أبحاث

مسألة تقنين الشريعة الإسلامية من حيث المبدأ

العدد 12

أول ما يصادفنا حين نبحث في مسألة تقنين الشريعة الإسلامية هو مبدأ التقنين في حد ذاته.
مبدأ أن يختار من بين الآراء الفقهية المتعددة رأي واحد يصدر به قانون ويصبح ملزما واجب الاتباع بالنسبة للأفراد وبالنسبة للمحاكم.

ويقابل هذا المبدأ، مبدأ آخر هو ترك حرية الاجتهاد المطلق للقاضي دون تقييده برأي معين يصدر بقانون، وهذا ما جرى عليه العمل في صدر الإسلام.
وبين هذين المبدأين المتقابلين حلول أخرى وسطى كإطلاق حرية القاضي ضمن إطار مذهب معين، أو على أساس الرأي الراجح في مذهب معين…الخ.
وسنتناول بحث أساس مبدأ “حرية الاجتهاد المطلق للقاضي” من ناحية النصوص، وآراء الفقهاء والتصور الإسلامي لسير العدالة ومدى تطبيقه من الناحية العلمية.

أصل هذا المبدأ أن القاضي في الإسلام له أن يجتهد رأيه إذا لم يجد في كتاب الله أو سنة رسوله حكم المسألة المطروحة عليه.

وأهم ما يستند إليه في ذلك هو حديث معاذ بن جبل أوفده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن واليا واختبره بقوله (بم تحكم قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد الله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله).

وقد اعترض على هذا الحديث بأن إسناده غير متصل إذ رواه أبو داود في باب اجتهاد الرأي في القضاء، قال حدثنا حفص بن عمر عن شعبة بن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل، قال في عون المعبود: “وهذا الحديث أورده الجوزقاتي في الموضوعات وقال: هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة.

وقد تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقا غير هذا. والحارث بن عمر –ابن أخي المغيرة بن شعبة- هذا مجهول. وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون. ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من الشريعة. فإن قيل: أن الفقهاء قاطبة أو ردوه في كتبهم واعتمدوا عليه قيل: هذه طريقة والخلف قلد فيه السلف. فإن أظهروا طريقا غير هذا مما يثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم وهذا مما لا يمكنهم البتة. ا هـ. والحديث أخرجه الترمذي، وقال: لا نعرفه إلا لهم من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وقال الحافظ جمال الدين المزي: الحارث بن عمرو لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال البخاري: لا يصح حديثه ولا يعرف. وقال الذهبي في الميزان: تفرد به أبو عون، محمد بن عبد الله الثقفي عن الحارث. وما روي عن الحارث غير أبي عون: فهو مجهول. قلت لكن الحديث له شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وقد أخرجها البيهقي في سننه عقب تخريجه لهذا الحديث، تقوية له. أ هـ.

وقد رد آخرون بأن رواية جماعة عن معاذ تقوي الحديث.

وأيا كان الرأي بالنسبة لرواية الحديث، فالواضح أن معاذً لم يبعث إلى اليمن قاضيا فحسب بل بعث واليا، ومن أعماله القضاء، فجمعه بين الولاية (السلطة التنفيذية) والقضاء (السلطة القضائية) والاجتهاد (السلطة التشريعية) للظروف الخاصة في صدر الإسلام لا يعني أنه كان يجتهد بصفته قاضيا، وإنما كان شأنه في ذلك شأن غيره من القضاة والخلفاء الذين توافرت فيهم شروط الاجتهاد، فإنهم كانوا يجتهدون بهذه الصفة وليس بصفتهم قضاة أو خلفاء.

وقد كان لمعظم القضاة في الصدر الأول للإسلام صفة المجتهدين، فلما ظهرت المذاهب الفقهية قيد ذلك من حريتهم في الاجتهاد وأخذ القضاة يقلدون في قضائهم من يتبعونه من أئمة المذاهب الفقهية، وإن كان ذلك على خلاف الأول وهو حرية القاضي في أن يجتهد برأيه في قضائه.

(أ) فقد اشترطوا علم القاضي بالأحكام الشرعية علما يصير به من أهل الاجتهاد. فإن أخل بشيء من أصول علم الشريعة خرج عن أن يكون من أهل الاجتهاد ولم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء فحكم فيما حكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا وحكمه –وإن وافق الحق والصواب- مردودا، وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه وقضاياه، والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة.

(ب) ولاية الأصل في القاضي أنه مجتهد، فإنه لذلك لا يتقيد في قضائه بمذهب معين، لا بمذهبه هو ولا بمذهب الحاكم، ولو شرط عليه ذلك.

كتب الماوردي في الأحكام السلطانية:

ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به.

وقد منع بعض الفقهاء، من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة، ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا إن كانت السياسة تقضيه، فأحكام الشرع لا توجبه، لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق.

(ج) وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده وإن خالف ما تقدم من حكم فإن عمر رضي الله عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام وترك التشريك في غيره فقيل له ما هكذا حكمت في العام الماضي، فقال تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.

(د) فلو شرط المولى وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام، فهذا شرط باطل سواء أكان موافقا لمذهب المولى أو مخالفا له.

وأما صحة الولاية:

فإن لم يجعله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر ومخرج النهي وقال قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدا، سواء تضمن أمرا أو نهيا، ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه ويكون اشتراط المولى لذلك قدحا فيه أن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحا أن جهل لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليا ولا واليا.

فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال قد قلدك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو يقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة لأنه عقدها على شرط فاسد. وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط.

والضرب الثاني: أن يكون الشرط خاصا في حكم بعينه، فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرا أو نهيا فإن كان أمر فقال له أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر واقتص في القتل بغير الحديد كان أمره بهذا الشرط فاسدا ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت وإن لم يجعله شرطا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه، وإن كان نهيا فهو على ضربين أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار بذلك خارجا عن نظره، والضرب الثاني أن لا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء فيه القصاص: فقد اخلتف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه على وجهين: أحدهما أن يكون صرفا عن الحكم فيه وخارجا عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. والثاني أنه لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه.

وإذا تركنا هذا البحث الفني في صفة الاجتهاد ومداه لدى القاضي، لنبحث في طبيعة مهمة القاضي في إطار الفهم الإسلامي لهذه المهمة، وجدنا في الحرية المعطاة للقاضي في باب التعزير ما يتنافى مع المفهوم الحديث للتقنين، ومع مبدأ فصل السلطات، ومع مبدأ أنه لا جريمة ولا عقوبة بغير نص. ولنقرأ هنا ما كتبه الدكتور دراز في هذا الصدد:

“فإذا ما نحينا جانبا تلك الجرائم والجنايات التي أتينا على ذكرها فإن ما تبقى من مخالفات للقانون الأخلاقي، أو القانون الاجتماعي يستوجب عقوبة تأديبية متنوعة، ولكن الشريعة الإسلامية لم تقدم لهذه العقوبات التأديبية جدولا يختلف باختلافها، ولم تحرص على تقديمه. ولا ريب أن عقوبتي الموت والقطع –من حيث الشعور العام- مستبعدتان من الجزاء التأديبي، فالأولى خاصة بالقتلة، والزنا***، والثانية خاصة بالسرقة وقطاع الطرق، بيد أنه فيما خلا هذا التحديد السلبي ليس هناك أي تحديد ايجابي للإجراء الذي يتخذ بالنسبة إلى كل حالة نوعية ولا بالنسبة إلى كل حالة خاصة”. فعلى حين أنه بالنسبة إلى الجزاء المحدد (أو إقامة الحدود) تكون مهمة العدالة محددة تحديدا دقيقا، بإثبات الوقائع متى اتضحت –تستدعى بصورة ما- عقوباتها التلقائية فإن اهتمام المحكمة هنا يتجه بعد ذلك إلى مرحلة ثانية ليست بأقل أهمية: هي اختيار العقوبة التي ينبغي تطبيقها، وفي هذا الاختيار سوف يتحرك ذكاء القاضي وفطنته –في الظاهر- حركة بالغة الحرية، ولكن هذه الحرية في الواقع ليست سوى مرادف للمسئولية الثقيلة. إذ لما كان هنالك اعتبارات مختلفة تجب مراعاتها، وكان على عنصر النسبية أن يتدخل فإن القاضي سوف يؤدي هنا دور الطبيب المعالج تماما، فكما أن الطبيب يجب أن يراعي مزاج المريض، والخصائص النفسية الكيميائية للدواء، والظروف الزمانية والمكانية للعلاج، قبل أن يصف الدواء الأكثر فاعلية والأقل إزعاجا، في كل حالة تعرض عليه فكذلك الأمر هنا، تتأثر العقوبة تبعا لثقل الواجب المختار، وطبيعة الجرم، والظروف التي خالف فيها القاعدة، ومشاعر أصحاب الحق (حين تتصل الجريمة بأضرار ترتكب في حق الغير)، إن العقوبة حينئذ يجب أن تتنوع بدقة، ابتداء من مجرد التأنيب على انفراد أو التعنيف أمام العامة، على تفاوت في قساوته، حتى السجن، زمنا يطول أو يقصر، والجلد، عددا يقل أو يكثر، ولكنه لا يصح بعامة أن يبلغ عدد الجلد المنصوص عليه في الحدود (وهذه النقطة موضع خلاف).

هذه الطرق في العقوبة لا تقتصر على كونها قابلة لمختلف الأشكال المخففة على تفاوت تبعا للحالة المعروضة، بل أن التعنيف ذاته يمكن أن يهبط إلى درجة نصيحة خيرة، أو تعليم خاص منزه، ليس هذا فحسب، بل إن من حق القاضي، وربما من واجبه أن يغض بكل بساطة عن بعض الأخطاء القليلة حين تقع من إنسان ذي خلق، وقد ورد في ذلك أثر منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الصحة العالية، قال: “أقيلوا ذوي الهيآت (أو ذوي الإصلاح) عثراتهم، إلا الحدود”.

هذا التصور الإسلامي لمهمة القاضي ولكيفية سير العدالة هو تصور مثالي كامل بلا شك، ولكنه من ناحية يعتمد على كفاءة القضاة للقيام بهذه المهمة الخطيرة، ومن ناحية أخرى فهذا التصور يتعارض مع بعض المبادئ المقررة حديثا وهي كما أسلفنا مبدأ التقنين، ومبدأ فصل السلطات ومبدأ “لا جريمة ولا عقوبة بغير نص”.

ولا تنفرد الشريعة الإسلامية بهذا التصور لمهمة القاضي ومعارضته هذه المبادئ الحديثة، فالنظام الأنجلوسكسوني قريب الشبه –من هذه الناحية- بالشريعة الإسلامية، إذ أن الاعتماد على السوابق أكبر من النصوص المكتوبة، ثم أنه في حالة اختلاف لمبادئ القانون العادي Common Law عن قانون العدالة Equity Law فإنه يجب على المحاكم تطبيق قانون العدالة دون القانون العادي، ومصدر قانون العدالة لم يكن في أدوار تطوره سوى العدالة التي يوحي بها العقل والضمير بصرف النظر عن التقاليد أو القواعد القانونية.

غير أن هذا التصور لمهمة القاضي وسير العدالة، وإن اعتبر أصلا إسلاميا، لم يكن مانعا من تصور مقابل هو تقنين الشريعة وتقييد القضاة بهذا التقنين، وكان هذا التصور مبكرا في عهد الخليفتين المنصور والرشيد، قبل أن تظهر دواعي التقنين المتصلة بضعف القضاة وتدهور النظام كله.

لقد أثيرت مسألة التقنين بوضوح منذ طلب الخليفتان أبو جعفر المنصور ثم هارون الرشيد من الإمام مالك وضع كتاب موحد يلتزم به القضاة وكانت دواعي التقنين ومنهجه واضحة في ذهن الخليفتين على ما نقله لنا التاريخ، ولكن الإمام مالك أصر على رأيه في عدم تقييد القضاة برأي واحد لأن مع كل رأي من الآراء المختلفة جزء من الحق.

وتفصيل ذلك أن ابن المقفع كتب إلى الخليفة أبي جعفر المنصور رسالته المعروفة برسالة الصحابة ذكر فيها أن القضاء متروك لرأي القاضي واجتهاده “حتى تصدر عن ذلك الأحكام المتناقضة حتى في البلدة الواحدة، فتستحل دماء وخروج أموال في ناحية وتحرم في ناحية أخرى تبعا لحكم القاضي”. ثم يذكر أصحاب الرأي وأصحاب الأثر من القضاء وأن بعض هؤلاء يقضي بما شاء “ثم إذا قيل له أن مثل هذا الأمر لم يرق فيه دم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أئمة الهدى من بعده قال: (فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء) وأن بعض هؤلاء يزعم أنه من أهل الرأي، (فيقول في الأمر الجسيم قولا لا يوافقه عليه أحد، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنه رأي له).

ثم ينتهي ابن المقفع إلى غايته من رسالته فيقول مخاطبا المنصور: (ورأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه القضية فترفع إليه في كتاب ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس. ثم نظر أمير المؤمنين في ذلك، وأمضى في كل قضية رأيه، ونهى القضاة عن القضاء بخلافه وكتب بذلك كتابا جامعا، رجونا أن يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ، حكما واحدا صوابا) وهكذا كان اقتراح ابن المقفع شاملا لتدوين الأحكام القضائية وإقرار مبادئ موحدة فيها وإصدار قانون موحد ملزم للقضاة.

وقد هم المنصور بأن يأخذ بمشورة ابن المقفع. ولكن على طريقة أخرى هي أن يجعل من كتب الإمام مالك، دستورا للشريعة وقانونا للأحكام. ولكن مالكا أبى ذلك (ليترك للشريعة سعتها، ويترك للعلماء حريتهم في فهمها و الاستنباط منها، والحكم بالرأي الذي تطمئن إليه أفهامهم وقلوبهم وضمائرهم.

يقول ابن سعد في “الطبقات” أن المنصور عندما قصد إلى الحج طلب الإمام وقال له: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره.

قال مالك: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل. فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما أختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.

وقد روى ابن قتيبة قصة مالك والمنصور هذه في خبر طويل يقول فيه أن المنصور قال لمالك: “يا أبا عبد الله، ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة رضي الله عنهم. لتحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها، ولا يقضوا بسواها”.

فقلت له: أصلح الله الأمير، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا.

وقد استمع المنصور بعد ذلك إلى نصيحة الإمام مالك فلم يفعل ما كان يريد.

ولكنا نجد المحاولة نفسها تعود مرة أخرى، يحاولها الخليفة هارون الرشيد.

فقد روى خبر آخر عن الإمام مالك –كما في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني- يقول أن الرشيد شاور مالكا في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على اتباع ما فيه فقال له مالك: “لا تفعل، فإن أصحبا رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلاد وكل مصيب”.

يتضح مما تقدم أن مسألة التقنين كانت مثارة في هذا العصر المتقدم -لا على أساس ضعف القضاة وعجزهم عن الاجتهاد- وإنما على مستوى آخر يتعلق بمهمة القاضي والحرية الواجبة له ليحكم وفق ما يرتاح إليه فهمه ويطمئن إليه ضميره.

فالمسألة إذن مسألة مبدأ أساسي، تمتد جذوره إلى النصوص والممارسة في صدر الإسلام والتصور الإسلامي لمهمة القاضي وسير العدالة.

فهل هناك دواع للتقنين تصل من القوة إلى حد التضحية بهذا الأصل؟ وألا يمكن معالجة الوضع بغير هذه التضحية؟

إذا كانت لا مندوحة عن التضحية، فما هي الضوابط التي تجعل التضحية في أضيق نطاق؟ على هذه الأسئلة يدور بحثنا في الصفحات التالية.

دواعي التقنين:

عرضنا فيما سبق لرأي ابن المقفع الذي تابعه فيه أبو جعفر المنصور وهارون الرشيد في تقنين الشريعة، كما عرضنا للخلاف بين تيبو وسافيني في القرن التاسع عشر حول التقنين، ويمكننا أن نوضح ما أثير من مبررات للتقنين في الماضي والحاضر على الوجه التالي:

1- أن تقنين أحكام الشريعة يجعلها معروفة من الناس الذين تطبق عليهم، إذ أن معرفة القانون شرط أساسي لنفاذه وهذا ما يعبر عنه حديثا بنشر القوانين في الجريدة الرسمية وإعلانها بمختلف طرق الإعلام الأخرى، وحينئذ يحق تطبيق قاعدة “لا يعذر أحد بجهله بالقانون”. والتي نجد أساسها في الإسلام في الآية الكريمة “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”. وفي الحديث: (الحلال بين والحرام بين).

2- أن اختلاف الآراء الفقهية حول حكم الشريعة في مسألة معينة يجعل هذا الحكم غير محدد، واختيار أحد هذه الآراء وإصدارها بقانون يحسم المسألة ولا يترك مجالا لغموض القاعدة القانونية.

3- أن تقنين أحكام الشريعة يجعل الرجوع إليها سهلا لا يشق على القضاة والمتقاضين فضلا عن عامة الناس بخلاف ترك هذه الأحكام موزعة في كتب الفقه خاصة على ترتيبها القديم مما يصعب معه الرجوع إليها.

4- هذا فضلا عما في إطلاق حرية القاضي من خطر إذ لا تؤمن كفاءة القاضي أو نزاهته ويصبح تحكمه المطلق في تبين القاعدة القانونية أو وضعها (في حالة الاجتهاد) مصدر خطر على العدالة. ويقابل هذه المبررات للتقنين، اعتراضات عليه. نجملها فيما يلي:

1- إن التقنين مهما كان متقنا يظل ناقصا وتكتشف ثغراته يوما بعد يوم مما يفوت كثيرا من المصالح التي تعالجها حرية القاضي في حالة عدم وجود تقنين.

2- إن علاج نقص التقنين أو خطئه أو قصوره إنما يكون بتعديله بنفس الإجراءات التشريعية المتبعة في إصداره وهي طويلة ومعقدة.

3- إن التقنين يضع القاعدة القانونية في قوالب محددة بينما الحالات العملية التي تطبق عليها هذه القاعدة ليست متماثلة مما يجعل القاعدة مناسبة لإحدى الحالات التي تصورها المشرع عند التقنين وغير مناسبة للحالات الأخرى إلا بشيء من التجاوز، بخلاف الحال عند عدم وجود تقنين إذ يكون أمام القاضي حرية معالجة كل حالة بما يناسبها دون التقيد بقالب محدد مصنوع مسبقا.

4- يضاف إلى ذلك أن العمل قد أثبت صحة هذه الاعتراضات وأصبحت التقنيات في كثير من الحالات في واد والواقع التي تطبقه المحاكم في وادٍ آخر، بمعنى أن التقنين لم يستطع الاستغناء عن حرية القاضي وسلطته في التقدير وإنما وضع عليها قيودا تعوق سيرها السليم في أداء العدالة.

5- إن التقنين لا يحدد فقط القاعدة القانونية وإنما يجمدها أيضا، إذ إن التطور الاجتماعي المستمر تقف أمامه القاعدة القانونية جامدة حتى يتبين للأجهزة التشريعية تخلفها عن مسايرة هذا التطور فتعمد إلى تعديلها، بينما القاضي يستطيع مسايرة هذا التطور في حالة عدم وجود تقنين من يوم على يوم ومن حالة إلى حالة دون انتظار مضي وقت طويل وما يصحبه من وقوع مظالم نتيجة عدم ملاءمة القاعدة الجامدة للتطور المستمر.

وليس من السهل الاختيار بين هذين الرأيين المتقابلين بهذه الصورة الحادة، فلنحاول علاج عيوب كل منهما حتى يكون الاختيار بعد إنضاج الرأي وتصوره من الناحية العملية.

(أ) لنحاول أولا تصور الإبقاء على حرية القاضي دون إصدار تقنين مع معالجة العيوب التي نسبت إلى هذا الرأي.

ويمكن إيجاز هذا العلاج فيما يلي:

1- علاج عدم معرفة القانون وعدم تحديده يمكن أن يتم بتجميع أحكام القضاء والمبادئ القانونية التي يقررها وتصنيفها وتسهيل تداولها، الأمر الذي ينبغي القيام به على أية حال لأهمية أحكام القضاء حتى في حالة وجود تقنين محدد مكتوب.

2- الأخذ بنظام درجات التقاضي تؤمن كذلك حالة خطأ القاضي، فتكون فرصة المتقاضين أمام محاكم الاستئناف في علاج ما وقع من خطأ أمام محاكم الدرجة الأولى لا في ناحية الوقائع فحسب وإنما كذلك في استظهار القاعدة القانونية وتفسيرها، ثم يكون المرجع الأعلى أمام محكمة النقض التي تتخصص في معالجة الخطأ في تطبيق القانون والتي تكون أحكامها هادية للمحاكم الدنيا مما يعين على توحيد القاعدة القانونية دون أن تكون هذه المحاكم ملزما قانونا باتباع القواعد التي تضعها محكمة النقض وبذلك يظل للقضاة حريتهم في الاجتهاد، وهذا هو المعمول به الآن حتى مع وجود تقنين محدد مكتوب حيث تقوم محكمة النقض بهذا الدور.

3- ثم يكون الإصلاح الحقيقي الخطير هو إصلاح القضاة أنفسهم وإصلاحهم ضروري على كل حال فلا ينظر إلى القضاء على أنه مهنة ككل المهن أو وسيلة لكسب الرزق يولاها من بيده مسوغات التعيين، ثم نجأر بالشكوى من تسلسل الرشوة والوساطة على ساحة القضاء، ويتسم العمل على أحسن الفروض بالروتين الذي لا يشكو منه الجهاز الإداري بأكمله، ويصبح الاهتمام بالكم مقدما على الاهتمام بالكيف فيطلب من القاضي نظر عشرين قضية على أقل تقدير قد تصل إلى المائتين في جلسة واحدة. وإذا نشط التفتيش القضائي انصرف إلى محاسبة القاضي على عدد الأحكام التي يصدرها كل شهر، ووضعت التقارير وتمت الترقيات والعلاوات على هذا الأساس. على آخر ما يعرفه المشتغلون بالقضاء والنيابة والمحاماة. وما يلمسه المتقاضون أنفسهم في كثير من الأحيان.

ينبغي أن نضع القضاء في مكانته الحقيقية السامية، وأن نتشدد في شروط تولية هذا المنصب الخطير، فلا يكتفي بالشهادة القانونية العامة، بل يشترط شهادة عليا من معهد للقضاء، لا يكتفى بالخبرة وطول الممارسة للأعمال القانونية وإنما تشترط تقارير عدة عن النشاط والدقة والشعور بالمسئولية والأمانة والنزاهة إلى غير ذلك من الصفات الضرورية.

هذه وأمثالها شروط ينبغي توافرها في القاضي الذي يقتصر دوره على تنفيذ القانون، وهي مطبقة بصورة أو بأخرى في البلاد المتقدمة، أما إذا أردنا للقاضي أن يجتهد دونما قانون مكتوب يقيده، فلا تكفي هذه الشروط بل ينبغي أن يضاف إليها شروط الاجتهاد على التفصيل الذي سنتناوله فيما بعد.

(ب) هذه الشروط –مهما خفف من تشددها الاكتفاء بمرتبة الاجتهاد الخاص، ومهما سهل توافرها تيسير أدوات الاجتهاد من موسوعات قرآنية وحديثية وفقهية- إلا أنه يظل من المتعذر توفير هذه الشروط في عدد كبير يغطي حاجة الجهاز القضائي الذي يضم عشرات الألوف من القضاة في أنحاء العالم الإسلامي.

إننا نفتقد عددا محدودا من هؤلاء المجتهدين لا يجاوز العشرات للقيام بمهمة التقنين ولا نجدهم، فكيف نبني نظام القضاء على أساس توافر عشرات الألوف منهم في مناصب القضاء؟

هذه عقبة أساسية لا يمكن تجاوزها وتقف –في رأينا- أمام إمكانية الأخذ بهذا النظام ورغم ما حاولنا من معالجة لباقي الاعتراضات المثارة ضده.

لا مندوحة لنا إذن من التضحية بمبدأ حرية القاضي المطلقة في الاجتهاد أمام هذه العقبة الرئيسية. والبديل إذن هو التقنين.

وما دام التقنين بديلا اضطراريا عن مبدأ أصلي، فلنضع من الضوابط ما يجعل التضحية بمبدأ حرية القاضي في أضيق نطاق، فضلا عن ضرورة معالجة ما وجه إليه مبدأ التقنين ذاته من انتقادات.

يمكن علاج ما وجه إلى التقنين من انتقادات على الوجه التالي:

1- مما أخذ على فكرة التقنين أنه مهما كان متقنا يظل ناقصا مليئا بالثغرات، وأنه يضع القاعدة القانونية في قوالب محددة، وأنه يجمد القاعدة القانونية ويقف دون مسايرتها للتطور الاجتماعي. ويمكن علاج هذه الانتقادات إذا روعي في التقنين وضع الإطار العام للقاعدة القانونية بصورة مرنة دون دخول في التفاصيل وبذلك يترك القاضي –ضمن الإطار العام- سد الثغرات ومراعاة ظروف كل حالة ومسايرة التطور. وبذلك نجمع بين ميزات حرية القاضي وميزات التقنين بأن نختار الطريق الوسط بينهما.

كما أخذ على التقنين أن تعديله يتطلب إجراءات طويلة معقدة وهذا يمكن علاجه بقيام هيئة للمجتهدين بهذه المهمة بصورة متحررة من روتين الجهاز النيابي الحالي الذي ينبغي –في رأينا- أن تقتصر مهمته على رقابة أعمال الحكومة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر