هذا مقال عن القائد الإداري المهتدي بفلسفة الإسلام وشرائعه، يستعرض الكاتب فيه مقومات القيادة في ثقافة الإسلام وهي جديرة بأن توضع تحت نظر الباحثين الإداريين وبخاصة هؤلاء الذين يغمرهم الفكر الأوروبي والأمريكي بغزير الآراء عن القيادة في العالم
المعاصر، وهي آراء إن حللت بعناية في إطار منطقية الإدارية في ثقافة الإسلام وجدنا أصولها في العلم القرآني الذي غاب عن كثير من علماء الإدارة غير الناطقين بلغة الضاد لعدم تفهمهم لآيات القرآن الكريم وسنة حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام لغيابها عن مؤلفات المعرفة الإدارية الناطقة بغير اللغة العربية ولعدم اعتناء أهل الإدارة بتقصي فحواها من المستشرقين الذين كان في إمكانهم أن يهدوهم إلى أصولها في بساطة ويسر لطول ما صرفوا من الوقت في فهم كنهها…) التحرر.
جاء الإسلام دينا ودولة لتنظيم شئون الدنيا والآخرة من لدن حكيم خبير، وكفل الله الخلود لهذا الإسلام ممثلا في كتابه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبقي فوق متناول أيدي التحريف والتغيير في شئون الفرد والأسرة، ومواقع العمل المختلفة، وعلى الصعيد العالمي.
وإذا كنا نتحدث عن الإسلام وأثره في توجيه القائد الإداري، فإننا بهذا نتناول زاوية واحدة من زوايا الإسلام البناءة الهادفة.
أهمية الأمن في الدنيا والآخرة
لقد طلب خليل الرحمن عليه السلام من ربه أن يقبل دعاءه الذي صدره بطلب الأمن حين قال: “رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)، وقد طلب الأمن العام لينطلق الناس كل إلى واجبه ونفسه مستقرة متمتعة بالاطمئنان على نفسه وأولاده وبيته وماله، وما يسلكه من طريق وما يرجوه من مشروع الآمال.. ولن يتحقق ذلك إلا بالتزام الفرد والجماعة بعقيدة الإيمان وصالح الأعمال وعبادة الله الخالصة: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركوني بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).
إن اعتناق الإيمان وتوفير مقتضياته من جميع الأطراف هو المنبع الوحيد للأمن في الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا أمان من مؤاخذة العدل والقائمين على حمايته، وهو في الآخرة، أمان من عذاب النار، قال تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
وبمقدار ما يتركه الخوف والفزع من أثر في الأنفس وفي المجتمعات وبمقدار ما يولده الحزن من سيئ الآثار.. تكون نعمة الأمن فبينما قال (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).. يكون هناك الذين سبقت لهم الحسنى من الله في مأمن من هذا كله: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون).
صفات لا بد منها في حماة الأمن
والقائد الإداري في كل موقع لا بد أن يتمتع بصفات لا يستغني عنها، من أهمها أن يكون أمينا على ما أسند إليه من واجبات. وهذه مهمة من يرشحه ويختاره وأساس ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من استعمل رجلا من عصابة – أي اختار رجلا لعمل عام أو شارك في اختياره – وفيهم من أرضى بالله منه.. فقد خان الله رسوله والمؤمنين”.
وأن يكون قويا.. قوي الإيمان.. قوي الفكر.. قوي الساعد. وأساس ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه حينما جاءه فقال: يا رسول الله ألا تستعملني؟ – أي توليني عملا عاما – قال: فضرب بيده على منكبي.. ثم قال.. “يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها لأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة.. إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها”.
وأساس اشتراط القوة والأمانة على نحو ما ترى في قول الله تعالى: (إن خير من استأجرت القوي الأمين).
وأن يكون يقظا يرعى مسئوليته ويتفقد أحوالها، ويكافئ المجتهد منها ويحاسب المفرط حسابا عادلا، يتحلى باللين في غير ضعف، وبالشدة في غير عنف، ليرقى بذلك روح العمل، ولقد صور الله ذلك بقوله عن نبيه سليمان عليه السلام: (وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين).
كما نجد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مكان سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”.
أمثلة حية:
ومن شروط القائد الإداري أن يكون حافظا لما هو مطلوب منه،عالما بأمثلة الأساليب وأسماها ليكون هدفه واضحا وطريقه محددا، وحتى لا يزيغ به الهوى فيوقعه فيما يضره ويضر المجتمع، وأساس ذلك قول يوسف عليه السلام وقد رأى نفسه يوما رجل الساعة الذي وضعته المقادير أمام مسئولية تعين عليه أن ينهض بها: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).
ومن شروط القائد الإداري أن يحذر كل الحذر أن يكون أداة لسيد باطل مهما كانت شفاعة الشفعاء، ومهما قويت الاعتبارات التي يخالفها في سبيل الحق، وبذلك ينهض بأقدس رسالة، ويصون أكرم الأمانات. قال تعالى: (وإن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون).
وقال رسول الله لأسامة بن زيد حينما جاءه ليشفع في المرأة التي سرقت: “أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام وخطب في الناس قائلا: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”.
وقد استرشد بهذا الخليفة الأول “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه حين خطب يوم أن ولي الخلافة حيث قال: أيها الناس.. إني قد وليت عليكم ولست بخيركم.. ولكنه نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمنا فعلمنا وأعلمنا، أن أكيس الكيس الهدى والتقى، وإن أعجز العجز الفجور، وإن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق.
إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله.. فإن عصيت.. فلا طاعة لي عليكم”.
هذه هي روح الإسلام في التواضع الذي يزدان به السلطان، وفي الارتفاع عن الأهواء إلى تحكيم القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي التزام الهدى والتقوى، وفي التحذير من الفجور، وفي احترام الحق وإن ضعف عن إدراكه صاحبه، وفي احتقار الظلم مهما يكن بطش الظالمين. إنه رضي الله عنه لا يحيل الناس إلى المجهول، ولكنه يحيلهم إلى ضوابط لا تلتوي موازينها، إذ يعلن أنه متبع وليس بمبتدع يمضي به الريح إلى ما يرى هواه على حساب الدين، ويطلب من الرأي العام أن يحرص على تنفيذه للحق فيعينه إن أصاب، ويدعوه إلى تصحيح الخطأ إن هو أخطأ.
ابدأ بنفسك:
ومن شروط القائد الإداري الناجح أن يطبق على نفسه ما يدعو الناس إليه، وأن يقبل النصيحة في ذلك، وأن يقيم الدليل دائما أبدا على طهره ونقائه من الشبهات، ونزاهة يده من حقوق الآخرين. ولقد أكد هذا المبدأ السامي أمير المؤمنين “عمر” حين خطب يوما وهو يرتدي ثوبين فقال: “يا أيها الناس اسمعوا وأطيعوا.. فوقف “سلمان الفارسي” وقال: لا سمع لك علينا ولا طاعة.. فقال عمر.. ولم؟ قال سلمان.. لقد وزعت الغنائم فأخذت ثوبين بعد أن أعطيت كل واحد منا ثوبا واحدا. قال عمر: “لا تعجل ونادى يا عبد الله يا ابن عمر؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.. قال: ناشدتك الله.. الثوب الثاني الذي ائتزرت لمن؟.. قال: لي وقد وهبته لك.. قال سلمان: الآن نسمع ونطيع.
الدين النصيحة:
أما قبول النصيحة من الناصحين فشاهده قول “عمر” الذي أعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به وقد خطب في الناس يوما: “إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني”. فقال له رجل من عامة المسلمين: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا فقال أحد الحاضرين: أبهذا الخطاب تخاطب أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: “دعه فليقلها لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها”.
تحري الحق:
ومن الأمور الهامة التي لا بد من توافرها في القائد الإداري أن يدرب على العدل في القضاء وفي تحري الحقائق واستخلاصها.
وشاهد التدريب على العدل ما فعله الله تعالى من تمرين “داود” على ألا يقضي إلا إذا سمع من طرفي الخصومة مهما تكن حالة الطرف الأسبق إلى رفع شكواه. فقد كان داود يجلس للقضاء يوما ويعتكف للعبادة والصيام في المحراب يوما فجاء خصمان يوما وهو في معتكفه ولم يدخلا عليه من الباب. وإنما تسللا السور وفاجآه وهو في خلوته ففزع منهما خشية أن يكونا قد أراد به سوءا، فطمأناه إلى حسن نيتهما وعرض أحدهما عليه القضية فحكم له على الفور دون أن يستمع إلى رأي الخصم الثاني. ثم أدرك داود عليه السلام خطأه في التسرع في الحكم فاستغفر ربه فتاب عليه. وفي هذا الموقف ألقى الله تعالى عليه درسا في وجوب رعاية الحق والتنزه عن الأهواء الشخصية وحذره من الضلال على سبيل الحق: “وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب؟ إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط… إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: أكفلنيها (أي أعطنيها ليتم عدد غنمي مائة) وعزني في الخطاب (أي غلبني على أمري في موقف الخصومة) قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم، وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب. فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب. يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
ولا بد من أن نلاحظ هذه الروعة في الربط بين ما لا بد منه لصلاح أمر الدنيا وهو العدل، وضرورة تجنب الانحراف والتذكير بيوم الحساب من جانب آخر. وذلك لنعلم أن التوجيه إلى رعاية الآخرة مرتبط أوثق الارتباط بمصالح المجتمعات وحقوق الأفراد.
أما وجوب تحري الحقائق والتحفظ الشديد في البحث عنها واجتهاد جميع الطاقات بغية العثور على ضمانات لسلامة التصرف في العاجل والآجل، وتجنبا لتوقيع العقوبات خطأ على الأبرياء.. فذلك أمر استفاضت أدلته وتكاثرت شواهده إلى الدرجة التي لا يسعنا أمامها غير الاكتفاء ببعض ما يتسع له المقام.
من ذلك أن الله تعالى ينهى عن الظن الذي لا تسانده قرائن، ولا يبعثه غير الهوى الشخصي فيقول: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن أثم).
وينهى عن أن يتبع الإنسان ما لا يعلمه علم اليقين بواسطة السمع والبصر والفكر الثاقب فيقول تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
ويأمر بالتثبت أمام النبأ الفاسق والتبين أمام الشكاوى الكيدية فيقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين).
ويحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلطان المال إذا خاض معارك الظلم ضد الأبرياء فيقول: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش). الراشي دافع الرشوة، والمرتشي آخذها والرائش هو واسطة إتمام آثامها.
ومما يجب أن يتحلى به القائد الإداري أن تكون علاقاته قائمة على المودة والمحبة وتبني مشكلات الآخرين والعمل على حلها، كما كان يفعل الرسول الكريم “محمد” صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
ولا نعرف جوا يترعرع فيه الوداد كلين الجانب وخفض الجناح وجميل التواضع. وهل هناك مقام يسامي مقام رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو الذي قال الله عز وجل له: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين). وقال: (واخفض جناحك للمؤمنين). وكان صلى الله عليه وسلم يتواضع للناس وهم أتباع، ويخفض لهم جناحه وهو مطاع… ومن تواضع فقد تأسي بالنبي وتحلى بأعظم فضيلة تجتذب القلوب.
وهل هناك ما ينمي علاقات المودة أعظم من معاونة ذوي الحاجات المشروعة، ومعاونة أرباب الآمال الطيبة في قضاء حوائجهم وتفريج كروبهم وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مشى في حاجة أخيه قضيت أو لم تقض كان ذلك خيرا له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين).
ومن أهم ما يصلح القائد الإداري أن يعلم أنه ممتحن بما أتيح له من سلطان وأن عليه أن يحمي سلطانه من أن يكون معبرا إلى غرض دنيوي باطل فإن الله يبتلي العباد بالعطاء كما يبتليهم بالحرمان. وهذا “سليمان” عليه السلام يعلن هذا المبدأ حين يرى عرش ملكة سبأ وقد جاءه في أقل من لمح البصر من اليمن إلى الشام: (فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم).
والذين ينجحون في مضمار الاختبار بالعطاء هم الذين تكون سيرتهم مصداقا لقول ربهم: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
اختيار البطانة:
ومن القيم الإسلامية للقائد الإداري أن يحسن اختيار بطانته، وأن ينتقي أصحابه من ذوي الورع والتقى. ليعينوه على ما يريد من خير، ولينبهوه إلى أنواع البر، ولينصحوه إن اتجه إلى الشر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله).
ومن القيم الإسلامية للقائد الإداري – أيضا – أن يرتبط في إصدار أحكامه وتوجيهاته بالضوابط التي لا تلتوي أبدا ولا يرقى إليها باطل، ولا يجوز عليها خطأ بحال من الأحوال، ألا وهي أحكام الله عز وجل وتشريعاته. فإنها حق لا يخالطه باطل، وعدل لا يلابسه ظلم، وصواب لا يعتريه خطأ والله تعالى يقول لرسوله: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما. (أي لا تكن مدافعا ولا محاميا ولا مجادلا لصالح الخائنين) واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم، إذ يبيتون ما لا يرضي من القول، وكان الله بما يعملون محيطا، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟؟ ومن يعمل سواء أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليما حكيما، ومن يكسب خطيئة أو إثما يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا”.
وهذه الآيات – كما ترى – تدعو إلى استفتاء الحق من موازينه في كتاب الله، وتنهى عن مساند الخائنين وتحذر من تلفيق التهم للأبرياء، وتمزج ذلك كله بمشاعر الإيمان. إذ تدعو إلى الاستقامة وتذكر بيوم العرض على من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومن القيم الإسلامية بعيدة الأثر في توجيه القائد الإداري أن يتصف – إذا تورط في خطأ أو زلت قدمه عن طريق الهدى والرشاد – بالصفات الحميدة، ولن يزيده هذا إلا رفعة وسموا.. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يتحامل على نفسه في مرضه الأخير، ويستعين ببعض أصحابه حتى يذهب إلى المسجد ليخطب في الناس حتى يستريح ضميره ويلقى مولاه وهو عنه راض. فقال:
“أيها الناس.. من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليتسقد منه “أي فليقتص منه” ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه. ومن كنت أخذت منه مالا فهذا مالي فليستقد منه، ولا يخشى الشحناء “أي لا يخشى أن يترك ذلك في نفسي أثرا تخشى عواقبه” فإنها “أي الشحناء” ليست من شأني ولا من طبعي. ألا وإن أحبكم إلى من كان له حق فأخذه مني وأنا طيب النفس. إن فضيحة الدنيا أهون علي من فضيحة الآخرة”.
وبهذا الأسلوب يشيع في الرعية الاتجاه إلى الخير وهم آمنون من البطش والجور، مطمئنون إلى أنهم يعيشون في ظل سلطة ترعي البناء وتنمو في ظلها النهضات والحريات.
ومن القيم الإسلامية في هذا السبيل ألا يطالب – القائد الإداري – أحدا بطاعته على حساب الحق، وقد جعل الله طاعته واجبة بشرط ألا يتعارض ذلك مع طاعة الله ورسوله، وكل نزاع بينه وبين الذين يقودهم ويتولى أمرهم يجب أن يعرض دائما على كتاب الله وسنة رسوله، ويجب أن يكون ذلك موقفه من نفسه حتى لا يأتي هواه بوجه وشريعة الله بوجه آخر. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير (أي في الحال) وأحسن تأويلا” (أي في المآل).
في إطار هذه المعاني يأمر الإسلام الرعية بطاعة راعيها فيقول النبي صلى الله عليه وسلم “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”. ولا يتأثر حق الراعي في طاعة الرعية له – ما دام هو ذاته مطيعا لله ورسوله – بلون البشرة أو موازين المجتمع الذي يستمد مفاهيمه من خارج الدائرة الشرعية. ولقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم “أسامة بن زيد” ليجمع أسباب الإمارة له، ومشى في ركابه (أبو بكر) استجابة لتوجيهات رسول الله القائل: “اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”.
ولقد بعث الله “طالوت” ملكا لبني إسرائيل في وقت من الأوقات الضاربة في أعماق التاريخ، فنازعه اليهود في حقه في الملك بحجة أنه فقير. فبرهنوا بذلك على أنهم لا يفهمون عوامل القيادة وأسباب الزعامة، ولا يلفت أبصارهم ويجذب انتباههم سوى سلطان المال، وذلك دأبهم في جميع العصور. قال تعالى: (وقال لهم نبيهم، إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا: أنى يكون له الملك علينا. ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال، قال: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم”.
فأين هؤلاء من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أذعنوا وقالوا سمعنا وأطعنا حين كان على رأس الجيش “أسامة بن زيد” وهو دون العشرين وتحت أمرته “عمر بن الخطاب”، و”أبو عبيدة عامر بن الجراح” أمين الأمة، و”أبو بكر” يمشي مودعا “أسامة” وهو راكب فيقول أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن.. فيقول أبو بكر: والله لا نزلت ولا أركب وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة!!.
نزاهة القائد:
ومن أهم ما يقال في توجيه القيم الإسلامية للقائد الإداري أن يحذر الهدية التي فيها شبهة الرشوة، فقد رفضها “سليمان” عليه السلام من ملكة سبأ التي أوتيت من كل شيء، تريد بها أن تصرف عنها دعوة “سليمان” ظنا منها أنه ليس بنبي وأنه قد يكون من طلاب الدنيا: (فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون. ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون”.
وإذا كان “سليمان” رفض الهدية وبيده من الدنيا كل شيء، فإن مما يذكر في هذا المقام أن خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه رفض ما هو أعظم حفاظا على دينه، مع أنه كان حيئنذ لا يملك من الدنيا شيئا.. وذلك يوم قال: “والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.
الناس على دين ملوكهم:
إن الناس على دين ملوكهم. فمن التزم الحق والعدل وراقب الله صلحت له رعيته وشاعت فيها الفضائل والقيم الصالحة والمثل العليا. وانطلقت في ركب البشرية متبوئة مكان الطليعة والصدارة إلى عز الدين ونعيم الآخرة.
وأما جزاء القائد الذي يرعى هذه المعاني بصدق وإخلاص، وعمق وفهم وإيمان، فحسبنا أن نذكر أنه في ظل عرش الرحمن جل جلاله يوم الفزع الأكبر كما أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
والإسلام بشهادة الواقع التاريخي يبني الحياة على أقوى الأسس وأكرم الأوضاع، وهو الدين الذي عز الله به أسلافنا.
وإن مما يزيد إيمانا أن المسلم إذا نظر في المواثيق الدولية وفي القوانين التي أنتجتها عقول العباقرة، لا يجد فيها من خير إلا قطرة من بحر الإسلام وقبسا من نوره، ولا يجد الإسلام إلا منزها عن قصورها وشرورها.