تغيير الواقع سنة من سنن الله تعالى فى كونه.
وحكم الله فيه ثوابت تتعلق بالقيم التي لا تتغير ولا تتبدل وفيه متغيرات تسمح بتغيير الحكم وَفقا لتغير الواقع بما يحفظ الثوابت ويحقق معناها.
وقد جاءت نصوص الشريعة بما يتفق مع هذا الوضع فوجدت منذ البداية ترتيبات شرعية لعلاج هذا الموضوع :
1 ـــ وأولها هو ورود نصوص محدودة بينما الوقائع المتجددة غير محدودة بما يترك مساحة واسعة من الوقائع لا تنطبق فيها النصوص انطباقا مباشرا وتترك بذلك مجالا للاجتهاد وهذا ما يسمى بالفراغ التشريعى وخير مثال على تأكيد هذه الآلية الأساسية هو حادثة (( معاذ )) حين بعثه النبى ـــ صّلى الله عليــه وسلم ـــ إلى اليمن وسؤال النبى له فإن لم تجد فى سنة رسول الله تصريح بأن الكتاب والسنة لا يغطيان كامل مساحة النشاط البشرى.
2 ـــ وثانيها وجد منذ بداية التشريع وهو التفرقة بين ما هو قطعى الورود والدلالة وما هو ظنى فى أحدهما أو كليهما, وفى المساحة التى ينطبق عليها هذا الجزاء الظنى من نصوص الكتاب والسنة مجال كذلك للاجتهاد الذى يأخذ فى الاعتبار إلى جانب عناصر أخرى مراعاة مصالح الناس أى واقعهم.
3 ـــ وقد نشأ على مدى القرون وتأكدت قاعدة أصولية هى انه لا ينكر تغير الأحكام المبنية على العرف والمصلحة بتغير الأزمنة والأماكن والظروف.
4 ـــ بل إن الفقهاء قد ذهبوا إلى أن لِوَالىَّ أمر المسلمين أن يغير الأحكام من الإِباحة إلى كل من التحريم والوجوب بتغير المصالح وكذلك العكس ووجدت فى هذا المجال تطبيقات كثيرة منذ عهد عمر بن الخطاب وحتى يومنا هذا.
5 ـــ ثم هناك آلية خاصة للتغير الوقتى الذى يطرأ على الواقع بصورة مؤقتة وهذا هو حكم الرُخص الشرعية فى مقابلة العزائم فالرخصـة ليست إلا حكما مؤقتا يعفى من الحكم الدائم وهو العزيمة لظروف مؤقتة تجعل إعمال العزيمة لا يحقق مقصود الشارع من التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم.
6 ـــ ومع تطور الفقه وإجالة الفقهاء النظر فى أحكامه نشأ علم مقاصد الشريعة ومُيز فيه بين الأحكام التى تعتبر مقاصد والأحكام التى تعتبر وسائل لتحقيق تلك المقاصد ووضعت قاعدة تبعي الوسائل للمقاصد ووضعت قاعدة تبعية الوسائل للمقاصد بل صنفت المقاصد إلى مراتب الضروريات والحاجيات والتحسينات كما ميزت مصالح الناس إلى حفظ الدين والنس والعقل والعرض والمال ورتبت الأولويات بين هذه المصالح بحيث يراعى الأهم على حساب الأقل أهمية إذا تعارضا فى واقع الحياة عند التطبيق.
7 ـــ ومع تطور واقع الناس فى معاملاتهم واتجاه البعض إلى التمسك بالشكليات ومبانى العقود والأقوال رغم إهدارها للمقاصد والمعانى وضع الفقهاء قاعدة أساسية هى أن العبرة بالمقاصد والمعانى لا بالألفـاظ والمبانى, وإن كان البعض قد تمسك بالشكلية فأباح ما يسمى بالحيل القهية التى تستكمل أركان الشريعة في الظاهر وإن كان المقصود منها مخالفة الشريعة ى الحقيقة مرجئين الحكم على المقاصد والنوايا إلى رب الناس المُطلع على سرائرهم.
8 ـــ ومع التطور الكبير الذى حدث ى بعض جوانب المعاملات بما يخرج بالواقع الجديد عن صورة الواقع القديم الذى جاء الحكم له, ورغبة ى سحب الحكم القديم على الواقع الجديد لجأ الفقهاء إلى تعبير (( التسليم الحقيقى )) و (( التنضيض الحكمــى )) ى مقابلة (( التـنضيض الحقيقى )) إلى آخر هذه العبارات التى هى فى الحقيقة تعبير عن مخالفة الواقع الجديد للواقع القديم الذى جاء الحكم لتنظيمه.
والذى يستقرئ هذه الظواهر والملابسات يجد أن الشريعة منذ بداية أمرها والفقهاء على مر العصور كانوا يولون أهمية خاصة لتغير الواقع وأثره على تغيير الحكم.
ويمكننا أن نشير ى صدد تغير الواقع إلى بعض الاعتبارات :
1 ـــ هناك تغير وقتى يؤدى حكم وقتى يرتفع بارتفاع هذا التغير ومثال ذلك الرُخص ( فى مقابلة العزائم ), وحكم الضرورات والحاجات التى تبيح المحظورات وتقدر بقدرها وترتفع بارتفاعها كما هو معلوم فى القواعد الأصولية, وهناك إلى جانب هذا التغيير الوقتى دائم هو بمثابة التغيير فى واقع الحياة والذى يحتاج إلى اجتهاد جديد اتطوير الحكم القديم.
2 ـــ وهناك تغير فى الواقع له جوانبه السلبية أى تغير فى اتجاه الانحراف عن شريعة الله والخروج عن أحكامها القطعية والمعلومة منها بالضرورة وهذا التغير ليس مما يستوجب تغيرا فى الحكم لأن الواقع السيئ لايكون حاكما على الشريعة بل الشريعة الحاكم على الواقع ونحن مأمورون أمام هذا التغير السيئ بالتمسك بأحكام الشريعة مهما أصابنا من عنت ومشقة وفى هذا المجال يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر, إلا أن يصل الفساد إلى السلطة الحاكمة فتقننه وتفرضه على الناس, وفى هذا المجال تجرى أحكام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتغيير المنكر بالقب واللسان واليد فى مواجهة الحكومين والحاكمين بالشروط وعلى التفصيل الذى جاء فى أحكام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, ومع وجوب السعى الدائم إلى تغيير هذا الواقع السئ وإعادته إلى لصراط المستقيم.
وهناك إلى جانب هذا التغير السلبى تغير إيجابى يحدث باستمرار نتيجة اكتشافات العلوم وتقدم الحضارة والتراكم المعرفى فى اتجاه تنظيم وصلاح الفرد والمجتمع وتيسير سبل الحياة وهذا التغير الإِيجابى لا يعتبر بدعة تحارب بل هو إبداع وحضارة وتقدم, ويكون موقف الفقيه من هذا التغير هو استمرار ملاحظة مدى توافر شروط انطباق الحكم على الواقع الجديد الناتج هذا التغير بحيث إذا وجد أن الشروط لم تعد متوافرة لجأ الفقيه إلى حكم جديد وينزل أحكام الشريعة على الواقع الجديد.
3 ـــ وهناك تغير تطورى يتم بشكل بطئ أو سريع وفقا لنبض الحياة وتقدمها, كما أن هناك تغير ثورى فى نظم الحضارة وأوضاع الحياة.
وإذا كان من السهل على الفقيه أمام التغير التطورى أن يطور الحكم طالما ظل الإِطار العام للواقع الجديد قريبا من الإِطار العام للواقع القديم, فإن موقف الفقيه أمام التغير الثورى لا يمكن إلا أن يكون استحداثا كاملا لأحكام جديدة تناسب هذا الواقع الذى تغير بصورة جذرية.
ونضرب فيما يلى أمثلة على كل من هذين النوعين :
أمثلة للتغير لتطورى :
1 ـــ من أمثلة التغير التطورى ما حدث فى موضوع مجلس العقد حيث وضعت أحكام العقد لتنظيم واقع الناس حينما كانوا يتعاقدون فى مجلس يضمهم وجها لوجه ثم بدأ الناس يستخدمون الرسل والخطابات لتبلغ الأطراف الأخرى إيجابهم أو قبولهم للعقد موضوع النظر.
ثم استحدثت وسائل للاتصال كالبرق والهاتف والتلكس والفاكس ودخلت هذه الوسائل فى دنيا المعاملات وتأثرت بذلك ظروف إبرام العقد وتلاقى الإِيجاب والقبول.
بل وجدت حالات يزداد عددها كل يتم فيها العقد بصورر لا يظهر فيها الإِيجاب والقبول بصورة واضحة كحالة بيع بعض المـكــولات والمشروبــات والأدوات والصحف من صناديق أتوماتيكيـة, وحالات سحب النقود وتبديلها من أجهزة أتـوماتيكية وحالات استخدام الهاتف العمومى بصورة آليـة بواسطة النقود أو بواسطة بطاقات الائتمان وبيع الوقود فى المحطات ببطاقات الائتمان وغير ذلك من الصور التى يتزايد عددها.
وقد لجأ الفقهاء فى بداية هذا التطور عند استخدام الرسل والبريد إلى محاولة ضبط عملية الإِيجاب والقبول واختلفوا فى ذلك إلى عدة آراء, وأمام التسـارع فى التطور الذى حدث مؤخرا خلال نصف القرن الأخير أصبح الأمر يحتاج إلى اجتهاد ينظم المسألة تنظيما لا ينطلق من صورة مجلس العقد التى جاءت بها الأحكام الأصلية وإنما ينطلق من مقصد هذه الأحكام وهو ضبط الإِيجاب الصادر عن أحد الطرقين وتحديد المدة التى يبقى فيها هذا الإِيجاب ملزما وصالحا لملاقاة القبول عليه من الطرف الآخر مع تحديد صورة القبول وضبط وسائل الإِثبات وكل ذلك بما ينفى الجهالة والنزاع.
ومن الضرورى الاطلاع على الوسائل التى لجأت إليها القوانين الوضعية لمقابلة هذه التطورات للاستفادة منها وإن كان المسلم به أن تطور القانون يأتى دائما أبطأ من تطور الواقع ومتخلفا عنه, إلا أن القوانين الوضعية فى مجملها خاصة فى الدول الصناعية تعتبر أقرب إلى معالجة هذا التغير السريع فى الواقع مما يحدث فى البلاد الأقل تقدما, كما إن الوسائل العلمية والآلية تبتكر كل يوم من أساليب ضبط النصوص والتأكد من صدورها عمن يملك حق إصدراها ما ينبغى كذلك أخذه فى الاعتبار, ومن أمثلة ذلك, نظام الشفرة السرية وشفرة الأرقام والرمز المرتد (Answer Back) ونقـل الـنصوص والتوقيعات بالفاكس, والهاتف المرئى وغير ذلك.
2 ـــ اشتراط التسليم يدا بيد :
وذلك بصريح النص فى عقد الصرف ووصل التشديد فى منع تأجيل دفع أحد البدلين إلى عدم جواز استمهال أحدهما الآخر للدخول إلى منزله وإحضار البدل المقابل.
ولكن تطور المعاملات واختلاف مكان تسليم كل من البدلين أظهر إلى بؤرة من بلد إلى بلد وبعد ظهور البنوك الحديثة أصبحت عملية الصرف من عملة إلى أخرى أو حوالة العملة الواحدة من مكان إلى آخر يستلزم فترة زمنية بين دفع أحد البدلين فى مكان ما واستلام البدل الاخر فى مكان اخر.
بل أن العمل فى بورصة الذهب فى لندن يجرى على إرجاء التسليم 36 ساعة نظرا لأن العقد يتم داخل مكان البورصة بينما عين الذهب تكون مودعة فى خزائن البائعين أو بنوكهم المتناثرة فى أنحاء العالم.
وأمام هذا التطور نشأ اصطلاح التسليم الحكمى وأعطى حكم التسليم الحقيقى مع إنه فى الحقيقة لا تتوافر فيه شروط التسليم وفقا للفقه التقليدى.
وهنا يلزمنا عند تطوير هذا الحكم أن نعود إلى الحكمة من اشتراط التسليم يدا بيد وهى تحاشى أن يكون تأجيل دفع البدل الآخر قد أعتبر عند تحديد سعر المبادلة وبذلك يكون قد دخلها عنصر ربوى هو الزيادة مقابل الأجل.
أمثله للتغير الثورى أو الجذرى :
إلى جانب التغير التطورى الذى ضربنا بعض أمثلة له هناك تغير يشتمل على إنشاء عقد جديد أو معاملة جديدة تقوم بوظيفة جديدة لم تكن موجودة من قبل وبالتالى فإن التغير فى هذا الواقع ليس من قبيل التغير التطورى ولذلك نسميه التغير الثورى أو الجذرى.
ومن أمثلة ذلك :
1 ـــ النقود : كانت النقود فى عصر التشريع الأول هى الذهب والفضة وهما معدنان لهما قيمتهما الذاتية وكانا بذلك يؤديان وظائف النقود بشكل كامل سواء فى ذلك كونهما أداة للتبادل أو مقياسا للقيمة أو مخزنا للقيمة وكان الاستناءان الوحيدان على ذلك هو وجود نقود تبعية مصنوعة من النحاس والبرونز وغير ذلك ليس لها قيمة ذاتية وإنما قيمتها حكمية وكانت الوظيفة التبعية التى تقوم بها هذه النقود فى التعامل تافه القيمة مبررا لوجودها وإعطائها قيمة حكمية لا ترتبط بقيمتها المعدنية.
أما الاستناء الثانى فكان فى اختلال النسبة بين قيمة كل من الذهب والفضة أحدهما بالنسبة للآخر بسبب زيادة أو قلة إنتاج كل منها وكانت القاعدة المبكرة هى اعتبار الذهب أصلا فى مقابلة الفضة حرصا على استقلال النقود كمقياس للقيمة.
ثم ظهرت النقود الورقية المغطاة بالذهب والفضة كليا أو جزئيا مع إمكان صرف النقد الورقى بقيمته من الذهب ثم امتنع هذا الصرف وصار للنقود الورقية قيمة إلزامية فى ذاتها دون إمكان صرفها بالذهب, ثم نقص احتياطى الذهب كرصيد للعملات وحل محله العملات القوية الدولية وفى مقدمتها الدولار الامريكى وسندات الخزينة الأمريكية, م ألغى اشترط احتفاظ الخزانة الامريكية بغطاء ذهبى فزال بذلك آخر علاقة بين النقود الورقية ومعدن الذهب.
ولم يقف التطور عند هذا الحد بل أصبحت الشيكات التى يسحبها أصحاب الحسابات على بنوكهم عملة تتداول حتى لو لم يكن حساب العميل مغطى فى بنكه طالما أن الطرف الآخر يقبل الشيكات مما شجع البنوك على أن توسع من دائرة الإِتمان بالسماح لعملائها بسحب شيكات دون وجود رصيد لهم ( مقابل استيفاء البنك فائدة من عمليه باعتبار ذلك نوعا من القرض ) وهكذا ازداد النقد المتداول بزيادة حجم هذا الإِتمان المصرفى فى البنوك.
م حدث تطور آخر هو دخول النقود البلاستيكية أى بطاقات الإِتمان إلى ساحة التداول حي أصبح معظم المدفوعات الصغيرة فى البلاد المتقدمة تتم بواسطة هذه البطاقــات ثم يكـــون تحصيــل العملاء ـــ بواسطــة البنوك ـــ لقيمــة معاملاتهم أمرا لاحقا كنوع من التسوية الحسابية, بحيث يمكن القول إن النسبة الكبرى من التداول لا تتم لا بالنقود الذهبية ولا بالنقود الورقية وإنما بوسائل الحديثة من شيكات وبطاقات ائتمان.
وهذه الزيادة فى عرض النقود بصورها المختلفة أدت بطبيعة الحال إلى ظاهرة التضخم نتيجة عدم التناسب بين الزيادة فى النقود المتداولة وبين حجم السلع والخدمات مما أدى إلى زيادة أسعار هذه السلع والخدمات.
وأدى هذا الاختلال فى العلاقة بين النقود من ناحية وسلع ولخدمات من ناحية أحرى إلى فقدان النقود وظيفة أساسية من وظائفها وهى كونها مقياسا للقيمة إذ بعد أن كانت هى المراجع الثابت الذى تقاس به قيمة الأشياء الأخرى أصبحت هذه الأشياء فى صورة سلة السلع (1) هى المقياس الذى تقاس به القوة الشرائية للنقود وصدرت فى العديد من الدول قوانين تنظم هذه السلة القياسية وتعلن نتائجها شهريا وتعدل أجور العاملين وإيجارات الأماكن بما يتفق مع ارتفاع وانخفاض القوة الشرائية للنقود محسوبة على هذا الأساس.
وبطبيعة الحال فإن اختلال القوة الشرائية للنقود أثر كذلك على الوظيفة الثالثة وهى كونها مخزنا للقيمة إذ لم يعد الناس يطمئنون إلى الاحتفاظ بمدخراتهم فى صورة نقود قابلة لتدهور قيمتها خاصة وأن الفوائد التى تدفعها البنوك عن الودائع لا تعوض إلا جانبا يسيرا من هذا التدهور فى القيمة مما فتح الباب إلى اتجاه المدخرين إلى سلع أكثر باتا مل العقارات وإلى عودة بعضهم إلى اكتناز الذهب والفضة عند الأزمات.
كما ينبغى الإِشارة هنا إلى أن النقود حينما كانت من الذهب والفضة لم يكن هناك مشكلة تذبذب العلاقة عملات البلاد المختلفة, إذ كان المرجع فى تحديد هذه العلاقة هو كمية أو وزن المعدن فى القطعة الذهبية أو الفضية, أما النقود الورقية الآن فليس لها قيمة ذاتية ولذلك كان من الطبيعى أن تثور مشكلة العلاقة بين عملات البلاد المختلفة, وأن يصبح المرجع فى تحديد هذه العلاقة اعتبارات أخرى أهمها القوة الاقتصادية للدولة مصدرة النقود وما يعترى هذه القوة من طوارئ بعضها حقيقى وبعضها مبنى على احتمالات وتوقعات مستقبلة متيجة أحداص سياسية أحيانا ونتيجة خطب أو تصريحات صحفية أو إشاعات أحيانا اخرى.
هذا من ناحية ومن ناحية فإن حرية تداول العملة فى غير بلد إصدارها يرد عليه كثير من القيود مما يترتب عليه نشوء سوق سوداء للعملة الأجنبية إلى جانب السوق الرسمية حينما لا يراعى السعر للعلة الأجنبية حقيقية وضعها بالنسبة للعملة المحلية, وظروف العرض والطلب بين العملات, مما يعنى صراحة أن النقود الأجنبية أصبحت سلعة فى خارج بلد إصدارها, ويترتب على ذلك جواز التعامل الآجل فيها.
وقد لجأ الفقهاء إلى نقل أحكام النقود الذهبية والفضية إلى النقود الورقية دون مراعاة هذه النتائج كما أنهم أبقوا للذهب والفضة أحكامها رغم فقدانهما لوظيفة النقود دون مراعاة لقاعدة أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما, مما أدى إلى اضطراب فى الأحكام يحتاج الموضوع معه إلى أحكام جديدة تناسب هذا الواقع الجديد.
ـــ ومنذ عصر مبكر تجاوز الفقهاء شرط التماثل فى بيع المصوغات الذهبية بالنقود الذهبية آخذين فى الاعتبار أن عنصر الصياغة ينبغى أن يكون لها مقابل فى الثمن.
ـــ كما إنه بعد ظهور النقود الورقية أخذ الفقهاء فى تقدير نصاب زكاة المال وفى تقدير صدقة الفطر, وكذلك فى تقدير نصاب المال المسروق, أخذوا فى ذلك كله بما يقابل المقادير السلعية والذهبية القديمة من العملات الورقية سنة بعد سنة وَفقا لسعر الذهب كمعدن من ناحية ووَفقا لتغير القيمة الشرائية للنقود من ناحية أخرى.
ومما هو جدير بالاعتبار عند إعادة النظر فى أحكام النقود هو أن أيا من الصور الحديثة للنقود بكامل الوظائف التى كانت تقوم بها النقود الذهبية والفضية بل إن بعضها لا يؤدى إلا وظيفة واحدة وبصورة منقوصة غير كاملة.
فالنقود الورقية تقوم بوظيفة التبادل ولكن قيامها بوظيفتى القياس والمحزن للقيم يشوبه كثير من الاضطراب بسبب تذبذب قوتها الشرائية وتدهورها على المدى المتوسط والطويل.
والشيكات لا تستخدم مقياسا للقيمة لأنها تستخدم العملة الورقية كوحدات حسابية لها, فهى تابعة لها من هذه الناحية, ولا تستخدم مخزنا للقيمة إذ تقيد صلاحيتها الزمنية بمدد معينة, ولا يوثق بوجود رصيد لها إلا فى حالات معينة كالشيكات المقبولة الدفع والشيكات المصرفية والشيكات السياحية, ولذلك لا تستخدم للادخار, أما استخدامها أداة للتبادل فيتوقف على مدى الثقة فى وجود غطاءلها كما فى الحالات المشار إليها.
أما بطاقات الائتمان فلا تستخدم مخزنا للقيمة لأنها أداة ائتمان ليس إلا كما أنها ليست مقياسا للقيمة فهى تستخدم العملات الورقية أساسا للحساب سواء عنـد استخدامها للشراء أو عند تسويـة حساباتها, ويبقى استخدامها وسيلة للتبادل متوقفا على قبول المحل التجارى لها, وعلى السقف الذى يحدد لحاملها ولا يجوز له أن يتعداه.
كما أنه مما يحتاج إلى النظر هو تحليل الأحكام التقليدية للنقود وربطها بوظائفها المختلفة حتى يتيسر نقل الحكم القديم مرتبطا بوظيفة النقود إلى الصورة الجديدة بما تؤديه من وظيفة كلية أو جزئية.
فإذا أخذنا كمثال وجوب التقابض فى عقد الصرف, ووضعنا فى اعتبارنا أن علة هذا الحكم هى تحاشى القرض الربوى أى تحاشى أن يكون سعر الصرف قد روعى فيه الأجل, فإن استمرار تطبيق هذا الحكم على بيع الذهب كسبيكة أو مصاغ بعد أن لم يعد الذهب يؤدى وظيفة النقود, ينافى قاعدة إن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما, ويكون من حسن الفقه بالأحكام إباحة بيع الذهب بالأجل فى الوقت الحاضر.
وإذا أخذنا مثالا ثانيا الديون الطويلة الأجل, ومؤخر صداق الزوجة على سبيل المثال فـإن استحقاقـه فى أقــرب الأجلين ( الطلاق أو الوفاة ) قد يتأخر إلى أربعين أو خمسين سنة بعد تاريخ الزواج وصبح حينئذ قوته الشرائية تكاد لا تكفى وجبة عذاء بعد أن كانت تكفى اشراء عقار, وذلك بسبب الانخفاض المستمر فى القوة الشرائية سنة بعد سنة, ناهيك عن التدهور الذى يحدث فى مدى زمنى قصير لبعض العملات كما حدث لليرة التركية والليرة اللبنانية والدينار الكويتى.
أفلا يدعونا ذلك إلى ربط هذه الديون الطويلة الأجل مرة أخرى بما له قيمة ذاتية كالذهب أو الفضة أو العقار أو غير ذلك.
2 ـــ الوساطة المالية :
لم تكن هناك قبل ظهور نظام البنوك والشركات المالية مؤسسات تقوم بوظيفة الوساطة المالية بين ليهم فائض من الأموال ومن هم بحاجة إليها إذ كان الطرفان يتصل أحدهما الآخر مباشرة ويتم التعاون بينهما إما على أساس المشاركة أو المضاربة أو القرض بصورتيه الحسن والربوى وكانت العلاقة الشخصية والمرفة والثقة أساس هذا التعامل هذا فضلا عن إمكان قيام من لديه فائض أموال باستثمارها مباشرة إذا كان لديه خبرة فى الموضوع.
وبعد تعقد الحياة التجارية وفقدان الثقة بين الناس فضلا عن ضرورة وجود خبيرة متقدمة للقيام بالاستثمار المباشر فإن الصور القديمة للتعاون تقلصت وبرزت وظيفة جديدة هى وظيفة الوسيط المالى الذى يقوم بتجميع المدخرات صغيرها وكبيرهـا ويقدمها للمشروعـات المحتاجة إلى تمويل.
ونظرل لأن هذا النظام ـــ نظام الوساطة المالية ـــ قد تبلور فى عصر النهضة الأوربية وغياب المشروع الإِسلامى المتطور فقد استخدم النظام صيغة القرض الربوى الذى كان ومازال مسيطرا فى العلاقات المالية فى الغرب وذلك فى علاقة الوسيط المالى بكل من صاحب المال والمحتاج إليه ويحقق الوسيط ربحه من الفرق بين سعر الفائدتين.
وقد حاولت البنوك الإِسلامية أن تقوم بهذه الوظيفة لتجنيب المسلمين ضرورة التعامل مع البنوك الربوية ووجد لتكييف علاقة البـنك الإِسلامـى بكـل من الطـــرفين ( المودعين وأصحــــاب المشروعات ) عدة اقتراحات كالمضاربة والمشاركة والوكالة, ومازال الوضع قلقا يحتاج إلى اجتهاد ويضع فى الاعتبار الأول أن هذا التغير فى المعاملات المالية تغير حذرى يحتاج إلى اجتهاد جديــد.
ومن أمثلة هذا الاجتهاد الجديد قضية سلة الودائع لدى البنوك وكيفية معاملة المودعين الذين تصب فيها ودائعهم يوميا ولمدد متفاوتة وتخرج منها مبالغ لاستثمارها فى مشروعات مختلفة دون ربط كل وديعة بمشروع معين, فعلى أى أساس تعامل هذه الودائع وكأنها مشاركة فى المشروعات رغم عدم الربط بينها وقد اقترحت لحل هذه المسألة انشاء نوع جديد من المشاركة اسميته المشاركة المتتالية تمييزا لها عن المشاركة المتوازية المعروفة فى الفقــه والقانون. ( نشر البحث بمجلة بحو الاقتصاد الإِسلامى بجامعة الملك عبد العزيز بجدة وهو مرفق كملحق لهذا البحث ).
3 ـــ التأمين :
كانت علاقة التكافل الإِسلامى بصوره المختلفة خاصة نظام بيت المال والأوقاف هى الملجأ لمن أصابته مصيبة فى النفس أو المال. وكان هذا النظام كافيا لسد هذه الحاجة بالنظر إلى مسئولية الدولة عن رعاية أبنائها سواء منهم المسلمون وغير المسلمين من يعيشون فى ظلها.
ولم تكن بذلك بحاجة إلى التفكير فى نظم للتأمين على الحياة أو البطالة أو الشيخوخة أو الحوادث أو المرض أو غير ذلك من أنواع التأمين التى نعرفها الآن.
ومع تدهور الدولة الإِسلامية وتراخيها فى القيام بوظائفها أصبحت هذه الحاجات مكشوفة لا يوجد ما يغطيها فى نظم المجتمع الإِسلامى الواقعية.
وفى نفس الوقت ومع ازدهار النظام الرأسمالى فى الغرب ونشوء نفس الحاجات فى المجتمعات اتحه التفكير ابتداء إلى إنشاء نظام للتكافل بين أصحاب الواحدة وبدأ ذلك بالتحديد بين أصحاب السفن التى كانت تنقل البضائع عبر البحار والمحيطات إلى بلاد نائية ونشأ بذلك التأمين التعاونى حيث يدفع كل صاحب سفينة قسطا إلى جمعية التأمين أو شركة التأمين, ومن مجموع هذه الأقساط يدفع لمن تصيبه كارثة ما يعوضه عما فقده.
ثم نقل النظام الرأسمالى هذه الفكرة إلى مجال النشاط التجارى ( أى الذى يبغى الربح ) ونشأ بذلك نظام شركات التأمين التى تسمى بالتجارية حيث يتجمع رأس مال الشركة الأصلى من مساهمين يبغون الربح ثم تجمع الشركة أقساطا من المؤمنين الذين يريدون تغطية مخاطرهم وتقوم الشركة بالدفع إلى من تصيبه مصيبة على نفس النحو الذى تقوم به جمعيات وشركات التـأمين التعــاونى وتحتسب الأقساط والتعويضات فى كلا النوعين من التأمين بنفس الطريقة.
غاية ما فى الأمر من الخلاف بينهما هو أن الفائض من الأقساط بعد دفـع التعويضـات يضـاف فى النظام التعاونى إلى رأسمال الشركة أو الجمعية لتدعيمها, بينما فى نظام الشركة التجارية فإن هذا الفائض ـــ بعـد تجنـيب الاحتياطــات اللازمة ـــ يــوزع على المساهمين فى الشركة.
والمهم أن نلفت النظر إلى أن شركات التأمين التعاونى لا تعوض من تصيبه مصيبة إلا إذا كان مشتركا فى الشركة.
وقداختلف الرأى بين علماء الإِسلام المعاصرين حول الموقف من هذه الشركات بنوعيها وإن كان هناك شبه إجماع على حل التعامل مع الشركات التعاونية وظلت الشركات التجارية محل نقاش حتى يومنا هذا, ولعل فى تصور البعض أن الشركات التعاونية بحكم هذا الاسم التعاونى تكون مقبولة إسلاميا مع أن الحقيقة كما أوضحنا أنها لا تعاون إلا من كان مشتركا فيها بينما التعاون الإِسلامى يكون موجها إلى المحتاج بصرف النظر عن انتمائه أو عدم انتمائه كما أنه لا يفيد غير المحتاج وهو مالا تفعله الشركات التعاونية إذ يأخذ المشترك فقط دون غيره تعويضا يتفق مع حجم القسط الذى دفعه وبصرف النظر عما إذا كان محتاجا أو غير محتاج.
هذا فضلا عما أشرنا إليه من أن تقنيات العملية واحدة فى كل من النظام التعاونى والنظام التجارى.
ولا شك أنه فى ظل نظام إسلامى تقوم فيه الدولة بواجبها فى رعاية أبنائها لا تكون مسألة التأمين مثارة بمثل هذه الحدة إذ تبقى نشاطا إضافيا يحتمل القبول أو الرفض.
ولمن حتى تقوم مثل هذه الدولة فإن المسلمين يبقون فى حرج شديد نتيجة تعرضهم لمخاطر دون وجود من يكفلهم عند وقوعها ومن هنا كان بحث هذا الموضوع كنظام مستجد تدعو إليه الحاجة فى المرحلة الانتقالية التى لا يعلم مداها إلا الله حتى يقوم النظام الإِسلامى الكامل.
4 ـــ الاعتمادات المستندية :
نشأ نظام الاعتمادات المستندية كترتيب بين البنوك ( بنك المشترى ومراسليه فى بلد البائع وبنك البائع ) وذلك حتى يطمئن المشترى إلى شحن البضاعة المطلوبة له ويطمئن البائع إلى دفع الثمن له.
وحي يعرف كل من المشترى والبائع أحدهما الآخر ويق فيه فلا يكون ثمة حاجة إلى هذا النظام إذ يستطيع المشترى أن يطلب من البائع هاتفيا أو بالبريد أن يشحن له البضاعة المطلوبة ويقوم بتحويل الثمن له بالطرق المعتادة.
وتتلخص عملية الاعتماد المستندى فى أن المشترى يطلب من بنكه فتح اعتماد للبائع مقابل تسليم البنك المستندات المثبتة لعملية الشحن مع فاتورة البيع ومع بوليصة التأمين إن اشترط ذلك وغير ذلك مما قد يرغب فى اشتراطه ( كشهادة لمنشأ البضاعة من السلطات المختصة وكشهادة فحص للبضاعة على أرصفة الميناء قبل الشحن بواسطة مكاتب متخصصة للتثبت من حقيقة البضاعة المشحونة ومطابـقتها للمواصفات ).
والأصل أن يودع المشترى المن لدى بنكه ولكن فى غالب الحالات يكتفى البنك بأن يطلب إيداع 10 إلى 20 % فقط عند فتح الاعتماد.
ويقوم البنك بعد ذلك بإبلاغ مراسله فى بلد البائع أن مة اعتماد مفتوح لديه وبشروط هذا الاعتماد, فيقوم البنك المراسل بإبلاغ ذلك إلى البائع الذى يقوم حينئذ بتجهيز البضاعة وشحنها, ويسلم إلى البنك المراسل أو إلى بنكه الخاص إن كان ذلك أيسر له المستندات المطلوبة, فيقوم البنك بالدفع فورا إليه, ويرسل المستندات إلى بنك المشترى الذى يقوم بتبليغ المشترى بوصول المستندات فيقوم بسداد باقى القيمة إلى البنك ويتسلم البضاعة عند وصولها.
وهذا النظام كما يتضح مرتبطة أجزاؤه بعضها ببعض ويدخل عليه أحيانا بعض الإِضافات أو التعديلات كأن يكون قابلا للإِلغاء من طرف المشترى وهذا نادرا إذ الغالب أن يكون غير قابل للإِلغاء, وأن يكون قابلا للتحويل من البائع إلى بائع آخر مما يسهل قيام الوسطاء بتنفيذ الاعتمادات بواسطة المنتج الأصلى وذلك بتحويل الاعتماد لصالحهم ( وبطبيعة الحال بسعر أقل ), ويكون الاعتماد فى كل الأحوال له مدة صلاحية محددة يسقط إذا لم ينفذ البائع العملية خلال المدة إلا إذا اقتنع المشترى بعذر البائع وقام بتمديد مدة صلاحية الاعتماد, إلى غير ذلك من التفاصيل.
ونظرا لأن التعامل بالاعتمادات المستندية يتم غالبا بين بنوك فى دول مختلفة فقد دعت الحاجة إلى بلورة أحكامه التى استقر عليها عرف التعامل بين البنوك فى نماذج وضعتها غرفة التجارة الدولية وشملتها اتفاقات دولية لإِلزام الأطراف بأحكامها.
وتقوم فكرة الاعتماد المستندى فى هذا التنظيم على أساس أن البنوك لا تتعامل فى البضاعة وإنما تتعامل فى المستندات التى يطلب منها استيفاؤها فهى لا تحوز البضاعة ولا تتملكها إلا إذا امتنع المشترى عن سداد باقى القيمة فيقوم بنكه حينئذ ببيع البضاعة لاستيفاء حقه ( ولاحتمال أن يكون البيع بأقل من حق البنك فإنه يراعى ذلك عند تحديد الجزء الذى يطلب من عميله دفعه عند فتح الاعتماد ).
ومن هذا يتبين أننا بصدد نظام ليس بالبيع ولا بالوكالة ولا بالحوالة ولا بالإِجارة ولكنه مزيج من ذلك كله وَفقا لشروط معينة تحكمه كمعاملة واحدة لا تقبل التفكيك والانفصال.
ومن هنا يتضح عدم إمكانية تأسيس حكم هذه المعاملة شرعا على أساس تفكيكها إلى أجزاء كما يحاول بعض المفتين ذلك.
كما يتضح أن قيام البنوك الإِسلامية بالدخول مشتريا وبائعا من خلال عملية الاعتماد المستندى تنفيذا لعقد المرابحة المعقود بينها وبين عملائها أمر مخالف لنظم الاعتمادات المستندية كما نظمتها غرفة التجارة الدولية, وبطبيعة الحال تنتفى هذه المخالفة إذا تمت عملية المرابحة مع شركة تابعة للبنك الإِسلامى ويقتصر دور البنك حينئذ على تنفيذ الناحية الفنية شأن البنوك الأخرى.
والموضوع برمته يحتاج إلى نظرة جديدة لأن هذا النظام كما تبين يقوم بوظيفة محددة لم تكن موجودة من قبل.
ومن هذه الأمثلة للتغير الثورى أو الجذرى وما سبقها من أمثلة للتغير التطورى يتضح حاجة الفقيه إلى دراسة واقع الحياة التجارية والاقتصادية دراسة مفصلة حتى يكون رأيه فى إنزال الشريعة على الواقع مبنيا على أساس سليم.
****
الملحق
المشاركة المتتالية فى البنوك الإِسلامية(2)
إن تكييف علاقة المصرف الإِسلامى بالمودعين, وعلاقة المودعين فيما بينهم على أساس عقد المضاربة يثير مشكلة تطبيقية, هى مسألة التداخل الزمنى, ونقصد بها, اختلاف مواعيد الإِيداع والسحب بين المودعين وكذلك مواعيد بدء وتصفية الاستثمارات التى استخدمت فيها أموال الودائع, الأمر الذى يحول دون تحديد الربح أو الخسارة الفعلية العائدة لأى وديعة بعينها. ويمكن التغلب على هذه المشكلة بأن نجعل علاقة البنك بالمودعين قائمة على أساس الوكالة بأجر ( بدل المضاربة ) :
حيث يعتبر البنك وكيلاً عن المودعين فى استثمار أموالهم لقاء أجر ثابت, أو لقاء نسبة من مبلغ الوديعة ذاتها, وذلك يجعل دخل البنك مستقلاً عن مواعيد ونتائج عمليات الإِستثمار الفعلية.
أما علاقة المودعين بعضهم ببعض فإنها تبقى بحاجة إلى تأصيل فقهى يأخذ فى الحسبان مسألة التداخل الزمنى المذكورة, ونقترح لذلك صيغة عقد مستحدث سميناه : المشاركة المتتالية, وبينا بعض خصائصه وضوابطه.
1 ـــ المشكلة من الناحية المصرفية
أن ما تقتضيه ضرورات التخطيط فى حياة الأفراد والمؤسسات فى الوقت الحاضر من توافر بعض الأموال فترة من الزمن والحاجة إليه فترة أخرى, دعا إلى استحداث نظام الودائع المحددة الأجل غير المرتبطة بنهاية مشروع محدد وتصفية حساباته وتحصيل مستحقاته.
ومن هنا, كانت مهمة المؤسسة الوسيطة أن ترتب استثماراتها بصورة تمكنها من رد الودائع إلى أصحابها فى موعد استحقاقها, فضلاً عن تمكنها من رد الودائع تحت الطلب ( الحسابات الجارية ) فى أى وقت ومع الاستفادة منها باستثمارها فى ذات الوقت.
وقد طورت البنوك التقليدية أدواتها بحيث تقوم باستخدام الأموال المتاحة لها مراعية توافق الآجال بين مدد الودائع ومدد القروض, وسهل عليها هذه المهمة أن علاقتها بمستخدمى الأموال علاقة دائن بمدين لأجل محدد, وبالرغم من هذه السهولة النسبية فى ترتيب البنوك التقليدية للسيولة ناتجة عن استثمار الودائع القصيرة الأجل فى فروض طويلة الأجل مخالفة بذلك إحدى القواعد الذهبية للعمل المصرفى, يشجعها على ذلك الأمل فى تجديد بعض المودعين لمدد ودائعهم, ذلك الأمل المبنى, فى غالب الأحول, على استقراء خبرتها مع عملائها على مدى السنين.
وتختلف حالة البنوك الإِسلامية اختلافاً جذريا عن البنوك التقليدية فى أنها لا تقدم الأموال كقروض لآجال محددة, بل تقوم بتمويل مشروعات حقيقة يصعب فى معظم الأحيان انضباط مواعيد تصفيتها وتحصيل ناتجها ( تنضيضها بالمصطلح الفقهى ) مهما كانت تنبؤات دراسات الحدوى وبرامج التنفيذ.
ويترتب على ذلك صعوبة تنفيذ مبدأ توافق الآجال, وبالتالى صعوبة إيجاد السيولة اللازمة فى الوقت المناسب لرد الودائع عند مواعيد استحقاقها.
وإذا كانت البنوك الإِسلامية لم تقابل هذه الصعوبة ـــ فى الواقع ـــ فإن مرجع ذلك إلى ظروف خارجة عن طبيعة نظامها وترتيبات السيولة لديها, إذ إنها لحسن حظها تشكو من توافر السيولة ـــ لا من عجزها ـــ نتيجة تدفق الودائع لديها بما يزيد أضعافاً عن إمكانيات استخدامها, تسوى فى ذلك البنوك القائمة فى بلاد مصدرة لرؤوس الأموال, كدول النفط, أو فى بلاد مستوردة لرؤوس الأموال كمصر والسودان.
فحالة توافر السيولة ـــ أو فائض السيولة ـــ القائمة لدى بعض البنوك الإِسلامية تثير مشكلة أخرى تخرج عن نطاق هذه الورقة, ولا يجوز أن تصرفنا عن المشكلة الكامنة فى طبيعة النظام نفسه, والتى تستلزم إيجاد ضوابط فى صيغ الاستثمار التى تستعملها البنوك الإِسلامية تكفل توافق الآجال, وتسييل بعض أصول البنك فى حالة تعذر توافق الآجال.
وتنعكس هذه الضرورة فى الأمور التالية :
1 ـــ اعتماد مبدأ توافق الآجال بصفة أساسية, واختيار الصيغ التى تحقق هذا المبدأ.
2 ـــ تطوير الصيغ المستعملة بإضافـة الشروط والخيارات والبدائل التى تكفل خروج البنك الإِسلامى من العملية الاستمارية قبل نهايتها لتحقيق السيولة التى قد يحتاج إليها.
3 ـــ تطوير أدوات وأجهزة السوق الثانوى وهى التعبير الطبيعى عن الخروج من الاستثمار قبل نهاية مدته بحلول مستمر آخر محل المستثمر الراغب فى الخروج.
2 ـــ المشكلة من الناحية الشرعية
هذا من الناحية المصرفية.
أما من الناحية الشرعية, فإن علاقة المودع بالبنك الإِسلامى وعلاقة المودعين بعضهم ببعض تثير عدداً من المشاكل الفقهية.
أولا : أول هذه المشكلات هو تكييف علاقة المودع بالبنك على أساس عقد المضاربة حيث المودع رب المال والبنك هو المضارب, فإن هذا التكييف يصطدم بعدة اعتبارات :
1 ـــ منها أن تحديد المضاربة بمدة يفسدها لدى بعض المذاهب, إذ الأصل أن تستمر حتى تصفى العمليات التى يقوم بها المضارب ويحصل المال المستثمر نقدا أو ما يعبر عنه الفقه بالتنضيض, وهذا ما لا يناسب حالة المودع الذى يريد ترك ماله للاستثمار فترة زمنية محددة يسترجعه بعدها لاستخدامه فى أمور الأخرى.
2 ـــ ومنها أن التوافق بين المبلغ الذى أودعه المودع والمدة التى يريد الإِيداع لها, وبين مبلغ ومدة إحدى العمليات الاستثمارية تكاد تكون مستحيلة الوقوع فى العمل, إذ الواقع أن البنوك تصب فيها الودائع يوميا بالعشرات والمئات بمبالغ متفاونة, وتقوم باستخدامها فى عمليات لا ينظر فيها إلى هذا التوافق, فأسس عمل البنك أن الودائع تصب فى سلة عامة أشبه بالنهر الجارى الذى يأخذ منه قنوات الاستثمار المختلفة.
وتطبيق أحكام خلط أمـوال المضاربة لا يفيد كثيراً فى هذا المجال, إذ حالة الخلط التى أشار إليها الفقهاء هى لخلط يتم فى عمليات محددة يتم الحساب بانتهائها وتوزيع نتيجة العمليات على المشاركين فيها, فى حين أن الخلط فى سلة المودعين خلط متداخل تدخل فيه بعض الودائع بعد أن تكون بعض العمليات قد بدأت, وتخرج منه بعض الودائع قبل أن تنهى بعض العمليات, فهى تيار مستمر لا يمكنه تتبع العمليات التى استثمرت فيها أموال وديعة بعينها لمعرفة حصتها من الربح أو الخسارة.
3 ـــ وقد وجدت عدة محاولات للإِبقاء على تكييف علاقة المودع بالبنك ضمن إطار عقد المضاربة, مثل القول بالتنضيض الحكمى بدلا عن التنضيض الحقيقى, والتسامح فى حساب الخلطاء عند تخارج بعضهم, وغير ذلك من أساليب الصناعة الفقهية.
4 ـــ هذا وقد نبه د. سامى حمود ـــ فى رسالته للدكتور (( تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإِسلامية )) وفى المذكرة التفسيرية لمشروع قانـون البنك الإِسلامى الأردنى ـــ إلى عدم كفاية صيغة المضاربة بالصورة التى وردت فى كتب الفقه كأساس لعلاقة المودعين بالبنك الإِسلامى, واقتراح البديل الذى سماه (( المضاربة المشتركة )).
ومع اتفاقنا فى الرأى مع د. حمود على أن صيغة المضاربة لا تكفى أساساً لعلاقة المودعين بالبنك الإِسلامى, إلا أننا لا نشاركه الاتجاه إلى تكييف هذه العلاقة على أساس المضاربة المشتركة, وذلك لسببين :
( أ ) إن البقاء فى إطار المضاربة ولو أسميناها مشتركة, بتنافى مع ما نريده لهذه العلاقة من أحكام لا تتفق وعقد المضاربة.
( ب ) إن المشكلة ليست فى الحقيقة فى علاقة المودع مع البنك وإنما هى فى علاقة المودعين بعضهم ببعض, ولذلك يحسن أن نفصل بين الأمرين عند بح الأساس الشرعى لكل منهما, إذ أن علاقة المستثمرين المتشاركين متصورة دون وجود بنك وسيط بينهما, ومع ذلك, تبقى مشكلة خلط الأموال وتوزيع الأرباح, التى أشار إليها د. حمود, قائمة.
5 ـــ فبخصوص علاقة المودع مع البنك, طرحت بدائل لعقد المضاربة كأساس لتكييف هذه العلاقة أهمها عقد الوكالة, إذ يعتبر البنك وكيلا عن المودع فى استثمار أمواله مع تفويضه فى الاستثمار وخلط الأموال, وهذا التكييف جيد فى رأينـا وكاف كأساس لعلاقة المودع مع البنك ويبعدنا عن مشكلات تكييف هذه العلاقة على أساس عقد المضاربة, ولكنه لا يحل مشكلة الحساب بين الخلطاء الذين تتداخل أموالهم فى فترات مختلفة لا تتفق مع مواعيد بدء وتصفية العمليات التى استخدمت فيها هذه الأموال. ( وهى المشكلة التى نرى أن تبحث منفصلة ). والميزة الرئيسية لصيغة الوكالة هى جواز أن يكون أجر الوكيل ( بدلا من نسبة من الأرباح كما فى حالة المضارب ) مبلغاً مقطوعاً أو نسبة من مبلغ الوديعة ذاتها, وهذا مما يسهل حساب الدخل فى البنك الإِسلامى ويفصله عن نتيجة السلة الاستثمارية, ويمكن معه معرفة الأجر مقدما فى كل فترة حسابية دون حاجة إلى الدخول فى تقديرات بحيث يصنف الدخل المحقق realized أو المستحقق due لا المقدر accrued.
ثانياً : ورغم أن تكييف علاقة المودع بالبنك على أساس عقد الوكالة ـــ لا المضاربة ـــ يحل كما ذكرنا أحد شقى المشكلة, إلا أن علاقة المودعين بعضهم ببعض تبقى بحاجة إلى تكييف شرعى لها. وتكييف هذه العلاقـة يطـرح موضوع المشاركة المتتاليـة.
فإن المعروف فى الفقه الإِسلامى هو المشاركة المتوازية أى اشتراك مبلغين فى عملية أو عدة عمليات منذ بداية العملية حتى نهايتها, وهى حالة دخول أحد الشركاء بعد بداية العملية أو خروجه قبل نهايتها, فمن الضرورى عمل تقدير لقيمة العملية عند الدخول أو الخروج.
ولما كان هذا الوضع غير متصور تطبيقه على الودائع الاستثمارية فى البنوك الإِسلامية حيث تدخل وتخرج عشرات بل مئات الودائع يومياً, فإن فكرة السلة العامة للودائع تقوم على نوعين من المشاركة بين أصحاب الودائع : المشاركة المتوازية كما أشرنا, والمشاركة المتتالية, حيث ينظر إلى جميع الودائع فى نهاية السنة المالية ـــ التى اعتبرت بديلا عن مدة العملية ـــ على أنها مشتركة فى أرباح وخسائر مختلــف العمليات التى استثمرت فيها الودائع خلال السنة المالية, بمعنى أنه لا يقبل من مودع أو أودع فى النصف الأخير دون تحمل خسائر النصف الأول مثلا, رغم أن وديعته, فى حقيقة الأمر, لم نشارك فى العمليات الخاسرة فى النصف الأول وإنما شاركت فقط فى العمليات الرابحة فى النصف الثانى.
فهذا النوع من المشاركة المتتالية لم يكن مقبولا فى الفقه إلا إذا تم تقويم الشركة عند كل دخول أو خروج لأحد الشركاء.
وهذا التخارج متعذر من الناحية العلمية نظرا لدخول وخروج مئات الودائع يوميا, الأمر الذى لا يمكن معه تقويم الشركة يوميا.
وقد فطن الدكتور سامى جمود عند إعداد المذكرة الإِيضاحية لمشروع قانون البنك الإِسلامى الأردنى إلى وجود مشكلة فقهية فى هذه المسألة, وحاول إيجاد الأساس الفقهى للممارسة المقترحة لسلة الودائع العامة.
ويقول د. سامى حمود : (( ويستند الأساس الفقهى لهذا التقسيم المتفاوت إلى ما هو مقرر فى الفقه الإِسلامى من ناحية ربط استحقاق الربح بتخصيص المال للمشاركة, ولذلك قالوا بأنه لو كان لأحد الشريكين دراهم ( من فضة ) وللثانى دنانير ( من ذهب ) فإن الشركة ـــ عند من لم يشترط خلط المالين ـــ كما نقل الكاسانى ـــ تجوز وهم شركاء فى الربح وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة لأن الزيادة وهى الربح تحدث على الشركة )) ( الكاسانى : بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع, القاهرة, زكريا على يوسف, الجزء السابع ص 3540 ـــ 3541).
ويوجد لهذا التطبيق نظير أيضا فى شركة الأعمال, حيث يمكن أن يعمل أحد الشريكين ولا يعمل الآخر, ومع ذلك فإنهما يتقاسمان الربح. والسبب فى ذلك ـــ كما بينه الكسانى رحمه الله ـــ هو أن (( استحقاق الربح فى الشركة بالأعمال بشرط العمل لا بوجود العـمل )) ( الكاسانى, الجزء السابع ص 3541 )
وكذلك فى الشركة بالمال, فإن استحقاق الربح ليس مرتبطا بنماء المال ذاته ولكنه مبنى على مجرد وضع المال تحت تصرف من يعمل فيه سواء استعمال هذا المال فعلا أم لم يستعمل.
وبذلك يكون مجرد إيداع المستثمرين نقودهم فى حسابات الاستثمار موجب لتحقيق الربح المعين لهم بالنسبة التى يخضع لها الحساب المفتوح سواء استعمال المال المودع أم لم يستعمل, وسواء كان بالعملة الأردنية أو بالعملات الأجنبية كالاسترلينى والدولار والريال.
وقد اتخذت السنة الماليــة أساسا للمحاسبة, لأن هذا الاستثمار بطبيعته عمل مستمر ومتلاحق, ولا بد فيه من التحديد الزمنى, ولكن على أساس ما يتحقق فعلا من أرباح بدون القيام بإجراء التصفية الشاملة لكل العمليات الممولة فى تاريخ موحد. ( من مشروع قانون البنك الإِسلامى الأردنى, ص 13, 14. منسوخ على الآلة, تموز 1977 ).
وواضح مما كتبه د. سامى حمود أنه أساس فقهى جيد للمشاركة المتوازية مع عدم خلط الأموال, ولكنه لا يكفى أساسا فقيها للمشاركة المتتالية, إذ أن نية الاشتراك ـــ فى حالة المشاركة المتوازية مع عدم خلط الأموال ـــ قائمة. أما فى حالة المشاركة المتتالية, فإن نية المشاركة تنتهى بسحب المودع ماله من سلة الودائع. ومع ذلك, يبقى مشاركا فى نتيجة السنة المالية ربحا أو خسارة وهو ما يتنافى مع أحكام عقد الشركة كما عرفه الفقه التقليدى, ولا تنطبق عليه الحالة التى أشار إليها الكسانى فى ( بدائع الصنائع ).
ولذلك, تبقى حالة المشاركة المتتالية دون أساس يساندها من الفقه التقليدى. ولا مناص إذن ـــ فى أرينا ـــ من قبول أن هذه هى إحدى الصور المستحدثة من المشاركة المتتالية أو المتداخلة.
ويترتب على قبول هذه المشاركة المتتالية وضع المعالم والضوابط لها :
يمكن تصور وجود المشاركة المتتالية فى عملية واحدة, كما يمكن وجودها فى سلة من العمليات.
( أ ) ففى حالة العملية الواحدة, نفترض أن عملية ما تحتاج إلى تمويل مليون دولار لمدة سنة, وأن المتوافر لدى الشخص الراغب فى التمويل مليون دولار لمدة ستة شهور, وأن شخصا آخر على استعداد لتقديم المليون دولار فى سته الشهور التالية, فإذا اتفق الشخصان على تمويل العملية بهذه الصورة المتتالية واقتسام أرباحها وخسائرها, فإن الشخص الثانى عند نهاية الستة شهور يقدم المليون دولار إلى الشخص الأول الذى يسترد بذلك تمويله, وعند نهاية العملية يسترد الشخص الثانى المليون دولار من العملية ويتحاسبان على نتيجتها ربحا أو خسارة.
( ب ) كما أن المشاركة المتتالية قائمة بالفعل فى سلة الودائع العامة حيث تصب مئات وألوف الودائع وتخرج عند استحقاق مواعيدها دون انتظار تصفية العمليات وإنما يتم دفعها إلى أصحابها ما يتوافر لدى البنك من سيولة سواء من حصيلة ودائع جديدة أو من حصيلة استثمارات منتهية أو غير ذلك من الموارد. ويتم الحساب مع جميع المودعين فى السلة خلال العام بعد تصفية حسابات الاستثمارات فى نهاية السنة المالية ويقتسمون معا الربح والخسارة وَفق نظام النمر أى مع مراعاة المبالغ والمدد.
وهذه المشاركة المتتالية والمتداخلة ـــ إلى جانب المشاركة المتوازية ـــ ( سلة الودائع العامة ) مع اعتبار السنة المالية وحدة بدلا من تصفية كل عملية على خدة ـــ تثير عدة جوانب محاسبية :
( أ ) دخول بعض أرباح العام السابق إلى سلة السنة محل المحاسبة وتأخير بعض أرباح السنة محل المحاسبة إلى العام التـالى, بسبب تأخـر تصفيـة حسابات بعض الاستثمارات عن نهاية السنة المالية.
( ب ) خصم بعض مبالغ ـــ كمخصصات للديون المشكوك فيها أو المعدومة أو لانخفاض قيمة الأصول أو قيمة العملات المستثمر بها ـــ من أرباح السنة محل المحاسبة عن استثمارات تمت فى العام السابق, وقد يعاد بعض هذه المبالغ ـــ عند تحصيلها أو تغير قيمة العملات ـــ إلى أرباح العام التالى.
( ج ) حجز نسبة من ربح السنة لتكوين احتياطى مخاطر الاستثمار ( تصل هذه النسبة فى البنك الإِسلامى الأردنى إلى 20 % وفى البنك الإِسلامى الماليزى إلى 50 % ). بما يمكن معه تفادى تحميـل إحدى السنوات كامـل خسائرها وتوزيعها على عدة سنوات من خلال هذا الاحتياطى المقتطع من أرباح عدة سنوات.
وقـد عولجت هذه الجوانب المحاسبية فى مختلف البنوك الإِسلامية بصورة أو أخرى, ولكن يبقى الجانب الشرعى فيها بحاجة إلـى تأصيل. ومن المهم التنبه هنا إلى أن المسألة ليست من البساطة بحيث يكفى فيها التسامح المتبادل. فقد يصل المبالغ المنقول من سنة إلى سنة إلى عدة ملايين من الدولارات, وقد تؤثر هذه المبالغ على نتيجة حسابات الأرباح زيادة أو نقصانا بنسب كبيرة, بل قد تصبح النتيجة لمودعى سنة بعينها ربحا بدل أن تكون خسارة, أو بالعكس قد تصبح خسارة بدل أن تكون ربحا.
وهذه العلاقة المستمرة بين السنوات المالية المتتالية مظهر مهم من مظاهر المشاركة المتتالية نظرا لأن هذا التتالى مستمر من عام إلى عام بتجدد خروج المودعين ودخول غيرهم.
وليس واردا من الناحية العلمية أن يقال بإجراء حساب مؤقت للمودع الذى سحب وديعته وبقاء التصفية النهائية معلقة, إذ أن أقصى ما يمكن تصوره من تعليق هذه التصفية هو انتهاء حسابات السنة التى سحب فيها وديعته, فضلا عن أن التصفية النهائية التى يأخذ فيها كل مودع حصته من العمليات التى شاركت فيها وديعته غير ممكنة عمليا لعدم إمكان فرز العمليات وتخصيص عمليات بعينها لودائع بعينها.
كما أنه ليس واردا أن يحل البنك ـــ أى مساهموه ـــ فى استحقاق مبالغ المخصصات والاحتياطيات الخاصة بالاستثمار وفى تحمل الالتزامات الواقعة على عاتق سلة الودائع العامة, إذ أن وضع البنك كوكيل عن المودعين ـــ أو حتى كمضارب مشترك فى أموالهم وَفقا لرأى د. محمود ـــ لا يجعله مسئولا عن الالتزامات المتعلقة بالاستثمارات فتصرفه كوكيل تعود إلى موكله, وخسارة المضاربة تعود إلى رب المال دون المضارب, وفى الحالتين لا يكون الوكيل أو المضارب مسئولا إلا فى حالة التقصير أو التعدى.
فإذا أخذنا الاعتبارات السابقة جميعا فى الحسبان نجد أن سلة الودائع العامة بمثابة شركة مستقلة داخل البنك يقوم البنك بإدارتها نيابة عن المودعين ولحسابهم, وإذا كان التبسيط فى الإِجراءات يستدعى عدم استكمال شكليات هذه الشركة بما يضفى عليها شخصية معنوية خاصة, ولكنها من الناحية المحاسبية تعامل كما لو كانت شخصية معنوية, إذ تقيد على حسابها ولحسابها جميع القيود الحسابية المتعلقة بها منفصلة عن حسابات المساهمين التى لا تتأثر إلا بما يدخل عليها من حصة الإٍدارة فى أرباح سلة الودائع.
ونشير فيما يلى إلى شرطين أساسيين فى هذا النوع من المشاركة المتتالية :
أولا : ينبغى ـــ فى رأينا ـــ توافر نية المشاركة بهذه الصورة المتتالية أو المتداخلة لدى الشركاء.
( أ ) ويكون التعبير عن هذه النية فى حالة البنوك الإِسلامية وأمثالها من المؤسسات المخصصة لإِدارة سلات استثمارية مشترَكة بالنص فى نظمها ونماذج عقودها على تفاصيل هذا الأمر, بحيث يكون المودع ـــ باطلاعه على هذه النظم وتوقيعه على هذه النماذج ـــ عالما بها وموافقا عليها.
ونورد مثالا لذلك ما يمكن أن يتضمنه طلب فتح حساب الوديعة العامة مما يتعلق بهذه الناحية :
ـــ تحدد الأرباح سنويا على أساس الربح الفعلى المتحصَّل, وأيضا الربح المحقَّق الذى لم يدفع إلى البنك, والذى هو من حق من تكون ودائعهم قائمة خلال الأجل اللازم لتحصيله. زتشترك الودائع فى نتائج عمليات السلة الاستثمارية عن سنة المحاسبة بصرف النظر عن التوافق بين تواريخ بدء العمليات وتواريخ بدء الودائع.
ـــ بمجرد دفع النصيب النهائى السنوى فى الربح على الودائع المستحقة, ليس للمودع حق الرجوع على البنك وليس للبنك حق الرجوع على المودع. ويقر الطرفان مقدما بموافقتهما على التسامح المتبادل فى الغبن اليسير الذى يتعذر تلافيه فى حاب ربح الودائع النهائى.
ـــ فى حالة سحب الوديعة يوافق الطرفان على التخارج (3) طبقا للوضع الراهن حينئذ بالنسبة للحقوق المتبادلة بصرف النظر عما إذا تحققت فيما بعد خسائر أزيد أو أقل من المحصصات المرصدة لها.
( ب ) أما فى حالة العلاقات المباشرة بين المستثمرين المشاركين على التتالى أو بصورة متداخلـة, وحيـث لا يتوسط بين بينهم بنك إسلامى أو مؤسسة تقوم بتفصيل هذا الأمر فى نظمها ونماذج على النحو الذى أضحناه أعلاه, فينبغى ـــ فى أرينا كذلك ـــ أن يكون الاتفاق بين المستثمرين على المشاركة صريحا قبل بدء العملية الاستثمارية حتى ولو تأخر دفع الحصة إلى تاريخ لاحق.
مثال ذلك أن تكون هناك عملية يبع بالمرابحة مع السداد الآجل بعد سنة من البيع, ويكون رأس مال العملية أى ثمن الشراء متوافر بأكمـلـه لدى أحــد المستثمرين, ولكن لمدة ستة شهوؤ فقط, فيتفق مع مستثمر آخر, يتوافر لديه المبلغ فى سنة الشهور التالية, على أن يشتركا فى ربح العملية بأن يشترى الأول البضاعة ويبيعها لأجل, وبعد ستة شهور يدفع إليه الثانى المبلغ, وبعد ستة شهور أخرى, حين يحل موعد سداد المشترى للثمن متضمنا الربح, يحصل الشريك الثانى على مادفعه ويقتسم مع الشريك الأول الربح.
وسبب اشتراط أن يكون الاتفاق على المشاركة سابقا على الشراء ـــ أى على بدء العملية ـــ هو :
1 ـــ استبعاد صورة التمويل المحض فى حالة ما إذا دخل الشريك الثانى بغد بدء العملية, إذ أنها ـــ فى هذه الحالة ـــ تكون قد تمخضت عن دين فى ذمة المشترى, ويكون دخوله بمثابة شراء للدين. أما فى حالة الاتفاق المسبق على المشاركة قبل بدء العملية, فإن الشراء والبيع يكون لصالح الشريكين, وبالتالى يكون ثمن دينا فى ذمة المشترى لصالح الشريكين, ولا يكون الشريك الثانى مشترياً للدين حين يدفع المبلغ إلى الشريك الأول بعد ستة شهور, وإنما يكون ذلك بمثابة ترتيب للسيولة فيما بينهما مع لرتباطهما بالعملية من حيث ربحها وخسارتها من بدايتها إلى نهايتها.
2 ـــ ويستوى فى هذا أن تكون العملية مرابحة أو مشاركة؛ لأن شرط استحقاق الربح فى الحالتين هو الضمان, ولا يتحقق الضمان دون التزام مسبق قبل بدء العملية والاتفاق على الالتزمات المترتبة عليها. وسيأتى مزيد بيان لهذه المسألة فى النقطة التالية.
ثانياً : ينبغى أن يكون الاتفاق المسبق على المشاركة قبل بدء العملية ملزما للأطراف الممولين, إذ أن هذا الإِلزام هو الذى يتحقق به الضمان ـــ شرط استحقاق الربح ـــ وبغير الإِلزام يكون الشريك الذى سيؤخر دفع حصته من التمويل بالخيار بعد بدء تنفيذ العملية ومعرفة نتائجها الأولية ـــ إن شاء شارك فيها, وإن شاء رجع عنها وعده بالمشاركة وترك مخاطر العملية كلها للشريك الذى دفع حصته من التمويل, وهذا مخل بطبيعة المشاركة.
****
الهوامش
(1) هى مجموعة من السلع يحددها القانون بمقادير خاصة ويرصد ثمنها فى السوق عند صدور القانون ثم فى فترات دورية ( شهرية غالبا ) وينسب دائما إلى الثمن عند صدور القانون ويرمز له ب 100 كثمن اساسى لمعرفة الزيادة فى قيمة السلعة ( أو النقصان ) ونادرا ما يحدث, وبه تحدد نسبة التضخم.
(2) بحث نشر فى مجلة جامعة الملك عبد العزيز : الاقتصاد الإِسلامى, م1 ص 105 ـــ 114 (1409 هـ / 1989م).
(3) التخارج ( أو المخارجة ) هو فقهاء شراء بعض الشركاء حصص بعضهم.
المراجع
- الكسانى, بدائع الصنائع فى ترتيب الشرائع, القاهرة, زكريا على يوسف, ج7, ص 3540, 3541.
- مشروع قانون البنك الإِسلاملا الأردنى, منسوخ على الآلة, ص 13, 14 (تموز 1977م).