان التى لا يملكها ،أما بيع شئ موصوف فى ذمته ،فيجوز فيه السلم بشروطه ،فلو باع شيئاً موصوفاً فى مته عام الوجود عنج المحل المشروط فى البيع جاز وإن لم يكن المبيع موجوداً فى ملكه حالة العقد كالسلم.
وقال النووى : وظاهر النهى تحريم مال ما لم يكن فى ملك الأنسان ولا دخلاً تحت مقدرته ،وقد استثنى من ذلك السلم ،فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم ،وكذلك إذا كان المبيع فى ذمة المشترى إذا هو كالحاضر المقبوض (7).
والمعنى هنا هو تأكيد حصر التعامل فى الأشياء المتأكد وجودها ،سواء فى ملكية البائع ،أو فى حيازته ،أو فيهما معاً ،أو فى ذمة المشترى ،أو عامة الوجود فى السوق إذا كان المبيع موصوفاً ،أى له مواصفات محددة تعينه كمبيع مثلى لا يختلف عليه.
ح- وإذا كانت أحاديث <<ما ليس عنك >> صريحة فى اشتراط الملكية ،فهناك أحاديث أخرى تصرح باشتراط الحيازة منها :
1- عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا اتبعت طعاماً فلا تبعه حتى تستوفيه >>. (رواه أحمد ومسلم).
2- وعن حكيم بن حزام قال : قلت : يارسول الله ،إنى أشترى بيوعاً فما يحل لى منها وما يحرم على ؟ قال : <<إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه >>(رواه أحمد).
3- وعن زيد بن ثابت : أن النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. (رواه أبو داود والدارقطنى) (8).
والمعنى هنا تأكيد للمعنى السابق من ضرورة وجود المبيع فى حوزة البائع ،والنصوص صريحة فى أن تكون الحيازة فعلية لا حكيمة (تستوفيه ،تقبضه ،إلى رحالهم ) وإن كان يمكن القبول بالحيازة الحكيمة إذا تأكد وجود المبيع فى ملكية البائع وتحت تصرفه.
***
يتضح من المثالين السابقين ،ومن النصوص التى أوردناها ،وجه المصلحة التى يحققها التعامل الآجل فى هاتين الحالتين ،كما يتضح مدى المخالفة الشرعية فيهما.
ويمكن أن نلخص الموقف فى الآتى :
1- أن الأصل هو منع التعامل الآجل ؛نفياً للغرر إلا أن يكون المبيع شيئاً موصوفاً فى الذمة عام الوجود.
2- أنه فى خصوص بيع الثمار ،لا يحل أخذ ثمنها إذا أصابتها جائحة ،أى أنها تظل فى ضمان البائع حتى يتسلمها المشترى ،ويمكن أن يعمم هذا على كل مبيع حتى يتم تسليمه للمشترى.
3- أن الخروج على هذه النصوص الناهية لا يمكن تبريره على أساس الضرورة ؛لانتفاء شروطها الشرعية ، ولكن على أساس الحاجة التى تنزل منزلة الضرورة.
4- أنه على هذا الأساس لا يجوز التوسع فى إباحة البيوع الآجلة لغير المصالح التى أشرنا إليها ،وعلى وجه الخصوص لا يجوز إباحتها للمقامرين الذين لا تتوافر فى حالتهم ضرورة ولا حاجة.
5- وعلى ذلك يمكن القول بمنع التعامل الآجل إلا فى حالتين (9).
– حالة المنتج للسلعة الذى يملك القدرة الطبيعية على تسليمها للمشترى.
– حالة المشترى المحتاج إلى السلعة فى عمله.
رابعاً : التعامل فى الخيارات options
تمثل الخيارات صورة متقدمة من المقامرات التى تتم فى البورصات.
والخيار optionعبارة عن ارتباط بين طرفين يعطى أحدهما الحق فى إلزام الطرف الآخر ببيع (ويسمى خيار الطلب) أو شراء (ويسمى خيار الدفاع) سلعة معينة فى وقت معين بسعر معين.
ويستخدم لتثبيت هذه العناصر لصالح طرف يتوقع الحصول على ربح إذا زاد السعر فى الواقع عن سعر الخيار إذا كان مشترياً ،أو إذا كان بائعاً. فإذا لم يتحقق توقعه فإنه لا يخسر إلا ثمن الخيار ،وهو عادة ثمن قليل إذا قيس بثمن السلعة نفسها.
والخيارات بهذه الصورة عبارة عن قمار محض إذا إن الخسارة القليلة فيها مؤكدة ،أما الربح فاحتمالى شأن أوراق اليانصيب ،وهذا هو تعريف القمار (الميسر بصورة المتعددة) ومحل العقد فى الخيار ليس موجوداً ، ولا هو مملوك لبائع الخيار ؛ولذلك تتم عقود الخيار على أضعاف كمية السلعة محل الخيار.
ولا يتم تنفيذ معظمها عيناً بل طريق المقاصة بأن يخسر أو يكسب أحد الطرفين الفرق بين سعر السلعة المحدد فى الخيار وسعرها فى الواقع فى ميعاد تنفيذ الخيار.
وهناك من الاختيارات ما ليس محله سلعة أو سهم شركة ،بل مجرد مؤشر سلة من أسهم 100 شركة مثلاً يقاس تغير أسعارها صعوداً وهبوطاً ولا يتم تنفيذها إلا بتصفية الموقف ،حيث يخسر أحد الطرفين ويكسب الآخر ،ولا محل حقيقى للعقد. وإذا كانت الخيارات على السلع تتم على أضعاف كمية السلع المتاحة ،فإن الخيارات على المؤشرات لا حد أقصى لها.
ومن هنا كانت كمية الأموال المستخدمة فى هذه العمليات أضعاف مضاعفة للأموال المستخدمة فى الاقتصاد الحقيقى.
ألا يحق لنا أن نسميها ملاهى السفهاء بأموال الأمم ،مصداقاً لقول الله تعالى : {ولا تٌؤتُوا الُسفَهاَء أَمَوَاَلكم التى جَعَل الله لَكٌم قِياماً واَرزقُوهمُ فيِهَا وَاكسٌوهُم }.
المراجع
(1) نيل الأوطار للشوكانى ،دار الفكر – بيروت ط1 سنة 2000 م ،الحديثان 2198 ،2199.
(2) نيل الأوطار ،الأحاديث 2271 – 2274.
(3) د. عمرو محيي الدين ،أزمة النمور الأسيوية ،دار الشروق ،2000 م ،ص 206 – 209 ،انظر مقالنا فى العدد 110 من هذه المجلة ص 88.
(4) نيل الأوطار ،الأحاديث 2160 – 2166.
(5) نيل الأوطار ،الأحاديث 2206 – 2212.
(6) نيل الأوطار ،الحديث 2213.
(7) نيل الاوطار ،الحديث 2175.
(8) نيل الأوطار ،الأحاديث 2179 ،2181 ،2182.
(9) نختلف هنا مع ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامى الدولي بجدة من منع التعامل الأجل بإطلاق إلا أن يستوفى شروط السلم التى لا تحقق المصالح التى أشرنا إليها. انظرقرارات وتوصيات المجمع فى دورته السابعة المنعقدة بجدة 9-14 / 5/ 1992 م.