تمهيد:
ظهر نظام التأمين في أوربا الناهضة من ظلمات العصور الوسطى ، وترعرع مع الثورة الصناعية ، ثم ساعد هو على تدعيم النظام الرأسمالي وعلى حماية الإمبريالية الأوربية، وعندما وصلنا في الشرق العربي نظام التأمين ، وصلنا وهو مكتس لباس الحماية الأجنبية ، كان نظام التأمين أجنبيًّا في أصله، أجنبيًّا؛ فالمشرفون عليه أجانب ، أجنبيًّا؛ إذ إن الغالبية الكبيرة من عملائه كانت من الأجانب أيضًا؛ المال المؤمن عليه أجنبي، المستأمن أجنبي، والمؤمن أجنبي . نظام ورد إلينا – نظرنا إليه شذرًا – نظرنا إليه بعين الشك التى تحيط بكل أجنبي وبكل نظام استغلالي دخيل.
جاء هكذا نظام التأمين إلى بلادنا ، وكان علينا أن نحارب الاستغلال الرأسمالي الأجنبي والحماية التى تسمح له بالازدهار، وذلك هو التأمين – وكان أن استخدم سلاح الشريعة الإسلامية لمحاربة ذلك النظام . وعن فهم أو عن غير فهم قيل بأن عقد التأمين يعتبر عقدًا فاسدًا تحرمه شريعة الرحمن. وصدرت الفتاوى من دار الإفتاء وصدرت أحكام من المحكمة العليا الشرعية وكلها تدين التأمين، كذلك الفقهاء فرادى هاجموا التأمين. ولكن هذه الآراء التى أبديت في وقت جهادنا ضد الاستغلال الاستعماري ألم يأن الأوان لأن نمحصها على ضوء تطور سوق التأمين في بلادنا؟.
إن قوانين تمصير شركات التأمين الأجنبية الصادرة سنة 1957 وقوانين يوليه 1961 كفيلة بأن تقنعنا بأنه لابد من أن يبحث الموضوع من جديد وعلى أسس جديدة .
لقد تخلصت السوق العربية من المؤمن الأجنبي ، ومن المال الأجنبي، وأصبحت هيئات التأمين تابعة للقطاع العام، وأصبح المستأمن وطنيًّا، والمال المؤمن عليه وطنيًّا .
وجاءت فترة التفكير بهدوء ، وظهرت آراء تباينت فيما بينها، وانقسم المفكرون الذين ناقشوا الموضوع قسمين، قسم ذو تكوين قانوني حديث، وقسم آخر شرعي بحت.
وكان أن ظهر جو من عدم الفهم المتبادل بين الفريقين، فالقانونيون شعروا بالملل من أول الأمر، ولم يحاولوا أن يرهقوا أنفسهم في محاولة إقناع فئة لا تريد الاقتناع، كونت رأيها منذ البداية ولا تريد أن تحيد عن هذا الرأي . والشرعيون من جهتهم لا يعتبرون رأى علماء القانون في الأمور الشرعية لعدم اختصاصهم كما قال الأستاذ مصطفى الزرقا .
ورغم وجود عدم الفهم المتبادل كان كلٌّ من الفريقين يريد أن يعرف وجهة نظر الآخر، وقامت محاولات لجمع شمل القانونيين والشرعيين على مائدة واحدة ليشرح كلٌ وجهة نظره، ولكن كانت هناك عقبات ولم تنجح تلك المحاولات، والحقيقة أن الخلاف بين الفئتين راجع إلى أن كلاًّ منهما ينظر إلى التأمين نظرة مختلفة. فالتأمين لدى القانونيين فن يقوم على التعاون وتوزيع المخاطر وفق قوانين الإحصاء (وخاصة قانون الأعداد الكبيرة) بينما يلبس التأمين لدى الشرعيين لبوس القمار والرهان وأكل أموال الناس بالباطل .
وكان لابد أن تعقد مؤتمرات جدية يناقش فيها موقف الشريعة السمحة من نظام التأمين، وكان انعقاد «أسبوع الفقه الإســــلامي بدمشق» عام 1961 ، فرصة ليتناقش الشرعيون فيما بينهم في شرعية نظام التأمين . وظهرت آراء حديثة وألقيت بحوث عميقة وتلاها تعقيبات وتعليقات . وكانت تلك الآراء وتلك التعقيبات على مستوى رفيع يليق بأصحابها .
خطة البحث
سنعرض على التوالى عجالة لموقف القانونيين ثم نظرة عامة لموقف الشرعيين، وذلك تمهيدًا لأن نعرض لكل نوع من أنواع التأمين – تأمين حال الحياة – تأمين على الأشياء – تأمين بحرى – تأمين على المسئولية . ونرى مدى شرعية هذه الأنواع والحجج والفتاوى التى قيلت في كل نوع منها، ثم نختم البحث بنظرة شاملة في نظام التـأمين كفن أساسه التعاون .
موقف رجال القانون
يمتاز موقف القانونيين بخاصتين : الهروب من المشكلة وتفاديها أو محاولة حلها حلاً سطحيًّا ففهمهم العميق لنظام التأمين، وشعورهم القوى بأهميته وجديته كان دافعًا لهم بألا يكترثوا بالموضوع كثيرًا ، ولا تجد هنالك إلا محاولات مبعثرة قليلة ونتف من القول لا تسمن ولا تغنى من الجوع. فنجــد الدكتور محمد على عرفة لا يتعرض على الإطلاق لهذا الموضوع وكأن ليست هناك مشكلة يجب حلها، والمرحوم كامل مرسى يسرد تحت عنـوان : هل التأمين جـائز شرعًا ؟ ونصوص بعض الفتاوى للإمام الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن قراعة اللذين تقلدا في يوم ما منصب مفتى الديار المصرية، ولكنه لا يبدى لنا في الموضوع رأيًا ويتركنا حائرين ونحن في أشد الحاجة لمعرفة وجهة نظره سلبًا كانت أم إيجابًا .
والدكتور عبد المنعم البدراوي يهتم ببحث الناحية الأخلاقية في التأمين أكثر من اهتمامه ببحث الناحية الدينية فيه، ويوضح أن التأمين يزيد في الإنسان الإحساس بالمسئولية، ويربي فيه روح إيثار الآخرين على نفسه، وكذلك يقوى الشعور بالاحتياط للمستقبل .
ولعل الأستاذ أحمد طه السنوسي في مقاله «عقد التأمين في التشريع الإسلامي» من أوائل من حاول أن يقيس عقد التأمين من المسئولية على عقد الموالاة الذي هو رابطة قانونية بين شخصين يتعاقدان على أن يعقل أولهما وهـو (مولى المــوالاة) عن الآخــر وهو (المعقول عنه) إذا جنى أن يدفع الدية، وذلك في مقابل ميراثه منه إذا توفى المعقول عنه غير مخلف وارثًا قط.
ومن الذين عنوا بمعرفة رأى الشرع الإسلامي أيضًا الدكتور رزق الله إنطاكي، والدكتور نهاد السباعي وهما يرون أن الفقه الإسلامي يتقبل عقد التأمين، وأنه سبق إلى تقريره، ويذكر أن ما جاء «بالدرر في شرح الغرر» في كتاب الكفالة لو قال رجل لآخر: «أسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن كان محفوفًا وأخذ مالك فأنا ضامن، فسلكه وأخذ ماله يضمن القائل» ويستنبطان من ذلك أن فقهاء المذهب الحنفى قد قبلوا مبدئيًّا فكرة ضمان خطر الطريق التى تعتبر نصًّا صريحًا في التأمين قبل أن يولد ذلك العقد .
وعلى هذا، فموقف القانونيين يتخلص عند الذين عنوا ببحث الموضوع بشرعية عقد التأمين ومحاولة إيجاد نصوص شرعية تساعد اجتهادهم في تحليل هذا العقد ، وإن كانت محاولتهم غير شافية.
موقف علماء الشريعة:
لاشك في أن خير المحاولات الجدية لتقييم التأمين من وجهة النظر الإسلامية جاءت من جانب الشرعيين، ويمتاز موقف علماء الشريعة بالخصائص الآتية:
1- كانت نظرتهم للتأمين غالبًا نظرة جزئية فلم يستطيعوا أن يحيطوا بكل أنواع التأمين وأن ينظروا لعمليات التأمين ككل أساسه الفنى واحد، فبعضهم كان يبحث في التأمين البحرى والآخر كان يرتب حججه في التأمين من الوفاة والتأمين حال الحياة، أو فريق ثالث كان يبحث في التأمين من المسئولية، وجاء أخيرًا من كانت عنده فكرة شاملة لجميع أنواع التأمين، سواء كان تأمينًا على الأشـــياء أو تأمينًا عـلى الأشخاص .
2- أن بعض علماء الشرع لا يحرمون التأمين تحريمًا مطلقًا، وإنما يستثنون منه بعض الأنواع التى يرون أن ضرورتها الاجتماعية واضحة، وذلك كالتأمين الاجتماعي . وخير من يمثل هذا الفــريق هو الشــيخ محمد أبو زهرة . والبعض الآخر يبيح جميع أنواع التأمين بشرط أن تكون خالية من الربا، ويمثل هذا الاتجاه الأستاذ مصطفى الزرقا، ومنهم من يحرم التأمين تحريمًا مطلقًا وعلى رأس هؤلاء الشيخ عبد الله القلقيلي مفتى المملكة الأردنية .
3- أن الذين يحرمون عقد التأمين يقدمون ضده الشبهات التالية:
أنه عقد لا يمكن أن يندرج تحت أي عقد إسلامي معروف، وسنرى كيف أن الأصل في العقود الإباحة .
إن في عقد التأمين شبهة القمار والرهان والغرر والجهالة، وإن فيه تحد لقدرة الله وقضائه.
ويرد على هذا بأن عقد التأمين ليس بقمار؛ لأن القمار لعب لا جَدَّ فيه، والتأمين جد لا لعب فيه. أما شبهة الغرر فينفيها بعض الشرعيين بقولهم: إن عقد التأمين فيه معاوضة محققة النتائج فور عقده، وتنفى أن يكون محل العقد احتماليًّا . كما أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع الاحتياط لنوازل المستقبل.
وسنبين في الصفحات التالية تفاصيل تلك الحجج مطبقة على كل نوع من أنواع التأمين .
1- التأمين البحرى والتأمين على الأشياء وموقف الشرعيين منهما:
كان التأمين البحرى الذي يضمن التأمين على جسم السفينة أو على حمولتها أو هما معًا أول أنواع التأمين ظهورًا . ظهر أول ما ظهر في صورة قرض الأخطار الجسيمة والذي كان أشبه بمقامرة منه بعملية منظمة أساسها الإحصاء. ترعرع ذلك النظام في موانئ أوربا الناهضة وكان ظهوره وانتشاره إيذانًا بظهور وانتشار أنواع التأمين المختلفة .
ومن أوربا الناهضة جاءنا نظام التأمين البحرى، وفتحت شركات التأمين الأوربية فروعًا لها في الشرق العربي، وكان ذلك أول عهدنا بالتأمين. وساعد على انتشار هذه الفروع أو هذه التوكيلات نظام الامتيازات التى منحها للأجانب سلاطين العثمانيين، وكان على علماء الدين أن يبدو رأيهم في المسائل الجديدة التى عرضت عليهم . وعلماء الدين كانوا وما يزالون سباقين إلى إبداء الرأي في كل جديد.
وأول علماء الدين الذين اهتموا بالموضوع الفقيه الكبير ابن عابدين – المتوفى سنة 1252هـ أي في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي – وعرضه في كتابه «حاشية المختار على الدر المختار» . وقد تعرض ابن عابدين لبحث عقد التأمين البحرى (عقد السوكرة كما يسميه) حينما كان بصدد تحديد عقد الذمة والاستئمان اللذين يبيحان للأجانب بعض الحقوق، أي أن ابن عابدين كان يتكلم فيما يمكن أن نسميه اليوم قواعد تنازع القوانين في المكان ومركز الأجانب، ولذلك يجب لمحاولة فهم وتتبع ابن عابدين أن تكون في الذهن حاضرة تلك التفرقة الأساسية ،بين دار الإسلام ودار الحرب « فإن من العقود ما يحرم على المسلم أن يعقدها في دار الإسلام، ولكنها تباح له في دار الحرب، وكذلك هناك من العقود ما يحرم على المسلم في دار الإسلام، ولكنها تباح للأجنبي الحربي في دار الإسلام» .
في هذا النطاق – نطاق ما يسمى اليوم قواعد القانون الدولي الخاص – بحث ابن عابدين شرعية عقد التأمين البحري الذي هو أساسًا عقد من العقود التى تثير منازعات أجنبية . فكما هو معروف جاءنا ذلك العقد من إيطاليا، من دار الحرب، فالشركة الأجنبية التى تقوم بدور المؤمن تعتبر طبقًا لقواعد تنازع القوانين الإسلامية في مركز الحربي؛ لأنه ليس هناك عقد ذمة ولا أمان بينها وبين السلطات الإسلامية، هذه الشركة لها وكيل أعطى له الأمان وله الحق في عقد العقود في دار الإسلام، فالذي كان يحدث هو أن يستأجر المسلمون المراكب من الأوربيين، وهم حربيون؛ إذ إنهم في ذلك الوقت كانوا يملكون أساطيل تجارية كبيرة – ثم يعقدون مع شركة التأمين عقدًا تتعهد فيه بتعويضهم عما يصيب حمولة السفينة من هلاك بسبب الحريق أو الغرق أو النهب أو غير ذلك من الأسباب ، ومقابل دفع قسط التأمين الذي سماه ابن عابدين «مال السوكرة» .
ورأى ابن عابدين ينحصر في أنه يجب التفرقة بين ما إذا عقد هذا العقد في دار الإسلام أو في دار الحرب، وبين ما إذا كان قبض تعويض التأمين قد تم هنا أو هناك . أي هناك أربعة فروض:
1- فإذا انعقد التأمين بين مسلم وحربي في دار الإسلام فإنه لا يحل للتاجر المسلم أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم «وسنبين تعليل ذلك فيما بعد» .
2- أما إذا كان للتاجر المسلم شريك حربي مقيم في بلاد الحرب فيعقد الشريك الحربي هذا العقد – التأمين على حمولة السفينة – مع صاحب السوكرة في بلاده ويأخذ منه بدل الهالك ويرسله إلى التاجر المسلم، فالظاهر أن هذا يحل للتاجر أخذه؛ لأن العقد الفاسد (عقد التأمين) جرى بين حربين في دار الحرب وقد وصل إلى المسلم مالهم برضاهم فلا مانع من أخذه .
3- وقد يكون التاجر المسلم في دار الحرب فيعقد هناك عقد التأمين ويقبض البدل، أي تعويض التأمين في دار الإسلام ، في هذه الحالة إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا يقضى للتاجر المسلم بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيل المؤمن الموجود بدار الإسلام فإنه يحل للتاجر المسلم أخذه؛ لأن العقد الذي صدر في بلاد الحرب لا حكم له فيكون قد أخذ مال حربي برضاه .
4- والفرض الرابع هو أن يكون انعقاد العقد في دار الإسلام وقبض تعويض التأمين في دار الحرب، فالظاهر أنه لا يحل أخذه ولو برضا الحربي لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام ، فيعتبر حكمه كحكم العقد الذي انعقد في دار الإسلام وتم القبض أيضًا في دار الإسلام.
ولكن لماذا يعتبر هذا العقد فاسدًا رغم كثرة الحاجة إليه؟
يجيب ابن عابدين على ذلك نافيًا وجود أي علاقة بين هذا العقد وبين أي عقد آخر معروف، فلا يمكن طبقا لابن عابدين اعتبار عقد التأمين عقد وديعة بأجر ولا عقد ضمان الغرر .
فشروط الوديعة بأجر غير متوافرة؛ إذ ليست هناك حيازة للشيء في يد المودع لديه؛ لأن المال ليس في يدي صاحب «السوكرة» (المؤمن) بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة شريكًا لصاحب المركب يكون أجيرًا مشتركًا قد أخذ أجرة على الحفظ، وكل من المودع لديه والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز منه كالموت والغرق ونحو ذلك .
كما أن عقد التأمين لا يعتبر من قبيل مسألة «ضمان خطر الطريق» التى نص عليها فقهاء الحنفية، وهي ما لو قال شخص لآخر : اسلك هذا الطريق فإنه آمن، وإن كان محفوفًا ( بالأخطار) وأخذ مالك فأنا ضامن، فإنه يضمن، لأن ذلك يعتبر تغريرًا يسأل عنه المغرر، ويشترط في مسألة التغرير أن يكون الغار عالمًا بالخطر، وأن يكون المغرور غير عالم به . ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار ولا يعلم بحصول الغرق، هل يكون أم لا؟ وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار؛ لأنهم لا يعطونه مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعًا في أخذ بدل الهالك وعلى ذلك لا يمكن قياس عقد التأمين على مسألة ضمان خطر الطريق .
كان هذا أول بحث يكتبه أحد علماء الشرع الإسلامي، حتى إنك لتجد ابن عابدين نفسه يقول في ختام عرضه لموضوع التأمين (السوكرة) ومدى شرعيته: «هذا ما ظهر لي في تحرير المسألة، فاغتنمه فإنك لا تجده في غير ذلك الكتاب» .
ومع أننا لا نتفق مع ابن عابدين في تحليله -كما سنبين- فإننا نجد لزامًا علينا أن نبدي إعجابنا بتلك العقلية الناضجة التي فهمت فعلاً معنى التأمين البحري ونظامه ثم فوق ذلك قدمت لنا تحليلاً بارعًا ونظرية قائمة بنفسها فيما يتعلق بقواعد تنازع القوانين في المكان .
حكم التأمين البحري هو حكم التأمين على الأشياء
التأمين البحرى رغم خصائصه الذاتية يعتبر تأمينًا على الأشياء، فطبيعة الخطر واحدة وإن اختلفت الظروف، وعلى ذلك يمكن القول: إن رأى ابن عابدين الذي عرضناه في الصفحات السابقة فيما يتعلق بالتأمين البحري يعتبر أيضًا رأيه في التأمين على الأشياء الذي يعتبر التأمين من الحريق خير مثال له . وصورة التأمين من الحريق هو أن مالك عقار معين يتعاقد مع إحدى شركات التأمين على أن يدفع للشركة مبلغًا معينًا على هيئة أقساط سنوية طيلة مدة معينة ويكون على الشركة طيلة هذه المدة التزام بدفع مبلغ يساوي قيمة الضرر الذي يصيب العقار إذا شب فيه الحريق. فإذا أصاب الحريق نصف العقار أو ربعه كان على شركة التأمين تعويض مالك العقار بمقدار الضرر لا زيادة ولا نقصان؛ إذ يلعب هنا المبدأ التعويضي دوره ، مانعًا المستأمن من أن يثرى على حساب المؤمن وحتى لا يكون ذلك دافعًا للمستأمن على حرق عقاره طمعًا في الحصول على مبلغ أكبر من شركة التأمين .
والتأمين من الحريق يعتبر أكثر أنواع التأمين على الأشياء انتشارًا، وقد كان ذلك باعثًا على أن تستفتى فيه دار الإفتاء . وصدرت فتوى شرعية من فضيلة المفتى الشيخ عبد الرحمن قراعة بتاريخ 15 يناير سنة 1925 تفيد أن عمل شركات التأمين في التأمين على الحريق غير مطابق لأحكام الشريعة الإسلامية، والنهج الذي سار عليه الشيخ قراعة يقرب من المنهج الذي سار فيه ابن عابدين – مع فرق واحد وهو فهم الأخير العميق لعملية التأمين – وهو محاولة ربط عقد التأمين – الذي هو عقد جديد – بأي عقد صححه الشرع الإسلامي . ولما كان ذلك من المتعذر كان قولهم بعدم شرعيته . وإذا كان ابن عابدين حاول قياس التأمين على عقد الوديعة بأجر وعلى مسألة ضمان خطر الطريق فإن الشيخ قراعة حاول أن يقيسه على عقد الكفالة ، فعقد التأمين على الحريق لا يعتبر في نظر مفتى الديار المصرية عقد كفالة؛ لأن شرط عقد الكفالة أن يكون المكفول دينًا صحيحًا لا يسقط إلا بالأداء أو الإبراء، أو عينًا مضمونة بنفسها بأن يجب على المكفول عنه تسليمها للمكفول له ، فإن هلكت ضمن المكفول عنه للمكفول له مثلها إن كانت مثلية وقيمتها إن كانت قيمية . والمال الذي جعله صاحبه في ضمان الشركة لم يخرج من يده ولا يجب عليه تسليمه لأحد غيره فلم يكن دينًا يجب عليه أداؤه، ولا عينًا مضمونة عليه بنفسها، كما أن المال المذكور «لم يدخل في ضمان الشركة؛ لأنه لم يكن دينًا عليها ولا عينًا مضمونة عليها بنفسها، فيتعين أن عقد التأمين من الحريق ليس ضمان تعد ولا ضمان إتلاف؛ لأن أهل الشركة لم يتعد واحد منهم على المال المؤمن عليه ولم يتلفه ولم يتعرض له لأدنى ضرر، بل إن هلك المال المؤمن عليه فإما أن يهلك بالقضاء والقدر أو باعتداء متعد آخر أو إتلاف متلف آخر فلا وجه حينئذ لدخول المال المؤمن عليه في ضمان الشركة ولا لأخذ الشركة ما تأخذه نظير ذلك» .
الخلاصة :
وعلى ذلك فالقائلون بتحريم التأمين على الأشياء والتأمين البحري يرجعون إلى أنه عقد فاسد لا ينطبق على أى عقد سليم صححه الشرع الإسلامي .
ماذا يمكن أن يعقب به على هذه الحجج؟
إن عقد التأمين – عقد جديد – قائم على فن بديع معقد وعلى مبدأ حساب الاحتمالات وقوانين الأعداد الكبيرة التى تجعل الغرر والجهالة شبه منعدمة. هذا العقد لم تعرفه الشريعة الاسلامية، ومن العبث كل العبث أن يرد هذا العقد إلى أي عقد آخر في الشريعة . من العبث ذلك سواء كان ذلك بقصد التدليل على تحريمه وفساده أم بقصد تبريره والقول بصحته. إننا لا نرى في هذا الاتجاه أية فائدة، ولا نرى فيه المخرج الذي يوصلنا إلى نتيجة.
إن رأينا في التأمين بسيط كل البساطة وهو أن عقد التأمين عقد جديد ولم يأت نص بتحريمه أو بالنهى عنه، ولما كان الأصل في العقود الإباحة، كما سنبين فيما بعد فعقد التأمين مباح ما دام تنظيمه العملي لا يخالف كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع المسلمين.
فالتأمين نظام تعاوني بديع – قد يكون الجشع الرأسمالي أخفى وجه العدالة فيه – قائم على تخفيف المصائب التى تنزل بالناس وبأولئك الذين لديهم المال. نظام قائم على توزيع المخاطر وتشتيتها بين أكبر عدد ممكن من الأفراد الذين يتعرضون لنفس الخطر. أليس التعاون أساسًا من أسس الإسلام؟ ألم يقل رب العالمين: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}؟ ثم أهناك تعاون أشد من ذلك التعاون في تحمل المصيبة التى تنزل.
2- التأمين حال الحياة ومن الوفاة – التأمين على الأشخاص:
انتشر التأمين في حالة الحياة والتأمين من الوفاة في بداية القرن العشرين وازدهر وانتشر وما زال يزداد ازدهارًا وانتشارًا . وخاصة بعد ظهور ذلك النوع من التأمين الشعبي حال الحياة . والتى يدفع صغار الموظفين فيه أقساطًا شهرية ضئيلة القيمة لكي يحصلوا في أمد معين علىمبلغ من النقود، أو إذا ماتوا قبل ذلك التاريخ تكون تلك الأموال لورثتهم.
والتأمين في حال الحياة ومن الوفاة أثار في كل البلاد تقريبًا ، مسيحية وإسلامية، معركة بين معارضيه ومبيحيه، البعض يرى أن هذا النوع من التأمين مقامرة ، وأنه ضد الأخلاق وضد الآداب والنظام العام ، وأنه يعتبر تحديًا لقدرة الله تعالى.
والبعض الآخر لا يرى في ذلك النظام أيًا من هذه العيوب . وكان من نتيجة هذا السجال أن تأخر بعض الشيء تطور التأمين على الأشخاص حتى أواخر القرن التاسع عشر.
وفي بلاد الإسلام كثر طلب الناس للفتوى من أولى الأمر وكانت أول فتوى رسمية تصدر في مصر هي الفتوى الصادرة من الإمام الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية في 9 من صفر سنة 1329 هـ، كما أتيح للمحكمة العليا الشرعية أن تنظر إحدى القضايا التى يطالب فيها أحد الورثة بنصيبه في مقدار التأمين الذي تركه أبوه المتوفى والذي أوصى به جميعه إلى زوجته . وبين فتوى دار الإفتاء وحكم المحكمة العليا الشرعية خلاف كبير.
فتوى الشيخ محمد عبده:
أثارت هذه الفتوى ضجة كبيرة في الأوساط التى يهمها الأمر ، ونالت شهرة كبيرة، سواء بين من اتخذوها حجة تؤيد قولهم بشرعية التأمين على الحياة أو بين أولئك الذين منعوا التأمين فقاموا يقللون من شأن تلك الفتوى بل ويشككون في صدورها عن الإمام، والسؤال الذي وجه إلى الشيخ الإمام صيغ بطريقة ذكية، ويفهم من ذلك أن طالبه كان يبتغي من وراء ذلك نشره على أوسع نطاق كوسيلة للإعلان عن عمليات التأمين على الحياة وإليك نص السؤال كما جاء بمجلة المحاماة : سأل مدير شركة ميو توال ليف الأمريكية في رجــل اتفــق مع جماعــة (قومبانية) على أن يعطيهم مبلغًا معلومًا في مدة معلومة على أقساط معينة للاتجار -فيما يبدو- لهم فيه الحظ والمصلحة ، وأنه إذا مضت المدة المذكورة -وكان حيًّا- يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة، وإذا مات في خلالها يأخذ ورثته أو من يطلق له حال حياته ولاية أخذ المبلغ المذكور مع الربح الذي ينتج مما دفعه، فهل يوافق ذلك شرعًا؟
سؤال صيغ بطريقة لبقة ، الغاية منه هو الحصول على تصريح من الإمام بشرعية تلك العملية التى ليس بها شبهة الربا ولا شبهة الغرر أو المقامرة . وإليك نص فتوى الشيخ محمد عبده ردًّا على ذلك السؤال:
« اتفاق هذا الرجل مع هؤلاء الجماعة على دفع ذلك المبلغ على وجه ما ذكر يكون من قبيل شركة المضاربة، وهي جائزة، ولا مانع للرجل من أخذ ماله مع ما أنتجه من الربح بعد العمل فيه بالتجارة، وإذا مات الرجل في إبان المدة وكان الجماعة قد عملوا فيما دفعه وقاموا بما التزموه من دفع المبلغ لورثته أو لمن يكون له حق التصرف بدل المتوفى بعد موته جاز للورثة أو من يكون له حق التصرف في المال أن يأخذ المبلغ جميعه مع ماربحه المدفوع منه بالتجارة على الوجه المذكور» .
جواب على قدر السؤال . لم تذكر كلمة التأمين لافي السؤال ولافي الفتوى، وعلى ذلك فإن المرء ليقع في الحيرة عما إذا كان الشيخ الإمام على علم بأن الغاية من وراء هذه الفتوى هي الدعاية للتأمين، وفي هذه الحالة لماذا لم يتعرض بالتلميح إلى التأمين بكلمة؟ أم أن الشيخ الإمام يريد حقًّا أن يقول بشرعية التأمين، وفي هذه الحالة تكون تلك الفتوى تقدمًا كبيرًا في وقتها لا يمكن لغير الشيخ محمد عبده أن يجاهر به .
وعلى أي الأحوال فالفتاوى اللاحقة والصادرة من دار الإفتاء تناقض هذه الفتوى، وكذلك المحكمة العليا الشرعية جاءت بقرار قاطع بعدم شرعية التأمين دون أن تبدى الأسباب الشرعية لذلك في حكمها الصادر في 27 ديسمبر سنة 1926 والذي أيدت فيه قرار المجلس الشرعي بالمحكمة المذكورة الصادر في 4 ديسمبر سنة 1906 بأنه لا يجوز لأحد الورثة أن يطالب بنصيبه في مبلغ التأمين إذا كان المؤمن عليه قد أوصى به كله إلى زوجته، وذلك (بناء على أن مثل هذه الدعوى غير صحيحة شرعًا؛ لاشتمالها على ما لا يجوز المطالبة به شرعًا) وكانت الدعوى تتلخص في أن مورث المدعين اتفق في 31 مارس سنة 1903 مع مدير إحدى شركات التأمين على أن يدفع له في كل سنة 33 جنيهًا إنجليزيًا لغاية سنة 1923 نظير أنه إذا توفى في ظرف هذه المدة في أي وقت بعد العقد ولو بيوم قبل 2 أبريل سنة 1923 تكون الشركة ملزمة بدفع خمسمائة جنيه دفعة واحدة، ونص على أن هذا المبلغ المؤمن عليه يدفع عند وفاة المؤمن عليه إلى زوجته ، ونفذت الشركة الشرط، ولكن أولاد المؤمن عليه طالبوا الزوجة وشركة التأمين بنصيبهم في هذا المبلغ أمام المحكمة الشرعية .
فكان مصير دعواهم الرفض -كما سبق أن ذكرنا- بناء على أن هذه الدعوى غير صحيحة شرعًا؛ لاشتمالها على ما لا تجوز المطالبة به شرعًا .
لم تبين لنا المحكمة العليا الشرعية على أي أساس شرعي بنت حكمها. ولا لماذا لا تجوز المطالبة شرعًا بقيمة مبلغ التأمين؟ ولماذا أعتبرت هذا حرامًا؟ وكأن بالأستاذ أحمد إبراهيم إبراهيم يريد أن يوضح رأى المحكمة ويدلل عليه فجاة في مقال له نشر بمجلة الشبان المسلمين ونقض فتوى الشيخ محمد عبده التى يقرر فيها أن عمليات التأمين على الحياة إنما تعتبر من أعمال المضاربة.
فالشيخ أحمد إبراهيم إبراهيم ينكر تشبيه عقد التأمين حال الحياة بعقد المضاربة الجائز شرعًا. فعقد المضاربة هو أن يعطى زيد بكرًا مائة جنيه مثلاً يتجر بها بكر، على أن يكون الربح بينهما مشتركًا بنسبة كذا على حسب ما يتفقان، لرب المال النصف وللمضارب الذي هو العامل النصف، الأول في مقابلة ماله، والثاني في عمله، أو يكون للأول الثلثان وللثاني الثلث أو العكس . وهكذا فشرط صحة المضاربة الأساسي عند الشيخ أحمد إبراهيم هو أن يأخذ رب المال حقه مما تربحه التجارة بماله بعمل المضارب، فإذا لم تكسب التجارة ولم تخسر سلم لرب المال رأس ماله، ولا شيء له ولا للمضارب بعد ذلك؛ لعدم الربح عملاً بحكم المضاربة .
والشيخ أحمد إبراهيم يرى أن عقد التأمين حال الحياة لا يمكن أن يندرج تحت المضاربة الصحيحة ولا المضاربة الفاسدة .
كما أنه لا يمكن أن يقال إن شركة التأمين تتبرع للمؤمن عليه بما التزمته؛ لأن طبيعة عقد التأمين قانونًا أنه من عقود المعاوضة الاحتمالية، وإذا قيل أن ما يدفعه المؤمن للشركة يعتبر قرضًا يسترده مع أرباحه إذ كان حيًّا، فهذا قرض جرَّ نفعًا وهو حرام، وهذا هو الربا المنهى عنه . وعلى هذا فعقد التأمين حال الحياة في نظر الشيخ أحمد إبراهيم إبراهيم لا ينطبق على عقد يصححه الشرع الإسلامي .
أما التأمين من الوفاة فيرى أن هذا ليس إلا مخاطرة ومقامرة . والفرض في التأمين من الوفاة أن المؤمن عليه قد توفى قبل إيفاء جميع الأقساط، وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط ، ويتساءل الشيخ أحمد إبراهيم فيما إذا أدت الشركة المبلغ المتفق عليه كاملا لورثة المؤمن عليه أو لمن جعل له المؤمن عليه ولاية بعض ما التزمت به شركة التأمين بعد موته. يتساءل في مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ ؟
وعلى ذلك فالقول بمنع التأمين على الأشخاص – التأمين حال الحياة ومن الوفاة – يمكن إرجاع أسانيده إلى أنه عقد لا يندرج تحت عقد صحيح شرعًا، وأنه في حالة عقد التأمين حال الحياة يؤدى إلى الربا، وفي حالة عقد التأمين من الوفاة ما هو إلا مخاطرة ومقامرة في أموال الناس بالباطل، وعلاوة على ذلك ففيه تحدٍّ لقدرة الله تعالى .
والحق يقال أن في تلك الأوجه من النقد قوة ووجاهة حتى أنها أرغمت أولئك الذين يقولون بحل التأمين على الأشياء – وكانوا في قولهم هذا يتصيدون الحجج حتى الواهي منها – على القول بمنع ضمان الأنفس إلا أن الإنسان ليقع في حيرة وتساؤل لماذا لم يوجه هذا النقد إلى التأمين الاجتماعي وهو في أساسه تأمين حال الحياة – نظام المكافأة أو المعاش بعد انتهاء الخدمة – وتأمين من الوفاة – نظام المكافأة أو المعاش للورثة القصر.
إن نظام التأمين الاجتماعي لم ينقده أحد علماء الدين بل إن منهم -ونقصد بذلك أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة- من قام بدور إيجابي في وضع أسس تشريعات التأمين الاجتماعي في مصر. والجميع يعتبرونه نقطة ارتكاز لنظام الوظيفة في مصر .
إن علماء الدين لم يهاجموا نظام التأمين الاجتماعي لأنهم يعلمون مدى الحاجة إليه لكي يطمئن الموظفون والعمال إلى مستقبلهم ومستقبل عائلاتهم ومدى ما يساعد به هذا الاطمئنان على زيادة إنتاج الموظف والعامل، ولكن أمن المنطقى أن نمنح الطمأنينة والأمان للموظف والعامل ونرفضها لغيره من المواطنين ؟ إذا لم يكن في استطاعة الدولة أن تعمم نظام التأمين الاجتماعي بحيث يشمل جميع المواطنين، أمن الحكمة والرحمة أن نمنع التأمين الخاص من أن يؤدى وظيفة الأمان التى عجز أن يمنحها التأمين الاجتماعي لجميع الطبقات؟
إن الأساس العلمي للتأمين على الأشخاص واحد بالنسبة للتأمين الاجتماعي والتأمين الخاص، فكلاهما قائم على جداول معدلات الوفيات ومعدلات الإصابة وانطباق قوانين الأعداد الكبيرة، وليس من المنطق أن نحرم أحدهما وأن نبيح الآخر مع أن أساسهما الفني واحد .
ولعل في ثنائية الحكم على التأمين على الأشخاص – التأمين الخاص والتأمين الاجتماعي – هذه ما يؤيد ما سبق أن قلناه من أن رجال الدين عندنا قد حاربوا التأمين كجزء من محاربتهم الاستغلال الرأسمالي الممثل في شركات التأمين الأجنبية، أما وقد أصبح التأمين وطنيًّا ويسعى لخدمة الجماعة فقد خف النقد بل وذاب حين صار التأمين اجتماعيًّا .
إن نظام التأمين على الحياة يقوم على أساس ترميم آثار الكوارث الواقعة على الإنسان نفسه في مجال نشاطه العملي كما أنه لا يعتبر تحديًا للأقدار؛ لأن هذا فوق قدرة الإنسان، وإنما التأمين ضمان لترميم آثار الأخطار إذا تحققت ووقعت، وهو تحويل لهذه الأضرار عن ساحة الفرد المستأمن الذي قد يكون عاجزًا عن احتمالها إلى ساحة جماعية تخف فيها وطأتها على الجماعة إلى درجة ضئيلة جدًّا، بحيث لا يحس بها أحد منهم ، لم يقل أحد إن جميع المسلمين قدريين أو جبريين ينتظرون المصائب حتى تقع عليهم دون أي محاولة لتفاديها أو للتخفيف منها . الإسلام كان ولا يزال دين التقدم، والتقدم لا يرضى بالاستسلام الأعمى للقدر. إن التأمين حال الحياة أو من الوفاة ليس إلا عاملاً ملطفًا للكارثة التى تتلخص في شيخوخة الإنسان، حيث يجد المرء عند كبره مبلغًا يستطيع به أن يسد حاجاته دون أن يسأل أحدًا ، أو في موت المرء تاركًا أطفالاً صغارًا ، يجدون بالتأمين مبلغًا يعينهم على مجابهة الحياة .
بقي علينا بعد هذه الإيضاحات أن نقرر بصدد شبهة القمار والغرر في عقد التأمين من الوفاة أن أية عملية للتأمين في أول ظهورها، سواء كان التأمين تعاونيًّا تبادليًّا بحتًا أم تأمينًا خاصًّا فيه شبه القمار والغرر، ولكن يمكن التجاوز عنها لمصالح الناس المرسلة المتعلقة بهذه العمليات، وسنوضح هذه المشكلة في نهاية بحثنا .
3- التأمين من المسئولية:
كان هذا النوع من التأمين أسوأ حظًّا في أوربا منه في بلاد الإٍسلام في أول ظهوره، إذ لاقي هجومًا شديدًا في أوربا لاعتبارات أخلاقية، على اعتبار أنه يميت في الإنسان روح الاحتياط، فما على الإنسان إلا أن يخطئ ويصيب الآخرين وما عليه من ذلك ، فشركة التأمين من ورائه تعوض أولئك المنكوبين، وعلى ذلك ارتفعت أقوال الفقهاء الأوربيين منذ زمن بعيد، وعلى رأسهم Pothier منذ القرن الثامن عشر – بأن التأمين من المسئولية يخالف النظام والآداب . وكان لهذا الهجوم أثره في تطور التأمين من المسئولية، إذ لم يعترف بالتأمين من المسئولية عن الخطأ العمدى، واكتفى بالنص على قانونية التأمين من الخطأ غير العمدى واليسير والجسيم على السواء .
إذا كان ذلك حظ التأمين من المسئولية في أوربا فإنه على العكس من ذلك كان أكثر حظًّا من غيره من أنواع التأمين لدى علماء الدين، ولعل هذا النوع من التأمين هو الوحيد الذي وجد بعض الفقهاء شبهًا بينه وبين نظام إسلامي وهو عقد الموالاة والعاقلة . وعلينا الآن أن نبحث هذا الرأي .
هل التأمين من المسئولية يشبه عقد الموالاة؟ .
كان أول القائلين بالشبه بين التأمين من المسئولية وعقد الموالاة هو الأستاذ أحمد طه السنوسي . وولاء الموالاة في الشرع الإسلامي هو عبارة عن رابطة قانونية بين شخصين يتعاقدان على أن يعقل أولهما وهو (مولى الموالاة) وتطلق عليه الشيعة الإمامية اسم ضامن الجريرة، أي ضامن الجريمة التى تستوجب الغرامة المالية عن الآخر، وهو (المعقول عنه) إذا جنى أن يدفع الدية في مقابل ميراثه منه إذا تــوفى غير مخلف وارثًا قط . ولم يقل بصحة هذا العقد وجواز اعتباره سببًا للإرث إلا أبو حنيفة وصحبه . أما جمهور الفقهاء فعلى خلاف ذلك .
ويرى الأستاذ السنوسي أن أركان عقد الموالاة في التشريع الإسلامي تتفق إلى حد كبير وأركان عقد التأمين في صورة التأمين من المسئولية في التشريع الحديث، فهو أولاً عقد بين طرفين، أولهما ، مولى الموالاة ويقابل المؤمن L’assureur، وهو شركة التأمين ، وثانيهما المعقول عنه وهو المستأمن أو المؤمن له L’assure .
وهو يتضمن ثانيًا عنصر «العوض المالي» الذي يلتزم المؤمن (وهو مولى الموالاة) دفعه عند تحقق الخطر المؤمن منه، وهو يتمثل في الدية أو التعويض عن الجريمة التى نتج عنها الضرر للغير المستحق له . كما هو الحال في المسئولية عن الأضرار الناشئة من ارتكاب جريمة تترتب عليها الغرامة المالية، وهو يتضمن ثالثًا عنصر «المقابل المالي» الذي يحصل عليه «مولى الموالاة» مقابل تحمله تبعة الخطر، وهو يتمثل في مال التركة الموروثة إذا توفى عنه المعقول عنه «المستأمن» غير مخلف وارثًا مطلقًا ، أما شرط «المصلحة في التأمين» فمفهوم أنه من مستلزمات صورة التأمين على المسئولية، وهي الصورة التى ينطبق عليها عقد ولاء الموالاة .
ويقرر الأستاذ مصطفى الزرقا أنه فكر أيضًا في ذلك التشابه حين كان بصدد كتابة مؤلفه «الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد» وأنه سُرَّ بتوافق الخواطر بينه وبين الأستاذ السنوسي، وعلى ذلك فهو من القائلين بأن التأمين من المسئولية يشبه عقد الموالاة . ويضيف إلى ذلك أن التأمين من المسئولية يشبه نظام «العاقلة» في الإسلام، والذي تضمن فيه عائلة الجاني دفع الدية؛ حقنًا للدماء وهو نظام شب في الجاهلية وترعرع في الإسلام.
موقفنا من هذه الحجج:
إننا تطبيقًا لنفس المنهج الذي اتبعناه منذ بداية هذا البحث نرفض الأخذ بهذه الحجج، فاعتقادنا أن محاولة قياس عقد التأمين في أية صورة من صوره بأحد الأنظمة الإسلامية غير مجد. فنظام التأمين نظام جديد لم تشهده ولم تعرفه الشريعة الإسلامية ، وعلى ذلك يكون خاليًا من الحكم فيه، كما سبق أن قررنا، وتحكمه القواعد العامة التى تقول بأن الأصل في الأشياء الإباحة.
إن محاولة الذين يريدون قياس التأمين من المسئولية على ولاء الموالاة أو بالعاقلة تمهيدًا للقول بشرعيته يقعون في نفس الخطأ الذي وقع فيه أولئك الذين يرددون أن عقد التأمين غير شرعي؛ لأنه لا ينطبق على عقد إسلامي معروف، ويحاولون نفس القياس بين التأمين والمضاربة والكفالة .
فعقد التأمين من المسئولية ليس بولاء الموالاة، فولاء الموالاة يقوم على عنصر معنوى مفقود في عقد التأمين . فولاء الموالاة هو «أن يتفق شخص ممن أسلم من غير العرب مع عربي مسلم على أن يلتزم العربي بالدية إذا جنى، ويلتزم غير العربي بأن يكون العربي وارثه إذا لم يكن له وارث سواه… فعقد يجعل غير العربي في أسرة عربية ينتمى إليها ويكون كأحد أفرادها وكواحد منها ويحمل اسمها ولقبها ، وعلى ذلك فتشبيه عقد التأمين بعقد الموالاة قياس مع المفارقة .
والأمر كذلك فيما يتعلق بقياس التأمين على تحمل العاقلة الدين؛ لأن العاقلة أسرة ويربطها الدم وتربطها الرحم الموصولة، وهذه الرابطة الروحية غير موجودة في عقد التأمين .
وإذا كنا نرفض تلك الحجج فليس معنى ذلك أننا نرفض القول بشرعية التأمين من المسئولية، وإنما نرى أن الطريقة التى سيقت بها الحجج غير سليمة، إننا نطبق على عقد التأمين من المسئولية القاعدة العامة التى طبقناها على غيره من أنواع التأمين، وهي أنه لم يرد فيه نص بتحريمه، وعلى ذلك فهو مباح ما دام لا يخالف تعاليم الله ولا سنة رسوله ولا إجماع المسلمين.
وفي الواقع هناك مسوغات اجتماعية للتأمين من المسئولية حتى إننا نرى أنه من بين أنواع التأمين جميعًا – هو الذي أصبح اجباريًا في كثير من الميادين وفي كثير من البلدان .
فهناك التأمين ضد المسئولية من حوادث الصيد – والتأمين ضد المسئولية من حوادث العمل، والتأمين ضد المسئولية من حوادث السيارات ومن حوادث الطائرات، كل هذه الأمثلة -كما لا يخفى- تدل على مدى ما وصل إليه التأمين الإجباري من المسئولية من أهمية لدى المشرعين المعاصرين.
فالتأمين من المسئولية هو تأمين الذمة المالية للمسئول ضد المطالبات التى يقدمها المضرورين، فهو يحمى النشاط الفردي من الانهيار نتيجة لازدياد الحالات التى تؤدي إلى المسئولية، وخاصة بعد ذيوع مسئولية الحارس على الأشياء الميكانيكية، وتلك التى تتطلب حراستها عناية خاصة والتى لا تتطلب إثبات الخطأ ولا وجوده لإقامة تلك المسئولية (المادة 178 مدني مصري) كذلك يؤدي التأمين الإجباري من المسئولية إلى حماية المضرورين أنفسهم؛ إذ سيجدون أمامهم شخصًا مليئًا هو المؤمن يحصلون منه على حقهم في التعويض بدعوى مباشرة لا تخضع لتزاحم دائني المستأمن. أليست هذه الحالات من المصالح المرسلة التى يجب الأخذ بها .
نظرة إلى التأمين كفن يقوم على أسس علمية:
بعد أن بحثنا شرعية أنواع التأمين المختلفة كل على حدة يجب علينا الآن أن نلقي نظرة من أعلى على جميع تلك الأنظمة ونواجه المشكلة بشجاعة وأمانة، وقبل ذلك يجدر بنا أن نذكر آراء بعض من نظروا إلى التأمين نظرة كلية . ولعل خير ما قيل في التأمين هو ما جاء بمقال أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة الذي يقف من التأمين موقف المانع له ، وما جاء بمقال الأستاذ مصطفى الزرقا الذي يقف من التأمين موقف المبيح له .
رأي الشيخ أبو زهرة:
أغنانا الشيخ أبو زهرة عن تلخيص رأيه، فلخصه هو في نهاية مقاله والنتيجة التى وصل إليها تتلخص في أمرين :
أولهما : أن التأمين التعاوني والاجتماعي حلال لا شبهة فيه .
ثانيهما : أنه يكره عقود التأمين غير التعاوني للأسباب الآتية:
أولاً : لأن فيها قمارًا أو شبهة قمار على الأقل .
ثانيًا : لأن فيها غررًا ، والغرر لا تصح معه العقود .
ثالثًا : أن فيها ربا ، إذ تعطى فيها الفائدة ، وفيها ربا من جهة أخرى وهو أنها تعطى القليل من النقود وتأخذ الكثير.
رابعًـا : أن التأمين عقد صرف؛ لأنه إعطاء نقود في سبيل نيل نقود في المستقبل، وعقد الصرف لا يصح إلا بالقبض.
خامسًا : لأنه لا توجد ضرورة اقتصادية توجبه .
وتعبير أستاذنا الشيخ بكلمة «نكره عقد التأمين» سيرًا على درب التعبير عند السلف من الفقهاء؛ إذ إنهم لا يعبرون بالتحريم إلا فيما قام الدليل القطعى على تحريمه، فيه رزانة وبراعة في المجادلة والتخريج، وإن كنا لا نوافقه على تكييفه عقد التأمين على أنه عقد صرف، ولا على قوله بأنه لا توجد ضرورة اقتصادية توجبه . ولعل ذلك لا يحتاج إلى برهان .
رأي الأستاذ مصطفى الزرقا:
إذا كان أبو زهرة على رأس المعادين لنظام التأمين فإن مصطفى الزرقا قد حمل لواء الدفاع عن التأمين ودافع دفاع المستميت بلا وهن حتى النهاية، والنتيجة التى وصل إليها الأستاذ مصطفى الزرقا تتلخص في أنه يفرق أيضًا بين التأمين التبادلي أو التأمين بالاكتتاب وبين التأمين بالأقساط وهو الشائع. والطريقة الأولى في نظره تعاونية بحتة، وهي جائزة شرعًا قطعًا بلا أية شبهة، مهما كان نوع الخطر المؤمن منه، أما طريقة التأمين بالأقساط والتى تنحصر فيها الشبهات التي كانت مستندًا للقائلين بتحريم عقد التأمين، فإنه تكفل برد هذه الشبهات عنها، فذكر أن عقد التأمين يختلف عن القمار في أن الأول جد لا لعب بخلاف الثاني، وأن لا غرر في عقد التأمين، ويعيب على القانونيين تكييفهم لعقد التأمين على أنه من العقود الاحتمالية؛ إذ يعتبره من عقود المعاوضة، كما أنه لا توجد جهالة في عقد التأمين توقف التنفيذ أو تمنعه، كما أن ليس بالتأمين أي تحد لقدرة الله تعالى، ثم يتحفظ بالنسبة لشبهة الربا، ويشترط أن يكون التأمين خاليًا من الربا . ثم يعقب على ذلك بقوله : « إنه ليكفينا انهيار تلك الشبهات لكي يثبت أنه لا يوجد مانع من قواعد الشريعة الإسلامية يمنع جواز نظام التأمين في ذاته، وبهذا يثبت حله شرعًا؛ لأن الأصل الإباحة، ولأن الشريعة لم توجب حصر الناس في العقود المعروفة قبلاً، ولم تمنعهم من أي عقد جديد تدعوهم حاجتهم الزمنية إليه إذا كان غير مخالف لنظام التعاقد الشرعي وشرائطه العامة» ، وعلاوة على ذلك يرى «أن في أحكام الشريعة وأصول فقهها ونصوص الفقهاء ما يصلح أن يكون مستندًا قياسيًّا واضحًا في جواز عقد التأمين» ويخص بالذكر من ذلك عقد الموالاة وضمان خطر الطريق عند الحنفية ، وقاعدة الالتزامات والوعد الملزم عند المالكية، ونظام العواقل في الإسلام، وكذلك يجد مستندًا واضحًا ودليلاً محكمًا على جواز عقد التأمين في نظام مالي قانوني قائم عمليًّا في حياتنا وهو من النظم العالمية أيضًا ويطبقه ويستفيد منه علماء الشريعة الإسلامية الموظفون في كل قطر، ويرونه أساسًا ضروريًّا شرعًا وعقلاً لابد منه للعمل في وظائف الدولة ، ألا وهو نظام التقاعد والمعاش .
موقفنا من التأمين:
والذي يخلص من دراسة أقوال العلماء المعاصرين أن الشبهة الحقيقية التى تقف عثرة في سبيل التأمين هي شبهة القمار والغرر، وأن هذه الشبهة لا توجد في التأمين التعاوني أو التبادلي .
ونرى أنه لكي ينجلى الموقف يجب توضيح الأسس الفنية لعقد التأمين، وبيان مدى ما فيه من غرر وقمار يرجع إلى الصدفة، وعما إذا كان ذلك الغرر أو القمار يلعبان دورهما في التأمين بالأقساط: وكما هو معروف فإن التأمين يحارب الصدفة لا كما في القمار، فإن اللاعب يسعى من أجل الصدفة.
فالتأمين يحاول أن يضعف أثر الكارثة التى تحل بالصدفة على أحد الأفراد، وذلك بإِشراك غيره من الأفراد في تحملها . وهذا هو معنى التعاون في التأمين . والتعاون في التأمين لا يتأتى إلا بوجود جمع كبير من الأفراد يتعرضون لمخاطر أو كوارث من طبيعة واحدة، ويتفقون على أن يشتركوا جميعًا في تعويض من تحل به الكارثة، وذلك بدفع مبلغ معين كل مدة معينة – سنة مثلاً – توضع في صندوق خاص . هذه هي الصورة البدائية للتأمين .
فجميع أفراد الجماعة مؤمنين ومستأمنين في نفس الوقت، ثم تطور الأمر قليلاً فأسندوا إدارة تلك الجمعية إلى أحدهم لإدارة صندوق التعويضات. أساس العملية واحد هو توزيع وتشتيت الكوارث التى تقع على أحد أفراد الجمعية على جميع أفرادها . ثم تطور الأمر ونشأت هناك طائفة من تجار التأمين (شركات للتأمين فيما بعد) مهمتهم جمع أولئك الذين يتعرضون لخطر واحد والذين لا توجد الفرصة لأن يتعرف كل منهم على الآخر، ثم يأخذ الاشتراكات التى كان سيدفعها الأفراد لجمعية التأمين التعاونية، ثم يضعها في صندوق مخصوص لكي تدفع منه التعويضات إلى الذين يصابون بالكارثة المؤمن منها .
الفرق بين هذه الصورة والصورة الأولى أن تاجر التأمين يضيف إلى اشتراكات التأمين مبلغًا معينًا لقاء الإدارة ومقابل الربح . إن طريقة حساب القسط واحدة في التأمين التعاوني والتأمين بالأقساط ، إنها ترتكز على حساب الاحتمالات . فقواعد الإحصاء هي التى تبين عدد الكوارث التى يحتمل أن تحل بمجموع المستأمنين، وعلى ذلك فصندوق التعويضات (المكون من الأقساط أو الاشتراكات) يجب أن يكون فيه ما يكفى لتعويض هؤلاء المنكوبين .
إن الاحتمال – أو الغرر كما يحب البعض أن يسميه – لا يوجد إلا في تحديد من تقع عليه الكارثة. وهذا الاحتمال موجود في جمعيات التأمين التعاوني كما هو واقع التأمين بالأقساط لدى شركات التأمين. فأساس التأمين العلمي واحد في كلا النوعين . وعمليات التأمين لا تسمى كذلك إلا إذا كانت قائمة على أسس علمية من قوانين الإحصاء. فعملية ضمان للمال أو للنفس منعزلة عن غيرها من العمليات لا تعتبر عقد تأمين بل قمارًا، وليس لها أية فائدة اقتصادية . إنها لا تؤدي إلا إلى نقل الكارثة أو المصيبة من كتف شخص إلى كتف آخر يتحملها عنه، فلكي يحقق التأمين أغراضه لابد لعدد كبير من الأفراد الذين يتعرضون لخطر معين أن يتعاونوا فيما بينهم على تشتيت هذه المخاطر على جميع الرءوس. وقد يكون ذلك التعاون تلقائيًّا أو غير تلقائى .
والتعاون التلقائي أو ذلك الذي لا تحسه ضمائر المتعاونين هو في التأمين الذي تقوم به شركات التأمين والتى ينحصر دورها في دور المنظم لعملية التعاون لتوزيع الأخطار على جميع المشتركين في عمليات التأمين .
واختيار أي من النوعين من طرق التأمين يرجع إلى تفضيل فاعلية كل منهما من الناحية الاقتصادية والعملية ليس إلا . أما القول بشرعية أحدهما وبعدم شرعية الآخر فهذا إنكار للأسس العلمية التى يقوم عليها كلا النوعين من التأمين . وهذه الأسس العلمية نفسها هي التى يقوم عليها أيضًا نظام التأمين الاجتماعي. والذي نعرفه في بلادنا من التأمين الاجتماعي هو نظام المعاشات للموظفين ونظام التأمين الاجتماعي للعمال – تأمين من إصابات العمل وتأمين ضد العجز والشيخوخة – والتأمين في حال الحياة – نظام المكافأة – فهذا النظام الذي لم يقل أحد من الشرعيين بتحريمه، بل كلهم يقولون بشرعيته، بل وبكونه أساسًا من الأسس التى يقوم عليها نظام الدولة، يقوم على نفس الأساس العلمي لعمليات التأمين في المجال الخاص: حساب الاحتمالات وقواعد الإحصاء. فالجداول الخاصة بمعدلات الحياة والوفاة وإحصاءات إصابات العمال وغيرها هي التى يبنى عليها تقدير قيمة القسط الذي يستقطع من الموظف أو العامل كل شهر.
بقيت شبهة القمار والغرر التى يجب بحثها بعمق وتأصيل لإظهار الحقيقة واضحة . ونحن نعتقد أن الذين قالوا أن التأمين كله قمار مخطئون. وأن الذين قالوا بأن التأمين خال من القمار والغرر لا يقلون عنهم خطأ . ولبيان ذلك يجب أن نفصل بعض الشيء .
شبهة الغرر والقمار لا توجد في نظرنا إلا في عمليات التأمين التى تعقد قبل أن تكون هناك إحصاءات كثيرة يمكن أن ينطبق عليها قانون الأعداد الكبيرة . ويمكن القول أن أي نوع جديد للتأمين يبدأ في صور قمار ثم يشب وينفصل عن القمار ، إذا ما وجدت الإحصاءات الدقيقة، ويصبح تأمينًا بالمعنى العلمي، ففي حالة عدم وجود إحصـــــــاءات لا يدرى المؤمن (والأولى أن نقول المضارب في هذه الحالة) كم كارثة ستقع ولا مدى فداحتها، وبالتالى لا يعرف مقدار ما سيقدمه من تعويض إلى المستأمن، وعلى ذلك فهو لا يحدد تحديدًا علميًّا قيمة القسط الذي يطلبه من المستأمن، ولاشك أن مثل هذه العمليات أقرب إلى الرهان منها إلى التأمين . فهي عمليات مضاربة بحتة، ولعل بعض علماء الدين قد نظروا إلى هذه الحالة وحكموا عليها كأنها الحالة العادية للتأمين، مع أنها حالة عابرة ولا يمكن في نظرى أن تعتبر من حالات التأمين بالمعنى الفنى .
والملاحظ أن شركات التأمين ترفض غالبًا أن تؤمن على المخاطر الجديدة التى لم تظهر فيها إحصاءات بعد . ورفض شركات التأمين عقود التأمين على السيارات في بدء ظهورها ، وعلى الطائرات في بداية انتشارها دليل على أن شركات التأمين ترفض أن تدخل في عمليات هي أقرب إلى القمار منها إلى التأمين . وهذا بلا شك ليس راجعًا إلى شعور ديني، ولكن خوفًا من الخسارة الفادحة التى قد تلحق بها، ففي بادئ الأمر لم تعرف شركات التأمين مدى خطورة محرك السيارة أو الطائرة ولا عدد الحوادث التى يمكن أن تقع بسبب سير الطائرة أو السيارة ولا مدى فداحة هذه الحوادث فكان من الطبيعي أن تنتظر وجود هذه الإحصاءات . وغالبًا ما تتم في مدة ليست طويلة – حتى يمكن أن تقوم عقود التأمين على أساس علمي، كما أن عدم وجود إحصاءات عن مدى خطورة استخدام الذرة في الأغراض السلمية هو الذي يجعل شركات التأمين اليوم ترفض التأمين على أخطار الإشعاع الذري الناتج من استخدام الذرة في الأغراض السلمية؛ إذ لا يعرف مدى خطورة انفجار المفاعيل الذرية، ولا مدى الأضرار التى تصيب الأموال والأرواح من جرائها .
وهناك شروط معينة يجب مراعاتها لكي نحصل على إحصائيات دقيقة، وأهم هذه الشروط هو أن تكون الجداول الاقتصادية قد جمعت بعد بحث حالات كثيرة جدًّا ومتنوعة في الزمان والمكان ، حتى يمكن لقانون الأعداد الكبيرة أن يلعب دوره على الوجه الأكمل . ناهيك عن شرط الدقة الكاملة التى يجب أن تتوافر في إعداد قوائم الإحصاء. إذ على هذه الدقة تتوقف مدى صدق الاحتمالات ومدى مطابقتها لما سيقع، كما أنه يجب معاودة بحث هذه الإحصاءات باستمرار حتى تكون تلك الإحصاءات صورة صادقة لأحداث الساعة .
هذه هي الأسس العلمية التى يقوم عليها نشاط جمعيات التأمين التعاوني وصناديق التأمين الاجتماعي والتأمين الخاص أو الاستغلالي كما يسميه البعض.
وقد نفى البعض شبهة القمار والغرر عن نشاط جمعيات التأمين التعاوني وألصقوا تلك الشبهة بالتأمين الذي تقوم به شركات التأمين، وعلم الله بعد أن بينا أسس الإحصاء لكلا النوعين أن كلا الطريقتين تحوم عليها شبهة القمار والغرر قبل أن تستقر جداول الإحصاء وحساب الاحتمالات . وعلى ذلك نكرر ما قلناه من أن الذين قالوا أن التأمين كله قمار قد أخطأوا، وأن الذين قالوا ليس به قمار قد غالوا . كذلك أخطأ الذين قالوا ليس بالتأمين التعاوني أية شبهة؛ إذ كما بينا يخضع ذلك النوع من التأمين لنفس الأسس التى يرتكن إليها نظام التأمين الخاص ويلحق به جميع الشبهات التى تحوم حوله .
ففي كلا النوعين الصدفة تلعب دورها، وإن كانت قوانين الإحصاء تكبح جماحها وتنظمها .
والذي نخرج به من المقدمات السابقة أن عقد التأمين وإن كان يشوبه نوع من القمار والغرر في أول ظهور أي نوع جديد منه فإنه بعد ذلك يتخلص من القمار والغرر، وعلى ذلك نرى أنه إن كان بالتأمين بعض الإثم فنفعه أكثر من إثمه، فمصالح العباد التى سبق أن أوضحناها بصدد كل نوع من أنواع التأمين مرتبطة في العالم الحديث بنظام التأمين .
والتحقيق العلمي هو الذي اقتضى منا تقديم هذا التحليل الذي يضع القائلين بعدم شرعية التأمين والقائلين بشرعيته أمام ضرورة تعديل آرائهم على ضوئه .
وإذا كنا قد وقفنا حياديًّا بالنسبة للحجج التى سبقت للتدليل على إباحة التأمين وتلك التى سيقت للقول بمنعه . وقبلنا منها ما رأيناه صوابًا ورفضنا ما لم يقبله تفكيرنا فإننا لا نوافق على طريقة التدليل التى ساقها الباحثون ، فإننا إذا أردنا أن نعرض خير طريقة لتقييم التأمين من وجهة النظر الإسلامية فذلك يكون عن طريق التساؤل عما إذا كان الأصل في الأشياء الإباحة أم الأصل هو المنع؟ وهل تعترف الشريعة الإسلامية بمبدأ سلطان الإرادة التعاقدي أم لا؟
يقرر أستاذنا الشيخ أبو زهرة أن قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة إنما تنطبق على شروط العقد لا في أصل العقود، ويقرر أن ما جاء في كتاب العقود لابن تيمية إنما يتعلق بالشروط ومجيئه للعقود إنما هو من أن الشروط بطبيعتها تغير مقتضى العقد فهي تتضمن تغييرًا في ماهيته من بعض النواحي.
ولكنا نرى مع الأستاذ مصطفى الزرقا أن الأصل في العقود الإباحة، فالشارع الإسلامي لم يحصر الناس في الأنواع المعروفة من العقود من بيع وإجارة وهبة ورهن وشركة وصلح وقسمة وإعارة وإيداع وغيرها، بل للناس أن يبتكروا أنواعًا جديدة تدعوهم حاجاتهم الزمنية إليها بعد أن تستوفي الشرائط العامة للعقود، ونحن نؤيد الأستاذ الزرقا فيما ذهب إليه من وضع تلك القاعدة في إطار مبدأ سلطان الإرادة العقدية في الفقه الإسلامي ، وعلى ذلك فنحن متفقان في أن عقد التأمين -وهو عقد جديد- لم يأت نص بتحريمه، فتنطبق عليه القاعدة العامة في الإباحة، فهو مباح على أن تستقيم تطبيقاته مع قواعد الشريعة الإسلامية . ولكن الذي لا نؤيد فيه الأستاذ الزرقا هو محاولته قياس عقد التأمين على بعض العقود الأخرى المعروفة في الشريعة الإسلامية لكي يصل إلى شرعية التأمين، فنحن نرى كما ظهر من خلال بحثنا أنه من العبث أن نقيس التأمين على أي نظام إسلامي، فهو نظام جديد تمليه مصالح الناس المرسلة، وجميع الفقهاء أخذوا بالمصالح المرسلة، وإن اختلفوا في تسميتها، وهاك القرافي يقرر أن «المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق» وإذا كانت هناك شبهة القمار أو شبهة الغرر فإنها تكون في أول ظهور نوع جديد من أنواع التأمين لا تلبث أن تختفى حين توجد الإحصاءات اللازمة لحساب الاحتمالات، وتظهر في أثرها فوائد التأمين الذي فيه المحافظة على أموال المسلمين .
المراجع :
1- العقود المدنية الصغيرة : التأمين والوكالة والصلح : القاهرة ، 1949.
2- كامل مرسي. عقد التأمين، القاهرة ، 1952.
3- عبد المنعم البارودي. مذكراته لطلبة السنة الثالثة بكلية الحقوق، 1960/1961 في الايجار والتأمين.
4- مجلة الأزهر، المجلد 25/1935.
5- عبد الوهاب خلاف. السياسة الشرعية.
6- مصطفى الزرقا. عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه، مجلة حضارة الإسلام، دمشق.
7- محمد أبو زهرة، مجلة حضارة الإسلام.
8- عيسوي أحمد عيسوي. عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون. مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، جامعة عين شمس. عدد يوليو 1962.
9- ابن عابدين. حاشية المختار على الدار المختار. ج 3 .
10- جريدة الأهرام، 23 يونية 1962.
11- جريدة المحاماة . السنة الخامسة والسابعة والثالثة عشر.