إذا بحثنا اليوم عن أسباب عدم تمسك المسلمين بدينهم وجدنا السبب الأول هو أزمة الإيمان أو مشكلة الإيمان. ثم إن دعاة الإلحاد يضعون خططا مدروسة لخداع الناس بالكفر لهدم الدين من أساسه لأنهم إذا أبطلوا الإيمان أبطلوا الأديان كلها فإذا كونّا إيمانا
علميا قويا حيا بالله وبالإسلام كدين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أدخلنا محركا في القلوب يحرك الإنسان إلى الالتزام بالإسلام.
إن من يؤمن إيمانا قويا بالله وبالإسلام لا يمكن أن يتخلى عن هذا الدين ولا تستطيع أن تغير اتجاهه تلك الدعوات والتيارات الفكرية التي تهب على عالمنا الإسلامي من هنا وهناك.
وإن الذين يقولون بألسنتهم آمنا ولا يعملون بموجب إيمانهم فإن في إيمانهم شكا أو ريبا وهم لا يستطيعون التعبير عنه أو لا يستطيعون إزالته أو أن إيمانهم صغير فقد مفعوله كمحرك ودافع وهذا الإيمان وجوده كعدمه لأن علامة الإيمان العمل كما أن علامة وجود السراج النور، ولهذا نجد الإسلام ربط بين الإيمان والعمل ربطا لا انفصام له ونجد ذلك في نصوص كثيرة يصعب حصرها فمن ذلك قول الرسول “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت” “ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” “ولا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام” “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن” “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” “وليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع بجنبه”.
ولهذا كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا بنزول أمر سارعوا لأدائه وإذا نزل تحريم أو نهي انتهوا عنه كما حصل عندما نزل تحريم الخمر هرعوا إلى إراقة ما عندهم في الشوارع. أما اليوم إذا أصدرت دولة من الدول الإسلامية أمرا بتحريم شرب الخمور ومنع صناعته يسارعون إلى اختزان ما عندهم وجمع ما في الأسواق خوفا من أن ينفذ ثم لا يجدون ما يشربون.
فما السر في هذا كله؟ السر هو كما قلت عدم وجود الإيمان الحقيقي الراسخ بالبراهين العلمية القوية، إن الذين يؤمنون بتلك البراهين القاطعة لا يستطيعون أن يملكوا أنفسهم إزاء موجهات إيمانهم ودوافعه إلا أن يخضعوا له. وإلى هذا يشير قوله تعالى “وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا من الشاهدين”.
ولهذا كله فإن الذين آمنوا ذلك الإيمان الحق كانوا يخشون من ارتكاب الفواحش كما كانوا يسارعون في عمل الخيرات بدافع إيمانهم “إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون”.
هكذا يستبق المؤمنون حقا إلى عمل الخيرات ويخافون من عصيان الله ويفعلون كل ما يأمرهم به “يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون” فيقول المؤمن إذا واجهته معصية “إني أخاف أن عصيت ربي عذاب يوم عظيم” حتى ولو كان مهددا بالقتل “لئن بسطت إلي يدك لتقلتني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين”.
وإذا كان الأمر كذلك فما السبيل إلى ذلك الاعتقاد الفعال وما الوسائل والطرق التي بها نستطيع تكوين ذلك الإيمان في قلوب الناس بحيث يندفعون إلى السلوك من تلقاء أنفسهم بدافع ذلك الإيمان؟
فتلك دراسة خاصة تحتاج إلى عمل خاص وربما أكتب فيه بحثا مستقلا في المستقبل لكن مع لك لا بد من عرض أهم تلك الخطوات الإيجابية والوسائل الفعالة لتكون خطوط الدعوة إلى الإيمان واضحة أمام الدعاة ويمكن إيجازها في النقط الآتية:
أولا: تجنب اتخاذ طريقة التلقين الصوري وسيلة للإقناع:
ولاتباع المسلمين بصفة عامة هذه الطريقة في تلقين أبنائهم كان هذا هو السبب في ضعف العقيدة بصفة عامة في جميع الشعوب الإسلامية ذلك أنهم يكادون يقتصرون في دعوتهم على الإيمان التقليدي، الإيمان الصوري الجامد البليد الذي لا يخلق في الإنسان حركة ولا تفاعلا ولا طاقات كان الأوائل مزودين بها، وكذلك العبادة تبعا لذلك أصبحت في نظر أكثر المسلمين اليوم عبارة عن صورة وهيكل أكثر من أن تكون روحا وإشراقا روحيا في معارج الترقي ومواصلة الاتصال بالله الخالق.
وهكذا أخذت تنتقل صورة الإيمان وصورة العبادة من جيل إلى جيل فالآباء يلقنون أبناءهم بكلمة الشهادة وصور بعض المبادئ ومظاهرها دون بيان ما فيها من قيم مختلفة ضرورية للحياة الإنسانية وما يترتب على عدم الإيمان من أمراض نفسية وانهيار عصبي أمام المشكلات الصعبة فبهذا الإيمان التقليدي والعبادة الصورية يحيا معظم المسلمين اليوم على هامش الإسلام وليس فيهم روح الإسلام الحقيقية التي كان عليها المسلمون الأوائل.
لذا بات من واجبنا اليوم تغيير تلك الطريقة واتباع الطرق والوسائل الفعالة المربية للإيمان القوي الحي النابض بالحيوية والدافع إلى السلوك الإسلامي الصحيح.
ثانيا: التركيز على جوانب العقيدة الإسلامية الإيجابية والمؤثرة على السلوك:
مثل بيان الصفات التي تصور الله في حالة قريبة من الإنسان بحيث يراه ويرعاه فالعقيدة الإسلامية غنية بمثل هذه الصفات، وهذا من مميزاتها إذ أن من مميزات العقائد الفعالة المؤثرة في السلوك في نظر المفكرين أن تجعل الله قريبا من الإنسان ولا تجعل الله بعيدا عن الخلق ومنصرفا عن التدخل في شئونهم وأمورهم كما يصوره بعض الفلاسفة وسوف تتضح هذه الحقيقة خلال معالجتنا هذا الموضوع. ومثل بيان مدى ربط الإسلام بين العقيدة والسلوك مثل بيان مدى ضرورة الإيمان بالله للحياة الإنسانية من ناحية صحة الحياة النفسية والحياة الاجتماعية والأخلاقية.
ذلك أنه بقدر ما تكون صورة العقيدة دقيقة وحية متصلة بحياة المرء من حيث المبدأ والمعاد من حيث الظاهر والباطن ومن حيث إدراك قيمته في الحياة بقدر ما يكون له أثر فعال في سلوكه.
أما الاستغراق في الأمور الجدلية مثل هل صفات الله عين ذاته أو غير ذاته وهل هي قديمة أو حديثة وما إلى ذلك كما هو معروف في علم الكلام فإنه يزيد شكوك الناس ولهذا نرى الذين يتعمقون في علم الكلام القديم ليسوا أكثر إيمانا من الذين لم يتعمقوا فيه بل ربما إن الذين لم يدرسوه بالتفصيل أقوى إيمانا من الذين يدرسونه بالتفصيل.
وأهم جوانب العقيدة الإيجابية وعناصرها الأساسية هي الآتية:
الجانب الأول: الإيمان بالله باعتباره خالق الكون والإنسان وإنه خلق من أجل الإنسان كل هذه النعم وسخر له كل هذه الأشياء في السماء والأرض وخلق للإنسان كل ما يحتاج إليه في هذه الأرض ليتنعم بها وليعبده شاكرا وحامدا ومقدرا نعمه الظاهرة والباطنة.
الجانب الثاني: الإيمان بالحياة الآخرة وإنها هي الحياة السعيدة بمعنى الكلمة وهي لمن أتقى الله وسار في طريقه أوامره كما وأن كل إنسان سيجد جزاءه فيها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم ذكر الأدلة المقنعة على وجود هذه الحياة وإنها آتية لا محالة. وأن ذلك الجزاء الذي سيجده الإنسان أمر ضروري يقتضيه المنطق الفطري والعدالة الإنسانية والإلهية.
الجانب الثالث: إن القوانين التشريعية التي أنزلها الله صادرة من إرادة إلهية لتنظيم حياة الإنسان على أكمل وجه وعلى خير وجه وإن الطريق المستقيم الذي رسمه الله بتلك المبادئ للإنسان هو طريق الفلاح والنجاة وطريق السعادة في الدنيا والآخرة. ثم الاستدلال على ذلك بالحقائق العلمية وضرب الأمثلة الحية من واقع حياة الناس كيف أنهم لما خرجوا على تلك المبادئ تعسوا في حياتهم الفردية والاجتماعية وأصيبوا بالأمراض النفسية والجسمية والاجتماعية.
الجانب الرابع: التركيز على ما في الإسلام من إعجاز علمي وتشريعي وتربوي وخاصة جوانب الإعجاز البديهي التي لا تقبل المجادلة والمناقشة وذلك ليستطيع المسلمون الدفاع عن دينهم دفاعا قويا وليشعروا بالاعتزاز بإيمانهم الكامل الراسخ بالله وبالإسلام وبمنطقه وفلسفته.
وقد عالجت هذا بإيجاز في مقال مستقل بعنوان (بديهيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم).
ثالثا: استخدام كل وسائل الإقناع وطرق الوصول إلى الحقائق اليقينية لترسيخ العقيدة القوية.
ذلك أنه لا يكفي إطلاقا تقديم صورة كاملة عن الاعتقاد العلمي إلى المتعلمين، بل أهم من ذلك إقناعهم بكل جانب من جوانب الاعتقادات المقدمة إليهم إقناعا كاملا دون شك أو ريب، وهناك كثير من هذه الوسائل وطرق الإقناع قد تشترك جميعها في بعض الجوانب لكن مع ذلك تختص كل واحدة ببعض الخصائص المعينة وتؤدي وظيفة في مجال قد لا يستطيع أداءها فيه غيرها ولنذكر أهمها بإيجاز: فمنها تكوين الرغبة في الاعتقاد قبل ذكر أدلة الاعتقاد، ذلك أن من لا يرغب أولا في الاعتقاد لا يعتقد ولو ذكرت له جميع الأدلة العقلية والعملية ولهذا ما تكلم الله تعالى عن هؤلاء الذين لا يريدون أن يؤمنوا لا لعدم وجود الأدلة وإنما لعدم رغبتهم في الإيمان قال: “ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء ما كانوا ليؤمنوا” “وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها”. وهذا ما يقرره الفيلسوف بسكال بقوله: “إن معرفة الإنسان لله تابعة لإرادة الإنسان لا لعقله” ويقول وليم جيمس مقررا ذلك أيضا “فالرغبة في نوع معين من الحقيقة هي التي توجد هنا ذلك النوع المعين منها” وذلك أن الأمر كما يرى وليم جيمس “إن القوة الإرادية فوق القوة الإدراكية ولا تعمل إلا بمساعدة هذه القوة الإرادية” ويقول وليم جيمس أيضا في مكان آخر حول هذه الفكرة “إن الرغبة في شيء ما تخلق وجود ذلك الشيء وإن الرغبة في حقيقة معينة معناها وجود لهذه الحقيقة والاعتقاد في واقعه مما يساعد على خلق هذه الواقعة” ويقول أيضا “لا يتوقف الاعتقاد على الأدلة النظرية فحسب فقد يجوز لنا أن نعتقد ولو لم يكن لدينا من البراهين المنطقية ما يبرر ذلك ما دمنا راغبين في الاعتقاد وما دامت لنا من وراء هذا الاعتقاد ثمرة عملية وغالبا ما تأتي البراهين بعد ذلك فتساعد الاعتقاد على تحقيق ما آمنا به. وإذا لم نجد من الأسباب النظرية ما يؤدي بنا إلى الإيمان بوجود الله فلا ينبغي لنا أن ننصرف عن الإيمان به لذلك، بل يحق لنا أن نفترض وجوده ونؤمن به إذا ما توجهت إرادتنا نحو ذلك ولأن الإيمان به هو الذي يجعل للحياة قيمة وهو الذي يمكننا من أن نستخرج من الحياة كل ما فيها من لذة وسعادة وهو الذي يجعلنا نتحمل ما في الحياة من محن ونتقبلها بكثير من الشجاعة والرضا وهو الذي يهيئ لنا كل ما هو ضروري لحياة عملية وادعة”. وإذا كان الأمر كذلك فما هي الوسائل لتكوين رغبة في الاعتقاد لنستطيع بها توجيه الإرادة إلى الاعتقاد. هناك وسائل عدة لذلك.
منها بيان أن في ذلك الاعتقاد مصالح للبشرية تفوق أية مصلحة أخرى وأن الإنسانية بحاجة إلى ذلك الاعتقاد كما قال وليم جيمس سابقا، ولهذا رغب الإيمان لما يترتب على ذلك من المصالح والمنافع التي يحققها لهم إذا آمنوا به فقال تعالى “ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا” “ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم”. “فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا” بل إن من يؤمن عن رغبة في الله فإن الله يهدي قلبه إلى اليقين بعد ذلك ولهذا قال تعالى “ومن يؤمن بالله يهد إليه هواه، أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصرة غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون”… ويقرر وليم جيمس أن الناس يرفضون بعض الفلسفات لعدم شعورهم بالحاجة إليها فيقول: “إن الناس يقبلون بعض الفلسفات لعدم شعورهم بالحاجة إليها فيقول: “إن الناس يقبلون الفلسفات أو ينبذونها وفقا لحاجتهم وطباعهم لا وفقا للحقيقة الموضوعية وهم لا يتساءلون هل هذا منطقي؟ بل يتساءلون عن مدى ما تتناسب الفلسفة مع حياتهم ومصالحهم”.
ثم لا يكفي إحساس المرء بمجرد الحاجة إلى ذلك الاعتقاد ليكون قويا بل يجب أن يحس بأنه ضروري وأنه لا يمكن أن يحقق ذلك الغرض بدون ذلك الاعتقاد وأن يطرد من ذهنه كل فكرة أخرى تقضي بأنه يمكن أن يحقق بها غرضه دون ذلك الاعتقاد، إن الفكرة الداخلية في الاعتقاد يجب أن تكون قوية بحيث تطرد الفكرة السابقة لأننا إذا أردنا أن نملأ إناء بشيء جديد لا بد من أن نريق ما فيه من قبل، وإذا أردنا أن ندخل فكرة جديدة لا بد من طرد فكرة قديمة سابقة مضادة لهذه الفكرة الجديدة إذ لا راحة لإنسان تعيش فيه فكرتان متناقضتان أو اعتقادان متناقضان، ولهذا قال تعالى “اتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه”.
ويقرر وليم جيمس “أن الفكرة تكتسب قوتها حين يشعر الفرد أنها ضرورة ملحة ومظاهر هذا الشعور أن تسيطر على العقل وأن تصبح في مركز انتباهه أو اهتمامه وأن تطرد الأفكار الأخرى من مكانها في هذا المركز”.
ومن تلك الأسباب أيضا إزالة العوائق التي تحول دون رغبة المرء في الاعتقاد.
ومن أهم هذه العوائق العوائق الأخلاقية مثل التعصب أو العناد فقال تعالى عن هؤلاء الذين لم يؤمنوا به عن تعصب “تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل” ومن هذه العوائق التكبر “وإذا قيل لهم آمنوا كما أمن الناس قالوا أنؤمن كما أمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون”، ولهذا قال تعالى عنهم “سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين” ومنها النظرة المادية الحسية للحقائق التي لا تؤمن إلا بما يرى ويحس بالحواس لأن أصحاب هذه النظرة كالحيوانات التي لا تدرك إلا بالحس وهؤلاء لا يفترقون عن الحيوانات بل هم أضل، لأن الحيوانات لا قدرة لها إلا ذلك أما هؤلاء فمع وجود القدرة العقلية والبصيرة القلبية يبطلونهما ويقصرون الإدراك على الإدراك الحسي كالحيوانات ولهذا قال تعالى عنهم “ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا”، ولهذا فقد شبه الله هؤلاء بالأنعام لعدم إعمالهم عقولهم وبصيرتهم لتعقل الأمور وتداركها بما لا يدرك إلا بالعقل والبصيرة فقال “ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنس والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون”. ولكن الله أبى أن يكون الإنسان كالحيوان ولهذا لم يرض أن يعامله معاملة هذا المستوى الحيواني ومن ثم فلم يستجب لمثل هذه المطالب فإن على الإنسانية أن ترتفع بإنسانيتها وتعمل مداركها لتدرك كل الحقائق الروحية والمادية بقواها الخاصة لكل ذلك. وعلينا في ميدان التربية أن نرفع مستوى مدارك المتعلمين ونفتح بصائرهم وننمي عقولهم لإقناعهم بتلك الحقائق الروحية كما علينا أن نعمل في ميدان التربية بأن نزيل كل تلك المعوقات التي تعوق الاعتقاد الصادق مهتدين بقوله تعالى في ذلك “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.
وكما يكون ذلك بالدعوة الحكيمة يكون أيضا بالتربية والتعليم بالحكمة “ربنا وأبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم”.
كما يجب أن يكون الداعي أو المعلم حاملا معه أدلة الإقناع المختلفة أولا، وأن يناقش ويدعو بالدين واللطف وبهذا نصح سبحانه فقال لموسى وهارون “اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى” ونصح بالمجادلة الحسنة “وجادلهم بالتي هي أحسن”.
وندد بالذين يجادلون بغير علم “ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير” ومنها ذكر الأدلة البديهية التي تعتمد على سلامة التفكير الفطري أو التعقل الفطري. وذلك مثل الاستدلال على وجود شيء غير مرئي بوجود دلائل مرئية أو حسية. ومثل أن إعادة إيجاد الشيء أسهل من إيجاده أول مرة. ودلالة الصنعة على الصانع، ودلالة الأثر على المؤثر، وإن الشيء لا يكون موجودا وغير موجود في آن واحد، وإن المساويين لثالث متساويان، وغير ذلك من المبادئ الفطرية العقلية التي يدعي العقليون المثاليون أنها مبادئ يقينية تؤدي إلى حقائق يقينية.
وإن كانت هناك استدلالات منطقية وضعها الفلاسفة مثل المنطق الصوري الأرسطي والمنطق الشكلي الديكارتي والمنطق الوضعي الكونتي والمنطق التجريبي البراجماتي وما إلى ذلك فإنه في ميدان التربية الإيمانية وخاصة عند صغار المتعلمين يجب عدم الرجوع إليها مادام يمكن الاستغناء بهذه الأدلة البديهية القائمة على التعقل لا تثير الشك وتؤدي إلى اليقين، ولهذا نجد الإسلام يركز على مثل هذه الاستدلالات في تثبيت العقيدة لأنه جاء للناس كافة وليس لمجموعة من المتخصصين “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون” ومن ثم كان لا بد من أن يعتمد في الاستدلال على مبادئ مناسبة للناس كافة وهذا ما فعله، فاستخدم مثلا دلالة الصنعة على الصانع لإثبات وجود الله إذ ليس من الضروري أن نرى الصانع لإثبات الصنعة لكن وجود الصنعة تجعلنا نعترف بوجود الصانع بل نضطر إلى ذلك اضطرارا ولهذا دعا الله سبحانه الناس إلى التأمل في آيات الله في الكون، في الأرض وفي السماء وفي أنفسهم لأن ما في تلك المخلوقات من دلالة الصنعة تدل على وجود صانعها، قد تكون في الطبيعة دلالة الصنعة على وجود الله أعظم من دلالة أية صنعة على صانعها، وذلك مثل دوران الأرض بهذه العظمة ودوران القمر حول الشمس ودوران الشمس حول نفسها وحول محورها في الفضاء كعقارب الساعة تحدد الأزمان في الأيام والليالي والسنين دون أي خلل، أليس ذلك آية للناس على وجود صانعها “وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون”. كيف لا تقع الأرض والشمس والقمر؟ لا تقع لأن الله يمسكها بدقة نظامه الذي يدور كل بموجبه فبأي نظام إنساني يمكن إمساك الأفلاك وإدارتها إذا أخل الله بنظامه فيها “إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده” ثم إن آيات الله ليست قاصرة على خلق السماء وما فيها من نظام دوران الأرض والشمس والقمر وما يعقبها من ليل ونهار فحسب بل في خلق الأشياء والحيوانات والمأكولات آيات ودلالات على وجوده أيضا. وعلى المربي أن يوجه نظر من يريد تربيتهم إلى تلك الحقائق ويريهم ما فيها من دلالات على صناعة الصانع الحكيم ليزيد إيمانهم كلما رأوا آية تدل على وجود الله المبدع الحكيم وذلك حسب مراحل نمو مداركهم ومستوى ثقافتهم وتعليمهم، وذلك وفقا لتوجيهات نظرية التربية والتعليم في الإسلام والتي تدعو إلى دراسة الحقائق من ناحيتين: دراستها من حيث هي حقائق، ودراستها من حيث دلالتها على الصنع والإبداع والتجميل، لأن الله لم يخلق مجرد الخلق ولم يصنع كذلك مجرد الصنع بل خلق في أحسن صورة “ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقومي” “وصوركم فأحسن صوركم” وصنع فأتقن صنعه “صنع الله الذي أتقن كل شيء” وخلق فأبدع الخلق “بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون” وبعد إبداع الخلق وإتقان الصنع جمل ما خلق وزين ما صنع “ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين” “إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب” “والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب” وذلك أنه كلما كان في الخلق والصنعة إتقان وإبداع وتجميل كان ذلك أكثر إثارة للإعجاب ونيلا للتقدير. يقول هنا الأستاذ جون روسكين أستاذ الفنون الجميلة في جامعة أكسفورد “إن جمال الجبال والأزاهير إشارة من الله إلى الإنسان…. الإنسان الذي يتأمل الجمال في الطبيعة وفي الفن إنما يتحد بالتعاطف مع الجمال الذي صنعه الله والذي صنعه الفنان”، ويقول الفيلسوف الألماني ليبنتز “ما من مرة نرى فيها أحد مصنوعات الله إلا وجدناها غاية في الكمال ويجب أن نبدي إعجابنا بجماله ودقة صنعه”.
ومن تلك الأدلة التي تعتمد على سلامة الفطرة والتي استخدمها القرآن أن إعادة إيجاد الشيء أسهل من إيجاده أول مرة أو بالصياغة القرآنية إن إعادة خلق الشيء أسهل من خلقه أول مرة. ومن ثم فمن يسلم بأن الله خلقه في المرة الأولى لا بد له أن يسلم بأن الله قادر على خلقه في المرة الثانية، وأن ذلك أسهل وأهون عليه من الخلق الأول. وبذلك حاج الله منكري البعث عندما قالوا “أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا”، “وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم”، فقال تعالى “قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم” “وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه”.
ومن تلك الأدلة التي استخدمها الإسلام أيضا أن الذي يخلق أشياء كبيرة معقدة الصنع يستطيع أن يخلق أشياء أصغر منها وأبسط وبهذه الفكرة رد على الذين أنكروا خلق الإنسان بقوله تعالى “أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادرٍ على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم”، وقال تعالى “لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس”.
ومن تلك الأدلة أيضا دليل العناية أو الخلق بعناية حيث تتلاءم مع وضع الإنسان وحاجاته في الحياة إذ أن الله لما خلق الإنسان خلقا معجزا من شيء تافه “ألم نخلقكم من ماء مهين”، “فلينظر الإنسان مما خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر”، خلق أيضا طبيعة تناسبه وخلق كل ما يحتاج إليه في هذه الطبيعة “ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجناتٍ ألفافا”.
من الذي خلق كل هذا وبكل عناية ولم يترك شيئا مما يحتاج إليه الإنسان إلا وخلق في هذه الطبيعة، لا شك إنه هو الله “الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به حبا من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وأتاكم من كل ما سألتموه (أي احتجتموه) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار”.
أليس كل هذا يدل على الخلق بعناية أو ليس هذا الخلق بعناية يدل على وجود الخالق الحكيم وإذا لم يحق الله فمن الذي خلق ذلك “هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين”، “قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم أتيناهم كتابا فهم على بينة منه”.
ولعل لشدة وضوح هذين الدليلين: دليل الاختراع ودليل العناية ومناسبتهما للجميع قد حصر ابن رشد فيهما الأدلة الشرعية على وجوه الله فقال “فقد بان من هذه الأدلة أن الدلالة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع”.
ومن تلك الطرق لترسيخ العقيدة اليوم استخدام الاكتشافات العلمية الحديثة للإقناع:
لقد كشفت الاكتشافات العلمية الحديثة عن وجه الحقائق المذهلة التي تجعل الإنسان يقف مبهوتا ويضطر المتأمل فيها إلى الاعتراف بالصانع الخالق ونتيجة لهذا فقد آمن كثيرا من العلماء بسبب هذه الاكتشافات وكتبوا بحوثا في ذلك مثل كتاب “الله يتجلى في عصر العلم” الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الأبحاث العلمية كتبها مجموعة من علماء الغرب.
ومثل كتاب “العلم يدعو للإيمان” الذي ألفه الأستاذ “أ. كريس موريسون” رئيس أكاديمية العلوم لمدينة نيويورك في أمريكا، وغير ذلك ومن لم يكتب منهم فقد تناول سبب اقتناعه في ثنايا كتابه وسنتناول بعض أقوالهم في ثنايا كلامنا هنا.
وكيف لا يقتنع الإنسان عندما يتأمل هذا الكون في ضوء الاكتشافات العلمية ويجد فيها آيات كثيرة على وجود خالقه وصانع عجائبه. فعندما نتأمل مثلا في دوران الأرض والقمر حول الشمس كعقارب الساعة التي تحدد الأزمان ثم عندما نتأمل بدقة دوران الأرض بهذه العظمة وما فيها من جبال وبحار ومدن بانتظام مستمر دون أن نشعر بدورانها وكأننا في سفينة فضاء تسير بنا في عالم الفضاء ونحن لا نشعر بسيرها، وفعلا إنها سفينة الفضاء الإلهية العجيبة التي لم تصنع مثلها يد البشر حتى الآن، عندئذ نجد دليلا علميا قطعيا ولهذا نجد الفيلسوف سبنسر يدعو إلى دراسة الطبيعة دراسة تأملية للاعتراف بخالق هذه الطبيعة ويقول في هذا الصدد “فالتوجه إلى العلم الطبيعي عبادة صامتة واعتراف صامت بنفاسة الأشياء التي تعاين وتدرس ثم بقدرة خالقها”، ثم يقول: “إن العلم يستوجب الاحترام الشديد والإيمان المخلص بتلك الحركات التي تصحب جميع الكائنات”.
ولننتقل الآن من عالم الآفاق إلى عالم الإنسان الذي نرى في صنعه عجائب تذهل العقول الجبارة، إذا نظرنا إليه بمنظار العلم الحديث نرى فيه مصانع أدق مما صنعته يد البشرية حتى الآن، فقد شبه بعض العلماء المعدة بمعمل الأدوية وكتبه تحت عنوان “أعظم معمل في العالم” الأستاذ أ. كريس موريسون فقال: “إن هذا المعمل يعمل عملية ذاتية (أوتوماتيكية) لإبقائنا على الحياة، وحين تتحلل هذه الأطعمة فيه وتجهز من جديد تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرا وألا يورد سوى تلك الموارد التي تحتاج إليها تلك الخلية المتخصصة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم ودم وعينين وأسنان كما تتلقاها الخلية المختصة المعنية فههنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان وههنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام منذ الطفولة”، ثم يقول بعد بيان كل التفصيلات التي اكتشفها العلم حتى الآن فيما يتعلق بمعمل المعدة “مثل هذه المجموعات من المعجزات لا يوجد ولا يمكن أن يحدث بأي حال في غيبة الحياة، وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنظام مضاد إطلاقا للمصادفة، أليس ذلك كله من صنع الخالق؟”.
كما شبه بعض العلماء القلب بالمضخة الميكانيكية، والرئة بمعمل التصفية التي تصفي الدم من الغازات والمواد السامة التي تتكون نتيجة تلف بعض الخلايا واحتراق المواد في أنحاء الجسم والتي ينقلها الدم إلى الرئتين ثم يرجع الدم من الرئتين صافيا نقيا من تلك الغازات والمواد السامة، ويشبهون أيضا الكبد بمعمل التخزين الأوتوماتيكي، لأن من وظائف الكبد تخزين المواد الزائدة عن حاجة الجسم عند تناول الأغذية اللازمة ثم يقوم بتوزيعها عند الحاجة وبقدر الحاجة إلى سائر أنحاء الجسم بواسطة الدم، فكيف يعرف الكبد حاجات الجسم ومقدارها وفي ضوء ذلك يتصرف ذلك التصرف، وعلى ذلك يمكن أن نشبهه بوزارة تموينية تعمل بعقلية الكترونية تعرف حاجات الناس في البلاد فتقوم بتخزين المحصول الزائد عن الحاجة ثم توزعه على الناس عند الحاجة. هل صنعت يد البشرية مخزنا تموينيا منتظما مثل ذلك حتى الآن؟ وهكذا إذا تأملنا وظيفة المخ وسائر الأعضاء نجد فيها العجب العجاب، ولهذا نجد بعضهم يقول هنا “ففي الواقع لا يوجد شيء مثل الإنسان نفسه محير مثير، فالإنسان في الحقيقة صنع صنعا عجيبا مخيفا”، وصدق الله العظيم إذ قال “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.
ولهذه الدقائق العلمية الموجودة في مخلوقات الله يخاطب الله سبحانه العلماء عندما يشير إليهم لأنهم أدرى بالإحاطة بما فيها من آيات من غيرهم مثال ذلك قوله تعالى “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين”، “وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا (أي للنور) وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون”.
والمغزى التربوي هنا هو أنه يجب على المربي أن يكشف هذه الحقائق لمن يريد تربيتهم ويفصلها لهم حتى يصورها لهم وكأنها صورة مجسمة أمام أعينهم ليستطيعوا إدراك عجائب صناعة الله وما اخترعه من عجائب تقف أمامها أكبر العقول ساجدة إكبارا وتعظيما، وذلك ليقتنعوا عن رؤية حقيقية ويؤمنوا إيمانا راسخا لا يتزعزع مهما هبت عليهم رياح الإلحاد من جميع الأطراف.
كل هذا يقتضي من المربي أن يوجه المتربين إلى استخدام الحواس والمشاهدة باستمرار للاعتبار بما في الطبيعة من ظواهر مدهشة مثيرة تدعو إلى التأمل والتفكير فيها ليصل المرء إلى دلائل حية على وجود خالق صانع حكيم، إذ أن الإنسان عندما يتوقف أمام أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة فإنها تثير فيه الإعجاب والاندهاش وكان ذلك الاندهاش سبب ميلاد الفلسفة، وكانت الفلسفة سببا لظهور الأبحاث العلمية ونحن نعلم أن أرسطو قال قديما “إن الدهشة أول باعث على الفلسفة” وقال رابوبرت “برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب فبدأ يسأل لماذا ومن أين وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حله”.
حقا إن الإنسان عندما ينظر إلى ظواهر الطبيعة نظرات تقليدية لا يندهش ولا يتعجب، ولكن عندما ينظر إليها نظرة الاعتبار ويتأمل فيها يجد كل شيء يثير فيها الإعجاب والاندهاش وتصبح الطبيعة مخلوقا جديدا كأن لم يرها من قبل ويصبح هو مخلوقا جديدا وكأنه ولد فيها من جديد ويتيقن عندئذ أن هذه الطبيعة لم تأت بمحض الصدفة، بل فيها خلق وهداية وعندما يقترن ذلك بذكر الله خالق هذه العجائب والغرائب، ويزداد نموا في مشاعره الحساسة وإدراكه لحقائق الأمور ومن ثم يزداد اتصالا بالله بعقله وقلبه. ولهذا قال تعالى “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار”.
ذلك إن الإنسان كما يزداد خلقا كلما تقدم في ممارسة الأعمال الأخلاقية فإنه كذلك يزداد إيمانا كلما تقدم في ممارسة الوسائل التي تزيد إيمان المرء وتعمق مشاعره وإدراكه فبدأ يتصل بالله، لذا كان القرآن يوجه دائما الأنظار إلى مخلوقات الله للعبرة فقال تعالى “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت”، “وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فيمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون”، ومعلوم أن الأرض كما يقول علماء الجيولوجيا كانت صحراء جرداء قاحلة مجردة من كل مظهر حيوي من نبات أو حيوان، ثم ظهرت فيها مظاهر الحياة من نبات وحيوان وإنسان. وإلى هذا أشار تعالى بقوله في الآية السابقة وهو يثير الأذهان إلى تلك الحقائق بصورة أكثر عندما يقول: “أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون” من أين جاءت هذه الحبوب والبذور التي نزرعها هل نحن خلقناها أصلا وزرعناها أول مرة أم الله هو الذي خلقها وأنبتها أول مرة؟ يقول أيضا “أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون” هل الإنسان خلق نفسه أول مرة؟ لا يستطيع أحد أن يدعي ذلك، وهل الحيوان المنوي الذي يخلق في الجهاز التناسلي في الرجل هل هو الذي يخلقه؟ كلا بالطبع إنه لا يعرف كيف يتكون هذا الحيوان، ومن لا يعرف كيف يتكون لا يعرف كيف يخلق. وهكذا نجد آيات كثيرة من هذا القبيل توجه نظر الإنسان إلى جميع مظاهر الطبيعة الظاهرة والباطنة ليدرك الإنسان آيات الله ودلائله على خلقه، يقول هنا الأخصائي في الطفيليات “سبل هامان” أينما اتجهت ببصري في دنيا العلوم رأيت الأدلة على التصميم والإبداع، على القانون والنظام، على وجود الخالق الأعلى.. وهل هو محض مصادفة أن تهبط حبوب اللقاح على مبسم الزهرة فتثبت وتسير في القلم حتى تصل إلى المبيض فيتم التلقيح وتتكون البذور. أفليس من المنطق أن نعتقد بأن يد الله التي لا نراها هي التي رتبت ونظمت هذه الأشياء تبعا لقوانين ما زلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها” ويتكلم عن نعم الله على الإنسان حتى يعد أغاريد الطيور من نعم الله على الإنسان لأن الإنسان يبتهج لها فيقول “وهل من الممكن أن يغرد الطير لا لأن له أليفا فحسب بل لأن الله يحب تغريده ويعلم أننا نطرب بتغريده وكما أن هنالك ما لا يحصى من أغاريد الثناء التي تشدوها الطيور كل يوم والتي لا تصل إلى آذاننا القاصرة الفانية فإن هنالك ما لا يحصى من نعم الله وأفضاله يسبغها على عباده وهي تنتظر من الإنسان أن يفتح فمه لكي يراها” وتشير كثير من الآيات إلى مثل هذه الحقائق منها قوله تعالى “والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين…. وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون”، ومنها قوله تعالى “وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل و الزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاه” وأخيرا يشير الله إلى كل هذه النعم بقوله “ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير”.
تلك هي الحقائق التي يجب بيانها واتخاذها وسيلة للتربية الإيمانية، وهذا ما ينصح به أيضا الفيلسوف المربي كانط بقوله “لو أننا ربيناه على أن يسمع اسم الله أن يرى أمامه من يتعبد ويصلي لله ثم أطلعناه على هذه العوامل السماوية والأرضية بالدراسة وكشفنا له الغطاء عن هذا النظام العجيب والترتيب المحكم وقلنا له هذه النظام الطبيعية المحكمة” كلها موجهات لخير الإنسان والإنعام عليه وإسعاده، وبعد ذلك نقول له أرأيت هذا النظام أعرفت هذه الحكمة الشاملة في العوالم، إن واضع هذه القوانين المنظمة لها هو الله عز وجل فإنه إذ ذاك يصبح شاعرا بربه عن علم وبينة”.
إذن المبدأ التربوي الذي نستخلصه من هذا أنه إذا أردنا أن نربي الإيمان القوي يجب أن تكون التربية أولا بالعلم والتبصير وبالأدلة العلمية لا بمجرد التلقينات التي يحاول المربون والآباء القيام بها اليوم وهذا أحد أسباب ضعف الإيمان الذي نجده لدى هذا الجيل، الإيمان الصوري الميت الذي لا يتحرك وعاجز عن التحريك والدفع.
رابعا: تكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك بموجب الإيمان:
من أهم هذه العواطف في هذا الميدان عاطفة الحب وعاطفة الخوف إذ أنهما من أكبر الدوافع والحواس، ويمكن استخدامهما في عمل الخيرات وتنفيذ المأمورات وترك الشرور والمنهيات. يتكلم الدكتور ألكسيس كارل عن أثر هاتين العاطفتين في السلوك ويقول “وليس هناك سوى عاطفتين قادرتين على البناء وهما عاطفة الحب وعاطفة الخوف فالحب وحده هو الذي يملك القدرة على نسف الأسوار التي تتحصن أثرتنا من خلفها وفي وسعه أن يلهب فينا الحماس ويجعلنا نسير مبتهجين في طريق التضحية الأليم، لأن التضحية أمر لا بد منه للسمو بالحياة، فحب الطفل الصغير لأمه هو الذي يدفعه إلى حب الاستقامة في سلوكه. والمؤمن بدينه يخضع لأشق النظم الخلقية باعتبارهما أوامر إلهية وأن نجعله يخاف الله في الوقت نفسه من أن يعصيه في ترك أوامره وارتكاب محرماته وهذا ما فعله الإسلام إذ أنه قد دعا إلى حب الله وحب رسوله وليس مجرد الحب بل يجب أن يحبهما أكثر من حب أي شيء آخر سواء كان قريبا أو صديقا فقال تعالى “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيليه فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين”. وقال الرسول “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار”. ذلك أن الإنسان المحب يطيع أوامر محبه عن حب ورغبة ويخاف عصيانه لأن عصيانه يزل حبه فإن المحب لمن يحبه مطيع. ثم إن الإسلام يريد تكوين عاطفة مخافة الله بالدرجة التي أراد تكوين عاطفة المحبة له وذلك ليخاف من عصيان أوامر الله تعالى لأن هذا الخوف يمسكه عن السقوط في الرذيلة التي تكون سببا لنيل نقمة الله وعذابه الأليم، ولهذا نرى الله سبحانه وتعالى أوعد الأشرار بأشد صنوف العذاب والعقاب في الآخرة فقال تعالى “ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين”، “ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا”.
لكن كيف نستطيع تكوين عاطفة الحب عند الأطفال أو لمن نريد تربيتهم ومن ثم كيف نجعلهم عن طريق هذه العاطفة يحبون المبادئ الأخلاقية فيلتزمون بها؟.
هناك عدة وسائل منها: بيان حاجة الطفل الدائمة إلى الله على أساس أن الأمور بيده تعالى وأن جميع الأرزاق بيده كذلك وهو الذي يستطيع أن يجعل الإنسان سعيدا أو شقيا. وذلك بحسب ارتباط عبده بربه أو انقطاعه عنه، إذ أن الشعور بالحاجة إلى الإنسان ما يجعله يرتبط به أكثر من غيره، وإذا شعر أنه يحقق حاجته أحبه ولهذا يجب أن نضع حاجات الطفل في يد الله ونقول له أنه لا يوجد هناك أي إنسان يستطيع تحقيق جميع حاجاتك في كل الأحوال إلا الله وحده كما يجب أن نبين له أن جميع هذه النعم هي نعم الله خلقها رزقا للعباد، ولهذا يقول المربي الكبير بستالوزي “فالطفل كما لاحظنا فيما سلف يحب والدته ويشكرها ويعتمد عليها ما دام يشعر باحتياجه إليها. كذلك هو يحب الخالق ويشكره ويعتمد عليه ما دام يشعر باحتياجه إليها”. كما أنه لا يهتم بارتباطه بوالدته إذا شعر أنه استغنى عنها. ولهذا قال تعالى “إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” ولهذا يبين الله حاجة الإنسان إليه باستمرار بحيث لا يمكن أن يستغني عنه بأي حال من الأحوال ويبين كذلك أنه ليس بحاجة إلى أحد، ولهذا فقد أوضح الله كل ذلك في حديث قدسي فقال “يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، ياعبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”. وقال الرسول “أحبوا الله لما يغدوكم من نعمه وأحبوني بحب الله”.
ومن ثم يجب أن يكون شعور المرء بالنسبة إلى الله في هذا المجال هو أن يقول دائما عن الله “الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين”.
وهنا نجد ما يقرره المربي المشهور بستالوزي يتفق تماما مع ما يقرره الإسلام ويرى بستالوزي أن أهم فترة يجب أن تغرس فيها تلك العقيدة في قلب الطفل تلك التي ينمو فيها، ويستغني عن والدته ويسعر بنمو قواه وغرائزه ويبتهج بمباهج الدنيا ويظن عندئذ أنه يستطيع أن يفعل كل ما يحلو له دون الاعتماد على غيره. في هذه الفترة التي تعد أخطر مرحلة يمكن أن يقع فيها الطفل في الرذيلة ويدني نفسه، لأن نفسه عندئذ تحدثه وتأمره بالسوء فيقول “فمتى أنست الوالدة الحكيمة من ولدها هذه الروح وقرأت على جبينه هذه الأفكار وجب عليها الإسراع لإنقاذه من هذا الخطر المحدق بنفسه ولا وسيلة لإنقاذه من هذا الموقف المحرج إلا بتوجيه عواطفه وعقله إلى قوة أعظم وقدرة أقوى من قوتها ليلجأ إليها فتعينه وترشده، فالوالدة العاقلة تقبل إبان هذا الخطر على ولدها وتضمه إلى صدرها قائلة: إنه وإن زال احتياجه إليها إلا أن خالقه وخالقها وموجد هذا الكون والوجود ومبدع جميع الكائنات هو الذي يجب الاعتماد عليه والرجوع إليه، وهو تعالى يعده بالمساعدة التي تعجز هي عن تقديمها له كلما التمسها منه تعالى. وهو مصدر كل راحة وسعادة يمد له سبل الراحة والسعادة التي ليس للوالدة إليها سبيل. بهذه الوساطة تمنع الوالدة الحكيمة ولدها من السقوط في هذه الرذيلة وتغرس في فؤاده شعورا حيا ومقاصد عالية وإيمانا ثابتا في الخالق تعالى ويرتفع بنفس مولودها عن مستوى هذه الماديات المحيطة به فيبتهج كلما سمع من والدته اسم ذلك الخالق القوي الرحيم، ويشعر فؤاده نحو الله بذلك الحب والشكر والثقة التي كان يشعر بها نحو والدته فيتطلع إليه تعالى كوالد رحيم ومتى غرست في فؤاده الطفل هذه الفضائل نحو الله تعالى خطا نحو الفضيلة والتقوى خطوة واسعة، لأن الشباب الذي يتطلع إلى الله وهو في عنفوان شبابه كما كان يتطلع إلى والدته في سني طفولته يقوى بعمل الواجب والصواب حبا في الله كما أنه كان يعملها حبا في والدته وعلى هذه الملاحظة الجديرة بالاعتبار يجب أن نؤسس التربية الأخلاقية إن أردنا لأولادنا على الخصوص والجنس البشري عموما حياة شريفة وأخلاقا كريمة”.
وأخيرا ينصح بستالوزي ليسير الإنسان على الطريق المستقيم بانتظام وجوب إخضاع العنصر المادي للعنصر الروحي الخالد هذا هو أساس التربية الأخلاقية عنده.
ومنها بيان أن أنعام على الله على الإنسان أكثر من أنعام الآباء والأمهات وأي مخلوق آخر.
إذ أن كثرة الإحسان تستعبد الإنسان والشعور بها يجعله يطيعه عن حب ورغبة لأن عاطفة المحبة لا تتكون من لا شيء ولا بأي وسيلة كيفما كانت بل لكل غاية طريقة ولكل ظاهرة أسباب. فإذا أردنا أن نحقق غاية لا بد وأن نسير في طريقها ونتخذ أسبابها. فعاطفة المحبة إنما تنمو وتكبر إزاء الشخص الآخر بما يجد الإنسان منه من الأعمال السارة مرات متوالية. وكلما زادت هذه الأعمال زادت محبة المنعم عليه أو المحسن عليه نحو المنعم أو المحسن وهذا ما يقرره علماء النفس والتربية أيضا فيقول بستالوزي مثلا في هذا الصدد “يشعر المولود بما تبذله والدته من العناية فيبتهج خاطره ومن ذلك تتولد في فؤاده عاطفة المحبة” وعلى هذا الأساس ينبغي تكوين عاطفة محبة الطفل نحو الخالق ولهذا يقول كانط “لنبدأ أولا بتعليم الصبي معرفة الله بأن نضرب الأمثال ونقول إنما مثل الناس على هذه الأرض مع ربهم كمثل الأب مع أسرته كلهم يحيطهم بعنايته وبكاؤهم بعطفه ورحمته”. وينصح بعدم الاكتفاء بمجرد القول بل علينا أن نكشف عن حقيقة هذه العناية والرعاية ولهذا يقول “إذا أطلعنا الطفل على هذه العوالم السماوية والأرضية بالدراسة وكشفنا له الغطاء عن هذا النظام العجيب والترتيب المحكم وقلنا له هذه النظم الطبيعية المحكمة كلها موجهات لخير الإنسان والإنعام عليه وإسعاده.
ثم نقول له أرأيت هذا النظام؟ أعرفت هذه الحكمة الشاملة في العوالم أن واضع هذه القوانين المنظم لها هو الله عز وجل فإنه إذ ذاك يكون شاعرا بربه من علم وبينة.
إن الاعتقاد في الله عن علم ومعرفة لا بد منه ليصح الاعتقاد أولا، وليكون الإيمان دافعا إلى السلوك كما يرى الأشاعرة وقالوا من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل تقليدا فليس عالما بربه ولا عارفا به”.
ثم إن شعار المتربين بآيات الله ونعمه وتبصيرهم بها دافع إلى الارتباط بالله والسير في طريقه المستقيم، ولهذا نرى الله سبحانه عندما يذكر نعمه على عباده يذكرهم بأنها آيات لقوم يعقلون أو يتفكرون فمن تلك الآيات مثلا قوله تعالى “هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآيات لقوم يتذكرون”. ثم يقول بعد أن يذكر كثيرا من تلك الآيات “أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم”.
ثم إن الله يذكر من العلاقات بينه وبين عباده ما يجعل الإنسان يرتبط به ويخجل من عصيانه والخروج من طريقه فمن ذلك ما ذكره في الحديث القدسي الذي قال فيه “يا ابن آدم إن ذكرتني ذكرتك وإن نسيتني ذكرتك.. فتعرض علي وأنا مقبل عليك، من أوصل إليك الغذاء وأنت جنين في بطن أمك لم أزل أدبر فيك تدبيرا حتى أنفدت إرادتي فيك فلما أخرجتك إلى دار الدنيا أكثرت من المعاصي ما هكذا جزاء من أحسن إليك”
ولهذا قال الرسول ما معناه أن الله أرحم بعباده من الأم على ولدها الرضيع، وفي رواية أخرى “إن الله أرحم بعبادة من هذه (إشارة إلى امرأة) بولدها”.
ثم إن الحب الذي شرعه الإسلام بين العباد والخالق لا يقتصر على طرف واحد بل حب متبادل فكما يحب الإنسان الله فإن الله بدوره يحب من يحبه ويسير في طريقه وفقا لحبه “إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله”. وهو لا يحب من لا يطيعه ولا يقبل دينه “قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين”. لأن دليل الحب الطاعة وليس مجرد الكلام إذ كل واحد يمكن أن يدعي بلسانه الحب وإذا أحب الله عبده بناء على حبه الصادق له يرعاه ويحفظه وينصره ويهديه. فقال تعالى في حديث قدسي “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته”.
لكن يجب أن نفرق هنا بين حب الإنسان لصديقه أو لأبويه وبين حب الله فهذا الحب الأخير يجب أن يكون مع الإجلال والتعظيم، وهذا يجمع بين الترغيب والترهيب أي أنه يحبه لإنعامه ورعايته ويعظمه لصفة الألوهية الخالقة القادرة على كل شيء وبيده ملكوت كل شيء ويخاف من عذابه الشديد الذي لا يعذب مثله أحد، إن عصاه وتنكب على الطريق الذي رسمه من أجله. هنا يقول الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى “الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم” أنه لما كان اتصافه تعالى برب العالمين ترهيبا قرنه بالرحمن الرحيم لما تتضمن من الترغيب ليجمع في صفاته بين الرهبة والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع” مصداق ذلك قوله تعالى “إني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم” وقوله أيضا “غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير”.
ويقول كانط هنا مؤيدا هذه الفكرة من الناحية التربوية “يجب أن نعلم الصبيان أن التفكر في جمال الله عز وجل. يجب أن يملأ قلوب الناس بالاحترام والتبجيل في أي وقت يسمعون ذكره، ومن توقيره سبحانه ألا يذكر اسمه إلا قليلا على شرط أن يكون مع التعظيم والإجلال”. وهذا حق، ذلك أنه لو كان حب الإنسان لربه كحبه لبشر أي دون أن يكون مقرونا بالرهبة والتقديس والإجلال والتعظيم تكون مخالفته لأوامره سهلة وخاصة إذا اعتقد أنه لا يعاقبه إذا خالفه أو لا يستطيع معاقبته إذا أراد ذلك، كما يحصل هذا أو ذاك كثيرا فيما بين الناس ولهذا نرى خوف الطفل من مخالفة أمر والده أكثر من خوفه من مخالفة أوامر والدته لاعتقاده في لينها وعدم معاقبتها إياه، كما ينتظر ذلك من والده. وعلى العكس من ذلك فإذا اقترن الحب مع الإجلال والتعظيم كما هو الشأن مع الله فإنه ولا شك يكون أكثر دافعية لطاعته وأكثر ردعا عن معصيته ولهذا قال تعالى عن سلوك الذين تكونت عندهم عاطفة الحب والرهبة أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين.
هذا الخشوع لله هو المفتاح الوحيد لفتح مغاليق القلوب وهو المحرك الأساسي الذي حرك الإسلام به القلوب ودفعها إلى حيث يريد، وهذا هو السر الذي ملك به الرسول زمان قلوب أصحابه، إذ كان يستطيع أن يحركهم كما يريد ويوجههم إلى حيث شاء أينما كان. فكان إذا قال هذا حرام كانوا يجتنبونه توا ولو كانوا قداعتادوا عليه من قبل. وإذا قال هذا أمر يجب تنفيذه كانوا يسارعون إلى تنفيذه دون أن يستخدم سلطة أو سطوة بل قبل أن يكون لديه سلطة أو جيش يمكنه من قهرهم على أمره، وهذا خلاف ما عليه أمر الحكام والرؤساء اليوم الذين يملكون جميع أنواع السلطة والسطو ومع ذلك عندما يصدرون أوامرهم ونواهيهم وآراء أطبائهم بأن ما يأمرون به خير ونافع وإن ما ينهون عنه شر وضار بصحتهم مثل منعهم شرب المخدرات والخمور وبالرغم من منعهم بالقوانين وفرضهم عقوبات شديدة على الذين يشربونها مع ذلك يشربونها وكذلك في الأمور الأخرى التي تنادي الحكومات بمثل ما نادى به الرسول ويدعو الوعاظ والخطباء بمثل ما دعا إليه الرسول مع ذلك لا يستجيب الناس إلا لهؤلاء ولا لأولئك. وما ذلك إلا أنهم لم يغرسوا من قبل ذلك العاطفة القوية في القلوب ثم لم يتكلموا باسم تلك العاطفة الإلهية وهي الحب لله والخشوع منه فإن تلك العاطفة القائمة على الإيمان المطلق له قد أصبحت اليوم في حالة من الضعف لدرجة أنها لا تكفي لتحريك الأجسام إلى السلوك، هذا إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الشذوذ النفسي وعدم الإيمان أو ضعف هذا الإيمان بالله هذه حقيقة كشفها فرويد بعد دراسة خاصة.
ولهذا كله فإذا أردنا أن نجعل الناس يسارعون إلى الخيرات ويسارعون إلى تجنب الشرور يجب علينا أولا وقبل كل شيء أن نغرس في قلوبنا أطفالنا الصغار ذلك الإيمان اليقيني المطلق بالله بجميع تلك الصفات التي يتصف بها ذلك الخالق العظيم، وأن نغرس في نفوسهم عاطفة الحب لله والخشوع له وربطهم به لا بغيره والالتجاء إليه في كل شيء رغبة في تحقيق حاجاتهم وتجنبا لكل لون من ألوان المعاصي والشرور رهبة من عذابه وعاقبة أمره.
وبذلك الإيمان الذي يمتزج فيه العقل بالعاطفة يمكن أن نثبت أقدام الناس على الطريق المستقيم في هذه الحياة، وإذا رسخت تلك العقيدة في قلوبهم بالعوامل التربوية السليمة وأنبتت بذور شجرة المعرفة بالله في أرض قلوبهم فإنها تنمو وتترعرع بإذن الله وترتفع أغصانها وفروعها ويعجب الناس بمنظرها الجميل وبثمارها التي تثمرها في كل حين ولهذا فقد شبه الله هذه المعرفة المزروعة في القلوب بالشجرة الطيبة أصلها ثابت في الأرض وفروعها وصلت إلى السماء. فقال تعالى: “ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون”.
كذلك يفسر الفخر الرازي هذه الكلمة الطيبة بالمعرفة بالله وفسرها ابن عباس بكلمة الشهادة وأخيرا فسرها بعضهم بالإيمان بالله.
وهكذا عندما زرع الرسول المعرفة بالله في قلوب أصحابه أصبح كل واحد منهم زرعا طيبا خيرا، كما تنتج الشجرة ثمارها إذا زرعت بعلم وحكمة في أرض صالحة للزرع ثم روعيت الرعاية اللازمة من الحماية عن العوامل الخارجية والداخلية الهدامة. وكذلك العقيدة إذا غرست في القلوب بعلم وحكمة ووجدت الرعاية والعناية حتى إذا ما تأصلت في النفوس تكون أقوى عامل يدفع إلى السلوك الخير والفضائل، وتجعل الإنسان كشجرة الخير لا تثمر إلا ثمرة طيبة نافعة.
ومن هذا كله نستطيع أن نقرر ذلك الدور الكبير للعقيدة في تنمية الفضيلة إذا استطعنا أن نكون تلك العقيدة القوية في نفوس المتربين عن طريق التربية الإيمانية العلمية السليمة التي بينا بعض معالمها البارزة والضرورية.
وهكذا نجد أن ما قرره الفيلسوف المربي أفلاطون يتفق مع ما قررناه فهو بدوره يقرر أن العقيدة تؤثر في تنمية الفضيلة في نفوس الناشئين إذا نمى فيهم المربي أصول الدين وغرس فيهم الاعتقادات القوية، لأن الله هو الأول والوسط وهو الأخير لجميع الكائنات، وأن الإيمان بوجوده ورعايته وعدله هو الأساس للقوانين، وبغير هذا الإيمان يضل الإنسان في هذه الحياة ما دام لا يعرف من أين أتى ولا ما هو المثال الكامل المقدس الذي يجب أن يروض نفسه دائما على الاقتداء به والتوكل عليه، ولهذا يجب على المربي بذر هذه العقائد المقدسة في القلوب جميعا وكل تربية ليست دينية بالمعنى السابق، فهي ناقصة وباطلة وكل دولة لا تكون المواطنين على تلك الأسس الكبرى فتلك دولة توشك أن تهلك.