أبحاث

نظرية المقاصد عند الشابطي ومدى ارتباطها بالأصول الكلامية

العدد 103

استطاع الشاطبي أن يصوغ نظرية مكتملة الأركان في فلسفة التشريع وحكمته لم يُسبق إليها من قبل، ولا زال الباحثون حتى يومنا هذا يولون وجوههم شطر الإمام الشاطبي كلما دعتهم دواعي البحث في مقاصد الشريعة، إن تأصيلاً أو تأسيسًا أو تفريعًا
. وهذه النظرية – بالغة الدقة – تقوم في أبرز ملامحها وقسماتها على أصلين : الأول : قصد الشارع، والثاني: قصد المكلف، وبعبارة أكثر وضوحًا: القصد من تكليف العباد بالشريعة من جانبي : المكلِّف ( الشارع ) ، والمكلَّف (العباد) ، ويعنى القصد الأول : الأغراض والأهداف التى راعاها الشارع من وراء التكليف، كما يعنى القصد الثاني: موقف المكلف وتصرفاته تجاه ما كلف به من أقوال وأفعال: قلبية أو بدنية، كضرورة النية في الأعمال وموافقة قصده لقصد الشارع ، وبطلان الأفعال التى يخرج فيها قصد المكلف عن قصد الشارع، حتى لو جاءت هيئاتها وصورها مطابقة لما رسمته الشريعة لصور هذه الأفعال وهيئاتها . إلى مسائل وأبحاث أخرى فصلها الشاطبي تحت عنوان: (مقاصد المكلف) وشغلت ثلث الجزء الثاني من كتابه العظيم (الموافقات)(1) .

وفيما يتعلق بالأصل الأول الذي هو قصد الشارع فإن الشاطبي يبنيه على قصود أربعة، تترتب ترتيبًا تنازليًّا حسب أوليتها وأولويتها كذلك، وقد وضع على رأس هذه القصود – وفي مقدمتها – القصد إلى : (مصالح العباد في العاجل والآجل معًا )(1) تتلوه بعد ذلك أو تنبثق منه مقاصد ثلاثة هي: مقصد (وضع الشريعة للإفهام ) أي تيسيرها للخاصة والعامة بحيث تكون مفهومة ومستوعبة ومستأنسة ؛ ومقصد (وضع الشريعة للتكليف) بمعنى أن يكون التكليف بها مقدورًا عليه ومطاقًا ، لا تحصل بسببه مشقة خارجة عن المعتاد؛ ثم مقصد (وضع الشريعة للامتثال) ويدور حول خروج العبد من دواعي الهوى إلى الالتزام بالمنهج الإلهي .

ونلاحظ أن المقصد الأول : وهو (تحقيق مصالح للعباد) يشكل خلفية ثابتة تقف وراء المقاصد الثلاثة الأخرى مجتمعة. لأن الغرض من كل مقصد من هذه المقاصد الثلاثة لا يخرج عن كونه تحقيقًا لمصلحة من مصالح العبد أو وسيلة إلى تحقيق مصلحة من مصالحه، من هنا يستطيع الباحث أن يقرر – في شيء غير قليل من الثقة والاطمئنان – أن حجر الزاوية في بناء نظرية المقاصد – عند الشاطبي – هو : قصد الشارع في تكليف العباد إلى مصلحة تعود عليهم وتحقق لهم السعادة، وأن المقاصد الأخرى – كما فطن إليه الشيخ دراز – هي في أفضل حالاتها تفصيلات أو فروع تستمد وجـودها من وجـود هذا الأصـل الثابت(2)؛ إذ لولا معنى (تحقيق المصلحة) – دنيا وأخرى – لما استقام لمقصد من المقاصد الثلاثة الباقية أن يستند على الطريق المرسوم له في كتاب الموافقات .

وهذه المسألة، أعنى قصد الشارع إلى المصلحة من التكليف، هي ما تشكل – تحديدًا – محور هذه الورقة المتواضعة، وبحيث تبرر للبحث في نهاية المطاف بعض التساؤلات الباحثة عن الجواب .

* * *

ولعل من المناسب أن نتفق منذ البداية على التفرقة بين أمرين، تستمد مبرراتها المنطقية من إجماع علماء الإسلام على أحد الأمرين واختلافهم حول الأمر الآخر، فأما الأمر المجمع عليه فهو أن تكاليف الشريعة – في حد ذاتها – تحقق للعباد مصالح تترتب عليها سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأما الأمر المختلف فيه فهو التساؤل حول هذه المصالح: هل هي مقصودة ومراعاة من قبل الشارع، أو أنها لم يتعلق بها قصد وغرض أصلاً؟

إن هذا التساؤل (المشروع) يضع الباحث مباشرة قبالة قضية أخرى تشكل تأسيسًا منطقًيا لا مفر منه لنظرية المقاصد وهي: قضية (تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض)، تلك التى تسبق في التحليل العقلي قضية المقاصد ؛ وتستند إليها هذه الأخيرة استناد الفرع إلى الأصل؛ لأن القول بالمقاصد يتضمن بالضرورة القول بالتعليل، وبدون التعليل تنهار نظرية المقاصد و تصبح في أفضل أحوالها نظرية بغير جذور؛ ذلك أن تحليل كلمة (مقصد) يستلزم بالضرورة قصدًا يراعيه الفاعل في فعله، وهذا هو بعينه معنى التعليل الذي لا ينفك عنه معنى المقاصد.

وإذا سلمنا بهذه العلاقة التى لا تنفصم – طردًا وعكسًا – بين التعليل والمقاصد، حتى كأنهما وجهان لعملة واحدة، لزمنا التسليم بأن الشاطبي وهو يؤسس نظريته المقاصدية كانت عيناه على قضية (التعليل) بحسبانها مسلمة لا مفر منها في بناء هذه النظرية، وهذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان .

* * *

ونظرية المقاصد لدى الشاطبي برغم إحكامها وإتقانها غير المسبوق فإن اتساقها المنطقى مع الأسس الكلامية لقضية التعليل يبعث على الاعتقاد بأن تساؤلات عدة لا تزال بحاجة إلى جواب مقنع، وفي مقدمة هذه التساؤلات: ما هي الخلفية العقدية أو المذهب الكلامي الذي انطلق منه الشاطبي في تقعيد نظريته وتأصيلها بهذا العمق والإحكام والتفرد؟ هل كان الشاطبي متمذهبًا بالاعتزال، ومن ثم كان مشروعًا له أن يذهب في نظرية التعليل إلى أبعد آمادها وإلى حد إثبات (مقاصد) للشارع يتغياها في أفعاله وأحكامه؟ أو كان أشعريًّا نافيًا للتعليل، وإذن فكيف استقام له القول بهذه النظرية؟ أو أنه شاء لنظريته أن تقوم في فراغ لا يعول فيه على أصل كلامي أو التزام مذهبي؟ وهل استطاع الإمام أن يحافظ على هذه القطيعة بين النظرية وأصولها الكلامية؟ .. أسئلة تثيرها قراءة الصفحات الأوَل في قسم المقاصد من كتاب الموافقات، وتستمد شرعيتها من الحقيقة الأصولية التى تقرر ارتباط عالم أصول الفقه بمذهبه الكلامي أشد الارتباط وأوثقه ، وأن ما يقوله هناك في علم الكلام حاكم على ما يقوله هنا في أصول الفقه، وقاض عليه في اختيار هذا المنحى أو ذاك، وذلك كيلا يضطرب السياق المنطقى بين الأصل والفرع فيذهب الإطار العقدي في واد والمضمون الأصولي في واد آخر . وهذا علاء الدين الحنفى يقول في ميزان الأصول : ( اعلم أن أصول الفقه فرع لأصول الدين، فكان من الضرورة أن يقع التصنيف فيه على اعتقاد مصنف الكتاب)(1) .

وانطلاقًا من هذا الذي يقرره أئمة الأصول لا يكون البحث عن الخلفية المذهبية لعالم الأصول في مسألة التعليل – ومن باب أولى : مسألة المقاصد – بحثًا عن جدليات كلامية لإزجاء وقت الفراغ أو لاجترار معارك كلامية ابتلى بها المسلمون قديمًا، وهي الآن في ذمة التاريخ، بل هو بحث في قلب الاتساق المذهبي – أو إن شئت : المنطقى – للنسيج الداخلي لنظرية المقاصد، إذ على قدر اتساق النظرية مع منطلقاتها الميتافيزيقية يتبدى فيها جانب الأصالة والإبداع .

وإذا كانت قضية التعليل بهذه الأهمية في صياغة نظرية المقاصد، فإنه يحسن أن نعرض – في إيجاز غير مخل – لقضية (تعليل أفعال الله تعالى ) عند أئمة علم الكلام، لنعرف أين تقف نظرية المقاصد، وهل لها أصل كلامي تستند إليه أو أنها نظرية أصولية بحتة؟!.

التعليل والحسن والقبح:

ونظرية التعليل وما نشأ حولها من وجهات نظر متباينة لا تمكن دراستها في معزل عن قضية الحسن والقبح، تلك التى يرتبط بها التعليل وجودًا وعدمًا، ويتوقف القول فيه رفضًا وقبولاً على تحرير القول في تفسير الفعل الحسن والفعل القبيح، أو مصدر الحسن والقبح في الأفعال. ومن المعروف – الذي لا نطوِّل به البحث – أن مفكرى المسلمين قد انقسموا في هذا الصدد إلى مدرستين متقابلتين: مدرسة القائلين بالتعليل وهم المعتزلة ، ومدرسة النافين للتعليل، وهم الأشاعرة :

1- القائلون بالتعليل: وتمثلهم فرقة المعتزلة التى نحفظ عنها القول بالحسن والقبح العقليين، وهي مقولة تبدو سهلة المأخذ في ظاهرها ، لكننا لو رحنا نحلل المحتوى الفلسفي لهذه المقولة؛ فإنه تنفتح أمامنا آفاق وأبعادٌ من الأنظار الدقيقة في فلسفة الأخلاق والفلسفة الإلهية، لا قبل لهذه الورقة بالإحاطة بها أو تحليلها تحليلاً علميًّا دقيقًا . فمثلاً لو تساءلنا: عن أساس الحسن والقبح في الأفعال ، أو علته فيها، فإن الإجابة تختلف – في دائرة الاعتزال نفسها – من مدرسة البغداديين إلى مدرسة البصريين، فالمدرسة الأولى، وعلـــــــى رأسـها أبو القاسـم الكعـبي (319هـ) ، ترجع بالحسن والقبح إلى أن الفعل في ذاته إما حسن أو قبيح أو واجب، وهو ما يعرف عندهم بذاتية الحسن والقبح، ويعنون به أن الأفعال إنما تقبح أو تحسن لذواتها وأعيانها ، وأن الفعل الحسن لا ينقلب تحت أي ظرف من الظروف أو الملابسات فعلاً قبيحًا ، وكذلك القبيح يلزمه حكم القبح في جميع أحواله ولا ينقلب بحال من الأحوال إلى فعل حسن. وهذ أمر منطقي؛ لأن القاعدة العقلية المطردة تقرر أن (ما بالذات لا يتخلف) فإن تبدل الأمر الذاتي فإنني لا أكون أمام نفس الفعل في صورة ثانية، بل أكون أمام فعل آخر جديد، له ذاتي آخر مخالف. ولو فرضنا أن فعلاً واحدًا كالضرر مثلاً، كان مرة حسنًا بسبب ما يتأدى إليه من منافع عظيمة ، وكان مرة قبيحًا بسبب ما ترتب عليه من ظلم وألم دون نفع أو داع يجعله مستحقًّا ، فإن هذا الفعل ليس – فيما يرى البغداديون – فعلاً واحدًا حسن مرة وقبح أخرى بسبب وصف خارجي، لزمه مرة وفارقه مرة أخرى ، بل هما فعلان متمايزان ذاتًا وعينًا، وإن اشتركا في وصف لازم هو (الضرر)، وقل مثل ذلك في (الكذب) الذي يحس مرة ويقبح أخرى باعتبار واعتبار، فإنهما صورتان متخالفتان بالذات، حتى وإن تشابهتا في عنوان خارجي واحد هو عنوان الكذب. من هنا ذهب أبو القاسم البلخي إلى : (أن الحركة التى وقعت قبيحة كان لا يجوز أن تقع حسنة، … [و] أن القبيح من الحركة لا يكون مثلاً للحسن منها، وكذلك يقول في كل فعلين، أحدهما حسن والآخر قبيح : (إنهما يجب أن يكونا مختلفين)(1) . وما يقال على الحركة يقال – بنفس التفرقة – على كل عرض من الأعراض المشتركة في جنس واحد . وبرغم أن كثيرًا من شيوخ المعتزلة يقولون بأن اللونين المتشابهين كالسوادين مثلاً يجب أن يكونا متماثلين، ومن جنس واحد؛ فإن البلخي يرى أنه إذا كان أحد السوادين قبيحًا والآخر حسنًا فإنهما لا يكونان متماثلين، بل هما مختلفان عينًا وذاتًا(2) ، بل إنه ليخالف البصريين في قولهم :(إن الإرادة الواحدة التى وقعت قبيحة كان يمكن أن تقع حسنة لو توفر لها وجه من وجوه الحسن)، فعنده أن ذلك لا يحوز، ويقول في كل عرض من الأعراض – إرادة أو غير إرادة-: (إن ما وجد وكان قبيحًا كان لا يجوز أن يوجد فيكون حسنًا)(3) وكأنى بمعتزلة بغداد يصنفون الأفعال وما إليها من إرادات وحركات وسائر الأعراض في قائمتين مغلقتين من الأفعال الحسنة والأفعال القبيحة، وبحيث لا تلامس إحدهما الأخرى، وأن الفعل إما أن يندرج في دائرة الحسن أو يندرج في دائرة القبح، وأنه إذا وقع مندرجًا في إحدى المجموعتين فإنه لا يتكرر وقوعه في المجموعة الأخرى في كل الأحوال والملابسات والظروف .

هذه المدرسة الذاتية قد أشار إليها القاضي عبد الجبار (415هـ) وألمح إلى فلسفتها في مناسبات عدة في كتابه المغنى، توطئة لنظرية أخرى يراها أقوم طريقًا وأهدى سبيلا في التعرف على أساس التحسين والتقبيح . هذه النظرية الجديدة لا تعوّل على عين الفعل وذاته، بل على وجوه في الأفعال محسنة أو مقبحة، وأساس هذه النظرية ينطلق من مقايسة عقلية بين (الوجوه) و(الأحوال) ، فكما أن للأشخاص أحوالاً، فكذلك للأفعال وجوه، وإذا كانت الأحوال هي مناط التمييز بين الأشخاص في الاتصاف بفعل دون فعل آخر، كأن يتصف شخص بفعل ما بأنه قادر عليه ولا يتصف به آخر إذا كان عاجزًا عنه، فكذلك الوجوه في الأفعال، تقتضى تميز هذا الفعل بحكم لا يتميز به فعل آخر عادم لهذا الوجه .. هذا الوجه أو ذاك إذا كان في فعل، أو – بتعبير أدق – وقع عليه الفعل، فإنه يؤثر في وصفه – لا محالة – تحسينًا أو تقبيحًا . ويهدف القائلون بنظرية الوجوه إلى أن صفة الحسن أو صفة القبح صفة مرتبطة بالفعل ذاته، فلا هي تعرض له بسبب من مجرد حدوث الفعل أو وجوده من هذا الفاعل أو ذاك، إذ الأفعال كلها تشترك في معنى الوجود أو الحدوث من فاعل، ولا يتميز فعل عن فعل في هذا المعنى، والأمر المشترك – كما هو معلوم – لا يصلح لتفسير الاختلاف بين المشتركات ؛ فما به الاتفاق غير ما به الافتراق، كما تقول به القاعدة العقلية – وإذن فالوجه، بما هو أمر مقارن للفعل ومختص به ، هو مناط كون الفعل حسنًا أو كونه قبيحًا . وهذا ما يؤكده القاضي عبد الجبار في قوله : (قد بينا في أول العدل أن هذه الأفعال إنما تفترق فيما هي عليه من الأحكام ، فيكون بعضها واجبًا، وبعضها حسنًا، وبعضها قبيحًا، لوقوعها على وجوه تختص بها، لولاها لم تكن بأن تختص بذلك الحكم أولى من أن لا تختص به أو تختص بخلافه؛ لأنه لو لم يحصل لها إلا الوجود والحدوث، وقد تساوت أجمع في ذلك، لم يكن بعضها بأن يكون واجبًا أولى من سائرها)(1) ، وغنى عن البيان أن الأفعال في أنفسها – حسب نظرية الوجوه – ليست لها صفات ثابتة من الحسن أو القبح، بل هي قابلة لأن تكون حسنة أو قبيحة حسب الوجه الذي تقع به . ويذهب عبد الجبار إلى أبعد من ذلك حين يُجَوِّزُ توارد الحسن والقبح – بالتبادل – على الفعل الواحد، باعتبار واعتبار . وهذا المغزى هو الأداة التى يرد بها القاضي نظرية البغداديين التى تجعل من مجرد وجود الفعل تحديدات صارمة في التعرف على أساس التحسين والتقبيح؛ ولذلك نجده يجوز في الفعل الواحد أن يقع قبيحًا مرة على وجه، وعلى خلاف ذلك مرة على وجه آخر، ويضرب لذلك مثلاً، (دخول الدار) فهو مع أنه (شيء واحد، لا يمتنع أن يقبح مرة، بأن يكون لا عن إذن، ويحسن أخرى بأن يكون عن إذن، وكذلك السجدة الواحدة: لا يمتنع أن تحسن، بأن تكون سجدة لله تعالى ؛ وتقبح بأن تكون سجدة للشيطان)(1) .

وسواء كان الحسن والقبح ذاتيين في الأفعال كما يقول البغداديون، أو كانا أثرين لوجوه تقع بها الأفعال فيما يقول البصريون، فالأمر المتفق عليه بين هؤلاء وهؤلاء هو أن العلم بحسن الفعل أو قبحه علم ضروري لا يحتاج إلى نظر أو استدلال؛ فالعلم بأصول المقبحات والواجبات والمحسنات – فيما يقول عبد الجبار – ضروري، وهو من جملة كمال العقل(2) ؛ لأنه لو لم تكن هذه الأصول معلومة للإنسان بداهة فإنها لا تكون معلومة أبدًا؛ إذ النظر والاستدلال يستلزم – سلفًا – أن يكون الناظر المستدل كامل العقل، ولا يكون كذلك إلا إذا كان عالمًا بالضروريات التى من ضمنها هذه الأصول؛ ولأن من كمال العقل – فيما يقول عبد الجبار أيضًا – (العلم بأن الظلم مما يستحق به الذم، ولا يختلف العقلاء في العلم بذلك، كما لا يختلفون في العلم بالمدركات .. فلا فرق بين من يدعى خلاف ما ذكرناه في الظلم والكذب، وبين من يدعى ذلك في سائر ما يعلم باضطرار، ومن بلغ هذا الحد لم يمكن في مكالمته إلا التنبيه على جحده الضروريات )(3) .

ويهمنا في هذا النص قول عبد الجبار: ( كما لا يختلفون في العلم بالمدركات) فإنه كاشف عن وجه شبه تام بين العلم بحسن الأفعال وقبحها، والعلم بالمدركات الأخرى: الحسية والعقلية، في أن كلاًّ منهما بدهى وضروري، وأن كلاًّ منهما مما لا يقبل نزاعًا ولا خلافًا، وأن من ينكر استواء (الضرورة) بين هذين الإدراكين فإن حواره يجب أن يقتصر على التنبيه على جحد الضروريات، ولا يمتد إلى محاولة إثبات هذه الضرورة فيما يتعلق بمسألة الحسن والقبح . على أن هذه الضرورة – عند المعتزلة – ليست ضرورة شرعية ولا ضرورة حاجية بل هي ضرورة عقلية، وقد يعبر عنها في المنطق بالأوليات وهي القضايا التى يحكم فيه العقل بمجرد تصور الطرفين، دون حاجة إلى حد أوسط يكون علة في الحكم بالمحمول على الموضوع، وكأن إدراك قبح القبيح وحسن الحسن من الأصول المقبحة والمحسنة، مساوٍ لإدراك القضية التى تقول: إن الكل أكبر من الجزء، بل هي معادلة لها فعلاً، وتشبهها في أن كلاًّ من العلمين ضروري لا يختلف فيه عقل عن عقل، وبيّن بذاته لا يتفاوت فيه إدراك عن إدراك، وثابت لا يمكن التشكيك فيه بحال ، ثم إن النفس تسكن إليه وتطمئن إلى اعتقاده(1) .

وهكذا نستطيع أن نلخص فلسفة الاعتزال في إطارها العام حول قضية الحسن والقبح في المحاور التالية :

أولاً : الأفعال إما حسنة بذواتها أو بوجوه محسنة، وإما قبيحة بذواتها، أو بوجوه مقبحة .

ثانيًا: العلم بالأصول الجامعة لصور القبح وصور الحسن علم ضروري.

ثالثًا : العلم بهذه الأصول ضرورة عقلية وليست شرعية ولا حاجية.

ونتساءل الآن: أين تقع مسألة (التعليل) من قضية الحسن والقبح كما يقول بها المعتزلة؟

الإجابة في اختصار: أن الفعل الحسن والفعل القبيح وحكم العقل بذم أحدهما ومدح الآخر لا يختلف كان ذلك شاهدًا وغائبًا، أي أن نفس هذا الحكم كما ينطبق على أفعالنا فإنه ينطبق على أفعال الله تعالى، فهي موزونة بذات الميزان العقلي، وبحيث تنقسم الأفعال بالنسبة إليه تعالى – أيضًا – إلى أفعال مستحيلة الوقوع؛ لأنها قبيحة عقلاً، وأفعال يجب أن يفعلها؛ لأنها حسنة ، ومسألة التعليل تنبثق من هذه الزاوية، أعنى زاوية الحسن والقبح ؛ لأن الفعل المعلل الذي يقصد فاعله لغرض حسن من ورائه هو فعل حسن، ومن ثم وجب أن تكون أفعال الله تعالى ذوات علل وأغراض، والعكس صحيح، أي أن الفعل الخالي عن الغرض إنما هو ضرب من العبث، وقد مر بنا أن العبث من الأصول المقبحة عندهم(1) ، والقبح مستحيل عليه تعالى فيستحيل أن يخلو فعله من غرض. وهكذا تنشأ علاقة لزوم متبادلة بين الحسن والقبح العقليين والقول بالإيجاب من ناحية، والتعليل من ناحية أخرى، ومن يحسن أو يقبح عقلا يلزمه القول بالتعليل في أفعاله تعالى، والعكس صحيح كذلك، أي من يقول بالتعليل والقصد في الفعل الإلهي يلزمه الاستناد إلى أصل الحسن والقبح العقليين.

هذه هي وجهة النظر الاعتزالية في قضية التعليل نعرضها في خطوطها العريضة؛ ليتبين لنا (اللزوم العقلي) بين أصل التقبيح والتحسين بالعقل وما تفرع عليه من القول بالتعليل .

وقبل أن نعرض لوجهة النظر المقابلة يحسن أن ننقل نصًّا للشهرستاني (ت 548) يلمح فيه إلى أن قياس الغائب على الشاهد الذي استند إليه المعتزلة في بناء أصلهم في التحسين والتقبيح، يكاد يصيب مذهب الاعتزال – برمته – في مقتل ، يقول: (وليس للمعتزلة فيما ذكروه مستند عقلي ولا مستروح شرعي إلا مجرد اعتبار العادة في الشاهد، وتسميتها معقولاً، ثم اعتبار الغائب بالشاهد، وهم في الحقيقة مشبهة في الأفعال)(2) .

ولعل الشهرستاني أراد أن يكشف في هذا النص عن تناقض خفى بين الأصلين اللذين يقوم عليهما مذهب الاعتزال بكل طوائفه ومدارسه، وأعنى بهما أصلي: التوحيد والعدل؛ فمن المعروف عنهم أنهم في أصل التوحيد ذهبوا في تنزيه الألوهية ونفى التشبيه إلى درجة إنكار الصفات؛ حذرًا من تعدد القدماء، حتى لو كان التعدد معنى أو وصفًا مرتبطًا بالذات الإلهية، وكانوا يجيزون القول بأن الله (عالم قادر حيّ بنفسه لا بعلم وقدرة وحياة) ومن أثبت منهم الصفات قال: (هو عالم بعلم هو هو، وهو قادر بقدرة هي هو، وهو حي بحياة هي هو، وكذلك قال في سمعه وبصره… الخ)(3) .

ومع أن اعتبار الشاهد يقضى بأن يكون العالم عالـمًا بعلم، ، وليس عالما بنفسه، فإن المعتزلة ضربوا بقياس الغائب على الشاهد عرض الحائط في مسألة الصفات ، لكنهم لم يجدوا حرجًا في التمسك به واستلهامه، وهم بصدد الكلام على الأفعال، فقاسوا أفعال الله تعالى على أفعال الإنسان، وهو تشبيه، ما في ذلك ريب؛ إذ العقل هنا حاكم على الفعل الإلهي بذات المعيار الذي يحكم به على الفعل الإنساني. ولعل هذا هو (المغمز) الذي قصده الشهرستاني في عبارته اللمّاحة: (وهم في الحقيقة مشبِّهة في الأفعال)، ونزيد على ذلك ما يمكن أن يلاحظه المدقق في عبارة الشهرستاني من أن البناء العقلي في مذهب المعتزلة قد اضطرب اضطرابًا شديدًا بين أصلي : التوحيد والعدل، وأن التنزيه الذي بلغ الأوج في أصل التوحيد سرعان ما هبط إلى شيء غير قليل من التشبيه في أصل العدل، من حيث اعتبار (الضرورة) في الحسن والقبح شاهدًا وغائبًا .

* * *

نفاة التعليل:

أما المدرسة الثانية التى تقف على الطرف المقابل في قضية التعليل فهي مدرسة الأشاعرة، وكما كانت قضية الحسن والقبح هناك القضية الأم التى انشعب عنها القول بالتعليل، فكذلك القول بنفي التعليل – هنا – ينبني على هدم الأساس ذاته الذي تبناه المعتزلة في أصلهم هناك . وأمر بدهى أن يعمد الأشاعرة إلى تحطيم فكرة (الذاتية) وفكرة (الوجوه) – الاعتزاليتين – ليعودوا بالحسن والقبح إلى علة أخرى خارجة عن الفعل، يربطون بها التحسين والتقبيح في الأفعال والأحكام وجودًا وعدمًا، هذه العلة هي (الشرع) الذي يأمر بالفعل فيصير حسنًا، أو ينهى عنه فيصير قبيحًا، وبهذا تؤول فلسفة الحسن والقبح برمتها – عند الأشاعرة – إلى الشريعة أمرًا ونهيًا، وبدون ورود الأمر أو النهى الشرعيين لا يعرف للفعل وجه حسن ولا وجه قبح؛ لأن الأفعال – بمعزل عن الشرع – مستويات في أنفسها، فلا هي حسنة ولا هي قبيحة ، وكما تقبل وصف الحسن إذا أمر الشرع بها، فكذلك تقبل – بنفس الدرجة – وصف القبح إذا ورد النهى عنها(1) .

وقد ذهب شيخ الأشاعرة ورائد مذهبهم: الإمام الأشعرى (ت: 324هـ) مذهبًا موغلاً في تنزيه القدرة الإلهية عن أية شائبة تقدح في استقلالها وتفردها في إيجاد الذوات بأوصافها وأحكامها، فكما أن أعيان الحوادث لا يصح أن تحدث بذواتها أو بسبب صفة من صفاتها، بل لا بد لها من محدث موجد، فكذلك جميع أحكامها وصفاتها لا يصح أن تحدث بسبب يرجع إلى ذوات الحوادث وأعيانها، أو إلى وجه من وجوهها، بل لابد لها – هي الأخرى – من الحاجة إلى محدث الأعيان نفسه. ومن هذا المنطلق يؤكد الأشعرى أن (المعدوم ليس بشيء ولا عين ولا ذات ولا جوهر ولا عرض ولا سواد ولا بياض ولا قبيح ولا حسن، وأن جميع هذه الأوصاف تتعلق بمحدث العين، كما يتعلق به وصفها بالوجود والحدوث)(1)، وإذن فالحسن والقبح وصفان طارئان على الأفعال والأحكام لا بسبب من ذواتها أو أوصافها ، بل بتأثير من محدث الأفعال رأسًا، والنتيجة المنطقية لهذه النظرة الجديدة أن يكون وصفنا لبعض الأفعال بالقبح ولبعضها الآخر بالحُسن ( إنما يستحق ذلك فيها إذا وقعت تحت أمر الله ونهيه، وكذلك يجرى مجراه في وصفنا له بأنه طاعة ومعصية (…) لأجل الأمر والنهى)(2). وقد ظهر الأصل الشرعى للتحسين والتقبيح – على استحياء – في كتابات الشيخ الأشعرى، لكنه ما لبث أن استعلن في كتابات التلاميذ، وذهبوا به إلى غاية بعيدة من التقعيد والتقنين، وبخاصة: إمام الحرمين الجويني (419 – 478 هـ) الذي حرص في تآليفه على التنبيه إلى أن مناقشة المعتزلة في مسائل التعديل والتجوير ربما تكون أقل مؤنة لو أنها توجهت مباشرة على أصلهم في الحُسن والقبح، فبانهدامه تنهدم كل أصولهم في هذا الباب أو – كما يقول الجويني – : ( لو لزمنا أصلنا في نفى تقبيح العقل وتحسينه ففي التمسك به نقض جميع ما أصلوه)(1).

وقد انتهى الأشاعرة إلى صياغة في التحسين والتقبيح لا مكان فيها لدلالة العقل – مستقلاً عن الشرع – على حسن شيء أو قبحه في أحكام التكليف؛ لأن العقل إنما يتلقى ذلك (من موارد الشرع وموجب السمع، وأصل القول في ذلك: أن الشيء لا يحسن لنفسه وجنسه وصفة لازمة له، وكذلك القول فيما يقبح، وقد يحسن في الشرع ما يقبح مثله المساوى له في جملة أحكام صفات النفس)(2) .

وكما أنكر الأشاعرة تقبيح العقل وتحسينه أنكروا كذلك ضرورية إدراك قبح القبيح وحسن الحسن، وقالوا بكسبية معرفتهما استنباطا من أحكام الشرع، فالعلم بالحسن والقبيح (من أفعال المكلفين طريقه الاكتساب والاستدلال، لا يعلم شيء من ذلك ضرورة ولا بديهة)(3) .

ولعل نص العلامة التفتازاني يلخص فلسفة الأشاعرة في هذا الأصل تلخيصًا دقيقًا إذ يقول في عبارات موجزة (…فما ورد الأمر به فهو حسن ، وما ورد النهى عنه فقبيح، من غير أن يكون للعقل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته ولا بحسب جهاته واعتباراته ، حتى لو أمر بما نهى عنه صار حسنًا وبالعكس)(4) .

ولقد بينا من قبل أن (التعليل) فرع تقبيح العقل وتحسينه، ونبين هنا أنه بانهدام هذا الأصل في فلسفة الأشاعرة ينهدم معه التعليل في أفعال الله تعالى، فلا  مكان – إذن – للقول بأنه يفعل كذا وإلا قبُح ، أو يجب أن يفعل كذا وإلا ترك واجبًا، بل يقال : إذا فعل صار فعله حسنًا. وكان الأشعرى شديد الإنكار على من يقول : ( إن الله تعالى فعل كذا لكذا، أو إن الله تعالى فعل كذا وأراد به لطف غيره أو صلاحه، وذلك لإحالته أن يفعل الله تعالى الشيء لعلة أو لسبب)(5) ، ولم يجد بأسًا في أن يتعامل مع ظواهر الآيات الموحية بالتعليل بما يخرجها عن هذا الظاهر، من مثل قوله تعالى :{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (الزخرف:32)، وقوله : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة} (الفرقان: 20) فإن ذلك لا يجرى عنده مجرى التعليل اللازم المتعين، الذي لا يصح معه فرض آخر، بل يصح – فيما  يقول – أن يبسط الله الرزق لكل عباده، أو يضيقه عليهم جميعا، ولا يكون ذلك ممتنعًا مستحيلاً في العقل، ولا سفها، ولا خلاف الحكمة . وإذا كان رفع البعض على البعض – في الآية الكريمة – قد جرى على سنن الحكمة فليس ذلك لغرض اتخاذ بعضهم بعضًا سخريًّا، بل (لو حدث على غير ذلك كان حكمه حينئذ في الحكمة حكمه الآن)(1) . فالحكمة في الفعل الإلهي ليست تابعة لغرض يتحقق، ويرتبط به الحكمة وجودًا وعدمًا – إن صح هنا هذا الترديد، ولا تابعة لفوائد تترتب وتتعلق بها، بل الحكمة ليست أمرًا آخر وراء عين الفعل الإلهي نفسه، ولا يتحصل تفسيرها بأي معنى خارج عن فعله تعالى ، على أي وجه وقع هذا الفعل أو حدث. ويبلغ الأشعرى ذروة إنكار التعليل حين يجوز حدوث الأفعال من الله تعالى على خلاف الوجوه التى حدثت عليهـــــــا ، ويكون ذلك منه – تعالى!- حكمة أيضًا وبنفس المعنى الأول(2) .

بين التعليل والحكمة :

هذه الأصول الأشعرية تتكرر في مؤلفاتهم الكلامية بدءًا من كتابات الأشعرى وانتهاء بمتون المتأخرين وشروحها وحواشيها، في صيغة لا تعرف لينًا ولا هوادة في تقرير هذا المبدأ العقدي(3) ، اللهم إلا ما نجده من التنبيه على الفرق بين الحكمة في أفعال الله وبين الغرض أو العلة الباعثة على الفعل، وأن الأولى وصف ذاتي للفعل الإلهي، بينما الثانية منتفية عنه جملة وتفصيلاً، والأشاعرة وإن كانوا يتفقون مع المعللة في ثبوت الحكمة في أفعاله تعالى، إلا أن معناها يختلف بين الفريقين اختلافًا كثيرًا: فالحكمة عند المعتزلة غاية وغرض وعلة باعثة على الفعل ، وإن كانوا يتحفظون، بأن الغرض يعود على العبد لا على الله تعالى؛ لتنزهه عن الانتفاع بالأغراض ، وهي عند الأشاعرة ليست شيئًا من هذه التعليلات؛ لأن الفاعل لغرض – عندهم – مستكمل به، ويلزمه النقص في فعله إن لم يتحقق، حتى مع افتراض أن الغرض عائد على غير الفاعل(1)، بل هي معنى من معاني الإحكام والإتقان ووقوع الفعل على وفق العلم. فالحكيم – فيما يقول الشهرستاني- هو (من كانت أفعاله محكمة متقنة، وإنما تكون محكمة إذا وقعت على حسب علمه، وإذا حصلت على حسب علمه، لم تكن جزافًا ولا وقعت باتفاق)(2) ، والحكيم -فيما يقول الآمدى (551 – 631 م)- لا يلزم أن يكون لفعله غرض ولا يكون فعله عبثًا لو خلا عنه؛ لأن العبث إنما يلزم لو كانت الأفعال قابلة للأغراض والمصالح، أما وهي ليست كذلك فإن الغرض غير لازم أصلاً، بل هو غير ممكن، ويكون إطلاقه – والحالة هذه – من قبيل المجاز أو التوسع في القول ، مثله في ذلك مثل من (يصف الرياح في هبوبها، والمياه عند خريرها، والنار عند زئيرها بكونها عابثة؛ إذ لا غرض لها ولا غاية تستند إليها . ولا يخفى ما في ذلك من التحجير بوضع ما لا أصل له في الوضع)(3) .

غير أننا نجد تطورًا لمعنى الحكمة، داخل المدرسة الأشعرية، لدى إمام بارز من أئمتها ، هو : الإمام الغزالي ( 450 – 505 هـ) ، والذي يُفهم من عباراته اقتراب معنى (الحكمة) من معنى (الغرض)، أو ملامسة المفهومين على الأقل، كما يظهر من تحليله لمعنى الحكمة في كتابه الشهير: الاقتصاد في الاعتقاد، حيث رجع بها إلى معنيين أساسيين ، الأول : العلم والإحاطة بنظم الأمور ومعانيها الدقيقة والجليلة (والحكم عليها بأنها كيف ينبغي أن تكون حتى تتم الغاية المطلوبة منها ، والثاني : القدرة على إيجاد الترتيب والنظام وإتقانه وإحكامه)(1). ورغم أن المعنى الأول؛ الذي يصرح فيه الغزالي بلفظ: (الغاية) يعد تطورًا للمذهب الأشعرى في اتجاه مذهب المعللين، فإن الغزالي حرص على أن تظل المسافة بعيدة بينه وبينهم، وذلك بوصفه الأفعال الإلهية بأنها قاصدة وحكيمة في حد ذاتها (لا بحكمة مضافة سابقة، وأن الأفعال الإلهية وإن كان لها غاية فليس ذلك لمراعاتها لحكمة منفصلة سابقة أو لاحقة، بل لأنها أفعاله سبحانه، وهو الحكيم العدل الجواد)(2).

ويستطيع الباحث أن يؤكد تطور قضية التعليل في كتاب : (الاقتصاد في الاعتقاد)، وأنها رغم تطورها لم تخرج عن الإطار الأشعرى، خاصة حين مزج الغزالي الحكمة والغاية والقصد بالفعل الإلهي ذاته، ولم يفترض – حتى على مستوى التصور – انفصالاً بين الفعل وبين حكمة يتغياها الفاعل، أو غرض مقصود يبعثه على الفعل .

الأشاعرة الأصوليون:

ولكن هل بقي موقف الأشاعرة الكلامي على ما هو عليه في مباحث القياس في علم أصول الفقه؟ أو أنه أخذ سمتًا جديدًا في مسألة تعليل الأحكام الشرعية؟

إن نظرة سريعة على مؤلفات الأشاعرة الأصولية تكشف عن أن جمهور الأشاعرة ثبتوا على موقفهم الرافض للتعليل، وإن كان قلة قليلة قد ازدوج لديها الخطاب بين الكلام والأصول ، فنقضت في علم الأصول ما أصلته في علم الكلام . وهكذا وجدنا الجويني يصرح في أكثر من موضع في الأصول بأن العلة ليست مؤثرة في الحكم، وأنها لا تتعدى معنى (الأمارة)؛ لأن العلل العقلية المؤثرة في الحكم وجودًا أو عدمًا لا حقيقة لها في فلسفة الأشاعرة أصلاً، (وما يسمى علة سمعية فهي أمارة في مسلك الظن)(3).

والغزالي، الذي كاد أن يخرج بقضية التعليل عن مسارها الأشعرى في علم الكلام عاد في كتاب (المستصفى) أشعريًّا خالصًا، رافضًا للتعليل بأي معنى من معانيه ، فعلة الحكم – عنده – ليست إلا (علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع (السكر) علامة لتحريم الخمر، ويقول: اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر؛ ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضًا، ويجوز أن يقول : من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر، ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر، حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون، وكلهم مصيبون)(1) .. وبهذا النص يقطع الغزالي كل أمل في تعليل الأحكام الشرعية بعلل ثوابت، ولدرجة تجويز أن يكون المعنى الواحد أمارة على الحل، وأمارة على الحرمة، وأمارة عليهما معًا باعتبار واعتبار . وهنا يتسق الغزالى مع أصوله الكلامية التى تقرر أن الله هو الفاعل الحقيقي، وأنه لا يفعل شيء في شيء، ولا يوجب شيء شيئًا، وأن ما يعتقد – في العادة – من ارتباط حتمى بين ما يسمى سببًا ومسببًا ليس ضروريًّا عند الأشاعرة، ويهمنا من كل ذلك رصد (الاتساق) عند الغزالي بين مذهبه الكلامي والأصولي، وهو اتساق نبه على ضرورة التزامه علماء الأصول أنفسهم .

وربما كان الآمدى (ت 631هـ) أبرز من خرج من عباءة المذهب الأشعرى، واضطرب تنظيره لقضية التعليل بين الكلام والأصول. وقد مر بنا موقفه في كتابه : (غاية المرام) ، وكيف كانت نظرته الرافضة للتعليل مؤسسة على تحليل دقيق تفرد به، لكنه عاد في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام) ليدافع عن التعليل ويتبناه في كثير من نصوصه مثل قوله : (إن الإحكام إنما شرعت لمقاصد العباد : أما أنها مشروعة لمقاصد وحكم فيدل عليه الإجماع والمعقول)، وقوله: (فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة لكانت نقمة لا رحمة، لما سبق، وأيضًا ، قوله عليه السلام: لا ضرر ولا ضرار، فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لكان شرعها ضررًا محضًا، وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص )(2).

ويدرج الرازي ( ت 606هـ) في الدرب نفسه، مع تدقيق في التفاصيل والبرهنة على استحالة تعليل أحكام الله تعالى بالمصالح والعلل والأغراض، ويُعد الرازي – بحق – أعتى خصم عرفته قضية التعليل، وقد ناظر خصومه المعتزلة بفنون من المناظرات نعتقد أنها جديرة بدراسة مستقلة. ولعل خصومته هذه حملت الشاطبي على أن يعده في أول كتاب المقاصد (رأس) نفاة التعليل، إذ لم يذكر غيره من النافين على كثرتهم. ويعد كتاب : (المحصول في أصول الفقه) من أجمع كتب الرازي وأدقها تصويرًا لآرائه الأصولية ، وتسلط الذهنية الأشعرية على مذهبه، وفي هذا الكتاب – وكعادة الأصوليين في مؤلفاتهم – عرض الرازي لمطلب التعليل في فصل مطول خصصه لبيان (دلالة المناسبة على العلية)(1) ، وصدَّره بدعوى تقرر أن (المناسبة تفيد ظن العلية، والظن واجبٌ العمل به) ثم راح يثبتها من مسلكين: مسلك المعللين، ومسلك نفاة التعليل. وفي المسلك الأول طرح وجوهًا ستة من أدلة المعللين: العقلية والنقلية، تدور كلها حول إثبات تعليل أحكام الشريعة بمصالح العباد. وفي ثنايا هذه الأوجه يذكر الرازى مذهب المعتزلة في وجوب المصلحة والغرض، ومذهب الفقهاء في الحكمة، ثم يختتم هذا الوجه بقوله : (فهذا هو الكلام في تقرير هذه المقدمة)(2) .

وهنا يجب التيقظ إلى أن كل ما ذكره الرازي في المسلك الأول من التقرير لا يمثل شيئًا من مذهبه في قضية التعليل، لا المذهب الكلامي ولا الأصولي؛ لأن هذه الوجوه الستة إنما هي حكاية مذهب المعللين في إفادة المناسبة ظن التعليل، ومن هنا يخطئ القارئ هدفه، في التعرف على مذهب الرازي في التعليل، لو راح يستنبطه من وجه من هذه الوجوه، أو منها مجتمعة، أو يفهمها على أنها اعتقاده في الموضوع(3).

أما المسلك الثاني في بيان إفادة المناسبة ظن العلية فهو ما يعبر – في دقة – عن مذهب الرازي في التعليل، وقد استهله بقوله : (نسلم أن أفعال الله وأحكامه يمتنع أن تكون معللة بالدواعي والأغراض ، ومع هذا فندعى أن المناسبة تفيد ظن العلية)(1).

وقد يبدو أن ها هنا تعارضًا – في موقف الرازي – بين تسليمه إفادة المناسبة ظن العلية، وإنكاره تعليل أحكام الله بالعلل والأغراض ، إذ حصول الظن بأن هذه المناسبة علة في حكم ما من الأحكام يستبطن – منطقيًّا – التسليم بمبدأ التعليل، ومع استبعاد هذا المبدأ لا تحصل الدلالة بأية مرتبة من مراتب العلم، لا ظنًّا ولا غيره . فنفى مبدأ التعليل يستلزم عدم إفادة المناسبة ظن التعليل ، وحصول الظن بالعلية يستلزم علاقة العلة والمعلول، ومع إثبات هذه العلاقة ونفي مبدأ التعليل يبدو الأمر وكأنه جمع بين نقيضين .. ومرة أخرى نضع أيدينا على العلاقة الوثقى بين الأصل الكلامي والمذهب الأصولي في كتابات هؤلاء الأعلام، وبحيث يجب البحث عن مفتاح الفهم في حل ما يبدو مفارقة في كلام الرازي في ميدان علم الكلام، فالرازي هنا يسند ظهره إلى فكرة (الاقتران العادي في فلسفة الأشاعرة التي تحطم أية علاقة حتمية ضرورية بين العلة والمعلول، والتي أدت إلى استبعاد مبدأ (العلية) من منطق الأشاعرة؛ وهذا الاستبعاد وإن ألغى علاقات التأثير الضروري بين الأحكام، فإنه لا يلغى (دلالات) الأحكام بعضها على بعض، وغاية ما في الأمر أن تبقى الدلالة في دائرة (الظن)؛ لأن حكم العادة كاف في تحصيل الظن بالحكم. ويضرب الرازى مثلاً لذلك: نزول المطر عند الغيم الرطب، وحصول الشبع عقيب الأكل، والاحتراق عند مماسة النار، فكل هذه المسببات غير واجبة عن أسبابها، وحكم العادة هو ما يحصل به ظن يقارب اليقين بأن هذه المقترنات تحدث على أوضاعها التى ألفناها . ثم يقيس الرازي مسألته هذه على مجارى العادات وأحكامها فيقول: (إنا لما تأملنا الشرائع وجدنا الأحكام والمصالح متقارنين، لاينفك أحدهما عن الآخر، وذلك معلوم بعد استقرار أوضاع الشرائع، وإذا كان كذلك، كان العلم بحصول هذا مقتضيًا ظن حصول الآخر، وبالعكس، من غير أن يكون أحدهما مؤثرًا في الآخر وداعيًا إليه، فثبت أن المناسبة دليل العلية مع القطع بأن أحكام الله تعالى لا تعلل بالأغراض)(1) .

وفي هذا الوجه تترادف عباراته القاطعة بنفى التعليل ، مثل: (فثبت أن تعليل أحكام الله تعالى بالمصــالح باطل)(2) ، ومثل: (لا يمكن القول بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما يكون مصلحة للعبد)(3) .

وقد اشتمل هذا الوجه على أدلة ثمانية من أدلته القاطعة المانعة من التعليل -على حد قوله- استغرقت أكثر من عشرين صحيفة من كتاب: المحصول .

* * *

نظرية المقاصد والتعليل:

ونكتفى بهذا القدر من إشكالات (التعليل) وقد حملنا على بحثها – في شيء من الإطالة – محاولة الكشف عن العلاقة الخفية بين تعليل الأفعال في علم الكلام وتعليل الأحكام في علم الأصول، وبحيث يطرد الحكم بأن من يثبت التعليل في علم الكلام يلزمه إثباته في الأصول، والعكس صحيح أيضًا . ولعل إثبات الطرد في هذه العلاقة يبرر مشروعية التساؤل عن حالة الإمام الشاطبي في علاقة نظريته المقاصدية بقضية التعليل. وربما كان ضربًا من تحصيل الحاصل، البحث في أهمية مبدأ التعليل في نظرية المقاصد. وقد ألمحنا في بداية البحث إلى أن الشاطبي نفسه لم يسعه – في مقدمة كتاب المقاصد – إلا أن يتوقف – وفي عبارات محدودة – عند قضية التعليل؛ لينبه إلى هذا الربط المنطقى بين القضيتين، ونضيف هنا أنه ما كاد يفرغ من تقسيم سريع لأنواع المقاصد حتى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام مبدأ التعليل، وضرورة وضعه أولاً كمسلمة مفروغ من ثبوتها حتى يسلم له تقسيمه الأولى لمقاصد الشريعة. فبادر قارئه بقوله: (ولنقدم قبل الشروع في المطلوب مقدمة كلامية مسلمة في هذا الموضوع، وهي: أن وضع الشرائع إنما هو لمصـالح العبــاد في العاجـل والآجل)(4).

وإذن فالخطوة الأولى في نظرية المقاصد لا تبدأ إلا من مسلمة (التعليل) وبدونها لا يمكن البدء في المقاصد لا تقسيمًا ولا تأسيسًا . وهذه المقدمة المسلمة هنا في قسم المقاصد يصفها الشاطبي بأنها (دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا ، وليس هذا موضع ذلك)(1) . ويفيدنا هذا النص أمرين:

الأول: أن التعليل يجب أن يكون مسلما في باب المقاصد.

الثاني: أن التعليل وإن كان مسلمًا هنا فإنه في الأصل دعوى قابلة للصحة والفساد، ومن ثم فهي مطلوبة بالبرهان، وقد حمل بعض الباحثين كلام الشاطبي هذا على محمل التعارض والتناقض؛ لأن وصف التعليل بالمصالح والمقاصد بأنه (مسلمة) يعنى أنها ليست موضع خلاف، ومع ذلك يقول: إنها تحتاج إلى برهان، وهذا ليس من شأن المسلمات، بل كيف تكون مسلمة مع اعترافه بأنها قد وقع الخلاف فيها في علم الكلام(2)؟.

وحقيقة الأمر أن الشاطبي على وعي دقيق بما يقول ، وأن تأصيله هذا يتفق وتأصيل أئمة المعقول في تراث الإسلام من أن لكل علم من العلوم مبادئ هي مسلمات في هذا العلم الذي تستخدم فيه، إما لأنها قضايا واضحة بذاتها فتستغنى عن البرهان، أو هي قضايا نظرية، وعندئذ يبرهن عليها في علم آخر أعلى من العلم الذي يستعملها كمسلمات؛ وذلك لأن البراهين المستخدمة في كل علم لولا أنها ترتكز -في النهاية- على مسلمات مفروضة الصدق في هذ العلم نفسه، ما أمكن البحث في مطالب العلم لإثبات العوارض الذاتية لهذا الموضوع أو ذاك من مـوضوعات العلوم(3) .

والشاطبي – وهو يقرر تسليم هذه المقدمة في الأصول – ينطلق – تحديدًا – من هذه القاعدة، فهو ينبه إلى ضرورة وضعها مسلمة في المقاصد؛ مما يعنى أنها في مواضع أخرى ليست مسلمة، إذ هي في علم الكلام قضية خلافية، بل هي لفرط الخلاف فيها شطرت نخبة ممتازة من قمم الفكر الإسلامي شطرين : شطرًا يثبتها، وآخر ينكرها؛ نظرًا لمآزق عقدية كانت كافية – عندهم – لأن ينفضوا منها أيديهم جملة وتفصيلاً .

وإذن فالبرهنة على هذه المسلمة في علم المقاصد خروج على قانون النظر، وهذا ما عناه الشاطبي بقوله :(وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادًا ، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام ( … ) ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة)(1) .

وقد يُظن أن الشاطبي خرج بالفعل على هذا القانون؛ لأنه استدل على (مسلمة التعليل) بآيات وأحاديث مستقرأة من الشريعة. ذكرها في نفس الموضع الذي قدم له بهذه المسلمة، غير أن الشاطبي تحوط لمثل هذا التوهم، فنبه قارئه إلى أن هذه الشواهد ليست أدلة على المسلمة، بل هي من قبيل التنبيه عليها، فقال في عبارة شديدة الإيجاز : (والمقصود التنبيه). ومرة أخرى تبلغ دقة الشاطبي ومنهجيته، منتهاها؛ لأن علماء المعقول يقررون أن البديهيات – وما إليها – وإن كان لا يستدل عليها فإنه يمكن أن ينبه عليها؛ لخفائها وغموضها أحيانًا، وإذن فهذه الشواهد تنبيهات لا دلائل.

الخلفية الكلامية لنظرية المقاصد:

ونعود إلى الأسئلة التى طرحناها في بداية هذه الورقة، بحثًا عن الخلفية الكلامية التى تقف وراء هذه النظرية الرائعة، ونتساءل مرة ثانية: هل كان الشاطبي معتزليًّا، ومن ثم استطاع أن يذهب في التعليل إلى حد إثبات مقاصد للشارع؟ أو كان أشعريًّا، وإذن فكيف استقام له القول بالمقاصد؟ أو أنه أراد لنظريته أن تقوم في فراغ لا يعوّل فيه على أصول كلامية؟

وقبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة نشير إلى (صعوبة) تحول دون تحرير الإجابة تحريرًا علميًّا، وهذه الصعوبة هي صمت المصادر – التى ترجمت للشاطبي – عن تحديد مذهبه الكلامي؛ مما يدفع الباحث إلى الاعتماد على الفروض، وتلمس الأشباه والنظائر.

وأول فرض يتبدى هنا هو الظن بأن الشاطبي من المعتزلة ؛ لأنه قائل بالتعليل في الأحكام – على الأقل – فهو مصرح به، ثم هو مقتضى نظرية المقاصد، ولو صح هذا الفرض لكنا أمام نظرية محكمة البناء والأسس، لكن عقبة تحول دون هذا الافتراض، تمثلت في أقوال متناثرة للإمام الشاطبي يتضح منها أنه خصم لمذهب الاعتزال، وفي أصل من الأصول التى ترتبط بها نظريته المقاصدية ارتباطًا عضويًّا، وأعنى به: أصل التحسين والتقبيح العقليين، فقد ذكر في المقدمة العاشرة من المقدمات التى صدر بها كتاب الموافقات، ( أن النقل والعقل إذا تعاضدا على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا، ويتأخر العقل فيكون تابعًا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل)(1) .

ولا يسع الباحث إلا أن يتوقف أمام هذا النص الذي يمثل (عقدة) في منظومة الشاطبي التعليلية، الباحثة عن روح الشريعة ومقاصدها، وارتياد آفاقها البعيدة . ومن شأن ذلك تجاوز ظواهر النصوص وحدوده القريبة.

ويزداد القارئ حيرة وهو يواصل مع الشاطبي استدلالاته على هذه المقدمة، ومن بينها – فيما يقول – : (ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح)(2) .

ومع هذا النص – الصريح – تسقط كل الاحتمالات التى يمكن أن تنحاز بالشاطبي إلى معسكر المعتزلة، على الأقل: في قضية التعليل، التى بينا – في تكرار ممل – أنها ترتبط بتحسين العقل وتقبيحه ارتباطًا لا فكاك له .

ونتساءل من جديد : ماذا يتبقى لقضية التعليل – ومعها : نظرية المقاصد – من مبررات عقلية لو أننا صادرنا على العقل مهمة التحسين والتقبيح؟ كيف وما شنع به المعللون على الأشاعرة إنما هو حكم العقل بأن ذلك عبث قبيح مستحيل الوقوع في أفعال الحكيم وأحكامه؟ ولو أن منكرًا أنكر نظرية المقاصد برمتها، فبماذا نعارضه؟ وماذا في أيدينا من سند نمنع به إنكاره غير القول بأن العقل يقبح أن تصدر من الحكيم أحكام من غير مقاصد؟! إن هذه المقدمة التى أصّلها  الشاطبي على تقديم النقل على العقل ومصادرة تقبيح العقل وتحسينه كافية في تقريب الشاطبي ليس من مذهب الأشاعرة فحسب ، بل تكاد توقفه على قدم المساواة مع الظاهرية، ويبدو أنه استشعر شيئًا من هذا التوافق فتساءل قائلاً : فإن قيل : هذا مشكل من أوجه:

الأول: أن هذا الرأى هو رأى الظاهرية ؛ لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان، وحاصلــه : عدم اعتبار المعقول جملة…(1)) .

ولا يهمنا أن نسترسل مع إجابات الشاطبي على هذا الاعتراض، بقدر ما يهمنا التوقف عند (نفي) تقبيح العقل وتحسينه مع التمسك بالمقاصد والأغراض، فهذه مشكلة بكل المقاييس، إذ اللازم المنطقى لهذا النفى إنما هو الوجه الأشعرى النافى للتعليل، والشاطبي ليس أشعريًّا ؛ لأن قضية التعليل عنده أصل ثابت لا يهتز، ثم إن نبرته في نقد المذهب الأشعرى نبرة عالية وحادة؛ استمع إليه في نقده الحاد للرازي وعبارته الصارمة التى يقول فيها: (…وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد … والمعتمد إنما هو أنا استقرأنا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره)(2) . وكان من المنتظر من الشاطبي، وقد اعتمد التعليل كما يقول، ألا يهدم الأصل الذي بنى عليه المعللون جميعًا، ولو أنه اقتصر على اعتماد التعليل دون هدم أصله لكان متسقًا تمام الاتساق، لكنه لم يفعل، وهكذا: يتبنى الشاطبي مذهب المعتزلة في التعليل، في الوقت الذي يرفض فيه أصل الحسن والقبح العقليين، ويتبنى أصل الأشاعرة في الحسن والقبح الشرعيين، في الوقت الذي يرفض فيه مذهبهم في نفى التعليل، أو لنقل : إنه تبنى مذهبًا ونقض أصله، وقبل أصلاً ورفض مذهبه. ومع هذه المفارقة الحادة يصعب القول بأن نظرية المقاصد تتأسس على أصول كلامية متسقة، وإن أمكن القول بأنها قامت على أصلين متدابرين لا يثبت أحدهما إلا ريثما ينتفى الآخر.

ويبقى لدينا تساؤل أخير : إذا صعب تصنيف الشاطبي -من زاوية منهجية بحتة- تحت أصل كلامي : أشعرى أو معتزلي، فهل يمكن القول بأنه عوّل في بناء نظريته على أصل آخر خارج علم الكلام؟

إن نصوص الشاطبي تصرح بأنه يعول على (استقراء الشريعة) في القول بالتعليل، وأن هذا الاستقراء لا تمكن المنازعة فيه لا من الرازي ولا من غيره.. إذن فهل نحن أمام أصل جديد اكتشفه الشاطبي لبناء نظريته، وسماه: (الاستقراء) ! إن من حسن حظ القارئ أن الشاطبي لا يتركه يذهب بعيدًا في تحديد المقصود من الاستقراء، وهل هو استقراء تام لأحكام الشريعة حكمًا حكمًا، واستخراج ما تتضمنه وتنطوي عليه هذه الأحكام من مصالح ومقاصد، ثم الصعود من تصفح الأمثلة الجزئية إلى صياغة قانون كلي يقول: إن الشريعة موضوعة لأغراض ومنافع؟ أو هو أمر آخر؟

لقد أراح الشاطبي قارئه منذ البداية ووضع يده على المقصود من الاستقراء، وأنه الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة التى تفيد تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه، والتى تستخدم فيها لام التعليل، ولام (كي) والتي انتهى منها الشاطبي إلى القول بأنه (إذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفــاصيل الشريعة (…) فلنجر على مقتضاه، ويبقى البحث في كون ذلك واجبًا أو غير واجب موكولاً إلى علمه)(1) . وتحليل هذا النص يثير عدة تحفظات نختم بها بحثنا هذا، ونجملها فيما يلي:

أولاً: هذا الذي يذكره الشاطبي مقتول بحثًا في كتابات المتكلمين والأصوليين من الأشاعرة والمعتزلة والظاهرية أيضًا . وهو ليس تأصيلاً جديدًا بقدر ما هو تفضيل لبعض الأدلة على بعض، والذي انتقاه الشاطبي في هذا المقام هو دليل (السمع) الذى احتج به المعتزلة  وناقشه الأشاعرة، وقد ذكره الرازي ضمن الوجوه الستة في مطلب الدلالة على إفادة المناسبة ظن العلية، وصدَّره بقوله : (… وخامسها: النصوص الدالة على أن مصالح الخلق ودفع المضار عنهم مطلوب الشرع)(2).

وقد عارض الرازي هذه الوجوه – بما فيه الوجه الخامس – بأدلة من عنده تبطل القول بالتعليل.

وإذن فدلالة الاستقراء غير مسلمة عند كثيرين من أئمة الكلام والأصول، ولهم عليها مناقشات تدور حول صرف دلالة الآيات عن معنى التعليل إلى معنى آخر، فالشهرستاني – مثلاً – يؤكد أن (اللام) في هذه النصوص، لام المآل، وصيرورة الأمـر، وصيرورة العاقبة، لا لام التعليل)(1).

والآمدى، بعد ما يسرد الآيات  الكريمة، يعقب قائلاً: ( فليس المراد بها التعليل، وإنما المراد تعريف الحال في المآل (…)، وعلى هذا يخرج كل ما ورد في هذا الباب من الآيات والدلالات السمعيات، ونحن لا ننكر أن ذلك مما يقع . وإنما ننكر كونه مقصودًا بالتكليفات والأمر بالطاعات ، حتى يقال: إنه خلق لكذا، أو لعلة كذا. بل تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا)(2) .

ونحن من جانبنا لا ننكر أن تخريجات الأشاعرة لهذه السمعيات غير مقنعة؛ إذ السمعيات تدل على التعليل جملة وتثبت المقاصد العامة البعيدة، ولكن الذي نتحفظ عليه هو أن الاستقراء المبنى على تصفح النصوص إذا كان بهذا الحجم من المناقشة فهل يمكن الاطمئنان إلى تأكيد الشاطبي بأن هذا الاستقراء استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره؟!

ثانيًا : قد يجرنا هذا النص – من جديد – إلى الظن بأن الشاطبي يميل إلى الاعتزال، ومستندنا في هذا الظن قوله: (ويبقى البحث في كونه ( = التعليل) واجبًا أو غير واجب موكولاً إلى علمه) فهذا القول يكشف عن اتجاه اعتزالي مستتر بين السطور؛ لأن الشاطبي لا يتوقف في (التعليل) عند حدود التأصيل، بل يذهب في هذا السبيل خطوة أبعد يستشرف منها أصل المعتزلة في القول بوجوب التعليل في أفعال الله تعالى، وهذا ما يفهم من عبارته المفتوحة للجواز والوجوب على قدم المساواة ، وكل ما في الأمر أنه يكل القطع في هذه المسألة إلى علمه تعالى . والشاطبي – في هذا النص – يتسق مع ما ينبغي أن يمهده لنظرية المقاصد، إذ لولا التعليل – الجائز أو الواجب – ما سلمت للشاطبي جملة واحدة من كتاب المقاصد.

ثالثًا: تعميم الشاطبي بأن أمر التعليل مستمر في جميع تفاصيل الشريعة تعميم كاسح، والنصوص المحدودة التى استشهد بها لا تساعده على هذه النتيجة ، فمن المعلوم أن كثيرًا من أحكام الشريعة غير معلل، والنصوص نفسها تشير إلى ذلك، وإلا فماذا يعنى قول (أبى الزناد) فيما يرويه عنه الإمام البخاري : ( إن السنن ووجوه الحق لتأتى كثيرًا على خلاف الرأى، فما يجد المسلمون بدًّا من اتباعها ، وذلك أن الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة)(1) . وكذلك قول عمر- رضى الله عنه – في الموطأ : (عجبًا للعمة تورث ولا ترث)(2) .

وما لنا نذهب بعيدًا في تلمس نقض التعميم في استقراء الشاطبي، وهو نفسه قد ضرب فيه بأكثر من معول، ويكفينا من ذلك أن أحكام العبادات – بأكملها – غير معللة عنده، والاستقراء أيضًا هو الذي دله على (تعبدية) هذا القسم الضخم من أحكام الشريعة وخلوه من التعليل . بل إنه لا يرى قيمة علمية لمحاولات العلماء السابقين في اكتشاف مقصد أو علل يعللون بها أحكام العبادات، ويعترف بأنه لا يعلم وجهًا لاختصاص الصلوات بأفعال وحركات وهيئات مخصوصة، ولا يعلم لماذا لا تصح الطهارة إلا بماء طهور، مع أن الماء الطاهر يحقق نفس الغاية؟ وكيف يغنى التيمم عن الوضوء مع خلوه من أية نظافة حسية ؟ إلى أمثلة عديدة ذكرها في المسألة الثامنة عشرة من النوع الرابع من المقاصد ، وعنونها بقوله : (الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف: التعبد، دون الالتفات إلى المعاني)(3) ، مما حمل واحدًا من أعظم رواد (المقاصد) في عصرنا الحديث على أن يبدى تبرمه من مفارقات الشاطبي هذه، قائلاً: (واعلم أن أبا إسحاق الشاطبي ذكر في المسألتين: الثامنة عشر، والتاسعة عشر، من النوع الرابع من كتاب المقاصد كلامًا طويلاً في التعبد والتعليل، معظمه غير محرر ولا متجه، وقد أعرضت عن ذكره هنا لطوله واختلاطه)(4) .

وأخيرًا : لم يكن الشاطبي أشعريًّا بالمعنى الدقيق، ولا معتزليًّا، ولا ظاهريًّا، ولم يجر على سنن الفقهاء في القول بالحكمة، ولا تفرد باكتشاف أصل جديد لم يعرفه القدماء، ورغم ذلك استطاع صوغ نظرية في المقاصد، لولاها لظل جانب كبير من جماليات الشريعة ومحاسنها رهن الخفاء والاستتار. فكيف تم له ذلك؟ سؤال تثيره هذه الورقة المتواضعة، وتثير معه الرغبة في المزيد من البحث بغية الإجابة عليه إجابة علمية محددة .

(*) أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين – جامعة الأزهر .

(1) الموافقات ، 2 : 323 – 409 (بتعليق الشيخ عبد الله دراز) المكتبة التجارية، الطبعة الثانية، 1395هـ -1975م.

(1) الموافقات، 2: 6 .

(2) راجع تعليقاته على كتاب الموافقات ،2 : 5 ، 168 .

(1) نقلاً عن د. محمد مصطفى شلبي في كتابه الرائع : تعليل الأحكام، ص95، ط. الأزهر 1947م، وقد نقل الأستاذ المؤلف نصوصًا لكثير من أئمة الأصول تؤكد ما ذهب إليه ( علاء الدين الحنفي ) من ارتبــاط الكــلام في الأصول بالمذهب الكلامي ارتباطًا عضويًا (المصدر السابق 96)، وأنه لا يمكن الكلام في (العلة) في حقل الأصول إلا بعد تحرير محل النزاع في مسألة التعليل عند المتكلمين ، كما أشار الدكتور الريسوني (نظرية المقاصد …، 169) إلى أهمية التعليل القصوى بالنسبة لنظرية المقاصد، حتى أنه جعلها الأساس لهذه النظرية، وإن كان في موضع آخر (ص185) يرى أن البحث الكلامي في قضية التعليل لا أهمية له، ولا يعدو أن يكون جدلاً عديم الجدوى، مع أن تأصيل قضية التعليل تأصيل كلامي لا أصولي .

(1) أبو رشيد النيسابوري، المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين، 210 ؛ تحقيق معن زيادة ورضوان السيد، معهد الإنماء العربي، طرابلس 1979م .

(2) السابق، ص115 .

(3) السابق، ص354 .

(1) المغني في أبواب التوحيد والعدل، 12 (النظر والمعارف)، ص349 – 350، القاهرة، راجع أيضًا المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار، ص236 وما بعدها، القاهرة . ولمزيد من البيان حول نظرية الوجوه، يراجع المغني، 6 (التعديل والتجوير)، ص57-80 .

(1) شرح الأصول لخمسة، 310 .

(2) المحيط بالتكليف، 234؛ هذا ويحدد أصحاب الوجوه أصولاً مقبحة للفعل، يذكرون في مقدمتها: الظلم والكذب والعبث والمفسدة، كما يحددون أصولاً موجبة وأصولاً محسنة، وإن كانوا يختلفون في أن الحسن هل يكفي في تحققه انتفاء وجوه القبح أو لابد من حصول وجه محسن: انظر في هذه الاختلافات : القاضي عبد الجبار، المحيط بالتكليف، 239؛ المغني: 6 ، (التعديل والتجوير)، 31 وما بعدها.

(3) المغني، 6 (التعديل والتجوير)، 18.

(3) انظر: الرسالة العلمية القيمة التي كتبها المرحوم أ. د. قنديل محمد قنديل بعنوان: أساس التحسين والتقبيح لدى الإسلاميين ومقارنته بمذهب (كانت) (أطروحته للدكتوراه، مكتبة أصول الدين، القاهرة، (1398 هـ – 1978م) جـ1، ص228، حيث يذكر في هذا الموضع أن ابن القيم ذهب في مفتاح دار السعادة، (2: 7،39) إلى أن إدراك أصول التحسين والتقبيح أوغل في باب الضرورة وأشد وضوحًا من كثير من الضروريات الأخرى، وبحيث لو قدرنا إمكان الشك في الضروريات المنطقية فإن ذلك لا يمكن في الأصول الأخلاقية.

(1) انظر فيما مضى هامش (2) في الصفحة قبل السابقة. هذا ويحيل المعتزلة على الله تعالى أفعالاً كثيرة مثل: تعذيب أطفال المشركين، وتكليف العباد بما لا يطيقون، وإظهار المعجزة على يد الكذابين، كما يوجبون على الله تعالى أفعالاً كثيرة ترتبط بأصل العدل مثل الإقدار والتمكين ووجوب الثواب والعقاب واللطف والأعواض … وكل هذه الأفعال ترتبط ارتباطً مباشرًا بالقبح والحسن العقليين .

(2) نهاية الإقدام في علم لكلام، 406، مصور عن نشرة (جيوم)، مكتبة زهران، القاهرة .

(3) الأشعري، مقالات الإسلاميين، 1: 406، مصور عن طبعة جيوم، القاهرة، بدون تاريخ .

(1) لا ينطبق الأصل الأشعري في شرعية الحسن والقبح على كل معاني الحسن والقبح في الأفعال، فمن هذه المعاني ما يتفق = =الأشاعرة مع المعتزلة في استقلال العقل بإدراكه حتى ولو لم يرد شرع، وهو: أ- الحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص، مثل: العلم والجهل.

ب- وبمعنى موافقة الغرض أو مخالفته، مثل: العدل والظلم، فهذان المعنيان للحسن والقبح لا خلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في أن العقل يهتدي إليهما ويحكم بهما، سواء ورد بهما الشرع أو لم يرد. أما المعنى المتنازع فيه بين الفريقين فهو الفعل الذي يُمدح فاعله -أو يُذم- في الدنيا، ويثاب عليه -أو يُعاقب- في الآخرة- ومثل هذا الفعل لا يعرف العقل له -فيما يرى الأشاعرة- حسنًا ولا قبحًا إلا بطريق الشرع، والشرع حين يأمر به أو ينهى عنه لا يكشف فيه عن وجه حسن أو قبح، بل ينشئ فيه وصف الحسن حين يأمر به. أو وصف القبح حين ينهى عنه. (راجع من المصادر الأشعرية: كتاب الإرشاد 265، غاية المرام 225، شرح الموقف 8: 182) .

(1) ابن فورك، مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري: 94، تحقيق دانيال جيماريه، دار المشرق، بيروت، 1986م .

(2) السابق، 97 .

(1) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد: 286، تحقيق محمد يوسف موسى …، مكتبة الخانجي، مصر، 1950م .

(2) السابق، 258 .

(3) ابن فورك، مجرد مقالات …، 15 .

(4) شرح المقاصد، 2: 109-110 .

(5) ابن فورك، مجرد مقالات …، 129 .

(1) انظر المصدر السلبق، 138 – 139 .

(2) انظر المصدر السلبق، 140 – 141 .

(3) انظر على سبيل المثال: البغدادي، أصول الدين: 150، استانبول 1928، الشهرستاني: نهاية الإقدام: 400 وما بعدها، الآمدي: غاية المرام في علم الكلام 233، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، القاهرة 1971م، الشريف الجرجاني، شرح المواقف 8: 205، محمد بن يوسف السنوسي، عمدة أهل التوفيق في شرح عقيدة أهل التوحيد الكبرى، 228-230، ط. مصر، 1316 هـ .

(1) انظر في معنى الأغراض العائدة إلى العبد عند المعتزلة، القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة: 301، والجويني، الإرشاد: 287-288، وانظر أيضًا د. محمد عبد الفضيل القوصي في أبحاثه الكلامية المتميزة، بعنوان: هوامش على الاقتصاد في الاعتقاد، لحجة الإسلام الغزالي، 59 وما بعدها، دار الطباعة المحمدية، القاهرة 1418 هـ – 1997م . وفيما يتعلق بانتقادات الأشاعرة لمعنى الاستكمال بالغرض في الفعل الإلهي، راجع: الرازي، كتاب الأربعين في أصول الدين، 1: 350، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة 1986م. هذا، ولا يرتضي ابن تيمية -وتلميذه ابن القيم- مذهب المعتزلة في أن الأغراض في أفعاله تعالى تعود على العباد، وإنما تعود -في رأيهما- إلى الله أيضًا، وعند ابن تيمية أن الفعل الخالي من منفعة تعود على الفاعل هو في حكم الفعل العبث، مثله مثل الفعل الخالي من قصد الفاعل. ويرى أيضًا أن المعتزلة وقفوا بقضية التعليل في منتصف الطريق، وأن العبث الذي فرُّوا منه في قولهم بوجوب التعليل وقعوا فيه حين نفوا رجوع الغرض والفائدة إلى الله تعالى. انظر: منهاج السنة النبوية، 2: 313، تحقيق د. محمد رشاد سالم، دار الكتاب الإسلامي، 1406هـ – 1986م، وأيضًا مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية، 8: 88 .

(2) نهاية الإقدام ، 401 – 402 .

(3) غاية المرام، 233. تعتمد نظرة الآمدي -في هذه المسألة- على ما يُسمَى في المنطق بتقابل الملكة والعدم، وهو تقابل بين أمرين: أحدهما وجودي والآخر عدمي، مثل: الحياة والموت، والبصر والعمى، وهذا التقابل يشبه المتضادين في أنهما لا يجتمعان في محل ويمكن أن يرتفعا -معًا- عن محل آخر، فمثلاً: يمكن سلب العمى عن الشخص البصير، أو البصر عن الأعمى؛ لأن الموصوف قابل لهذا الوصف أو لضده، لكن لا يمكن وصف الحجر -مثلاً- بأنه أعمى؛ لأنه غير قابل لا للبصر ولا للعمى. وهكذا أفعال الله تعالى لا تقبل الغرض أصلاً -فيما يحلل الآمدي- حتى توصف بالعبث إذا خلت عنه، فلا يصح -والحالة هذه- وصفها بالعبث إلا إذا صح قولنا: إن الحجر أعمى؛ لأنه خال عن البصر.

(1) د. محمد عبد الفضيل، هوامش …، 63 .

(2) السابق، 70 .

(3) الجويني، البرهان في أصول الفقه، 2 : 551 (فقرة رقم 806)، تحقيق د. عبد العظيم الديب، دار الوفاء، المنصورة، 1412هـ – 1992م.

(1) المستصفى في علم الأصول، 2: 238، المطبعة الأميرية، مصر، 1324 هـ .

(2) الإحكام في أصول الأحكام، 3: 249، 250، 254، دار الكتب العلمية، بيروت، ب. ت.                                     =

= وانظر أيضًا: 4: 333، حيث يرفض مصطلح (الأمارة)، في قوله: إن (إثبات الحكم في الفرع مما لا يمكن إسناده إلى مجرد إثبات حكم الأصل دون جامع بينهما، والجامع يجب أن يكون في الأصل بمعنى (الباعث) لا بمعنى (الأمارة) على ما سبق تقريره).

(1) المحصول في علم أصول الفقه، جـ2، قسم 2 : 237-273. الطبعة الأولى 1400هـ – 1980م. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

(2) السابق، 242 .

(3) أفرد د. أحمد الريسوني في كتابه القيم : نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1412 هـ – 1992م) فقرة مطولة بعنوان موقف الرازي من التعليل (ص188 – 194)، نقل فيها أربعة أوجه مما ذكره الرازي، وظنّها -لطولها وتشعبها- أدلة للرازي، وبنى على ذلك نتائج تلخصت في أن الرازي من المعللين، وأنه (لفرط تحمسه= =للدفاع عن التعليل يكاد يكون معتزليًّا، فهو حين جعل من أدلة رعاية الله للمصالح كونه -سبحانه- خلق العبد للعبادة، قال: (فلابد أن يزيح عذره، وذلك برعاية مصالحه) (ص191)، ويعقب د. الريسوني على الشاطبي بأنه (لا يسوغ له أن ينسب الرازي إلى إنكار التعليل البتة، (وأن من الواضح جدًّا أن المصالح والمفاسد ـ عند الرازي ـ هي العلل الحقيقية المؤثرة في شرع الأحكام … إلخ. وحقيقة الأمر أن هذه الاستنتاجات لا تصور حقيقة مذهب الرازي في التعليل، وأن نصوصه لا تسمح بهذا الاستنتاج .

(1) المحصول ، جـ 2 ، ق 2 ، ص 246 .

(1) السابق 247.                                                               (2) السابق 250 .

(3) السابق 255 .                                                              (4) الموافقات 2 : 6 .

(1) السابق . ن . م .

(2) علق د. الريسوني ( نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي 169 ـ 170 ) على نصوص الشاطبي هذه بما يعني أنه متناقض ومضطرب بين الوصف بالمسلمة ، والحاجة للبرهان. وأنه كان ينبغي علي الشاطبي أن يثبت هذه المسلمة بالأدلة في معرض كلامه عن المقاصد .

(3) راجع ـ على سبيل المثال ـ ابن سينا ، الشفاء 2 : 382، الطبعة الأولى .

(1) الموفقات : 2 : 6 .

(1) الموافقات : 1 : 87 .

(2) السابق ، ن . م .

(1) السابق ، 88 ، وانظر أيضًا ، د. عبد المجيد التريكي : مناظرات في أصول الشريعة بين ابن حزم والباجي 491 ، ترجمة د. عبد الصبور شاهين ، دار الغرب الإسلامي 1406هـ ـ 1986م .

(2) الموافقات 2 : 6 .

(1) السابق 2 : 7 .

(2) المحصول جـ 2 ، ق2 ، 240 ـ 241 .

(1) نهاية الإقدام 404 .

(2) غاية المرام 241 ، 242 .

(1) نقلاً عن العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور : مقاصد الشريعة الإسلامية 240 ، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي ، دار النفائس ، الأردن 1421هـ ـ 2001م .

(2) المصدر السابق، ن . م .

(3) الموافقات 2 : 300 وما بعدها ، انظر أيضًا د. الريسوني : نظرية المقاصد .. 171 ـ 172 .

(4) العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، مقاصد الشريعة الإسلامية 246 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر