ليس بين علماء المسلمين اليوم- والحمد لله- من يمنع الاجتهاد، أي استفراغ الوسع وبذل الجهد في طلب الأحكام من مصادرها الأصولية أو من أدلتها الشرعية. وليس بينهم من يدعو إلى التقليد: أي العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة. كان ذلك في عصر مضى رؤى فيه أن المذاهب الأربعة كافية، وأن استمرار الاجتهاد وتباين الآراء الفقهية يؤدي إلى الانقسام، والانقسام يؤدي إلى الضعف، والضعيف مهدد معرض إلى الاضطهاد أن قاوم، وإلى الفتنة إن مال. وربما كان لأسلافنا يومئذ عذر ألا وهو القلق على مصير الأمة حيث كان يتربص بها الدوائر ثلاثة أعداء: عدوان من الخارج، أحدهما شرقي أسيوي لا دين له لا سوى «الشامانية» والآخر غربي صليبي، وعدو من الداخل هو التصوف المغرق الذي فصل ما بين الشريعة والتقوى من اتصال ومزق وحدتهما في القرآن الكريم والسنة النبوية وحياة الصحابة، فللمحافظة في مثل هذه الأحوال منافع لا تنكر. فالاجتهاد يتطلب الانفتاح، وبالانفتاح يفتن من لا صلابة في إيمانه ولا ثبات في ولائه.
لكنه بفتح باب الاجتهاد حلت بالأمة مسائل جديدة، أهمها مسألة من يجتهد؟ ومسألة فيم يجتهد؟ ومسألة كيف يجتهد؟(*)– جبهات ثلاث وقف من ورائها المسلم المؤمن الغيور على مستقبل أمته، الحريص على منفعتها، كما وقف من ورائها المسلم المغفل أو المنافق أو المستغرب أو المتعلمن.
ظن المسلم المغفل أن عدم وجود سلطة دينية في الإسلام- أي سلطة كنسية كما في المسيحية- جعل الاجتهاد حقاً لكل مسلم ينشده أنى شاء. وقد شاع هذا الرأي بين المسلمين الأخصائيين الذين تثقفوا قليلاً في العلوم والآداب لكنهم لم يتفقهوا في الدين. فلم يدركوا أن للاجتهاد لوازم- وهم الذين ساووا بين التفقه والاجتهاد ظناً منهم أنهما شيء واحد فالمسلم الفرد ليس فقط مسموحاً له بالتفقه في الدين بل هو مكلف بذلك تكلف عين لكن شتان ما بين التفقه في الدين والاجتهاد، فالأول يفترض نقصاً في الفهم يحاول صاحبه ملأه بينما يفترض الثاني ملأ في الفهم يحاول صاحبه تمديده لتطبيقه على ما لم يعرفه المسلمون من قبل وحرى بالذكر أن التفقه في الدين واجب على كل امرئ في الإسلام فقط من دون الأديان جميعاً فالإسلام وحده جعل الكتاب مفتوحاً لجميع الناس، وهو وحده جعل للعلم والحكمة- أي التفقه في الدين درجة رفيعة في سلم القيم فالاعتراف بهذا الفضل للإسلام وتأكيده يجب ألا يطغى على إدراك فحوى الاجتهاد، وتقدير لوازمه حق قدرها.
أما المسلم المنافق فهو الذي يأبى أن يطبق الإسلام ويفلح به المسلمون بل يريد له أن يكون ديناً مقعداً مفلساً كما أصبحت الديانات في هذا العصر، يتعاطاه المساكين أفيونا ليسكنوا به آلامهم، والشيوخ أملاً في استبدال الحياة السائرة إلى الموت بحياة أخرى، وهو- أي المنافق- يريد للإسلام أن يصبح أمراً شخصياً لا اجتماعياً، إذ يقول لك «الدين لله والوطن للجميع» أو أن يصبح أمراً روحياً لا علاقة له بالمادة، إذ يقول لك «إنما الدين النشوة أو الرؤيا أو الكشف اللدني» مقصياً واقع الحياة وطارحاً به إلى أحضان قيصر أو الشيطان الرجيم، وهو أخيراً يريد للإسلام أن يقف- إن وقف- على أساس من الشعور، لا من العقل إذ يقول لك: إن طريق الشك والفرض والاختيار- غير طريق الشعور الذي لا حساب فيه ولا مسئولية «فالمنافق ينسب الشريعة إلى جيل قديم مضى، إلى الصحراء أو المدينة البدائية، إلى نظام رعوي أو زراعي قديم. وعنده أن تمسك الإنسان بالدين يرجع لرابطة عاطفية نسبية فبما أن العلوم كلها قائمة على العقل فلا مكان لها في الدين لكنها بانفصالها هذا عن الدين، تأخذ معها الحياة المعاصرة القائمة على العلوم كأساس، وبذلك يتم الفصل بين الدين والحياة. يبغى المنافق هدفه هذا أيضاً عن طريق الاجتهاد، فهو يسمى دعوته ممارسة لحقه في الاجتهاد، ثم يخضع كلام الله تعالى وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم إلى تحليل تاريخي أو نفساني يخرج منه جازماً بنسبية الدين وعدم عقلانيته. ولا تجدي إجابة المنافق بأنه مغفل يحاول التفقه في الدين ويفشل في سعيه، لأنه يؤكد أنه يجتهد، بمعنى أنه يطلب الأحكام من أدلتها الشرعية، وأن اجتهاده هو الذي يوصله إلى تعطيل الأحكام لنسبيتها التاريخية وعدم عقلانية الأساس الذي تقوم عليه.
لذلك وجب نقض المنافق بالتأكيد على أن الإسلام دين ودنيا، روح ومادة، فرد وجماعة، قانون وأخلاق، تقوى وإنتاج، أمل ودستور، يعبئ العاطفة والعقل ويشحذ الهمة والنظر.
وما أظن «المستغرب» أو «المتعلمن» ببعيدين عن المنافق فكلاهما فهل من مناهل الغرب وتربيا على منهجيته، وكلاهما يردد نفس الحجة بقصد الوصول إلى تعطيل أحكام الشريعة وهما أيضاً يبغيان هدفهما عن طريق الاجتهاد. أي طلب الأحكام من مصادرها الأصولية، مدعين أنه لا يمنع تعطيل الحكم من أن يكون حكماً اجتهادياً بالمعنى الاصطلاحي. ويظنان أن الاجتهاد حق من حقوقهما، تماماً كما يظن المنافق.
لكن الاجتهاد ليس مباحاً لكل من راوغته نفسه الاجتهاد والخوض في الشريعة وقد قال السلف أنه يشترط في المجتهد أن يكون ذا علم باللغة العربية والتفسير وأصوله وأسباب النزول، ملماً بالقرآن الكريم والحديث الشريف مصدري الشريعة الأولين، عارفاً برواة الحديث ومناهج الجرح والتعديل، مدركاً للأدلة الشرعية وطرق استنباط الأحكام.
غير أن السلف لم يشترطوا توافر هذه اللوازم إلا في المجتهد المطلق (أي الذي ينشد الاجتهاد في جميع حقوق الفقه) ولم يشترطوها في المجتهد في الشرع (أي المستقل بمذهبه) أو في المجتهد في المذهب (أي المذهبي المخالف لإمامه في تفريع المسائل) أو في المجتهد في المسائل (أي مجتهد الفتيا) أو في المجتهد المقيد (أي المخرج والمرجح في المذهب الواحد) لكن هذه الشروط جميعها لا تمنع منافقي ومستغربي ومتعلمني هذا القرن من إدعاء الاجتهاد، ذلك أنهم يدعون الاجتهاد المطلق بحجة شمول المشاكل المعاصرة للحياة برمتها، مما يستلزم- حسب ادعائهم- فقهاً كلياً جديداً.
ولا يقبل من علمائنا ادعاؤهم بأن باب الاجتهاد مغلق فالأمة تقف على مفترق طريق لا يجوز لها اجتيازه دون اجتهاد مطلق، كما لا يجوز إنكار حجة المنافقين والمستغربين والمتعلمنين بأن مسائل العصر الحديث غيرت من أوضاع البشر- أو كادت تغيرها- تغييراً جذرياً.
إلا أنه يمكننا أن نضيف إلى اللوازم التي اشترطها السلف لازمة جديدة هي الإسلامية- أي فهم مقاصد الشريعة الحضارية وإرادة تحقيقها والولاء لها. ويمكننا تبرير اشتراطنا لهذه اللازمة بحجتين، الأولى إرادية، والثانية تفهمية: نقول الأولى أن الإسلامية شرط سابق لشروط الاجتهاد المذكورة. ذلك أن شروط الاجتهاد السلفية شروط مصنفة للاجتهاد بينما شرط الإسلامية هذا شرط موجد فالمجتهد العالم بطرق استنباط الأحكام المتبحر في اللغة والملم بمناهج الجرح والتعديل أعلم من غيره وأقدر على الاجتهاد ولكنه إذا لم يتصف بالإسلامية يكون مناقضاً لنفسه، أنى له طلب أحكام الإسلام من أدلتها الشرعية بينما هو لا يريد أن يقيم للإسلام حكماً؟ وتقول الحجة الثانية- وهي التفهمية المنهجية- أن للأحكام التي ينشدها المجتهد مقاصد تعلو عليها، فلابد من تفهم تلك المقاصد أولاً. لكن المقصد النهائي الذي لا مقصد بعده لحكم ما هو القيمة والقيمة لا تفهم إلا بتحبيذها فعلاً بينما انتفاء «الإسلامية» يعني انتفاء بتحبيذها قيم الإسلام.
لابد إذن للمجتهد المعاصر من إدراك قيم الإسلام بهيكلها الهرمي، إذ القيمة هي ما يجب أن يكون أما الحكم فليس إلا وسيلة من وسائل تحقيقها ومن المحال أن تتعارض الوسيلة مع المقصد الرامية إليه، فإن فعلت فهي وسيلة لغيره لا له. ومن ثم يصبح من المحال أن يؤدي الاجتهاد إلى تعطيل الحكم ويسمى اجتهاداً لأن التعطيل مضاد للعلاقة بين الوسيلة والقصد. هذا بالإضافة إلى أن القيمة- كما يبين علم النفس الحديث- لا تعرف ولا تفهم إلا بشيء من التحبيذ لها. ففهم القيمة ليس فهماً نظرياً صرفاً كفهم المعاملة الحسابية، بل يشارك فيه الحدس العاطفي العقل النظري وهذا لا يتوفر إلا بالإسلامية… هذا كله يتصل بالجبهة الأولى، جبهة «من يجتهد».
***
الجبهة الثانية تتعلق بقضية «فيم يجتهد هذا المجتهد؟».
انحصر الاجتهاد على يد السلف في عملية استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية أو مصادرها الأصولية. إلا أن المسلمين أخذوا هذه العملية مأخذ التخصص القضائي، ففهموها على أنها لا تتعدى المحاكم الشرعية فيما يؤول إليها من مسائل. فما الذي دعاهم إلى هذا الحصر؟
دعاهم إلى ذلك انحسار الوعي الإسلامي نفسه، فبينما كانت تسود في صدر الإسلام رؤيا عامة شاملة لجميع مرافق الحياة تؤثر في كل عمل وكل دقيقة من حياة المسلم، كان السائد في القرون التالية عبادات يؤمها الأئمة، وقوانين تديرها المحاكم، وحلقات ذكر ورياضة روحية يرودها مشايخ الصوفية. ولم يتساءل المسلمون عن علاقة الإسلام بالآداب والعلوم والفنون التي بقيت خارج الحظيرة، ولا بالتجارة والزراعة والصناعة، ولا بسبل العيش الأخرى من سياسية وعسكرية واجتماعية إلا ما اتصل منها بالقوانين والمحاكم وها نحن أولاء نفيق من سباتنا فنجد أن أثاثنا في البيوت فرنجى، وأن ملابسنا فرنجية، وأن سبل الترفيه لدينا فرنجية، وأن علومنا الحديثة كلها فرنجية، وأن عمارتنا فرنجية، وأن أدبنا آخذ في التفرنج مثل بقية فنوننا المرئية. بل إن لغة التخاطب عندنا كثيراً ما تعتريها المصطلحات الفرنجية.
فإذا أردنا أن تنفض هذا الاستغراب ونعيد للإسلام شموله الأول وتأثيره في جميع شئون الحياة، وجب علينا أن نعمم الاجتهاد ونوسعه لأنه سبيلنا إلى ذلك لاستحضار- أي جعل الإسلام حاضراً في كل مناهج الاجتهاد مقولة فقهية لها إطار تطبيقي خاص ولا يعنيها تنشيط الإسلام في الإطارات الأخرى. فالمجتهد المعاصر يفترض أن الشمول صفة للإسلام، وبالتالي لفقه الإسلام وهو لا يريد أن تكون الإطارات غير الفقهية خارجة عن نطاق الفقه؟ فالمطلوب هو بالذات تضييق إطار المباح إلى أن يصبح صفراً فقد برهن العصر الحديث على أن لهذه الإطارات أهمية كبيرة إذا لم نعن بتطويعها لمنطق الإسلام وحكمه وقيمه فإنها لا شك مطوعة لخدمة الحضارة الغربية بل هي مدخل تدخل منه تلك الحضارة لنسف الإسلام وتهديده من الداخل. فمن منا لا يرى اليوم ضرورة «أسلمة» الأدب من شعر وقصة؟ أسلمة العلوم الحديثة؟ من علم تربية إلى علم اجتماع إلى علم نفس إلى علم تاريخ إلى علم جغرافيا؟ أسلمة الفنون المرئية والسمعية من عمارة وتزيين ورسم وموسيقى؟ أسلمة مواد الترفيه من راديو وتليفزيون ومسرح وسينما؟ أسلمة مدارسنا وجامعاتنا التي لا تزال تبث سموم الاستغراب والعلمنة في شبابنا بثاً؟ أسلمة الكثيرة من عاداتنا الاجتماعية المستوحاة من الأفندي المستغرب «مثال الحضارة» الذي يتطلع إليه الملايين من أهل المدن في يومنا؟ ولن يجدي أن نجعل تأثير الإسلام في مثل هذه الأمور مجرد ندب. نحن نعيش في أزمة هوية ووجود لن نخرج منها منتصرين إلا إذا أتحنا للإسلام أن يدير كل ناحية من نواحي الحياة إدارة أفعل وأحكم، إلا إذا قضينا على المباح كمقولة فقهية وجعلنا الأعمال الإنسانية كلها بين مندوب وواجب.
***
نأتي إلى الجبهة الثالثة، «جبهة كيف نجتهد».
إن طرق الاجتهاد التي عرفها السلف المتأخر تقوم على التخريج والترجيح بين الآراء الفقهية في المذهب الواحد، أو تفريع المسائل، أي تطبيق مبادئ المذهب الواحد على المسائل الجديدة، أو مخالفة أمام المذهب والأخذ بمبادئ من المذاهب الأخرى، أو حتى الاستقلال بمذهب جديد وهو اجتهاد الأئمة الكبار وهي بذلك طرق محدودة المنفعة. فإن أجدت في حل بعض المسائل كان إتباعها خيراً. إلا أن أهم مشاكل العصر الحديث لا تحل عن سبيل الاجتهاد المعروفة هذه لأنها لا تصلح لها. وعدم الصلاحية لا يرجع هنا إلى نوعية الطرق، بل نوعية المشاكل التي يواجهها العصر الحديث. فمن جهة: أن المسلم المعاصر سواء أكان من المخرجين من الجامعة المتشربين لتعاليمها الغربية أو من أهالي المدن الذين تخلقوا بأخلاق الأفندي المستغرب، لم يعد يدين بالولاء لأي مذهب فقهي. ومن جهة أخرى: المشكلات التي تعترضه يتطلب حلها الخوض لا في الفروع بل في أمهات المبادئ التي يعتبر الاجتهاد فيها اجتهاداً مطلقاً. والاجتهاد المطلق اليوم في الإسلام لا قواعد له أحكم تنسيقها وتقديمها حسب ما تقتضيه المنهجيات الحديثة. فالمطلوب اليوم هو تنظير القيم الإسلامية أو المبادئ الأولى، أي ربطها ببعضها البعض بحيث تؤلف في مجموعها هرماً يتسلسل فيه الفكر، بمنطق الضرورة، من طبقة إلى طبقة. وهذا يتطلب تحديد المبدأ الأول في الإسلام ثم استنباط ما يحويه من مبادئ وتحديد أولوياتها وتفاضلها، بحيث يكون الهرم مقياساً لما نريد أن نقيس من مسائل العصر.
كان هذا هو منهج الإصلاح الإسلامي الأول، الذي دعا إليه الشيخ الأكبر محمد بن عبد الوهاب إذ رأى أن المبادئ الإسلامية لابد لها من هذا الارتباط المنطقي، فابتدأ بأولها وأعلاها وأهمها- مبدأ التوحيد- وأخذ يخرج لنا ما يحتويه هذا المصدر الأول من مبادئ، فكان أول ما كتبه كتاب التوحيد، وأول ما كتبه في هذا الكتاب فصلاً بين فيه أن التوحيد حق الله الأول الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصل أصوله كلها وأساس الإيمان الأول والأخير.
فإذا صح، تبينت لنا ماهية التوحيد وهو فحوى الإسلام، استطعنا أن نطرح السؤال التالي وهو: ما علاقة التوحيد بالمسألة التي نواجهها؟ أو بالحقل النشاطي الذي نحن في صدده؟ كيف تفهم سلفنا هذه العلاقة؟- وهو الجانب التاريخي- ثم كيف نتفهما اليوم؟- وهو الجانب التنظيري المنظم لفكرنا الحديث وموقفنا في الحياة. في مثل هذا الاتجاه يبقى التوحيد- وهو الفحوى- أساساً وقاعدة نرتبط بها دون شك ونقيم عليها حياتنا الجديدة والتوحيد قادر على القيام بهذا الدور. وهذا النوع من الارتباط هو سلفيتنا فنحن والسلف نعرف هويتنا بأننا «أهل التوحيد» وقد بنى السلف حياتهم ونبني نحن حياتنا على التوحيد كأساس. أما ما فعله السلف في التاريخ فهو مثل نذكره لنتعلم منه علاقة التجسيم بالمجسم ولنقنع أنفسنا بالمجسم- وهو أهم العنصرين- فنحببه إلى أنفسنا فنتأثر ونتحرك به، ثم نحتذي حذوه حتى نجسم فحوى الإسلام من جديد وهذا ما أشار إليه ابن القيم عن أبي حنيفة وأبي يوسف: «لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا». أو أحمد بن حنبل في قوله: «لا تقلدني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا» «من حيث أخذوا» هي الفحوى وهي التوحيد الذي به وحده ندفع أذى المستغرب ونقوم الاعوجاج والخطأ في اجتهادنا. وبه ننفي اجتهاد المتعلمن عن حظيرة الإسلام، وبه نجره إلى داخلها إن كان لاجتهاده فائدة نرجوها.
ولكن: أليس في هذا الاجتهاد الجذري المطلق خطر على الإسلام وأمته؟ أليس في العودة إلى التوحيد ثم الصعود فيه إلى حقول الحياة والفكر حقلاً حقلاً مزالق قد تؤدي بنا وبتوحيدنا إلى الهاوية؟ وإذا كان هذا التحرك ضرورياً لحل مشاكل العصر أليس هنالك من سبيل أقل خطراً وتهلكه؟
الاجتهاد بالمعنى الذي اصطنعناه هو أصل الحركة الإسلامية. فالعقل والقلب اللذان ينفعلان بالتوحيد ويجعلانه المبدأ المحدد والمعين والمسبب والمؤكد والمفضل والمقدم والمؤخر لا خوف عليهما فصاحبهما قوي في إيمانه قوة الصخر، غني في ثروته الفكرية كمن في يديه أم الكتاب، قادر على الإبداع وخلق طرز جديدة للحياة. وهو أيضاً المسلم المضمون في اجتهاده وعمله، لأن التوحيد أضمن المبادئ الضامنة وتوجيهه خير توجيه. فالخطر إن كان هنالك خطر- ليس في الاجتهاد ذاته ولا في أساسه وقاعدته، لأن هذه كلها مضمونة بالتوحيد وإنما يكمن الخطر في قدرة الإنسان المجتهد على حمل مبدأ التوحيد في استعداده الشخصي للانطلاق منه مع التمسك به. وهذا النوع من الخطر غير كبير الأهمية، ذلك لأنه غير منهجي، فهو يعترى الأشخاص كأشخاص، لا المبادئ. وهو يؤلف مسألة في جبهة «من يجتهد» لا في جبهة «فيم» أو «كيف نجتهد». ولأنه شخصي، لابد لدوائه من أن يكون أيضاً شخصياً أي متعلقاً بالأشخاص. وهذا الدواء الدافع للخطر هو الإجماع.
***
لا ينفعنا أن نعرف الإجماع هنا كما عرفه الإمامان أحمد بن حنبل وداود الظاهري بأنه فقط ما صدر عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما صدر عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فحسب، أو ما صدر عن الفقهاء في عصر من العصور، وذلك لسببين: الأول أن مطلبنا لا يختص بالمسائل التي واجهها المسلمون السابقون فحسب، والتي قالوا واختلفوا ورجحوا قول الصحابة أو غيرهم من السابقين- الذين أجمعوا عليه، بل في مسائل جديدة، لا قول ولا حجة، وبالتالي لا إجماع فيها. أي أننا بصدد مسائل جديدة صرفة.
والثاني: أننا لا ننكر ولاءنا لهم، ولكننا نحدد هذا الولاء بأنه ولاء لمبادئهم أولاً وأخيراً، يقيناً منا بأن الولاء لغير المبادئ- أي للتجسيمات التي تحققت بموجب المبادئ- تقليد غير مرغوب فيه ومع هذا نحن نتقبله إن دعت الحاجة اليوم إلى نفس التجسيمات. أما إذا كان الموقف جديداً فلا حق لتجسيمات السابقين علينا. إنما الحق علينا، كل الحق، لمبادئهم الأولى التي تجسمت في تجسيماتهم المعينة. وهذه المبادئ الأولى احتواها التوحيد.
وليس الإجماع أيضاً إجماع أهل المدينة كما قال الإمام مالك، فذلك حصر للإجماع أشد مما ذكرنا. وبالتالي أدعى للمعارضة. وكذلك لا نعد الإجماع السكوتي إجماعاً كما قال الإمام أبو حنيفة، ولا نعده ظنياً كما قال الآمدي، بل ننفيه كما فعل الشافعي مع مخالفتنا له للسببين المذكورين فيما تقدم.
في رأينا- ونحن نتفق في هذا مع جمهور الفقهاء في جميع العصور- أن الإجماع هو اتفاق جميع المجتهدين في عصر ما على حكم من الأحكام. ذلك أن الإجماع حجة متعلقة بالأشخاص، والأشخاص لا يخرجون عن كونهم عناصر تاريخية، أي أنهم يعيشون في عصر من العصور. نحن نسلم بأن تعريفنا الإجماع «باتفاق المجتهدين» يخضع الإجماع للأزمات الاجتهاد الشخصية: أي إجادة اللغة العربية وعلوم القرآن الكريم والحديث الشريف والأدلة الشرعية وطرق استنباط الأحكام. ولكننا نذكر أننا أضفنا إلى هذه اللوازم الإدراك والتفهم المشبعين بالتوحيد كفحوى الإسلام. لذلك لا ضير علينا أن عرفنا الإجماع باتفاق أولئك المجتهدين في عصرنا.
نحن نيقن أن «يد الله مع الجماعة» وأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تجمع على ضلالة، كما روى عنه عليه الصلاة والسلام. ولكننا نيقن أيضاً أن إجماع الأمة بإجماع مجتهديها، وأن إجماعها على نوعين: أولهما إجماع المبادئ أي فحوى الإسلام- وهذا أزلي، حجة على كل مسلم في شتى الأقطار والأزمان. والآخر إجماع التجسيم- أو التطبيق- وهو إجماع مرتبط بالعصر الذي وقع فيه، له قيمته التعليمية، المثلية، دون أن تكون له القيمة المطلقة، الخاصة بإجماع المبادئ.
وهذا يوصلنا إلى مبدأ أننا ننشد الإجماعين: إجماع المبادئ وهذا غير متعلق بالاجتهاد بل هو نتيجة التربية الإسلامية، فكل مسلم مكلف بتحقيقه والدعوة إليه ونشره وضمان استمراره من جيل إلى جيل، وإجماع التطبيق أو التجسيم، وهو الذي يناط باجتهاد المجتهدين. وهو يوصلنا أيضاً إلى مبدأ أن إجماع التطبيق ملزم لنا وغير ملزم للأجيال اللاحقة. وبلزومه حالياً يضمن لنا صلاح تطبيقنا للتوحيد كفحوى الإسلام.
والسؤال الآن: كيف ذلك؟
إذا صح أن تفهمنا للمبادئ يصححه تراث الإسلام من نص قرآني أو حديث شريف أو رواية عن الصحابة أو عن فقهاء المسلمين وعلمائهم في شتى العصور السالفة، أو فعل أو سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته رضي الله عنهم، أو عن أئمة المسلمين وجميع السلف، فلا يوجد ما يصحح تطبيقنا للمبادئ حالياً إلا إجماع المعاصرين من المسلمين. فهم الذين يعرفون المبادئ- بفرض أنهم مسلمون- وهم الذين يعرفون الأحوال المعاصرة- بفرض أنهم معاصرون- ولا يحتمل إجماعهم على خطأ إلا في حالتين: جهل مطبق للمبادئ والأحوال المعاصرة، أو نية سيئة تجاه المسلمين. وكلا الاحتمالين مردود بالحديث الشريف: «يد الله مع الجماعة».
***
لهذا يطابق تعريفنا للاجتهاد تعريفنا للإجماع، ويكمل كلا التعريفين الآخر وهكذا لا يستوي الاجتهاد إلا بالإجماع كما أنه لا حاجة للإجماع ما لم يكن هناك اجتهاد وأن الحياة البشرية لا تستوي إلا بالاثنين معاً، فإن الفرد الاجتهاد تفتتت الأمة إلى مجتهدين مبدعين في تطبيقاتهم لا تلبث تجسيماتهم للمبادئ أن تطغى على المبادئ نفسها- وهذا هو الانتقال من التوحيد إلى غير التوحيد، وإن انفرد الإجماع تيبست الأمة وجمدت وتمادت في تقليدها للسلف إلى أن تمر بها الحياة فتندثر.
ولا يكفي أن يجتمع الاجتهاد والإجماع في الأمة فالمطلوب هو الممارسة. وممارسة الاجتهاد تؤدي إلى إبداع التصورات والحلول والتطبيقات والتجسيمات الجديدة. وممارسة الإجماع تؤدي إلى طرح هذه التصورات والحلول والتطبيقات والتجسيمات الجديدة في السوق كي يتناولها كل من آنس في نفسه القدرة على الاجتهاد فيبحثها ويتجادل فيها ويهاجم وينقد أصحابها ويقوم أولئك بالدفاع عنها وشرحها وتحليلها وإيضاحها. ولابد أن تستمر المناقشة إلى أن يقنع المجتهد المسلمين بصلاح اجتهاده أو يقنع المسلمون المجتهد بفساده وممارسة الإجماع توصل إلى هذا الإقناع والاقتناع من قبل العارض والمعروض عليه وصحة الأمة وفلاحها- لا شك إذن- في الحركة بين اجتهاد جديد يحطم الإجماع القائم بين المسلمين، وبين إجماع جديد يعبر عن اقتناع المسلمين بالجديد المجتهد فيه. وكلما زادت هذه الحركة سرعة كلما كانت الأمة صحيحة وكلما زادت بطئاً، كلما كانت الأمة مريضة. والأمة المفلحة هي التي تتأجج فيها العقول اجتهاداً، ويتأجج فيها النقد والنقاش تحصيلاً للإجماع.
واضح أن تأجج الاجتهاد ظاهرة الفكرة الحي والتأمل المبدع والوعي بالمسائل الجديدة وأحوال الحياة المتغيرة. وواضح أيضاً أن الاجتهاد أن توفر فيه ما ذكرنا، كان ظاهرة لحركة في الوعي تنشد الشمول والعمق والجديد في تطبيق التوحيد، أي في تجسيمه في التاريخ- ولا معنى قط جدير بالاعتبار غير هذا لما أراد تعالى من «جعل كلمة الله العليا».
ولعله يتضح من قولنا اليوم أن ممارسة الإجماع تعني ظاهرة المجتمع الحي النابض- فالممارسة تقوم بالاتصال بين البشر على صعيد الفكر، أي بتحاك العقول بين المسلمين. بعضهم البعض، مع احترامهم لآراء المخالفين منهم، واعترافهم بالحق ولو على أنفسهم. ولن تتوفر هذه المقومات للإجماع إلا إذا وجد العلماء والفقهاء الذين لا ينفكون قط يطلبون العلم والتفقه في الدين، يطلبون الحكمة ويسهرون على مصلحة الناس وتحقيق المنفعة والسعادة لكل مسلم في كل بقعة من بقاع الأرض. ولن تتوفر أيضاً إلا إذا وجدت المعاهد والمكتبات والندوات والصحافة الحرة المسئولة، كي يشارك الناس علماءهم وفقهاءهم في تفهم الدين وتقدير المصالح الإنسانية.
(*) لا شك أن التاريخ الإسلامي قد عرف هذه المسائل الثلاث إذ بحثها السلف، وأفاضوا القول فيها. غير أن جدتها اليوم في كونها تعاودنا بعنفوان ومنطق جديدين.