أبحاث

دراسة المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة

العدد 62

مفهوم دراسة المستقبل:

ما هومفهومنا للدراسات المستقبلية ؟

وماذا نعنى بدراسة المستقبل ؟

أذكر أن هذين السؤالين برزا أمامى حين عكفت على تأليف كتابى ((ماذا بعد حرب رمضان فلسطين والوطن العربي في عالم الغد))  أواخر عام 1393 هجرى. الموافق 1973 م، بعد ثلاث سنوات من العناية بموضوع الدراسات المستقبلية. وقد حاولت الإجابة فقلت: ((الدراسات المستقبلية هي امتداد للدراسات التاريخية.

فكلتاهما رحلة عبر الزمان ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان عن غيره من مخلوقاته بإدراكه. وهي تتناول بالحديث المستقبل من خلال النظر في الحاضر والماضي. ودراسة المستقبل من ثم ليست تنبوأ يقوم على الرجم بالغيب، وإنما هي محاولة علمية تتكامل فيها الدراسات لمعرفة جوانب صورة الحاضر وتحليلها والتعرف على مجرى الحركة التاريخية من خلال دراسة الملضى وملاحظة سنن الكون، والانطلاق من ذلك كله إلى استشراف المستقبل وتشوفه وصولاً إلى طرح رؤية له.

وتتضمن هذه الرؤية توقعات يحتمل حدوثها كاستمرار للحركة التي تحكم الواقع القائم، وبدائل وخيارات وأحلاماً يجرى التطلع لتحقيقها بممارسة الفعل. فلا يغيب عن البال في هذا الطرح دور إرادة الفعل عن الإنسان والمجتمع الإنسانى في الاختيار وصنع المستقبل وترجيح بديل على آخر. كما لا يغيب عن البال أيضاً دور الحلم عند الإنسان والمثل الأعلى عند المجتمع الإنسانى في صنع إرادة الفعل هذه، ومن ثم توفير القدرة على الفعل. فهذا الإنسان قادراً على أن يكون فاعلاً في الاحداث ومؤثراً على تيارها المتدفق)).

لاحظت يومذاك أيضاً أن دراسة المستقبل هي تعبير عن حاجة أصلية في الاجتماع الإنسانى وقلت: ((إن الحاجة إلى استشراق آفاق المستقبل واستشفاق كنه ما سيأتى هي حاجة إنسانية تلح في فترات معينه أمام بروز سؤال ماذا بعد ؟ وتدعوإلى محاولة الإجابة عنه)). وبدا لى أن لدراسة المستقبل هدفاً هو((توظيف المعرفة للفعل والتأثير، وتحديد ما ينبغى أن يكون بعد توقع ما سيكون بحيث يمكن بالفكر والإدارة والقدرة أن تحكم الأحلام التوقعات)).

أجد نفسي اليوم من خلال اشتغالى بالدراسات المستقبلية لسنين طويلة أشد اقتناعاً بهدف دراسة المستقبل هذا. وقد استوقفنى مؤخراً وأنا أعاود قراءة كليلة ودمنة الذي نقله للعربية ابن المقفع ما جاء على لسان دمنة وهويخاطب كليلة، وكلاهما من أبناء آوى ذوي دهاء وعلم وأدب، قائلاً ((فإن أموراً ثلاثة العاقل جدير بالنظر فيها والاحتيال لها بجهده. منها النظر فيما مضى من الضر والنفع، أن يحترس من الضر الذي أصابه فيما سلف لئلا يعود إلى ذلك الضر، ويلتمس النفع الذي مضى ويحتال لمعاودته ومنها النظر فيما هومقيم فيه من المنافع والمضار، الاستيثاق  مما ينفع والهرب مما يضر. ومنها النظر في مستقبل ما يرجومن قبل النفع، وما يخاف من قبل الضر ليستتم ما يرجوويتوقى ما يخاف بجهده)). فنحن هنا أمام رجاء  النفع وتوقى الضر ببذل الجهد. ونحن النظر في الماضي والحاضر المقيم. تتوقفنى أيضاً قول دمنة للأسد: ((وأعجز الملوك آخذهم بالهويناء، وأقلهم نظراً في مستقبل الأمور)). وتداعى إلى خاطرى ما أكده ألفين توفلر من أن دراسة المستقبل تجعلنا أقدر على فهم مشاكلنا الراهنة وتلمس حلول ناجحة لها حين قال في كتابه الأول:

((صدمة المستقبل)) :((في الماضي درس الرجال التاريخ الماضي ليسلطوا الأضواء على الحاضر.

ولقد قمت بتدوير مرآة الزمان متوقعاً أن صورة المستقبل تستطيع إمدادنا بنظرات قيمة عن حاضرنا. وسنجد في أيامنا القادمة أن الصعوبة في فهم مشاكلنا الخاصة والعامة تزداد أمامنا إذا لم نستفد في معالجتها من رؤية المستقبل)). وقد دعانى التأمل في هذا الحديث إلى أن أكتب في كتابى ((ماذا بعد حرب رمضان)) : إذا كان الفيلسوف الألمانى فون بابن قال بحق: ((إن الذي يعرف من أين يعرف إلى أين))، فإن الذي يتشوف غده يدرك إدراكاً جيداً أين يقف اليوم)). وهذا الإدراك يجعل الإنسان أشد ثقة بقدرته على معالجة مشاكله:

((فكلما زادت القدرة على حساب المستقبل ورؤيته على أسس صحيحة في صدر الوقائع وفي استدلال النتائج)) – كما قال زكى نجيب محمود في كتابه ((مجتمع جديد أوالكارثة)) – ((نقصت الأوهام والمخاوف)).وقد أوضح هذا المفكر أن الإسلام الذي يدعوالناس ألايركنوا في حياتهم إلى تشاؤم أوتفاؤل يدعوهم إلى حساب المستقبل حساباً علمياً ليعرفوه قبل وقوعه. فنحن هنا أمام دعوة لإعمال الفكر فيما ينبغى علمه لصلاح أمورنا.

ويؤكد زميلنا المهدى المنجرة على هذه الدعوة وهويتحدث عن أهمية الدراسات الاستقبالية، ويستحضر قول الله تعالى:

{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ليقول: ((إن الإسلام كدين ودنيا هوقبل كل شئ نظرة نحوالأفق بالنسبة لمسائل هذه الدنيا وما بعدها. ذلك أن على هذه النظرة تتوقف الأعمال التي نحن مسئلون عنها أمام أنفسنا وأمام المجتمع وأمام الله))، ثم ليشتد على تجنب الرؤية القدرية التي لا يتحكم فيها الإنسان ولا المجتمع في مصيره.

أجد نفسي اليوم أيضاً راسخ في تاريخ الاقتناع بأن الدراسات المستقبلية هي امتداد للدراسات التاريخية وهي من ثم تتطلب ما يتطلبه علم التاريخ من ((نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق)). وهذا تعريف شيخنا ابن خلدون لعلم التاريخ في باطنه. ثم هي تتطلب فضلاً عن ذلك تشوفاً. وقد تحدث ابن خلدون في مقدمته عن ((تشوف الأمور المستقبلية)) بعد أن وصف الإنسان بأنه ((صاحب الفكر والرؤية)). والحق أن الدراسات المستقبلية لا يمكن أن تتم إلا بالدراسة التاريخية فركن التاريخ هوأحد أركان ثلاثة فيها، فيتكامل مع ركن الحاضر المقيم وركن التشوف المستقبلي. وقد ألحت على وأنا أكتب ((ماذا بعد..)) فكرة أننا حين ندرس التاريخ نأخذ في اعتبارانا قدرة الإنسان على التذكر، وحين ندرس المستقبل نأخذ في الاعتبار قدرته على الحلم ؛ وبهاتين الخاصتين التذكرة والحلم ميز الله الإنسان عن غيره من مخلوقاته وكرم بنى آدم. وكم أسعدنى مؤخراً أن أطالع في نهاية الأرب للنويرى وفي الكشكول للعاملى حديثاً عن العوالم الثلاثة لدى الأنسان: عالم التذكر وعالم الفكر وعالم التخيل، وهذه العوالم الثلاثة ضرورية لدراسة المستقبل، وكل منها شرط لازم. وواضح أن ((تشوف الأمور المستقبلية))  الذي تتجاوز به دراسة المستقبل الداسة التاريخية يتطلب ولوج التخيل الثالث يتطلب ولوج عالم التخيل الثالث والتعامل مع عنصر الحلم وما يتضمنه من أحلام وآمال وتطلعات ورجاء. وقد توقفت طويلاً أمام هذا العنصر مرة أخرى إبان الأزمة التي عشناها في وطننا وعالمنا منذ الصيف الماضي وتأملت في سورة الشرح: اليسرين والعسر وانشراح الصدر والنصب والرغب إلى الله، وفي عدد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الأمل. وألح على قول الطغرانى في لامية العجم ((ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)).

وتعريف أريك فروم للإنسان بأنه هوالذي يؤمل ويأمل في كتابه ((ثورة الأمل.. نحوأنسنة التقنية))  الذي درس فيه المجتمع التقنى وإمكانات جعله إنسانياً.

تاريخ الدراسات المستقبلية الحديثة:

يبرز عند هذا الحد من الحديث سؤال عن تاريخ هذه الدراسات المستقبلية بمفهومها الذي حددناه لها: متى بدأت ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟.

يطيب لأكثر المشتغلين بالدراسة المستقبلية وفق هذا المفهوم أن يتحدثوا عن حداثة هذه الدراسات، فهي عند بعضهم لم تظهر إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية أي: أنها ابنة عالمنا المعاصر. وقد يعود بها بعض آخر إلى بداية القرن العشرين الميلادى فهي ابنته، ويرى هؤلاء في كتابات الروائى الفرنسى جول فيرن التخيلية أواخر القرن الماضي إشارات للحلم بهذه الدراسات.

ومن أصحاب الرأي الأول زميلنا المهدى المنجرة الذي يقول: ((إن الدراسات الاستقبالية تعد ظاهرة حديثة النشأة تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وأول من باشرها مؤسسة راند بناء على طلب البنتاجون في عام  1946، ولم تشهد انطلاقتها الحقيقية إلا مع نهاية الستينات)).

وقد تتبع زكى نجيب محمود في مقاله ((المستقبل المحسوب)) بدايات الاهتمام بهذه الدراسات منذ مطلع القرن العشرين.

وتحدث قسطنطين زريق في كتابه ((نحن والمستقبل))  عن هذا النمط العلمى الريادى المعاصر في الاهتمام المستقبلي الذي يتميز بصفته العلمية وبتمسكه بالمنطق الاختيارى وبأنه جهد جماعى فرآه ينتسب إلى عالمن المعاصر.

واضح أن ظهور الدراسة المستقبلية بمعناها الحديث وثيق الصلة بثورة العلم التقنى التي تفجرت في عالمنا المعاصر هذا، وأثمرت ثورة في الاتصال وثورة في المعلومات، وأحدثت تحولات وتحولات.

وقد أورد هوج ستيوراتفي كتابه ((تذكر المستقبل))  تسعة تحولات تحدث عنه جون نيسبت عام 1982 وسماها توجهات عظمى

((تحول من مجتمع صناعى إلى مجتمع معلوماتى، انتقال من انقياد للتتقنية إلى أستجابة إنسانية لها، انتقال من ضيق الاقتصاد القومى إلى شمول الاقتصاد العالمى، تحول من المركزية إلى اللامركزية، تزايد الاتماد على الذات في مقابل الاعتماد على المؤسسات، التحول من ديموقراطية الإابة إلى ديموقراطية المشاركة، تحول من نظام هرمى إلى نظام شبكى، انتقال من مناطق صناعية إلى مجتمعات جديدة، تحول من مجتمع خيارات محدودة إلى خيارات عديدة)).

ولما كانت ثورة العلم التقنى قد تفجرت في الغرب فإن ظهور الدراسة المستقبلية بمعناها الحديث بدأ هناك. وقد أولتها عناية خاصة المؤسسات لعسكرية والشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات. وهكذا بدت الصلة وثيقة بين الدراسات المستقبلية والدراسات الاستراتجية.

كان طبيعياً أن يجرى بحث عن اسم يطلق على هذه الدراسة المستقبلية التي ظهرت بمعناها الحديث، وأن يجتهد المشتغلون بها فيطلقون عليها هذا الاسم أوذاك ؛ وهكذا ظهر اسم ((المستقبلية)) ولم يلبث جاستون بيرجر الفرنسى أن سماها عام 1960 ((علم الريادة)).ثم استخدم أوسيب فليشتم الألمانى عام 1966 اسم ((علم المستقبل))  في كتابه ((علم التاريخ وعلم المستقبل)). وهناك من سماها

((علم حساب المستقبل)).

هل((دراسة المستقبل))  ((علم))  ؟؟

يلفت النظر في هذه التسميات حرصها على استخدام مصطلح ((علم)) بمفهومه الغربى الحديث الأمر الذي ينم عن رغبة مطلقيها في تأكيد ((عملية)) هذه الدراسة المستقبلية وتمييزها عن أنماط أخرى من الاهتمام المستقبلي عرفتها الإنسانية في تاريخها المتصل عبرت عن نفسها في صور من التنبؤ. وقد أثار هذا الحرص على استخدام مصطلح علم التسأول: هل هذه الدراسة المستقبلية هي حقاً وفق المفهوم الحديث لهذا المصطلح، الذي يركز على التجربة والاختيار ؟ هل هي علم كعلم التاريخ وفق المفهوم الذي طرحه ابن خلدون ؟

يجمع المشتغلون بالدراسة المستقبلية على أنها اجتهاد علمى منظم يرمى إلى صوغ مجموعة من ((التنبؤات المشروطة)) تشمل المعالم الرئيسية لأوضاع مجتمع أومجتمعات عبر فترة عقدين أوأكثر، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الحاضر والماضي لاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية على المجتمع أوالمجتمعات. وقد سماها البعض نمطاً علمياً في التنبؤ يعتمد ((الحساب)) أوأكد الجميع على أنها تخضع لشروط تنأي بها عن أن تكون عملاً خيالياً طوباوياً.

ولكن المتأمل في هذا التحديد للدراسة المستقبلية يلاحظ وجود حذر من اعتبارها علماً تجربياً اختبارياً مع حرصها على اعتماد المنطق الاختبارى ؛ لأنها تتطلب في نهاية المطاف ((رؤية)) تتبلور، يكون للفطنة والحدس دور في بلورتها وتقوم على اعتماد ((النظرة الشاملة)) وقد أثر ألفين توفلر أن يصفها مؤخراً بعد سنوات طويلة من الاشتغال فيها بأنها ((فن وليست شكلاً هندسياً))، وقال بعد أن شرح طريقته فيها وهويجيب عن أسئلة كثيرة في كتابه ((خرائط المستقبل)): ((وليأت العلم لمساعدة الفن)).

لم يتحدث ابن خلدون عن علم المستقبل وإنما أشار إلى تشوف الأمور المستقبلة. وقد بحث في مقدمته في علوم تعاملت مع المستقبل بأنماط مختلفة ضمن الباب السادس الذي جعله في ستين فصلاً ((في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه))، فنظر في علم التصوف ومراتب التجليات وعلم تعبير الرؤيا وعلم السحر والطلمسات وعلم أسرار الحروف ((السيميا)) الزايرجة، وفي إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها. كما ضمن الباب الأول الخاص بالعمران البشرى مقدمة سادسة في أصناف المدركين للغيب من البشر، فتحدث في تفسير حقيقة النبوة والوحي والكهانة والرؤيا والإخبار بالمغيبات وانتهي من ذلك كله إلى قوله:

((وأما الكائنات المستقبلية إذا لم تعلم أسباب وقوعها ولا يثبت لها خير صادق فهوغيب لا يمكن معرفته.. ولا سبيل إلى معرفة ذلك من هذه الأعمال بل البشر محجوبون عنه {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

وواضح أن ابن خلدون حين أطلق مصطلح علم السحر والزايرجة وأمثالها كان ينطق من تعريف العلم بأن ((كل ما علم فهوعلم))  كما أورد ابن حزم في رسالته ((مراتب العلوم)). ولكنه اعتمد في الوقت نفسه تعريف ((حد العلم))  عند علمائنا بأنه ((الاستيقان والتبيين))، كما أورده النمرى القرطبى في كتابه ((بيان جامع أحكام العلم)) لمييز بين ما هوواقع يمكن معرفته وما هوغيب لا يمكن معرفته.

أذكر أننى حين بدأت الاشتغال بالدراسة المستقبلية، تجنبت استخدام مصطلح علم المستقبل، واستخدمت الدراسة المستقبلية. ولم ألبثت أن استخدمت مصطلحات أربعة في إطارها هي الاستشراف والتشوف والرؤية وصولاً إلى الصنع، وشرحت مدلول كل منها.

وقد جرى مؤخراً استخدام المصطلح الأول ((الاستشراق)) للدلالة على الدراسة المستقبلية في بعض الأوساط العربية المشتغلة بها، فرأيناه في كتاب صور المستقبل العربي لإسماعيل صبرى عبد الله وآخرين وفي مشروع استشراق مستقبل الوطن العربي الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية. وأجد نفسي اليوم مطمئناً إلى مصطلح الدراسة المستقبلية وإلى مصطلحات الاستشراق والتشوف والرؤية والصنع وأتجنب في الوقت نفسه مصطلح علم المستقبل آخذاً بعين الاعتبار حد العلم عند علمائنا الذي هو((الاستيقان والتبين))، وقد حسم زميلنا المهدى المنجرة في إجابته عن التساؤل بقوله:

((ليست الدراسات الاستقبالية بعلم، وإن استعانت منهجياتها ببعض العلوم الدقيقة والاجتماعية))  وذلك في بحثه الذي قدمه عنها لندوة قضايا المستقبل الإسلامي (الجزائر 4-7/5/1990). ويمكن القول بعد هذا الحديث: إن الدراسة المستقبلية وإن لم تكن علماً بمفهوم العلم التجريبي فإنها تحاول اعتماد مناهج علمية تنأي بها عن التنبؤ رجماً بالغيب بأنماطه المختلفة، وبقدر ما تتوافر العلمية في هذه المناهج بقدر ما يتحقق مفهوم ((الدراسة)) الوارد في هذا المصطلح ؛ الأمر الذي يصل بنا إلى الحديث عن المنهج أوالمناهج.

مناهج دراسة المستقبل:

يتحدث المشتغلون بالدراسة المستقبلية عن عدة مناهج جرى اتباعها في الدراسات المستقبلية التي ظهرت في عالمنا.

وقد حرصت دراسة استشراف مستقبل الوطن العربي في القسم الأول منها على تصنيف هذه المناهج، فهناك منهج إصدار نبوءات يقوم على انتقاء بعض المتغيرات التي يعتقد بوجود أهمية خاصة لها، وتتبع مساراتها، كالمتغير السكانى مثلاً أومتغير الموارد بفعل استنزافها وقد تركزت عملية نقده على أنه يعتبر المستقبل قدراً محتوماً تحدد سلفاً.

وهناك منهج إجراء تنبؤات هي أساس بناء قاعدة صلبة من المقدمات تبنى عليها نتائج يجرى استخلاصاً منها ؛ ويعاب عليه أنه يغرق في أرقام قد تكون غير دقيقة، وأنه ينتقد النظرة المجتمعية التي تلاحظ ما يقوم في المجتمع وشائج. وهناك منهج التخطيط للمستقبل الذي يضع نصب عينه هدفاً محدداً مرغوباً فيه يحدد اتجاه الدراسة ؛ ويرى ناقدوه أنه يجعل الدراسة تخطيطية أكثر من كونها مستقبلية. وهناك منهج الاستعانة بالدراسات ((المستقبليات)) التي تركز على ما تشهده التقنية من تقدم،  ولا تلتزم بمنهج محدد فتأتى مفتقدة الشمولية المطلوبة.

وهناك أخيراً منهج التحليل المستقبلي الاستشرافي، وهومنهج مركب ((لا يسعى إلى التنبؤ المشروطة أوالمشاهد التي تفترض الواقع تارة والمأمول فيه تارة أخرى.. دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور فهذا أمر يدخل في حيز التخطيط. والقصد هواطلاع القوى الفاعلة في المجتمع على متطلبات تحقيق إحدى الصور المأمول فيها)).وقد اختار المركز هذا المنهج الاستشرافي لدراسته التي صدرت بعنوان ((مستقبل الأمة العربية التحديات.. والخيارات)). وجاءت هذه الدراسة معتمدة أربعة محاور وطرحت نتائجها في ثلاثة مشاهد مستقبلية بديلة تغطى فترة ربع قرن هي المدى الزمنى للدراسة بين عامى 1990، 2015

وتحدثت مقدمتها عن خمس خصائص لهذا المنهج الاستشراقي هي الشمولية، وتجنب التحيز، والجمع بين الأسلوبين الكمى وغير الكمى، والترابط بين الإنسان، واستخدام أسلوب المحاكاة.

يؤكد المشتغلون بالدراسة المستقبلية على ضرورة أن يكون المدى الزمنى للدراسة محدداً في نطاق المستقبل القريب. فإذا تجاوز هذه الحدود يخشى أن يفقد القدرة على الاستدلال كما يقول زكى نجيب محمود. وهكذا ((لا يجدينا كثيراً عندما نعمد إلى تكوين صور المستقبل أن نتوغل في مجاهل المستقبل القريب المحدد ببضعة عقود من السنين))  كما يقول قسطنطين زريق في كتابه ((مطالب المستقبل العربي))

وقد حدد مؤلفو((صور المستقبل العربي))  المدى الزمنى لدراستهم المستقبلية بعقدين من السنن. وهذا شأن كثير من الدراسات المستقبلية التي ظهرت في أنحاء مختلفة من عالمنا منذ السبعينات وتراوح مداها الزمنى بين عقدين وثلاثة وهناك دراسات مستقبلية اعتمدت العقد الواحد من السنين مدى زمنياً لها ملبية نزوعاً إنسانياً لاستشراق المستقبل في مطلع كل عقد جديد من السنين ندخله حسب التقويم. وأجد نفسي قد لبيت هذا النزوع في كتابى ((رؤى مستقبلية عربية))  بينما امتد استشراقى في كتاب ((ماذا بعد))  لثلاثة عقود.

لقد تحدث مؤلفو((صور المستقبل العربى)) عن أربعة أساليب تتعلق بالمنهج الذي ساروا عليه:أسلوب حدسى مبنى على الخبرة، وآخر استكشافي يستطلع علاقات قامت في الماضي، وثالث استهدافي يستوجب معياراً وتدخلاً لتغيير المسار، ورابع نماذجى يهتم بمجمل التغيرات والتفاعلات. واستبعد هؤلاء من منهجهم التخطيط طويل المدى والتنبؤات. والحق أن مباشرة الدراسات المستقبلية  تتطلب خبرة متراكمة تثمر حدساً يمكن القائمين بها من أحسان مقاربتها، كما تتطلب قدرة على استخلاص عصارة الماضي في صعده المختلفة وتحديد مجرى الحركة التاريخية، وهي تتطلب وعياً بأحلام الاجتماع الإنسانى، كما تتطلب فكراً يعتمد النظرة الشاملة ويتقن التركيب. والسؤال الذي يبرز عند هذا الحد هو: ((من أين يكون البدء في الدراسة المستقبلية ؟)).

يحدد قسطنطين زريق طريقتين لتكوين صورة المستقبل الأولى ((هي البدء من الحاضر ومحاولة استكشاف اتجاهاته.

وإسقاط هذه الاتجاهات على المستقبل لاستخلاص صورته))، والأخرى ((هي البدء بتحديد الأهداف والتطلعات ثم صياغتها إطاراً ضابطاً للتوجيهات المستقبلية فكراً وعملاً))، وهويفضل الأولى التي يقول عنها إنها ((هي الطريقة التي يتبعها اليوم غالب المهتمين ببحث المستقبل أوبعلم المستقبل. وهي ترمى إلى استجلاء ما يبدوأنه سيكون على درجات مختلفة من الإمكان أوالترجيح ولا نقول التثبت ؛ لأن المستقبل هوبطبيعته ميدان الاحتمال)). أما الأخرى  ((فهي عرضة للتيهان الوهمى أوالتفكير الرغبى أوالنزوع الوعظى ما لم تبق شديدة الأواصر بالحاضر متفاعلة وإياه تفاعلاً مستمراً))، وهذا ما يجعل الاستطلاعيين العلميين يعزفون عنها عادة.

وقد رأي زريق في النمط العلمى الريادى المعاصر من الاهتمام المستقبلي نزعة استطلاع فيها من ذلك النمط البدائى من الاهتمام المستقبلي ونزعة إيمان فيها من النمط العقيدى من الاهتمام المستقبلي، ونزعة تخيل

فيها من النمط التنبؤى التخيلى الطوباوى

المثالى من الاهتمام المستقبلي، ولكنه يتميز كما سبق أن ذكرنا بصفته العلمية وبتمسكه بالمنطق الاختبارى وبحاجته إلى عمل الفريق الذي يوفر مجمع فكر تعدد فيه اختصاصات العاملين ويكون ملتصقاً بالواقع. ويأتى هذا النمط في صورة احتمالات، وعنصر التخيل أصيل فيه

هذه البداية من الحاضر هي البداية التي نختارها للشروع في الدراسة المستقبلية، ونصب أعيننا تحليل الواقع القائم الصلبة، وهي تنأي بنفسها عن مجرد التنبؤ رجماً بالغيب. وقد أوضح توفلر هذا الأمر قائلاً في كتابه ((خرائط المستقبل)): المستقبليون الجادون بصورة

عامة لا يدعون أبداً بأنهم يقومون بمهنة التنبؤ. وهم يخصصون وقتهم لتشريح الحاضر والإيحاء بتوجيهات لمتخذى القررات وتوضيح المخاطر ونتائج القرارت التي بدون ذلك تمر ولا يلحظها أحد.

وهم مثل كل إنسان عاقل مدرك يعرفون ما الذي لا يعرفونه وما لا تمكن معرفته..

ومن النادر أن يتنبأوا. فنحن ((حقيقة بعيدون جداً عن وسيط الوحي في دلفي))  مشيراً من واقع ثقافته الغربية إلى معبد دلفي الشهير – في التاريخ الإغريقى – بعرافيه.

لعل من أهم ما ينبغى الحرص عليه عند البداية في الدراسة المستقبلية هوالنظرة الشاملة للواقع القائم ؛ فالشمولية هي أولى خصائص الاستشراف، وهي تقتضى منظوراً كونياً. وقد أوضح توفلر أنه كتب كتابه (صدمة المستقبل )، و((الموجة الثالثة)) ضمن منظور كونى يتجاوز الوطنية والمحلية والإقليمية، ((وكانت أبحاث التوثيق والأمثلة المنتقاة تسير كلها في هذا الاتجاه)). وهذا المنظور الكونى قديم في حضارتنا العربية الإسلامية وقد اعتمده علم التاريخ والؤرخون فيها سواء حين كتبوا التاريخ العام أوحين بدأوا به لينتهوا إلى تاريخ زمن محدد. وأذكر أننى حرصت على هذا المنظور في كتابى ((ماذا بعد ؟)) فبدأت حديث المستقبل برؤية للعالم المحيط.

آن لنا وقد استعراضنا بإيجاز مناهج اتبعت في الدراسة المستقبلية أن نتعرف على منهج ألفين توفلر كما شرحه بنفسه، فهويقول عن منهجه: ((إعطاء قيمة كبيرة للتحليل المنهجى والكمى للتغيير الاجتماعى الاقتصادى والاستعانة بالحد الأقصى من الأدوات الكمية والنماذج المنهجية والناظمات الآلية مع اتخاذ موقف ريبى حيال نتائجها ؛ فهي تحمل لمحات بنائية وتوضح روابط واتجاهات، ولكنها لا تحمل الحقيقة بسبب انتفاخها بالأرقام.. ولا بد من الملاحظة المباشرة دون وسيط.

فالمستقبلية فن وليست شكلاً هندسياً..

وليأت العلم لمساعدة الفن ثم استخدام الفطنة والحدس في بناء نماذج (بعد خمس سنوات من القراءة النهمة) عمل فكرى داخلى معقد جداً حتى يصل إلى مرحلة الإنشاء المكتوب)). وهويأخذ في الاعتبار ترابط الأحداث الاجتماعية مع بعضها، وأن التاريخ لا تحكمه قوة واحدة بل تلاقى قوى واتجاهات منها تشتق التغيرات الكبرى، وأن الحوادث تقع وتشهد عند وقوعها تموجاً داخلياً يتزامن مع تموج خارجى وأن كل ظاهرة وكل نظام يملك الأنظمة الفرعية الخاصة به، وأن كل ظاهرة تنتمى إلى بيئة خرجية هي موضوع لتموجات داخلية بدورها  وأن انفجار بنية جديدة بفعل تموج أواكثر يقود إلى تشكيل بنية أكثر تعقيداً. وهذا ما يسميه بربفوجين ((البنية المبذرة)). وإن لنا أن نقف في هذا الحديث أمام التحليل، والأدوات، والموقف الريبى، والملاحظة المباشرة دون وسيط، واستخدام الفطنة والحدس، ومجموعة الحقائق التي يجب أخذها في الاعتبار، لندرك كم تبدوالدراسة المستقبلية عملية تحليلية تركيبية.

لقد أوضح توفلر في نموذج ما أسماه ((الموجة الثالثة)) أن في كل حضارة ستة أفلاك تقنية واجتماعية ومعلوماتية وبيولوجية وسلطوية ونفسية تمثل عناصرها البنيوية وطرح نظرية الموجة بدل نظرية المراحل في رؤية التاريخ.. أي: فهم مجتمعات بأكملها ضمن حركيتها ؛ لأن الصراعات ذات الطابع العرقى والطابع الطبقى لا تكفي لتحليل مجتمع ما. كما أوضح أن لكل حضارة عقيدة عليا فوقية، وأن هناك مبادئ ينبغى أخذها في الاعتبار، فالصراع يحكم الكون وعنصر الصدفة موجود وللفرد دوره في التاريخ.

مقاربة المستقبل برؤية مؤمنة:

إن الحديث في الدراسة المستقبلية عن مبادئ ينبغى أخذها في الاعتبار فيها –:

يدعونا إلى أن نطرح نحن المسلمين المؤمنين بمبادئ الإسلام تصورنا لهذه الدراسة المستقبلية، ومقاربتنا برؤية مؤمنة، وفي اعتبارنا أن البحث العلمى لا بد من أن ينطلق من رؤية تحكمه فهناك كما يقول محمود شاكر في كتابه ((رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)):

((ما هوقبل المنهج سابق عليه)). وإذا كان النمط العلمى الريادى كما أسماه قسطنطين زريق في الاهتمام المستقبلي فيه نزعة إيمان لا يمكن أن يقوم بدونها، فهذه النزعة توفر نظرة شاملة إلى الكون والحياة تنسحب على الماضي والحاضر والمستقبل، وتختلف هذه النظرة من دين لآخر وبين فلسفة وأخرى في رؤيتها لجوهر الكيان الكونى والإنسانى وما يتصل به من مادة وفكر وروح، وفي تصورها لشكل التغير التاريخى وهل هوفي خط مستمر أوخط دائرى، وفي موقفها من الجبر والاختيار. ومتوقع أن يكون لهذه النظرة أثرها النظرى على مقاربة الدراسة المستقبلية وفعلها العملى في صنع المستقبل بعد استشرافه وتشوفه ورؤيته. والفارق بين بين الموقف الذي يقفه مثلاً هوج ستيورات في كتابه تذكر المستقبل حين يستهل حديثه قائلاً: ((إن الإنسان هولعبة القدر ومحركه في الوقت ذاته، وكذلك خلفية ألفين توفلر حين يشير إلى وسيط الوحي في معبد دلفي، وبين موقف المسلم الذي يقول في صلاة الاستخارة داعياً:

((اللهم أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم أن تبين لى عاقبة أمرى))، وخليفته التي تؤمن بأن الله وحده هوعالم الغيب.

تتميز مقاربة الدراسة المستقبلية برؤية مؤمنة مسلمة ببعدها الروحى وأساسها الإسلامي العقيدى ؛ فهذا الأساس يحث بداية على الاهتمام بدراسة المستقبل، والالتفات إلى الزمن. وأذكر أننى حين توجهت لهذه الدراسة وقفت طويلاً متأملاً في سورة العصر التي تبدأ بالقسم الإلهي به لفتاً لأهمية ثم تتحدث عن الإيمان والعمل الصالح والتواصى بالحق والتواصى بالصبر.

وقد لفت نظرى أن التربية القرآنية لا بد أن تثمر اهتماماً بالدراسة التاريخية والدراسة المستقبلية ؛ فالقرآن الكريم يقص علينا من قصص الأولين ويدعوأولى الألباب للوقوف أمام عبرتها، وقد جاء ختم سورة يوسف بلآية الكريمة: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. ونزول الوحي بسورة الروم في العهد المكى بمناسبة حرب نشبت بين الروم والفرس فيه تربية للجماعة المؤمنة على العناية بمجريات الأحداث في دائرتها الواسعة ضمن العالم المحيط بها، وعلى استشراف المستقبل وتشوفه: {ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهوالعزيز الحكيم}، وإن لنا أن نتأمل في القلبية والبعيدية، وقد قال الله سبحانه في سورة فصلت:

{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد}، وهووعد برؤية مستقبلية، وتتردد في القرآن الكريم كلمات ((الدهر)) و((الغد)) و((الحين)) و((الوقت)) و((قبل)) و((بعد)) وجميعا تدعوإلى الالتفات للزمن والاهتمام المستقبلي ؛ كما تتردد كلمات ((البصر)) و((البصيرة)) و((رأى)) و((الرؤيا)) و((الحلم)) وهي تدعوإلى النظر في ما هوقادم مقبل.

وكثيرة هي الأحاديث الشريفة التي توحى بأهمية النظرة المستقبلية والرؤية المستقبلية، ويكفي أن نستحضر كمثل عليها حديثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه – بعد أن تعرضوا لأذى الكفار وسألوه ألا يدعولهم وينتصر – الذي ضمنه عبرة تاريخ الأولين من المؤمنين وختمه بقوله: ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الراعية من صنعاء إلى حضر موت لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، ولكنكم

 تستعجلون))   وحديثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم الخندق وهويضرب بالفأس الصخرة أثناء الحفر فيرى من خلال الشرارة ملك فارس وملك الروم وربوع اليمن.

الأساس العقيدى:

إن هذا الأساس العقيدى للرؤية المؤمنة يلفت النظر إلى السنن التي تحكم الكون والحياة والإنسان ومجرى الحركة التاريخية.

وقد تحدث القرآن الكريم عن سنة الأولين، وسنة من قد أرسلنا، وسنة الله، وسنن من قبلنا ؛ الأمر الذي يؤدى إلى توفير وعى عميق بها وإدراك نافذ لها من خلال التفكير فيها. ويرفض هذا الأساس العقيدى في الوقت نفسه التنبؤ رجماً بالغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه، وقد روى عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قوله:

((ليست بنبئ الله ولكن نبى الله))  وفرق بين النبوة التي هي من الرفعة والارتفاع وسفارة بين الله وذوي العقول من عباده، والنبئ من التنبؤ والاستنباء. وإن المتأمل في قضية سيدنا يوسف عليه السلام مع ملك مصر بعد أن أول رؤياه يجد فيها دراسة مستقبلية

{وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم}.

والحفظ مطلوب فيها وكذلك العلم. وقد استطاع يوسف أن يوظف الرؤية المستقبلية في معالجة أوضاع البلاد التي تعرضت للرخاء والقحط

لقد استقر بفعل هذا الأساس العقيدى في تراثنا الحضارى العربي الإسلامي تقدير خاص لأصحاب البصر والبصيرة ذوي النظر النافذ، عبر عنه المقري التلمساني في مطلع قصيدته التي افتتح فيها كتابه ((نفح الطيب في غصن أندلس الرطيب)) أروع تعبير، وأحسن فيه استخدام قصة زرقاء اليمايمة رمزاً لأولئك الذين يتميزون بالرؤية المستقبلية. وزرقاء اليمامة هي امرأة من جديس عاشت في الجاهلية وذكر الجاحظ أنها كانت تبصر الشئ من مسيرة ثلاثة أيام وضرب بها المثل ((أبصر من زرقاء اليمامة))، وقد أورد ابن عبد ربه قصتها في العقد الفريد.

ويقول المقرى:

سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة

أعمى وأعشى ثم ذوبصر وزرقاء اليمامة

إن هذا الأساس العقيدى للدراسة المستقبلية برؤية مؤمنة إسلامية يجعل الدين في بؤرة الشعور، وهويقضى بأن تكون الوحدات الأساسية في التاريخ البشرى هي الأديان.وقد توصل أرنولد توينبى إلى هذه الحقيقة وإلى أن الحضارات ليست سوى وسائل لظهور هذه الأديان بعد أن أصدر المجلدات الأولى من كتابه ((دراسة في التاريخ)) معتبراً فيها أن الحضارة هي الوحدة الأساسية في التاريخ. وجاء ذلك التحول بعد الحرب العالمية الثانية، ودعاه – كما يقول زريق – إلى أن: ((يذهب من هذه الحقيقة إلى أن الحوار الأساسي الذي يجب أن يقوم في هذه المرحلة المصيرية من وجود الإنسانية ليس الحوار بين الدول، أوحتى بين الحضارات، بل بين الأديان الكبرى في عالم اليوم، وسيتوقف على هذا الحوار مصير الإنسانية وحدة وبقاء وازدهاراً وانقساماً وزوالاً وتبدداً)).

يحدد هذا الأساس العقيدى أيضاً مفاهيمنا للمصطلحات التي تدل على موضوعات تتناولها الدراسة المستقبلية: فمصطلح السياسة مثلاً له مفهومه المحدد المختلف عن مفهومه في الحضارة الغربية اليوم ؛ فالسياسة كما يقول التهانوي في كشاف مصطلح العلوم ((هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجى في الدنيا والآخرة، ورسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال وهي نوعان سياسة عادلة.. وأخرى ظالمة الشريعة تحرمها)). وعلم السياسة يكتسب مفهوماً متشرباً هذا الأساس العقيدى.

وقد بلور ابن خلدون مصطلح العمران وهو((مفهوم جذرى يرتكز على فكرة الخلق الدينية)) كما يقول عبد السلام شدادى: ((ويدل على وجود الإنسان والنظام البشرى بصفة عامة، فالناس أساساً متساوون وأحرار ولهم على الأرض سيادة بوصفهم مخلوقات الله، ولا يختلفون فيما بينهم إلا نتيجة لأحوال حياتهم التي تتوقف على ظروفهم الجغرافية والمناخية)). وقد ميز ابن خلدون في نطاق العمران البدوي والعمران الحضرى، كما بلور مصطلح الملك. وهكذا يعطى كل مصطلح مفهوماً متمثلاً هذا الأساس العقيدي.

لعل ما يوفره الأساس العقيدى للدراسة المستقبلية برؤية مؤمنة هوالتوجه الإيجابى فيها النابع من حسن الظن بالله سبحانه وتعالى والمعتمد على العمل الصالح. وقد سبق أن أشرنا إلى سورة الشرح والعسر الذي لا يغلب يسرين و((النصب))  و((الرغب)). ويرفض هذا التوجه الإيجابى في التعامل مع المستقبل التشاؤم اليائس،  و{إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، تماماً كما يرفض التفاؤل امتواكل والفرق شاسع بين التوكل بعد العمل والتواكل الذي يعطل عن العمل وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اعقلها وتوكل)). وما أروع الآيات القرآنية التي تغذى هذا التوجه الإيجابى وتراها في سورة آل عمران بمناسبة معركة أحد وفي سورة الأحزاب وفي يوم حنين، كما نراها في سورة الأحزاب وفي يوم حنين، كما نراها في سورة الصافات وغيرها من السور المكية وهي تتحدث عن النجاة من الكرب العظيم. والحق أن الحاجة إلى هذا التوجه الإيجابى تبلغ أشدها إبان الأزمات وهذا ما يدعوإلى الرؤية المستقبلية التي تحمل في طياتها الأمل وفقاً للقول المأثور ((اشتدى أزمة تنفرجى)).وقد شرح الأب إسطفان شربنتيه في كتابه دليل إلى قراءة الكتاب المقدس أهمية الرؤية وهويتحدث عن كتب الرؤى قائلاً: ((نواجه طوال حياتنا أحداثاً سارة وأخرى مؤلمة، ونحاول أن نتغلب على ما هومؤلم ونغيره ليصير ساراً، وأن نعطى هذه الأحداث معنى. وإذا شعرنا بأننا ضللنا السبيل فإننا تغير أنفسنا. هذا ما كان الأنبياء يفعلونه وهم يدعون الناس إلى التغير والاهتداء.

وقد يحث أحياناً أن يستعصى  الشر، ويبدوأن لم يعد هناك مخرج والطريق مسدود ؛ فلا يبقى إلا ترقب أيام أفضل، وإن كان هناك أحد في إمكانه ان يبشرنا بذلك وجدنا في الأمر نوراً ورجاء يساعدنا على الصمود)).

إن الأساس العقيدى الإسلامي يوجه الدارس المستقبلي إلى وسائله في دراسته من خلال ما جاء في القرأن الكريم عن ((الرؤية)). فإدراك المرئى، كما قال الراغب الأصبهانى في تفسير غريب القرآن يتم أولاً بالحاسة وما يجرى مجراها {لترون الجحيم}، وثانياً بالوهم والتخيل {لوترى إذا يتوفي الذين كفروا}، وثالثاً بالتفكير {غنى أرى ما لا ترون}، ورابعاً بالعقل {ما كذب الفؤاد وما رأى}. وفعل رأي إذا عدى مفعولين اقتضى معنى العلم {ويرى الذين أوتوا العلم}، {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً}فنحن هنا أمام إدراك بحاسة وتخيل وتفكير وعقل وجميعها تدخل في الدراسة المستقبلية.

بقى أن نقول بشأن الأساس العقيدى لمقاربة الدراسة المستقبلية برؤية مؤمنة مسلمة إنه لما كان القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين، فإن هذا الأساس يوجه الدارس المستقبلي أيضاً إلى الوقوف أمام دلالات اللفظ العربي واستجلاء معانيه الدقيقة والوقوف أمام الفرق القائم بين ما يبدووكأنه مترادفات. وهذا كله يوصل إلى الدقة العلمية المطلوبة في الدراسة المستقبلية ؛ فمتى نستخدم ((السنة))، ومتى نستخدم ((العام))، وكذلك الأمر بالنسبة للزمن والوقت والدوام والبقاء، وكيف نحيط بدلالة اللفظ إذا انتبهنا لما أسماه البعض جدلية الحرف العربي وقد الف فيها محمد عنبر كتاباً يحمل هذا الأسم نبه فيه على أن ((كل لفظ مكان في ذاته وزمان لما هوكائن فيه. فهوعلى هذا مكان من وجه وزمان من وجه آخر. ولكن الزمان هوالوجه الكائن دوماً وحين يظهر يصبح مكاناً)). ومعنى الزمن مثلاً يبدوأكثر وضوحاً إذا تعرفنا على معنى المزن. والحق أن هذا التمكن من اللسان العربي ضروري لإتقان الدراسة العقيدي.

إن الأساس العقيدى في الدراسة المستقبلية يوفر للدارس ما هوقبل المنهج سابق عليه، ويكون الانطلاق من هذا الأساس للسير وفق منهج مناسب يختاره خطوة خطوة. والمنهج الذي نختاره يتضمن مرحلتين، يتركز النظر في أولاهما على الحاضر والماضي، وفي الأخرى على المستقبل.

البداية في المرحلة الأولى مع الحاضر كما سبق أن ذكرنا، ويكون نصب عين الدارس فيها الإحاطة بهذا الواقع من جميع جوانبه بنظرة شاملة وتحليليه ؛ لتحديد العوامل الفاعلة فيه والعناصر المكونه له، والنظر فيما هوثابت منها وما هومتغير.

وطبيعى أن تكون الدراسات التي تتناول هذا الواقع مستقصية ما أمكن. وقد يتولى الفريق الدارس إعداد بعضها، وله أن يستعين بالحد الأقصى من الأدوات والناظمات كما سبق أن نقلنا عن توفلر.

وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة العناية ضمن هذه الخطوة بدراسة بعد المكان الذي يمثل عاملاً جغرافياً ثابتاً له تأثيره. ويمكن للفريق الدارس أن يصنف جوانب هذا الواقع في محاور. ويتداعى إلى خاطري هنا ما قام به عبد العزيز كامل من دراسة لبعدى الزمان والمكان في القرآن، وبحوث الجغرافيا السياسية التي تفرغ لها جمال حمدان، كما أذكر تجربتي في عملية التحليل هذه أثناء دراستي لدور مصر العربي في الثمانينات. كما ينبغى على الفريق الدراسى أن ينتهي من تصنيفه إلى ترتيب العوامل الفاعلة في تمكوين هذا الواقع والعناصر وفقاً لقوة فعلها.

الخطوة التالية في هذه المرحلة الأولى من الدراسة المستقبلية هي تتبع جذور هذا الواقع الحاضر في الماضي لمعرفة أصوله، والنظر في التفاعلات التي جرت بين عوامله الثابت منها والمتغير، وصولاً إلى التعرف بعمق على كل منها وتحديد مجرى الحركة التاريخية للأحداث التي شكلته، والوقوف أمام السنن التي تحكم هذه الحركة. وقد يطمح الدارس المستقبلي هنا إلى التعبير عن هذا كله بلغة رياضية، ويستعين بالرموز والرسومات التوضيحية، وأشير كمثل على ذلك إلى محاولتى في كتابى ((ماذا بعد حرب رمضان))  تحديد مجرى الصراع ومكان الحرب منه في ختام حديث الحاضر والماضي.

المنطلق التاريخى في دراسة المستقبل

نحن هنا في هذه الخطوة مع المنطلقات التاريخية لدراسة المستقبل. ودارس المستقبل يسأل نفسه ((ما هوجدوى فهم الماضي ؟))، وهويجيب ((من أجل صحة إدراك الحاضر وحسن الإعداد للمستقبل))  على حد تعبير زريق وتتطلب هذه الخطوة في الدراسة المستقبلية إعداداً للدارس المستقبلي يمكنه من حسن التعامل مع التاريخ ويزوده بنظرة في فلسفة التاريخ.  ولتاريخ الأفكار في هذه الخطوة أهمية خاصة ؛ فمهمته ((إدراك دور المذاهب والأفكار التي تدفع الناس في اتجاه معين))  كما تحدث عنه كرين برنتون وفرنكلين باومر.

ويتركز هذا التاريخ على أفكار الكافة أوعلى العالم الباطنى للفكر، فهوليس مقصوراً على أفكار القلة، وهويهتم بالأفكار التي تحظى بانتتشار واسع على صعيد حياة الناس من خلال الجماعات والحركات البشرية الكبيرة. ورغم أنه يدور بالضرورة داخل الفكر العقلاني إلا أنه يتناول أفكاراً ترتفع إلى درجة الإيمان والمعتقد. وهويعرفنا بالقيم التي جاءت من الماضي وبالتعليل التاريخى لكيفية تأثر الناس بهذه القيم، ويسجل دوراً كبيراً للمثقفين أهل العلم الذين يقومون بنشر هذه الأفكار ويوليهم عناية خاصة. وقد عنى أجدادانا بتاريخ الأفكار حين أرخوا للأوائل والمجددين متمثلين ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأولين.

إن الغفلة عن أهمية المنطلقات التاريخية في الدراسة المستقبلية تهدد بالوقوع في خطر السطحية والعجز عن سبر الأغوار والنفاذ إلى العمق ويقع في هذه الغفلة كثيرون من الذين عذبهم بريق الحديث عن المستقبل. وهؤلاء نراهم يقفزون إلى النظر المستقبلي ويعجبون من العناية بالمنطلقات التاريخية ظانين أن ذلك حديث مضى ومتضايقين أحياناً من إعطائها نصيباً وافياً من مجمل الدراسة المستقبلية، والحق أن الوفاء بحق الجزء أمر بالغ الضرورة وشرط للتوصل إلى الاستعداد المطلوب للولوج في عملية النظر المستقبلي. ويكفي لاستشعار حقيقة ذلك أن نذكر بأن هذه الخطوة وبخاصة ما يتعلق فيها بتاريخ الأفكار هي التي تمكن الدارس المستقبلي من التعرف على الأهداف التي بلورها المجتمع الذي يدرسه والتعرف على هذه الأهداف ضرورى في النظر المستقبلي عند أخذ عنص الحلم والأمل في الاعتبار ورؤية تفاعله مع العوامل التي نراها في الواقع. ومازلت أذكر كيف أطلق دارس مستقبلى حكماً على مجتمع بأنه لا يعرف ماذا يريد، لأن هذا الدارس لم يلتفت إلى المنطلقات التاريخية، كما أذكر كيف أوحت دراسة إمارة الجهاد وإبان حروب الفرنجة بطريقة التعامل المثلى لاستشراف مستقبل الصراع العربي الصهيونى في إحدى الدراسات المستقبلية.

سيجد الدارس المستقبلي في مدرسة التاريخ التي ظهرت في حضارتنا العربية الإسلامية ما يساعده كثيراً على التمكن من حستن التعامل مع المنطلقات التاريخية في الدراسة المستقبلية. فمعانى التاريخ فيها تجمع بين عملية التدوين التاريخى وعلم التاريخ وتاريخ الأعلام وسير الزمن والأحداث أي: التطور التاريخى ؛ وهي من ثم لا تعرف الفجوة التي نراها في الغرب بين فلاسفة التاريخ والمؤرخين الممارسين، وقد تحدث عنها دونالد إستروفسكى من هارفارد في مجلة ديوجين (العدد 87/ 14) قائلاً: ((كلا الفريقين يشجع في زهووافتخار الانعزال عن الآخر: فالفلاسفة يرون أن المؤرخين غير مؤهلين للتفلسف في دراسة التاريخ.

والممارسون يرون أن فلسفة التاريخ ضرب من الهراء)). وتحرص مدرسة التاريخ العربية الإسلامية على فهم التاريخ بالمعنى الشامل، فأفقها عالى، والإسلام أمة واحدة، كما أوضح شاكر مصطفي في كتابه ((التاريخ العربي والمؤرخون)) ؛ وهي من ثم تتميز بالشمول وتضع نصب عينها رسالة عالمية. وقد حفلت هذه المدرسة بالمجتهدين الذين يغنى الدارس المستقبلي التعرف على محاولاتهم. ومنها محاولة إيجاد علاقة بين التاريخ والنجوم والفلك التي قام بها مشتغلون في ميدان التاريخ، وتحدث عنها إخوان الصفا في رسائلهم. ومن المتوقع أن يتمثل الإغناء في هذه الحالة في التحصن إزاء محاولة نراها في الغرب اليوم تتحدث عن ((باراسيكولوجى)) كعلم يزعم الطموح إلى اكتشاف طاقات الإنسان المجهولة وخوارق الظواهر مثل تأثير الفكر على المادة والخروج من دائرة الزمان والمكان، وتضرب مثلاً بنوستراداموس، والحديث عن محاولات أخرى عدة نجده في ما كتبه ابن خلدون في مقدمته وسبق أن أشرنا إليه. ويكفي لنصور مدى غنى مدرسة التاريخ في حضارتنا أن نستذكر قول شاكر مصطفي: ((إن التاريخ في اعتقادي علم عربي إسلامي أويمكن اعتباره كذلك..)

فقد تميزت الحضارة العربية الإسلامية بالنزعة التاريخية الواضحة التي جلت في ظهور خمسة آلاف مؤرخ على الأقل، وما يزيد على عشرة إلى اثنى عشر ألف كتاب تاريخ في أقل تقدير لديها، وبعض هذه الكتب في خمسين وثمانين ومائة مجلد. وقد تحول التاريخ إلى علم منهجى على يد ابن خلدون)).

يتهيؤ دارس المستقبل بعد أن يقطع المرحلة الأولى إلى دخول المرحلة الأخرى، والانتقال من حديث الحاضر والماضي على حديث المستقبل، ويكون قد ((عرف الأمور على وجهها)) ؛ وهذه فائدة ((فن التاريخ)) عند السخاوى الذي قال في كتابه

((الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ)):

((وبعد فلما كان الاشتغال بفن التاريخ من أجل القربات، بل من العلوم الواجبات المتنوعة للأحكام الخمسة بين أولى الإصابات.. وأما فائدته بمعرفة الأمور على وجهها)). ويصبح هذا الدارس مستعداً لمباشرة عملية الاستشراق والتشوف والرؤية وفي اعتباره المعنى الذي أبرزه المقريزى في خطبة كتابه ((العقود الفريدة))  حين قال: ((إن الله أقام الخلائق جيلاً بعد جيل، واستعمرهم قبيلاً إثر قبيل، ليبقى الأول للثانى قصصه مواعظ وعبراً، ويجئ الآخر للمتقدم ذكراً وينثر خبراً، كى يرعوى الفطن عن فعل ما يذم ويستقبح، ويقتدى الأديب بما هوالأحسن من الأخلاق والأصلح)).

الاستشراق هوالخطوة الأولى في هذه المرحلة الأخرى، وقد عدت في كتابى ((وحة التنوع)) إلى المعاجم لتحديد دلالتها في لساننا العربى، وانتهيت إلى أن الاستشراق ((يتضمن التطلع والنظر وحديث النفس والتوقع. وهوأول ما نبدأ به، والتشوف هو((الاستجلاء من خلال التطلع والنظر الشامل وفيه معنى الارتقاع بغية الإحاطة بالنظر، وقد رأينا كيف تحدث ابن خلدون عن تشوف الأمور المستقبلية في مقدمته في معرض حديثه عن الرؤيا ؛ فالتشوف إذن قرين الاستشراق، وهوخطوة تالية له في الدراسة المستقبلية يصل الدارس من خلاله إلى الاستجلاء بعد ان يكون قد تطلع وأمعن النظر. والرؤية هي ذروة عملية الدراسة المستقبلية وهي ((النظر بالعين والقلب)) و((النظر بالعين والعقل)) وإدراك المرئي بطرق عدة هي كما سبق أن ذكرنا الحاسة والتخيل والتفكر والعلم.

عنصرا الحلم وإرادة الفعل

سيكون على الدارس في هذه المرحلة من دراسته أن يبدأ أولاً بإدخال عنصر الحلم والأمل فيما أدركه من خلال النظر في الحاضر والماضي، وهويستشرف ويتشوف متطلعاً ناظراً محدثاً نفسه متوقعاً مستجلياً. وعنصر الحلم والأمل هذا يتضمن الأهداف التي بلورها المجتمع وتم التعرف عليها من خلال المنطلقات التاريخية في الدراسة المستقبلية. وقد اجتهدت في لفظة الحلم للدلالة على هذا العنصر لأن اللفظ في اللسان العربي يجمع في دلالته بين الرؤيا في المنام وضبط النفس والطبع عن الهيجان والغضب ومسببات العقل كما في قوله تعالى: { أم تأمرهم أحلامهم بهذا} أي: عقولهم ((وليس هوالعقل ولكن مسببات العقل))  كما جاء في لسان العرب، واستخدمت هذه اللفظة منذ كتابتى ((ماذا بعد حرب رمضان))، واستشعرت مؤخراً جدوى قربها بلفظة الأمل للدلالة على التطلع لتحقيق الحلم.

وهكذا ينظر الدارس كيف تتفاعل العوامل التي حددها تحليل الواقع القائم وجرى التعرف على جذورها التاريخية ورسم خطوطها البيانية ضمن مجرى الحركة التاريخية، مع عنصر الحلم والأمل وما يتضمنه من أهداف، موظفاً طرق الرؤية الأربع الحاسة والتخيل والتفكر والعلم.

العنصر الآخر الذي سيكون على الدارس إدخاله في هذه المرحلة هوعنصر ((الفعل)) منطلقاً وإرادة وقدرة. والحق أن مما يتداعى إلى الخاطر عند ذكر كلمة المستقبل ((عزم الإنسان على الفعل لتحقيق ما يريد، تحثه أحلامه وآماله التي كونها، وهويعيش أيامه، من خلال تجاربه مستمداً العون من خالقه عالم الغيب الحليم الخبير الفعال لما يريد)). ولا بد للدارس من أن يقوم بقياس عنصر الفعل هذا مستفيداً من نظره في الحاضر والماضي. هذا النظر الذي يمكنه من تحديد الطور الذي يمر به الاجتماع الإنسانى موضع الدراسة، أهوطور انبعاث أم طور انحطاط أم طور سكون. ويمكنه أيضاً من رؤية حال الفكر والصلة وثيقة بين الفكر والفعل وقد تحدثت عنها في مقدمة كتابى الذي يحمل عنوان ((فكر وفعل)). وأذكر أنني عنيت بدراسة هذين العنصرين ((الحلم والأمل)) و((الفعل)) حين استشرقت مستقبل القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني في محاضرة ألقيتها في المجتمع الثقافي بالإمارات العربية مطلع عام  1986فبدأ لي أن أهلنا داخل وطننا المحتل على وشك الانتقاض، وقد طرحت رؤية مستقبلية لانتفاضتهم. كما أذكر أننى دعيت بعد عامين أثر قيام الانتفاضة للحديث عنها هناك ومراجعة تلك الرؤية المستقبلية وما تحقق منها وما لم يتحقق.

 

الرؤية والتوقع المشروط

في أي شكل يطرح الدارس المستقبلي الرؤية التي يتوصل إليها ؟

إن له أن يطرح هذه الرؤية في مجموعة توقعات مشروطة ضمن مشاهد تفترض الواقع مشروطة ضمن مشاهد تفترض الواقع تارة والمأمول تارة أخرى. وهذا ما فعلته دراسة استشراف المستقبل العربي وكان القصد منه ((إطلاع القوى الفاعلة في المجتمع على متطلبات تحقيق إحدى الصور المأمول فيها)). ولقد اخترت في كل ما قمت به من دراسات مستقبلية أن أنتهي إلى طرح توقع مشروط هوفي الوقت نفسه الذي أتبنى الدعوة إليه ؛ ذلك أن حديث المستقبل كما سبق أن ذكرنا ((يوظف المعرفة للفعل والتأثير، ويحاول تحديد ما ينبغى مع الأخذ في الاعتبار توقع ما سيكون. والغاية أن تتوافق من خلال الفكر والفعل صورة الأحلام والآمال مع صورة التوقعات.

فهذا الحديث يتصف دعوى في أحد وجوهه: يوحى بما ينبغى أن نفعله ونكدح من أجله ؛ ومن هنا تأتى دقته. وكم يخطئ أولئك الذين لا يدخلون فيه أحلام الناس وآمالهم وأهدافهم التي يسعون إلى تحقيقها، ويسقطون من حسابهم إرادة الفعل عند الإنسان والمجتمع الإنسانى، فيسقطون في مهاوى التشاؤم اليائس)). كما قلت في كتابى ((وحدة التنوع)). وهكذا جاء شكل الطرح ((نتوقع إذا عملنا هذا أن يحدث هذا وهذا،.. وإذا عملنا ذاك أن يحدث))  والحق أن حديث المستقبل كأي حديث يجب أن يكون حديث خير يوظف لما فيه خير الإنسان، حثاً أوتحذيراً، { فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أوليصمت}، {لا خير في كثير من نجواهم إلا من من أمر بصدقة أومعروف أوإصلاح بين الناس}.

إن الدراسة المستقبلية ستنتهي إلى رؤية تعبر عن ((البصيرة))، وهي ((قوة القلب المدركة)) في لساننا العربي. وهي كما سبق ذكرنا تحتاج إلى عمل الفريق لإنجاز جميع متطلباتها في مرحلتها. ولكنها في آخر الأمر تحتاج إلى أفراد من ذوي البصيرة يتميزون بالقدرة على النظر الشامل والتحليل والتركيب والتوقع والاستجلاء، ليقوم الواحد منهم بصياغة الرؤية المستقبلية من خلال بلورة كل ما توصلت إليه دراسات الفريق. وقد رمز المقرى لهؤلاء ب ((زرقاء اليمامة)) كما رأينا، وأسماهم الشاعر كونستانتين كفافي ((اليونانى)) السكندرى)) :

((حكماء الأمور الدانية))  حين قال: ((البشر يعرفون الحاضر / المستقبل يعلمه الله ذوالكمال المالك الوحيد لجميع الأنوار / من أمور المستقبل يدرك الحكماء تلك التي تدنو/ يهيج سمعهم أحياناً أثناء التأملات الملية / يأتيهم الصخب السرى للأحداث التي تدنو/ وينصتون إليه في ورع / بينما في الخارج، في الشارع / لا يسمع الناس شيئاً))  وصنف ابن خلدون في مقدمته النفوس البشرية بحسب تعاملها مع ما أسماه ((الإدراك الروحانى))  إلى ثلاثة أصناف الأول عاجز، والثاني متوجه بالحركة الفكرية نحوالعقل الروحاني، والثالث مفطور عليه.

نستطيع من خلال ما سبق أن نستخلص الضوابط التي يحددها لنا الأساس العقيدي الإسلامي في الدراسة المستقبلية:

فنحن نؤمن بالغيب، وأن الله سبحانه هو{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول..}، وأنه خلق الإنسان صاحب رؤية وفكر مدركاً ما حوله ومدركاً الزمن. ومتوقع من ثم أن لا نتحدث عن علم الغيب وإنما عن رؤية المستقبل، وأن لا نعمد إلى التنبؤ وإنما نعمد إلى النظر والرؤية وننتهي إلى التوقع والعزم على العمل الصالح. وهذا يدعونا إلى أن نستخدم مصطلحات تتفق مع إيماننا وتتميز بالتحديد الدقيق للمفهوم. وإن لنا أن ندعوبدعاء الاستخارة ((اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك)).

وأن نتوجه من عملية الدراسة المستقبلية إلى صنع المستقبل وكلنا ثقة  بقدرتنا بعون الله على تحقيق أهدافنا ؛ وقد قال أجدادنا ((إن لله عباداً إذا أراد))، وصدق الله العظيم القائل { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}، الذي وعد الذين آمنوا {ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوني لا يشركون بء شيئاً}.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر