لقد تسلل الفكر الغربي في فلسفاته الفكرية ومذاهبه العقائدية بما فيها من حق وباطل، وصحيح وزائف، وصدق وإفك، وخير وشر من خلال التعليم، وعبر جميع فروع المعرفة والثقافة إلى عالمنا الإسلامي يحمله الاستعمار بجيوشه، والغزو بشتى أنواع جنوده ودخل دخول القوي المستعلي بقوة الظاهر وفتنة الباطن.
وقد اتخذ الفكر الغربي جميع خصائصه من جميع العلوم وفروع المعرفة جسرًا يعبر عليه من العلوم الطبيعية التي أحلت فيها الطبيعة محل الإله الخالق فهي التي تعطي للمخلوقات ما لها من صفات وتزودها بالخصائص وهي الفاعلة الخالقة المقدرة المدبرة وهي نفسها كذلك المخلوقة المدبرة –حتى العلوم الإنسانية التي جعلت من الإنسان- بصفته إنسانًا متميزاً عن بقية الكائنات موضوعها لبحثها كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والتربية والأخلاق والأدب والحقوق التي تبحث عن المعرفة الإنسانية والنفسية الإنسانية والمجتمع الإنساني وتاريخ الإنسان وطرق تثقيفه (تعليمه وتهذيبه) ومقاييس الجمال والحق لديه.
وقد كانت أقوى شحنة من تأثير الفكر الغربي عن طريق هذه العلوم الإنسانية؛ ذلك لأن لها خلفيات عقائدية فهي تنطلق من تصور معين للوجود كله وتشمل على مقاييس الحق والخير والجمال المنبثقة عن هذا التصور وتختفي هذه الخلفيات وراء ظاهرها العلمي. فالتصور العام الذي انتهى إليه الفكر الغربي بتأثير عوامل مختلفة تفاعلت للكون (الطبيعة) وللإنسان فرداً (علم النفس) وجماعة (علم الاجتماع) وتطوراً (التاريخ) ولمقاييسه للحقيقة (الفلسفة) وللحق (الحقوق) والخير (الأخلاق) والجمال (الأدب) هو الأساس الذي تقوم عليها والصعيد الذي تنطلق منه في فروعها وجزئياتها.
وهذا التصور العام للوجود –في الثقافة الغربية- والخلفية العقائدية لفروعها المختلفة تجري في كل منها مجرى الحقائق المسلمة التي اصطلح أهلها على الإيمان بها والتسليم بها جيلاً بعد جيل، تسليماً لا يقل عن تسليم أهل الأديان بعقائدهم، ولا سيما بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة منهم فهم في قبول هذه العقائد –التي يزعم أنها علمية أو عقلية- مقلدون لا يقبلون وضعها موضع البحث والنقد، فضلاً عن أن تكون موضع شك أو إنكار فتنساب في الكتب المقررة وفي الحديث فيما بينهم على أنها من البديهيات المسلمة أو من الحقائق الثابتة. هكذا هي عند أجيال الغربيين أو أكثرهم وجمهرتهم الآراء المتعلقة بالدين والإله والوحي والنبوات أصل خلق الإنسان ونهاية الحياة والخير والشر والفضيلة والرذيلة. والفرق بينهم وبين أهل الأديان، ولا سيما منهم أن هؤلاء إنما قبل أوائلهم الحقائق الدينية بعد محاكمتها عقلياً وبعد التدقيق في أحوال قائليها وهم الأنبياء وسيرتهم وتطبيق مقاييس النقد في صدقهم وسلامة عقولهم لتصديقهم في ادعاء الوحي الإلهي، وجميع الأجيال اللاحقة تعاود المحاكمة نفسها يكون إيمانها عن قناعة عقلية لا عن تقليد.
ونستطيع أن نلخص هذه الحقائق العقائدية المشتركة بين فروع المعرفة والثقافة الغربية بقولنا: الوجود كله منحصر في الإنسان والطبيعة وهو جزء منها ونوع من أنواعها والطبعية وجدت هكذا بنفسها وكذلك سننها أو قوانينها فهي مقدرة بنفسها من غير مقدر لها. والعقل وحده طريق معرفة الحقائق وليس ثمة طريق آخر. وليس المثل الأخلاقية والقيم والمفاهيم الحقوقية إلا وقائع أو حوادث كالحوادث الطبيعية نشأت وتطورت فهي ليست ثابتة. والإنسان نفسه إنما هو حيوان اجتماعي مفكر فحسب وليست النفس الإنسانية إلا مجموعة من الغرائز.
هذه هي جذور هذه العقائد الغربية سواء عند العقلانيين Rationalistes أم عند الماديين Materialiskes، ولا يشذ عن الإيمان بها واتخاذها أساساً ومقياساً إلا فئة قليلة جداً هي بقية باقية من المؤمنين بالتفكير الديني المسيحي. ليس في هذه الفلسفة أو الأساس الاعتقادي أو التصور الوجودي مكان للإله وصلته بالكون ونظامه السببي وبالإنسان ولا الوحي والنبوات ولا للجزاء والحياة الخالدة ولا المثل العليا الأخلاقية، ولا سيما ما كان مصدره الدين ولا لسائر الغيبيات (ما وراء الطبيعة).
إن هذه المفاهيم منبثة مفرقة في مختلف العلوم التي تعلم في نظم التعليم السائدة في العالم الإسلامي، ويتكون من مجموعها مركب فكري عقائدي يخالف الإسلام مخالفة جذرية وتكون أساساً يتجافى ويتنافى مع الإسلام وحصتان أو ثلاثة لتعليم الدين في التعليم الابتدائي وحصة أو حصتان في الثانوني، ولا سيما إذا كان المنهج ناقصاً والأسلوب غير صالح لا تقف مطلقاً أمام هذا الشحن الفكري المستمر خلال سنين طويلة في أكثر من ثلاثين ساعة أسبوعية في الابتدائي وأكثر من عشرين ساعة في الثانوني، وقريباً من ذلك في التعليم الجامعي وما فوق الجامعي مع ما تلقيه دور النشر والطابع من كتب ودوريات مشربة بالروح نفسها.
إن هذه المشكلة هي أكبر المشكلات كلها بالنسبة على العالم الإسلامي لا لأنها تفقده ذاتيته وشخصيته فحسب، بل لأنها تجعله يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ويخسر رأس مال يملكه ويمكن أن يسعد به الإنسانية كلها. وأن هذا النوع من الغزو أشد أنواعه فتكاً ولم تعرف الأمة الإسلامية في التاريخ كارثة أشد هولاً وأفظع في نتائجها منها ولا تعدلها كارثة التتار ولا الحروب الصليبية ولا حروب الاستعمار. بل إن جميع المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية فروع لهذه المشكلة الأساسية.
لقد كان من نتائج هذا الغزو الثقافي الفكري وخاصة في ميادين العلوم الإنسانية إلغاء التشريع الإسلامي الخالد ذي المعالم الثابتة في أهدافها الأخلاقية والإنسانية والصيغ المرنة المتبدلة في مواجهة الأوضاع المستجدة والأحداث النازلة وإحلال التشريع الغربي مكانه. وكان من نتائجه أن نستبدل بالثقافة الإسلامية بمعناها الواسع المستوعب الثقافة العربية، ويكتفي برقعة تلصق بها يسمونها التعليم الديني ليزداد المنظر تنافراً والتناقض النفسي شدة. وكان من نتائجه كذلك بناء نظام الحكم السياسي على أسس غير إسلامية يسمونها علمانية تزييناً لها وإمعاناً في الخدع ويسخرون لها صنائع ممن صنعوا على أعينهم ورموا على أحضانهم ويجعلون منهم أبطالاً لأوطانهم ترويجاً لصنيعهم في إقصاء الإسلام باسم الحياد الديني في المرحلة الأولى. وكان من نتائج هذا الغزو إعداد جيش من المثقفين ليكونوا المختصين لتنفيذ عملية تغريب التشريع ولتنفيذ عملية تغريب الحكم والدولة والسياسة، وخرجت جيوش الاستعمار باحتفالات كبيرة للترحيب بجيوش التغريب من أبناء المسلمين أنفسهم للتخطيط لإقصاء الإسلام، ثم لحصره وتطويقه في كل ميدان: في حصة الدين في التعليم وفي الأحوال الشخصية. في التشريع وفي مراسم حضور صلاة العيدين في ميدان الحكم وسياسة الدولة، ثم لإزالته من جميع الميادين وإتمام عملية التغريب والإلحاق. وقد تمت المراحل كلها في بعض البلاد الإسلامية وهي سائرة في طريقها إلى النهاية؛ إذ لم يتم التدارك في البلدان الأخرى.
إن حل هذه المشكلة ليس بطرد هذه العلوم وإيصاد الأبواب أمامها وهي في الأصل علوم لنا فضل السبق في العمل في ميادينها والتجديد فيها في تاريخنا الإسلامي الطويل وللشعوب الإسلامية إسهام في تقدمها. وإنما الحل الذي نطرحه وندعو إلى الأخذ به هو صياغة العلوم جميعاً صياغة إسلامية أو بعبارة أدق إقامتها على أسس إسلامية والسير بها من منطلقات إسلامية، أي بناؤها على التصور العام للوجود الذي يقدمه الإسلام.
إذ ما الذي يرجح التصور الغربي للوجود وهو ليس حقيقة عملية جاءت بها المختبرات أو المعامل أو المراصد، بل إنه لا يثبت أمام النقد العقلي وما أكثر ما تلون وتغير في الغرب نفسه بتغير المذاهب حتى أصبح مجرد مبرر لغايات وأهداف عملية. وهو كما يرى كثير من المفكرين الغربيين أنفسهم مجرد عقيدة dogme = dogma ليس عليها ولا على نفي عكسها دليل قاطع. ولو قابلنا هذا التصور الغربي للوجود بالتصور الإسلامي العام لوجدنا التصور الإسلامي مستوعباً له ومتمماً لنقصه وبه من الحجج العقلية ما يجعله على الأرجح ومن النتائج العملية ما يجعله الأفضل.
ويمكن أن نلخص هذا التصور الإسلامي العام في مقابل تلخيصنا السابق آنفاً للتصور الغربي بما يلي:
1- إن الإنسان والكون (الطبيعة) الذي يعيش فيه ليسا وحدهما في الوجود، بل كلاهما يبتدئ من الله خلقاً ووجوداً وينتهيان إليه مصيراً وهو المهيمن عليهما.
2- الطبيعة لم تخلق نفسها ولم توجد بنفسها، بل أوجدها الله وهي تسير على سنن مطردة وفق نظام مترابط الأجزاء والله الذي خلقها هو المقدر لسننها ونظامها.
3- العقل الإنساني ليس وحده أداة الوصول إلى الحقيقة، بل هناك طريق آخر وهو الوحي. ولكل منهما ميدانه واختصاصه: فالعقل أداة الوصول إلى حقائق الطبيعة. وهو معرض مع ذلك للخطأ والوحي أداة معرفة ما وراء الطبيعة (عالم الغيب).
4- الإنسان ليس حيواناً مفكراً فحسب، بل إن عناصر تكوينه تتجاوز ذلك فتزيد على العضوية والتفكير.
5- إن الله هو المشرع للإنسان كما قدر للطبيعة سننها وهو المجدد عن طريق الوحي المعالم الثابتة للأخلاق والحقوق والمجال مفسوح أمام الإنسان فيما وراء هذه المعالم الثابتة، مما هو قابل للتغيير والتبدل.
6- النبوات منذ بداية خلق الإنسان هي الصلة بين الإنسان والله لتزويده بالقيم الثابتة، وبما ينبغي أن يعرفه من عالم الغيب، وقد ختمت هذه النبوات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأنهيت سلسلة الرسالات السابقة المتفرقة في الشعوب برسالة خاتمة جامعة هي الإسلام الذي تبلغه وبلغه خاتم الرسل.
قبل البحث في عرض فكرة صيغة إسلامية لعلم الاجتماع: نرى أن نقدم عرضاً تحليلياً نقدياً لعلم الاجتماع الغربي في وضعه الحالي، ولا سيما في الجوانب ذات العلاقة بموضوع بحثنا.
1 – يلاحظ الدارس لعلم الاجتماع في عصرنا هذا أن لمؤلفيه والباحثين فيه اتجاهات مذهبية مختلفة، وأن لكل من هذه الاتجاهات المذهبية أثراً واضحاً في صياغة علم الاجتماع واتجاه النظريات ووضع الافتراضات والتعليلات. وهذه المذهبية التي نعنيها ليست منبثقة عن علم الاجتماع نفسه، بل هي خارجة عنه وقد لا تظهر للباحث مباشرة ولأول نظرة؛ لأنها قد تختفي وراء البحث. وإنما نعني بها المنطلقات العقائدية التي انطلق منها أصحابها مزودين، بل مدفوعين بما قبل الشروع ببحثهم في علم الاجتماع.
وأبرز هذه الاتجاهات المذهبية:
الاتجاه العقلاني retionaliste والاتجاه الماركسي والاتجاه المسيحي وخاصة الكاثوليكي بعض أصحاب هذه الاتجاهات يخفون مذهبهم واتجاههم كأصحاب الاتجاه المسيحي، وهم –وإن كانوا معروفين لدى الباحثين ولهم مؤلفون ومعاهد وجامعات ودور نشر خاصة بهم في كثير من البلدان- ولكنهم يوصفون عادة في بحوثهم الاجتماعية بأصحاب الاتجاه الفكري أو المثالي idealiste، أما الماركسيون فهم مجاهرون بوصف بحوثهم وعلومهم ومنها علم الاجتماع الماركسية. وإليكم نماذج من أقوالهم مأخوذة من كتاب (علم الاجتماع الماركسي) للمؤلفين: كونستانتينوف وكيل، قال المؤلفان:
“أن العلم الاجتماعي الذي يلتزم التزاماً صارماً بموقف المادية التاريخية، هو وحده القادر على ممارسة وظيفته الجوهرية الاجتماعية الخلاقة”. (ص 5) ويقولان أيضاً:
“ومن ثم نجد إلى جانب الارتباط العضوي العميق بين علم الاجتماع الماركسي والنظرية الاشتراكية العلمية فروقاً نوعية”. (ص 18).
وهما يقولان أيضاً بالجمع العجيب بين الموضوعية والالتزام المذهبي في علم الاجتماع والإخلاص للمبدأ.
“ويتطلب كل ذلك من علماء الاجتماع إحساساً عميقاً بالمسئولية والأمانة العملية والإخلاص للمبدأ والنزاهة والموضوعية والالتزام الاشتراكي” (ص 52).
ويتجاوز المؤلفان حد الالتزام إلى المقاتلة فيقولان: “ينبغي على المرء في دراسته لأثر القانون أن يكون قادراً بدرجة ملائمة على تقدير الإمكانات المتاحة، وعلى أن يقاتل من أجل تحقيق تلك التي تتوافق مع احتياجات التطور الاجتماعي التقدمي ومصالح الجماهير والطبقات الثورية التي تجسد هذه المصالح” (ص 16).
فلما يجوز للماركسيين أن يصبغوا جميع العلوم –وليس علم الاجتماع فحسب- بصبغتهم المذهبية ويتوقف بعض المثقفين عندنا ومنهم بعض أساتذة علم الاجتماع عن صيغ العلوم بالصبغة الإسلامية، ومنها علم الاجتماع وليس المنطلق المذهبي الماركسي أكثر قابلية للدفاع عنه بالحجج العقلية والموضوعية من المنطلق الإسلامي، بل العكس هو الصحيح لدى الباحث المتعمق الواعي.
إن السبب في اعتقادي هو انغماسهم في التقليد والتبعية وعدم قدرتهم عن التحرر منها ومن الوقوع تحت تأثير الدراسات الغربية والخروج منها إلى الذاتية والشخصية المستقلة.
القضية واضحة وبسيطة: ذلك أن لكل مذهب من المذاهب التي ذكرناها فلسفة للوجود، أي نظرة أو تصور عام للوجود خاصة به يدافعه عنها، أو ليس للإسلام نظرة وتصور عام للوجود عبر عنها القرآن الكريم بوضوح وهي نظرة متميزة دقيقة أشمل وأكثر استيعاباً من جميع النظرات الأخرى، ولها من سلطان الحجة في الدفاع عنها ما يجعلها متفوقة على جميع النظرات الأخرى.
فلماذا تنطلق المذاهب الأخرى –التي ينتمي إليها الباحثون في علم الاجتماع جميعاً- من منطلقاتها المذهبية (فلسفتها الوجودية – أونتولوجي) ولا ينطلق الباحثون المسلمون من منطلق الإسلام في نظرته الدقيقة الصحيحة.
2- إن في علم الاجتماع الحديث مذاهب اجتماعية مختلفة لكل منها نظرته إلى الحوادث الاجتماعية ومنهجه وتفسيره لها. واختلاف هذه المذاهب ناشئ عن اعتقاد كل منها بتفسير خاص للحوادث الاجتماعية بترجيح أحد العوامل المؤثرة فيها.
فهناك المذهب والتفسير البيولوجي (العضوي) والمذهب النفسي والمذهب السكاني (الديمجرافي) والاقتصادي والفكري والاعتقادي وغيرها.
إن الحوادث الاجتماعية معقدة التركيب متعددة الجوانب والعوامل المؤثرة وعلماء الاجتماع مختلفون، ولا يزالون مختلفين في الاعتقاد بترجيح أثر أحد العوامل على غيره.
فالمجال إذن فسيح لتعدد النظرات والمذاهب في حدود البحث العلمي.
3 – في علم الاجتماع نوعان من الموضوعات والحقائق والنظريات يوضعان في قرن واحد أمام الباحث العادي وهما جد مختلفين في نظر المدققين من علماء الاجتماع أنفسهم ومن المهم جداً التفريق بينهما:
الأول منهما: الحوادث الاجتماعية التي هي تحت سمعنا وبصرنا ما يمكن مشاهدته ودراسته ووصفه وتصنيفه واستخراج سننه المطردة.
إن هذا القسم من علم الاجتماع هو الذي يمكن أن يكون علمياً إلى حد كبير، وإن كانت درجة هذه العلمية لا تبلغ ما تبلغه البحوث في الحوادث الطبيعية لتعقد الحوادث الاجتماعية واستحالة إخضاعها لما تخضع له في الحوادث الطبيعية من طرائق ومناهج وتجارب؛ ولذلك كان من الصعب الوصول إلى قوانين ثابتة يقينية وإلى تنبؤات علمية لا تتخلف.
وعلى كل حال فإن الموقف الإسلامي من هذا القسم كما نبين هو الإسهام في هذه الأبحاث والاستفادة من أبحاث غيرنا مع التنبه للأغراض والأغلاط وأخطاء المنهج وما ينشأ عنها أحياناً من نتائج خاطئة.
النوع الثاني: من مباحث علم الاجتماع ما يتناول البحث فيه أموراً لا يمكن إخضاعها لطرائق البحث العلمي الدقيق ولا لمراقبة النتائج وذلك كالبحث في أصل اللغات ونشأة الأديان وما إلى ذلك.
إن البحث في تطور اللغات وسنن تطور أصواتها ومعاني مفرداتها وتراكيب جملها بعد ظهور هذه اللغات هو من النوع الأول الذي يمكن بحثه والوصول فيه إلى نتائج صحيحة أو قريبة من الصحة، وكذلك البحث في الظواهر الدينية بالنسبة لكل دين عند المؤمنين به هو من الأمور المشاهدة التي يمكن جمعها والنظر فيها ومقارنة بعضها ببعض وهو كذلك من النوع الأول.
أما البحث في أصل نشأة الدين فلا سبيل للوصول إليه -وكذلك أصول اللغات- لبعده عن حيز المشاهدة وتنائيه في الزمن واستحالة إخضاعه للتجربة والموازين العلمية. ولا بد هنا من استعمال التأمل والتفكر المجرد. فإذا انطلق الملحد ليبحث في أصل الدين فلا يمكنه أن يتحرر من فكرته عن الدين.
وفي القسم الثاني من المباحث الاجتماعية كثرت النظريات وتعددت واختلفت، ولا سبيل بإلزامنا بإحدى هذه النظريات. فليست هي من الحقائق العلمية التي لا يختلف فيها. بل إن مثل هذه البحوث يمكن اعتبارها من قبيل ميتافيزيك علم الاجتماع، أي من قبيل القسم الغيبي الذي يكون اقتحامه عن طريق العقل وحده منفرداً دون الاستعانة بمنهج خاص ضرباً من الحدس والتخمين والظن. وهو يقابل مثيله في علم الطبيعة حينما يسأل الكيميائي والفيزيائي نفسه عن أصل المادة ونشوئها وخلقها، وكيف خلقت، ومن وضع لها القوانين التي تجري بموجبها.
إن هذا البحث خارج عن دائرة اختصاصه وليس لبحثه فيها قيمة علمية كبحثه في تركيب المادة وقوانينها وتفاعلها. بل إن البحث في هذه الأصول الاجتماعية النظرية أصعب وأكثر تعقيداً.
وهذه البحوث في العلوم الطبيعية تدخل فيما يسمى (فلسفة العلوم) لا في العلوم نفسها من حيث الاختصاص. ومثيلاتها في علم الاجتماع أحرى أن يسمى بفلسفة الاجتماع فلا تكون له القيمة العلمية التي تدعى له. وعلماء الاجتماع اليوم ينفرون من النسبة ونسبة علمهم إلى الفلسفة، وهم يرون أنه استقل عنها والتحق بالعلوم في منهجه وموضوعه ويعرفونه بأنه العلم الوضعي للظواهر الاجتماعية ويميزون بينه وبين الفلسفة الاجتماعية وفلسفة التاريخ.
ومع ذلك فإن الماركسيين لا يزالون يلحقون علم الاجتماع بالفلسفة ويدرسونه في كلية الفلسفة في جامعة موسكو. وإذا كان الأمر كذلك فلكل فلسفته ولا نلزم بفلسفة غيرنا وليس ثمة –حتى الآن- فلسفة مشتركة كما أن هناك كيمياء وفيزياء وعلوم طبيعية مشتركة في نتائجها وحقائقها.
في مثل هذه البحوث تندس العناصر الشخصية غير العلمية سواء كان الباعث عليها فكرة سابقة يعتقد بها صاحب النظرية، ثم يحاول أن يلبسها حلة علمية ظاهرة بتطبيقها على بضع حوادث من غير استقراء أم كانت غرضاً يقصد إليه صاحبه أو تدفعه إليه حكومة ذات سياسة خاصة وتحدد له النتيجة التي ينبغي أن يصل إليها بحثه “العلمي” أم كانت أيضاً نتيجة لتفكير خاطئ كعدم التمييز بين السحر والدين أو عدم التمييز بين وجود الله في ذاته وفكرة الإنسان عن الله وعقيدته به. فالماركسيون مثلاً ينطلقون رأساً من إنكار حقيقة وجود الله، ثم يأخذون في بحث كيف نشأت –في زعمهم- فكرة الإله لدى البشر وكيف تطورت والأمران مختلفان جداً. وهذا يشبه ترك البحث في ماهية الهواء وتركيبه، ثم البحث عن رأي الناس في الهواء كيف نشأ وكيف تطور. ورحم الله أسلافنا حين كانوا يفرقون بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الذهنية والحقيقة اللفظية.
من هذا الباب نظرية أوكست كونت المعروفة بنظرية الأحوال الثلاث؛ إذ يزعم أن المرحلة الأولى التي مر بها الإنسان هي المرحلة الدينية ثم المرحلة الميتافيزيكية (الغيبية) ثم العلمية، فيجعل الدين سلفاً للعلم إذ كان يحل المشكلات ويفسر الحوادث ثم حل العلم محله وحل التفسير العلمي محل التفسير الديني مع أن لكل منهما موضوعاً ومجالاً للاختصاص فالعلم يبحث في تركيب المادة مثلاً وقانون سقوط الأجسام أو في درجة كثافة الأجسام، وهذه أمور لا يبحثها الدين، فالعلم يبحث كيف تجري حوادث الطبيعة، ووفقاً لأي قانون ولكنه لا يبحث في الأولى ويتركها لعقول البشر ولكنه يبحث في الثانية. وهذا على الأقل موقف الإسلام في هذا الموضوع.
قد تكون نظرية أوكست كونت August Conte منطبقة على الدين المسيحي كما وصل إلى أوربا، ولكن جهله بالإسلام جعله يعمم هذا التعميم. ونظرية كونت هذه المغلوطة أحدثت آثاراً سيئة جداً في عقيدة كثير من أبناء المسلمين.
ومن هذا النوع من المباحث الاجتماعية البحث عن الدين وأصله. ينطلق الباحثون الغربيون من مسلمات عندهم هي نبت بيئتهم ونتيجة رد فعل المسيحية الغربية التي هي مزيج عجيب من الوثنية الرومانية والفلسفة اليونانية والمسيحية أو النصرانية الأصلية التي جاء بها عيسى، وانتهى الأمر بها إلى تناقضات إلى مصادمات للعقل، فاصطدمت بالفكر الفلسفي النقدي والفكر العلمي Scientific Scientifique اللذين وفدا من الثقافة الإسلامية في الأندلس وصقلية.
أن النصرانية المبدلة المغيرة والفكر العلمي الإسلامي المصدر اصطدما فكان العلم الفكر النقدي مصادمين للدين في نظر الغربيين. وقد انتهى بهم ذلك إلى نظريات وآراء في الدين غير صحيحة إذا عممت ولا تنطبق على الإسلامي، فالدين في نظرهم ذو منشأ بشري وهو ظاهرة ومؤسسة institution بشرية وهو مرحلة سبقت العلم كنظرية لتفسير حوادث الكون كما سبق التشريع الديني التشريع الوضعي الذي هو نهاية التطور. هذه الأفكار هي مسلمات عند الغربيين وليست كذلك عندنا، ولا عند أي منصف يعرف الإسلام معرفة عميقة صحيحة. والدليل أن آراء علماء الاجتماع في هذا الموضوع ليست حقائق علمية أنهم مختلفون جدًّا في تعليل الدين وعقيدة الإله. ويكفي أن نعدد عناوين هذه النظريات التفسيرية أو إبرازها:
النظرية التي ترجع الأمر إلى عبادة الأرواح أولاً Animsime والنظرية التي تعتبر عبادة الطبيعة هي البداية والنظرية التي تنطلق من عبادة الحيوان إلى أنه جد الجماعة التي تعبده على زعمهم وهذه النظرية الطوطمية ونظرية تجسد الضغط الاجتماعي في عقيدة الإله وهي نظرية دركايم. ولو كان الأمر يدور حول حقيقة علمية لما اختلفوا هذا الاختلاف الكبير وأسفوا أحياناً في التعليل إسفافاً عجيباً. وأكثر هذه النظريات نتيجة بحوث ناقصة في الأقوام الابتدائية في أفريقيا وأمريكا في القرنين الأخيرين، وهما حتى في هذا المجال مشوبة بكثير من الجهل في فهم الأقوام والنقص في الاستقراء.
ومن هذه النظريات التي لا تقوم على أسس علمية الادعاء بعدم وجود فضائل ومثل عليا أخلاقية ذاتية والقول بنسبة الأخلاق وهي نظرية أحد زملاء دركايم وهو ليفي برول –وهما يهوديان- الذي يقول في كتابه (الأخلاق وعلم العادات) أنه ينفي وجود ما يسمى بالأخلاق أو علم الأخلاق (La Moral)، وهو يعتبر من أكبر الاختصاصيين في الأقوام الابتدائية وله في ذلك كتب مشهورة ثم أعقبه البير بايت Bayet في كتابه (علم الظواهر الأخلاقية).
ومن هذا الباب أيضاً نظرية كارل ماركس (1883 – 1818) في تفسير التاريخ بوساطة الصراع الطبقي والعامل الاقتصادي وبوجه خاص علاقات الإنتاج ونظريته في المراحل المتتابعة من القبلية (الشيوعية الابتدائية) إلى الرق إلى الاقطعاية فالرأسمالية فالاشتراكية، أنها مجرد افتراضات لم يقم عليها دليل، بل إن بعض البلدان الأوربية كالسويد لم تمر في المرحلة الاقطاعية وروسيا التي حصلت فيها الثورة الشيوعية هي أقل تصنيعاً بدرجة كبيرة من إنجلترا وألمانيا وفرنسا التي لم يحصل فيها ما تنبأ به. وأن كثيراً من الماركسيين ثاروا على نظريات ماركس وانتقدوها انتقادات أضعفت كثيراً من شأنها ومنهم Henrie de Man في عدد من كتبه وكارودي Garouei وغيرهما.
إن نظريات ماركس إذا درست باعتبارها ظاهرة اجتماعية في عصر معين تبين أنها رد فعل لما في عصره وبيئته من ظلم الرأسماليين ونقمة الفقراء في مجتمع تعاظمت فيه قيمة المال والحياة المادية حتى أصبحت في قمة القيم تبين أنها نتيجة لتلك البيئة والعوامل أكثر من أن تكون تعبيراً عن الحقيقة.
4 – منهج البحث في علم الاجتماع:
إن منهج علم الاجتماع في بحث الظاهرات الاجتماعية نفسها معرض لكثير من الأخطاء في النتائج. ويمكننا أن نستعرض المواطن التي يتسرب منها الخطأ.
(أ) الهدف والغاية: لا بد لكل بحث اجتماعي من هدف قصد إليه الباحث في نفسه أو وجه إليه من جهة من الجهات لها رغبة في تحقيق هذا الهدف. تعمد بعض الحكومات إلى التقليل من عدد السكان تخفيفاً من أعبائها فتوجه الباحثين الاجتماعيين أو تصطنع عدداً منهم ليزينوا فكرة تحديد النسل بطريقة يعطونها الصفة العلمية. ويريد بعض الباحثين أن يقنعوا الناس بالحرية الجنسية فيجندوا أنفسهم وتلاميذهم لبحوث يريدون أن يصلوا منها إلى أن الارتباط بالزواج أمر أخذ بالتطور نحو الزوال، وأنه من صفات أطوار معينة تمر بها البشرية وهكذا يزينون الأباحية باعتبارها مرحلة المستقبل وأن حتمية التطور تؤدي إليها. وهذه الأغراض الخبيثة تخفى على أكثر الناس من خلال البحوث ويحسنون الظن بهؤلاء الباحثين بسبب انتسابهم للعلم ودوائره مع أنهم من أنواع المجرمين المستترين المستأجرين لمثل هذه الأغراض. وكثيراً ما استأجرت حكومات الاستعمار علماء من بلادها لأغراض استعمارية كاثبات أن البحر الأبيض بحيرة أوربية وأن أفريقيا امتداد لأوربا، وأنهما قارة واحدة في الأصل سموها Europrique وأن سكان الجزائر من العرق الأبيض الأوربي.
(ب) شخصية الباحث: من الصعب جداً في البحوث الاجتماعية أن يتجرد الباحث من أفكاره وعواطفه وأهوائه الشخصية ومن تأثير بيئته حتى لو كان في نفسه مستقيماً أميناً خلافاً للعلوم الطبيعية وذلك لصلة موضوعات بحثه بأمور هي بالنسبة إليه موضوع حب أو كره أو نفع أو ضرر أو موافقة أو مخالفة. ولكل باحث أفكاره وعواطفه وعصبياته وأهواؤه. إن من الصعب جداً أن يتجرد أوربي يدين بالكاثوليكية ويتعصب لها ولا سيما في زمن كان شعبه يستعمر شعباً آخر يختلف عنه قومية وديناً وثقافة في بحث موضوعه يمس هذه العصبيات.
أضف إلى هذا أن الباحثين لا يتمتعون جميعهم بالاستقامة والأمانة التي يستوجبها البحث العلمي وقد تحدث عن مثل هذه النماذج السيئة كلها ستانيسلاس أنديرسكي Stanislas Anderski في كتابه Social Scienees assocery وهو مترجم إلى الفرنسية منشورات.
(ج) وفي مراحل جمع الظواهر الاجتماعية واختيارها وعزلها عن غيرها وتصنيفها، ثم في ربطها بعضها ببعض لتعليلها وتفسيرها مجالات كثيرة للوقوع في الخطأ المقصود وغير المقصود.
وإذا كان البحث في شعب بعيد في حضارته عن شعب الباحث فكثيراً ما يقع في سوء فهم في تفسير الظواهر لجهله لهذا الشعب. ويتعرض الباحث عامة للخطأ بسبب تعقد الحوادث الاجتماعية وتشابك العوامل والظروف وتعدد الاحتمالات في تفسيرها؛ ولذلك كان من الخطورة بمكان أن تلقن نتائج بحوث علماء الاجتماع الغربيين للطلاب المسلمين مع ما قد يكون فيها من أخطاء وانحرافات أو تشويهات على أنها حقائق علمية أو نظريات مسلمة مقبولة وقد نقابلها بحقائق الإسلام الثابتة وأحكامه الصحيحة فتوقعهم في الشك في الحقائق الثابتة ليحل محلها أباطيل وأخطاء وتشويهات.
ويتبين مما تقدم أن لعلم الاجتماع ميدانه الخاص الذي لا ينبغي أن يتجاوزه وهو واقع في المجتمعات البشرية في حدود كونها عالماً مشهوداً يمكن ملاحظته واستخراج خصائصه وقوانين حركته وتبدله كما يدرس الطبيعة علماؤها المتخصصون. ولا شك في فائدة هذا العلم وبحوثه ما دام في حدوده المحددة له. وقد اشتغل به العلماء المسلمون سابقاً بل جاءوا فيه بما لم يسبقوا إليه. نذكر منهم البيروني والمسعودي وابن خلدون الذي بلغ فيه قمة من القمم في تاريخ هذا العلم.
ولكن علم الاجتماع على ما هو عليه حالياً في جامعات الغرب في أوربا وأمريكا لدى الديمقراطيين والاشتراكيين أصبح مزيجاً من مباحث علمية مفيدة ومناهج للبحث والتحقيق مضافاً إليها نظريات متفاوتة في قيمها يتخلل ذلك كله عقائد باطلة ومفاهيم منحرفة وقيم زائفة تخالف كل المخالفة حقائق نؤمن بها وقيم نعتقد أنها صالحة للتمسك بها يجمعها الإسلام.
لذلك كان لا بد للاستفادة مما في علم الاجتماع من جوانب مفيدة نافعة من إعادة بنائه بناء صحيحاً على أساس سليم ليوضع في مكانه حينئذ في إطار النظام الإسلامي للتعليم أي من منطلق التصور الإسلامي للوجود والطبيعة والإنسان والمجتمع الإنساني.
ونعتقد أنه إذا تم بناء علم الاجتماع على هذه الأسس آتي نتائج هامة ومفيدة للإنسانية بوجه عام لصحة المنطلقات والأسس وسلامة الأهداف ووجود الضوابط الأخلاقية المرتبطة بقيم سامية وهي مفيدة ومنتجة بالنسبة للشعوب الإسلامية كلها لانسجامها مع شخصيتها وتجاوبها معها وموحدة لهذه الشعوب لوحدة الأسس التربوية والثقافية والقيم الأخلاقية وممدة للشعوب الأخرى، ومن جملتها الشعوب الغربية بلون جديد في البحوث الاجتماعية بجميع فروعها.
نحو تأسيس علم اجتماعي إسلامي:
في ضوء ما تقدم من استعراض لعلم الاجتماع في وضعه الحالي وصيغه الغربية المتعددة، وما اشتمل عليه من أقسام يمكن أن نصفها بأنها عملية ومناهج للبحث يمكن قبولها مبدئياً مع الحذر من الوقوع في أخطاء تطبيقها، ومن أقسام أخرى ليست في الأصل من اختصاص علم الاجتماع، وما اشتملت عليه من نظريات ومفاهيم عقائدية ألصقت بهذا العلم وأقحمت في مباحثه أقول في ضوء هذا التحليل يمكن أن نقترح أسساً ونؤصل قواعد منهجية لعلم اجتماع جديد في إطار التصور الإسلامي، كما وضع علم الاجتماع الغربي في إطار التصور الغربي وفلسفته. وفيما يلي عرض لهذه الأفكار الأساسية:
1 – يشير القرآن إلى الطبيعة الاجتماعية الإنسانية باستمرار كما يشير إلى الطبيعة العامة التي هي أشمل منها أعني إلى عالم الجماد والنبات والحيوان بأجزائها وأنواعها وحوادثها. فكما يتردد في القرآن ذكر الأرض والكواكب وأجزاء الأرض من البر والبحر والجبال والسهول والأنهار والأودية والزرع والنبات والثمار والفواكه والأنعام والدواب وسائر أنواع الحيوان والحديد والفضة والذهب، وغير ذلك يتردد أيضاً ذكر الأمم والأقوام والشعوب والقبائل والعشيرة والأزواج من أنواع التجمعات البشرية.
2 – وكذلك يشير القرآن إلى الحوادث والظواهر الاجتماعية كما يشير إلى الحوادث الطبيعية كتراكم السحب ونزول المطر وسقاية الأرض ونمو النبات واختزان الماء لتكوين الينابيع تحت الأرض ونقصانها وأمثال ذلك. يذكر القرآن أمثلة من الظواهر الاجتماعية كظاهرة التقليد والترف والظلم والاستبداد في الحكم والإجرام وعبادة الأوثان والكواكب وتقديس الحيوان وعبادة الأرواح من الملائكة والجن ووأد البنات واحتقار المرأة وتطفيف الكيل والميزان واستغلال المستغلين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وإلى ظهور الطبقية وامتيازاتها في المجتمع كطبقة رجال الدين “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله” “إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل”، وطبقة المتكبرين أو المستكبرين وطبقة المستضعفين أو الضعفاء وقد تردد ذكر هؤلاء وأولئك بضع عشرة مرة ويشير الحديث النبوي كذلك إلى كثير من الظاهرات الاجتماعية ويستعمل كلمة (فشا) أو ظهر للدلالة على عموم الظاهرة وانتشارها (ما فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت)، كإشارته إلى ظهور الطبقية والتمييز الطبقي في بني إسرائيل في قوله: (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه)، يشير القرآن إلى حوادث اقتصادية كالربا وتطفيف الكيل والميزان وتسجيل الديون وإلى نظم الحكم: حكم الشورى في مملكة بلقيس “قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون”، وحكم فرعون الاستبدادي “إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم”. وإلى تعدد المثل الأخلاقية “كذلك زينا لكل أمة عملهم” “كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون” وإلى الظاهرة اللغوية “ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم” “وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم”.
3 – كما يشير القرآن الكريم إلى ارتباط حوادث الطبيعة بعضها ببعض ارتباطاً مطرداً منتظماً بين؛ إذ يدل على تتابع حادثين سابق –جرت لإعادة أن يسمى سبباً- ولاحق –جرت العادة أن يسمى مسبباً أو نتيجة- تتابعاً مطرداً باستمرار كنزول المطر ونمو النبات يشير كذلك إلى ارتباط الحوادث الاجتماعية مثل هذا الارتباط المطرد الذي يسميه علماء الطبيعة وعلماء الاجتماع قانوناً.
يتكرر في القرآن الكريم مثلاً حصول الهلاك بعد ظهور الظلم: “فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا”، “وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قرناً آخرين”، “فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة”، بل إن هذا الارتباط له قانون زمني “وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا”، “هل يهلك إلا القوم الظالمون”.
وكذلك ظاهرة الترف فقد تكررت في القرآن واقترنت بالفسق ومحاربة دعوات الأنبياء الإصلاحية وتقليد الآباء والإجرام والهلاك: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا” “واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين” “وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون” “وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون” وهناك أيات أخرى غير هذه ونكتفي بما أوردنا.
ويشير الحديث النبوي إلى هذا الارتباط بين الظاهرات الاجتماعية كربطه لعدة ظاهرات بنتائجها في الحديث التالي:
عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. أخرجه مالك.
لنأخذ بعض ما ورد في الحديث لبيان الارتباط:
(أ) الغلول وهو السرقة من الأموال العامة فإذا فشت بين الموظفين وأفراد الشعب كان كل واحد منهم خائفاً على نفسه من أن تعرف خيانته وليس الرعب إلا هذا الخوف المستمر المفقد للشجاعة ونقد الآخرين نقداً جريئاً.
(ب) الزنى إذا انتشر أدى إلى قلة الزواج وقلة النسل فيقل عدد السكان أو على الأقل لا يحصل الازدياد المنتظر، وهي المشكلة المعروفة بقلة عدد السكان التي تهتم بها الحكومات وتبحث عن عواملها عن طريق الباحثين الاجتماعيين، ويمكن أن يلاحظ انتشار الأمراض المؤثرة في صحة السكان وقلة تناسلهم.
(ج) الحكم بغير الحق (الظلم في القضاء) يؤدي إلى انتشار الثأر ليأخذ صاحب الحق حقه بنفسه؛ لأن القاضي لم يعطه حقه فيؤدي ذلك إلى النزاع والتقاتل.
قد يكون الترابط بين ظاهرتين عن طريق وسائط من ظاهرات أخرى لم تذكر وإنما يذكر من سلسلة الأحداث بدايتها ونهايتها، وهذا لا ينفي الارتباط السببي؛ ولذلك نظير في الآيات المتعلقة بالحوادث الطبيعية كقوله تعالى “وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم”، فبين نزول الماء وظهور النبات عمليات وسيطة محذوفة ولكن الربط السببي ظاهر في هذه الآيات وكثير غيرها بمعناها.
4 – إذا كان القرآن الكريم –وكذلك الحديث- يشير إلى ارتباط ظاهرتين اجتماعيتين ارتباطاً مطرداً، فمعنى ذلك أنه يشير إلى قوانين الظواهر الاجتماعية أو سنن الله في المجتمع الإنساني؛ إذ ليس القانون الاجتماعي إلا الترابط المطرد بطريقة ما بين ظاهرتين أو ظواهر اجتماعية. بل إن القرآن يذكر صراحة أن لله سنناً في الأمم والجماعات ويدعو إلى السير إليها والتفكر فيها “سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً”. (الأحزاب: 62) “قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين” (آل عمران: 137).
إن القرآن يلفت النظر إلى سننه في المجتمع صارمة ودقيقة كسننه في الطبيعة وأن الأمم لها آجال كالأفراد تبعاً لأسباب قدرها في صحتها وأمراضها “ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” (يونس: 49)، “ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون” (المؤمنون: 43).
وقد يصوغ القرآن القانون الاجتماعي بالمعنى الواقعي –وهو غير المعنى التشريعي- كقوله تعالى: “ولكم في القصاص حياة”، وكقوله حكاية عن بلقيس سبأ في حديثها عن سليمان إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وهنا ينتهي كلامها –كما يرى ابن عباس- وتنتهي الآية بقول الله المعبر عن قانون اجتماعي وسنة غالبة “وكذلك يفعلون”، أي هكذا جرت عادة الملوك والقانون العام للسير لهم.
ولكن يجب التنبيه هنا إلى أن الله لم يقصد أن يقدم الناس في كتابه المنزل سننه في الكون ولم يجعل كتابه كتاب كيمياء أو فلك وإنما وجه الإنسان إلى النظر في الكون والتفكر فيما فيه في ظاهره وباطنه ليستخرج هو بنفسه سنن الله فيه مما يقدر عليه ووكله الله إليه تدفعه إلى ذلك دوافع المنفعة والمصلحة والمتعة. وإنما أشار إليه ووجهه بل أمره وحضه على ذلك، وهكذا الحال في سننه في الجماعات. فالقرآن كتاب هداية عن طريق التوجيه تارة فيما يمكن للانسان أن يصل إليه وعن طريق التعليم والدلالة فيما لا يمكن أن يصل إليه أو فيما يمكن أن يصل بعد خسارة كبيرة للإنسانية. وتلك هي المعالم الثابتة والأحكام المحددة في الأخلاق والتشريع. وقوانين علم الاجتماع كقوانين الطبيعة هي من النوع الأول وجه الإنسان إليها وحضه على السير والنظر والتفكر فيها والاستماع إليها. ولذلك يقترن الحديث عن الموضوعات الاجتماعية بألفاظ التفكير والعلم والسماع والنظر كقوله تعالى في الكلام عن الزواج وعلاقاته وأهدافه “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”، وفي الكلام عن عاقبة الإجرام “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين”. فما جاء في القرآن من الإشارة إلى سنن الله في المجتمعات إنما هو أمثلة ونماذج للاعتبار وليست للاستقصاء فذلك متروك لتفكير الإنسان وبحثه وتجربته وأخيراً فإن اتصاف الظاهرة الاجتماعية والقانون الاجتماعي بالعموم والشمول يصرح به القرآن والحديث، وذلك في قوله تعالى: “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة”، وفي الحديث: قالوا يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم، إذا كثر الخبث”.
5 – التغير والتغيير:
المجتمع الإنساني كما يبدو في القرآن والحديث متغير متبدل ولتغيره عوامل وأسباب. فما أكثر ما يتحدث القرآن عن تبدل الأجيال –ويستعمل القرآن لفظة القرن والقرون بهذا المعنى- كقوله تعالى: “وكم أهلكنا قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين” (الأنعام: 6).
والذنوب التي لم تصل هنا هي تلك الأفات والأمراض الاجتماعية التي جعلها الله سبباً وعاملاً في هلاكهم، وقد ورد بهذا المعنى بضع عشرة آية تتضمن هلاكاً استعمل فيها لفظ القرن، والقرون بمعنى الجيل والأجيال وآيات أخرى تتضمن هلاك المدن كقوله تعالى: “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها”، ويشير هنا إلى سبب الهلاك وهو البطر حيث تنعدم الدوافع المثالية التي تنشئ الحضارات وتديم حياتها.
إن الكلام عن تبدل المجتمعات من حال إلى حال وهلاك الأمم والأقوام والقرون، أي الأجيال كثير جداً في القرآن وهو مقترن بالدعوة إلى التفكر والتأمل والاعتبار. ويغلب عليه الصيغة المجردة من التفصيلات التاريخية والحوادث الشخصية فهو أقرب إلى صيغ علم الاجتماع منه إلى التاريخ. ولو استعرضنا هذه الآيات الكثيرة لوجدنا أن القرآن يخرجنا من النطاق المحدود في إطار زمن معين وقوم معينين وقبيلة معينة ويجعلنا نطل على المجتمع الإنساني في إطاره العام الشامل للشعوب والأمم الخاضعة كلها لسنن واحدة في التغيير.
عوامل التغيير:
في القرآن والحديث إشارات لعوامل التغيير وليس ذلك على سبيل الحصر ولا على طريقة البحث العلمي. لأن ذلك متروك لتفكير البشر واجتهادهم، فالقرآن كتاب هداية لجمهرة الناس وليس مقصوراً على الخاصة وهدفه هدايتهم وإرشادهم ودلالتهم. ولذلك يكفي أن يشير القرآن ويدل على أن الظلم والبطر والترف تسبب هلاك الأمم لتحصل العبرة والفائدة العملية. ولكن على العالم الباحث أن يفتش فيما وراء كلمة الظلم من أنواع كالظلم السياسي والاستبداد والاستعلاء والظلم الاقتصادي والمالي كظلم المرابين والأغنياء للدائنين والفقراء وظلم القضاة والحكام المتقاضين والمحكومين، وهكذا له أن يحلل مفهوم البطر والترف والإسراف الواردة كذلك في آيات كثيرة على أنه من أسباب تبدل النعم ودمار الأمم.
من هذه الإشارات ما ورد في الحديث عن تأثير البيئة الجغرافية في الأخلاق، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “من بدا جفا”، وفي رواية “من سكن البادية جفا” (رواه الترمذي في السنن).
وكذلك الإشارة على تأثير العامل الاقتصادي في الحديث “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”؛ إذ قرن بين الكفر والفقر فجعلهما مصيبتين متعادلتين من جهة، وإشارة من جهة أخرى إلى ما يوجده الفقر من استعداد لتغير العقيدة، وهذا الحديث الصحيح يقوي معنى الحديث الآخر وهو ضعيف ونصه “كاد الفقر أن يكون كفراً”، وبيئة الفقر هي البيئة المستعدة للثورة على أوضاع المجتمع وعقائده. لذلك شرع الإسلام أحكاماً كثيرة لإزالة الفقر بطريقين طريق الالزام بواسطة أولي الأمر وطريق الأخلاق بالحض والترغيب. وفي مقابل ذلك أشار القرآن إلى أن المترفين يميلون إلى التقليد واستمرار الأوضاع الفاسدة ولا يحبون التغيير الصالح ويقفون أمام دعوات الأنبياء والمصلحين.
ونجد أن في القرآن الكريم إشارة سريعة إلى العلاقة بين التمكن من إقامة الشعائر الدينية وعبادة الله ووجود الوسائل المادية المساعدة وذلك في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام “ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون” (سورة إبراهيم: 37).
ويشير القرآن إلى أن البشر إذا اقتصروا في تطلعهم وهدفهم إلى الحياة الدنيا وحدها فإن النتيجة هي الصراع بين الكتل البشرية حول المال. إن القانون مشروط بإطار الحياة الدنيا، وذلك في قوله تعالى: “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد”، الصراع لزيادة عدد السكان ولزيادة الأموال وحيازتها، ولكن مفعول هذا القانون المشروط يتغير إذا جعل الإطار شاملاً للحياة الآخرة وما تتطلبه من مثل عليا فيصبح المال أداة ووسيلة لا غاية ويأخذ الصراع شكلاً آخر وهو التنافس على العمل الصالح في الدنيا ولا نقول صراع أوسع وأبعد، وهذا ما تشير إليه الآية التالية: “سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض”. (سورة الحديد: 21).
ويؤكد هذا المعنى ما تشير إليه الآية الكريمة الأخرى من عوامل العصبية وحب المال والأرض في مقابل المثل العليا التي يدعو الله ورسوله إليها ويريد أن تكون هي العليا والمهيمنة.
“قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره”.
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى عامل الوراثة في قوله: “اغتربوا لا تضووا”، أي تزوجوا من البعيدين عنكم في القرابة لئلا يخرج النسل ضاوياً هزيلاً.
وأما أثر العامل الاعتقادي فالقرآن مليء بشواهد عليه في حياة الأفراد –كصاحب الجنتين في سورة الكهف- وفي حياة الجماعات وما تولده فيها العقائد الوثنية بأنواعها من نتائج سيئة: عبادة الشمس في مملكة سبأ، وعبادة فرعون من شعبه، وعبادة الكواكب في قوم إبراهيم -شعب ما بين النهرين-، وعبادة الأوثان وتقديس الحيوانات المنذورة للإله إلى غير ذلك.
إن هذا التفكير السلبي المستند إلى العوامل المؤثرة في الحياة الاجتماعية والذي هو من إيحاء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نجد أثره واضحاً في تفكير علماء المسلمين من الفقهاء والمؤرخين وعلماء الأقوام والمجتمعات ويمكن أن نأتي ببعض الأمثلة على ذلك.
سئل الإمام مالك -رحمه الله- عن رأيه في التسعير على الجزارين فأجازه، ولكنه أضاف: أخاف أن يقوموا من السوق وقال الفقيه المالكي أبو الوليد الباجي أن ذلك يؤدي إلى إخفاء الأقوات.
وهذا التفكير المعلل بأسبابه في الأمور الاقتصادية والاجتماعية عامة مسيطراً على تفكير علماء المسلمين. ويمكنك أن تقرأ كتاب الحسبة لابن تيمية لتتحقق من ذلك.
ونعتقد أن هذا التفكير العلمي في الميدان الاجتماعي الذي وجه إليه القرآن كان السبب في ظهور مؤلفات في دراسة الشعوب وعاداتهم ككتاب البيروني عن الند، ومؤلفات المسعودي، وهذه كلها من نوع ما يسمى اليوم (علم الشعوب والأقوام)، وهذا الإنتاج هو البداية التي انتهت بعد عدة قرون بظهور مقدمة ابن خلدون التي كان فيها أول رائد في العالم لعلم الاجتماع الحديث.
التغيير:
إن الإسلام بناء على ما تبين في القرآن والحديث من تحرك المجتمع وتغيره بسبب عوامل التغيير تدعو إلى تطبيق علمي لعلم الاجتماع أو إلى القسم الأخلاقي التطبيقي، فيدعو المسلم إلى تغيير المجتمعات تغييراً نحو الأفضل ابتداء من تقويض عقائد الوثنية والشرك ذات النتائج الضارة في جميع المجالات إلى تقويض النظم الفاسدة والجائرة، النظم السياسية والاقتصادية عن طريق الدعوة أولاً، ثم عن طريق الجهاد بأنواعه إذا اقتضى الأمر ذلك.
قال الصحابي ربعي بن عامر -رضي الله عنه- لقائد الفرس أثر إغرائه له بالرجوع عن الحرب: “إن الله بعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها”.
إن قانون التغيير الاجتماعي كأمر وجودي واقع نص عليه القرآن صراحة في قوله تعالى: “ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الأنفال: 53).
والله تعالى –كما يقول ابن تيمية- عودنا أن يفعل بالأسباب وكذلك تغيير هذه النعمة إنما يقدر الله لها أسباباً حتى تتغير وهذه الأسباب هي ما يفعله هؤلاء القوم من أمور سيئة تكون عاملاً في هذا التغيير.
وهذه الفكرة أي فكرة التغيير وإمكانه وكونه مطلوباً عبرت عنها الآية الأخرى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وهي تشمل التغيير في الاتجاهين: الأحسن والأفضل، ونحو الأسوأ. ونقطة الانطلاق فيها تبدأ من الإنسان فهو الذي يبدأ بالتغيير ليصل إلى أحسن حال أو إلى حال أسوأ، ومعنى هذا أن الإنسان قادر على تغيير المجتمع، وأن الله أعطاه هذه القدرة ودله على الطريق وهو معرفة أسباب التغيير وعوامله. إن الإسلام طلب تغيير الشرك بالتوحيد، والجهل بالعلم، والكسل والبطالة بالعمل، والفقر بالغنى غير المبطر والضعف بالقوة، والأثرة بالتضامن والفحش بالعفة إلى غير ذلك من نظام القيم الإسلامي. إن الإسلام جعل للتغيير أهدافاً وطلب العمل والحركة والتغيير للوصول إلى هذه الأهداف. وجعل للتغيير طريقاً وهو حسب التعبير القرآني (تغيير الأنفس) ويشمل هذا التغيير نوعين تغيير (الأنفس) مجموعة وذلك هو المجتمع وتغيير (النفس) بالنسبة للفرد.
والخلاصة:
1- إن المفهوم العلمي لعلم الاجتماع باعتباره دراسة واقعية موضوعية للمجتمع الإنساني لحوادثه وظاهراته، والظاهرة هي الحادثة المتكررة العامة واستخراج سنن حركتها وتغيرها وتطورها ومراحلها ودراسة التجمعات البشرية والمؤسسات الاجتماعية كالأسرة والدولة، إن هذا المفهوم مقبول، بل ماثل وموجود في نصوص الإسلام الأصلية في الكتاب والسنة. وقد انطبع في أذهان المسلمين وأقبل علماء المسلمين على السير من منطلقاته، ويمكننا اليوم أن نسير فيه ونستفيد كذلك من تجارب غيرنا في ميادينه.
2- أما النظريات الخارجة عن هذا النطاق والتي من قبيل ميتافيزيك علم الاجتماع فينبغي أن يكون مصدرها ومنطلقها هو الإسلام نفسه؛ إذ إن للإسلام نظرات محددة في أصل الأديان ونشأتها وتعاقب النبوات وتتابع تشريعاتها وأحكامها، كما أن فيه مفهوماً للأمة وموقفاً نظرياً وعملياً من التطور الإنساني من القبيلة إلى التعارف الإنساني الذي يجمع وينسق بين جميع أنواع الأشكال الاجتماعية. فما علينا إلا أن نستخرج هذه النظرات ونصوغها لنضعها في مكانها من علم الاجتماع بالمعنى الواسع بدلاً من النظريات المبنية على مفاهيم عقائدية أخرى.
3- وهناك قسم ثالث وهو دراسة قضايا اجتماعية متعددة من خلال التشريع الإسلامي أو كما يقدمها الإسلام وعرضها بالطريقة الاجتماعية ووضعها في موقعها وفي إطارها العام. مثال ذلك الأسرة كما يحددها الإسلام من جهة وتركيبها ووظائفها وشخصية أفرادها الحقوقية إلى غير ذلك من خصائصها، ثم مقارنتها بأنواع الأسرة الأبوية الكبيرة المعروفة في التاريخ والأسرة الزوجية المنتشرة في العصر الحاضر وبذلك تتحدد صفاتها وتصنيفها الاجتماعي بين أشكال الأسرة ومن هذا القبيل بحث فكرة (المسئولية) في التشريع الإسلامي وتحديد صفاتها مستنبطة من الأحكام الفقهية في أحكام المعاملات والجنايات، ثم الاطلاع على ما كتب من بحوث في تطور المسئولية خلال التاريخ وستظهر في مثل هذه الدراسات المقارنة عظمة الإسلام وخلوده.
4- هنالك قسم رابع يشتمل على بحوث ميدانية في المجتمع الإسلامي المعاصر فيما هو من اختصاص علم الاجتماع ويقصد التغيير نحو الأفضل ووفقاً للأهداف التي حددها الإسلام، كدراسة العقائديات الدخيلة والتيارات الفكرية ودراسة موضوعات الطلاق والعمل والملكية وعلاقات الإنتاج ومرحلة التصنيع ودراسة رواسب العصور والتخلف من الأفكار المدسوسة على الإسلام كالتواكل وإسقاط التدبير والاعتقاد بالخرافات التي حاربها الإسلام وسائر أسباب التخلف.
هذه خطة مقترحة لصياغة إسلامية لعلم الاجتماع في خطوطها الكبرى، وهي وليدة تفكير في الموضوع منذ سنين طويلة كانت البداية الأولى منها منذ أيام دراستي لعلم الاجتماع في جامعة باريس، ثم كنت أعاود التفكير فيها خلال تدريسي لعلم الاجتماع في كلية الشريعة في جامعة دمشق، وفي كلية البنات في جامعة أم درمان الإسلامية؛ إذ استجيب لاقتراحي بتدريس علم الاجتماع بطريقة إسلامية وسموها (النظرية الاجتماعية الإسلامية)، وإن كنت لم أرتضِ هذه التسمية ومن خلال أبحاث أخرى اجتماعية إسلامية كالأسرة والمسئولية والأمة.
وإني أرجو أن تتضافر الجهود، ولا سيما جهود المتخصصين لشق هذا الطريق الجديد وتعبيده، ثم إقراره لدى الرأي العام العلمي في البلاد الإسلامية ليستفاد حينئذ من تدريس علة الاجتماع وليكون عوناً على تقوية الإسلام، ولنزيل الآثار السيئة التي تركها علم الاجتماع في صيغته الغربية وتنشط البحوث العلمية كذلك في مراكز البحث والاختصاص للإسهام على الصعيد العالمي في ترقية علم الاجتماع بوجه عام ليكون أداة نفع للإنسانية لا أداة للمتاجرة باسم العلم لحساب مراكز الاستعمار والتبشير بالنظم العقائدية المحطمة للعالم الإسلامي وللشخصية الإسلامية، وأداة بيد أساطين الصهيونية العالمية من أساتذة الجامعات في الغرب للإفساد والتدمير، والله المستعان في إنجاح القصد والتوفيق لما فيه الخير والسعادة.