العمل العلمي المنشود
ليست مجلة “المسلم المعاصر”، الا قطرة من بحر مما يحتاجه العمل الإسلامي المعاصر في الميدان العلمي.
هذه الحقيقة قد تصدم مشاعر الكثيرين ممن ارتاحت ضمائرهم لصدور المسلم المعاصر، وشعروا أنها بذلك تسد الفراغ في الميدان العلمي الإسلامي المعاصر.
ولكني أشعر بواجب توضيح الموقف حتى تأخذ المجلة مكانها وحجمها، الطبيعي من العمل العلمي الضخم الذي ينبغي أن يقوم.
واذا أردنا تصويراً مبسطاً لخريطة العمل المطلوب ينبغي أن نستحضر بعاد الأربعة الآتية :
- ألأصول من كتاب وسنة وما يتصل بهما او يتفرع عنهما.
- التراث بمختلف فروعه، مخطوطة ومطبوعاً.
- الحضارة الحديثة في الربع الأخير من القرن العشرين ومشارف القرن الحادي والعشرين.
- واقع العالم الإسلامي، امكاناته وتطلعاته ومعوقات انطلاقه، ومن هذه الأبعاد الأربعة ممزوجة متفاعلة، تبدأ عملية التصور النظري والتطبيقي للحياة الإسلامية المنشودة.
وإذا أردنا ترجمة ذلك إلى مشروعات عملية محددة نجد اننا امام نوعين من المشروعات : مشروعات تمهيدية هي بمثابة أدوات العمل اللازمة للمشروعات الأصلية التي تبدأ بعد ذلك.
فمن قبيل المشروعات التمهيدية : مشروع موسوعة الحديث، وموسوعة الفقه، ومعاجم وفهارس لامهات الكتب (الفقه والتاريخ والادب وغيرها)، وفهارس المخطوطات، ومكتبة صور المخطوطات، وأرشيف المتابعة ما كتب ويكتب عن الإسلام والمسلمين داخل العالم الإسلامي وخارجه (من كتب ومجلات علمية ونشرات…) بجميع اللغات، وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وتسجيل التراث في أدمغة الكترونية computer وافلام مصغرة microfilm وبطاقات مصغرة microfiche تسهيلا لوصول الباحثين إلى المعلومات المطلوبة.
فمن قبيل المشروعات التمهيدية كذلك استخراج الكليات والمقاصد الشرعية من الفرعيات والأحكام التفصيلية ومحاولة استخلاص نظرة الإسلام العامة في كل فرع من فروع العلم، وعقد المقارنات بينها وبين الفلسفات والآراء الوضعية.
ولا تقتصر الحاجة إلى ذلك على العلوم الشرعية بمفهومها التقليدي بل تمتد لتشمل الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والتربية، بل تتعدى العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية فهي كذلك بحاجة ماسة إلى إعادة كتابتها من وجهة نظر إسلامية.
هذه المشروعات التمهيدية – وما ذكرناه منها ليس إلا على سبيل المثال الا الحصر – ينبغي أن تواكبها محاولة جادة لتخطي الأثر السيء لازدواج الثقافتين الشرعية والعصرية والذي يتركز في تخريج فئة دارسة للعلوم الشرعية وغير ملمة بمشاكل العصر وعلومه وفئة أخرى دارسة المشاكل العصر وعلومه وغير ملمة بالعلوم الشرعية، وقد اتجهت الجامعات مؤخرة إلى علاج جزئي لهذا الانفصام بتدريس علم الثقافة الإسلامية في الجامعات العصرية وبفتح كليات علمية في الجامعات الشرعية، وجدوى هذا العلاج الجزئي محدودة للغاية ولعلنا نعود إلى بحثها في مناسبة أخرى، ولكن الحاجة ماسة إلى معهد عال لمن أتموا تخصصاتهم سواء منها الشرعية أو العصرية على أعلى المستويات كي يكمل كل منهم ما ينقصه من العلوم الأخرى (على حسب الأحوال) وفي نطاق تخصصه فقط (اهتداء بشروط المجتهد الخاص لا العام) حتى تتكون من خريجي هذا المعهد وحدات متخصصة في كل فرع تجمع في كل فرد من أفرادها – لا بالتكامل بين أفرادها فحسب – بين الثقافتين العصرية والشرعية ممتزجة متفاعلة، وتكون هذه الوحدات المتخصصة في معقد الأمل في الاجتهاد المعاصر ضمن إطار مجمع علمي إسلامي.
وسواء قام هذا المجمع العلمي في مكان واحد على نسق “مدينة العلماء” في “نوفوسبرسك” بسيبريا من الاتحاد السوفياتي، أو في مدن متفرقة على نسق معاهد ماكس بلانك” في ألمانيا الغربية، فالمهم أن تكتمل لهذا المجمع مقدماته التمهيدية التي أشرنا إليها ومقوماته الرئيسية وأهمها تكوين أفراد وحداته المتخصصة ثم رسم منهج الاجتهاد المعاصر الذي هو حصيلة المشروعات التمهيدية وأساس الانتاج المنشود هذا المجمع العلمي الإسلامي.
ولا يتسع المجال هنا للاشارة إلى العديد من صور النشاط العلمي الذي تتم بعض هذه المشروعات في إطاره، من مؤتمرات وجمعيات ومجلات ودور نشر وغير ذلك من المؤسسات العلمية المتخصصة، ولكن ينبغي الإشارة هنا إلى ثلاث ملاحظات رئيسية :
أولاها أن الاعتماد على الحكومات في قيام هذه المشروعات يدخل بها في دوامة “الروتين الحكومي ومتاهة السياسة المتغيرة بتغير الوزارات ومراكز القوى في الداخل وبتغير العلاقات بين الحكومات ومحاور العمل على الساحة العربية والإسلامية.
لذلك ينبغي أن يكون المنطلق هو قيام مؤسسة أو مؤسسات غير حكومية ومستقلة عن الحكومات حتى لو تلقت الدعم من بعض الحكومات.
وهذا يقودنا إلى الملاحظة الثانية وهي فقدان الوعي العلمي لدى كثير من أغنياء المسلمين الذين ينظر إليهم كبديل عن الحكومات في تمويل هذه المشروعات، والوعي المفتقد في هذا المجال له مظهران : عدم وضوح أهمية الجانب العلمي في العمل الإسلامي، وعدم وضوح تعدد مصارف الزكاة والأنفاق في سبيل الله وتعديها إقامة المساجد وإطعام الفقراء إلى غير ذلك من المؤسسات الخيرية المتطورة لملاقاة الحاجات المتجددة للعمل الإسلامي.
ولعل الصيغة الموفقة لحل هذه المعادلة هي الاعتماد المتوازن على الحكومات والأغنياء والقاعدة الشعبية العريضة ممن يبذلون القليل الذي يملكون عن وعي وإيمان.
أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بأهمية اختيار القائمين على هذه المشروعات، إذ عادة ما تتجه الأنظار إلى فئة العلماء التقليديين وكثير منهم – مع علمهم وفضلهم – يفتقدون الرؤية المستقبلية المبدعة اللازمة للخروج من دوامة التكرار الذي يتسم به الإنتاج العلمي الحالي إلى الأفق الذي تحدثنا عنه بأبعاده المختلفة وآفاقه القريبة والبعيدة.
لذلك ينبغي التدقيق في اختيار القائمين على هذه المشروعات العلمية.
أن المد الإسلامي المعاصر حقيقة يعترف بها الغربيون، بل تنبأ بها علماؤهم منذ فترة ليست بالقصيرة.
هذا المد الإسلامي هو دورة من دورات التاريخ، وهو ثمرة جهود ودماء بذلت منذ صيحات جمال الدين الأفغاني ومحمد اقبال وابن باديس ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والمودودي وسيد قطب ومن ثلاهم على الدرب الطويل.
هذا المد الإسلامي يحلو للبعض أن يركب أمواجه فيكسب شرفا وشهرة منصباً ومالاً، يستوي في ذلك الأفراد والحكومات.
ويفرح المراقبون من غير المسلمين – إن لم يكونوا هم المخططين لذلك – اينتج عن ذلك من تزييف للحقيقة أو وأد للعمل الإسلامي في مهده أو جهاض له قبل أن يولد.
هذا حكم الغالب الأعم، ولا ينفي ذلك وجود بعض الجهود المخلصة في الخط الصحيح رغم قلة الإمكانات المتاحة لها ووفرة العراقيل أمامها.
وبالمقابل تقوم في الغرب محاولات جادة من وحي مصلحة الغرب لدراسة سلام وأحوال المسلمين وتستخدم فيها وسائل العلم الحديث وتنفق عليها أموال الطائلة، وأظن انه لن يمضي وقت طويل حتى تستوعب هذه الأعمال ال المشروعات التي تحدثنا عنها، وليس ببعيد عن الأذهان ما أنجزه المستشرقون، فهارس للسنة وتحقيق وفهرسة للمخطوطات وموسوعة الإسلام والأرشيف تخصص في الشؤون الإسلامية في جامعات ما كجيل بكندا وهارفارد وبرنستون بالولايات المتحدة والعديد من الجمعيات والنشرات والمكتبات والمجلات العلمية المتخصصة في الشؤون الإسلامية باللغات الأوربية وغير ذلك مما يطول شرحه.
ولا يتسع المقام لتقويم هذه المشروعات جملة، وإنما محل ذلك عند تقديم دراسة مفصلة عن كل مشروع، والله المستعان.