أن تعبيرات تجدد الإسلام، وتجديد الإسلام والجديد في الإسلام تعبيرات خاطئة، لأن الجديد يقابله القديم، وهاتان الكلمتان –بما تتضمنان من المفهوم والمحتوى- ضدان لا يجتمعان. ومعنى التجديد هو ترك القديم جانباً واستبدال شيء آخر به، تجديد الثوب معناه الاستغناء عن القديم بتركه جانباً وارتداء ثوب آخر جديد مكانه، وتجديد السيارة يعني ترك السيارة القديمة وشراء أخرى جديدة.
إذن تجديد الإسلام بهذا المفهوم والمحتوى يعني ترك الإسلام واعتناق دين آخر. ومن ثم يكون تعبير التجديد في الإسلام تعبيراً خاطئاً بعيداً عن الصواب كل البعد. التجديد في المنزل يفيد الآتي: تغيير المنزل القديم بشراء منزل آخر جديد، أو هدم المنزل القديم وبناء منزل جديد آخر مكانه، أو تجديد المنزل القديم تجديداً سطحياً في ظاهره بتغيير أثاثه، أو طلائه دون المساس بقوائمه وجدرانه.
والتجديد بالمفهوم الأول يفيد ويعني ترك الإسلام والمجيء بدين آخر مكانه. أما التجديد بالمفهوم الثاني فليس يتمخض عن فائدة كبيرة، لأنه تجديد جزئي طفيف لا يمس إلا ما هو ظاهر، ولا يشمل سوى أجزاء سطحية. ونحن عندما نقول بالتجديد إنما ينعكس إلى أذهاننا تلقائياً وبطريق التداعي ذلك التقادم الذي هو ضد التجديد. ولقد أخفقت الحركات والأفكار التي تهدف إلى التجديد في العالم الإسلامي نتيجة سيطرة هذا الفهم على العقول والتحكم فيها فلم تتوج تلك الحركات والأفكار بالنجاح في بلوغ غايتها، ففي الوقت الذي رجحت فيه كفة الظن بالنجاح وبلوغ غايتها خبت وانطفأت جذوتها، أو بقيت محصورة في حدود ضيقة لا تتعداها.
والإسلام تجاه هذا الفهم كل لا يتجزأ، فهو نظام ودين متين لا يتصدع ولا يتغير، ولا يتأثر بعواصف الزمان والمكان ولا بخطوبهما، بل يظل قائماً لا ينحني، ويبقى صلباً كالفولاذ لا ينثنى، وعليه فلا هو محتاج إلى مخلوق، ولا هو بحاجة إلى أي شيء، يكفيه أنه موجود في ذاته.
أن هذه الأفكار جميعها آراء للطائفة المحافظة المتشددة التي تقف ضد التجديد في الإسلام بالمرصاد. ولأن أصحاب هذه الآراء هم في مقام الغلبة والقوة فإن المعضلة آخذة في الاستمرار متأثرة بهؤلاء، ومع ذلك يجب أن نقر بأن هذه الآراء لها أيضاً فائدة في الحقيقة وواقع الأمر.
أما الأمر الثاني الهام هو: إن على كل مسلم أن يؤمن بأن الدين الإسلامي دين خالد باق، وأنه قد انتهت الأديان، ولن يأتي دين آخر من بعده، وأنه دين الناس جميعاً، ففي أي مكان وجد الإنسان وفي أي زمان كان فيه دينه هو الإسلام، وهو مكلف ومسئول عن الإيمان بالإسلام واتباع أوامره والابتعاد عما نهى، لأن الدين الإسلامي يتضمن أحكاماً تتفق وفطرة الإنسان وتكوينه وتستجيب لمطالبه وما يحتاجه في حياته في أحسن صور الاستجابة. وهذا الإيمان إيمان كل شخص ابتداء من أبسط إنسان مسلم إلى المسلم الذي وصل إلى أعلى درجة من الوعي والاستنارة.
وهناك أمر ثالث: وهو الشيء الذي لا يمكن انكاره بأي حال من الأحوال، ذلك أن الأماكن التي عيش عليها الناس المنتشرون فوق سطح الأرض أماكن مختلفة ومتباينة أجوائها ومياهها وشمسها وأقاليمها وسحبها وأمطارها وأحجارها وجبالها ووديانها. وتبعاً لقوانين الطبيعة المتنوعة بهذا القدر يختلف الناس جميعاً في حياتهم وفي أعمالهم وعلاقاتهم الاجتماعية وقوة فهمهم وادراكهم للأمور أيضاً. وبينما تحدث تلك التغيرات تحدث كذلك تغيرات في أحوال الناس وفي أفكارهم وتصرفاتهم أيضاً في آن واحد عندما يحدث تغير في الزمن، وليس في الإمكان مطلقاً إيقاف هذا التغير أو انكار وقوعه. عندما يحدث تغير في الزمن، وليس في الإمكان مطلقاً إيقاف هذا التغير أو انكار وقوعه.
وهناك تفاوت كبير في أوجه الفهم والإدراك بين أصحاب النظر الذين يفكرون حول هذه الأمور الثلاثة الأساسية مجتمعة، ومن هذا المنطق يبدأ الصراع الفكري ويحتدم.
إن الذين تقرر لديهم قبول ما أشرنا إليه آنفاً من أن الإسلام لا يقبل التغير وأنه كل لا يتجزأ، أن هؤلاء يتخذون الأمر الأول أساساً ليطبقوا الثالث عليه، بمعنى أنه ما دام قر في النفس بأن الإسلام لا يقبل التغير وحصل به الإيمان فإن أي شخص مهما يكن وأي إنسان كائن من كان وفي أية بقعة من العالم، إذا أراد أن يسلم ويعتنق الإسلام فإنه مضطر إلى أن يتبع أوامر الإسلام ويخضع لأحكامه الثابتة التي لا تقبل التغيير. وهنا يجبر الإسلام الجميع على نسق واحد في التصرف والسلوك عندما يدخل الناس تحت مظلة أوامره، كأنه قدر مكتوب لا تبديل فيه ولا تحول.
إن ضغط الذين يريدون أن يطبقوا الدين الإسلامي – الذي جاء منذ (1400) سنة خلت والذي أخذ شكله النهائي- حرفياً كما هو، مسيطر اليوم على العالم الإسلامي. وفي هذا يكمن السبب في عدم تمكن العالم الإسلامي من حل معضلاته في هذه الأيام، وبالتالي يجب البحث عن أسباب تأخر العالم الإسلامي داخل هذا الاتجاه نفسه أيضاً في فهم الإسلام. أن القول بأن نفس هذا الاتجاه هو المشكلة ذاتها، هو التعبير الصادق عن تشخيص سليم وصادق. ويمكن أن يكون بعض تلك المشكلات التي جاء بها هذا الفهم للإسلام، هي كالآتي:
أ- عدم قدرة المسلمين على القيام بأداء ما عليهم من الأمور والفروض الدينية أداء تاماً غير منقوص.
ب- نظرة المسلمين إلى دينهم نظرة اللامبالاة بسبب وقوعهم تحت ثقل الصعوبة المصطنعة.
ج- تسلط الحكومات على المسلمين بالضغط والتعسف نتيجة تشددهم ووقوفهم بشدة ضد أحكام الحياة وضروراتها اليومية في العصر الذي يعيشون فيه، وجعلهم الحياة عسيرة لا تطاق.
د- بالإضافة إلى هذا فإن أعداء الإسلام في الداخل والخارج الذين يستثمرون موقف المسلمين المتصلب المتشدد الذي لا يلين من دينهم ويتخذونه وسيلة وبوقاً يستخدمونه في دعايتهم ضد الإسلام فيظهرونه في مظهر دين يعوق التقدم ولا يلائم العصر ومطالب الحياة فيه، هؤلاء الأعداء يصبحون بذلك عوامل في أرخاء وأضعاف الروابط والتعلق القلبي بالدين والقيم الروحية. لذا فالذي يبدو في مظهر المسلم الحق ويحسب نفسه متمسكاً بأهداب الدين الإسلامي إلى حد بعيد هو في حقيقة الأمر المتسبب في ظهور طراز من المسلم يتخذ موقفاً مضاداً للدين ينعكس على أعماله وتصرفاته المخالفة لأساس الدين وروحه ويمكن أن توجد مواطن يوجه إليها النقد والاعتراض فيما لو استخدم هذه الاصطلاحات مثل: البعث من جديد، استرداد الحياة والقوة، ميلاد جديد، أو الإحياء من جديد بدل (التجديد) أو (التجديد)، لأن تعبير (البعث من جديد) يمكن أن يفهم منه أنه أمضى مدة من الزمن كان ميتاً فيها. أجل إن ذلك يشعر بأنه كان قد مات وانتهى وهو الآن يبعث من جديد ويحيي أو ينفخ فيه الروح من جديد. بيد أنه لابد من الإشارة إلى أن ليس ثمة اصطلاح أو شعار لا يوجه إليه نقد أو اعتراض، فالقلق من توجيه النقد والاهتمام بملاحظة تفاديه تعوق الإنسان من القيام بأي عمل إيجابي. ولذلك ينبغي علينا أن ندع مخاوف توجيه النقد والاعتراض جانباً ونحاول أن نتدارس بالفهم السليم كيف نستطيع أن نجد السبيل إلى وضع الحق والصواب أمام الأعين بالوضوح المطلوب وما هو الواجب علينا في هذا الصدد.
وحتى يمكننا التحدث باسم الإسلام ينبغي لنا أن نعرف صفة الإسلام الأساسية وحقيقة ماهيته وغايته وأهدافه بالتحديد، وحين نقوم بهذا العمل على جانب من الإتقان نجد أنه من الواجب علينا بعد ذلك العمل على وضع الإسلام في مكانه الصحيح اللائق من جهة أسسه وغاياته ومرونتها التي لا تنكسر، وأنه وحيد وسط الكثرة الغالبة، وكذلك العمل من أجل بيان عنصره الذي لا يقبل التغيير والذي لا ينبغي أن يتغير وسط المتغيرات، واستيضاح كل ذلك واكتشافه كما ينبغي، حتى يتحقق له –أي للإسلام- تدفقه عبر الأقاليم والمجتمعات والعصور والأجيال منساباً بخريره مانحاً الحياة في جريانه. وهذه هي واجباتنا التي ترتسم أمامنا فوق الأفق الفسيح.
إن الإسلام لا يكفي أن يدخل حياة الإنسان في الجامع فحسب بل ينبغي أن يدخل حياته في الدائرة والسوق أيضاً. وبتعبير آخر أنه لا يكفي أن ينحصر الإسلام في دائرة تنظيم العلاقات بين الإنسان وبين ربه فقط، بل يجب أن يتمكن من مباشرة دوره في تنظيم علاقات الإنسان بالمجتمع والدولة وكافة الناس الآخرين. لقد وجب السير قدماً في طريق فهم هذا الاتجاه فهماً صحيحاً بشكل يمكن أن يتحقق تطبيقه في مجال العمل. ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية نوصي بالمبادئ المنهجية والطرق الآتية:
1- هل الإسلام دين فرد من الأفراد، هل هو دين أسرة، أو دين قبيلة، أو دين أمة واحدة من الأمم أم أنه دين الأمم كلها ودين البشرية جمعاء؟ يؤمن المسلمون جميعاً بأنه دين يحوي جميع المسلمين ويشملهم، ويترتب على هذا توسيع مرمى البصر وضبط زاوية الرؤية على أوسع نطاق وأبعد حدود نظراً لاتساع الساحة التي يشملها الإسلام، وهذه القضية ينبغي تناولها على أنها الغاية.
2- هنا يلزم علينا أن نجيب على سؤال ما هو الإسلام، ومن تعريف الإسلام سيتضح لنا كيف ينبغي أن يفهم الإسلام. وكما أن تعريفه سيحقق لنا تطبيق خط فهمه كذلك سيبين لنا وجهة فهمه وميادين تطبيقه.
إذا أجيب على سؤال ما هو الإسلام، بأنه دين قد أوحى الله تعالى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يكون بذلك قد عرف الإسلام باعتبار منبعه. وإذا قيل، جواباً على سؤال ما هو الإسلام، بأنه نظام أكثر توافقاً وملائمة مع فطرة الإنسان، وأنه لا يقع في أي مكان تحت تأثير سلوك مناقض لقوانين الخلق والوجود، أو أنه عبارة عن أحكام ومبادئ يمكن للجميع أن يطبقها في سهولة ويسر. إذا قيل هذا، فإنه يكون بذلك قد عرف الإسلام باعتبار ماهيته وطبيعته، وليس بين هذه التعريفات الثلاثة تناقض لأن كل واحد منها يكمل الآخر ويتممه.
3- من الواضح والملموس أن المسلمين في ضيق وفي كربة لا مخرج لهم منها بدرجة لا يمكن إنكارها. لقد انقسم المسلمون فيما بينهم قسمين كل منهما يناقض الآخر في تلمس الأسباب التي جرتهم إلى هذا المستنقع الذي لا يوجد منه اليوم مخرج، ويمكن للمسلمين أن يخرجوا من هذا المأزق لو أن هذين القسمين القطبين المتناقضين يحاول كل واحد منهما أن يفهم الآخر، وحصل بينهما الوفاق أو الاتحاد. هناك طائفة تؤمن بتقليد السلف وبصحة اجتهادات العلماء السابقين وأفكارهم وبالتالي تؤمن بعدم امكان تغيير تلك الاجتهادات والأفكار أو تبديلها، فهي –أي هذه الطائفة- تشترط تطبيقها حرفياً كما هي وبلا نقصان ما دامت لا تقبل تغييرا أو تبديلاً، وعند تطبيق تلك الاجتهادات والأفكار بهذه الصورة سوف تصلح الأمور وتحل المشاكل من جهة، ومن جهة أخرى لن تكون هناك حاجة إلى اجتهاد آخر.
أما الطائفة الثانية التي تناقض الأولى فهي تقاوم التقليد وتعارضه بشدة. فهؤلاء (الطائفة الثانية) يدعون إلى اجتهاد جديد في الأهداف والأحكام المرئية والفرعية على السواء، ويرون ضرورة اللجوء إلى هذا الاجتهاد. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أهداف كلتا الطائفتين المتناقضتين وغاياتهما هي أن يحيا الإسلام كاملا غير منقوص وأن تطبقه في مناحي الحياة.
4- الدين – الثقافة:
لكي يظهر في ساحة الإسلام التجدد والفهم الجديد لابد من قبول ضرورة فصل الثقافة الدينية عن الدين. هذا ما نقره ونقوله بهذا التعبير الدقيق الواضح. فما دام هذا الفصل لم يجد طريقه إلى التحقيق فإن أية خطوة تخطي في طريق أي نوع من أنواع التجدد لا تعدو أن تتجاوز نطاق الوصفين أو الأمرين الآتيين، ولو بلغت تلك الخطوة غايتها، وهذان الوصفان هما: بقاء التجدد عند حدود الجزئية وكونه موضعياً. ولعل تحقيق هذا الفصل يبدو غير ممكن في الأديان الأخرى، لأن منبع الكتب المقدسة لتلك الأديان أيضاً هو الثقافة، والذي أقصده هنا بالثقافة هو المعرفة التي هي ثمرة الإنسان ونتاجه والتي مصدرها الإنسان نفسه. أما ما ورد فيها (أي في كتب الأديان الأخرى) من الأقوال التي يدعى أن مصدرها هو الله هي قليلة جداً، والقسم الأكبر منها لا ينطق إلا بالغموض والانغلاق.
أما في الإسلام فإن فصل الدين من الثقافة يتم فيه بسهولة ويسر. لأن القرآن الكريم الذي نزل من عند الله تعالى، والذي هو مصدر الدين ومنبعه، هو كلام الهي وليس فيه أي نوع من أنواع الخلط أو الدس، وهو –أي كلام الله- غير كلام الإنسان وغير نتاجه كما هو معلوم. وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي شرح لكلام الله تعالى وأن كان قد ظهر فيها بعض التشابك إلا أن تنقيتها ممكن جداً على ضوء القرآن الكريم. إن الدين عبارة عن المبادئ الأساسية والأحكام والأوامر والنواهي اتلي ذكرت في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
أما الثقافة – نقصد بها الثقافة الدينية على وجه خاص- فهي أفكار وأحكام وأقوال لأولئك الذين يملكون التحدث باسم الدين والذين يبينون أفكاراً ويستنبطون أحكاماً من الأصول والمصادر الدينية. وبذلك يمكن أن يتم فصل العنصر الالهي عن العنصر البشري –أي فصل الدين عن الثقافة- في الدين الإسلامي. فالعنصر الالهي يستمر عبر حدود الزمان والمكان يتجاوزها. أما العنصر البشري فهو مرتبط بالزمان والمكان ومحدود بحدودهما وينتهي حكمهما ومجاله عند الوصول إلى نهاية حدودهما. ومن أجل ذلك فقد ورد في إحدى مواد المجلة «أن الحكم يتغير بتغير الزمان». والمكان أيضاً داخل في نطاق التغير. بيد أن الزمان يتغير تغيراً مطلقاً وبالضرورة عند تغير المكان. وإذا تحقق تبنى فصل الثقافة عن الدين بوجه عام ووضع ذلك موضع التطبيق تكون المسألة قد وجد لها الحل من أساسها. وبذلك يكون جميع الأقوال والأفكار والاجتهادات التي بقيت خارج نطاقي القرآن والحديث –تكون قد نقل خارج ساحة الدين إلى ساحة الثقافة الدينية.
وهذا هو الشرط الأول لتحقق التجدد، وهو الطريق الذي يلزم البحث عنه وحوله بحثاً علمياً. ونحن قد بينا هذا في مقدمة فلسفة التشريع الإسلامي. وكان الهدف من الفصل بين الشريعة والفقه وتقييم كل منهما على حده –هو طرح فكرة فصل الدين عن الثقافة – على الساحة. أن أقوال الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً- لاسيما الخلفاء الأربعة- واجتهاداتهم، والأفكار التي قالوها والاجتهادات التي قام بها الأئمة والمجتهدون سواء من أسس منهم مذاهب أم لم يؤسسوها، وكذلك العلماء الآخرون جميعاً أن كل ذلك ساهم في ظهور وإيجاد الثقافة الدينية. والفقه يشكل قسما لهذه الثقافة الدينية.
ويمكن أن تذكر الفوائد التي تعود من فصل الدين عن الثقافة كالآتي:
أ- أنه كلما زاد وضع الشروط من أجل تكوين شيء ما وعمله زادت بنفس القدر الإعاقة في سبيل تحقق وجود ذلك الشيء وحدد بحدود (والعكس بالعكس) وكلما قلت شروط تحققه كان وجوده ميسوراً وبروزه سريعاً وساحته فسيحة.
ب- أن الاعتماد على القرآن والحديث شرط في طرح فكرة إسلامية أو رأي إسلامي، فإذا اشترطت في تلك الفكرة –بالإضافة إلى شرط الاعتماد على القرآن والحديث- الاعتماد على أفكار واجتهادات الصحابة والأئمة والمجتهدين فإن ميادين أفكار رجال العلم في العصور التالية تكون فيما بعد من الضيق بحيث تتحول بمرور الأزمان إلى عنق زجاجة ضيقة، وعندما ينسد ذلك العنق يحدث في المجتمع تصدعات وشروح كبيرة ثم يتحول الوضع فلا يعرف من أين يبدأ في العمل.
ج- إذا اضطر كل جيل أن يراعى شروط الجيل السابق عليه الذي ورثه فإنه يفقد بذلك حق الحياة بنفس درجة المراعاة. ولكن أي جيل من الأجيال إذا لجأ إلى القرآن والحديث مباشرة ودون أن يلجأ إلى اشتراطات وقيود الجيل أو الأجيال التي سبقته فإنه يمكن أن يسلك بذلك طريق الرؤية والفهم على أرحب أفق وأشمل نطاق إلى فهم الإسلام ووعيه. والرؤية الرحبة هنا تتحقق كلما تحقق الابتعاد عن دائرة الأحكام والأفكار الدخيلة على الدين التي مزجت مع لبه، وتنقية الدين وإبراز صفائه ونقائه. كما أن ماء الينبوع تختلط به مواد غريبة عند نقله بواسطة الناس وتعليمهم وبيئاتهم وأقاليمهم في قوة فهمهم وإدراكهم وفي ذكائهم وذاكرتهم عند مرور الدين من خلال قواعد أذهانهم وعقلياتهم، وعليه فإن الأحكام والضرورات الطبيعية والشروط الاجتماعية التي يحياها الناس تعطي فهم الدين شكلاً من الأشكال وتضعه في قالب من القوالب. وكما أن الناس يأخذون الماء حسب ما بأيديهم من الأواني كذلك يفهم كل أمام أو عالم الدين ويستوعب حسب ما لديه من مستوى الفهم والإدراك والاستيعاب. إذن فمن الضروري أخذ الماء من الينبوع وعمل قناة جديدة له. أن قبول مجيء مجدد مصلح في التعاليم الإسلامية في كل قرن من الزمان إنما يعبر عن هذه الحقيقة، بمعنى أنه يقتضي الذهاب إلى الينبوع الصافي في أوقات معينة أو حين ظهور حاجة ماسة إليه، ثم تعيير القناة حتى ينقل الماء الصافي العذب إلى الناس بقدر الإمكان.
5- الاجتهاد – تطبيق الإسلام:
يبدو أن تعبيرات: إحياء الإسلام، بعث الإسلام من جديد «تعبيرات لم تلق ردود فعل حادة. ويمكن أن يرجع تعبير حركة الحياة في الإسلام إلى أن الإسلام يحوي ما تحويه كلمات الحياتيات من الطاقة والدوام. والحقيق بالذكر أن تعبيرات «التجدد» أو «التجديد» والقيام بعملية التجديد أو «حركة التجديد» كل هذه التعبيرات قد قوبلت بردود فعل عنيفة.
وكما أوضحنا فيما سبق فإن هذا التعبير يفهمنا بان الاستبدال هنا يعبر عن وضع الجيد مكان القديم. ومما يجب أن نضيفه هنا أن تعبير الاجتهاد أيضاً ما زال يقابل رد الفعل، بينما الواقع أن الاجتهاد كان ذائعاً جداً بين المسلمين الأوائل بمن فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه. فالمذاهب كلها تعتمد في الأصل على أساس الاجتهاد؛ إذ الذين يقفون ضد الاجتهاد اليوم ويعارضونه هم الذين يعتبرون الاجتهادات القديمة هذه مشروعة ومقبولة جداً. والطبقة المحافظة من المسلمين تسير وراء الحفاظ على القديم بالنواجذ كما هو، بما تحمل الكلمة من معنى، أي أن مهمتهم ووظائفهم وظيفة الحارس ليس إلا. فما كان العمل قائماً به وعلى أي نمط كان يجرى به قبل ألف عام يجب أن يقوم العمل اليوم بنفس الشيء وعلى نفس الشكل والنمط في رأيهم. وهذا هو المقياس والمحك في كون الإنسان مسلماً محافظاً في نظر هذه الطبقة.
إن المعنى الاصطلاحي الذي أعطى للاجتهاد لم يكن موجوداً في صدر الإسلام –أي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين. وكان المعنى لكلمة الاجتهاد في مهفوم الجيلين الأولين هو المعنى اللغوي لها وهو أعمال العقل وإجهاده. يقال لكل عمل ذهني اجتهاد.
فالمجتهد باعتبار ومفهوم هذا المعنى هو الذي يبذل جهده في أعمال الفكر. وهكذا، فإن من عارض فكرة الاجتهاد فقد عارض التفكر ووقف ضده، ولذا فمن المشاهد وسط هذا الجو أن التفكر يخبو وينطفئ عندما يلقى الاجتهاد المعارضة ومن يقف ضده. إذن فإن التجدد في الإسلام، أو حركة الإحياء له لا يمكن تحققها في غياب الاجتهاد، أنني أريد أن أطرح اصطلاحاً حديثاً أسميته «تطبيق الإسلام» تهرباً من انتباه معارضي طبقة المحافظين من المسلمين. ومما لا شك فيه أن تطبيق الإسلام لا يمكن أن يتحقق بدون الاجتهاد. إن الاجتهادات التي ظهرت وتحققت منذ اللحظات الأولى من قيامها وإلى يومنا هذا لم تكن إلا علاماً وإبلاغاً للأحكام التي كانت توافق الناس في ذلك المكان وفي موقف الإسلام وظروفه ذلك.
كما أن الاجتهاد في زمن الصحابة كان هو تطبيق الإسلام حسب شروط ذلك الزمن وتطلباته، فإن الاجتهاد في زمن الأمويين والعباسيين والسلاجقة والعثمانيين كان هو تطبيق الإسلام تطبيقاً يوافق ظروف تلك الأزمنة ومتطلباتها، ومعنى تطبيق الإسلام في زمننا هو فهمه فهماً يوافق ظروف زمننا ومتطلباته ويلائمها. والقيام باجتهاد جديد يتم بتوفيق الإسلام وتفسيره عن طريق الاجتهاد، وتطبيق الإسلام تطبيقاً يلائم شروط زمننا ومتطلباته وأحكامه من خلال ذلك الاجتهاد مع استخدام العقل وتشغيله في سبيل ذلك.
هناك قاعدتان هامتان متعلقتان بالاجتهاد: الدولي أن الاجتهاد ليس ملزماً –أي مجبراً- أحدا من المجتهدين، والثانية: أن الاجتهاد لا يبطل اجتهاداً آخر، وبالنظرة لهذه القاعدة الثانية لا يمكن أن يجبر اجتهاد مجتهداً لآخر إلى إتباعه. فالمجتهد مكلف بأن يفعل حسب فكره واعتقاده ما دام لم يغير فكره أو اعتقاده، أما إذا غير فكره يضطر حينئذ أن يتبع فكره الثاني أي الأخير، لأن فكره حينئذ هو فكره الثاني. وتظهر من هذا نتيجتان:
الأولى: أن الاجتهاد الذي سبق أن قام وتم في الزمن الماضي، هذا الاجتهاد لا يمنع قيام اجتهاد آخر لاحق فيما بعده، حتى ولو أن اللاحق لم يكن قد قام بالفعل لعدم وجود أمر يدعو لقيامه أو يضطره إلى ذلك.
الثانية: أن الاجتهاد الثاني يمكن أن يكون نقيض الاجتهاد الأول ويمكن ألا يكون ذلك حتى ولو كان الثاني نقيض الأول فإنه –أي الثاني – لا يبطل الأول. ولو حدث أن صار الاجتهاد الثاني من القوة بحيث يفسخ الأول لكان الأول مانعاً قيام الثاني في حد ذاته.
وإذا أخذ في الاعتبار الأساس الذي يقول: أن الاجتهاد لا يفسخ الاجتهاد طبقاً للقاعدة الأولى فإن الاجتهاد الثاني لا يبطل ولا يفسخ الأول، وأن الأول يفسخ المجال لقيام الاجتهاد الثاني. وبعد إثبات هذه الأسس المتعلقة بالاجتهاد وبيانها نقول أن الادعاء بأن الاجتهاد لا يمكن له أن يقوم في جميع الأزمنة، هذا الادعاء مناقضاً لفلسفة الاجتهاد ومبادئه الأساسية. ونظراً إلى أن منع الاجتهاد نفسه يعتبر اجتهاداً أيضاً، فإن هذا لا يلزم الآخرين بناء على القاعدة الأولى ولا ينطبق عليهم بالضرورة. وبناء على القاعدة الثانية فإن القائل بضرورة قيام الاجتهاد ليس في امكانه إفساد الاجتهاد أو إبطاله.
6- الأسلوب في تغيير حكم من الأحكام:
أن تغيير الحكم الذي صار ملكاً للأمة وتبنته وطبقته في حياتها على امتداد العصور، أو العقيدة التي رسخت في كيان الأمة عبر القورن المنصرمة أمر صعب للغاية، حتى ولول كان ذلك سبباً في مضرة الكثيرين وتحطيم عزتهم النفسية أيضاً، فالجميع يرى بأن الخضوع له –رضوا أم لم يرضوا-. ولأن الحكم معروف بأن حكم ديني فإن قبول التغيير فيه أمر سعير جداً حتى من طرق الشخص الذي يقع عليه الضرر عن تطبيقه أول ما يقع. وهناك من يرفض القبول بتغييره رفضاً باتاً. ومن أجل إزالة حكم عفا عليه الزمن، وقبلناه بحسن النية، لابد من السير على هذه الطرق التالية:
أ- يجب، قبل أي شيء آخر، البحث عن مصدر هذا الحكم، أهو حكم شرعي أم حكم أخرج بالاجتهاد وبتغيير آخر هل هو حكم يعتمد على آية صريحة العبارة من القرآن أو يستند إلى حديث صحيح أو هو حكم فقهي. يجب التثبت من هذا علمياً.
ب- يجب البحث والتدقيق حول مقتضى الحكم أي سببه وحكمته سواء كان الحكم حكماً شرعياً أو فقهياً، وكذلك تقييم ظروفه وشروطه والتثبت من ذلك.
ج- أنه يجب التدقيق والتقييم حول تطبيق الحكم، كيف كان الحكم يطبق. وما هي الموانع والأضرار، والفوائد التي ظهرت أثناء تطبيقه خلال المدة التي مضت منذ أن وضع الحكم موضع التطبيق إلى أن بدأ التفكير في المناقشة من أجل تغييره. وبذلك يفهم فهماً جيداً ما إذا كان الحكم قد أدى وظيفته المرجوة أم لا.
د- يجرى البحث في مصدر الحكم الجديد وما يقتضيه وسببه، ومطابقته المبادئ الأساسية الأخرى للدين، ويتم التثبت من ذلك. ثم توضع فائدته وحكمته وصحته أمام الأعين بصورة جلية.
ه- بعد ذلك يصبح الحكم مكتسباً الوضوح وصفة القطعية ثم يعلن عنه. وبذلك يكتسب الحكم الجديد صفة المشروعية والأحقية في ضمير الأمة ووجدانها فيلقى القبول ويكون تطبيقه محققاً وبلا صعوبة أو تعب، ويجوز ألا يكون ثمة ضرورة لمثل هذه الإجراءات في بعض أحكام القوانين، لأنها غير متعلقة بالعقدية والجانب الإيماني ولأنها متروكة للمجتمع أول الأمر. أما في الأحكام الدينية في نظر الناس. فالأمر يختلف، نظراً لأن الحكم فيها له علاقة أيضاً بالعقيدة، فالتغيير فيه يحتاج احتياجاً قوياً إلى ما يقتضي التغيير ويؤيده. لقد فشل، تطبيق الأحكام في الأمور التي لم يعد لها هذا النوع من المقتضى، بل أريد تطبيقها على الأمة بالقوة المادية للدولة والحكومة، فحيد بذلك عن طريق النجاح. هذا ما حدث في الدول الإسلامية قديماً وحديثاً، تلك الدول التي كانت تسعى إلى أن تصبح دولاً إسلامية عصرية. وتدخل ضمن نفس هذه الطائفة بشكل أو بآخر، الدول الإسلامية كلها.
7- الخصائص الأساسية للشريعة:
يفهم من قول (الشريعة) في الإسلام الأحكام العملية والأوامر والنواهي بوجه عام. لنقبل أن هذا هو الصحيح. والذي يبرز معالم الشريعة الإسلامية ويوضح خصائصها إنما هو القرآن والحديث. وهذا ما يؤمن به المسلمون ويجزمون الاعتقاد بأنه الحق وليس بينهم أي خلاف في هذا. ونستطيع أن نلخص هذه الخصائص بما يأتي:
أ- لا يوجد في الشريعة الإسلامية الإكراه، لقد وضعت فيها الأحكام والأوامر والنواهي في نمط يستطيع الإنسان أن يطبقها في سهولة ويسر. فالشريعة في الإسلام لا تدخل طبيعة الإنسان ولا استعداداته الفطرية في إغلال الشدة والعسر ولا تهدف إيجاد صعوبة ما، فهي موجهة دائماً نحو السهولة واليسر في الأمور.
ب- الأحكام والمبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية عامة، عدا أمور قليلة جداً، ويمكن أن يقال أنها في العلاقات والمناسبات العائلية –فقد وضعت الشريعة أحكاماً تفصيلية. وفيما عدا ذلك من الأمور فقد وضعت لها أحكاماً عامة وشاملة متسعة. وهذه الأحكام العامة لها من المرونة ما يجعل تطبيقها سهلاً وميسوراً في كل زمان ومكان.
ج- أن الأحكام التي وضعت بينت أسبابها إما مباشرة أو بطريق غير مباشر. وعندما تعرف أسباب الأحكام يسهل بعدها أن يحكم بذلك بالحكم أو لا يحكم به. فإن كان السبب موجوداً فالحكم أيضاً يكون موجوداً، وإذا زال السبب زال الحكم. وهكذا، فالأمور تترك لتثبيت وجود السبب أو عدم وجوده.
د- أن إحدى مزايا الشريعة الإسلامية الهامة هي أنها وضعت أحكاماً قليلة جداً. ولهذا فائدتان: الأولى: عدم إدخال الإنسان تحت وطأة الأحكام الكثيرة والمسئوليات الثقيلة حتى لا تكون سبباً في شقاء الإنسان، وأن يقضي حياته المادية والمعنوية في قلق واضطراب دائمين نتيجة لشعوره بأنه قد أصبح آثماً حين ترك حكماً، أو لمي جد في نفسه قدرة على القيام بأداء ما وجب عليه أداءه. أما الفائدة الثانية: إعطاء الإنسان والمجتمع الحرية والمرونة لكي يتصرفا بالمشكل الذي يختارانه في أن يسعيا إلى عمل ما يريانه مفيداً عن الأشياء التي فيها ضرر.
ونظراً لأن ظروف الحياة، وأحكامها تتغير في كل زمان ومكان فقد تركت حرية الحركة والتصرف للإنسان في تنظيم أمور حياته الدنيوية من مؤسساته وأعماله تنظيماً جيداً بحيث يصل به إلى وضع مفيد له. ولذلك من الخطأ أن يقول قائل أن الشريعة لا يوجد فيها كذا وكذا. وأن يعلن ذلك عنها كأن هناك نقصاً في الشريعة الإسلامية، بل ترك ذلك فضل من أفضل الشريعة، أو أنه فضيلة لها. فليعمل الإنسان بالحكم الاجتهادي حينما يريده ويحتاج إليه، وليغيره وقتما يشعر بعدم حاجته إليه. وهذا أساس ضروري بالنسبة لبعض المسلمين المتمسكين المحافظين. أنهم يرون أخطاءهم عندما يواجهون الأحكام والمؤسسات الجديدة قائلين بأنها غير موجودة أصلاً في الإسلام.
ه- ولقد وجد –بالإضافة إلى ما ذكر- في الشريعة الإسلامية مرحلة الإعداد من أجل ترسيخ حكم من الأحكام وتثبيت مؤسسة من المؤسسات، وجعل الناس يتقبلونها بقبول حسن. وتسمى هذه الطريقة طريقة التدرج وأسلوب السير نحو الغاية والاقتراب منها خطوة تلو خطوة. وبعض المتأخرين من المسلمين يقيمون هذا تقييماً خاطئاً بعيداً عن الصواب، ولا يزالون يقيمون بنفس التقييم الخاطيء:
إن هذا الأسلوب التدريجي كان جارياً فقط,. وقت أن كان القرآن ينزل فيه. وكان القرآن ينزل قليلاً قليلاً ومجزأ فيثقل إتباع الأحكام ألا شيئاً فشيئاً، لأن الوثنيين لم يكونوا يقدرون على ترك عاداتهم وأعرافهم وتصرفاتهم وسلوكهم القديم التي تعودوا عليه من قبل. ولذا فإن وضع أسس الشريعة بطريقة تدريجية جاء مطابقاً للحكمة. أما وبعد أن تم وضع الشريعة ككل كاملة مكتملة فإنها تلقى القبول وتوضع في الإجراء والتطبيق بتمامها أو أنها ترفض برمتها. ومن رفض جزءاً من الشريعة يكون قد رفض الكل.
إن جهة الفساد في هذا الرأي هي: إذا كان ذلك كذلك فلماذا يعرفنا القرآن إذن من أوله إلى آخره مثل هذه المراحل. المثال الذي يذكر كثيراً والذي يفهم فهماً جيداً بكل وضوح في هذا الموضوع هو تحريم الخمر، يعرف أولا كثرة أضراره، ثم يمنع أداء الصلاة في حالة السكر، وفي المرحلة الأخيرة يحرم الخمر تحريماً تاماً. وما دام هذا التدرج ليس له ناحية تشكل بها انموذجاً للمسلمين، إذن كان يكفي أن يبلغ أمر تحريم الخمر تبليغاً فحسب. فما دامت المراحل جميعها قد ذكرت وأبلغت إذن يجب على المسلمين كلهم أن يأخذوا درساً من ذلك. وعليه، يكون هذا نموذجاً للمسلمين في أن يستخدموا هذا الأسلوب التدريجي في كل زمان وفي الموقع الذي يكون استخدامه ضرورياً فيه. وقد أوحى بتطبيق هذا الأسلوب العلماء الكبار بإصرار وتأكيد ليس إلى المسلمين الذين دخلوا الإسلام حديثاً فحسب، بل أوصوا بضرورة تطبيقه على المسلمين وعلى الشباب المسلم على السواء.
لقد نفخ الله في طائفة من خلقه الروح وأعطى لها صفة الحياة وانقسمت الموجودات باعتبار هذه الصفة إلى صنفين اثنين، صنفه الأحياء والآخر صنف الجمادات. والكائن الحي وجده من عنصرين اثنين منفصلين، أحدهما مادي ليس في حياة، ولكنه يرى بالعين ويلمس باليد ويشم ريحه، والعنصر الثاني هو الروح والحياة. والمادة تعيش وتبقى حية ما دامت العلاقة بين المادة والروح مستمرة في تواق وانسجام.
ويشكل الإنسان النوع الأرقى والأعلى لهذه الكائنات الحية. والإنسان له روح وله المادة وله الجسم. والذي يحرك مادته ويجعلها حية هو روحه وحياته، الروح لا تتعب ولا تنام ولا تموت. والمادة عندما تتعب تستريح وتنام، ثم في النهاية تفنى وتتبعثر يوماً وتنتهي. هذه هي حياة الإنسان، بل هذا هو الكائن الحي الذي نسميه الإنسان. وكما أن الكائن الحي يخلد إلى الراحة حينما يعتريه تعب ويستغرق في نوم عميق، ثم يسترد بعد ذلك طاقته وحيويته وقوته، كذلك الوضع بالنسبة إلى الإسلام، فيجب النظر إلى حال الإسلام والتفكير حوله داخل إطار هذا المثال. إنه بعد أن شوهد فقدان الإسلام قوته وقدرته أخذ البحث يجرى حول ما إذا كانت هناك بوادر للمحاولات الجادة في استرداد الإسلام حيويته وحركته النشيطة أم لا.
ويمكن للإنسان أن يعطي تقييماً للأشياء من حيث المعنى والإدراك قياساً على نفسه (نظراً لما بينهما من علاقة التشبيه) وبذلك يسهل فهم الأمور، كما يسهل إفهامها وإيضاحها. ويترقب الناس –سواء في ذلك المسلم وغير المسلم – الصحوة والانتفاضة في الإسلام بانتباه واهتمام بالغين. يترقب البعض منهم رغبة في حدوث الانتفاضة الجديدية في الإسلام، والبعض الآخر يترقب رغبة منه في تلك الانتفاضة المرتقبة.
لنعد على ضرب المثل بالإنسان مرة أخرى ونقول: أن ما يتعب وينام ويستريح في الإنسان هو مادته وبدنه، والذي لا يشعر بذلك كله هو روحه. كذلك الإسلام والمسلمون؛ إذ أننا إذا سلمنا أن الإسلام نفسه هو المعنى والروح فالمسلمون يشكلون المادة لهذه الروح. فمادة الإنسان –التي يوجد بداخلها الإسلام على أنه الروح- قد تعبت ثم استراحت ونامت، إذن الذي سيستيقظ ليس هو الإسلام نفسه، بل هم المسلمون، وبتعبير أدق وأشمل أن الإنسان الذي آمن بالإسلام ديناً هو الذي يجب عليه أن يستيقظ. والإسلام لا يستطيع أن يؤدي وظيفته المطلوبة منه إذا كان المسلم في غفلة عنه وأهمله، وإن كان المسلم قد أضعف علاقته بالإسلام، فقلا يمكن البتة في هذه الحالة أن يؤدي الإسلام وظيفته مع أنه يملك الحيوية والنشاط والطاقة مثل الإنسان وروحه تماماً، فإن الإنسان عندما ينام لا يستطيع مطلقاً أن يقوم بوظيفته مع أن روحه مستيقظة لم تنم.
وكذلك الإسلام فإنه لا يستطيع أن يقوم بدوره إذا نام المسلم عنه ولم يأبه به، كما ذكر. وإذا أراد المسلمون أن يظهروا تحركا ذا نشاط حيوي وصحوة بارزة فإن هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بالاقتراب من الإسلام وبتقوية علاقاتهم به – أي علاقات المسلمين بالإسلام-. فمهما يكن ضوء المصباح قوياً فإن الإنسان لا يمكن له أن يستفيد منه ما دام بعيداً عنه، ولا يمكن له أيضاً أن يرى الحقائق الواضحة وضوح ضوء المصباح عند اقترابه منه إلا به. ومن أجل هذا فإن أداء الإسلام دوره في الإضاءة والإنارة إنما يعود إلى بعد أنظارهم في فهمه وسعيهم الدؤوب في سبيل ذلك. وهذا إنما يتحقق باقتراب الإنسان من الإسلام من الإسلام على ضوء ما بيده من المصباح، ففي هذه الحالة وحدها يكون قد حقق النجاح وناله، أما المصباح الذي بيد الآخر فقد ثبت بالتجربة عدم جدواه.
8- علاقة الإسلام بالحياة:
إن كل عقيدة من العقائد إنما تقوم من أجل التأثير على مجرى الحياة والظروف المعيشية التي يعيشها الإنسان، ومن أجل تغيير تلك الظروف وأسلوب الحياة ووضعه في نظام آخر. وهذا عمل مقبول وإيجابي بالنسبة لجميع الأديان، وهو أكثر قبولاً وإيجابية بالنسبة إلى الإسلام. ولهذا لا ينوي الإسلام أن يسجل، مؤيداً بالنصوص المقدسة، فكراً أو حكماً أو أوامر مجردة غير ممكن تطبيقها، ثم ربط الإنسان بهذه الأمور وجره إلى مواطن تعصب أعمى وإلى عقائد جافة متحجرة تحيط بها الخيالات وتكتنفها المتاهات وتخنقها الأغلال الفكرية المزهقة.
ولا يهدف الإسلام أن يخرج الإنسان من صفاته البشرية ويضعه موضع الملاك المصبوب المجمد. وليس الإسلام نظاماً يبقى في السماء ويدير شئون الأرض من هناك. أن الإسلام نزل من السماء إلى الأرض فدخل بين الناس واختلط بهم. والتفسير العلمي لهذا الأمر: أن الإسلام دين ونظام، قد أنزلت أسسه ومبادئه وأحكامه الأصولية من طرف الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك قد أعطى الله تعالى حق التفسير والتوضيح صراحة وديناً لمحمد صلى الله عليه وسلم المحتفظ بالصفات البشرية.
وهكذا قد انزل الله تعالى دينه على نبيه الذي هو واحد من البشر، وأعطى له حق التفسير والتأويل فأدخل بذلك العنصر البشرى في بناء الدين وإقامة صرحه. وقد عود الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في حياته على تفسير أمس الدين وتأويلها مثلما كان يفعله هو. وقد اعترف الرسول صلى الله عليه وسلم بحق الاجتهاد لمن كان حوله من أصحابه وطبق ذلك في حياته. إن الإسلام يمكن أن يطبق في كل زمان ومكان، وهذه المرونة من الإسلام قد حمل الإنسان مهمة عمل الاجتهاد. والاجتهاد يعتمد على صلاحية تطبيق الإنسان فكره ونظره للأمور والظروف التي تحيط به.
ومجال الاجتهاد في الإسلام واسع جدا، وهو في قوة الاستيعاب لكل العصور والمجتمعات. ومبدأ الاجتهاد هو الذي يجدد للإسلام حيويته ودوامه. ويصح أن يسمى هذا المبدأ بمؤسسة الاجتهاد. والذي يحفظ حيوية الإسلام ويجعل الإنسان في كل أن والمجتمع في كل ظرف من الظروف متصلا بالإسلام وواقعا على حكمه هو الاجتهاد أي العمل الفكري والدماغ، وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم السفراء إلى البلاد الأخرى وسعيه في تبليغ الإسلام إلى هذه البلاد على لسان هؤلاء السفراء هو من اجتهاد الرسول نفسه. ومحاربة أبى بكر رضى الله عنه الممتنعين عن دفع الزكاة نتيجة لاجتهاده هو ولفهمه الخاص، وفى ذات الوقت إرساله الجيوش إلى الأطراف ما هو إلا عمل من أعمال الاجتهاد.
وعزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد من قيادة الجيش العامة، واجتهاداته في توزيع الأراضي العراقية للشعب إنما هي أمثلة ونماذج تدل على آن الإسلام ـ راعى ظروف الحياة وإحكامها ويساعد على تحقيقها.
ويمكن الإكثار من الأمثلة المشابهة في هذا الباب على مدى التاريخ. ولكن لا توجد لدينا معلومات كافية بشأن تأثير وفوائد كل تلك الاجتهادات على أيامها وفى أزمانها. إلا انه من الثابت أن بعض الاجتهادات قد بدأت تظهر أضرارها فيما بعد في الأيام الأخيرة وهذه واقعة ملموسة. وسنذكر أربعة من النماذج من الحقوق المتعلقة بالأسرة توضيحاً وتأييداً لما نقوله:
أ- في الحقوق المتعلقة بالأسرة في الإسلام كان الزوج يمكن له أن يطلق زوجته ثلاث مرات ثم يرده إلى عصمته حسب ما جاء في القرآن. وبعد التطليقة الثالثة لا يجوز للزوج أن يرد زوجته إلا إذا تزوجت المطلقة برجل آخر ثم طلقت منه أيضاً في ظروف وشروط طبيعية موافقة للشريعة، عندئذ يؤذن لها أن يتزوجها مرة أخري زواجاً شرعياً.
وقد ظهر في عهد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من ينطق بالتطليقات الثلاثة مرة واحدة وفي آن واحد تحت تأثير الشعور بالانتقام من زوجته. وقد عد عمر هذا النوع من الطلاق الذي يعتبر في الأصل تطليقة واحدة. عده ثلاث تطليقات، وطبقه على من كان ينطق بالثلاثة في آن واحد. وقد أراد الخليفة من هذا الإجراء أن يردع الناس ويجعلهم يتخلون عن نطق التطليقات الثلاثة في آن واحد.
غير أننا لا نعرف إلى أي حد وفق الخليفة في البلوغ إلى الغاية بهذا الإجراء. والذي نعرفه هو أن هذا الإجراء –الذي انتقل إلى أيامنا نحن- كان سبباً في ظهور كوارث أسرية كثيرة استمرت حتى أيامنا هذه، ووقع به شرف كثير من البيوت تحت الأقدام، كما أفسح هذا الإجراء الطريق أمام البدعة المشئومة التي تسمى (الحلة) وعلى الرغم من أن ابن تيمية وبعض العلماء قد تصدوا بالاعتراض على هذا الإجراء إلا أنه لم يكن إلغاء تطبيقه أو إزالته.
وفي تركيا مازالت هذه الطريقة في الطلاق جارية إلى اليوم بين العامة من الشعب والخاصة من المتعلمين فيوجد منهم كثيرون يطلقون زوجاتهم بلفظ الثلاثة في آن واحد وبصورة تسد جميع منافذ الإمكان في استرداد الزوجة إلى بيت الزوجية مرة أخرى مع أن هذه الطريقة قد ألغيت بالطرق القانونية في المحاكم منذ خمسين عاماً في تركيا. ومن أجل إلغاء حكم اجتهادي له جذوره التاريخية فلابد من التحدث عن اقتضائه في بداية الأمر، ثم التحدث عن الفوائد والأضرار التي نتجت عن تطبيقه خلال مراحل التاريخ التي مرت، وهذا يسهل الطريق إلى تبني الحكم الجديد ويعجل بظهوره.
ب- في رأي غالبية الأئمة السنيين يقع الطلاق عند تلفظ كلمة الطلاق سواء اقتضى الموقف نطقها أم لم يقتض، وفي أية مناسبة كانت. فما دام الرجل الزوج نطق بها فإن زوجته تكون طالقاً لا محالة. وهذا ما يجرى تطبيقه اليوم بين الشعب. وهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشكلة التي سبق أن أوضحناها في مادة(1)، مع أن هذا حكم اجتهادي ثبت خطؤه من نواحي كثيرة:
الأولى: بينما يشترط أثناء عقد الزواج أن يشهد العقد شاهدان وأن يعلم عنه، يرفع اشتراط شهادة شاهدين في الطلاق. واقتضاء اشتراط شهادة شاهدين في عقد الزواج موجود في الطلاق بدرجة أقوى. والأهم من ذلك أن اشتراط شهادة شاهدين في عقد النكاح ثابت بالحديث، أما اشتراط ذلك في الطلاق فثابت بالقرآن (الطلاق). ولكن الآية أولت، فعم حكم الاجتهاد وأهملت الآية حكمها. وهذا بات سبباً في وقوع كثير من الطلاق بشكل غير طبيعي وبدرجة متزايدة، بل تسبب في وقوع الطلاق الذي لم يكن الزوج في النهاية يرغب فيه. كما تسبب في ظهور مجموعة من الحيل والألاعيب. إن هذا الحكم لم يلغ حتى الآن بينما الآية الكريمة موجودة بين أيدينا.
الثانية: أنه بينما يشترط أثناء عقد الزواج أخذ رضاء المرأة فلا يلتفت أو يصغى إلى دفاع المرأة أثناء الطلاق. بل لا تساءل ولا يكون عندها خبر بأنها طلقت. لنفرض أن المجتهد وهو يضع هذا الحكم وسط ظروفه الخاصة ومن خلال فهمه الخاص – كان قد قام بمثل هذا الاجتهاد تحت تأثير حالة نفسية معينة فما معنى إبقاء هذا الحكم هذه المدة الطويلة كلها.
الثالثة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل طلاق ابن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لزوجته وهي حائض. وقد قبل المجتهدون وقوع مثل هذا الطلاق وطبقوه وهو مخالف للسنة.
ج- قد أعطيت المرأة في القرآن والحديث حتى تطليق نفسها من زوجها (الخلع). ومع ذلك فقد وضعت المذاهب أمام حق المرأة هذا عراقيل وصعوبات كثيرة بحيث أصبح تطبيق الحكم المتعلق به غير ممكن. وهذا الموضوع يسبب الكثير من وقوع الآلام الكبيرة والكوارث الأسرية الضخمة.
أما نظرية: أن الطلاق من حق الرجل وعائد إليه، هذه النظرية لا تستند عندنا إلى دليل قوي أيضاً. ولا يمكن اتخاذ كون الخطاب في القرآن موجهاً إلى الرجل، أساساً في الموضوع. إذا صح ذلك فإن جميع أساليب الخطاب، سواء كان أمراً أو نهياً، من المعلوم قد ورد بصيغة المذكر. إذن في هذه الحالة هل نعتبر ذلك بعدم ورود خطاب للنساء أنهن بقين خارج دائرة الخطاب. وأنهن غير مخاطبات بالأمر والنهي وأن الأمر والنهي غير موجهين إليهن؟.
وليس في إمكان أحد أن يقول بهذا. وعليه فإن دليل التفريق بين الرجل والمرأة في مسألة الطلاق لا ينبغي أن يكون دليلاً قوياً. والحق أن ذلك يعد اجتهاداً يعتمد أساساً على تعامل انتقل عبر الأجيال تحت تأثير العادات والتقاليد والبيئات ومكانة الرجل في المجتمع القديم في بناء الأسرة. وعندما يوجد اجتهاد فإن وجوده لا يحول دون اجتهاد آخر مثله.
د- وتوجد هناك مشكلة في الميراث وهي مشكلة المحروم بالجد (المحجوب بالجد) وهو: إذا كان للرجل عدة أولاد ومات واحد منهم قبله، فعندما يموت هو نفسه فإن أولاد ابنه الذي مات قبله ينتقلون في القرابة إلى مكان أبيهم الميت تلقائياً، فلا يستطيعون بذلك أن يأخذوا من جدهم (الأكبر) شيئاً من الميراث ولكون أعمامهم أقرب إلى من يموت منهم فإنهم (أي أعمامهم) يمنعونهم من الحصول على الميراث ويسمى هذا المحروم بالجد (أي المحجوب بالجد).
ولما لوحظ أن هذا الحكم يكون سبباً في كثير من المظالم، فقد ذهب المذهب المالكي بوجه خاص إلى اجتهاد يصحح الوضع فأخرج حكماً يسمى بالوصية الواجبة. فأصبح بذلك الجد مسئولاً عن عمل وصية من جزء من الميراث الذي ينتقل من والدهم. وفي حالة امتناع الجد عن عمل هذه الوصية يعتبر أن الوصية معمولاً بها فيطبق الحكم من تلقاء نفسه.
ونحن قمنا بتدقيق هذه المشكلة، فوجدنا أن هذا حكم اجتهادي مستنبط يعتمد على الإدعاء الذي يقول: أن كلمة (ولد) في آية الوصية الواجبة المستحقة للمحجوب بالجد لم يقصد بها الحفيد ولكن قصد بها ابنه هو نفسه. إذن فلو أقيم اجتهاد يجعل كلمة (ولد) تشمل الحفيد أيضاً لحلت المشكلة حلاً جذرياً. وفي هذه الحالة لا تبقى ثمة حاجة للوصية الواجبة. والله تعالى أعلى وأعلم.