أبحاث

نظرات في مشكلات التصنيف

العدد 104

تمهيد:

الحمد لله الذى علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على معلم البَشَر، المرسل للناس بالنُذُر والبُشَر.

وبعد: فإن قضية المناهج الشرعية فى الأزهر الشريف، وتطويرها، وما سبق ذلك من شكوى طلبة الأزهر – فى المراحل الدراسية المختلفة – من صعوبة المناهج الدراسية، أو شكوى المختصين التربويين من عدم موائمة هذه المناهج للعصر الحالى، كل ذلك وغيره أيضًا هو مظهر من مظاهر الأزمة الإسلامية المعيشة على كافة الأصعدة والمجالات، وما مجال التعليم الإسلامى إلا واحدًا منها.

ولكنه مجال رئيس، تتمثل أهميته فى كونه أساسًا للهوية الإسلامية، ومعبرًا عنها، فصحة التعليم هو صحة الحضارة المعبر عنها، ومرضه مرضها، ومن هنا أتت الأهمية البالغة لقضية المناهج الشرعية، والتعليم الإسلامى.

ولا نجدنا بحاجة إلى التدليل على ذلك، إلا أنه يكفى لذلك أن نقول: إن البداية الحقيقية لتأسيس الدولة العلمانية بمصـر كان يرتكز على التعليم العلمانى (المدنى) الذى أنشأه محمد على، ولهذا فأزمة ازدواجية التعليم ليست مجرد اختلاف بين نظامين متضادين من التعليم وحسب، بل هى بصورة أعمق اختلاف وتباين بين نسقين حضاريين شديدى التباين، لا يقل التباين بينهما عن حدة التباين بين الإيمان والكفر، أو بين الإسلام والعلمانية.

ومن ناحية أخرى: فإن هذه الشكاوى – السابق الإشارة إليها – ومحاولات علاجها تعد فى نظرنا مظهرًا آخر من مظاهر المرض، وليس علامة على الصحة، أو حتى الميل إلى الأخذ بأسباب الصحة.

وذلك لأن شكوى الطلبة تعكس فى الحقيقة – عند تأملها – عدم الإقبال، وعدم الاهتمام، وعدم الرغبة فى تعلم العلوم الشرعية تعلمًا حقيقيًّا مثمِرًا. إنها شكوى تدل على دنو الهمة، وتقلصها، بل وانعدامها. ثم تأتى الاستجابة لهذه الشكوى بمسايرتها، وتشجيعها بمزيد من التخفيض، والتمييع للمناهج الإسلامية.

ولا يخفى أن هذه الاستجابة أشد دلالة على المرض؛ لأنها تخرج ممن بيدهم الحل والعقد، فإذا الحل يأتى هزيلاً مريضًا عليلاً، لا يرجى منه نفع.

كان يمكن لتلك الشكوى أن تكون مظهر صحة، إذا رأت أن المناهج المتبعة لا توصل طالب العلم الشرعى إلى الغاية المطلوبة، وهى القدرة على الاجتهاد، فتأتى لتشتكى ذلك.

وكان يمكن لأهل الحل والعقد أن تكون الحلول التى يقدمونها علامات صحة حضارية إذا كانت تعمل على الوصول إلى تلك الغاية، وتعمل على رفع همة من تدنت همته.

ومن جهة أخرى:

فإن أزمة المناهج الشرعية هى انعكاس لأزمة أخرى، هى أزمة التصنيف فى العلوم الإسلامية.

وعبر التاريخ الطويل للعلوم الإسلامية على مدى خمسة عشر قرنا: كان هناك انتقال للتصنيف الإسلامى من مرحلة إلى أخرى (المرحلة الشفاهية – الجمع الكتابى الأَوَّلى – ظهور المذاهب الكبرى – عصر الموسوعات – عصر المتون – عصر الشروح – عصر الحواشى والتقريرات – عصر الشــــروح المعاصرة(1)، وكان هذا الانتقال انتقالاً سليمًا صحيًّا، تقتضيه روح الحضارة الإسلامية نفسها، ونابعًا من ذاتها، ومقتضياتها، ومنطلقاتها.

لكن ما جرى بعد ذلك، وربما أيضًا مصاحبًا للمرحلة الأخيرة لم يكن متأثرًا بروح الحضارة الإسلامية وحدها، ولكن اختلطت فيه مؤثرات شتى.

ومن هنا جاءت الأزمة الراهنة للتصنيف فى العلوم الإسلامية ، تلك الأزمة التى تتمثل فى العديد من الظواهر، منها عدم القدرة على التواصل مع جمهور الخطاب متعدد المستوى ، وعدم القدرة على تلبية حاجاته ، ومنها العجز عن مواجهة أمراض الأمة ، ووضعها فى إطارها الصحيح ، وتقديم العلاج لها ، ومنها العجز عن إشاعة روح علمية عامة فى الأمة ، بدلاً من روح الخمول والركون السائدة ، إلى غير ذلك من ظواهر الأزمة وجوانبها ، وهو ما سنحاول أن ندلى فيه برأينا.

وهذه الورقة تناقش قضية بالغة الخطورة، ولهذا فمن المهم تحديد بعض المرتكزات التى بنيت عليها، حفاظًا على التواصل مع القارئ، والتعرف إليه بوضوح وصدق، فمن ذلك:

1- الإيمان المطلق بتحرير الفكر، لكن ليس من النسق الإسلامى ونظرياته ومناهجه، وإنما من الآصار، والمعوقات، والكسل، والركون….

2- الإيمان المطلق بالحضارة الإسلامية، والحب الشديد لها بكل ما فيها من مظاهر قوة .

3- السعى الدءوب إلى استكشاف هذه المظاهر، والعمل على بعثها، والحذر من تلك المكامن والعمل على إجهاضها.

4- وإذا أراد الكاتب أن ينسب نفسه إلى مدرسة من المدارس الفكرية الإسلامية، ففى الحقيقة فإن موقفه يبدو فى ظاهره بالغ التناقض؛ إذ يتعلق بمدرستين بينهما ما بينهما: المدرسة المحافظة برموزها الراسخة، والمدرسة الإصلاحية برموزها الشامخة، فلا يجد غضاضة فى الإعجاب بالشيخ عليش والشيخ محمد عبده معًا.

ربما يبدو هذا الموقف متناقضًا، لكنه فى الحقيقة موقف منهجى متعمد، بعيد أشد البعد عن العاطفة والحماس، حيث يرى الكاتب أن الخلاف بين المدرستين يؤول فى نهايته إلى نوع من الخلاف الشكلى، وذلك حديث آخر.

5 – كما يحاول الكاتب دائمًا تجاوز ظاهرة حوار الطرشان الذى أصاب مساحات ليست بالقليلة من حياتنا الفكرية، وأنه لا بد من وجود نقطة اتفاق بين الفرقاء يجب البحث عنها.

6- ومن ركائز هذه الورقة تحويل كثير من الأطروحات المعاصرة إلى مسلمات ومنطلقات، ومحاولة تشغيلها، وهذه الخطوة هى واجب الجيل الذى ينتمى إليه الكاتب، حيث إننا بذلنا وقتًا كافيًا فى بحث تلك الأطروحات وطرحها وإعادة طرحها، فإن كان الواجب الفكرى فيما مضى هو طرحها، فإن الواجب الفكرى اليوم هو تجربة تشغيلها بصورة فعلية.

7- ولا تتردد الورقة فى الاستفادة مما لدى الآخر خارج المنظومة الإسلامية، مع تخليص ذلك من سمات وخصائص الآخر، وصهره فى البوتقة الإسلامية.

8- وتحاول الورقة التزام قيم التفكير الحر من المراجعة والنقد والصراحة ومواجهة المشكلات والقضايا الشائكة، دون مواربة أو مسايرة أو مداهنة فكرية، ومهما كانت القضية شائعة ومستقرة فلن تبالى الورقة من نقدها ومراجعتها إذا كان ذلك ضروريًّا.

9- ستحاول الورقة ألا تقف عند حدود طرح الإطار النظرى التجريدى للأفكار، بل ستحاول اقتحام لجة الإجراءات ولو على سبيل التنبيه، وبقدر ما تحتمله هذه الورقة، وإلا فوراءها عدة مشروعات تحاول تطبيق ما طرحته من أفكار.

10- الكلام هنا هو نتاج تجربة شخصية، وخبرة مباشرة، ولهذا فلم يشغل الكاتب نفسه كثيرًا بعناء التوثيق، إلا فى حدود الضرورة.

المبحث الأول

بين نسقين سائد ومقترح

لا شك أن هناك نشاطًا متزايدًا فى مجال النشر الإسلامى سواء فيما يتعلق بتحقيق المخطوطات، أو الدراسات المستقلة، أو محاولات تغطية مستجدات العصر وتناولها بالبحث، أو فى إطار مراجعات الفكر الإسلامى وتراثه، والبحث عن الحلول لما نعانيه من أزمات على شتى الأصعدة.

ومع كون النشاط المتزايد هو ظاهرة صحية، وعلامة على الحياة، فإنه لا ينبغى أن نركن إلى هذا، دون أن نراجع هذه الظاهرة، لنحاول حصر أوجه القصور، وطرح تصورات علاجه أولاً بأول، قبل أن يتحول القصور إلى أمراض مزمنة تستعصى على الحل.

وأول ما ينبغى ملاحظته : أن نشاط التصنيف يتم فى حالة مخاض شديد بين أنساق سائدة وأخرى مقترحة ، بين أنساق مكتملة وإنِ اتهمت بالشيخوخة وأنساق مقترحة لا تجد المحاولات الجادة للتشغيل، وأشباه أنساق تحتاج إلى إنضاج وإكمال يكمل العوز فى منهجيتها، وإلا ستؤدى باستمرارية التشغيل دون نضج إلى مزيد من تكريس وضع الأزمة، حيث تمثل أشباه الأنساق معوقًا حقيقيًّا دون الخروج من الأزمة.

والأنساق السائدة نقصد بها تلك الأنساق التقليدية أو المحافظة التى يتم من خلالها التصنيف فى العلوم الإسلامية ، والتى تعتمد أساسًا على النموذج التراثى فى التصنيف ، دون محاولة جادة أو عميقة للالتفات إلى متطلبات الوقت وواجباته .

أما الأنساق المقترحة فنقصد بها تلك الأنساق التى اقترحها أحد الرموز أو التيارات الفكرية ، والتى لها منهجيتها الخاصة ، والتى تم تشغيلها على نحو ما، وصادفت نجاحًا إلى حد ما ، ولاقت جمهورًا يؤمنون بها ويؤيدونها ، لكنها لم تدرك بعد أن تكون نسقًا سائدًا ، كنسق الكتابة الفقهية غير المذهبية ، أو كنسق الكتابة العقيدية مع تبنى آراء ابن تيمية رحمه الله تعالى .

كما نجد العديد من المحاولات المطروحة التى تزعمها أفراد من المفكرين أو العلماء ، ولم تجد شيوعًا كبيرًا ، وقد تمتاز هذه المحاولات بالعديد من الأفكار الجيدة ، والصالحة للتشغيل إذا وجدت من يتبع الجهد ، كتلك المحاولات لإعادة الكتابة فى أصول الفقه .

وإذا كان السائد فى العلوم الوضعية قابلاً للتجاوز والتخطى، وللثورة العلمية، والنقض، والخروج، فإنه ليس كذلك السائد فى العلوم الشرعية؛ حيث يصبح التجاوز عبثًا، والثورة تدميرًا، مقرًّا بوجود مساحة ما للتغير، مميزًا بوضوح بينها وبين مساحات الثوابت، فارقًا بين العلم وطريقة التصنيف فيه ، حيث تم تجاوز طرق التصنيف فى العلوم الشرعية عدة مرات وفق مقتضيات الوقت وواجباته، حتى وصلنا إلى ما يسمى اليوم بالطريقة الموضوعية، والتى تتناول مسائل العلم بعيدًا عن المباحث اللفظية، إلا أن هذه الطريقة لم تتبلور بعدُ، رغم مضى ما يزيد على المائة عام، وهى فترة ليست بطويلة إن تمخضت فى النهاية عن شىء يستحق الاهتمام، ولا يتم التبلور إلا إذا ساد نموذج قوى فى التصنيف على هذه الطريقة يتلافى المآخذ ونقاط الضعف.

فيحتاج الأمر اليوم إلى أن يكون المرء ذا عيون، وأن ينظر بها جميعًا ومن خلال عمله إلى الماضى والواقع والمستقبل، وأن ينظر إلى السائد، وإلى ما ينبغى أن يسود، وأن يراعى دائمًا أن يكون حلقة فى سلسلة، وفرعًا فى شجرة، ولبنة فى بناء، وهكذا تبنى الحضارات.

ولهذا وأدت جهود أمثال ابن تيمية وابن القيم والصنعانى والشوكانى، حيث نرى أنه تمضى قرون بعد ابن تيمية حتى يأتى الصنعانى والشوكانى ويحاولا تشغيل نسق ابن تيمية المقترح فى البحث الفقهى، ثم يجمد تشغيل النسق بعد ذلك، دون محاولات جديرة بالملاحظة إلى يومنا هذا.

ومع هذا فإن ما قدمه الشوكانى نفسه آل فى نهايته إلى الردة إلى النسق السائد الذى أعلن هو خروجه عنه.

فالدرارى المضية شرح الدرر البهية لا يتجاوز أيًّا من كتب المذاهب التى تتناول علم الفقه العالى، أو علم الخلاف، وتعرض لاختيارات وأدلة المذاهب والترجيح بينها، ولن يعدو أن يكون الشوكانى قد أبدل باختيارات المذاهب اختياره هو، ولن يعدو الطالب الذى ترك دراسة أحد المذاهب الأربعة إلى دراسة كتاب الشوكانى عن أن يكون قد أبدل بأحد المذاهب الأربعة مذهبًا خامسًا إن صح التعبير، فهل كان هذا غرض الشوكانى من عمله وجهاده فى حياته، ولهذا فإن آلاف الشباب الذين يشتغلون اليوم على كتب الشوكانى لم يصنعوا شيئًا ولم يتجاوزوا التقليد الذى يفرون منه، بل ولم يتسقوا مع أنفسهم، ومبادئهم.

وإن كنا لسنا فى مقام التفضيل بين مذاهب استقرت لقرون طويلة، وتواردت عليها عقول آلاف العلماء تهذيبًا وتنقيحًا وتصنيفًا، وبين مذهب ما زالت تحت الإنشاء (إن صح التعبير أيضًا).

لكننا فى هذا المقام لا بد لنا من أن نقول: إننا لسنا بحاجة إلى نسق يؤدى فى النهاية إلى إضافة مذهب إلى مذاهب، وإلى إيجاد مقلدين جدد لأئمة نضيفهم إلى ما لدينا من مقلدين إلى أئمة أخر، وهذه النتيجة هى للأسف الحاصلة إلى الآن من جراء تشغيل نسق ابن تيمية المقترح.

وأعتقد أنه ليس الخطأ فى النسق المقترح ذاته، بقدر ما يكون فى التشغيل الذى فَرّغه من هدفه، وهو إحياء العقلية المجتهدة والمبدعة، وجعله فى نهاية الأمر نسخة من النسق السائد مع اختلاف رموز النسق.

ولهذا فإن ما يحدث من التشاحن بين أنصار النسق المقترح وأنصار النسق السائد هو أشبه بما كان بين أنصار النسق السائد أنفسهم أول الأمر قبل استقرار حالة التعايش بينهم (كفتن الحنفية والشافعية، وفتن الحنابلة والأشعرية، وغيرها مما وقـع بين المذاهب المختلفة)، وليس هذا التشاحن شبيهًا بما يكون بين روح علمية سائدة وروح جديدة تريد أن تسود، كما نجده فى صدام النسق السائد مع محاولات التجديد الحقيقى والأصيل.

وما يقال على صعيد التصنيف الفقهى يمكن أن يقال على صعيد التصنيف فى علم التوحيد، بل إن حظ هذا العلم الأخير من التشغيل فى ضوء نسق ابن تيمية أضعف.

فرغم التظاهرة الواضحة من التيار السلفى لآراء ابن تيمية، فإن ما صنفه هذا التيار فى علم التوحيد لا يعدو أن يكون إعادة كتابة كتب (السنة)، مع إضافة بعض ردود لابن تيمية على النسق السائد، دون تقديم جهد حقيقى فى بناء نسق جديد لعلم العقيدة يواجه التحديات مواجهة حقيقية، لا أن يهرب منها، ويتقوقع داخل ذاته.

وهكذا نجد النسق السائد فى علم الكلام ما زال منشغلاً بمواجهة من ليس لهم وجود (كالمعتزلة وفلاسفة الأوائل)، وبدل أن يقلدوا رموز النسق فى مواجهة مشكلات العصر المعيش وفلاسفته وتحدياته، كما واجه هؤلاء الأئمة الرموز مشكلات عصرهم، قلدوهم فى مواجهة مشكلات زمان ليس بزماننا، وتحديات ليست مثارة اليوم، فأخطأوا من وجهين: فى التقليد، وفى أنهم قلدوا فيما هو غير قابل للتقليد.

ويمكن أن نطلق القول: أن ذكر آراء الفرق كالمعتزلة والفلاسفة ونقدها فى كتب علم الكلام السابقة هو من قبيل الفتوى التى تتغير زمانًا ومكانًا وشخصًا، أو هو من قبيل التصنيف القابل للتجاوز، وإن كان تجاوزها لا يعنى بحال عدم وجود أى فائدة من دراستها، إلا أنها قطعًا ليست من قبيل العلم غير القابل للتجاوز.

بينما نجد أن النسق المقترح توزع جهده بين هؤلاء غير الموجودين وبين مواجهة النسق السائد، وكأن مشكلات العصر إنما هى ما يطرحه السائد على المقترح من التحديات.

ولتقف العقيدة الإسلامية بعد ذلك بحاجة ماسة إلى جهد حقيقى للخدمة والتصنيف حسب واجب الوقت، ولن يكون جهدًا حقيقيًّا إلا إذا كان من خلال نسق ناضج.

ويبدو أن الأنساق المقترحة نفسها من حيث كونها خرجت عن النسق السائد -: صعب تشغيلها، حيث إن أى نسق مقترح لا يمكن أن يكفيه جيل واحد ، أو جيلان مؤسسان، بل يحتاج إلى عدة أجيال مجتهدة وقوية ومبدعة تواصل عملية البناء، قبل أن يسلم النسق نفسه إلى طور الجمود والتقليد، ومن هنا عجز عن متابعتها حتى أنصارهم ومشايعوهم، فبدت كأنها شجيرات صغيرة نبتت فى ظل الشجرة الأم، واستمدت من جذورها، ولا تستطيع أن تستقل بنفسها.

ومن هنا لم تتجاوز آثارها أن تكون من باب اللوازم، حيث نبهت على مواطن الضعف داخل النسق السائد، ثم أعطت الحلول خارجه، فاستفاد النسق السائد الكشف عن الضعف، وخسر ما بذل من جهد فى البحث عن الحل والعلاج، والذى ذهب هباء فى محاولة بناء نسق آخر نحن بغير حاجة إليه فضلاً عن أنه سيحتاج إلى قرون أطول من القرون التى احتاجها النسق السائد، حيث سيحتاج إلى وقت البناء بالإضافة إلى وقت مواجهة النسق السائد، هذه المواجهة التى انشغل بها كل رموز النسق الجديد وكثير من رموز النسق السائد، مما أجهض بناء الجديد، وعوق إلى حد كبير تطوير السائد.

مما يعنى أن العلاقة بين النسقين علاقة مَرَضِيَّة (وليست مُرْضِيَة)، لم تأخذ بعد بأسباب الصحة والسلامة، ولهذا فهى علاقة معوقة لكلا الطرفين، وليست علاقة حافزة، كتلك التى كانت بين عناصر النسق السائد بعد استقراره ، الذى هو فى حقيقة الأمر عبارة عن أسرة من الأنساق، التى استطاعت مع الجهد المضنى عبر قرون – ومع تجاوز لحظات التشاحن التاريخية – أن تلتحم سويًّا لتشكل النسق السائد، فقد حفزت العلاقة بين عناصر النسق على أن يقوم رموز كل نسق بإنضاج نسقهم الأصغر، وتلافى ما دلهم عليه بقية الأنساق من آفات، من خلال عملية سعى جادة لتبصر العيوب ومعالجتها.

ولهذا فالنشاط التصنيفى المعبر عن العلاقة بين النسقين السائد والمقترح هو علامة مرض، ولا ينبغى أن ينظر إليه مهما تكاثرت أدبياته على أنه نشاط صحى بناء؛ ضرورة أن هذا النشاط هو نتيجة علاقة مَرَضِيَّة.

بخلاف النشاط التصنيفى الذى عبر عن العلاقة الحافزة بين أسرة النسق السائد، فإنه أتى فى معظمه علامة صحة، وساعد بقوة على بناء النسق، من خلال سلسلة طويلة من أدبيات عالية المستوى، قامت بتناول شتى أجزاء النسق، وتفرغت لعملية البناء الحضارى تفرغًا شبه تام، ولهذا لا تجد ثغرات زمنية بين أطوار النسق، ولا تقع أى انقطاعة بين أجياله من القرن الأول، وحتى قرن مضى.

ونستثنى من ذلك بعض أدبيات ألفت فى لحظات التشاحن التاريخى؛ فخرجت معبّرة عن اللحظة التاريخية المعيشة، ككتاب مغيث الخلق فى اختيار الأحق(1)، لإمام الحرمين الجوينى، ورغم جلالة إمام الحرمين، وكونه أحد الرموز الكبرى للنسق السائد، وكون مصنفاته فى الذروة العليا من النضج، والتأثير البالغ فى حركة التصنيف بعدها، آخذة بأسباب الصحة والسلامة، ورغم ذلك يأتى مغيث الخلق على النقيض منها، ولا شك أن ضغوط اللحظات التاريخية المعيشة تحجب كثيرًا من الحقائق عن الرؤية الناضجة فتجعلها تبدو أقل نضجًا مما هى عليه فى الحقيقة، أو كما قال النبى (ص) : (يصبح الحليم فيها حيرانًا).

ومن جهة أخرى، فبينما حافظت الحياة الجامعية والأكاديمية فى الجامعات الإسلامية عامة على النسق السائد، حتى تلك الجامعات الموجودة فى مجتمعات تتبنى المؤسسة الدينية فيها نسق ابن تيمية-: نجد أن حركة التصنيف خارج أسوار الجامعات لا يسودها أنساق معينة مما يهدد عملية التصنيف فى العلوم الإسلامية بشكل خطير.

وبينما ارتكز النشاط التصنيفى فى الجامعة على مقررات النسق السائد، نجد  أن حركة التصنيف خارج الحياة الجامعية غير منضبطة بضابط، اللهم إلا رؤية المؤلف ضاقت أو اتسعت، التزمت، أو خرجت.

وبينما تحول شتى العقبات بين اتصال عموم القراء، وبين حركة التصنيف الجامعى، كرداءة الطبع، وعدم الاهتمام بتوسيع دائرة النشر حيث يكون الهدف طلبة الجامعة فقط، كما يقل أن تجد للمؤلف الواحد كتابًا يشمل مسائل العلم الذى يتخصص فيه، خاصة العلوم الكبيرة كالتفسير والحديث والفقه، والتى بطبيعة الحال لن تدرس فى سنـة واحد بل على مدى سنين الجامعة (دون أن تستوعب كافة مباحث العلم أيضًا)، فيأتى المؤلف ويقتصر على مقرر العام الدراسى الذى يدرسه، فحتى لو دارت السنون، ودَرَّس لكل الفرق الدراسية، فلن نجد التواؤم والاتفاق بين مذكرات جامعية ألفت عبر سنين، وفى ظل ظروف مختلفة.

بينما ينجح التصنيف خارج الحياة الجامعية – ورغم عدم انضباطه – فى الانتشار بين عموم القراء، هؤلاء القراء الذين يلجئون بالأساس إلى القراءة كى يحصلوا على الميزان الذى يزنون به أمورهم، فى حين أن الذين يلجئون إليه بحاجة أساسًا إلى امتلاك الميزان لحسن اختيار ما يقرأ، حيث إنه ليس كل ما على أرفف المكتبة الإسلامية للأسف صالح للقراءة، والنتيجة وراء ذلك هى الأزمة الحالية المعيشة، والبلبلة الفكرية المنتشرة.

الطريقة الموضوعية:

ذكرنا أننا نفرق  بين العلم الشرعى وطريقة التصنيف فيه ، فبينما لا يجوز تجاوز العلوم الشرعية، فإنه يجوز تجاوز طرق التصنيف، حيث تم تجاوز طرق التصنيف فى العلوم الشرعية عدة مرات وفق مقتضيات الوقت وواجباته، حتى وصلنا إلى ما يسمى اليوم بالطريقة الموضوعية، والتى تتناول مسائل العلم بعيدًا عن المباحث اللفظية.

وهذه الطريقة لم تتبلور بعد رغم مضى ما يزيد على المائة عام، وهى فترة ليست بطويلة إن تمخضت فى النهاية عن شىء يستحق الاهتمام، ولا يتم التبلور إلا إذا ساد نموذج قوى فى التصنيف على هذه الطريقة يتلافى المآخذ ونقاط الضعف.

لكن يبدو لى أن الظرف الزمانى يحتم علينا تجاوز الطريقة الموضوعية أو على الأقل تطويرها بما يناسب السبب الرئيسى الذى من أجله وجدت ألا وهو تقريب أمهات الكتب، وتمكين الطالب منها، إلا أن الحاصل – أو هكذا أراه: أنها قطعته عنها.

فإنها – وهى لا تصلح لأن تكون بديلاً لمعتمدات الكتب وأمهاتها – عجزت عن هدفها الأصيل من التمهيد لها، فقد فقدت الكثير من القوة – بل أصيبت أحيانًا بالركاكة – نتيجة الإعراض عن المباحث اللفظية جملة، أضف إلى ذلك انتشار المسائل، وعدم ضبطها بالعبارات المانعة التى تمتاز بها المتون، مما يصعب عملية ضبط مسائل العلم على القارئ، ويشتته، لقد أصيبت المصنفات الموضوعية بالضعف، وبالتالى انتقل ما أصابها من ضعف إلى قرائها والمعتمدين عليها، فبدل أن ترقيهم وتنتشلهم أغرقتهم وغرقت معهم.

لقد أرادت الطريقة الموضوعية تجاوز طريقة (متن/شرح/حاشية/تقرير) لكنها للأسف لم تنتج شيئًا يطاول ما أرادت أن تتجاوزه.

لهذا فهناك عدة ثوابت أرى لزوم اتباعها:

– مفهوم البناء.

– مراعاة الارتباط بالكتب التى ينبغى للطالب أن يترقى إليها، فيعجبنى مثلاً فتح العلام شرح مرشد الأنام كلاهما للشيخ الجردانى فى الفقه على المذهب الشافعى، لصحة عبارته، وتمهيده ذهن الطالب لما بعده من الكتب، نعم لو كان خادمًا لمتن أبى شجاع، أو متن المنهاج الفروعى للإمام النووى (وهما متنان متداولان معتمدان) بدلاً من كونه شرحًا لمتن مرشــد الأنام (وهو متن غير متداول)، ثم أضيف إليه طرف منتقى ومنتخب من المباحث اللفظية لكان أتم فائدة، وكان المطلع عليه متمكنًا من كافة الكتب الخادمة لمتن أبى شجاع أو المنهاج، وهى أساسية لدارس الفقه الشافعى اليوم، لا يستطيع أن يتخطاها برمتها، ولا يتمكن منها إلا بعد عناء شديد للغاية.

ومن جانب آخر فإن التراث الفقهى ملىء بالعديد من النماذج الرائعة، حيث تجدها قد تمثلت بمحاسن ما تقدمها، وتخلصت من المآخذ.

على سبيل المثال كتابات شيخ الإسلام زكريا الأنصارى (ت 926هـ)، وخاصة الفقهية منها، وأهمها شرح المنهج المسمى (فتح الوهاب شرح منهج الطلاب)، وكتاب (تحفة الطلاب شرح تحرير تنقيح اللباب)، وأراها بلغت الغاية من النضج، من حيث الصياغة، وحسن التلخيص والبعد عن الحشو، مع الاهتمام البالغ ببيان الدليل، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، والاعتماد على ما يجوز الاحتجاج به من الحديث، وبيان جهة الاستدلال، مع ذكر القواعد الأصولية المتعلقة بالمقام، وبين الفروع الفقهية للمسألة، وكل ذلك فى لغة سهلة واضحة غير معقدة.

وأرى أن حسن القراءة لهذين الكتابين تربى ملكة فقهية استنباطية قوية لدى المتفقه، مع ملاحظة أن (تحفة الطلاب شرح تحرير تنقيح اللباب) موجه للمبتدئ من الطلبة، بينما (فتح الوهاب شرح منهج الطلاب) موجه للمتوسط، مما يعنى أن الطالب يعتاد من بداية طريقه الفقهى على الأخذ بالدليل، وبيان كيفية الاستدلال به، ويتدرب على كيفية تشغيل علوم الآلات جميعها، وتحصيل المقصود منها، وهو استثمار الحكم الشرعى.

ولهذا نجد عناية الأجيال التالية لشيخ الإسلام زكريا بهما عناية بالغة، وفى بحث لنا عن المناهج الشرعية فى الأزهر الشريف فى القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (18،19 ميلادى)، ظهر لنا مدى تلك العناية، مما يعنى نضج البيئة العلمية، يظهر ذلك فى الاهتمام بقراءتهما وتلقيهما، كما يظهر فى عدد من اهتم بوضع الحواشى عليهما، إذا نظرنا إلى الحواشى نظرة سليمة تعتبر وظيفتها الإعانة على قراءة الكتاب الذى وضعت عليه قراءة صحيحة توصل إلى الفهم السليم.

مما يعنى أن العملية التعليمية الفقهية كانت وحتى قرابة مائة سنة مضت – ليس غير – تسير بصورة جيدة تعليمًا وتصنيفًا إذا لاحظنا مدى شيوع هذين النموذجين بالنسبة إلى غيره من المصنفات الفقهية، والتى لا تخلو أيضًا من مميزات.

فإذا سلمنا بأن كتابى الشيخ زكريا هذين بلغا قمة النضج التصنيفى من حيث المنهج، ومن حيث الحِرَفِيَّة فى التصنيف، وتمثل فيها جهود وتراكم المعرفة الفقهية خلال عشرة قرون، فإن جهود القرون الأربعة التالية (القرون من الحادى عشر إلى الثالث عشر الهجرية) وقفت للأسف عند فهم هذا النموذج وإبرازه، والعمل من خلاله، ومن هنا كانت الشهرة المطلقة للشيخ زكريا رحمه الله، بحيث إنه إذا أطلق شيخ الإسلام فى مصنفات هذه القرون وفى العلوم الشرعية وأدواتها كافة فهو المراد بذلك.

وإذا كنا نعتبر جهد تلك القرون الأربعة هى وقوف دون تطوير أو تقدم، ولكنه أيضًا دون تراجع، بينما ما حدث بعد ذلك هو تراجع حقيقى، وانقطاعة غير قابلة للاتصال بما قبلها، وهنا تبرز الأزمة من وجهة نظرنا.

وهناك طريقة لطيفة فى استشكاف ذلك الانقطاع، فما عليك إلا أن ترتب مصادر الفقه الشافعى – مثلاً – على أرفف المكتبة ترتيبًا زمانيًّا، مع مراعاة وضع شروح الكتاب الواحد متجاورة.

ابدأ بالأم للإمام الشافعى ومعها مختصر المزنى، فالحاوى للماوردى، مرورًا بمؤلفات إمام الحرمين والغزالى والشيخ أبى إسحاق، وشروحها، فمؤلفات النووى، والشروح عليها، وأخيرًا بالحواشى عليها.

لقد التزمت بذلك فى مكتبتى الخاصة ليس فى الفقه وحده، بل وفى غيره من العلوم الإسلامية، وجربت رصد ظاهرة الاتصال والانقطاع فيها من خلال تلك الطريقة، فإذا هى صادقة لا تكذب، بل واستخدمتها أيضًا فى تصوير تطور العلوم الشرعية وشرح ذلك للآخرين، فأجدها معينة تمامًا على الوعى بذلك التطور، كما أنى أراعى هذا الترتيب عند جمع المادة العلمية لموضوع ما، فأجدها تعطينى من النتائج، والملاحظات ما لا يمكن الوقوف عليها لو فتحت الكتب دون مراعاة الترتيب الزمانى.

إن كل مرحلة تسلمك للتى تليها، فى ترابط وثيق، وبناء محكم، وتراكمية حقيقية.

ولكن نجد هذا التسلسل فى مصادر الفقه الشافعى -مثلاً- يقف وينقطع عند الشيخ شمس الدين الإنبابى (ت 1313هـ)، ولا يكاد يتصل ما بعد ذلك بما قبله، إلا نماذج قليلة لبعض علماء اليمن سارت على الطريقة التقليدية، ولكنها انفصلت عن الواقع المعيش .

والقضية أن المحافظة على التراكمية والاتصال لا تعنى الانقطاع عن الواقع، كما أن مراعاة الواقع لا تعنى الانفصال والانقطاع عن المسار، هذا ما كان يحافظ عليه العلماء سابقًا، وهو ما ينبغى أن نحافظ عليه الآن.

ولا ينبغى أن نقف بذلك عند مجرد الطرح النظرى، بل ينبغى تجازوه إلى التطبيق العملى، وهو أصعب الشقين، وأهمهما.

وإذا أحببنا أن نختزل الطريقة الموضوعية فى عبارة واحدة فيمكن أن نقول: إنها طرحت أسئلة صحيحة، وأجابت عنها إجابة خاطئة.

فبينما أرادت وصل القارئ بالتراث قطعته عنه،وبينما أرادت تسهيل المباحث الدقيقة رأت أن تحذفها برمتها.

ولهذا فالطريقة الموضوعية فرت من المشكلة، وهربت منها، ولم تواجهها.

ولا بد من تقسيم الطريقة الموضوعية إلى مرحلتين: كتابات الطبقة الأولى ممن تعلموا بالطريقة القديمة، وكتبوا أغلب نتاجهم بالطريقة الموضوعية. ثم مرحلة الذين تعلموا بالطريقة الموضوعية، واعتمدوا اعتمادًا أساسيًّا على الكتب الموضوعية، ثم كان نتاجهم كله بالطريقة الموضوعية.

وقد بنت الطريقة الموضوعية أساسها الفكرى على أن كتب التراث مليئة بالصعوبة، واللغة الاصطلاحية.

ومما يؤسف له بشدة أنه من النادر أن تجد فى الدراسات الشرعية المتخصصة الموضوعية ما يجبر المتخصص على الرجوع إليه، بمعنى أنه يمثل مرحلة أساسية فى العلم، ويمثل عدم الرجوع إليها خللاً أو عوزًا فى بحث الباحث.

فعلى سبيل المثال: لا يستطيع الباحث الأصولى أن يكتب بحثًا أصوليًّا رصينًا على طريقة المتكلمين أو الشافعية دون أن يرجع إلى مصادر أساسية: كالمعتمد – البرهان – المستصفى – المحصول – الحاصل – التحصيل – المنهاج وشروحه – الإحكام للآمدى – مختصر ابن الحاجب وشروحه – جمع الجوامع وشروحه. ثم له بعد ذلك أن يضيف من المصادر ما يقع تحت يده، ولكن ليس له أن ينقص مما ذكرنا شيئًا، وإلا أصاب بحثه خلل.

فأين تلك البحوث الأصولية المعاصرة التى وضعت نفسها على خريطة البحث الأصولى ، بحيث تجبر الباحث الأصولى على ضرورة الرجوع إليها ، وعدم تخطيها .

ولا شك أن الجهود الجبارة التى قام بها باحثو الأصول فى العقود الأخيرة فى تحقيق ونشر أهم كتب الأصول هى التى أعطتنا تلك الخريطة الواضحة لمصادر البحث الأصولى، ورغم سهولة تكوين هذه الخريطة  الآن، إلا أنها كانت حلمًا بالأمس القريب، ومع الإشادة بتلك الجهود فهناك العديد من الملاحظات عليها، وهناك المزيد من الأمل فى بذل جهود أكبر وأدق لنشر المزيد من نصوص التراث الأصولى.

ورغم مضى عدة سنوات على اكتمال هذه الخريطة لم يظهر بعد من الدراسات المتخصصة ما يجبر الباحث على وضعه ضمن تلك الخريطة، مما يؤكد ظاهرة الانقطاع العلمى، ووجود حالة فشل عامة فى التواصل مع التراث، ذلك التواصل الذى يعنى القدرة على إضافة حلقة جديدة، وتعلية البناء طابقًا آخر، والامتداد الحضارى زمانًا، بعد أن توقفنا – إن لم نتراجع- مكانًا.

فى ظل هذا المفهوم المحدد للتواصل مع التراث نرى – ولا يخلو الكلام من تعميم – أن الجهود المبذولة على الطريقة الموضوعية لا ترقى لهذا التواصل بدليل واحد هو عدم النجاح فى إجبار الباحث الأصولى على ضمه إلى الخريطة العلمية والعملية للبحث.

لتبقى بعد ذلك هذه الجهود الأصولية رهينة أبحاث الترقية، أو المذكرات الجامعية الهزيلة، التى كثيرًا ما تكتب دون اكتراث فتجد فيها من السقطات العجيبة، وتحت يدى من ذلك مذكرتان لطلبة السنة الرابعة من كليتى الشريعة، والشريعة والقانون لغير الحنفية، وضعهما أستاذان من ذوى المناصب الرفيعة، ولهما شهرتهما التى لا تنكر فى تخصصهما، ولكن قراءة المذكرتين تخبرك بسبب فشل الطلبة فى الفهم، وضعف المستوى العلمى العام للطلبة، فبالإضافة إلى وجود أخطاء علمية تفقد الثقة بالمذكرة، نجد ضعف الصياغة وضعف الجانب الحِرَفى الفَنّى التأليفى، وهذا يؤثر سلبًا – وبقوة – على المستوى العام للعمل، مما يخرجه فى النهاية فى صورة ركيكة وهزيلة.

وسأضرب مثالاً واحدًا من مذكرة كلية الشريعة والقانون والتى وضعها أقدم الأستاذين وأشهرهما، فإن القارئ لمذاهب الأصوليين فى قسم الدراسة الموضوعية(1) لا بد سيصاب بالحيرة والاضطراب من الكلام غير المتسق مع نفسه أولاً، ومع مذاهب الأصوليين فى المسألة فى حقيقة الأمر، والتى سيكتشفها بنفسه عندما يرجع إلى قسم الدراسة النصية آخر المذكرة، ومن العجيب أن المؤلف نقل النص التراثى بما فيه من تحريف بالطبعة الأصلية(2)، دون إصلاح، والأعجب أنه أخذ هذه العبارات المحرفة فى دراسته الموضوعية على ما فيها من تحريف، وبنى كلامه عليها، مما يعنى عدم الانتباه إلى فساد العبارة والمعنى ؟؟!

وعلى الطالب لو تنبه إلى الخطأ أن يصمت تمامًا، وأن يؤدى فى الاختبار الكلام بخطئه، وإلا تعرض للرسوب بتهمة التعالم على أستاذه، ومن الظريف أن رد أحد زملاء الأستاذ المؤلف عندما علم من طريق الطالب الذى كنت أساعده فى دراسة تلك المذكرة: (إن هذا أستاذ كبير، ولجان الترقية قد أجازته من زمان، فهل تريدون أن تناقشوه مرة أخرى)، فنعم قد أجازته فكان ماذا ؟!

إن هذه الصورة – فى أقل تقدير – توضح مدى قلة الاكتراث، والعجلة فى التأليف، وعدم العناية بالعلم، بل وفقد تصور كيفية العناية به، أين ذلك من مؤلفات شيخ الإسلام زكريا الأنصارى التى قرئ عليه بعضها على طوله خمسين مرة بحضور أذكياء الطلبة، وهم – ولا أقول هو – يحررون العبارة، ويناقشون شيخهم، ثم يثبت فى النهاية ما صح معناه ومبناه، ومن ثم أتت مصنفاته على هذا القدر العظيم من الاهتمام، والعناية، والتحرير، مما استحق معه أن يطلق عليه شيخ الإسلام فى كتب المتأخرين فلا يحمل إلا عليه.

وأين ذلك أيضًا من نهاية المحتاج للرملى التى قرئت على مؤلفها فى أربعمائة عالم فنقدوها وصححوها، فبلغت حد التواتر كما قال السقاف فى الفوائد المكية.

ثم تأتى بعد ذلك الحواشى والتقريرات – وما أكثر ذاموها ومنتقصوها – على الكتب المتداولة لتضيف إليها مزيدًا من الإتقان والتحرير والدقة، فأين نحن من ذلك.

إذا كان لى أن ألخص الحالة الراهنة: فهى الكسل، والتوانى، وربما أيضًا الجرى وراء اتساع أسباب الرزق، فإن أستاذ الجامعة قد هيئت له الفرصة الحقيقية للتفرغ العلمى، ووجد تحت يديه من الطلبة ما يسمح بالحركة العلمية، دون مناوشات رجال الأمن، الذين ينظرون لأى حركة علمية خارج أسوار الجامعات بعين القلق، وتوفر له من أسباب الرزق ما يكفل له حياة معتدلة لو أراد أن يتفرغ لما هو مخصص وظيفيًّا له، ويأخذ راتبه عليه – دعنا من أن نقول من قبل الله تعالى، وبحكم الشرع الذى يحمله، وتعين كفرض عين عليه.

المبحث الثاني

فقه الواقع ومشكلات التصنيف فى العلوم الإسلامية

يؤثر الواقع بثقله على التصنيف بشكل مباشر وغير مباشر، وسواء فى ذلك خطط التصنيف، أو المسائل العلمية ذاتها لبعض العلوم.

وأميز بصدد فقه الواقع بين مستويين منه : فقه واقع عام، وفقه واقع خاص، أو فقه واقع كلى، وفقه واقع جزئى.

وبينما يكثر الكلام عن الأول، يقل أو يندر الكلام عن الثانى، وربما بدا ذلك من طبائع الأمور لجدة الموضوع.

وفى الحقيقة فإن فقه الواقع الجزئى أو الخاص يتمتع بقدر كبير من الأهمية، سواء فى آثاره على موروثاتنا الثقافية وخاصة الفقهية منها، أم فى آثاره على الحاضر أو المستقبل.

المطلب الأول

فقه الواقع العام، وأثره فى حركة التصنيف

رشح الباحث للمشاركة فى تحرير الموسوعة الفقهية المشهورة بموسوعة عبد الناصر، وسعد بالترشيح، وسارع بالذهاب إلى مقر الموسوعة، لاختيار بعض المواد لتحريرها، ليفاجأ بأنهم بعد فى بدايات حرف التاء، وبالفعل اخترت مادتى التسليم والتسلم، لكنى خرجت مهمومًا للأمر، حيث تجاوز الواقع هذه الموسوعة، التى كانت مناسبة حقا لحقبة الستينات حين بدأ صدورها والسبعينات من القرن العشرين، حيث كان ينبغى أن تنتهى بالكامل، أما ونحن فى أواخر التسعينات، فنحن بحق بحاجة إلى قرار شجاع إما بدعمها بميزانية ضخمة لإنجازها فى عامين أو ثلاثة، حتى لا يكون ما سبق هباء، وإما قرار أشجع بإيقاف العمل تمامًا، والاكتفاء بإصدار ما تم تحريره. شعرت بالعبث ومن ثم انصرف العزم عن المشاركة، فهناك على وشك  الصدور موسوعة فقهية ضخمة على الحاسوب(1) تضم عشرات الكتب الفقهية فى كافة المذاهب، توفر لك سرعة الاستدعاء مع الاطلاع على النص الأصلى، دون تدخل فى الصياغة.

وفى تصورى أن عملاً هامًّا كهذا العمل (الموسوعة الفقهية على الحاسوب)، وفى ظل هذا الواقع الزخم بمشكلاته وتحدياته، وأيضًا فى ظل هذا الوضع الذى تعيشه أمتنا لا ينبغى لهذا العمل  أن يخرج غافلاً عن ذلك كله، أو متغافلاً عنه لا بد أن يكون ورائه فلسفة عميقة تواجه وتعالج وترقى وتبنى، وألا يقتصر أبدًا على مجرد النقل والتبسيط والانتقاء، ونحوه من الأهداف التى وإن كانت جميلة ومطلوبة فإنها قاصرة عن توفية واجب الوقت حقه.

إننا نعيش اليوم فى عالم معاكس، فى نفس الوقت الذى نعيش تناقضات هائلة داخل أنفسنا وداخل مجتمعاتنا المحلية، ووسط تراكم هائل من التحديات والمشكلات، تأتى من أبعاد الزمان جميعها الماضى والحاضر والمستقبل.

وينبغى لحركة التصنيف الإسلامية أن تكون مشروعًا حضاريًّا حقيقيًّا يساعد فى مواجهة ذلك جميعه.

فحركة التصنيف الإسلامية ينبغى لها أن تقوم بواجب الوقت، وأن تقدم إطارًا جديدًا للعمل الإسلامى الجاد بديلاً للأطر التى استهلكت رغم جدتها.

1- فمن المفروض لهذه الحركة أن تواجه مشكلات المسلمين.

2- كما أنها ستواجه العقلية الإسلامية الراهنة  بمشكلاتها وتناقضاتها بحكم أنها تسيطر على جمهور الخطاب، ويفترض فى حركة التصنيف الإسلامية أن تقوم بتقويمها ومعالجة مشكلاتها، محاولة الوصول بها إلى ما ينبغى أن تكون عليه.

3- كما أنه  يفترض لها أن تصل إلى أوسع قاعدة ممكنة من القراء، ولا يخفى حالة الأمة الإسلامية اليوم، والذى يتفاوت جمهور القراء بها من أقصى درجات السلفية تشددًا إلى أقصى درجات العلمانية تحررًا وانفلاتًا.

وليس ينبغى لحركة التصنيف الإسلامية أن تقتصر على جمهور الوسط، ومن هنا فلا بد  أن تقف على أرض صلبة فى مواجهة أزمة الخطاب الدينى.

4- ومن ناحية أخرى فإن الكتابة الفقهية المعاصرة لديها العديد من المشكلات، كما تواجهها العديد من التحديات التى تطرح عليها إشكاليات كثيرة، ولا بد لحركة التصنيف الإسلامية أن تكون على وعى بها محاولة تجاوزها.

أولاً- حركة التصنيف الإسلامية ومشكلات المسلمين :

لا بد للعمل أن يناسب العصر الحاضر، ولكن فى نفس الوقت ينبغى أن تعمل المصنفات على مستقبل أحسن للثقافة والعقلية الإسلامية العامة.

فمن الطبيعى أن تعمل حركة التصنيف الإسلامية على معالجة مشكلات المسلمين الفقهية الراهنة، وهذا بُعد واقعى يمليه الحاضر المعيش، ولكن فى نفس الوقت لا بد لها أن تأخذ بالقارئ إلى الأمام نحو وعى إسلامى حقيقى، وهذا ما يمليه المستقبل المستشرَف.

فدائما يأتى الفقه الإسلامى متأخرًا عن الواقع يلهث وراءه مستميتًا فى المواجهة، ليجد المسلمين قد ابتعدوا أكثر وأكثر، وليدخل فى دائرة الترخيص والتسهيل وارتكاب أخف الضررين لدفع أعظمهما، لنظل أبدًا واقعين تحت الضرر – خف أو عظم – وأحكام الضرورة.

فلا بد أن يأخذ الفقه الإسلامى المبادرة، على الأقل بتربية أجيال من المسلمين قادرين على الصمود ومواجهة الذوبان.

لكن ليست مشكلات المسلمين منحصرة فقط فى مشكلات الواقع أو تحديات المستقبل، بل ما زالت هناك الكثير من آصار الماضى تلقى بظلالها الكثيفة، إننا لم نبرأ بعد – على سبيل المثال – من آثار صراع الحنابلة والأشاعرة، والذى بدأ فى القرن الرابع الهجرى وامتد إلى يومنا هذا مرورًا بابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، حيث وصل إلى أقصى مداه اليوم – على عكس ما كان ينبغى له – ونجح فى استقطاب دول وجامعات ومراكز أبحاث، وبدلاً من أن نتجاوز هذه الصراعات التاريخية ونعالجها نقوم بتكريسها، وبعد أن كانت ميتة فى بطون الكتب أحييناها وحولناها إلى واقع معيش !!!

كما أن العديد من أطروحات المستقبل تطل علينا بوجهها إنْ حسنًا وإنْ قبيحًا.

ثانيًا- حركة التصنيف الإسلامية والعقلية الإسلامية الراهنة :

على حركة التصنيف الإسلامية أن تأخذ نصيبها من ذلك بالاهتمام بتربية العقلية الإسلامية الصحيحة، فلا بد من الأخذ فى الاعتبار خصائص العقلية الإسلامية المفترضة ، ومحاولة بثها، والوصول إليها، ومواجهة مشكلات العقلية الواقعية الراهنة، ومحاولة علاجها فى ثنايا العمل، فمثلاً من خصائص العقلية الإسلامية : الغيبية (الإيمان بالغيب)، ولكن من مشكلات العقلية الواقعية : الخرافية (الإيمان بالخرافة من منطلق يتجاوز وجوب الإيمان بالغيب).

ومثلاً من خصائص العقلية الإسلامية: التكامل بين دوائر الإيمان والإحسان والإسلام، فى حين أن أحد أعظم مشكلاتنا المزمنة هو الفصل بين هذه الدوائر، سواء على مستوى الدرس الفقهى أو على مستوى التطبيق الحياتى.

فيقترح تخطى الفصل بين دوائر الإسلام والإحسان والإيمان، والذى حوَّل الفقه الإسلامى أو العقيدة الإسلامية إلى مادة جافة، فمثلاً عند تقديم أحكام الصلاة وشروطها… لا بد من تقديم مقاصد الصلاة الروحية، وكيف يكتسب المصلى الخشوع فيها، والمعانى الروحية التى ينبغى أن يراعيها فى صلاته.

كما يقترح أن يشمل المشروع الأخلاق الإسلامية والعقيدة وأن يكون ذلك فى كل متكامل غير منفصل، متجاوزين فى ذلك خطة التصنيف التقليدية.

وكمثال آخر فإنه من إشكالات هذا الفصل التفريق بين ما يصح فقهًا وما يصح ديانة، فالذى يتهرب من الزكاة بشتى الحيل الفقهية كالبيع الصورى، وقطع الحول… فإن فعله صحيح فقهًا، لكنه حرام ديانة.

ومن المشكلات الخطيرة للعقلية الإسلامية الواقعية : فقدان القدرة على الإبداع والتفكير الحر، ومن الممكن مواجهة ومعالجة هذا العيب الخطير أثناء العمل، وأول خطوات المواجهة البعد عن الأسلوب التقريرى المحض فى تقرير المسائل  والأحكام، ومساعدة القارئ على فهم لماذا كان الحكم هكذا، بل ومساعدته على الوصول إلى الحكم بنفسه، وبدهى أنه لا يراد أن نصل بالقارئ إلى مرتبة الاجتهاد، ولكن الهدف إطلاق العقلية الإسلامية العامة من حالة الخمود والجبن والخوف من التفكير والإبداع.

ومن هنا فلا بد من مواجهة العقلية الإسلامية الواقعية، ومحاولة الاقتراب بها مما ينبغى أن تكون عليه العقلية الإسلامية الواعية.

ثالثًا- حركة التصنيف الإسلامى وإشكالات الخطاب الدينى :

لا بد من مواجهة إشكالات الخطاب الدينى المعاصر، فمن المفترض أن يستطيع المشروع جذب القارئ السلفى – ولو متشددا – إلى جانب القارئ الصوفى، كما يستطيع أن يجذب القارئ العلمانى وليس فقط أن يواجهه، بالإضافة إلى مساحة من القراء ربما لا تعنيها الفكرة الدينية ولا تشغلها لا نفيًا، ولا إثباتًا، ومن هنا تأتى المهمة الصعبة فى بعث الفكرة الدينية فى نفوس هذه المساحة.

كما ينبغى للعمل أن يواجه بوعى مشكلات التيارات الإسلامية المختلفة، وأطروحات التيارات الرادكالية المتشددة.

رابعًا – حركة التصنيف الإسلامى وإشكالات الكتابة الفقهية :

نستطيع فى نقاط سريعة إلقاء الضوء على بعض هذه الإشكالات :

1)  المذهبية واللامذهبية.

2)  الأسلوب المعاصر البسيط، وإشكال إفساد المعنى، وتكريس البعد عن التراث.

3)  الأسلوب القديم الدقيق، وصعوبة الفهم.

4)  أسلوب المتون وحاجته إلى وسائط للفهم (شروح – حواشى – تقريرات)، فى مقابل الأسلوب النثرى أو الموضوعى ومشاكل عدم ضبط المسائل وحصرها بما يسهل استيعابها، ويساعد على حفظها.

5)  اللغة الاصطلاحية بين تجاوزها بما يعنى الانقطاع عن التراث، والانقطاع عن الفلسفة الدقيقة التى قامت عليها، أو إبقائها بما يعنى الانقطاع عن القارئ غير المتخصص.

6)  الأسلوب النقلى التقريرى، فرغم أن الفقه علم عقلى نقلى مبنى على الاجتهاد، إلا أن هذا الأسلوب فى الكتابة أفقد الفقه روحه الأصيلة.

7)  تعدد الآراء دون التنبيه على سر التعدد مما يثير الحيرة لدى مساحة من القراء بينما يثير الشك لدى مساحة أخرى. وليست القضية عرض الراجح اقتصارًا عليه أو ذكر الجميع مع التنبيه على الراجح، فإن هذا لن يرفع الخلاف سلفًا، ولن يمنعه خلفًا، وسيبقى دائمًا من يرجح هذا القول ومن يرجح هذا الآخر، فلن يزيل عرض الراجح أو الاقتصار عليه مذاهب استقرت قرونًا وقرونًا ، ولها أتباعها وأدبياتها، وكانت وما زالت وراء الحضارة الإسلامية وأساسها الراسخ المتين، بل إن هذا ليس مطلوبًا قطعًا. ولكن ينبغى أن يعرض الكل فى إطار أنه نابع من الشريعة وتوضيح كيف نبع، فى محاولة للرقى بالحوار، وأدب الاختلاف عند المسلمين، والذى يعانى أزمة حالية مستعصية. ويُذكر فى هذا الصدد المحاولة المهمة للإمام الشعرانى فى الميزان الكبرى.

8)  تعدد دوائر الكتابة الفقهية وتقسيمها إلى عدة علوم مما أدى فى النهاية إلى الفصل بينها، فكُتِب أصول الفقه منفصلاً عن الفقه منفصلاً عن قواعد الفقه، مما أدى فى النهاية إلى وجود الأصولى غير الفقيه، ووجود الفقيه غير الأصولى، بل إن هذا قد يتحقق فى الشخص الواحد وهو صورة صارخة إلى مدى ما وصل إليه الانفصال بين العلوم، فنجد العالم بالأصول والفقه، ولكن كل فى مساحة مستقلة دون تشغيل للجميع فى إطار واحد، بل الأصول للدرس الأصولى، والفقه للدرس الفقهى. وإن كان هذا له ضرورته على المستوى الأكاديمى أو التخصصى، فإنه من جهة أخرى لا بد من إيجاد مساحة تلتقى فيها الدوائر الفقهية المتعددة بوضوح وسلاسة ويسر، مما يساعد على إعادة تشكيل العقلية الإسلامية الراهنة، وإحياء روح الإبداع والتفكير. لقد جربنا فصل الدوائر وجربنا نتائجها، فلنجرب تواصلها بل واتحادها.

خامسًا – مقترح بخطة التصنيف :

يقترح البدء بالآيات والأحاديث الواردة فى الباب مع التنبيه على درجة الصحة (مع القيام بعمل إحالات للأحاديث على مسرد خاص بها تخرج الأحاديث فيها تفصيليًّا)، ثم تذكر القواعد الفقهية المتعلقة بالباب لضبط وحصر مسائله. ثم تفريع مسائل الباب وأحكامه وصوره بناء على الأدلة المتقدمة ، مع بيان وجه التفريع ، وذكر القاعدة الأصولية التى فى ضوئها فُهم النص الشرعى واستنبط الحكم، (مع عمل مسرد، أو دليل مبسط للقواعد الأصولية يتم الإحالة عليه أثناء الحديث عن الأحكام).

إن هذا المقترح يندر أن نجد كتابة فقهية معاصرة تلتزم به بصورة كاملة ، ونستطيع أن نتلمس جذوره فى بعض كتابات المتقدمين كالمجموع للإمام النووى ، وكتابات شيخ الإسلام زكريا الفقهية .

ما مضى هو – فى تصورنا – جزء مما يمليه – أو ينبغى أن يمليه – فقه الواقع العام أو الكلى على حركة التصنيف فى العلوم الإسلامية، ننتقل بعده إلى الحديث عن فقه الواقع الجزئى أو الخاص، وأثره فى حركة التصنيف.

المطلب الثاني: فقه الواقع الجزئى وأثره فى حركة التصنيف :

هناك الآلاف من الفروع الفقهية التى فرعت واستنبطت بناء على الواقع الذى عاشه الفقيه المستنبط، ومع تغير ذلك الواقع لا بد أن تتغير تلك الفروع، وسنضرب عددًا من الأمثلة على ذلك.

ولكن الإشكال الذى لا بد من الوقوف عنده قبل ذكر الأمثلة : أن هذه الفروع أصبحت جزءًا من موروثنا الفقهى، ولا بد أن اختلاط المستويات عند البعض سيؤدى بهم إلى اعتبار تلك الفروع من الدين أو الشريعة، وأى محاولة لتغييرها، أو حذفها، هو تغيير فى الدين نفسه.

هذا جانب متوقع من ردود الأفعال، وهو الرفض التام للتغيير.

ومن جانب آخر فإنه مع التسليم بالتغيير فإن ذلك يحتاج إلى وعى فقهى كبير وممتد عبر الأبواب الفقهية؛ لأن الفروع الفقهية شبكة متصلة وممتدة حيث إن اختيار رأى ما فى باب ربما يترتب عليه اختيارات أخرى فى أبواب مختلفة، ومن هنا تأتى خطورة التغيير وصعوبته.

فإذا انتقلنا من ذلك إلى ضرب الأمثلة، فنجد مثلاً أن أذان الجمعة الثانى -وبعيدًا عن تشنجات التيارات السلفية- وكما هى الواقعة المشهورة فى عهد سيدنا عثمان إنما اقتضى زيادته اتساع العمران، وزيادة الناس، فكان لابد من إيجاد وسيلة لإبلاغ الناس بدخول وقت الصلاة.

وأرى أن المشكلة هنا مشكلة تقنية، فرضها الواقع : كيف يصل الأذان إلى الناس كافة مع الاتساع، والحل يأتى من خلال الوسائل التقنية المتاحة، وهو تعدد المؤذنين.

ومن هنا فلو كانت وسائل التقنية المتاحة وقت ذلك تمكن من تحقيق الهدف دون زيادة الأذان الثانى لكان بلا شك هو الحل الأمثل، وهذا هو الحال اليوم، مع وجود مكبرات الصوت، فلم تبق حاجة للأذان الثانى.

ولكن الآن وبعد أن أصبح الأذان الثانى شعيرة من الشعائر عند البعض، وبدعة من البدع السيئة التى ينبغى إنكارها عند البعض، كيف العمل ؟

وما العمل فى مئات الكتب الفقهية التى نتعلم من خلالها الفقه، والتى تنص على الآذان الثانى.

بل كيف يصنع من يرون أن للجمعة سنة قبلية كالظهر للأدلة الفقهية الكثيرة على ذلك، فمتى يصلونها إن لم يكن هناك وقت بين الأذانين تصلى فيه.

وكمثال ثان : منبر النبى (ص) ، اتخذ من ثلاث درجات لأن سقف المسجد كان لاطئًا (أى منخفضًا) ، بحيث لا يمكن الارتفاع بالمنبر أكثر من ذلك ، فمع انخفاض سقف المسجد ، وصغر مساحته بصفة عامة يصبح المنبر ذو الدرجات الثلاث كافيًا لأداء الغرض منه وهو رؤية الخطيب وإيصال صوته للحاضرين . فالدرجات الثلاث ليست مقصودة فى ذاتها ، بل هى أمر اتفاقى فرضه الواقع ، وليس سنة متبعة ، وإنما السنة المتبعة هو أن يكون المنبر بحيث يتيح رؤية الخطيب ، ويوصل صوته ، فمع اتساع المساجد كان لا بد للمنبر من أن تزداد عدد درجاته ليؤدى الغرض الذى من أجله شرع اتخاذه .

وفى إطار هذا التحليل يصبح المنبر ذو الدرجات الكثيرة محققًا للسنة ، وليس بدعة كما يصوره البعض .

فلا بد فى فقه الواقع الجزئى من الوعى بالفرق بين الأمر الاتفاقى الحقيقى ، وبين الأمر الشرعى ، وللإمام ابن السبكى كــلام دقيق عن هذا الفرق(1) .

وكمثال ثالث : الفروع الفقهية الكثيرة المرتبطة بالماء والطهارة، والتى استنبطت فى ظل استخدام الأوانى والأوعية، فماذا عن استعمال الماء من الصنبور، ما زالت الكتابات الفقهية منقطعة عنها، رغم مرور أكثر من مائة عام على دخول أنابيب الماء إلى المدن الكبرى بمصر وغيرها من البلاد الإسلامية.

من تلك الفروع مثلاً : نية الاغتراف عند وضع اليد فى الماء القليل، فهل هذه النية مطلوبة من المتوضئ من الصنبور ؟

وهل الماء الجارى من الصنبور قليل أم كثير ؟

وكيف نأتى بتثليث الغسل عند الوضوء، قديمًا كان الفرق بين المرة والأخرى بالغرف من الماء ثلاثًا، غرفة لكل مرة، واليوم كيف نعمل، ونحن لا نغترف من ماء الصنبور ؟

ما هى أحكام استعمال (حوض الاستحمام/البانيو) ؟

عند تطهير الثياب النجسة بالماء القليل لا بد من مراعاة ورود الماء على النجاسة، وليس بالعكس؛ لأنك إذا وضعت الثياب النجسة فى الماء القليل فسينجس الماء بمجرد الملاقاة، ولن يطهر الثوب، هذا حكم الغسيل اليدوى، فما حكم الغسيل بـ (الغسالات الكهربائية) بأجيالها المختلفة.

وهكذا فإن مراجعة الفروع الفقهية المنقولة تحتاج إلى جهد كبير، وأيضًا تناول الفروع الفقهية التى تمليها الحياة المعاصرة يحتاج إلى جهد آخر، فأين نحن من كل ذلك !

هذه مجرد أمثلة فى فصل واحد هو فصل أحكام المياه، فكيف ترى حجم المراجعات والإضافات التى يحتاجها هذا الفصل فضلاً عن غيره من الفصول والأبواب على مستوى الفقه كله.

وقد تعمدت أن تكون الأمثلة غير متجاوزة لفقه (المرحاض) على حسب تعبير بعض العلماء المعاصرين، لنرى أن القصور يشمل أيضًا ذلك الفقه.

ولا نقول: إن هذه الفروع لم يتم تقديم إجابة عنها، بل الكثير منها تم دراسته باستفاضة، وكتبت فيه أبحاث ودراسات، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، ولكن لنا وجهة نظر فى هذه الجهود التى حاولت تناول هذه الفروع:

1- أن هذه الجهود افتقدت حتى الآن للشمول، وربما كان هذا من طبيعة أن هذه النوازل والمستجدات لم تحدث مرة واحدة، وإنما تراكمت خلال القرنين الماضيين، وينبغى أن تنتقل هذه الجهود اليوم إلى مرحلة الشمول، بمعنى أن يتم : إما جمعها فى موسوعة واحدة على ترتيب الأبواب الفقهية، إما بصورة مفردة بمعنى أن تكون الموسوعة المقترحة خاصة بالمستجدات، أو تمزج بالفروع الفقهية المذكورة فى كتب الفقه بحيث يذكر الجميع معًا.

2- أن الاجتهادات المعاصرة غالبًا ما تصدر مطلقة، غير مقررة بناء على قواعد مذهب ما، ولا مفرعة بناء على فروعه، ولا هى مفرعة بناء على اختيارات واضحة لقائلها فى أبواب الفقه.

ورغم أن هذا قد يبدو مظهرًا من مظاهر التجديد والإحياء، فإنه فى الحقيقة يؤدى إلى تفكيك فقهى، واضطراب تشريعى، بحيث لا تكون هذه الفروع المحدثة مبنية ومطردة على قواعد مذهب، وأصوله. فلا يخفى أن فروع أى مذهب متسقة مع بعضها البعض، وعلى مستوى الأبواب الفقهية كلها، فمثلاً ما نختاره فى باب النجاسات من كتاب الطهارة ينبنى عليه مسائل فى المعاملات فى باب البيوع مثلاً فيما يصح بيعه وما لا يصح، وما يصح تملكه وتمليكه، وهبته، إلى آخر التصرفات…، وما يجوز التداوى به وما لا يجوز، وما يجوز أكله وما لا يجوز إلخ. والأمثلة على ذلك كثيرة.

ويعنى هذا أن التخريج الفقهى والاجتهاد ينبغى أن يكون متسقًا مع بقية فروع بابه، بل ومع سائر أبواب الفقه الأخرى ، وعلى وجه دقيق، حتى لا يؤدى ذلك إلى اضطراب تشريعى وفقهى، ربما نشهد العديد من ملامحه الآن.

ولا يعنى هذا بحال العودة إلى المذهبية الضيقة، ولا المناداة بإغلاق باب الاجتهاد، ولكنه لا يعنى إلا وضع الأمور فى نصابها.

طالما قرأنا وسمعنا : هذا ما تقتضيه القواعد العامة، وهذا ما يناسب المصلحة، وهذا هو الأرفق بالناس، وهذا ما تقتضيه أصول الشريعة… إلخ العبارات التى تفيد أن الاجتهاد فى هذه المسألة أو تلك انبنى على ذلك.

ولكن متى نسمع ما كان يقوله الفقهاء المتقدمون سواء المجتهد المطلق منهم عند الاستنباط من النص مباشرة أمرًا ونهيًا، عامًّا وخاصًّا، مطلقًا ومقيدًا، أو المجتهد المنتسب، فيقول : تفريعًا على الاختيار الفلانى، وقياسًا على قولهم، والتفريع كذا، والذى تقتضيه قواعد المذهب كذا….

فليس على المجتهد المعاصر فقط أن يلتزم بضوابط الاجتهاد تلك التى تذكر فى كتب الأصول، ولكن عليه أيضًا أن يكون اجتهاده الفقهى فى إطار النسيج الفروعى العام للفقه ككل، وإلا اضطرب به التخريج والاستنباط، لأن المسائل الفقهية بناء واحد، ونسيج واحد، فليس أمام المجتهد المعاصر إلا أن يبين اختياره فى كل الفقه، ويربط المستجدات بها، أو أن يخرجه ضمن نسيج فقهى موجود بالفعل فى إطار مذهب من المذاهب. أى عليه : إما أن يضع مذهبًا، أو أن ينتسب لمذهب.

حتى الاجتهاد الجزئى الذى يتمسك به بعضهم، فإنه لا يعنى إلا إتقان أحكام باب ما من أبواب الفقه، بحيث يحيط علمًا به أصولاً وفروعًا وأدلة، ثم يجتهد فى مسائله، ولا يعنى بحال تفتيت الاجتهاد وتفكيكه.

ولنسأل : هل يجوز بيع أكياس الدم، لاستخدامها فى العمليات الجراحية وغيرها من الاستخدامات الطبية؟

كيف يجيب المجيب على هذا السؤال دون أن يبنيه على مختاره فى باب الطهارة والنجاسة، ومختاره فى شروط المبيع… ومختاره فى مبحث الملكية والتمليك والتملك، ومختاره فى ولاية الإنسان على جسمه إلى غير ذلك من الأبواب الفقهية المرتبطة بالمسألة.

هل الربا يجرى فى النقود الورقية، غير المغطاة ذهبيًّا ؟

كيف يجيب المجيب عن ذلك دون أن يبنيه على مختاره فى ربا الذهب والفضة، وعلة التحريم فيهما، ومفهوم الثمنية، والنقدية، ومعيار القيمة… إلخ المباحث الفقهية المرتبطة بالمسألة.

ما هى شروط التعاقد عن طريق الفاكس، والتجارة الإلكترونية ؟

كيف يجيب المجيب على هذا السؤال دون أن يبنيه على مختاره من أن الكتابة كناية أو صريح، ومفهوم مجلس العقد، وشروطه، ومفهوم الإيجاب والقبول… إلخ.

فالمجتهد المعاصر عليه إما أن يختار ويبين اختياره، أو يبنى على المختار فى مذهب من المذاهب، ولا عليه فى ذلك، فكل من رسول الله ملتمس.

ولهذا نرجو ألا يكون الاجتهاد المعاصر مظهرًا من مظاهر العجز عن التخريج الفقهى السليم، الذى له قواعده، وإجراءاته، وفنياته، غير المكتوبة فى تراثنا بصورة كاملة.

فالمسجل مثلاً فى مذهبنا معشر الشافعية بصورة دقيقة : أصول الفقه – فروع المذهب واختلاف أصحابنا فيها نقلاً وترجيحًا وتدليلاً – أمثلة من تخريج الفروع على الأصول سجلتها تلك الكتب القليلة التى كتبت فى هذا الفن – القواعد الفقهية للمذهب والتى سجلتها أيضًا الكتب القليلة لهذا الفن.

ولكن : كيفية التخريج الفقهى، بحيث يظهر لنا لماذا انتهت طريقة الخراسانيين من الشافعية مثلاً إلى الحكم  فى مسألة ما بصورة مختلفة عما ذهبت إليه طريقة العراقيين.

ولماذا نطلق على فقيه من فقهائنا أنه صاحب وجه، ولا نطلق ذلك على فقيه آخر؟ وما هى سمات هذا الوجه وكيف تكون؟ وكيف يكون الفقيه صاحب وجه فى المذهب؟

هناك إذن العديد من المشكلات فى مواجهة التخريج الفقهى لهذه الفروع المستجدة، لعل أهمها هو غياب فَنِّ التخريج الفقهى وآلياته، فهذه مساحة غير مكتوبة فى فقهنا، وإنما كان ينتقل ذلك الفن من جيل إلى جيل بالتدريب والتلقى، فالعلم بالفقه المكتوب اليوم، مع العلم بأصول الفقه لا يكفيان لتخريج الفقيه المخرج على قواعد مذهبه، أو الفقيه المجتهد اجتهادًا مقيدًا أو مطلقًا، وذلك لغياب العديد من حلقات العملية الفقهية التى كانوا لا يسجلونها كتابيًّا، وأصبح علينا الآن أن نستكشفها.

ويلحق بالتخريج الفقهى من حيث عدم الكتابة إجراءات القياس الذى هو عدة المجتهد، والمسجل فى أصول الفقه إنما هو نظرية القياس : أركانه وشروطه، وأنواع العلة وطرقها… إلخ، والعلم بها لا يكفى للوصول للقياس الذى هو عدة الاجتهاد، وقد فقد القياسون منذ أمد حتى نقل محمود بن حمزة الحنفى مفتى الشام فى قواعده الفقهية المسماة بالفرائد البهية أنه قد فقد منذ الأربعمائة(1) .

وفى تصورى أنهم كانوا بعد الدراسة النظرية للقياس يتدربون على القياس بشكل عملى عن طريق التلقى ، بالإضافة إلى التدرب التطبيقى على بقية أبواب أصول الفقه ، وهذا هو المعنى المراد بقولهم فى التراجم: تخرج به أئمة ، وتفقه على فلان وتخرج به ، ونحو ذلك.

فإحدى إشكالات التصنيف المعاصر فى الفقه اليوم هو كتابة ما لم يكن يكتب، ولن يكون ذلك بالأمر السهل؛ لأنه يتطلب تحليلاً عميقًا للبنية الفقهية والأصولية لكل مذهب على حدة، على الأقل، وإلا فداخل كل مذهب من المذاهب الأربعة مدارس مختلفة، الخلط بينها غير محمود، فطريقة الخراسانيين من الشافعية غير العراقيين غير البصريين أصلاً وفرعًا ونقلاً، ومالكية المدينة غير مالكية العراق غير مالكية المغرب، ولا يخفى تعدد مدارس المذهب الحنفى ومن الجيل الأول له على يد الصاحبين أبى يوسف ومحمد بن الحسن، وغيرهما من أصحاب الإمام أبى حنيفة.

نستطيع أن نسترشد فى مجال التخريج الفقهى بجهود الزنجانى والعلائى والأسنوى وابن خطيب الدهشة فى مجال فن تخريج الفروع على الأصول، وإن كان مقصودهم هو ضرب المثال، والذى نحتاج إليه اليوم هو تحليل عميق وشامل لإجراءات العملية الفقهية، وعلى مستوى الفقه كله.

وربما يبدو للكاتب أن مفتاح الوصول إلى التخريج الفقهى وإجراءات القياس هو تحليل التدليل الفقهى الذى يذكره الفقهاء فى نصوصهم.

وهناك العديد من الكتب الفقهية التى تمتلئ بالتدليل الفقهى، فعندنا فى مذهب الشافعية نجد الوسيط للإمام الغزالى، والمهذب للشيخ أبى إسحاق، والشرح الكبير للإمام الرافعى، والروضة للإمام النووى.

فلا تجد فرعًا إلا وذكروا دليله وتعليله، ولا يذكرون خلافًا بين الأصحاب إلا وذكروا وجهه، والراجح ووجه ترجيحه.

ومن الممكن البدء بكتابى الغزالى والشيخ أبى إسحاق، خاصة وأن لهما مصنفات مشهورة ومتداولة فى الأصول، مما يسهل الوقوف على مختارهما الأصولى، والربط بينه وبين ترجيحهما الفقهى، بخلاف الإمامين الرافعى والنووى، فليس لهما مصنفات متداولة فى أصول الفقه.

ومن جهة أخرى فإن هذه الأمثلة التى ذكرناها للفروع الفقهية المعاصرة لا تضع أيدينا على مدى قصور الفقه المعاصر وحسب، بل تضع أيدينا أيضًا على مدى ارتفاع معدلات العلمنة – على حد تعبير أستاذنا المسيرى – فى سلوكنا اليومى، لأن المفروض من المسلم ألا يقدم على فعل حتى يسأل عن حكم الشرع فيه، ولكننا تعاملنا مع الحياة الحديثة بتلقائية ودون كبير توقف أو تساؤل، والقضية هنا أننا لم نسأل ما هو الصواب والخطأ، ولم نشغل أنفسنا بذلك، رغم أن أحد ثوابت المنهج الإسلامى هو السؤال عن الحكم قبل الإقدام على الفعل.

وللأسف فإن هذا الموقف ممتد إلى كافة جوانب الحياة الأخرى.

وعلى الخلاف من ذلك كتب الفقه المتقدمة، والتى لا تدع فعلاً أو سلوكًا للعفوية أو التلقائية، لأن الأصل فى المسلم أن يسأل عن كل أفعاله، فيجب أن يجد الإجابة.

أما اليوم فلا نحن نسأل، ولا الإجابة -إذا وجد السؤال – موجودة، ولكننا بحمد الله لا نكف عن إعلان : أن الشريعة صالحة لكل زمان، ومكان!

المطلب الثالث : وقفة مع مقررات علم الأصول:

طلبة العلم الشرعى اليوم أول ما يُدَرّس لهم بالأزهر الشريف فى علم أصول الفقه هو كتاب المنهاج للبيضاوى مع شرح نهاية السول للإسنوى، وذلك بالنسبة للمذاهب الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة، أما الحنفية فلهم منهج آخر.

ولا يخفى علو الكتاب، وما فى ابتداء الطلاب به من الصعوبة، ولا شك أن الطالب يحتاج قبل الخوض فى غمار هذه اللجة إلى مقدمات كثيرة، وإلى قراءة مبسطة لهذا العلم، حتى لا يندهش ذهنه من مباحث الكتاب.

ومع كون المنهاج وشرحه يمثل قمة مدرسة المحصول، التى هى أحد ثلاث مدارس سائدة اليوم فى علم الأصول على طريقة المتكلمين (مدرسة المحصول – مدرسة الآمدى – مدرسة جمع الجوامع) -: تصبح الكتب التى هى كالمقدمات لهذا العلم كالورقات وشروحها، واللمع غير ملائمة فى عباراتها واختياراتها لما استقرت عليه مدرسة المنهاج، مما سيؤول – إن ابتدأ الطالب بها – إلى تشتيت ذهنه بين العبارات والتعريفات والتقسيمات المختلفة، فإن الطالب مثلاً إذا بدأ بالورقات وحفظ تعريفاته ومسائله، ثم شرع بعد الترقى فى الطلب فى دراسة المنهاج، وجد نفسه أمام تعريفات وتقسيمات أخرى، وكأن علم الأصول قد تخطى فى تطوره كتاب الورقات ومباحثه.

ولهذا فالطالب يحتاج إلى كتاب يسير على خطة المنهاج وشرحه، ويجرى على المعتمَد والمستقِر، ويقدم إليه ابتداء ما لابد له أن يأخذه انتهاء، ولكن إجمالاً فى الابتداء، وتفصيلاً فى الانتهاء.

فالطالب بحاجة إلى كتاب يقدم له أولاً : مبادئ العلم ومسائله وتعريفاته، والراجح، أو المعتمد منه بدليله، مشيرًا إلى المذاهب دون الاستطراد إلى أدلتها، مصوغًا على المختار بعد المناقشات، مبنيًّا على المحرر من العبارات، معرضًا – فى هذه المرحلة الأولية – عما وراء هذا الاختيار والتحرير من الأسئلة والأجوبة والاعتراضات.

فإذا تمهد فى ذهن الطالب ذلك سهل عليه بعدها خوض غمار معضلات المتن وشرحه، وتهيأ لما فيه من المباحث الضافية، وتيسر عليه تناول أدلة المذاهب، وما دار حولها من الترجيح.

وقد كان لى شرف دراسة كتاب نهاية السول بالأزهر الشريف، وعلى يد علمائه سواء بالأزهر أو خارجه، كما شرفنى الله بالقيام على خدمته، حيث أتيح لى شرف المساعدة فى تحقيق نهاية السول، وتصحيح تجاربه الطباعية، فيسر الله تعالى لى الاتصال الوثيق بنصوص الكتاب قراءة  ومراجعة وتدقيقًا وتوثيقًا ومقارنة مع أصوله وخاصة : المحصول والحاصل والتحصيل.

وما كنت أعتقد أبدا أنه كان لى فهم ما فهمته من الكتاب (ولن أدعى أنى فهمت كل ما فيه) لولا طول معاناة وتشتت (أفاد فى آخر الأمر فى فهم شىء من نهاية السول) بين كتب المعاصرين فى الأصول بمميزاتها، ومآخذها، وبين شروح وحواشى الورقات المختلفة، حتى تكونت لدىّ ثمة خبرة بمسائل هذا العلم، ثم تطواف ببعض كتب الفن الأخرى.

فلما التحقت بالأزهر، ولما شاركت فى تحقيق الكتاب تيسر لى الأمر كثيرًا، ولكنى لا زلت أذكر أول محاضرة حضرتها فى الكتاب بأحد معاهد الدعاة الخاصة، ألقاها علينا أستاذ من الأزهر، وكنت وقتها طالبًا فى المرحلة الثانوية، وأصابنى اندهاش كبير لما سمعت، ولما اشتريت الكتاب ازدادت الدهشة والحيرة، فالحروف عربية، والكلمات عربية، ولكن ما المراد بها، تمر الصفحات والصفحات دون أن أعى شيئًا.

لا يغيب عنى هذا بعد مرور السنين، وربما تكرر هذا الموقف أمامى عندما أستعين ببعض من لم يتصل بهذا العلم ليساعدنى فى مقابلة بعض نصوص أصولية، أشعر بمعاناته، وأشعر بيأسه من الفهم، أهون عليه ما استطعت، ولكن يذهب عنى وقد ملأنى مزيدًا من الإحساس بالأزمة.

ربما قدمت الكتب المعاصرة جزءًا من الحل، حيث يمكن أن يفهم القارئ الكثير من مسائل العلم، لكنها عامة لم تعطه خبرة كاملة للتعامل مع المصادر الأصولية الأصيلة.

تقدم أن المنهاج وشرحه يمثل قمة مدرسة المحصول، التى هى أحد ثلاث مدارس سائدة اليوم فى علم الأصول، أما المدرستان الأخريان : مدرسة المختصر (مختصر ابن الحاجب)، وكتبها: منتهى السول والإحكام للآمدى، ومختصرى ابن الحاجب الكبير والصغير، وشروح المختصر الصغير. وهذه المدرسة بحاجة أيضًا إلى كتاب كالمقدمة لها، يمهد طريقتها.

ومدرسة جمع الجوامع بشروحه وحواشيه، وقد قام شيخ الإسلام زكريا بعبء خدمتها بكتاب لب الأصول وشرحه غاية الوصول، وقد طبع قديمًا بمصطفى الحلبى، وهو بحاجة إلى إعادة طبع بطريقة علمية تبرز الكتاب ومسائله.

أما المنهاج للبيضاوى فهو من مدرسة المحصول للإمام، والذى يمثل المحصول قمتها، ثم تتسلسل كتب المدرسة : شروح المحصول – الحاصل – التحصيل – التنقيح – شرح التنقيح – المنهاج ، ولتنتهى بنهاية السول، وشروح المنهاج.

وتحتاج هذه المدارس جميعًا إلى خدمات شاقة، ومجهودات كبيرة لخدمتها، وإبراز خصائصها، ثم تشغيلها، والاستفادة منها فى مشروع التجديد الفقهى والأصولى، حتى تكون الأطروحات الجديدة حلقة من حلقات البناء، لا نقضًا، ولا عودة للوراء.

المبحث الثالث

وقفة مع أصول العلوم، ودعوة إلى تأسيس علوم جديدة :

فيما عدا علم الفقه وعلم الحديث ، والذى سجلت أصولهما بدقة وكتبت فيه آلاف الكتب ، وتعددت فيهما المدارس والمشارب والرموز ، فإن بقية علومنا الإسلامية ما زال علم أصولها يحبو أو لم يولد بعد .

فما زال علم أصول التفسير بحاجة إلى جهود ضخمة تتابع جهود الزركشى والسيوطى والقاسمى وغيرهم ، تلك الجهود التى بذلت فى محاولة وضع علم لأصول التفسير يكون له كأصول الفقه بالنسبة للفقه ، ولكن علم أصول التفسير لم يصل بعد إلى ذلك النضج الذى وصل له علم أصول الفقه .

وكذلك الحال بالنسبة لعلم النحو مثلاً ، فنجد الجلال السيوطى فى كتابه الاقتراح الذى أصّل به لعلم النحو .

وكما قامت العديد من الدراسات حول أصول علم النحو ، شارك الكاتب فيها ببحث عن قواعد الترجيح عند ابن هشام الأنصارى ، حاول فيه إبراز أسس الترجيح فى الخلاف النحوى عند ابن هشام ، والذى من خلاله تبين أن هناك العديد من الأصول اللغوية والعقلية التى استند إليها ابن هشام فى الترجيح النحوى .

من ذلك – وعلى سبيل المثال – استصحاب قاعدة أخرى من نفس الباب أو من باب آخر تكون مسلمة عند الجميع للترجيح بها فى المسألة المعنية ، كاستصحاب علامات الشىء لمعرفة أفراده ، واستصحاب قاعدة : الضمير لا يعود إلا على الأسماء ، واستصحاب قاعدة : المضاف إليه لا يعمل فى المضاف ، واستصحاب قاعدة أن الموصوف أعرف من الصفة ، إلى غير ذلك من القواعد النحوية التى استصحبها ابن هشام للترجيح بها فى مسائل أخرى .

كما اتخذ ابن هشام العديد من القواعد العقلية أصولاً للترجيح بها كقاعدة تقديم الأصل على الفرع ، واستصحاب الأصل ، وإبطال الاحتمالات إلا واحدًا ، وجزء الشىء لا يعمل فيه ، وعدم مطابقة الدليل للمطلوب ، ورد المذهب ببطلان لوازمه، والترجيح بعدم مخالفة الواقع ، والحكم على المجهول لا يفيد …، إلى غير ذلك من الأصول والقواعد التى استخدمها ابن هشام فى الترجيح والتدليل ، والتى ينبغى أن تستقرأ عنده وعند غيره من مجتهدى النحاة ليتم وضع علم أصول النحو ، ليكون ضابطًا للاجتهاد النحوى.

ويبقى أن أمس العلوم حاجة إلى ذلك هو علم الكلام ، وقد سبق أن أشرنا إلى بعض المشكلات التى تواجه التصنيف فيه عند حديثنا عن الأنساق.

وأهم المشكلات التى تواجهه الآن هو عدم القدرة على مواجهة الفلسفات المعاصرة ، بنفس القدرة التى واجه بها المتكلمون قديمًا فلسفات عصورهم .

ولا شك أن جزءاً من المشكلة يكمن فى فقدان علم أصول (علم الكلام) الذى هو له كأصول الفقه للفقه ، فهذا علم بحاجة إلى تأسيس ، نتبع فيه خطوات الفقهاء فى طريقة تأسيسهم لأصول الفقه ، فنقوم باستقراء علم الكلام واستخراج الأصول والقواعد التى بنى عليه هذا العلم .

وسنجد فى النماذج العليا من مصنفات علم الكلام ككتب إمام الحرمين العديد من الأمثلة التى تصلح لبيان مقصودنا .

ومن ذلك أصل : (ما لا يخلو من الحوادث لا يسبقها ، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ضرورة) ، وينبنى عليه مسائل : منها حدوث العالم ؛ لأن أجرام العالم وأجسامها لا تخلو عن الأعراض الحادثة ، وما لا يخلو عن الحادث حادث(1) . ومنها حدوث الجواهر ، لأن الجواهر لا تخلو عن الأعراض ، والأعراض حادثة  ، فثبت أن الجواهر حادثة لهذا الأصل(2) .

ومن أصول علم الكلام أيضًا : (الحاصل لا يبتغى) ، ويبنى عليه أن العلم بالشىء مضاد للنظر فيه . وجهه أن النظر بحث عن العلم وابتغاء الوصول إليه ، وذلك يناقض العلم ، والحاصل لا يبتغى(3) . ونظيرها فى أصول الفقه : لا يطلب كائن ولا يقتضى حاصل(4) . ويترتب عليها فى باب الأمر – والأمر طلب واقتضاء – أن الكائن والحاصل لا يؤمر به .

ومن أصول علم الكلام : (التلازم لا يقتضى الإيجاد ولا الإيجاب ولا العلية) ، وينبنى عليه مسائل : منها أن العلم بالشىء لا يوجد الإرادة ولا يوجبها ولا تتولد عنه . لكن لا تتحقق إرادة الشىء من غير علم به . ومنها أن النظر يتضمن العلم بالمنظور فيه إذا تم النظر صحيحًا وكان باقيًا وانتفت الآفات بعده ؛ فيتيقن عقلاً ثبوت العلم بالمنظور فيه(1) .

ومن أصول علم الكلام : (القدم ينافى العدم) ، وينبنى عليه مسائل : منها أن ما ثبت له القدم استحال عليه العدم(2) . ومنها ثبوت حدوث الأعراض إذ نرى الأعراض المتضادة تتعاقب على محالها ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ، ونعلم حدوث السابق منها من حيث عدمت . إذ لو كانت قديمة لا ستحال عدمها ، لأن القدم ينافى العدم(3) .

ومن أصول علم الكلام : (كثرة الشىء لا تخرجه عن حقيقته) (4)، وينبنى عليه مسائل : منها أن كثرة الحوادث لا تخرجها عن حقيقتها ، وهو أن الحادث ما له أول ؛ فيكون للكل أول(5). ومنها أن الجواهر كلها متحيزة؛ لأن حقيقة الجوهر ما له حيز، فبالكثرة لا يخرج عن حقيقته فيكون الكل متحيزًا(6)  .

فهذه نماذج من أصول علم الكلام ، نستطيع من خلال استقرائها أن نضع أساسًا لهذا العلم نتمكن به من مواجهة التحديات العقيدية والفلسفية بصورة عميقة وقوية .

وكما أن هناك علم أصول الفقه على مذهب الشافعية والحنفية … وغيرهما من المذاهب فلا شك أننا سنحتاج إلى وضع أصول علم الكلام على طريقتى الأشعرية والماتريدية كأساس لعلم الكلام عند أهل السنة ، كما سنحتاج إلى وضع علم أصول (علم الكلام) مقارن كما هو الحال فى علم أصول الفقه .

المبحث الرابع

الشفاهيـة والكتابيــة والحاسوبية(1)

الشفاهية هى المقابل للكتابية، فالثقافة الشفاهية هى التى دارت فى بيئة بعيدة عن الكتابة، ولهذا فإن حفظ الكاتب ليس شفاهية خالصة لتصوره مكتوبَ محفوظاتِه فى خياله، وتلقيه كتابة ثم حفظه حفظا، بخلاف التلقى الشفاهى الذى يتم فى بيئة غير كتابية، وحفظ وضبط المتلقَى، دون تخيل كيفية كتابته، وربما يصح التمثيل له بتلقى الصحابة رضوان الله عليهم ممن لا يعرفون كتابة القرآن والعلم من النبى الأمى (ص) .

-ولهذا فالشفاهية أو الأمية لا تعنى الجهل، كما أن الكتابية لا تعنى العلم.

ومن البديهى أن الثقافة العربية فى نشأتها هى ثقافة شفاهية محضة، وعندما أتى الإسلام راعى هذه الشفاهية وأكد على شفاهية النبى الخاتم (ص) .

ومع هذا فقد آذن القرآن نفسه بالانتقال من الشفاهية إلى الكتابية حيث سمى (كتابًا) فى مواضع كثيرة.

ومع بدء انتشار الكتابة فقد ظل التأكيد على أصالة الشفاهية، وكأنها إحدى سمات العلوم الإسلامية.

بل ويبدو فى كثير من المواقف انتقاص الكتابية فى مقابل إعلاء الشفاهية: فمن ذلك موقف ذى الرمة(2) الذى كان يتحاشى أن يعرف عنه معرفته بالكتابة والخط حتى لا يسقط من أعين رواة العربية، وهناك العديد من مواقف حفاظ الحديث الأوائل التى تمجد الشفاهية، حتى وإن وجدت أصول كتابية لمحفوظ المحدث.

وفى هذا الإطار اعتبرت الشفاهية هى الحالة المثلى لحامل العلوم الشرعية، واعتبر أن عليه أن يكون شفاهيًّا خالصًا إذا أراد أن يصبح إمامًا (واحفظ فكل حافظ إمام، كما يقول الرحبى فى منظومة الفرائض الشهيرة).

بينما نجد بعض المواقف التى تنبهت إلى مزايا الكتابية (حفظ الكتاب وضبطه فى مقابل حفظ الصدر). يقول الإمام الشافعى (الرسالة فقرة 1184): (وكل حديث كتبته منقطعًا فقد سمعته متصلاً، أو مشهورًا عن من روى عنه، بنقل عامة أهل العلم يعرفونه عن عامة، ولكنى كرهت وضع حديث (يعنى كتابته فى مؤلفه) لا أتقنه حفظًا، وغاب عنى بعض كتبى، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرت خوف طول الكتاب، فأتيت ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصى العلم فى كل أمره).

فنجد هنا فى كلام الإمام الشافعى الشفاهية هى أساس التلقى العلمى، فى مقابل الكتابية كأساس للدقة التصنيفية.

إلا أن هذه المواقف لا تمثل تيارًا عامًّا داخل العلوم الشرعية. ومن هنا نجد أن المتون المصنفة فى العلوم الإسلامية الغرض منها هو تيسير الوصول إلى الشفاهية، ومحاولة التشبه بها.

ولقد كانت الميزة الكبرى للشفاهية هى القدرة على سرعة الاستدعاء، بينما كانت تقف الكتابية بل عصر الحاسب الآلى عاجزة فى هذا الصدد، وإن كانت لها ميزة الدقة المطلقة التى لا تستطيع الشفاهية وحدها أن تقوم بها.

وإذا طالعنا نماذج كثيرة مكتوبة فى تراثنا نجد أنها ألفت فى أجواء متشبعة بالشفاهيـة رغم أنها كتبت ابتداء مثلاً، (ولم تسجل خلال دروس ملقاة مثلاً)، ومن ذلك النموذج المشهور فى صياغة المباحث فى صورة حوار متخيل بين المؤلف وسائل يسأله، وهكذا يدور البحث بين سؤال وجواب، وقال وقلت، فى حوار حى ينقل القارئ من جمود النص المكتوب إلى حيوية النص الشفاهى المعيش، نجد ذلك مثلاً فى الرسالة للإمام الشافعى، والأم له، كما نجده فى كتابات الإمام المحاسبى، بالإضافة إلى الكثير من المصنفات التى ألفت أصلاً خلال بيئة شبه شفاهية كمدونة الإمام مالك، وكتب السؤالات، كسؤالات أحمد بن حنبل، وسؤالات يحيى بن معين، والجرح والتعديل لابن أبى حاتم.

ويمكن أن نطلق القول – دون أن يكون تعميمًا مرذولاً- بأن النموذج الحوارى يكاد أن يكون هو النموذج السائد فى المصنفات المبكرة، والتى تمثل مرحلة بدء شيوع الكتابية.

ومن دلائل شفاهية البيئة الثقافية التى أنتجت فيها العلوم الإسلامية فى القرنين الأوليين أنها كثيرًا ما تخلو من العناوين الرئيسية، حيث تعد أنظمة العناوين نظامًا كتابيًّا خالصًا، حيث يلجأ إليه النساخ ومالكوا النسخ بعد ذلك بقرون حين تمكنت الكتابية من النفوس فيقومون بإلحاق عناوين رئيسية بالكتاب، وهو ما نجده بصورة واضحة فى المخطوطات المتقدمة، كما نلاحظ اختلاف العناوين من نسخة لأخرى. وأشهر مثال على ذلك صحيح الإمام مسلم الذى خلاه الإمام مسلم من العناوين والتراجم، ثم أتى الإمام النووى بعده بقرون طويلة فشرحه ووضع له تراجمه/عناوينه التى بين أيدينا.

ولا شك أن اشتباك الشفاهية والكتابية كان أمرًا ضروريًّا، كما أن استقرار خصائص الكتابية كان بحاجة إلى مدد متطاولة لتستقر أعراف وخصائص الكتابية، وتبدو مظاهرها واضحة، ولهذا فإننا كلما تأخرنا زمنًا نجد تقسيمات المسائل أوضح، والحدود الفاصلة بين التقسيمات أبين، فالكتاب يندرج تحته الباب يندرج تحته الفصل فالمسألة، وهناك فرق بين الفرع، والتنبيه، والضابط، والقاعدة، إلى غير ذلك من العناوين الضابطة المساعدة للكتابى على  استدعاء المعلومة.

ولا شك أن التأثر بالكتابية يبدأ بشكل فردي أولاً، كما أن هناك حالات مبكرة جدًّا يظهر فيها هذا التأثر، وبصورة سابقة لزمانها جدًّا.

فبينما نجد الإمام البخارى فى صحيحه يتبع نظامًا دقيقًا للغاية فى تقسيم كتابه، وترجمة أبواب كتبه، بل إن المذكور فى ترجمة الإمام البخارى أنه قام أولاً بتحديد عناوين الكتب والأبواب ثم بعد ذلك بدأ يصنف تحتها الأحاديث النبوية الشريفة.

وهذه حالة نادرة للجمع بقوة بين الشفاهية فى أعلى نماذجها، وبين الكتابية فى أدق صورها بمقاييس وقتها، فالبخارى أحد كبار حفاظ الحديث، وهو فى الذروة العليا من الحفظ، مع السعة، والإتقان، والضبط، وما زالت إلى اليوم تراجم البخارى محل بحث وتأمل، وألفت حولها عدة مؤلفات ودراسات خاصة بها.

بينما نجد تلميذه الإمام مسلم يؤلف صحيحه حسب النمط الشائع المتشبع بالشفاهية، فيخرج صحيحه خاليًا من تراجم الأبواب، حتى يأتى الإمام النووى فى القرن السابع فيشرحه ويترجم لأبوابه، وهى التراجم الشائعة بين أيدينا اليوم فى النسخ المطبوعة.

بينما نجد الأمر أحسن حالاً عند تلميذ آخر للبخارى، وهو الترمذى حيث اعتنى نوعًا ما بتراجم أبواب سننه المشهورة، لكنه أبدًا لم تكن بإحكام صنعة شيخه البخارى فى صحيحه، ولسنا فى ذلك نوجه اللوم لمسلم والترمذى فى السير على ما هو شائع، وإنما نوجه الإعجاب للبخارى على قدرته على تقديم نموذج مبكر استشعر فيه تطورات المرحلة المقبلة حين تشيع الكتابية.

وهناك العديد من الإشارات فى دواوين الإسلام التى تميل إلى جانب الشفاهية أو إلى جانب الكتابية، أو تعدل بينهما، فمن ذلك:

ما يذكره الإمام برهان الإسلام الزرنوجى فى تعليم المتعلم (ص48ط الحلبى): وينبغى أن يكون طالب العلم مستفيدًا فى كل وقت حتى يحصل له الفضل، وطريق الاستفادة أن يكون معه فى كل وقت محبرة حتى يكتب ما يسمع من الفوائد، فقد قيل: من حَفَظَ فَرَّ، ومن كَتَبَ قَرَّ.

ومع ذلك لم يمنعه ذلك من تقديم عدة وصايا لتقوية الحفظ.

ونحن بأمس الحاجة إلى قدرة البخارى الاستشرافية – إن لم يكن أزيد منها لسرعة متغيرات العصر – كى نستطيع أن نوفر للتصنيف فى العلوم الإسلامية القدر الكافى من النضج والقدرة والقوة على المواجهة، ونخرج بها من حالة اللهث الدائم.

وبين مرحلة بدأ شيوع الكتابية وبين المرحلة المعيشة مرحلة توغل الكتابية، ونجاحها أخيرًا فى اكتساب ميزة الشفاهية (القدرة على سرعة الاستدعاء)، مع استمرار المحافظة على ميزتها الأصيلة الدقة: بين المرحلتين كانت محاولة الكتابية للتوغل شيئًا فشيئًا، وكان التغيير الدائم فى حركة التصنيف الإسلامى وتطوره.

وكانت سبيل الكتابية المتوغلة لتحصيل سرعة الاستدعاء التى تتمتع به الشفاهية هو ما لجأت إليه من طريقة المتون، التى تتيح لحافظها سرعة استدعاء المسائل فى الذهن، ولغرض الفتوى، أو القضاء، أو غيره من المجالات، وبينما يصب كثيرون جام غضبهم على المتون والشروح، يرى الكاتب أنه كان حلاًّ عبقريًّا فى إطار التقنيات المتاحة وقتها لإتاحة سرعة استدعاء المعلومات عند الحاجة، خاصة مع التوسع فى العلوم.

ورغم صعوبــــة هذا النمـــــــوذج (الاعتماد على حفظ المتون) الآن، فيراه الباحث متفوقًا فى كثير من الوجوه على الحاسب الآلى، وكمثال لبيان بعض وجوه هذا التفوق ، أذكر بعض شيوخنا(1)، والذى تعلم على الطريقة الأزهرية الرصينة، وقد شرفت بالعمل معه، فكان لا تعرض لنا مسألة فقهية، أو نحوية، أو منطقية… إلخ إلا وألقى علينا المسألة، وما يتعلق بها من المتن المعتمد سواء أكان منثورًا أو منظومًا، وفى سرعة تفوق إمكانيات البحث من خلال الموسوعات الإسلامية التى تعمل من خلال الحاسب الآلى حتى يومنا هذا.

وهذه القدرة التى يتمتع بها شيخنا كانت عاملاً حاسمًا فى سرعة إنجاز الأعمال المنوطة، وعدم تأجيل كثير من القضايا لحين البحث والمراجعة.

وهنا ملاحظة من الضرورى إثباتها وهى أن عملية سرعة الاستدعاء هذه التى يقوم بها شيخنا تتم من خلال منهجية ثابتة، ومشرب علمى واضح، وهو ما لا بد أن يكوِّنه أى باحث يريد استعمال موسوعات الحاسب الآلى، فإن ما تقدمه من سرعة استدعاء لا يقدم كل الحل بل بعضه فقط، ليبقى سؤال: وماذا أفعل بهذا الكم الهائل من المعلومات ؟

المطلب الأول: التصنيف فى العلوم الإسلامية، والحاسب الآلى:

واليوم ونحن نكاد نغادر مرحلة الكتابية إلى مرحلة جديدة نقف كمسلمين على أعتابها لا بد أن نعى لطبيعة المرحلة القادمة، وألا نكون واقعين فى أسر الانبهار بها دون أن ننتبه لما ينبغى أن نقوم به تجاهها، حتى نحسن تطوير عملية التصنيف فى علوم الشرع، وليس مجرد تغيير الوسائل دون أى تغيير حقيقى.

فإذا كانت الأدوات البحثية المساعدة كالفهارس المتنوعة والكشافات والمكانز…إلخ كانت إضافة حاسمة لصالح الكتابية، فإن مرحلة الحاسب هى تغيير جذرى فى مفهوم التصنيف لا بد أن يتبعه تطوير حقيقى يسهم فى تجديد العلوم الشرعية وإحيائها، وليس مجرد تغيير الوسائل من كتاب إلى أقراص ليزر، مع بقاء المادة العلمية نفسها مصاغة بنفس الأسلوب، دون تفهم حقيقى إلى أن التطوير الأداتى لا بد أن يصحبه تطوير حقيقى يساعد على النهضة العلمية، وليس العكس.

فلا بد من وعى ثقافى وفلسفى ومعرفى عميق – وليس فقط وعى تقنى – بطبيعة الموصلات الثقافية الحديثة، لأن صياغة العلوم الإسلامية باستخدامها فى ظل عدم الوعى بذلك أو العمل تحت اللاوعى – اللهم إلا الوعى التقنى – سيجعلنا أبدًا توابع ثقافية، دون خدمة حقيقية للعلوم الإسلامية تخرجها من جحر الجمود، ودون القدرة على الأخذ بزمام المبادرة الثقافية والمعرفية، مما يعنى أننا لم نتأهل بعد لاستلام القيادة الحضارية فى الدورة القادمة الوشيكة، وسيتأجل دورنا كمسلمين لدورة أخرى إن كان فى عمر الدنيا بقية.

ولا بد أن نعى أنه سيأتى وقت تتضاءل -إن لم تتوقف- الطباعة الورقية، ويزداد اعتمادنا على أقراص الليزر الأقل تكلفة، والأكثر سعة، مع الضآلة المتناهية فى الحجم، بالإضافة إلى ما تتمتع به من مميزات البحث السريع والاستقصاء.

المطلب الثاني : الموسوعات الإسلامية على الحاسـب – أين نحن الآن ؟:

بداية أؤكد على أن ظهور هذه الموسوعات على وضعها الحالى كان نتاج جهد ضخم لعدة جهات ومراكز على مدى عقدين من الزمان، وهذا الوقت ليس بالطويل، وكان صدور أى منها حلمًا عزيز المنال ترقبناه طويلاً.

من ثم فما بين أيدينا الآن إذا لم يكن يصدق عليه القول (ليس فى الإمكان أبدع مما كان)، فعلى الأقل يصدق عليه أنه معبر عن مرحلته ووقته، وأننا لم يكن لنا أن نفكر فيما بعده ما لم يكن بين أيدينا بالفعل شىء قابل للتطوير.

ولا شك أن كل موسوعة على حدة بحاجة إلى تقرير مفصل عن المميزات والعيوب، ولكن هناك خطوطًا عامة تشمل الجميع، وهو ما سنقتصر عليه هنا.

وما أسوقه هنا من ملاحظات إنما هو فى إطار محاولة وضع فلسفة جديدة لها ترقبًا لإصدار الجيل الثانى منها، ولا يعنى على الإطلاق أننا لم نفعل شيئًا، كما أن هذه الملاحظات هى أيضًا من قبيل النقد الذاتى حيث شارك الكاتب – ولله الحمد – فى تنفيذ بعضها.

والمرحلة التى ينبغى أن نخطط لها هي أن تخاطب هذه الموسوعات من لم يتعامل مع مصادرها فى صورة كتابية قط، وإنما تشكلت ثقافته من خلال الحاسب فقط، وهذه مرحلة ليست خيالية ولا بعيدة، بل قابلها الكاتب بنفسه عند تدريب بعض حديثى التخرج من أقسام الحديث على العمل من خلال الحاسب، فى نموذج سنعرض له بالتفصيل بعد قليل.

والموسوعات المتاحة إلى اليوم، والتى قامت على جمع نصوص كاملة من كتب التراث الإسلامى كبداية لتقديم المكتبة الإسلامية على أقراص الليزر تعتمد على تسهيل تقديم المعلومات، وبكثرة، ولا يمكن أن يتربى لدى مستخدمها أى منهج علمى، بل عليه أن يكتسب هذا المنهج من خارجها، أو من خلالها بالطريقة التقليدية، وهذا نقص خطير لأن تكوين المنهج العلمى لدى الباحث يحتاج إلى وقت طويل، لم تحاول الموسوعات فى صورتها الحالية تقريبه عليه.

وعلى سبيل المثال فإن الموسوعات الصادرة فى علم الحديث والتى تعين على تخريجه، وترجمة رواته،…، لن يستفيد من استخدامها من لا يعرف ابتداء قواعد الحديث، وتخريجه، وأصوله. فلماذا تفترض هذه الموسوعات ذلك ؟

ورغم احتواء العديد منها على النص الكامل لبعض كتب علم المصطلح، إلا أن هذا لا يعنى شيئًا كبيرًا فى تطوير عملية التحصيل، لأنها مجرد تحويل للنص من صورة الكتاب الورقى إلى صورة أخرى. ولا يخفى مدى الصعوبات التى يواجهها القارئون اليوم للتراث.

وهكذا الأمر فى الموسوعات الفقهية، التى لا بد على مستخدمها من أن يكون على الإلمام بكتب المذاهب، وترتيبها، ومعرفة المعتمد منها… إلى آخر الأدوات والقواعد التى ينبغى على الباحث فى الفقه أن يحصلها بالطريقة التقليدية.

وقد قام بإنشاء هذه الموسوعات كتابيون محافظون من ثم تعاملوا مع هذه الموسوعات على أنها كتب، فقاموا بوضع فهارس متنوعة لها تمامًا كالكتاب المطبوع، فهارس للأطراف وفهارس للأعلام وفهارس… إلخ، وكأن مستخدمها يستخدم كتابًا لا حاسبًا آليًّا.

بينما المفترض أن يتم تعميق هذا التحليل العلمى -الذى أوصلهم إلى تكوين هذه الفهارس- ثم تحويله إلى بينة تحتية / خلفية / غير مرئية، يتم من خلالها تكشيف المادة العلمية، ثم تكنيزها (عمل مكنز لها).

وعلى سبيل المثال: إذا أردت البحث عن (ذات الرقاع) – (ذات النطاقين)، من خلال الطريقة الكتابية المعتمدة على الفهارس يجب على أن أعرف من خارجٍ أن (ذات الرقاع) هى غزوة، فأبحث عنها فى فهرس الغزوات، وأنها ليست موضعًا مثلاً، وليست لقبًا لامرأة ما، وأن (ذات النطاقين) هو لقب لصحابية (أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما) فأبحث عنه فى فهرس الأعلام، وأنها ليست غزوة، ولا موضعًا…، وإذا لم أكن أعرف هذا فعلىّ البحث فى كافة الفهارس حتى أهتدى إلى موقعها فى أى الفهارس، أو علىّ استخدام خاصية البحث فى النص كله فى حالة استعمال الحاسب، مما سيأخذ وقتًا أطول فى استخراج النتائج ليأتى بكل مواضعها.

أما على الطريقة المقترحة فإن عند طلب البحث عن ذات الرقاع فالنتيجة الأولى المفترضة أن تظهر على الحاسوب أنها غزوة – ثم تحليل تكشيفى للمادة المتاحة عنها مع إمكانية الاطلاع على النص الأساسى لكل معلومة معطاة.

والجدير بالملاحظة أن الجهد العلمى المطلوب لتكوين فهارس جادة وعلمية لا يقل عن الجهد العلمى المطلوب فى التصور الآخر، ولكن يبقى الفارق بينهما فى الوجهة، فالفهارس المعتادة حل لاحتياجات مستخدم الكتاب المطبوع، بينما الأخرى تستغل إمكانيات الحاسب الآلى استغلالاً حقيقيًّا، وتتيح المعلومة لغير العلماء، بينما تبدو أغلب الموسوعات المصدرة حتى الآن وكأنها تخاطب العلماء وحسب، فلا هى تخاطب من ليس لديهم منهج، ولا تساعد على تكوينه، كما أنها لم تستطع أن تتجاوز صورة الكتاب المطبوع بصفة عامة. مما يعنى أن هذه الموسوعات تتيح المعلومات فى صورة جزر منفصلة / بطاقات، وليس فى إطار علاقات عموم/خصوص – أكبر/أصغر – إطلاق/ تقييد… إلخ صور العلاقات المختلفة.

مما يعنى أن هذه الموسوعات ما زالت فى مرحلة التابع لمرحلة الكتابية ولم تستقل بنفسها بعد، وهذا ربما كان من طبائع الأمور.

والذى أقصده من استقلالها أن تكون موجهة لباحثين لم يروا هذه المؤلفات ككتب مطبوعة قط، وإنما يتعاملون معها ولأول مرة من خلال أقراص الليزر، وهذا موقف معرفى جديد، وفى تجربة مررت بها عمل فيها تحت يدى مجموعة من خريجى قسم الحديث – كلية أصول الدين، تلقوا علوم الحديث النظرية فى الدراسة الجامعية، ولم يمارسوا فن التخريج إلا من خلال الحاسب الآلى.

بالنسبة لى كان تدريب فريق العمل على التخريج عن طريق الحاسب مختلفًا فى كثير من الوجوه عن تدريب من سيقوم بالتخريج من الكتب بالطريقة التقليدية.

ففى الطريقة التقليدية ينبغى أن نذكر للمتدرب مثلاً طرق التصنيف المختلفة: جوامع -مسانيد – معاجم – أطراف – مشيخات… إلخ حتى يستطيع التعامل مع الكتب المختلفة.

كما يجب ذكر طرق التخريج المختلفة: بالطرف – بالموضوع – بالصحابى…. إلى غير ذلك من أمور أصبحت فى الواقع العملى عن طريق الحاسب لا يتوقف عليها التخريج، وإنما أصبحت خلفيات علمية وعملية للباحث عن طريق الحاسب، تمامًا ككثير من قضايا المصطلح التى يقل أو يندر الاحتياج العملى لها، وإن كانت معرفتها تمثل الخلفية العلمية للباحث.

كما لاحظت بالنسبة لى أن هناك فرقًا بين معرفتى بالمصنف الذى تعاملت معه مسبقًا فى صورة كتاب ثم امتد التعامل معه من خلال الحاسب الآلى، وبين المصنف الذى لم أتعامل معه من قبل فى صورة كتاب، وكان بداية تعاملى معه من خلال الحاسب، فعند قيامى بالتخريج من خلال الحاسب كنت أحس بالفرق بين المصنف الذى أعرفه سلفًا، وأتصوره فى ذهنى تصورًا كاملاً من حيث الحجم وطريقة الطباعة والتجليد…، بخلاف الكتاب الذى لم يتح لى فرصة الاطلاع عليه فكنت كالمقطوع الصلة به، وأحس بعدم اكتمال معلوماتى عنه، وأحس من داخلى وكأن هناك قصورًا ما فى تخريجى منه طالما أننى لم أره، ولا شك أن هذا يمثل معوقًا ما. خاصة إذا كانت الموسوعة التى تعمل من خلالها هى من الموسوعات المصدرة بالأردن، والتى قام المسئولون عنها للأسف بحذف مقدمات المحققين، والتى تشمل على معلومات عن النص ومؤلفه ومنهجه… إلى آخره.

أما الباحثون الجدد الذين أقوم بتدريبهم فعدم رؤيتهم لهذه المصادر، جعلها كلها سواسية لديهم فى الإحساس بها، وتكوين معرفة عنها، وفى الانطلاق فى التخريج دون شعور بالقصور فى المعرفة والمقارنة بين ما سبق رؤيته وما لم تسبق.

ولكن نظرًا لسوء الإعداد فى الموسوعة التى كنا مضطرين للعمل من خلالها لاحتوائها على أكبر قدر من المصنفات بالنظر إلى الموسوعات الأخرى: فإن معرفتى المسبقة بالعديد من هذه المصنفات جعلنى أدرك الكثير من المشكلات الناتجة عن سوء الإعداد، فمثلاً يقع فى هذه الموسوعة الخلط بين نص الجامع الصغير للسيوطى ونص شرحه فيض القدير للمناوى وعدم التمييز بينهما، بحيث لا يستطيع التمييز بينهما إلا من رأى الجامع الصغير وحده، ورأى الشرح، وعرف كيف يسوق الشارح عبارة الأصل.

وهذا يعنى أن هذه الموسوعات غير مستقلة بنفسها، وأن تصور القائمين عليها لا يجاوز أنهم يقدمون شيئًا من الفهارس المتطورة فائقة السرعة.

كما تحتاج موسوعات الحديث مثلاً أن تعد بمداخل لغير المختص فى الحديث، كمداخل للمختصين فى العلوم الإنسانية والاجتماعية…، فالافتراض الذى قامت عليه أغلب الموسوعات أنها موجهة لأهل الاختصاص من حديث أو فقه….

وإذا كانت هذه الموسوعات لم تستطع أن تعطى أفضل ما يمكن أن يعطيه الحاسب لأهل الاختصاص، فهى أشد قصورًا لأهل الاختصاصات الأخرى، ولن أبالغ إذا قلت: إنها ربما ذات آثار مدمرة لهم، حيث سيفاجأ بكمّ هائل من المعلومات، التى ربما تكون متناقضة، والتى يفتقد إلى الأدوات الصحيحة لقرائتها والاستفادة منها، مما سيؤدى إلى شتات وربما تخبط وخطأ.

ويلاحظ بصورة عامة افتراض أغلب الموسوعات أن المستخدم على علم تفصيلى بالمصادر المدرجة فيها، أو يستطيع تحصيل العلم التفصيلى بها من خارجها، من ثم تم فى كثير من الأحيان حذف مقدمات المحققين، دون وضع بديل لها.

المطلب الثالث : موسوعات الحديث والغاية المنشودة:

وخلاصة ما سبق بخصوص موسوعات علم الحديث المتاحة حاليًا أنها تساعد وحسب على عزو الحديث، وبيان موضعه فى مصادر السنة، ولا شك أن فى ذلك توفيرًا كبيرًا للجهد والوقت.

لكنه فى نفس الوقت إهدار للاستفادة الحقيقية من الحاسب، إننا نستطيع مع تكوين قاعدة بيانات دقيقة وشاملة أن نضع برنامجًا يستطيع الحكم على السند تلقائيًّا، وأنا أعى تمامًا لشروط الحكم على السند من البحث فى تعيين الرواة، والحكم عليهم جرحًا وتعديلاً، والبحث فى شروط الاتصال بينهم، والبحث فى الشذوذ والعلل…، ومع هذا فإن كل ذلك رغم تعقيده فهو احتمالات محددة يمكن حصرها، وصياغتها فى برنامج يتمكن الحاسب من خلاله وباستخدام قاعدة البيانات من تعيين الراوى والبحث فى شيوخه وتلاميذه وتعيينهم، والبحث فى حال الجميع، ومدى الاتصال والانقطاع، ومدى توافق الرواية مع بقية روايات الحديث ، للحكم على مدى شذوذه وعدمه .

وإذا كانت غاية علوم الحديث رواية الحكم على الأسانيد قبولاً وردًّا، فينبغى أن تسعى موسوعات الحاسب فى الحديث الشريف إلى هذه الغاية سعيا حثيثًا، بحيث تستطيع الموسوعة الحكم على أى سند يعطى لها، وليس ذلك عن طريق كون السند والحكم عليه مدخل مسبقا على الموسوعة، ولكن عن طريق إنشائها لذلك الحكم باتباع نفس الخطوات التى يقوم بها المحدث لكى يصل للحكم على السند(1).

فليس الغرض حصر الأسانيد والكلام عليها إسنادًا إسنادًا وحشو الحاسب بكل ذلك بحيث إذا أدخلت أى إسناد يخرج لك مع الحكم المسبق عليه، بل الغرض إنشاء قاعدة بيانات، ووضع برنامج يشمل كل خطوات النظر فى الإسناد من خلال قاعدة البيانات.

والفرق بين الحالين أن الأسانيد لا يمكن حصرها، فإذا أدخلت إسنادًا لم يتم الحكم عليه مسبقًا فلن تجد نتيجة للبحث، بخلاف ما نقترحه فإنه فى حالة تكوين قاعدة بيانات سليمة، وصياغة برنامج دقيق فإنه سيؤدى ما سيقوم به المحدث دون مبالغة، ولن يعجز إلا فى حالة نقص قاعدة البيانات.

المطلب الرابع : تجاوز مرحلة الكتابية هو المستقبل والتخطيط له ضرورة:

لنا أن نتخيل باحثًا فى الدراسات العليا قام بتسجيل أطروحته للماجستير عن مرويات (الزهرى مثلاً أو ابن جريج أو سعيد بن المسيب) فى الكتب الستة مثلاً، أو معاجم الطبرانى…، دراسة وتحقيق، كم من الوقت سيتكلف لجمع هذه المرويات، أحد من أعرفهم فعل هذا بالفعل فى رسالته فاستغرق الجمع من الكتب الستة قرابة السنة، ثم أمضى سنة أخرى فى الدراسة والتحقيق.

لقد استغرقت الرسالة سنتين اعتمادًا على الكتابية، وفى الحقيقة لو أراد ذلك أحد الحفاظ المتقدمين فى القرن الثانى فى أوائل حركة التصنيف فكان سيستغرق سنين طويلة فى الرحلة لجمع أحاديث الراوى المعنى بدراسته ربما لا تقل عن عشرة سنين.

إذن فرغم أن الاعتماد على الكتابية استغرق سنتين إلا أنه يستغرق وقتًا أقل بكثير من مرحلة ما قبل الكتابية.

بينما لو تم عمل ذات الموضوع من خلال الحاسب فإن جمع مرويات الراوى مهما اتسعت وانتشرت لن يستغرق سوى دقائق معدودة ؛ ليبقى جهد الباحث موفورا للتحليل والبحث العلمى الحقيقى.

وكمثال آخر فقهى سبق وأشرت إليه أن الباحث لو أراد أن يكتب عن التسليم والتسلم فى الفقه فسيستغرق الأمر منه وقتًا طويلاً للجمع فقط، وقراءة ألوف الصفحات، بينما الأمر يحتاج إلى دقائق معدودة على الحاسب لتظهر له ألوف مؤلفة من النتائج يختار منها ما يناسبه.

وكتجربة واقعية سجل بعضهم رسالة عن موضوع فقهى وأصولى مبعثر فى ثنايا الكلام ولكنه ليس من المسائل المباشرة التى تستخرج من الفهارس الموضوعية بل تحتاج إلى استقراء دقيق، حتى يلتقط أى إشارة لموضوعه هنا وهناك، وعندما صدرت عدة موسوعات فى الفقه على الحاسب بحثت له بالكلمة المباشرة لموضوعه فإذا بنتائج البحث تتجاوز عشرين ألف موضعًا ، وتبدل الحال من قلة وصعوبة فى الحصول على المعلومات المناسبة، والحاجة إلى وقت طويل جدًّا، إلى كثرة هائلة فى المعلومات تخطت حجم الرسالة، وأصبح عليه اختيار الأهم والأكثر ملائمة.

هذان النموذجان يعنيان أنه لا بد أن تتطور خطط الرسائل العلمية والدراسات العليا لتستوعب المرحلة الحالية على الأقل، فضلاً عن أخذها بزمام المبادرة إلى تخطيط المستقبل.

فهل من المقبول أن يتم إجازة رسائل للماجستير أو الدكتوراه لا يستغرق إعدادها من خلال الحاسب وصياغتها وبلورتها شهرًا أو شهرين أو ثلاثة فى أقصى تقدير.

إن استيعاب المرحلة الحالية من الموسوعات ينبغى أن يؤدى إلى تغييرات جذرية فى أقسام الدراسات العليا بالكليات المعنية، وخاصة فى تخصصات الفقه والحديث والتفسير، وستلحق بها بقية العلوم الإسلامية عما قريب.

فهناك موضوعات أصبح من غير اللائق أن تسجل كأطروحات ماجستير ودكتوراه ويمكن أن يقتصر عليها كأبحاث ما قبل الماجستير، أو يتم تعميق هذه الموضوعات بصورة تليق بدرجتى الماجستير والدكتوراه، كما أن هناك موضوعات كانت بعيدة المنال أصبح من الممكن الآن تناولها فى الرسائل العلمية.

ولكن الأهم من كل ذلك أن يشارك طلبة الدراسات العليا فى إنشاء موسوعات الحاسب الآلى أو تطويرها،  بدلاً من ترك المجال كله للهيئات الخاصة التجارية أو الخيرية والتى تتفاوت إمكاناتها المالية، مما يؤثر بشكل كبير على المستوى العلمى للعمل.

إن هناك الكثير جدًّا من الأعمال العلمية الجادة التى تحتاجها عملية تكوين قاعدة بيانات للعلوم الإسلامية، يصعب على الهيئات الهادفة للربح أن تتولاها، وتضعف دونها الهيئات الخيرية، وينبغى أن نطور مفهوم أطروحات الدراسات العليا، حتى يمكن منح الدرجات العلمية عن مثل هذه الأعمال.

إن القراءة العلمية السليمة لمخطوط لم يطبع هو عمل علمى رصين، والتكشيف العلمى لنص كتاب هو عمل علمى شديد الصعوبة، ويحتاج إلى حرفية عالية، والتكنيز العلمى مرحلة تالية أصعب، كم من كتاب لدينا تم تكشيفه، لن يتجاوز ذلك المائة فى كل العلوم الإسلامية ؟! كم كتاب تم تكنيزه، ربما كانت الإجابة لا يوجد.

إن أعمال التكشيف والتكنيز يمثلان أحد أركان موسوعات الجيل الثانى الذى لا بد أن نسعى لإصداره.

لماذا لا يقوم أساتذة قسم الشريعة بالتعاون مع المتخصصين فى الحاسب الآلى فى وضع فلسفة عمل لتطوير موسوعة فقهية يقوم بتنفيذها طلبة الماجستير والدكتوراه، وهكذا فى بقية الأقسام، ليكون لدينا بعد عقدين أو ثلاثة عدة موسوعات رصينة لم تتكلف التكاليف الباهظة التى تتكلفها فى الهيئات الخاصة، والتى تمثل معوقًا دون انطلاقها لموسوعات أخرى، فإحدى الهيئات أصدرت موسوعة حديثية قيمة احتوت على تسعة كتب، استغرق إعدادها أكثر من عشرة سنين، من العمل المستمر، والنفقات الكثيرة، مما أدى فى النهاية لعدم قدرة هذه المؤسسة أو عدم استعدادها لإكمال الموسوعة بإضافة مزيد من الكتب إليها، بينما هذا الأمر لن يتكلف نفس التكلفة فى الدراسات العليا التى سيقوم الطالب على الأقل بإعدادها دون مقابل إلا الحصول على الدرجة العلمية.

ومن هنا يستطيع طلبة الدراسات العليا فى مرحلة الماجستير إكمال المرحلة الحالية التى وصلنا إليها، وهى حشد النصوص المحققة والمخدومة علميًّا، كما يستطيع الأساتذة بالتعاون مع طلبة الدكتوراه الأخذ بالمبادرة للدخول فى الجيل الثانى من الموسوعات بالتصنيف والتحليل والتشغيل الفعال، وليس مجرد الحشد.

لا بـــد أن نفعــــل ذلــك بدلاً من (الفانتازيا) العلمية التى تعانى منها أغلب الرسائل العلمية خاصة التى قامت على تحقيق نص تراثى، فنجد مقدمة طويلة عن حياة المؤلف وتاريخه وعصره… وكأن البحث فى التاريخ وليس فى الفقه أو الأصول أو الحديث…، فإذا دخلت إلى النص المحقق وجدت نصًّا محرفًا غير مقوم، مثقلاً بهوامش منقولة من كتب أخرى حول تراجم الأعلام وتخريج الأحاديث وتوثيق المعلومة من كتب العلم الأخرى بصورة غير دقيقة، وانظر على سبيل المثال إلى أغلب كتب أصول الفقه المحققة فى العشر سنين الأخيرة والتى هى فى الأصل أطروحات للماجستير والدكتوراه ستجدها كما ذكرنا دون مبالغة، وكأنهم ما توقعوا طبع رسائلهم ولا رسائل الآخرين، فلما طبع بعضها افتضح الكل، وما خفى كان أعظم.

إننا نعيش فى مأساة علمية، فقد تحولت – فى عملية تحقيق النص – الفروع (قسم الدراسة – ترجمة الأعلام – تخريج الأحاديث…) إلى أصول، ثم لم نحسنها، ولا أحسنا المقصود الأصلى من تقويم النص محل الدراسة.

لا بد فى مرحلة الحاسب من تغيير تصورنا لتحقيق التراث، كأطروحات للرسائل العلمية، وليكون العمل موسوعيًّا مشتركًا بين فريق من الباحثين فى شتى التخصصات، وكمثال يوضح ما نرمى إليه: تكون الأطروحة موسوعة حول نصوص متنوعة للفقه الشافعى مثلا فى القرن السابع، فيقوم طلبة قسم التاريخ بتناول الجانب التاريخى لهذه النصوص كافة، ويفرغوا لذلك تمامًا، ويقوم طلبة الفقه بتقويم النصوص ودراستها من الجانب الفقهى وحسب ويفرغوا لذلك، ويقوم طلبة الحديث بدراسة الأحاديث الواردة فى النصوص دراسة وافية، ليخرج لدينا: أولاً فريق لديه القدرة على العمل كفريق (وهو ما زلنا نعانى من فشل شديد فيه)، ولديه قدرة على التواصل السليم مع التخصصات الأخرى، بدلاً من التواصل الهزيل والصورى الذى يتم الآن.

وليخرج لدينا ثانيًا: متخصصون بحق فى علومهم، بدلاً من إهدار طاقته فيما لن يتخصص فيه، وعلى حساب تخصصه الأصلى.

ولتخرج لدينا ثالثًا: موسوعات متنوعة ورصينة على الحاسب الآلى تشكل قاعدة بيانات.

ومن جهة أخرى وكمشروع مواز: فإن أحد معوقات تحقيق التراث هو تكاليف الطباعة الباهظة، والتى تفوق بكثير أجور المحققين والمصححين، والتى تتراوح عادة بين 5% إلى 10% من سعر الغلاف، وإذا كان تاريخ طباعة الكتب الإسلامية يرجع تقريبًا إلى السبعينات من القــــرن الثالث عشـــر الهجــــرى (1270هـ) مما يعنى أنه مضت حوالى مائة وخمسين سنة على حركة النشر الإسلامى، فإن هذا يعنى أننا بحاجة إلى ثلاثة أمثالها تقريبًا حتى نفرغ من طباعة ما لدينا من تراث، بينما يقدم الحاسب الآلى حلاًّ جذريًّا لهذه المشكلة تختصر وقتا طويلاً جدًّا، فمن الممكن تقديم المخطوطات فى شكلها الخطى من خلال الماسح الضوئى، ودون تحقيق ليتاح على أقراص الليزر زهيدة الثمن ما لدينا من كنوز التراث، وما على الباحث إلا أن يتدرب على كيفية التعامل مع المخطوطات، ليستمد من المخطوطات مباشرة كما كان الأمر قبل الطباعة، وذلك كتيسير مؤقت للنصوص غير المنشورة ، أو التى نشرت نشرًا سيئًا.

ولا أدرى لماذا تتعامل الجهات المالكة للمخطوطات أو لصورها على أنها من الأسرار العليا، فتضع المعوقات تلو المعوقات للتصوير والاطلاع، لماذا لا نفتح باب التيسير والتسهيل على مصراعيه حتى نفرغ من خطوة تحقيق التراث فى أقرب وقت.

كما تستطيع الجامعات ومراكز الأبحـــــاث تبـادل الرســــائل الجامعية (الماجستير – الدكتوراه) فى الصورة التقليدية والتى ندعو إلى تجاوزها، والتى مع هذا أصبحت تكتب وتطبع بالفعل من خلال الحاسب الآلى، بتكلفة لا تكاد تذكر (تكلفة نسخ قرص ليزر يحتوى على مئات الرسائل العلمية أقل من عشرة جنيهات)، وماذا علينا لو ألزمنا كل باحث أن يقدم بالإضافة إلى عدد النسخ الورقية المصورة من الرسالة بتقديم نسخة على قرص ليزر، لتكوين مكتبة إلكترونية.

لقد صدر دليل للرسائل الجامعية المتعلقة بالعلوم الإسلامية، فبلغت حوالى ثلاثين ألفًا، الكثير منها تحقيق لنص تراثى، هذه الرسائل جميعًا يمكن وضعها على أقراص ليزر لا تتجاوز الخمسين، مما يعنى أننا فى حالة إهدار لما لدينا من طاقات.

تلخيص :

وختامًا وكتلخيص لما سبق :

1- فإن على حركة التصنيف فى العلوم الإسلامية المعاصرة أن لا تفوت على نفسها مميزات وخصائص كل الجهود التى بذلت خلال تاريخ الحضارة الإسلامية ، ولا تستنكف عن النظر بعين محايدة إلى خصائص كل مرحلة ، وتستفيد منها .

2- وفى سبيل ذلك فعلى حركة التصنيف أن تكون أكثر تواصلاً مع التراث ، وأن يكون هذا التواصل تواصلاً إيجابيًّا ، يدرك الصواب من الخطأ .

3- كما أن على قادة الفكر المعاصرين أن يسعوا على المستوى العملى – وليس النظرى – فقط إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتوجيه حركة التصنيف الإسلامية وجهتها المنشودة ، وخاصة بالسعى لتغيير لوائح الدراسات العليا لتسمح بمجال حركة أفضل لحركة تصنيف جادة مدركة للواقع بمشكلاته .

4- ومن جهة أخرى فإن على حركة التصنيف المعاصرة أن تنحى جانبًا المجادلات الفكرية المَرَضِيِّة ، وأن تسعى جادة إلى بناء حضارى إسلامى حقيقى.

5- وفى سبيل ذلك لا بد على حركة التصنيف من فقه الواقع ، والذى طرحت له هذه الورقة مفهومًا يدور حول تقسيمه إلى فقه واقع عام ، وفقه واقع جزئى ، حاولت الورقة أن تلقى الضوء على مدى تأثير هذين القسمين على حركة التصنيف ، وبينما لاقى فقه الواقع العام اهتمامًا فى الآونة الأخيرة ، فإن فقه الواقع الجزئى بحاجة إلى مزيد من الجهود المتكاملة .

6- كما لا بد على حركة التصنيف أن تدرك خصائص العقلية الإسلامية الراهنة بمشكلاتها لتواجهها ، كما على أن تدرك خصائص العقلية الإسلامية المنشودة والسليمة لتسعى إلى تشكيلها .

7- ورغم امتياز الفكر الإسلامى بأنه فكر منهجى ، فما زالت بعض المساحات المنهجية شاغرة ، فبينما نجح الفقهاء فى وضع منهج لفقههم تناولوه من خلال علم أصول الفقه ، وكذلك فعل علماء الحديث الشريف فى علم المصطلح ، فما زالت أكثر علومنا بحاجة إلى استقراء مناهجها ، ليصبح لها علم أصول يكون لها كأصول الفقه للفقه .

وبخصوص موسوعات الحاسب فعليها فى المرحلة الآتية أن تحقق ما يلى:

1- أن تستوعب ما تم طباعته ورقيًّا من مصنفات، ثم تنطلق إلى المخطوطات التى لم تنشر من قبل لتضيفها مباشرة إلى الحاسب، ودون المرور بالمرحلة الورقية التى تمثل إهدارا للقدرات المالية المتاحة لنشر التراث.

2- أن تتخطى الموسوعات مرحلة الخدمات العلمية بالفهارس التى هى أليق بالكتب، وأن تنطلق إلى خدمات حقيقية تستغل إمكانيات الحاسب الآلى.

3- أن تتخطى الموسوعات بعد ذلك حاجز الجمع والحشد للمصنفات السابقة، وتنتقل إلى مرحلة التصنيف المستقل.

4- أن تهتم بتيسير تحصيل المناهج بطريقة مبتكرة تقلل من وقت تحصيله بالطرق التقليدية.

5- أن توفر مداخل متنوعة لمتخصصين فى العلوم الاجتماعية والإنسانية وغيرها.

خاتمة:

ربما بدا أن شيئًا مما طرحناه بعيد المنال، وأن تحقيقه أقرب للخيال، ولكن مع ذلك نرى أن تحقيقه لا يجاوز أن يكون سد ثغرة، ورد فعل، ولا يخرجنا من إطار مستهلكى الحضارة، حيث لا يتجاوز كل ما طرحناه محاولة الإجابة على السؤال التقليدى: كيف نستفيد من التقنيات الحديثة ؟

ولكن هناك سؤال أهم يبدو أننا لا نفكر فى طرحه، وهو: كيف نوجه مستقبل هذه التقنيات، وكيف نخطط لهذا المستقبل. وهذا سؤال فكرى محض، يطرحه ويجيب عليه المفكرون والفلاسفة. وهناك سؤال آخر: وهو كيف نصنع هذا بأيدينا من الناحية الفنية والتقنية، ولا نعتمد على صناعة الآخر ؟ وهذا سؤال يشترك الجميع فى الإجابة عليه من المفكرين إلى المهندسين إلى رجال الصناعة.

وإذا كنا لا نملك إلا صناعات متخلفة، وتابعة، وغير مستقلة، ومستهْلِكة، ومستهْلَكة أيضًا، وغير قادرة على أخذ زمام المبادرة، أو الاستقلال بنفسها.

فهل نحن على المستوى الفكرى كذلك ؟

ينبغى علينا إن لم نملك القدرة الصناعية، أن نملك القدرة الفكرية على تخطيط مستقبلنا وإدارته وفرض احتياجاتنا على المصنعين ومصممى التكنولوجيا، والذين يبحثون عن الربح فى المقام الأول.

إننا ندعهم يصممون لنا كل شىء حتى المستقبل، ولا نقوم إلا بالاستهلاك.

إن الصناعة اليوم تقوم على خلق الحاجات، بعد أن تجاوزت مرحلة إشباعها، وذلك حتى تستطيع الصناعة أن تحتفظ بمعدلات النمو المطلوبة، وفى مجال الحاسبات أدى ذلك إلى دخول الحاسب الشخصى المرحلة العابرة للصناعات، بمعنى أنه تذوب فى جهاز الحاسب الشخصى الحدود بين صناعات الاتصالات والإعلام والمعلومات المختلفة، ليصبح عدة أجهزة فى واحد، أو جهازًا متعدد الاستعمالات. وهم من أجل ذلك يخلقون داخل المجتمع الحاجة إلى مثل ذلك.

وخلق الحاجات هو فعل قيمى محض ينبغى فى ظل النسق الإسلامى أن يخضع لمعاييرنا، وأن يسكن فى إطار منظومة: الضرورات – الحاجات – التحسينات.

إننا -فى مجال التصنيف الإسلامى – بحاجة ماسة إلى حرية تداول الصور الضوئية على الأقل للمخطوطات والمطبوعات التى تملأ أركان الدنيا شرقًا وغربًا، وبحاجة إلى معالج كلمات للغة العربية أكثر جدية مما هو مطروح الآن، يستطيع أن يتعامل مع النصوص الخطية بكافة أنواع الخطوط العربية القديمة، وليس فقط مع النصوص المطبوعة التى ما زالت تتعثر فى معالجته برامج المعالجة الحالية، وذلك وحده يحتاج إلى حاسب آلى له سعة تخزينية أكثر اتساعًا وله قدرة على العمليات أسرع حتى مما ينون طرحه فى خلال الخمس سنوات المقبلة، والذى يفوق عشرة أضعاف المتاح حاليًا.

نحتاج أخيرًا إلى أن نزيل الخوف من أنفسنا، وألا نخشى عند فتح باب حرية تداول النصوص من أوهام السرقات العلمية؛ لأنه مع حرية التداول ستتبدل خطط الرسائل العلمية فى مجال العلوم الإسلامية، وستصبح الخطط الحالية بادية التفاهة، وسيصبح من السهل جدًّا جمع المعلومات، ومن الصعب جدًّا -مع تكاثرها – تحليلها إلا لمن يمتلك الأداة والمنهج والقدرة على التفكير، بينما تعتمد الأعمال الأكاديمية اليوم فى غالبها على القدرة على الجمع وسعة الاطلاع وكثرة المراجع. أقول هذا وأنا مدرك تمامًا للحالة التى يعيش فيها أغلب باحثينا، من قلة ذات اليد، وعدم تيسر الكتب المطبوعة، فضلاً عن الحاسبات، والذى يؤدى إلى صعوبة الحصول على المعلومة، وبذل جمام النفس فى تحصيلها، مما يؤدى إلى تضخيم قيمة الحصول على المعلومات نظرًا للجهد المبذول فى ذلك، على حساب تحصيل المنهج، والقدرة على التحليل.

ومن ثم علينا أن نطور ابتداء من طرق التدريب على المناهج وكيفية تحصيلها، مع تطوير ما يحتاج إلى تطوير من هذه المناهج؛ لأن الذى يشكل الباحث هو المنهج، ومدى وعيه به، وقدرته على تطبيقه، وليس الوقوف على المعلومة، الذى سيصبح طوع بنانه، والله من وراء القصد.

المراجع

(1) نقصد بهذا العصر كتابات علماء الأزهر فى القرن الرابع عشر الهجرى، والتى ارتبطت أيضًا بالمتون المتداولة، وحرصت على الغايات المرجوة فى الشروح والحواشى، مع تسهيل العبارة، وتنسيق الطباعة بصورة توضح المقصود دون عناء. وتتمثل فى جهود تلك الطبقة من العلماء الذين تتلمذوا على الطبقات الأخيرة من العلماء أصحاب الحواشى كشيخ الإسلام إبراهيم الباجورى (ت 1277هـ)، والشمس الأنبابى (ت 1313هـ)، والشيخ محمد عليش (ت 1299هـ)، ومحمد نووى بن عمر الجاوى وغيرهم. ويأتى على رأس الطبقات التالية لهم: الشيخ مصطفى السبع تلميذ الباجورى، وأحمد بك الحسينى تلميذ الأنبابى (ت 1332هـ)،  والشيخ محمد بخيت المطيعى (ت 1354هـ)، والشيخ محمد محمود أبو قراعة، والشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى (ت 1355هـ)،  ومحمد شاكر (ت 1358هـ)، والشيخ سليمان العبد، والشيخ عبد الرحمن الجزيرى (ت 1360هـ)،  والشيخ عبد المتعال الصعيدى (ت 1377هـ)، وخاتمتهم الشيخ محيى الدين عبد الحميد (ت 1393هـ).

(1)   تناول فيه إمام الحرمين ترجيح مذهب الإمام الشافعى على غيره من المذاهب، وخاصة مذهب الإمام أبى حنيفة، وقد طبع الكتاب مرارًا.

(1) المقررات الأزهرية للعلوم التخصصية تنقسم إلى دراسة موضوعية يكتبها الأستاذ بنفسه، ودراسة نصية تعتمد على نصوص الكتاب التراثى المقرر أصالة، والكتاب النصى فى مثالنا هو نهاية السول للإسنوى شرح منهاج الوصول للبيضاوى.

(2) طبعة صبيح من شرح الإسنوى هى التى اعتمد عليها كما يظهر بالمقارنة.

(1) صدر بالفعل أكثر من موسوعة فقهية على الحاسب.

(1) انظر : الإبهاج شرح المنهاج ، باب النسخ ، مسألة الزيادة على النص ليست بنسخ ، 2 /284 ، ط الكليات الأزهرية .

(1) الفرائد البهية ، ص 66 .

(1) اللمع 77 .

(2) اللمع 80 .

(3) الإرشاد ص 5 .

(4) البرهان للإمام الحرمين  ، فقرة 187 .

(1) الإرشاد 67 .

(2) اللمع 79 .

(3) اللمع 79 .

(4) هذا الأصل  مستخرج وليس نصًّا .

(5) اللمع 80 .

(6) اللمع 80 .

(1) العنوان مستوحى من كتاب بعنوان الشفاهية والكتابية نشر فى سلسلة عالم المعرفة، وفى الحقيقة فإن هذا الكتاب هو الذى حفزنى على هذه الورقة، ورغم ضعف اتصال مؤلفه بالثقافة العربية، فإنه أفادنى كثيرًا، وكشف لى عن كثير من الإشكالات التى تقابل التصنيف فى العلوم الشرعية.

ولجدة الموضوع على الدرس العربى والإسلامى من حيث التطبيق على الثقافة الإسلامية فهو بحاجة إلى دراسات مستقلة تكشف عن خصائص كل من الشفاهية والكتابية فى العلوم الإسلامية، وأثرهما عليها، ومن ثم سأجدنى لغياب مثل هذه الدراسات وجدة الموضوع مضطرًا إلى كثرة التمثيل والاستشهاد على خلاف نهج الاختصار الذى نحاول التزامه، على أننى أضفت للعنوان مرحلة الحاسوبية .

(2) انظر فى ذلك: مقدمة تحقيق ديوانه، للدكتور عبد القدوس أبى صالح، ط مجمع اللغة العربية بدمشق.

(1) هو فضيلة العلامة شيخنا الأستاذ عبد الرزاق ناصر الشافعى أمد الله تعالى عمره ونفع به، تخرج فى الأزهر الشريف، وباشر التعليم فى المعاهد الأزهرية، وترقى فى مناصبه حتى تولى مدير التعليم الأزهرى بالمنوفية، وعين عضوًا بلجنة الإفتاء بالأزهر الشريف، فنائبًا لرئيس اللجنة، وذلك فى عهد الشيخ جاد الحق رحمة الله عليه، كما باشر العمل فى اللجان الشرعية لعدة مؤسسات ومراكز إسلامية بحثية، واقتصادية، ورأس العديد منها.

(1) فى تجربة بسيطة لصلاحية ذلك للتنفيذ، قمت بتصميم برنامج تجريبى من سنين يتمكن من الحكم على رجال السند بطريقة الهيثمى فى مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح – رجاله على شرط البخارى – رجاله ثقات – رجاله موثقون – فيه رجل ضعيف…. وقمت بتكوين قائمة مصغرة للرواة من خلال تقريب التهذيب، وبإعطاء السند يقوم البرنامج بالحكم على رجاله، وبطريقة دقيقة للغاية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر