أبحاث

أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية (2)

العدد 12

ثانيا: التربية الإسلامية وأزمة التعليم المعاصر:

من التحليل السابق لأزمة التعليم المعاصر في أطرها المختلفة (الاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والقيادية، والنفسية، والأخلاقية، والدينية) يتضح أن الأزمة تكمن في انطلاق التعليم المعاصر من منطلق غير إيماني، فضلا عن كونه منطلقا علمانيا لا دينيا منكرا. وذلك في فلسفته وأهدافه ومحتواه ووسائله. وعلى ذلك فإن المخرج من تلك الأزمة (بأبعادها المادية والمعنوية) يتلخص في العودة بالتربية إلى منهجها الإسلامي؛ لأنه هو المنهج الرباني المطابق للفطرة الإنسانية، ولأنه من صنع الله خالق الإنسان وفطرته، والكون وما فيه، وما يحكم ذلك كله من سنن وقوانين، والله هو العليم بخلقه وبطبائعهم، وبأفضل الوسائل لتربيتهم. وهنا ترد تساؤلات عدة أهمها: ما هي التربية الإسلامية؟ وما هي فلسفتها وأهدافها ومحتواها ووسائلها ومميزاتها؟ وهل قامت هذه التربية الإسلامية بدور في تاريخ البشرية؟.

والإجابة على ذلك قد تحتاج إلى مؤلفات عدة ولكن نوجزها في النقاط التالية:

(أ) ماهية التربية الإسلامية:

تعرف التربية الإسلامية بأنها النظام التربوي القائم على الإسلام بمعناه الشامل: “إن الدين عند الله الإسلام” ويعلمنا الإسلام العظيم أن المعرفة الإنسانية بدأت بتعليم من الله سبحانه تعالى: “وعلم آدم الأسماء كلها…” ثم ورث هذا العلم لبني البشر جيلا بعد جيل، فضاع منه ما ضاع، وبقي ما بقي، وأضيف إليه ما أضيف من تجارب الأفراد والمجتمعات، وخبراتهم المكتسبة من ممارسة الحياة، ومن البحث عن حقائق الأشياء بالتأمل والتفكر والتدبر في الكون وما فيه، وفي الإنسان وأعماقه، وعلاقة كل منهما بالآخر، وبالخالق العظيم، أو عن طريق استجواب الطبيعة في محاولة للتعرف عليها، واستنتاج السنن التي تحكمها بالملاحظة والاستنتاج، أو بالتجربة والملاحظة والاستنتاج.

وقد تناقل الناس هذا التراث بمصدريه: الرباني والبشري، أمة بعد أمة، فطوروا منه ما طوروا، وضيعوا ما ضيعوا، ومرت المجتمعات البشرية في حالات من الازدهار والأفول، والإنسانية والهمجية.. على قدر تمسكهم أو إهمالهم لجوانب المعرفة بمصدريها الرباني والإنساني. حتى إذا ما فقدت نور الرسالة السماوية وإشراقها غاصت في جاهلية مضلة حتى تهلك أو تكاد فيسعفها الله برسول يدعوهم إلى الإسلام من جديد.. ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

وظلت رسالات السماء إلى الأرض تترى، والإسلام يصارع الجاهلية، في مد وجزر، وإقبال وإدبار، حتى من الله على البشرية بخاتم الرسل والنبيين، وبرسالته الشاملة للناس كافة، والتي تعهد الله سبحانه تعالى بحفظها فحفظت، وبقى كتابها -القرآن الكريم- مصدرا للهداية الربانية للبشر كافة.

من ذلك يتضح أن الإيمان سابق على الكفر، وأن العلم سابق على الجهل، بعكس ما يزعم متخصصو علم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا) المعاصرون، وأن الأنبياء والمرسلين هم بشر يختارهم الله، ويعلمهم ويربيهم، ليقوموا بدورهم بتعليم البشرية وهدايتها، وفي ذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت معلما) ولذلك ركز اهتمامه على التربية الفردية والجماعية، وأمر بتعليم القراءة والكتابة، وافتدى كل أسير من أسرى بدر بتعليمه عشرا من الأميين، وجعل من مسجده في المدينة المنورة مركزا من مراكز العلم والنور والهداية، وقرر أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ونادى بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها. وجعل العلماء ورثة الأنبياء، وساوى بين مدادهم ودماء الشهداء. وهذا هو القرآن الكريم يصفه صلى الله عليه وسلم بأنه معلم الكتاب والحكمة: “هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة: آية 2).

والقرآن الكريم يحض الناس على التعلم والتفكر والتدبر، وتحصيل المعرفة في شتى جنبات هذا الكون، وهذه آياته الأولى تأمر بكل ذلك.

“اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق: الآيات 1-5).

والقرآن المجيد يكرم العلم والعلماء:

“قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب” (الزمر: آية 9).

“يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات” (المجادلة: آية 11).

ولم يكد يطلع القرن الهجري الثاني حتى كان هناك جهاز تربوي كامل منتشر في كل جزء من أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف (والممتدة من بخارى وسمرقند شرقا إلى الأندلس غربا)، ابتداء من الكتاتيب إلى المدارس إلى المساجد، إلى حلقات العلم ودوره، وبيوت الحكمة، والتي شكلت مراكز للتعليم والتربية استطاعت أن تبني الإنسان الصالح الجدير بخلافة الله في الأرض، وأن تقيم به المجتمع الفاضل المؤسس على تحكيم شريعة الله وعلى تقواه، وكل ما يتبع ذلك من عدل اجتماعي، وتسام إنساني، وفهم حقيقي لرسالة الإنسان في هذه الحياة.

واستطاع هذا النظام التربوي الإسلامي استيعاب كل المعارف الإنسانية المتاحة، ونقدها وتطويرها وتنميتها بالعديد من الإضافات الأصيلة، وإثرائها بالنظرة الإسلامية الشاملة للإنسان والكون وعلاقتهما بالخالق العظيم. كما استطاع ذلك النظام التربوي المحافظة على التراث الإنساني ونقله إلى الناس في إطار إسلامي إنساني متكامل على مدى فترة زادت عن عشرة قرون.

وكانت مساجد المسلمين أماكن للصلاة، ومجالس للعلم، ومراكز لانطلاق قوافل الجهاد في سبيل الله، وتكفي الإشارة إلى أن كبار العلماء والأئمة المسلمين قد تلقوا العلم في المساجد: فمالك بن أنس تعلم في مسجد المدينة، وأبو حنيفة في مسجد الكوفة، والشافعي في مسجد الفسطاط، وابن حنبل في مسجد بغداد، وغيرهم من رجال العلم والفكر والرأي ممن أضافوا إلى الفكر الإنساني وأثروه، كذلك تكفي الإشارة على أن أقدم ثلاث جامعات في العالم وهي جامعة الزيتونة (79هـ)، جامعة القرويين (245هـ)، وجامعة الأزهر الشريف (361هـ) قد نشأت وعلمت في المسجد، وأن بيت الحكمة الذي أسسه هارون الرشيد في منتصف القرن الثاني الهجري، وجهزه بمكتبة ضخمة ضمت تراث الهند وإيران واليونان كان من أكثر مراكز العلم أثرا في نقل الثقافات القديمة ونقدها وتطويرها، وأن المدارس التي بدأ المسلمون في تأسيسها منذ القرن الثاني الهجري ومن أمثلتها مدرسة المأمون في خراسان، ومدرسة ابن فوروك في نيسابور، ومدرسة الطب التي أسسها عبد الرحمن الناصر في قرطبة في منتصف القرن الرابع الهجري، ومدرسة ساليري التي أسسها المسلمون في إيطاليا، والمدرسة النظامية في بغداد (في منتصف القرن الخامس الهجري) وهي أول مدرسة قرر فيها رواتب للمعلمين، وبنيت فيها مساكن للطلبة، ونظم فيها أول منهاج تخصصي في الدراسات الإسلامية، وبها اقتدى الناس في العراق والشام ومصر وخراسان وغيرها من بلاد المسلمين التي شاهدت نهضة تعليمية رائدة انتشرت فيها المعاهد العلمية المختلفة من دور لدراسات القرآن والحديث، ومدارس للفقه، ومراكز لتعليم الطب والهندسة، والفلك والحساب والكيمياء والعقاقير، وغيرها من مختلف أنواع المعارف والعلوم، وأن جامعة القرويين التي أسست في مدينة فاس (بالمغرب) سنة 245هـ والأزهر الشريف الذي أسس بالقاهرة سنة 361هـ كانا مركزين للعلوم على اختلاف أنواعها، وأول نماذج للجامعات العلمية في العالم كما كانت هناك دور العلم التي من أشهرها دار العلم في الموصل (333هـ) وفي بغداد (383هـ) وفي القاهرة (395هـ).

وقد قامت تلك المراكز التعليمية على تعددها، وتنوعها، واختلاف أساليبها في تخريج العديد من العلماء المسلمين الذين حملوا تراث البشرية، وقاموا بنقده وتطويره، وإثرائه على مدى عشرة قرون أو يزيد، وكان منهم أئمة في علوم القرآن، والحديث، والفقه، واللغة، والفلسفة، والعلوم الإنسانية، والعلوم البحتة والتطبيقية، ومؤسسون لكثير من المعارف الحديثة مثل علم الاجتماع الذي بدأه ابن خلدون، ومن هؤلاء الأعلام نعرض على سبيل المثال -لا الحصر- أسماء الأئمة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وأبي يوسف، وأبي داوود، والأوزاعي، وابن تيمية، والغزالي، ومن المؤرخين نختار الطبري، وابن الأثير، ابن خلدون، وياقوت، وابن خلكان.

ومن العلماء التجريبيين نختار ابن النفيس، ابن الهيثم، الخوارزمي، ابن سينا، جابر بن حيان، الرازي، الفارابي، الزهراوي، البيروني، ابن بطوطة، الإدريسي، الكندي، المسعودي، الجاحظ، الزمخشري، أبا الفدا، القزويني، ابن مسكويه، ابن طفيل، ابن يونس، ابن جبير، ابن اسحق، ابن بشر، البتاني، البوزيجاني، بني شاكر، المجريطي، البغدادي، الحريري، الطغرائي، ابن الجزار، القلقشندي، الخازن، الخيام، النيفاشي….

ولقد كان للنظام التربوي الإسلامي فلسفته الواضحة، وأهدافه المحددة، وأساليبه المتجددة، وبحوثه الرائدة في التربية، فقد قام علماء المسلمين بمناقشة موضوعات أساسية مثل: هل تكون التربية إلزامية بالنسبة لجميع أفراد الأمة أم لا؟، وهل يعلم البنات في الكتاتيب كما يعلم الصبيان أم يخصص لهن نظام آخر؟ وهل يأخذ المعلم أجرا عن التعليم أم لا يأخذ؟ وهل يعاقب التلاميذ وكيف يعاقبون؟ إلى آخر هذه المسائل التي تعتبر من صميم العملية التربوية (الأهواني، 1967).

ولقد بلغ الاهتمام بالتربية والتعليم مبلغ الأعمال التعبدية حتى إن المسلمين ابتدعوا نظاما يشجع على التعليم ويرفع أعباءه عن عاتق الطلاب، وهو نظام وقف الضِّياع والعقار وصرف ريعها على أهل العلم وطلابه.

وقد ساعد هذا النظام التربوي الرائد على ازدهار الحضارة الإسلامية وانتشارها على مدى اثني عشر قرنا، حتى تعرضت البلاد الإسلامية للغزو الاستعماري من قبل دول فقدت عقيدتها.. وحركها الحقد على الإسلام في هجمة استعمارية، لا دينية همجية متعصبة لم تسمح لها بمحاولة التعرف على هذا الدين الحنيف، فحاولت القضاء عليه بكل الطرق، وشتى الوسائل، وكان أمضى أساليبهم في ذلك هو القضاء على نظام التربية الإسلامية وفرض نظمهم التعليمية اللادينية، فقاموا بمحاصرة معاهد التربية الإسلامية ومحاربتها حتى تمت تصفيتها، وما بقى منها يقاوم عملية التصفية الهمجية هذه رفض الفكر الوافد بخيره وشره، وركز همه في المحافظة على التراث وحمايته من هذا الزحف اللاديني القادم من مختلف المعارف الوافدة، فجمدت هذه المعاهد جمودا أفقدها دورها القيادي الرائد. وذلك لأن مهمة العملية التعليمية لا تنحصر في المحافظة على التراث ونقله من جيل إلى جيل فقط، ولا في تأديب النفس، وتصفية الروح وتقوية الجسم، وتثقيف العقل فقط، بل إن الاهتمام بتنمية المهارات الذهنية واليدوية، وتدريب العقل البشري على الإبداع والتجديد والاختراع يشكل ركنا أساسيا من أركان العملية التعليمية، فإذا فقده فإنه يتخلف عن مسار الركب الإنساني الذي يتسارع معدل سيره سنة بعد سنة.. ولذا يجد نفسه معزولا عن الناس، غريبا على أفكارهم، فيقفوا منه موقف المعارضة والعداء؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا. وبالتالي يأخذ في الضمور تدريجيا حتى يموت، إذا لم يقيض الله له من يبعث فيه روح التجديد والإبداع.

من ذلك تتلخص أزمة التعليم المعاصر في النقاط التالية:

1-  تصفية نظم التعليم الديني في العالم بصفة عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، وإحلالها نظم تعليمية علمانية لا دينية بها، تدور بالعملية التربوية وبالمعارف الإنسانية في إطارها المادي فقط. وبذلك تأتي جزئية، منقوصة، قاصرة، لا يمكنها أن تقوم بدورها التربوي أو التعليمي.

2-  الفصل بين التعليم الديني وغيره (وفي الدول التي بقي لها شيء من التعليم الديني) خاصة في دول العالم الإسلامي.

3-  التضييق على المعاهد التربوية الإسلامية حتى تم حصر نشاطها في دور تقليدي يتلخص في المحافظة على التراث ونقله من جيل إلى جيل، وذلك درء لتيار الفكر الإلحادي الوافد من الشرق ومن الغرب والذي تغلغل في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية.

4-  صياغة المعارف الإنسانية -في جملتها- صياغة مادية بحتة، تنكر أو تتجاهل الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر. حتى في المجتمعات التي يؤمن أفرادها بذلك.

5-  تقصير رجال التربية -خاصة المسلمين منهم- في تقديم البديل للنظم التعليمية اللادينية السائدة.

وبإيجاز شديد تتمثل أزمة التعليم المعاصر في غياب المنهج الإسلامي للتربية (فكرا وتطبيقا)، وفي غيابه من الدول الإسلامية بصفة خاصة، والتي كان في إمكانها أن تقدم النموذج التطبيقي للتربية الإسلامية. وفي ذلك كتب الجمالي (1967) مشيرا إلى التعليم في العراق: “لقد اقتنعت الآن أن فلسفة التعليم العراقي أكدت الناحية العلمية الضيقة أكثر من تأكيدها نواحي الأخلاق والروحيات، كما أكدت الناحية الحفظية اللفظية أكثر من تأكيدها على الفكر والعمل، وأكدت القومية الضيقة أكثر من تأكيدها الإسلامية الإنسانية، كما كانت التربية العراقية دكتاتورية أكثر منها ديمقراطية، واتكالية أكثر منها استقلالية، وفردية أكثر منها تعاونية، وباختصار: إنها لم تكن تربية ذات فلسفة حياتية شاملة ومتزنة. هذا وقد ظهرت نقائص التربية العراقية في أيام الهزات والمحن، ولا يزال العراق في نظرنا يعاني من مواطن الضعف المتأصلة في فلسفته التعليمية”.

هذه هي نقائص التربية في مختلف الدول العربية والإسلامية المعاصرة، وذلك لأننا اتبعنا نظما تربوية غريبة علينا وعلى عقيدتنا وفكرنا وتراثنا وفلسفتنا في الحياة. فرض بعضها علينا الاستعمار وفرض البعض الآخر نفر من أبناء أمتنا الذين فتنوا بمنجزات الحضارة المادية المعاصرة فلهثوا في الجري من ورائها.. ونسوا في غمرة ذلك نظما تربوية عريقة قامت على أساس من الإيمان بالله ورسالاته، وحققت من النجاح ما لم تستطع النظم المادية المعاصرة تحقيق جزء منه. ومن يتذكر ذلك منهم يتذكره بعد فوات الأوان.. فهذا هو الدكتور الجمالي.. وهو من رجال التربية المرموقين، ورجل الدولة الذي شغل كثيرا من المناصب القيادية في العراق حتى وصل إلى رئاسة مجلس الوزراء أكثر من مرة.. يقف بعد سن الخامسة والستين لينعي على النظم التعليمية العراقية خروجها على المنهج الإسلامي في التربية!! وأين كان هو من نظم التعليم العراقي وهو يشغل أكبر المناصب السياسية في بلده.. وهو الذي يعلم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؟؟

أمثال ذلك في عالمنا العربي والإسلامي كثير، حيث لا يعرف الناس قيمة الإسلام إلا في المحن والشدائد. أو عندما يقارب العمر نهايته، ويأخذ الضعف منهم مأخذه.. وينسون أو يتناسون أنهم كانوا في مقتبل العمر، وعز السلطان يدورون في فلك الحضارة المادية اللادينية حيث دارت، وأن الأمة الإسلامية، بل الإنسانية كلها.. تجني اليوم ثمار تفريط المفرطين في تأسيس النظم التعليمية، بل نظم حياتنا كلها على أسس إسلامية أصيلة!!

(ب) فلسفة التربية الإسلامية:

بينما تعتبر أسس التربية الحديثة في العالم الغربي هي الحرية، والديمقراطية والفردية، وفي العالم الشيوعي هي دكتاتورية الطبقة العاملة، والمادية الجدلية، والشيوعية الجماعية، فإن أسسها في الإسلام هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والالتزام بالعمل الصالح والتعاون عليه، والتعرف على الحق والتواصي به، وبناء الإنسان بناءً متكاملا يقوم على تأديب النفس وتصفية الروح وتثقيف العقل وتقوية الجسد، حتى يصل إلى الكمال الإنساني المتسامي بصورة عامة في إطار من القيم والأخلاق التي ينشأ عليها ويعود على التعامل بها، وعلى ذلك فأسس التربية الإسلامية تتلخص في قوله تعالى: “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.

ولما كانت التربية نظاما اجتماعيا ينبع من عقيدة الأمة وفلسفتها في الحياة ويقوم على إبراز تلك العقيدة والفلسفة إلى الوجود بغرسها في عقول ونفوس أبنائها من الصغر، فإن فلسفة التربية الإسلامية هي هي فلسفة الإسلام القائمة على أن هذا العالم المادي الذي نعيش فيه ليس كل شيء، وأن هذه الحياة الدنيا ليست هي نهاية المطاف، فمن وراء المادة غيب لا نستطيع بحواسنا المحدودة أن نشق حجبه، ومن وراء هذه الحياة الدنيا الفانية حياة أخرى خالدة، سيبعث لها الإنسان بعد الموت، والإنسان لم يوجد نفسه بنفسه، ولم توجده الجمادات من حوله لأنه عاقل ولا عقل لها، بل أوجده وأوجد الكون كله بمن فيه وما فيه من العدم إله واحد لا شريك له، هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يجري الأرزاق، والذي يرعى هذا الوجود بكل ما فيه ومن فيه برحمته وعنايته وحكمته.. وهذا الإله العظيم ليس كمثله شيء. فهو قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء عن علمه، عادل لا يفلت ظالم من حكمه، هو الذي وضع نواميس الكون وجعل كل شيء فيه بمقدار، وحدد من الأزل وحداته ونظمه وهيئاته وأشكاله وحركاته، من أدق دقائقه على أكبر وحداته، وما يحكمه من سنن وقوانين، وما يطرأ عليه من تغيير وتبديل.

وهذا الخالق العظيم قد منح الإنسان عقلا يحكم به على الأمور التي جعلها خاضعة لقدرته، ويميز به بين الخبيث والطيب، ويختار ما يريد، ثم جعل الله له بعد هذه الحياة المؤقتة حياة دائمة في الآخرة، تبدأ بحساب عسير، يكافأ المحسن به على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته.

وأن هذا الإله يختار أناسا من البشر ينزل عليهم شرائعه ليبلغوها للناس، وهؤلاء هم الرسل. وآخر الرسالات السماوية هي رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومعجزته الكبرى هي القرآن الكريم. وقد حرفت الكتب السماوية السابقة أو ضاعت أو نسيت، وبقي القرآن سليما من التحريف والضياع.

هذه هي فلسفة الإسلام، وفلسفة التربية الإسلامية، وهي فلسفة تمتاز بالشمول والتوحيد والدعوة إلى التسامي باستمرار، ومراقبة السلوك ومحاسبة النفس.

فالمعرفة في الإسلام تتناول الوجود كله في شمول مكاني وزماني يتوجب الاعتراف بخالق الوجود. والتوحيد في الإسلام يجمع بين المادة والروح، ويؤكد على التلازم بينهما وبين الأخلاق، كما يجمع بين الإيمان والعقل ويربطهما بالعمل الصالح، وبين السعي الصادق والعبادة الخالصة لله باعتبارهما وجهين للعمل الصالح، وبين الفكر المتأمل والعمل البدني باعتبارهما من مجالات العبادة، وبين المثالية والواقعية باعتبارهما من أبعاد الطبيعة البشرية وبين الإنسان والكون. باعتبار الإنسان جزءا من هذا الكون وإن تفرد بخلافة الله فيه، وبين الإنسان والكون، وخالقهما، وبين الدنيا والآخرة باعتبارها كلها من خلق الله، وأن مردها إليه وحده سبحانه، وأنها كلها تنطق بوحدانيته سبحانه وتعالى وتؤكدها في كل وقت وفي كل حين.

هذه الفلسفة الإسلامية توحد في ذات الإنسان بين جسده وروحه وما يربطهما من قيم وأخلاق، وبين عقله وعاطفته وما يحكمهما من علم وحكمة، وبين عقيدته وإيمانه، وما يصدقهما من عمله، لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

وهذا الكيان الإنساني المركب هو جزء في مجتمع يتأثر به ويؤثر فيه، وعلى ذلك ففلسفة التربية الإسلامية تراعي مكونات الإنسان المختلفة في وحدته الذاتية، وتربط بين تلك الوحدة الذاتية المركبة المتمثلة في الفرد وبين المجتمع من جهة، وبينه وبين الوجود كله من جهة ثانية وبين الوجود وخالقه، من جهة ثالثة، وهذا هو ما يجسم معنى الشمول والتوحيد في الإسلام.

وفلسفة التربية الإسلامية تقوم على الدعوة إلى التسامي باستمرار، وإلى ارتفاع الإنسان إلى المثل الأعلى، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا في نطاق أطر سلوكية وأخلاقية محددة. ومن خلال محاسبة النفس، وإحياء الضمير الديني في الإنسان، ويكفي في ذلك أن يراجع المرء من نصوص الكتاب والسنة ما يؤكد على ضرورة محاسبة النفس قبل أن تحاسب “فالكيِّس من دان نفسه”، وعلى أن الله سبحانه وتعالى رقيب على كل شيء، قائم على كل نفس بما كسبت، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه سبحانه وتعالى قد أقسم في القرآن بالنفس اللوامة “لا أقسم بيوم القيامة. ولا أقسم بالنفس اللوامة” (القيامة: آية 1، 2) وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بقوله (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)، وبما معناه “أن المؤمن وقاف متأمل”، وقوله: “اتق الله عند همك إذا هممت”.

وهذه المحاسبة في الإسلام تسير بالإنسان دائما نحو الأفضل والأكمل، وتجعل من نفسه على نفسه رقيبا، وتحفظه من التردي في مزالق الهوى والشيطان وتعمل على السمو به سموا روحيا وأخلاقيا واجتماعيا ودينيا وفكريا، فالإيمان بالله والإقرار بوجوده واليقين باطلاعه على أعمال العباد، وخشية جزائه العادل على ما يرتكب من خير أو شر، والإيمان بالآخرة والبعث والحساب هو حجر الزاوية في التربية الإسلامية.

ومجمل القول: إن فلسفة التربية الإسلامية تقوم على التصور الإسلامي الصحيح للإنسان، والكون، والحياة، ولمعنى ألوهية الله، ويمكن إيجاز هذه الفلسفة في النقاط التالية:

(1) أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض، خلقه من طين، ونفخ فيه من روحه، وعلمه من علمه، وأمر الملائكة بالسجود له، وكرمه على كثير من الخلق:

“وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” (الحجر: آية 28، 29).

“وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون” (البقرة: آيات 30-33).

وعلى ذلك فإن القدرة على التعلم واكتساب المعرفة هي صفة أساسية من صفات الإنسان، وضرورة من ضرورات وجوده، فهي التي تعينه على خلافة الله في الأرض، والقيام بمسئولياته فيها، ومن هنا كان طلب العلم فريضة على كل مسلم.

(2) الإنسان جزء من هذا الكون المادي الذي خلقه الله بعلمه وحكمته وقدرته. “والله أنبتكم من الأرض نباتا” (نوح: آية 17)، ولكنه يختلف عنه بأنه -بالإضافة إلى جسده المادي- هو كيان روحي عاقل وقادر على إدراك ما يفكر فيه، والتعبير عن تفكيره ببيان واضح: “خلق الإنسان. علمه البيان” (الرحمن: آية 3، 4)، وهو يحس في نفسه معاني وقيما للأشياء والأفعال تجعله يستطيع إدراك ذاته، وتجسيدها متميزة على كل ما سواها من الكائنات الحية الأخرى، رغم ما بينه وبينها من شبه في البناء، فهو أعلى المخلوقات مرتبة، لأنه جامع لكل صفاتها، ومتميز عليها بالقدرة والاختيار. فهو الكائن الحي، العاقل، القادر، المختار المكلف: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا” (الإسراء: آية 70)، وعلى ذلك فالإنسانية في الإنسان ليست بجسده المادي المعقد ولا بصفاته التشريحية الخاصة، إنما الإنسانية فيه هي ارتقاء بنفسه إلى الدرجة التي تؤهله لاحتمال تبعات التكليف، وأمانة المسئولية.. حتى يصل إلى المقام الخاص به وهو الاجتهاد في الكمال الاختياري الواعي، وهذا لا يمكن الوصول إليه بغير تربية، وبغير علم وفهم وهداية وأخلاق والتزام، وبغير مجاهدة للنفس: “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان” (الأحزاب: آية 72).

فالإنسان كل مركب من جسد وروح، وعقل وعاطفة، وأحاسيس ومشاعر.. وعلى التربية أن تنهض بكل هذه الجوانب بعدل وتناسق. فتهتم بتصفية الروح اهتمامها ببناء الجسد، وبتأديب النفس اهتمامها بتثقيف العقل، وعلى ذلك فالتربية في الإسلام تربية شاملة لكل مكونات الإنسان، وملكاته، وهي ليست عملية محددة بزمان ومكان، ففي الأثر الشريف: (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).

(3) أن الخير أصيل في الإنسان. والشر طارئ عليه، وقد وهب الله الإنسان القدرة على التمييز بينهما، والإنسان يولد على الفطرة “فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” (الروم: آية 30).

ثم تتفاعل قابلياته وميوله وقدراته مع المجتمع الذي يربى فيه فتنمو في الاتجاه الصحيح أو الخاطئ حسب ما يتلقى من توجيه، ومن هنا تتضح قدرة التربية الصحيحة، ودورها في توجيه العقل لاستخدام ملكاته كلها في الخير وليس في الشر، وهذا هو دور أساسي من أدوار التربية: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون” (النحل: آية 78).

(4) إن قمة الخير في الإنسان، ووسيلته إلى إنمائه هي خضوعه بالعبودية لله وحده -بمعنى ألا يشرك بعبادته أحدا- ومن سمات هذا التوحيد الخالص أن يؤمن الإنسان بأنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله، ومن ثم فالعبودية لغيره تعالى هي إهدار لكرامة الإنسان، وإذلال لإنسانيته، وهي صورة من صور الشرك الذي حرمه الله. ويجب أن يبقى ذلك إطارا للعملية التربوية، وهدفا من أهدافها.

ومن الخير الفطري في الإنسان كذلك: تلك القيم الكبرى التي فطر الله الإنسان عليها ومنها حب الحق، وحب الخير، وتذوق الجمال الحسي والمعنوي، وهذه في المخلوقات انعكاس لعظمة القدرة المبدعة، ودلالة على الخالق العظيم الذي هو الحق والخير، وهو مسبغ كل صور الجمال على الإطلاق، فالله تعالى هو مصدر القيم العليا، وهو سبحانه غايتها “فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم” (المؤمنون: آية 116).

وواجب التربية أن تحافظ على الفطرة الإنسانية السليمة، وأن تعمل على تنميتها وتزكيتها باستمرار، فالتعليم بدون تربية وتزكية تعليم ناقص، فهذا هو سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، وولده إسماعيل يدعوان الله لذريتهما من بعدهما: “ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم” (البقرة: آية 129).

وهذا هو الله تعالى يستجيب لدعوتهما فيرسل الرسول تلو الرسول هاديا ومعلما ومزكيا حتى تكتمل رسالة الله في بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي يصفه ربه بقوله: “كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون” (البقرة: آية 151).

(5) إن الإنسان الفرد هو عضو في جماعة تشمل الإنسانية كلها بما فيها أسرته وأهله، ومجتمعه وبلده وأمته، وهو مرتبط بهذه الجماعات كلها ارتباطا عرقيا، وله عندها حقوق، كما أن عليه تجاهها واجبات، ولا تستقيم الحياة في هذه الدنيا إلا بقيام اتزان دقيق بين حقوق الفرد وواجباته تجاه الجماعة، وهو أمر من صميم العملية التربوية، وهو من الأمور التي لا يكتفى فيها بالتلقين، وإنما لا بد لها من أن تغرس في النفوس بالممارسة الفعلية والقدوة الحسنة، وباتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، والتزام حدوده التي وضعها لعلاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقات كل منهم بالمجتمع الإنساني على اختلاف أبعاده.

والتربية في ذلك لا بد أن تكون تربية إنسانية، لا تحدها حدود الأرض، ولا فواصل اللغة، ولا اختلاف اللون أو تنوع الجنس، فهي تسعى إلى بناء الإنسان الصالح لتبني به المجتمع الإنساني الصالح، وهو مجتمع لا بد أن يكون مجتمعا متعلما متبصرا.

وعلى ذلك فالمساواة في التعليم بين عناصر الجنس البشري كلها أمر واجب، لا فرق في ذلك بين أبيض وأسود، ولا بين ذكر وأنثى، فكلهم مطالبون بالعبادة لله، ولا عبادة بغير علم وهدى: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: آية 13).

“ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” (الروم: آية 22).

(6) إن الأفراد متفاوتون في قدراتهم وملكاتهم ومواهبهم: “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم” (الأنعام: آية 165)، وإن كان ذلك بمثابة ابتلاء واختبار، إلا أن هذا التفاوت بين الأفراد لا بد أن يؤخذ بعين الاعتبار في العملية التربوية فلا يكلف إنسان فوق طاقته: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”. (البقرة: آية 286)، ومن ثم فالتربية في الإسلام تربية فردية، لا تحد في قوالب موحدة جامدة تفقدها طبيعتها الإنسانية، بل تتركها لحسن تقدير المربي وقدرته على توجيه الملكات الخاصة لكل طالب (على تباينها)، وحسن قبول الطالب لتوجيه مربيه لما يربطهما من صلة نورانية أساسها خشية الله تعالى والعمل على مرضاته.

(7) إن مصادر المعرفة الإنسانية هي الوحي السماوي المنزل، والعلم الفردي أو الجماعي المكتسب، والتراث البشري الموروث في كل من هذين المجالين، وعليه فإن التربية لا بد أن تستمد منهجها ومحتواها من هذه المصادر الثلاث، فإهمال أي منها لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة متكاملة نافعة أو إلى تربية سليمة.

(8) إن وسيلة الإنسان إلى العلم السماوي هي الرسل والأنبياء، وما أرسلوا به من تشريعات سماوية، جاءت لتعلم الإنسان العلم الذي لا يمكن له أن يكتسبه بنفسه، ولتصنع له الحدود في المجالات التي لا يمكن أن يصنع لنفسه فيها حدودا عادلة.

وعلى ذلك: فإيمان الإنسان برسالة السماء هي ضرورة من ضرورات علمه، بل من ضرورات وجوده، لأنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه نظاما شاملا كاملا ينتظم حياته وعلاقاته: أفرادا وجماعات، ودولا وأمما، ومجتمعا إنسانيا واحدا على أساس من الحق والعدل، دون ميل شخصي، أو هوى نفسي. كما أنه لا يستطيع أن يحدد تفاصيل رسالته في هذه الحياة، ولا أن يدرك مصيره بعدها بعقله منفردا. ومن هنا كانت ضرورة رسالة السماء إلى الأرض. فبعث الله الرسل والأنبياء بدينه الحق، وطالب الناس بالإيمان به وإقامة دولته “رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل” (النساء: آية 165).

وآخر الرسالات السماوية هي رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل معجزته القرآن الكريم، وتعهد بحفظه فبقي سليما من التحريف والتبديل والضياع، بينما حرفت الكتب السماوية السابقة أو ضاعت أو نسيت. ومن هنا فإن التربية في الإسلام تقوم على القرآن وهديه، وتعاليم رسولنا الكريم وسنته.

أما بقية الأمور والمعارف فقد تركت لاجتهاد الإنسان وتحصيله، ووسيلته في ذلك: عقله وحواسه، وهما من نعم الله الكبرى التي من بها على الإنسان. ولذلك فهو مطالب دوما بتحكيم العقل، والاستدلال بالبرهان المنطقي، وهو منهي عن التقليد الأعمى، والجمود على المفاهيم الخاطئة لمجرد أنها موروثة، فالمحافظة على التراث ضرورة من ضرورات بقاء المعرفة الإنسانية إلا أن الإنسان مطالب دوما بتفقده وتطويره، ومطالب كذلك بالنظر فيما حواليه من أمور الكون وما فيه، نظرا بعين الاعتبار وبحضور القلب، في عملية من التفكر والتدبر لا تنفصل فيها المعرفة عن الحكمة، ولا المادة عما وراءها.

(9) أن العلوم الكونية في منهج التربية الإسلامية شيء أساسي، ولكن العلم بها ليس علما ماديا مجردا عن الحكمة. فتعرف الإنسان على الكون ضرورة من ضرورات وجوده، لأنه بذلك يتعرف على خصائص المادة والطاقة والأحياء، ويقوم بتصنيفها وتبويبها، وعلى الظواهر الطبيعية والسنن التي تحكمها، ويضع الفروض والنظريات اللازمة لذلك، ويستنتج القوانين للمطرد منها. ونتاج ذلك أنه يتعرف على مصادر الخير المادي في هذه الحياة فيستفيد منها وينميها لسد حاجاته وحاجات بني جنسه الذين يتزايدون في العدد مع الزمن. ويتعرف على شيء من قوانين الكون وسننه مما يعينه على تسخيرها في عمران الحياة على الأرض، والقيام بخلافة الله فيها وهذا مجال العلوم البحتة والتطبيقية أو ما يسمى بالعلوم الكونية.

وهذه العلوم في التربية الإسلامية ليست فقط حقائق وأرقاما ومعادلات مجردة من الحكمة. فإن دلالاتها المعنوية أكبر من ذلك بكثير. ومن هنا كان لزاما على المسلم أن ينظر في كل شيء، وفي كل أمر بعين الاعتبار، وهو حاضر القلب، متفتح الحواس، جاد في محاولة الوصول إلى المعرفة، وإلا أتت معرفته معرفة حسية فقط. معرفة بمادة الأشياء وهي أقل ما يمكن للإنسان أن يدرك منها، فالمسلم حين ينظر في الكون متأملا، دارسا، متفكرا يدرك أنه بكل ما فيه ومن فيه قد خلق بالحق، ولأجل مسمى، وأن لكل شيء طبيعته الخاصة، وقوانينه الثابتة، ووظيفته المحددة، وغايته السامية، وأن الكون لم يخلق لعبا ولا عبثا، وكذلك يجب أن تكون حياة الإنسان نظاما، ودقة، وعملا، وفهما ينسجم مع قوانين الكون وسننه، وإلا أتت شاذة عنها، خارجة عليها، متعارضة معها.

“وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون” (الدخان: آية 38، 39).

والكون للمسلم هو كتاب الله المنظور.. يرى فيه عظمة الخالق، ودقة البناء، وانتظام الحركة، وإتقان الصنعة، فيتعلم منه شيئا من صفات خالقه العظيم، ومن الشروط الواجبة للنجاح في تلك الحياة. ويرى فيه وحدة البناء تنطق بوحدة الخالق العظيم، ويرى فيه أنه مستحدث فإن كانت له في الأصل بداية، بدأها الخالق البارئ المصور، وسوف تكون له في يوم من الأيام نهاية، هي بيده سبحانه وتعالى، ويرى أنه في كل لحظة من لحظات وجوده هو محتاج إلى رحمة الله ورعايته. وإلا هلك وهلك كل ما في الكون ومن فيه: “إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا” (فاطر: آية 41)، وأن وجود الإنسان في هذه الحياة هو لغاية قد حددها له الله:

“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات: آية 56) وأن هذه العبادة ليست مقصورة على طقوس دينية محددة، بل إن السعي في عمران الحياة عبادة، والسعي في طلب العلم عبادة، والعدل بين الناس عبادة، فالقرآن الكريم يعلمنا: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور” (الملك: آية 15). “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون” (التوبة: آية 105). وفي الأثر أنه “من بات كالا من عمل يده بات مغفورا له”. وأن “تفكر ساعة خير من عبادة سنة”، “وأن عدل ساعة خير من عبادة مائة عام”.

ومعنى ذلك أن المعرفة -في التربية الإسلامية- لا تنفصل عن الحكمة.

فهما من وسائل الإيمان الراسخ “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، والإيمان الراسخ يصدقه العمل الصالح “الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، وكلاهما يؤدي إلى التزكية المستمرة للنفس الإنسانية.. حتى تصبح نفسا مطمئنة وكلها من وسائل التربية الإسلامية التي علا إيمانها بالتخصص، ويقينها من فوائده لا تعرف فصلا متكلفا بين معرفة الله ومعرفة بما خلق الله، أو بين معارف كونية ومعارف إنسانية، أو بين علوم بحتة وتطبيقية منعزلة عن بقية المعارف الإنسانية…، ودراسات أدبية لا تعرف منجزات العلوم البحتية والتطبيقية… فالمعارف كلها في التربية الإسلامية تلتقي على غاية واحدة هي معرفة الله والقيام بواجبات خلافته في هذه الأرض. وهديها في ذلك كتاب الله وسنة رسوله، ومجالها الكون كله، والإنسان بمختلف أبعاده، والحياة بكل مستلزماتها…، ومنطقها: ذلك التصور الإسلامي الصحيح عن الإنسان والكون والحياة وعن معنى “لا إله إلا الله”، ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في الدراسات الكونية، ولذا فإننا نجد القرآن الكريم -منذ أربعة عشر قرنا- يحض الناس حضا على الاهتمام بالنظر في الكون وفي كل مكوناته وأجزائه، وما به، والأخذ بأسباب ذلك كله للتعرف على الله والقيام بواجبات الخلافة على الأرض، وقد أحصى المفسرون مئات الآيات التي تحض على ذلك ومنها: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” (العنكبوت: آية 20).

“خلق الله السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير” (التغابن: آية 3).

“ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى” (الروم: آية 8).

“إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب” (آل عمران: آية 190).

“وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون” (الذاريات: آية 20، 21).

“قل انظروا ماذا في السموات والأرض” (يونس: آية 101).

“أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء” (الأعراف: آية 185).

“أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت. فذكر إنما أنت مذكر” (الغاشية: آية 17- 21).

“فلينظر الإنسان مم خلق. خلق من ماء دافق” (الطارق: آية 5، 6).

“فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم” (عبس: آيات 24- 32).

وعلى ذلك فالتربية في الإسلام يقترن فيها العلم بالإيمان، والمعرفة باليقين، وكلها وسائل للتعرف على الله عز وجل، وعلى بديع خلقه، حتى يستطيع الإنسان أن يقوم بواجبات الخلافة في الأرض، ويحقق رسالته في هذه الحياة.

10- إن العلم النافع يصدقه العمل النافع، كما أن الإيمان الصادق مقرون بالعمل الصالح، وعليه فإن التربية في الإسلام ليست مجرد كلام يلقن، أو نظريات تطرح، في معزل عن مجال التطبيق، وواقع الحياة، إنما هي ممارسة فعلية تتجسد فيها كل الأخلاق والقيم والحكمة التي تقوم عليها، وتتحقق فيها القدوة الحسنة في المربي، والاتباع الفطن في المتربي، فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي ابن عمر (عليهما رضوان الله) في حديث يقول فيه: (دينك دينك،  إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين قالوا، لأن الذين استقاموا قد اقتنعوا عن عقل)، وهذا هو القرآن الكريم يستهجن الأمر بالبر وعدم تطبيقه: “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون” (البقرة: آية 44)، ويوصينا: “والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” (سورة العصر).

11- إن التربية في الإسلام ضرورة إنسانية تقصد لذاتها.. لا للمرور المادي أو الاجتماعي الذي يمكن أن يعود على الإنسان من وراء تحصيلها، (وإن كان ذلك في حد ذاته ليس مستنكرا)، ولا لمجرد الترف الفكري المنفصل عن التطبيق في الحياة وتحقيق خلافة الله في الأرض، فالإنسان الفرد عمره محدود… وهو محاسب عن كل لحظة من لحظات وجوده فيما أفناها؟ وعن كل علم تعلمه ماذا أفاد به؟ وعن كل مال وصل إلى يديه: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ ثم إن له بعد هذه الحياة الموت، ومن بعد الموت البعث والحساب، ثم حياة أخرى خالدة، يلقى فيها جزاء ما قدمت يداه في هذه الدنيا.

فهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا (والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن عما تعملون ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا، وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا)، وهذا هو التنزيل ينطق: “ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون” (الأعراف: آية 129)، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد” (الحشر: آية 18)، “يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا” (النبأ: آية 40).

هذه الصورة الإسلامية الصادقة للوجود الإنساني تجعل له معنى لا يمكن أن يتحقق إذا كانت حياته مقصورة على هذه الدنيا فقط، وهي تبعث في الإنسان الضمير الديني الحق الذي يحاسبه دوما قبل أن يحاسب، ويزن عليه أعماله قبل أن توزن عليه… في عملية من المراجعة الذاتية الآنية التي تعمل على تطهيره، وتزكيته، وتسارعه في الخيرات باستمرار، فتحقق معنى التربية الإسلامية بكل أبعادها، في شمول، وكمال، ونور وهداية، وقيم، وأخلاق، وإنسانية، واستمرارية تعجز كل النظم التربوية الأخرى عن تحقيق جزء منها، وقد عجزت بالفعل عن ذلك باعتراف رواد التربويين المعاصرين (انظر استعراض أزمة التعليم المعاصر في صدر هذا البحث).

12- هذا التصور الشامل الحق للإنسان والكون والحياة يتوجه للتصور الصحيح لمعنى ألوهية الله، والذي يتلخص في قوله تعالى: “قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد” (سورة الإخلاص)، فهذا الخالق العظيم منفرد في وحدانيته الخالصة، وتنزيهه الكامل، لا شريك له في سلطانه، ولا شبيه له في ذاته وصفاته وأفعاله: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” (الشورى: آية 11)، فهو قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء من علمه، عادل لا يفلت ظالم من حكمته، متصرف لا يخرج شيء عن مشيئته، حكيم تتجلى في كل شيء حكمته، رحيم، تعم الكون رحمته، ونعيش في فيض من رعايته وعنايته، كبير متعال منزه عن حدود الزمان والمكان فهما من خلقه وصنعته هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، سبحانه له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، لا إله إلا هو، ولا معبود سواه.

هذه بإيجاز فلسفة التربية الإسلامية، وهي فلسفة تقوم على التصور الإسلامي للإنسان ورسالته في هذه الحياة، وللكون ودلالاته، ولعلاقة الإنسان به، وبخالقهما معا وهو الله. وبمعنى ألوهيته وتفرده بالعبادة لا شريك له، وهذا كله ينعكس بوضوح في تحديد أهداف التربية الإسلامية، ويتراءى في وسائلها، وفي رسم منهجيتها.

(ج) أهداف التربية الإسلامية:

إذا كانت النظم العلمانية (اللادينية) للتعليم تتجه إلى تكوين المواطن الصالح، فإن التربية الإسلامية تهدف إلى بناء الإنسان الصالح، وشتان بين الهدفين. فبينما الأول يقصر دوره في إطار القومية الضيق، فإن الآخر ينطلق إلى مجال الإنسانية الرحب، ويؤكد على الأخوة بين الناس، انطلاقا من قول رسولنا الكريم: (كلكم لآدم، وآدم من تراب)، وهذا المعنى الطيب، معنى الأخوة الإنسانية، لم يستطع التعليم العلماني تبينه، بل قد فشل حتى في مجرد الدعوة إليه.

وبينما يقتصر الصلاح في نظم التعليم اللاديني المعاصر، على مقدار النفع المادي الذي يمكن أن يعود على الفرد أو على المجتمع الذي يعيش فيه من اكتسابه لقدر من المعلومات أو لعدد من المهارات..، فإن التربية الإسلامية تضع الصلاح في إطار يشمل كل الجوانب المادية والمعنوية في الكون (الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والعلم النافع، والخلق القويم، وانعكاسات ذلك كله على الحياة بكل أبعادها، وعلى الأفراد والمجتمعات أينما وجد الأفراد وكانت المجتمعات، ومهما تباينت الألوان والألسنة واللهجات).

فالإنسان الصالح الذي يشكل هدف التربية الإسلامية هو إنسان يعرف ربه ويدين له بالطاعة والعبادة، ويعرف نفسه فيقدرها حق قدرها، في حدود العبودية لله وحده، ولكنها عبودية مكرمة لأن فيها نفخة من روح الله، مفضلة على سائر الخلق بالعقل، والقدرة على التفكير وعلى الاختيار، ويعرف رسالته: خليفة لله في الأرض، يعمر الحياة فيها، في ظل من حكم الله وشريعته وهداه…، ويجتهد في الوصول إلى الكمال الإنساني الذي رسمه له الله، اجتهادا اختياريا واعيا، مستخدما في ذلك كل الكلمات التي وهبها له الله، وكل العلم الذي حباه إياه، سواء كان علما سماويا عن طريق الوحي، أو إنسانيا مكتسبا عن طريق النظر في الكون بتفكر وتدبر وبصيرة، أو موروثا عن هذين المصدرين، وهو في كل ذلك مطالب بتحكيم العقل، منهي عن التقليد الأعمى والجمود على المفاهيم الخاطئة لمجرد أنها موروثة، ويعرف مصيره بعد هذه الحياة… موت ثم بعث ثم حساب عن كل ما قدمت يداه، ثم حياة خالدة قدرها له الله، يجزى فيها عن قيامه بتبعات التكليف والأمانة التي حملها في هذه الدنيا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وإنسان هذا شأنه: إنسان يدرك أنه لم يخلق عبثا…، وأن حياته ليست لهوا ولا لعبا…، وأنه محاسب عن كل لحظة من لحظات عمره…، وعن كل حاسة وجارحة في جسده…، وعن كل نشاط قام به عقله، وعن كل فائدة أفادها علمه، وعن كل مال اكتسبه أو أنفقه، وعن كل عمل قام به، وعن كل كلمة تحركت بها شفتاه. إنسان يدرك مسئولياته تجاه مجتمعه وأمته وبني جنسه، ويدرك حقوقه عندهم كما حددها له الله، إنسان يدرك أن الدنيا مزرعة الآخرة وهو محاسب عن كل ما يزرع فيها، وعن عمرانه لها، إنسان يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا، هذا الإنسان لبنة صالحة لبناء المجتمع الصالح الذي تحكمه خشية الله وتقواه، وكل ما يتبع ذلك من قيم وخلق وعدل اجتماعي، لا يمكن لقانون على الأرض أن يحقق شيئا مما يحققه، ومجتمع هذا شأنه هو بلا شك أمل البشرية كلها. وهو ليس مجتمعا خياليا… فقد تحقق في خلال الأربعة عشر قرنا الماضية تحقيقا فعليا أكثر من مرة.. وما زلنا نطمع في تحقيقه إن شاء الله بتأسيس حياتنا كلها، وفي مقدمتها نظمنا التربوية على أساس إسلامي صحيح.

(د) منهجية التربية الإسلامية:

إذا كانت فلسفة التربية الإسلامية هي مجموع الفكر المنطقي الذي يقوم عليه نظام تعليمي معين، له أهدافه، وأسسه، ومحتواه، وخططه وأساليبه ووسائله (إستراتيجياته)، وإذا كانت أهداف التربية تتلخص في الغاية منها، فإن منهجية التربية هي مجموع الإجراءات التي تتبع في تربية الإنسان لتحقيق الغاية المنشودة، وتجسيد الفلسفة التي تقوم عليها واقعا حيا يتحرك بين الناس.

والنهجية غير المنهاج، وإن كان أصلهما اللغوي واحدا (فالنهج والمنهج والمنهاج لغة هو الطريق الواضح)، وذلك لأن لفظة المنهاج في التربية قد قصرت على مجموع الموضوعات التي تختار كل مادة من جهة النوع والكم، والمنهاج تفصيل لخطة الدراسة التي تهتم بتعيين المواد الدراسة المختلفة، وتوزيعها على مراحل التعليم المتتالية، وعدد الدروس اللازمة لكل مادة، في كل مرحلة من هذه المراحل، وفي كل صف من صفوفها، بينما المنهجية تشمل الطرق التي تتبع في تربية الإنسان (أسسا، ومحتوى، وخططا، وأساليب، ووسائل، وهي على ذلك أشمل من المنهاج وأكمل وأعم).

وكما أن فلسفة التربية الإسلامية تتسم بالشمول، والتوحيد، والدعوة إلى التسامي باستمرار، فكذلك منهجيتها لها شمول في توازن محكم يجمع في الإنسان الفرد بين الروح والعقل والنفس والجسد، وهذا الشمول ليس شمولا في المحتوى فقط بل هو شمول في الزمان (من المهد إلى اللحد) وفي المكان (من البيت إلى المسجد، إلى المدرسة، إلى المجتمع، وفي صنوف المعرفة (ربانية ومكتسبة وموروثة)، وفي الوسائل والأساليب (الكتاب، المحاضرة، الندوة، البحث… الخ)، بل وفي الناس كافة كما سيرد تفصيل ذلك.

وكما توحد فلسفة التربية الإسلامية بين أجزاء الكون توحيدا يتوجه الخضوع لله وحده.. فكذلك منهجية التربية الإسلامية في تطبيقها، تجمع بين المادة والروح… وتؤكد على التلازم بينهما وبين الأخلاق، وبين الإيمان والعلم، وتؤكد على ربطهما بالعمل الصالح، وبين عبادة الله والسعي في عمران الحياة باعتبارهما صورة واحدة من صور العبادة، يلتقي فيها الفكر المتأمل الخاشع، والعمل البدني الكادح، والوقوف في محراب الصلاة. كما تجمع بين تطلع الإنسان إلى السماء، وارتباطه بالأرض، باعتبارهما من أبعاده البشرية، وبين دنيا الإنسان وآخرته باعتبار الدنيا رحلة إلى الآخرة، وبين الإنسان وغيره من بني جنسه… باعتبار أنهم أخوة… كلهم لآدم وآدم من تراب، وبين الإنسان والكون، باعتبار الإنسان جزءا منه، وإن تفرد بخلافة الله فيه، وبين الكون ومكوناته (من مادة وطاقة وزمان ومكان) والتي تتناهى إلى شيء واحد لا نعرف كنهه، ولكنه يمثل الوحدة العظمى التي تجري في هذا الكون على اتساعه….، وبين هذا الكون المذهل في اتساعه، الموحد في لبناته، المتعدد في هيئاته… وبين خالقه العظيم الذي يتوحد في عبادته كل موجود.

“تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم” (الإسراء: آية 44).

والتسامي في منهجية التربية الإسلامية مناطه أن الإنسان هو المخلوق الحي، العاقل، القادر، المختار، المكلف، المزود بملكات متعددة، والمؤيد بالرسالات السماوية، والذي سخر الله له الكون لتمكينه من تحقيق رسالته السامية، والقيام بتبعات خلافة الله في الأرض، والاجتهاد في الكمال الإنساني باختياره، اجتهادا عالما واعيا، يدعمه في ذلك الإيمان بالله، والإقرار بوجوده، واليقين من اطلاعه على أعماله ما ظهر منها وما بطن، والتسليم بأن الحياة، والموت، والبعث، والنشور، والحساب والآخرة حق لا مرية فيه ولا جدال.

وقد لا يتسع المجال في مثل هذه العجالة لمناقشة منهجية التربية الإسلامية ولكني سأحاول إيجاز ملامحها في النقاط التالية:

أسس المنهجية الإسلامية في التربية:

من البديهي أن أساس المنهجية الإسلامية في التربية هو الإسلام بشموله، ولكن قد يكون من المفيد التأكيد في ذلك على عدد من النقاط نوجزها فيما يلي:

1- الإيمان الصادق فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني، وذلك لأن الإيمان هو المصدر الوحيد لمعرفتنا بخالقنا، وبأنفسنا، وبرسالتنا في الوجود وكيف نقوم بها، وبمصيرنا بعد هذه الحياة وما يجب علينا عمله من أجله، وهو الذي يضع لنا أصول معاملاتنا، وقيمنا وأخلاقنا، ويخبرنا بما لا تدركه حواسنا في هذا الكون كله، وفي مسيرتنا فيه. وهذه أمور لا سبيل للإنسان في الوصول إليها بجهده منفردا، دون هداية ربانية، وإذا لم يعرف بها فإنه يعيش في حالة من الضياع والحيرة والقلق، أو الانفلات والتحلل والهمجية، تفسد عليه حياته، وتحرمه من إمكانية الارتقاء إلى مستوى التكريم الذي رفعه إليه الله، ومن إمكانية القيام برسالته في هذه الحياة، خليفة لله في الأرض، يعمرها، ويقيم حدود الله فيها، والإيمان هو وسيلة اتصال العبد بربه، ومصدر إشراق روحه وطمأنينة نفسه، وسعادة قلبه، وهدوء باله، واطمئنانه إلى مصيره، وهي أمور إن خلت منها حياته –فضلا عن منهجية لتربيته- أتت حياته وتربيته فارغة جوفاء… لا خير فيها… ولا فائدة منها…

والإيمان من الأمور التي تستلزم قناعة فكرية منطقية، وعاطفية روحية في آن واحد. وهذه من الأمور التي لا يمكن أن يكتفي فيها بالتلقين اللفظي المجرد، فالتربية الإيمانية تتطلب شروطا لازمة في المربي، وفي البيئة وفي الصحبة، واستمرارية من المهد إلى اللحد، وتطبيقا عمليا في كل جانب من جوانب الحياة، واتصالا روحيا بين المربي والتربي، وتوفرا للقدوة الحسنة التي يقتدي بها، في التزام أدبي يمكن لهذه الهداية الربانية من التأصل في قلوب المتربين… فالدين قضية هامة في حياة الإنسان، لأن سبيل الحياة الذي يسلكه ينبعث ويتكون أساسا من تصوره للوجود، وتقييمه للحياة، وعليه فمن الواجب ألا يستهين الناس بالدين لأن في ذلك استهانة بحياتهم ووجودهم، أو يكتفوا بميراثه عن الآباء والأجداد، دون تحميص شخصي يفضي إلى القناعة العقلية، والاطمئنان النفسي، وإلا أصبح تقليدا أعمى، وميراثا محمولا دون فهم، أو مهملا دون وعي، أو جمودا على عدد من التقاليد البالية التي ليست من الدين في شيء، وكلها أمور نهى عنها الإسلام وحرمها.

2- العلم النافع فالإيمان يستلزم العلم النافع بشموله (الوحي السماوي المنزل، والعلم البشري المكتسب، وتراث الإنسانية الموروث)، والعلم النافع هو كل معرفة تزيد الإنسان صلة بالله، وتمكنا من القيام بواجبات خلافته في الأرض، وعمران الحياة فيها، وإقامة العدل الإلهي بين الناس، فالعلم في الإسلام مرتبط ارتباطا وثيقة بالأخلاق، وعليه فتسخير العلم في صنع القنابل الذرية والنووية والجرثومية وغيرها من أسلحة الدمار اللاأخلاقية ليست من العلم النافع، وأجهزة التجسس والتصنت لكشف عورات الناس والمجتمعات لا تدخل في إطار العلم النافع. كذلك فإن العلم في الإسلام مرتبط بالعمل الصالح، فهو ليس ترفا ذهنيا معزولا عن الحياة ومشاكلها، لأن ذلك أيضا يخرجه عن إطاره النافع.

والقرآن الكريم يضع العلم في مكانة رفيعة. فالله سبحانه وتعالى هو “العليم”، وهو سبحانه يكرم أولي العلم بضمهم إليه في قوله: “شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط” (آل عمران: آية 18) وبقوله: “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر: آية 9) والعلم هنا مقصود بشموله لأن الإسلام لا يفصل بين دين مجاله الإيمان بالغيب فقط، وعلم مجاله الإيمان بالملاحظة والاستنتاج فقط، لأن الدين في الإسلام علم، والعلم جزء من الدين، وكلاهما يعتمد على الإيمان بعالم الغيب وعالم الشهادة معا، وبعالم الوجدان والشعور أيضا، غير أن دائرة الدين تشمل حقائق الأمور الثابتة، لأن الدين من الله خالق كل شيء، العليم الحكيم الخبير، أما العلوم المكتسبة فيقتصر دورها على محاولات الإنسان للتعرف على الحقيقة في حدود قدرات حسه وعقله، ونسبية زمانه ومكانه، وعلى ذلك فقد لا يتوفر له الوصول إلى حقيقة ما، إلا على مدى طويل جدا، قد يستغرق الجيل من وراء الجيل في عمل دائم دءوب، وهو يظل يراها في حدود قدراته على الرغم من ثبوتها واطراد تأثيرها… فالكون بمكوناته وسننه وقوانينه مجال من مجالات الحق يكتشف الإنسان فيه سنن الله ونواميسه، ويرى حكمته وإتقان صنعه، ودقة ترابطه ووحدة بنائه. وكلها تنطق بوحدة الخالق العظيم وتدل على قدرته.

وعلى ذلك لم يكن مستغربا أن يحض القرآن الكريم الناس على النظر والتفكر والتدبر والتأمل في كل نواحي الوجود، بلا حدود أو قيود إلا إذا كان في ذلك إضرار بالإنسان والإنسانية، فالقاعدة الإنسانية في الإسلام: أنه لا ضرر ولا ضرار. ويحصى المفسرون أن في القرآن الكريم أكثر من سبعمائة وخمسين آية صريحة تتعلق بالعلوم الكونية، بينما آيات الفقه لا تتعدى المائة والخمسين.

ومجالات العلم النافع في التربية الإسلامية تشمل الوجود كله، والحياة بمختلف صور النشاط فيها: مادية ومعنوية، والمعرفة على تعدد دروبها: من المهارات اليدوية، إلى العلوم البحتة والتطبيقية، إلى فلسفات العلوم، إلى الدراسات الإنسانية بفنونها وآدابها، إلى الفلسفة، إلى دراسات العقيدة الإسلامية، وكلها يتجسد فيها معنى ألوهية الله، ووحدانيته، وخضوع الإنسان له بالعبادة، وخلافته في الأرض. وفي ذلك يقوم الإمام الغزالي (عليه رحمة الله، في كتابه الإحياء: الجزء الأول ص52، ص 53) ما نصه: (فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد على الله تعالى، أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة، ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود، والقوام بها حفظة كحفاظ الرباطات والثغور، ولكل واحد رتبة، وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى، ولا تفهمن من غلونا في الثناء على علم الآخرة: تهجين هذه العلوم، فالمتكلفون بالعلوم كالمتكلفين بالثغور والمرابطين بها، والغزاة المجاهدين في سبيل الله، فمنهم المقاتل، ومنهم الردء، ومنهم الذي يسقي الماء، ومنهم الذي يحفظ دوابهم ويتعهدهم، ولا ينفك أحد منهم عن أجر إذا كان قصده إعلاء كلمة الله تعالى دون حيازة الغنائم فكذلك العلماء”. ويروى عن الحسن البصري قوله: تعلما لعلم فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة،….).

2- الأخلاق الفاضلة:

وهذه أيضا ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني، ومن ثم من أسس المنهجية الإسلامية في التربية، فالقرآن الكريم لم يكتف بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة في مختلف أطرها (الفردية، والأسرية، والاجتماعية، والدولية، والدينية) في تفصيل دقيق، وأحكام وشمول فحسب، بل إنه قدم للإنسانية دستورا أخلاقيا شاملا تنتظمه نظرية مفصلة توضح كل العناصر الضرورية اللازمة لتكوين فكرة دقيقة عن الطريقة التي ينبغي أن نتصور بها معنى الأخلاق، ومن أين تأتي القاعدة الأخلاقية؟ وبأي شروط تفرض نفسها؟ وما النتائج التي تترتب على موقفنا منها؟ وما المبدأ الذي يجب أن يلهم سلوكنا؟ وبأي وسيلة تنال الفضيلة؟ نظرية أخلاقية فريدة عمدها الرئيسية الإلزام، والمسئولية، والجزاء، والنية، والجهد (دراز، 1948، 1974م)، وإطارها حد أدنى من الأخلاق الفاضلة تفرض على الإنسان العادي، وما زاد عن ذلك فهو كمال يحث عليه القرآن الكريم، ويدعو إليه، وهو ميدان فسيح يتنافس فيه المتنافسون، وتتفاوت فيه درجات الفضل والمثوبة، وهذه صورة رائعة من صور التيسير الإلهي على الناس حسب جهودهم وطاقاتهم، والحث على التنافس في الخير يلخصه المولى عز وجل في حديثه القدسي الذي يقول: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرتهن وأحب ما تعبدني عبدي به النصح لي”. (رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة).

والإسلام يؤكد على أن الحاسة الخلقية انبعاث داخلي فطري في الإنسان، لأن القانون الأخلاقي قد طبع في النفس الإنسانية منذ نشأتها: “ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها” (الشمس: آية 7، 8)، إلا أن عوامل التربية والبيئة، وما ينشأ عنها من إلف وتعود، قد تنمي هذه النوازع الفطرية التلقائية في الإنسان، أو تفسدها. فإذا أفسدتها خبا نور البصيرة الفطرية، واختلط على الإنسان الأمر. فعاش في متاهات من التردد، والتخبط، والحيرة، والضياع… بدلا من نور اليقين الأخلاقي الذي حدده له الله. وهذه النظرية الأخلاقية في القرآن ضرورية للقناعة البشرية. فكما أنه لا عقيدة بدون أخلاق، فإنه لا أخلاق بدون عقيدة، والعقيدة هنا تتصل بالأخلاق ذاتها، ومعناها الإيمان بالحقيقة الأخلاقية كحقيقة قائمة بذاتها تسمو على الفرد، وتفرض نفسها عليه بغض النظر عن أهوائه ومصالحه ورغباته…( دراز، 1948، 1974).

وهنا تتضح ضرورة الأخلاق الفاضلة كأساس هام من أسس العملية التربوية ومنهجيتها. ولذلك فإن التربية الإسلامية في جميع أبعادها تربية أخلاقية هدفها المحافظة على الفطرة الإنسانية السليمة وتنميتها في الاتجاهات الربانية الفاضلة “ولله المثل الأعلى”، فالأخلاق الفاضلة هي إطار التربية الإسلامية، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفتها، وأهدافها، ومحتواها، وخططها، وأساليبها ووسائلها.. وهي –شأنها شأن الإيمان- لا يمكن أن يكتفى فيها بالتوجيه اللفظي المجرد، بل إن الممارسة الفعلية المستمرة منذ اللحظات الأولى للإدراك، حتى تترسخ بالألف والعادة، وباتباع القدوة الحسنة، وبالقناعة العاطفية والفكرية، وحتى تغرس في النفس، وتصبح جزءا من الكيان الإنساني. هي سبيل المنهجية الإسلامية للتربية، والأخلاق في الإسلام هي جزء لا يتجزأ من الدين، ويكفي في ذلك الإشارة إلى قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقوله عن الدين أنه (حسن الخلق)، وقوله (أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق)، وقوله (حسن الخلق خلق الله الأعظم)، وقوله (كرم المؤمن دنيه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله)، وقوله (إن أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)، ويكفي أن القرآن الكريم يعنه صلى الله عليه وسلم بالنص القاطع: (وإنك لعلى خلق عظيم).

وهنا تختلف الأخلاق في التربية الإسلامية عنها في أية تربية أخرى، وإن تشابهت المسميات. وفي ذلك كتب الدكتور السيد محمد بدوي في تقديمه لكتاب المرحوم الدكتور دراز (دستور الأخلاق في القرآن) ما نصه “…فعلى حين أن الملحد العقلاني يقف نظره عند فكرة جامدة، أو عند مفهوم مجرد، أو عند كيان أخرس لا حياة فيه نجد أن المؤمن يتعرف في هذا النداء الداخلي على صوت معبوده، ويترجم في ثنايا قلبه الرسالة السماوية لخالقه، ونجده خلف الفكرة يلمح حقيقة حية مؤثرة، ويشعر أنه مرتبط بها ارتباطا عضويا، ويستمد منها على الدوام القوة والنور، ويشعر نحوها بأعمق مشاعر الاحترام ممزوجة بأرق مشاعر الحب. هذه الشعلة العاطفية التي تحرك إيمانه العقلي، تغذي في الوقت نفسه طاقاته الخلاقة. وهو حين يتوقف أو يسقط لا ييأس منه أنه سيعاود الوقوف على قدميه ومتابعة المسيرة، معتمدا على تلك القوة الهائلة التي يستمد منها العون وبذلك يمكن القول أن الأخلاق لا تجد مكانا أكثر خصوبة، تزدهر فيه، من ضمير المؤمن”.

تلك هي الأخلاق القرآنية… أخلاق قدوتنا، وزعيمنا، ومعلمنا. محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه (أخلاق في عقيدة، وعقيدة في أخلاق). مصدرها خالق السماوات والأرض ومن فيهن العليم الخبير. وهي الأخلاق التي تتبناها التربية الإسلامية… منهجا وإطارا، وهدفا، وغاية. أخلاق ربانية من نور، تتسم بالتوازن السوية والاعتدال، وبالحدود الواضحة المحددة. وهي بالقطع مغايرة لكل القيم الوضعية.. لأن غايتها الله.. وغايات القيم الوضعية المصلحة المادية الآنية الفانية ولا شيء سواها. وليس معنى أننا نقصد الله بأخلاقنا… إن هذه الأخلاق لا تهتم بأمور الدنيا، فعلى النقيض من ذلك تماما: نجدها أساس عمران الحياة على الأرض، ووسيلة استقامة الحياة فيها. إلا إنها حينما تقيم تلك الحياة على أمتن دعائم، وأقوى أسس….، فإنها لا تقصدها لذاتها….، بل تتعداها إلى ما فوقها….إلى الله. ملك الملك، ومُجري الخيرات، وواهب النعم. وذلك هو شمول الأخلاق في التربية الإسلامية، شمولا يعبر من الدنيا إلى الآخرة بالخير والأمل والنور والرجاء، ومن قلب الإنسان إلى جوارحه بالرضا والقبول والالتزام. ومن الإنسان إلى الكون كله… بالمواءمة والاتفاق والانسجام.

4- العمل الصالح:

وهو أوضح ضرورات الوجود الإنساني، ومن ثم ضرورات المنهجية الإسلامية في التربية. وهو نتيجة طبيعية للإيمان الصادق، والعلم النافع، والأخلاق الفاضلة. بل هو تجسيد عملي لها جميعا، فالقرآن الكريم يقرن الإيمان دوما بالعمل الصالح: “الذين آمنوا وعملوا الصالحات” ويتردد ذلك في مواضع عديدة تؤكد على أنه لا انفصام بينهما، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يعرف الإيمان بأنه “ما وقر في القلب وصدقه العمل”.

والإسلام كذلك لا يقبل العلم منفصلا عن العمل، لأن العمل هو وفاء الإنسان بالتزامه تطبيق ما يتعلمه، وعليه فهو مسئول يوم القيامة عن علمه ماذا عمل به؟ (الحديث)، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يعلمنا بقوله: (تعلموا العلم فإذا علمتم فاعملوا) ويؤكد ذلك أيضا بقوله: “تعلموا العلم وانتفعوا به، ولا تتعلموا لتتجملوا به” وقوله: “لا يكون المرء عالما حتى يكون بعلمه عاملا”. والعمل الصالح في الإسلام يشمل كل أوجه النشاط التي يقوم بها الإنسان وفاءا بأعباء الأمانة التي حملها، والتزاما بواجبات خلافة الله في الأرض، فأداء الفروض الواجبة عبادة، والكدح في الأرض لكسب لقمة العيش الشريفة وعمران الحياة على الأرض عبادة، وطلب العلم عبادة، والتفكر عبادة، والعدل بين الناس عبادة، بل أن كل خير يحققه الإنسان لنفسه، أو لأسرته، أو لمجتمعه، أو لأمته، أو للإنسانية على عمومها –إذا كان خالصا لله- هو صورة من صور العبادة.

والعمل الصالح هو تعبير صادق عن مدى إيمان الإنسان، وعلمه وخلقه بل عن مدى نجاحه في القيام برسالته في هذه الدنيا فالله تعالى يعلمنا بقوله: “الذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” (الملك: آية 2) وقوله: “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن إلى ربك المنتهى” (النجم: آية 39- 42).

وعلى ذلك فلا يمكن للإيمان، أو للعلم، أو للأخلاق أن تبقى حروفا تسطر، وألفاظا تحفظ، ومعاني جميلة تناقش دون أن يصاحب ذلك تطبيق عملي في الحياة، وهذا هو الالتزام الأخلاقي في التربية الإسلامية. وإذا كان العمل في بعض الفلسفات الوضعية المعاصرة يقصد لذاته.. على أنه القيمة الوحيدة في الحياة، فإن العمل –على أهميته في التربية الإسلامية- يقصد به وجه الله.. وشتان ما بين الغايتين!!

المحتوى في منهجية التربية الإسلامية:

من الأسس السابقة يتضح مدى خطأ البعض في اعتبار التربية الإسلامية مساوية لما هو معروف “بالتربية الدينية عند غير المسلمين، والتي تقتصر عادة على الجوانب الوجدانية والعاطفية في الإنسان، دون تطرق إلى عللها العقلية، وعلاقاتها بالفكر والسلوك، ومسئولياتها عن واقع الحياة العملية، وإيجاد الحلو لمشاكل الإنسانية أفرادا ومجتمعات..!!

وكذلك يتضح خطأ البعض الآخر في قصر التربية الإسلامية على الجانب الديني الخالص (بكل أبعاده الوجدانية والعاطفية، والعقلية والفكرية، والعملية السلوكية)، وفصلها عن بقية المعارف الإنسانية، وهذا اتجاه خاطئ انتقلت عدواه إلينا من خارج حدود العالم الإسلامي… انطلاقا من الشعار المطروح هناك (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، لأنهم لا يدركون حقيقة أن قيصر وغيره لا بد وأن يحكم بما أنزل الله. ولذلك انقسمت المعارف عندهم إلى دينية ودنيوية، وتضاءلت المعارف الدينية حتى تقلصت على هيئة ترانيم وتراتيل. يؤدونها أحيانا بلغات لا يفهمونها، ولا يعقلون دلالاتها. وانطلقت المعارف الدنيوية مستقلة عن الدين، بغير هداية ربانية، فضلت وأضلت، على الرغم من كل ما حققته من انتصارات في مجال المعارف البحتة والتطبيقية..!!!

والتربية الإسلامية هدفها (الإنسان الصالح)، لا (الإنسان المتدين فقط) فالتدين إذا لم ينعكس على الإنسان ومحيطه صلاحا، ونورا، وهداية، وإشراقا. فلا قيمة له… فالرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول (والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر صلاة ولا صياما ولا اعتمارا. ولكنهم عقلوا من الله مواعظه فوجلت قلوبهم، واطمأنت إليه النفوس، وخشعت منهم الجوارح، ففارقوا الخليقة بطيب المنزل وبحسن الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة) (منتخب كنز العمال في هامش سنن الإمام أحمد 172-1). والإنسان الصالح هو الذي يعرف ربه فيعبده حق عبادته. ويعرف نفسه: خليفة الله في الأرض. فيقدر ذلك حق قدره، ويعرف تفاصيل رسالته في الحدود التي وضعها الله له، فيقوم بها حق قيام، ويؤمن بأن ذلك كله يستلزم علما بالكون ومن فيه وما فيه، ودراية بأساليب عمرانه… وأزهار الحياة فيه… فيقبل على دراسة الإنسان بمختلف جوانبه الجسدية الصحية، والنفسية الوجدانية، والعقلية والفكرية، والروحية التعبدية، وعلى دراسة الحيوان، على تعدد صوره وهيئاته، وتوزيعه وتقسيماته، وصفاته الجسدية التشريحية وخصائص أعضائه الوظيفية، وعلى البحث في النبات، بتنوعه: هيئة، وتشريحا، وتوزعا، وتصنيفا، وثمارا، وأزهارا، وعلى دراسة المادة وخصائصها والطاقة وصورها، والظواهر الطبيعية، والسنن التي تحكمها، والكون على عظم اتساعه، ووحدة بنائه، من أدق دقائقه (وهي الذرة) إلى أكبر وحداته (وهي المجرة)، وهذا مجال العلوم البحتة في المعرفة الإنسانية وتطبيقاتها في كل ما يحتاجه الإنسان لعمران الأرض وتيسير وسائل العيش فيها، من نشاطات زراعية وصناعية وتجارية وسياسية ورياضية وحربية وتطويع السنن الكونية وتسخيرها في خدمته، وكل ما يستلزم ذلك من مهارات ذهنية ويدوية. يشكل مجال العلوم التطبيقية، وكلا المجالين: العلوم البحتة، والعلوم التطبيقية.. من المجالات الهامة في حياة الإنسان على الأرض، ومن ثم: فهما من المكونات الأساسية للتربية الإسلامية.

من ذلك يتضح أن التربية الإسلامية كما تشمل الدراسات الدينية الخالصة (العقيدة، العبادات، المعاملات، والأخلاق… كما وردت في القرآن وعلومه، وفي الحديث ودراساته، وفي الفقه وفي الشريعة (والدراسات الإنسانية) اللغات وآدابها، علوم التاريخ والاجتماع، والنفس والتربية والفلسفة، والفنون على تباين صورها، والاقتصاد، والإدارة، والسياسة، والإحصاء، والمحاسبة (دراسات العلوم البحتة) الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، علوم الحيوان والنبات، علوم الأرض، علوم البحار والمحيطات، علم الفلك. (دراسة العلوم التطبيقية) الطب بفروعه… والصيدلة بمجالاتها، والهندسة بمختلف تخصصاتها، الزراعة ونشاطاتها…الخ)، وكل ما يمكن أن يستجد من المعارف النافعة، والتي تلبي حاجات الإنسان الدينية الخالصة، والعلمية البحتة والتطبيقية، والوجدانية العاطفية… على أن تبقى مصادرها –كما سبق أن أسلفنا- الوحي السماوي المنزل، والعلم البشري المكتسب عن طريق النظر والتأمل والتفكر والتدبر وتحكيم العقل، وتراث الإنسانية المطور المنقح الخالي من التقليد الأعمى والجمود، وهي كلها تتعاون في مد الإنسان بالمعرفة اللازمة لوجوده فيكل من عالم الشهادة، وعالم الغيب، وعالم الوجدان… معرفة موحدة، متصلة، مترابطة، تلتقي على التصور الكلي الشامل للإنسان والكون والحياة، للدنيا والآخرة.. لبني آدم وغيرهم من المخلوقات… للمادة والطاقة… وللزمان والمكان.

وهذه المعارف لا يمكن لبشر مهما أوتي من القدرة أن يستوعبها ومن هنا وجب التخصص.. لكل حسب ميوله.. وملكاته، وقدراته، ولكن قبل التخصص لا بد للإنسان من التربية الشاملة التي تعده لذلك.. وأقول الشاملة لأنها لا بد من أن تشمل كل ملكاته الجسدية والعقلية والنفسية والروحية فتنميها، وتغذيه بالمعرفة اللازمة لفهم رسالته في الحياة.. وتكتشف ميوله فتوجهه إلى التخصص الذي يتلاءم مع تلك الميول.

إستراتيجية التربية الإسلامية:

تعرف الإستراتيجية عادة بأنها: صياغة الاختيارات في مجموعة من الإجراءات لتحديد ما يجب عمله تبعا للحالات التي قد تعرض في المستقبل. وليس المقصود بالإستراتيجية هو مجرد الانتقال بالمبادئ إلى الصعيد العملي حتى تصبح واقعا ملموسا، بل تقديم العناصر التي يمكن الاعتماد عليها في التخطيط لإنجاز الأهداف. والسياسية التربوية هي الخاصة التي تحدد فيها الاختيارات الرئيسية للدولة في هذا المضمار، وهي تصاغ كتابة من قبلها، أو من قبل المفوضين منها للقيام بهذه المهمة، مع مشاركة أفراد الأمة في وضع تلك السياسة أو الحصول على موافقتهم الضمنية عليها، فالسياسة التربوية لا بد أن تعبر عن عقيدة الأمة، وتقاليدها، وقيمها، وأهدافها الرئيسية من الحياة، وتصورها للمستقبل، وعلى ذلك فلا بد في تحديد السياسة التربوية من التأكد من أن أهدافها المحددة مستخلصة من الاتجاهات العامة لسياسة البلاد، ومتمشية مع كل من أهدافها العامة، والأهداف المحددة في القطاعات الأخرى، وفي ذلك كتب فور ومن معه (1974، ص 234) ما نصه: “إن السياسة التربوية لا تنحصر في رسم بعض المبادئ التوجيهية العامة، بل لا بد من أن تشتمل على مجموعة من الأهداف الخاصة المترابطة فيما بينها ترابطا قويا، ومن بينها الأهداف ذات الطابع الروحي والفلسفي والثقافي”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر