تهدف هذه الورقة إلى بيان أن طرق معرفة المقاصد ليست محصورة في طرق بعينها، مع تطبيق هذا المبدأ على مقصد اعتبار العقل .
أ – وعدم انحصار طرق معرفة المقاصد هو الأصل الذي لا يحتاج إلى التدليل عليه ، ولابن القيم أقوال مشهورة في هذا المعنى:
(فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل )(1) .
(فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التى هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها، والطرق أسباب ووسائل لاتراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التى هي المقاصد، ولكن نبه سبحانه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة الحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها، هل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟)(1) .
ب – وبطبيعة الحال يأتى النص القطعي من الكتاب والسنة في مقدمة طرق الاستدلال، و في حالة غيابهما يأتى ما أسماه الشافعي والجويني الاستدلال، وما أسماه العز بن عبد السلام العقل والتجربة والفطرة، وما أسماه الشاطبي الاستقراء المعنوي ، وغير ذلك.
جـ – والسؤال الذي يرد هنا ليس هو ما إذا كان لكل من هذه الطرق – عدا النص القطعي في الكتاب والسنة(2) – الاستقلال في الدلالة على المقاصد، وإنما في: ما هي الشروط التى تشترط لهذا الاستقلال؛ ذلك أن قبول مبدأ تعدد الطرق الموصلة لمعرفة المقاصد وعدم انحصارها يعني بذاته إمكان استقلال أي منها بالدلالة، ويبقى إذن معرفة الشروط الواجب توافرها في كل منها حتى يمكن اعتمادها مستقلة طريقًا للاستدلال .
د – ومعرفة هذه الشروط يحتاج في ذاته إلى بحث خاص؛ ولذلك نشير هنا إلى بعض منها فقط على سبيل المثال:
1- عدم وجود نص قطعي دال على المقصد موضوع البحث .
2- عدم تعارض المقصد موضوع البحث مع نص قطعي، أو مع مقصد مستمد من نص قطعي .
3- في حالة التعارض ينبغي اتباع قواعد تفسير النصوص وقواعد الترجيح.
4- أن يتصف المقصد المستدل عليه بأوصاف، مثل الثبوت والظهور والانضباط والاطراد(3) .
هـ – وبطبيعة الحال فإن تعدد طرق الاستدلال على المقصد بحيث يعضد بعضها بعضًا تزيد الاستدلال قوة، وإن كان انفراد طريق واحد بالدلالة لا ينقص من اعتبار المقصد وقيمته .
و – وحتى يتضح المقصود نأخذ مقصد اعتبار العقل نموذجًا تطبيقيًّا ، ونتناول بحثه على مستوى المقصد وعلى مستوى وسائل تحقيق المقصد .
(2)
أ – ينبغي أولاً أن نحدد المقصود بكل من (العقل) و (الحفظ) :
1- العقل فعل وليس عضوًا من أعضاء الجسم، وإنما الأعضاء هي المخ، والحواس التى تمده بالمعلومات (وسائل الإدراك) من سمع وبصر وذوق وشم ولمس، والجهاز العصبي الذي يقوم بوظيفة الاتصال بين هذه الوسائل والمخ.
2- ولم يرد لفظ (العقل) في القرآن الكريم بصيغة الاسم على الإطلاق، إنما جاءت مشتقات العقل في 49 آية بصيغة الفعل: عقلوه، نعقل، يعقلها، يعقلون، تعقلون .
3- وتدور هذه الآيات حول خمسة محاور: الحث على إعمال العقل، وظائف العقل والعمليات التى يقوم بها، مخاطبة أصحاب العقول الرشيدة ( أولى الألباب) ، ذم الذين يعطلون عقولهم عن عملها، مرادفات العقل في القرآن (اللب والحلم والنهى والحجر والقلب)(1) .
4- فالعقل -إذن- قوة إدراكية تلى قوة الحواس وفي مجال يفوق مجال الحواس ودون مجال الوحي الإلهي، ويقوم بوظائف عديدة من بينها إدراك الغائب من الشاهد، وانتزاع الكليات من الجزئيات المحسوسة، وعلم البديهيات ، وعلم النظريات ، واسترجاع المعلومات المخزونة ، وربط الأسباب بالمسببات وغير ذلك .
5- والقوة العقلية تختلف باختلاف الناس كغيرها من بقية الصفات التى ميز الله بها الناس بعضهم عن بعض وجعلهم درجات: أدناها ما يصل إليه الشخص العادي عند البلوغ ، فيكون مناط التكليف بالتكاليف الشرعية، أما الشخص الذي لا يحصِّل هذه الدرجة الدنيا عند البلوغ أو يفقدها بعد ذلك، فإن مسئوليته عن أفعاله تكون أقل من مسئولية الشخص العادي وقد تنعدم كلية(2) .
6- وهناك – إلى جانب الاختلاف الفطري في قوة العقل – اختلاف كسبي نتيجة التفاوت بين الناس في استعمال قابلية عقولهم لتحصيل المعارف وتدريب قدراتهم العقلية وتنميتها كما سيأتى البيان .
7- والعقل ميزة اختص الله بها الإنسان وفضله بها على سائر مخلوقاته ليستخدمها في حياة الابتلاء التى اختص بها كذلك ، ومن هنا كانت مناط التكليف كما أسلفنا .
ب – 1- يتألف مقصد اعتبار العقل في نظرنا من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
تنمية العقل، وحفظ العقل، وإعمال العقل .
2- وقد درج العلماء على تسمية هذا المقصد بحفظ العقل، ونؤثر أن نسميه اعتبار العقل حتى يتسع للعناصر الثلاث.
3- وحفظ المقاصد – عند الشاطبي – يكون بأمرين :
أحدهما : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها ، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود .
والثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم(1) .
فعلى هذا الأساس تكون تنمية العقل هي المراعاة من جانب الوجود ويكون حفظ العقل هو المراعاة من جانب العدم. ويبقى تشغيل العقل (أو إعماله) دون مكان له في هذا التقسيم.
4- أما ابن عاشور فقد اعتبر معنى حفظ العقل حفظ عقول الناس من أن يدخل عليها خلل(2) . وعلى هذا يقتصر حفظ العقل لديه على حفظه من جانب العدم .
جـ -1- الوسائل هي الطرق المؤدية إلى تحقيق المقاصد، وهي -إذن- ليست مقصودة لذاتها وإنما هي تابعة للمقاصد ومراعى فيها تحقيقها للغرض منها وهو تحقيق المقاصد، وهذا يعطينا في التعامل معها مرونة تمكننا من استخدام واستحداث الخيارات والبدائل المختلفة مع التقيد في الوقت نفسه بالنصوص الواردة في الحالات التى تغطيها النصوص، ومن هنا كان مجال استخدام طرق أخرى إلى جانب النصوص أوسع في حالة تحديد الوسائل منه في حالة تحديد المقاصد .
2- وفي مقصد اعتبار العقل على وجه التحديد نجد أن اعتمادنا في تحديد المقصد محصور في نصوص القرآن الكريم، بينما نجد أن اعتمادنا في تحديد الوسائل لا تقتصر على نصوص القرآن والسنة، بل يتعدى ذلك إلى الإستفادة من تراثنا الإسلامي من ناحية ومن الخبرة الإنسانية من ناحية أخرى .
(3)
أ – أول عنصر في هذا المقصد هو تنمية العقل ، ولا نقول إيجاده؛ لأن الموجد هو الخالق جل وعلا .
1- ومعنى تنمية العقل هو جعله في أحسن حالاته الممكنة، سواء من حيث قدرته على التفكير العلمي، أو من حيث تدريب الملكة العقلية، أو من حيث تغذية العقل بالمعارف والمهارات إلى غير ذلك؛ مما يجعله أكثر قــــدرة على تأدية وظائفه(1).
2- ولا توجد أية صعوبة في الاستدلال على هذا المقصد:
فآيات القرآن الكريم كثيرة في بيان فضل العلم والعلماء منها :
((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون)) (الزمر:9)
ولم يقف عند القول بأفضلية العلم على الجهل، بل قرر أن العلم درجات ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) (المجادلة 11) .
ورغب في الترقي من درجة إلى درجة .
((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) (طه : 114) .
ب – وسائل تنمية العقل:
يمكن البحث في وسائل تنمية العقل في المجالات الآتية :
1- تكوين العقلية العلمية .
2- الاهتمام بالمنهج العلمي .
3- التعليم .
ونتناولها تباعًا :
1- تكوين العقلية العلمية: عنى القرآن الكريم بتكوين العقلية العلمية حتى يكون بناء العقل المسلم على أساس سليم، وذلك من خلال عدد من المقومات التى ركز عليها ومنها :
– رفض الظن في موضع اليقين:
((إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)) (يونس:36)
– عدم اتباع الأهواء والعواطف .
– رفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف .
– إنكار التبعية للسادة والكبراء .
– التعبد بالتفكر والنظر العقلي (وقد خصصناه بالتفصيل ضمن وسائل إعمال العقل) .
– لا تقبل دعوى بغير برهان .
– رعاية سنن الله في الكون والمجتمع.
وقد خصص الدكتور القرضاوي جزءًا هامًّا من أحد كتبه لتفصيل هذا الأمر فيرجع إليــه ولا داعى لتكراره هنا(1) .
وفي خصوص موضوع الظن واليقين نجد عددًا من القواعد الفقهية – المستنبطة أصلاً بطريق استقراء الأحكام الجزئية، فضلاً عن نصوص الكتاب والسنة – الخاصة بهذا الموضوع والتى تمثل معالم منهجية بارزة ومنضبطة ، تذكر منها القواعد التالية :
1- لا عبرة بالظن البين خطؤه: نص عليها السيوطي ( ت 911هـ) تحت رقم 33 .
2- القادر على اليقين لا يعمل بالظن: نص عليها ابن السبكي ( ت 771هـ) .
3- القدرة على اليقين – بغير مشقة فادحة – تمنع من الاجتهاد : نص عليها المقرى ( ت 758هـ ) تحت رقم 124.
4- الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان (م 75 من مجلة الأحكام العدلية) .
5- اليقين لا يزال بالشك، رد المروزي (ت 462هـ) الفقه إليها مع ثلاث قواعد أخرى، وابن نجيم (ت 970هـ) وكذلك فعل ابن السبكي (ت 771هـ) والسيوطي ( ت 911هـ).
6- ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين: نص عليه الزركشي ( ت 794هـ) .
وفي هذا الموضوع مجال واسع لعلماء النفس والتربية – فضلاً عن قادة الفكر والثقافة والدعوة والإعلام – لتعميق هذا الموضوع ونقله من المجال النظري إلى مجال الممارسة والتطبيق .
2- المنهج العلمي: لم يقف القرآن الكريم عند حد تكوين العقلية العلمية لدى عامة المسلمين ، بل تعدى ذلك إلى لفت نظر الخاصة من العلماء إلى اتباع المنهج العلمي الذي وردت بالتنبيه إلى أنواعه المختلفة العديد من آيات القرآن الكريم ، وهناك دراسات كثيرة(2) عن المناهج التى استعملها القرآن الكريم والتى اتبعها العلماء المسلمون وأنشأوا بها العديد من العلوم الجديدة وطوروا كذلك العديد من العلوم القديمة. وقد بينت هذه الدراسات أنواع المناهج وطرق الاستدلال وآيات القرآن الكريم الدالة على كل منها، بما لا داعي لتكراره هنا، ويمكن الرجوع إليها في هذه الدراسات ، ونكتفى هنا بذكر أنواع هذه المناهج وطرق الاستدلال:
– منهاج الاستدلال العقلي.
– منهاج الاستقراء التجريبي .
– منهج الاسترداد التاريخي، والاستقراء التاريخي .
– المنهج الوصفي في الواقع الاجتماعي.
– منهج الوصف في الواقع الطبيعي.
– الاستدلال بالتشبيه والأمثال .
– الاستدلال بالتجزئة.
– الاستدلال بالتعميم ثم بالتخصيص.
– الاستدلال بالتعريف.
– الاستدلال بالمقابلة .
– الاستدلال بالقصص القرآني.
– الاستدلال بالجدل والمناظرة، ومن مناهجها :
– السبر والتقسيم.
– التحدي.
– القول بالموجب .
– التسليم .
– الإسجال.
– الانتقال في الاستدلال .
– المناقضة.
– مجاراة الخصم لتبين عثرته .
– الاستدلال الاستقرائي في عالم الكونيات .
– الاستدلال الاستقرائي في عالم النفس.
– الاستدلال الاستقرائي في مجرى التاريخ.
– النظر والمشاهدة .
– دراسة البيانات .
– المعاينة العملية .
– تقوى الله .
3- التعلم :
(طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجه 224 ( ويدخل في ذلك المسلمة )(1) ، (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) متفق عليه، وهو ليس فريضة فردية فحسب بل أيضا واجب اجتماعي من فروض الكفاية. ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم)) (النساء 83) (والعلماء ورثة الأنبياء) مسلم 48 .
ويلزمنا هنا التعرض لمسألتين أساسيتين:
نوعية العلم المفروض ، ونوعية الفريضة .
– أما عن نوعية العلم المفروض فقد ذهب الأقدمون إلى أنه العلم الديني الضروري لأداء العبادات المفروضة، وقد زاد بعضهم تعلم الحساب للتمكن من معرفة المواريث والزكاة، والفلك لمعرفة مواقيت الصلاة والصوم .
وقد زاد الدكتور القرضاوي فريضة تعلم القراءة والكتابة(1) .
وأرى أن ربط العلوم الواجب تعلمها بأمور العبادات إنما منشؤه تلك النظرة الضيقة للدين التى تحصره في العبادات، أما إذا فهمنا الدين في شموله فسيكون طبيعيًّا أن نضع الأمر في مكانه الطبيعي ضمن نظام تعليمي متكامل سنأتي على شرحه بعد قليل. هذا عن نوعية العلم .
– وأما عن نوعية الفريضة، وهل هي فرض عين أم فرض كفاية، فينبغي الجمع بين النوعين مع حصر فرض العين في علوم التعليم العام الإلزامي وتطبيق فكرة فرض الكفاية على مرحلة التخصص الحرفي والمهنى على النحو الذي سنأتى على شرحه بعد قليل .
والآن يتلخص التصور القائم على أساس هذين المبدأين في التالي :
التعليم العام الإلزامي – يشمل – إلى جانب دراسة العقيدة والعبادات – اللغة العربية (بعلومها الأساسية) والرياضيات (الحساب والجبر والهندسة) والتاريخ والجغرافيا ، والفيزياء والكيمياء ، ومبادئ العلوم الاسلامية (القرآن والسنة والسيرة) والفقه بصورة مبسطة شاملة، ومبادئ اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي .
هذه المرحلة الأولى تمثل القدر الضروري من المعرفة الواجب تعميمه في عصرنا الحاضر وجوبًا عينيًّا على الجميع رجالاً ونساء وأطفالاً، ويمثل بالنسبة للأطفال المرحلة الأولى الإلزامية والتى لا تقل مدتها عن ست سنوات .
وعلى المستوى الحاجي يقوم بدعم هذه المرحلة نظام ثقافي متكامل من المكتبات المدرسية والعامة، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة والالكترونية والدوريات المتخصصة، والمراجع العامة والخاصة والنوادى والجمعيات .
ويختص المستوى التحسيني بالعناية بالمتفوقين والمبدعين الذين يتم اكتشافهم من خلال المستويين الضروري والحاجي، وتقوم الدولة بإعطائهم رعاية خاصة .
التعليم التخصصي: وهذا ينقلنا إلى بحث فروض الكفاية في العلم وسيلة لتحقيق تنمية العقل؛ ذلك أن الأمر ليس مقصورًا على مصلحة الفرد بل يمتد لمصلحة الجماعة، فمن ناحية يتحقق اكتساب المعارف والمهارات اللازمة لعمارة الأرض وكسب الرزق في نواحي التخصص المهني والحرفي، ومن ناحية أخرى تعمل الأمة على الوصول إلى الاكتفاء الذاتي في كل مجالات الحياة الضرورية والحاجية والتحسينية، وتنطلق الطاقات بهذا الدافع الديني لأداء فروض الكفاية(1) ، ونقطة البداية في تحقيق ذلك في وضعنا الحاضر يقتضينا مراجعة أساسية لنظام التعليم المهنى والجامعي الحالي؛ حيث الوضع معكوس إذ مخرجات التعليم المهنى لا تكفى للوفاء باحتياجات التنمية بينما مخرجات التعليم الجامعي تصب غالبًا في خانة البطالة المعلنة والمقنعة.
والأصل أن تحدد احتياجات المجتمع من كل نوع بدءًا بالحرف البسيطة صعودًا إلى أعلى التخصصات الدقيقة ، ويوجه الطلاب إلى نوع الدراسة والتدريب المطلوب من خلال معرفة إمكاناتهم على مدار سنوات الدراسة في المرحلة الأساسية وفي برامج المتفوقين والمبدعين على أن تمثل درجات الطالب في الامتحانات عنصرًا جزئيًّا من عناصر التقويم لايتجاوز 10 – 20% وليس 100% كما هو الحال الآن، وتكون هناك معاهد للدراسة والتدريب الحرفي بكل أنواعها ومستوياتها، وكليات في الجامعات بكل تخصصاتها بما يستوعب الطلبة لتغطية احتياجات المجتمع من كل نوع ومستوى، وما يتطلبه ذلك من مكتبات متخصصة ومختبرات واستخدام تكنولوجيا التعليم المتطورة والإنترنت وغيرها.
وليس للتعلم سن أو مرحلة يقف بعده، فمبدأ التعليم المستدام وطلب الترقي في درجات العلم مقرر في الإسلام ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) (طه: 114) .
جـ – يتضح -مما سبق- أن الاعتماد في تقرير عنصر تنمية العقل من عناصر المقصد اقتصر على نصوص القرآن، أما وسائل تنمية العقل فكان الاعتماد أساسًا على نصوص القرآن السنة، وقد ساند ذلك في وسيلة تكوين العقلية العلمية عدد من القواعد الفقهية، وفي وسيلة التعليم – التراث الإسلامي في نوعي فرض العين وفرض الكفاية، والخبرة الإنسانية في نظام التعليم ومراحله.
(4)
أ – العنصر الثاني هو حفظ العقل، ويعني ذلك :
1- المحافظة على سلامة الحواس والجهاز العصبي والمخ، واجتناب ما يؤدى إلى إتلافها (الإفساد العضوي) وآيات تحريم الخمر معروفة(1) .
2- اجتناب السلوكيات المؤدية لتعطيل وظيفة العقل أو التشويش عليها (الإفساد المعنوى) وآيات تحريم هذه السلوكيات معروفة كذلك(2) .
3- حفظ العقل من التأثير المدمر لوسائل الثقافة والإعلام .
ب – وسائل حفظ العقل:
يمكن البحث في وسائل حفظ العقل في المجالات التالية:
1- حرصت الشريعة على المحافظة على سلامة أعضاء الجسم الخاصة بالعقل من مخ وحواس وجهاز عصبي ، وذلك باجتناب تناول المواد المؤدية إلى إتلافها كليًّا أو جزئيًّا أو تعطيلها عن أداء وظائفها (الإفساد العضوي) فحرمت تناول المسكرات والمخدرات، وفرضت الجزاء الرادع عن اقتراف هذه المحرمات، وآيات القرآن الخاصة بتحريم الخمر وأدلة تحريم المخدرات معروفة ويمكن الرجوع إليها(3) .
2- لم تقف الشريعة عند المحافظة على الأجهزة العضوية للعقل، بل حرصت كذلك على أن يقوم العقل بوظائفه دون تعطيل أو تشويش (الإفساد المعنوى) فحرمت اتباع الهوى والظن والتقليد الأعمى للأسلاف والكبراء والخرافات والعقائد الباطلة والجدال والعناد والمكابرة والمراء وغير ذلك من السلوكيات الضارة(1) ، والتى تتنافى مع التفكير العلمي .
3- ويمتد ذلك في عصرنا الحاضر إلى اجتناب تأثير وسائل الإعلام التى تقوم بعمليات غسيل المخ بشكل جماعي، وتحاصر العقول فلا تعطيها إلا ما تريد من أخبار وتحليلات، وما تريد الوصول إليه من تضييع الأوقات فيما يضر ولا يفيد، وتربية العقول على مناهج تفكير فاسدة تقوم على تقديس السلطة، وتبرير الخطأ والعصبية الجاهلة، وقديمًا قال أحد الفراعنة ((مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد)) ( غافر : 29) .
4- ويتبع ذلك -بطبيعة الحال- علاج ما يطرأ من خلل سواء على أجهزة العقل أو على وظائفه من الأمراض النفسية والعصبية والعقلية .
جـ – يتضح -مما تقدم- استناد عنصر حفظ العقل والوسائل المؤدية إليه إلى نصوص الكتاب والسنة، وكذلك إلى الدراسات الطبية والنفسية والاجتماعية والإعلامية والتربوية الحديثة؛ مما يشكل خبرة إنسانية عامة .
أ – العنصر الثالث هو إعمال العقل أو تفعيله أو تشغيله:
1- العقل نعمة ميز الله بها الإنسان على غيره من مخلوقاته وعلى أساسه حمل أمانة الخلافة، وهو سائله عنه يوم القيامة أن يحسن استخدامه لأداء الأمانة التى حملها، شأنه في ذلك شأن باقى النعم من عمر وصحة ومال وغير ذلك ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا)) (الإسراء: 36) .
وعلى أساس العقل خوطب الإنسان بالوحى ليتحمله فهمًا وتطبيقًا ، وهذا المفهوم يتجه في تحديد وجهة المقابلة بين وسيلة إلهية للكشف عن الحقيقة هي الوحي، ووسيلة إنسانية هي العقل الذي يستوعب الوحي فهمًا، ويكمل ما تركه الوحي للتفصيل من تقلبات الحياة، ويعمل على إنزالهما في التنفيذ العملي(2).
وقد نبه القرآن الكريم إلى إعمال العقل في الكثير من الظواهر المشاهدة المحسوسة للجميع واعتبرها آيات لقوم يعقلون(1) .
2- وحين يكون الإنسان سليم القدرات العقلية متحليًا بالعلوم وبالعقلية العلمية ثم لا يستخدم كل ذلك بل يتصرف كناقص العقل أو الجاهل فإنه يكون مريضًا بمرض عبر عنه القرآن الكريم بعدة صور:
– ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد : 24) .
– ((لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا)) ( الأعراف : 179) .
– ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا)) ( الفرقان : 44) .
– ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّــــمُّ الْبُكْمُ الَّذِيــنَ لاَ يَعْقِلُون)) (الأنفال : 22) .
– كما تكرر سؤاله (أفلا تعقلون؟) في العديد من الآيات(2) .
3- وورود مشتقات العقل بالصيغة الفعلية وليس بالصيغة الاسمية إنما هو لدلالة مقصودة هي أن صيغة الفعل لابد أن ترتبط بحدث وذات وزمن مما ينبه إلى أن النظر العقلي عملية جادة حقيقية لها أبعادها ومدلولاتها التى لابد أن ترتبط بواقع وبأشخاص وبزمن، وهذا له أثره من الناحية العملية الفعلية التى تؤثر على الإنسان ذاته في بناء حركة الحياة.
كما أن هذا يوضح عدم اهتمام القرآن الكريم بماهية العقل بل كان اهتمامه بالوظيفة العقلية .
فالبعد الذي أضافه القرآن الكريم لمعاني العقل هو ارتباط العقل بالعمل، لأن القرآن الكريم لايذكر العقل إلا في مقام التنبيه إلى وجوب العمل به. وتظهر أهمية عمل العقل من قول الكفار أثناء العذاب في الآخرة (( لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَــابِ السَّــعِير)) (الملك : 10)(3) .
ب – وسائل إعمال العقل:
1- من أبرز الوسائل التى اهتمت بها الشريعة في هذا الخصوص هو ما يمكن تسميته بالعبادات العقلية، والمقصود هنا هو: النظر، والتبصر، والتدبر، والتفكر، والاعتبار، والتفقه، والتذكر . والآيات الداعية إلى ممارسة هذه العبادات تفوق الحصر(1) .
2- نحن هنا أمام نصوص قرآنية يندر أن يهتم بها المسلمون – رغم صراحتها – وكأنها موجهة إلى غيرهم ككفار الجاهلية مثلاً لجذبهم إلى الإيمان، فإذا آمنوا استنفذت أغراضها بالنسبة لهم، هذا فهم خاطئ ومحدود وله أثره الخطير على المستوى الحضاري للأفراد والأمة عمومًا .
3- إن أداء هذه العمليات العقلية – كما تؤدى إلى إيمان غير المؤمن – تؤدى كذلك إلى تثبيت إيمان المؤمن(2) . وتؤدي في الوقت ذاته إلى تدريب عقله على أداء وظائف عليا، كالاستدلال العقلي والاستقرائي والتاريخي وصولاً إلى رؤية واعية لقضايا العقيدة الكبرى، ووصولاً كذلك إلى تكوين العقلية العلمية، كما سبق أن أشرنا عند الحديث عن عنصر تنمية العقل .
4- وهذه العبادات العقلية مطلوب القيام بها بصورة فردية وبصورة جماعية أيضًا. انظر إلى قوله تعالى : ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) (سبأ: 46) .
5- وفي هذا مجالٌ واسع لعلماء النفس والتربية – فضلاً عن قادة الفكر ودعاة الأمة – لتعميق هذا الموضوع ونقله من المجال النظري إلى مجال الممارسة والتطبيق.
6- ويمكن القول مبدئيًّا إن بعض هذه العبادات مما يشترك فيها العامة مع الخاصة من العلماء، ومنها ما يختص بأدائها الخاصة الذين بلغوا مرتبة أولى الألباب كما قال النيسابوري في حديثه عن العقل: إنه ( في أول الأمر يكون عقلاً وفي كمال الحال يكون لبًّا) .
7- فمن النوع الأول :
– النظر وهو ما يقوم على الفحص والتأمل والروية، وقد ورد فيه 129 آية. ويعنى الإجابة عن السؤال كيف والسؤال لماذا.
– التبصر كوظيفة من الوظائف العقلية بمعنى البصيرة العقلية، وقد ورد فيه 148 آية .
– التدبر وقد ورد ذكره في 4 آيات جميعها خاصة بتدبر القرآن الكريم .
– التفكر وقد ورد في 16 آية خاصة بالتفكر في جميع مظاهر الوجود من آيات كونية أو آيات أنفس أو دلائل على التوحيد وصدق الرسالة والبعث.
– الاعتبار وقد ورد ذكره في 7 آيات ، ويشمل الاعتبــار في القصـص (التاريخ) وفي الآيات الكونية، ويرى ابن رشد أنه القياس بنوعيه العقلي والفقهي.
وكانت هذه العبادات تمارس بصورة الصلة المباشرة بين الفرد والكون، وقد استحدثت الآن وسائل وسيطة كالمتاحف بأنواعها المختلفة وبرامج عجائب الطبيعة في الفضائيات وبرامج وكتب ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن، إلى جانب الرحلات والسياحات العلمية وغيرها؛ مما يسهل أداء هذه العبادات العقلية وما ينتج عنها من إعمال للعقل.
8 – ومن النوع الثاني:
– التفقه وقد ورد ذكره في 20 آية، وهو خطوة عقلية أبعد مدى من التفكير؛ إذ هي الحصيلة التي تنتج عن عملية التفكير، وتجعل الإنسان أكثر وعيًا لما يحيط به وأعمق إدراكًا لأبعاد وجوده وعلائقه في الكون، كما تجعله متفتح البصيرة دومًا .
– التذكر، وهو من العمليات العقلية العليا، وقد ورد ذكره في 269 آية .
9- وعلى مستوى الخاصة من العلماء فإن إعمال العقل يثير مباشرة قضية البحث العلمي التى تتمثل في الاهتمام بالبحث العلمي: بإنشاء معاهد ومراكز البحث، وتخصيص الميزانيات الكافية، والتعاون مع القطاع الخاص في هذا المجال، والإفادة من نظام الأوقاف الذي تكفل بهذا المرفق في أزهى عصور النهضة الإسلامية، واستثمار مخرجات هذه البحوث عمليًّا في المجالات المتعلقة بها ( لا تخزينها في الأضابير والأدراج كما يحدث حاليًا) ونشرها ليفيد منها المتخصصون ، ويقتضى تشجيع البحث عمل جوائز تمنح للباحثين وتقديم تسهيلات المكتبات المتخصصة والمختبرات ووسائل تكنولوجيا التعليم المتطورة والإنترنت والمعارض والمتاحف والبعثات والمؤتمرات العلمية وغيرها .
10- ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى ضرورة العناية بتكوين أجيال متلاحقة من صفوة العلماء الذين يختارون منذ مراحل التعليم الأولى من المتفوقين وأصحاب الاستعدادات الإبداعية، وصقل عقليتهم العلمية وتدريبهم على المنهج العلمي .
جـ – يتضح -مما سبق- اعتماد تقرير عنصر إعمال العقل ووسائل تحقيقه إلى آيات القرآن الكريم أساسًا، ويساندها في تفاصيل الوسائل الخبرات الإنسانية في المجالات النفسية والتربوية والتقنية .