أن تكون لسان ” السيار الإسلامي” , متابعة للاصطلاح السياسي الحديث في تقسيم القوى والجماعات والأفكار … ان ” الإسلام” مظلوم حين يوضع دائما مع (اليمين), لمجرد انه دين … وحقا ان القرآن يثني على أصحاب اليمين ولكن اليمين والشمال في تعبير القرآن عن جزاء الآخرة, غير اليمين واليسار في تقويم السياسة الحديثة للعمل في الدنيا لأجل الإنسان, ومنهج القرآن لتوجيه الإنسان في هذا المجال يجعل المسلم في ( قلب ) اليسار.
ان المسلم يحارب الظلم الاجتماعي والسياسي, وهو ثابت القدم متوازن النفس متجدد الفكر, لأنه في معركته “مجاهد” في سبيل الله , وتصحيح الأوضاع “عقيدة” و “عبادة” لأنه إحقاق للحق, والله نفسه هو الحق المبين ” فماذا بعد الحق إلا الضلال .. فأني تصرفون” .
ومن هنا فان الإنسان في معركته لأجل كرامة الإنسان في الدنيا لا يطغيه الفوز, ولا تؤنسه الخيبة… انه موصول بقوى أكبر وأفكار وعقائد أرحب وأشمل .. أنه يعمل مع أخيه الإنسان لصالح الإنسان ومقصده رضاء رب الناس, ويعمل في استثمار طيبات الأرض وقوى الكون مبتغيا جزاء الآخرة … وهكذا يصمد المسلم في معارك الحق حين تتمزق صفوف ( اليسار) غير المؤمن وتتطاير أشلاؤه, وحين تتصاعد ضراوة (اليمين) الجاحد الجائر ” ولا تنهو في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون, وترجون من الله ما لا يرجون” … ويصمد المسلم أيضا حين ينتصر بالصمود أمام أهوائه في الود والحقد, في المحاباة والتحامل ” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو في الأرض ولا فسادا, والعاقبة للمتقين “.
عجيب أن نسمع عن ( اليسار الكاثوليكي), أو (اليسار المسيحي) بوجه عام…. في حين نرى تصنيف الأفكار والحركات الإسلامية دائما مع قوى ( اليمين) … ربما حدث ذلك قصدا للإسلام , ولكن يبقى على المسلمين وحدهم عبء التصحيح, بأقلامهم ودمائهم… وكثيرا ما يسيء ( ضباب الرؤية) وعدم الوضوح الفكري, إلى تضحيات وشهداء.
(اليسار والمسلم) إذ يجاهد في سبيل الله والمستضعفين, ويناصر الأيدي العاملة التي يحبها الله ورسوله, ويسعى إلى الحلول الجذرية للقضايا السياسية والاجتماعية… يؤمن بأن ( الجذرية) لابد أن تستوعب الأصول والأسس والجذور , في واقع الكيان ( المادي) و (الروحي) معا, حتى تستحق أن توصف بأنها (جذرية) حقا, فتصل إلى الأغوار والأعماق , وتحيط بأبعاد الوجود ( الجسدي الفكري النفسي ) للإنسان في هذا الكون الجليل الرائع بنواميسه وقواه, وتفجر بالعلم والوعي الطاقات المذخورة الهائلة (للإنسان ) و ( الكون ) معا…
و(اليسار المسلم ) يتمسك (بالديمقراطية), إذ هي حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية, حيث لا يكون النص الإلهي الملزم القاطع في وروده ودلالته… وما أكثر حاجات الناس التي ترجع بها شريعة الإسلام إلى (الإباحة الأصلية) و ( المصلحة المرسلة ) و ( الاستحسان) و ( توقي عموم البلوى) و(تقدير الضرر والضرورة) واعتبار ( العرف) – وما إلى هذه القواعد والأصول التي أحال فيها الإسلام الحكم إلى اجتهاد العقل واعمال الشورى ” أنتم أعلم بشؤون ديناكم ” بعد أن عرض عقائده أصلا على العقول بالحجة والبرهان, وطلب من معارضيه الحجة والبرهان!
وهيهات أن تكون ( الجذرية ) الأصلية , نقيضا ( للديمقراطية) الصحيحة…والديمقراطية الصحيحة هي التي تهيئ المناخ الحر الأمين لكل جدال وحوار في سبيل العدالة والتصحيح, ثم لكل ثورة حق وخير تهدم الباطل وتلتزم بالحق والواجب ولا تدمر دون تمييز!!… وتعس ( الراديكاليون) الذين ظنوا أنهم أضافوا إلى قائمة مكاسب الإنسان ( الحقوق الاجتماعية) , فاذا بهم يضيعون أوليات ما سبق أن كسبه الإنسان من ( الحقوق السياسية)!!
فالديمقراطية الصحيحة لا تتواطأ قط مع الطغاة من أصحاب السطوة والثروة مهما كانت ( أوضاعهم القائمة) , ولا تتنكر للمقهورين أصحاب الحق سواء هدأوا أم ثاروا… إنها لا تحمي ( الأمر الواقع) لمجرد انه (واقع) أو (مستقر), بل ترجع إلى الأصول والأسانيد , وتحق الحق ولو كره الكارهون ” فالضعيف قوي حتى يؤخذ الحق منه, والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق له”.
وأتوقع ان تكون المجلة أداة إيجابية فعالة لرفع ” التناقضات” القائمة في المجال الإسلامي في الفكر والحركة على السواء … لقد عاش قراؤنا ومثقفونا – بل ومفكرونا أحيانا – دهورا طويلة حالمة في ( التوفيق ) أو (التلفيق) بين المتناقضات التي تحمل كلها شعارات ولافتات إسلامية … متناقصات تجمع في صعيد واحد بين الصوفية والسلفية, بين أفكار الدكتاتورية والعنف والانقلاب وأفكار الديمقراطية والجدية والحوار, بين التمذهب الفقهي والاجتهاد , بين (التراثية) و(المعاصرة) … نحن الآن في حاجة ملحة إلى علاج عن طريق (الصدمة) ليستفيق المسلم على الحقيقة كاملة لا على نصفها أو ربعها أو عشرها.
كان دعاة الإسلام دائما حريصين على (التجميع) … والتجميع خير في مراحل (البداية) , ولكن من الخطر والهلاك أن يظل المسلمون دائما يعيشون (في البداية )…
يحتاج الإسلام الآن, فكرا وحركة إلى (التميز والتمييز) لا إلى الخلط والتمييع … فما أكثر من يجتمع على (الإسلام) في تعميم , ما أقل من يتضح في ذهنه من بين الجمع الحاشد أبعاد ما يؤمن به ويضحي لأجله ويسعد بالشهادة في سبيله ..
يحتاج الإسلام الآن لرفع المتناقصات التي تتعايش معا في مجال ( الفكر) … ويحتاج أيضا لرفع المتناقصات بين ( الفكر) و( الحركة ) , إذ أصبح الفكر (تيها) بين أكداس المصنفات والآراء والكلمات لا يتبين معه نقطة بدء ولا اتجاه سير. وأصبحت الحركة سذاجة وسطحية واعتسافا في الفهم والعمل دون محاولة للتعرف المنهجي الأساسي على الفكرة أو على الواقع وكأن حل مشاكل المسلمين في العالم المعاصر لا يتطلب إلا إضافة مزيد من الانقلابات , نستبدل فيها عنفا بعنف, وجهلا بجهل….
ان من المستحيل ان نأخذ الإسلام مكانه بين أهله وفي العالم بالفكر وحده, أو بالكلمة والكتاب … لابد من حركة تحمل كل أيديولوجية إلى مجال العمل, العمل النضالي لأجلها, ثم العمل في تطبيقها بعد انتصارها … ولكن الحركة المطلوبة هي الحركة الواعية بالفكرة وأبعادها , وبالواقع القائم وأبعاده, الحركة التي تدرس وتحصي وتخطط للتنفيذ, وتقيم الحوار الفعال بين الفكر والتطبيق, فتعمق التجربة من الفكرة للتجربة, في حركة وتفاعل خلال نفس الوقت … الحركة التي تقدر حقوق الناس ما دامت تقدس حقوق الإنسان وتعمل لها, حقوقهم في ان يفكروا ويناقشوا ويقتنعوا ” قل إنما أعظكم بواحدة, أن تقوموا لله مثنى وفرادى, ثم تتفكروا …”
” أدع إلى سبيل ربك بالحكمة , والموعظة الحسنة, وجادلهم بالتي هي أحسن … ” …. الحركة التي تعرف أن هناك تكنولوجيا للعصر في دراسة النفوس والمجتمعات والأيديولوجيات ووسائل الدعوة والتحرك السياسي , …. الخ وكلها مجالات أبدع فيها العلم المعاصر , وليس إبداعه فقط في تكنولوجيا المسدسات والمدافع السريعة والقنابل الزمنية وغير الزمنية وتدابير الاغتيالات والانقلابات!!
وأتوقع أن تكون هذه المجلة صورة (للاجتهاد) الإسلامي في الثلث الأخير من القرن العشرين … لقد شبع كل الناس منا كلاما عن واقعية الإسلام وعن (صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان) نظرا لمكانة الاجتهاد في شريعته.
ولكن هذا الاجتهاد مظلوم بيننا : إما ألا يمارس على الإطلاق, وإما أن يمارس في سطحية مروعة. للاجتهاد شرطه في أن يغيب النص الشرعي الصحيح الصريح, وللاجتهاد أدواته العلمية والمنهجية: هذا حق, ولكن من الحق كذلك أن الاجتهاد لا يجد حياته إلا بالممارسة … ونحن الآن نتوقف عن أن نقول رايا جديدا إزاء المعاملات والأوضاع القائمة بين المسلمين, حتى ولو كان القائل من أهل الذكر. وغاية وسعنا ان نجهد عيوننا لنتصيد من تراث السلف (نقلا) أقرب ما يكون إلى ما نريد أن نقول, ثم نجهد عقولنا في التفسير وجر النص إلى ما نريد أن نقول, ولو كان ذلك باعتساف التأويل …
إننا لا نقدم آراء خالدة يلتزم بها الإسلام إلى قيام الساعة … ان القرآن كتابه الخالد, المصوغ بإحكام وإعجاز , ولا يحتاج إلى كتاب جديد …. إننا نقدم فهمنا المحدود بحدود بشريتنا وواقع عصرنا ومجتمعنا وثقافتنا … وقد يختلف فهمنا هذا مع فهم إخوة لنا يعيشون في نفس الظروف نتيجة الفروق بين الأفراد , أو يختلف مع فهم اخوه لنا يعيشون في ظروف أخرى نتيجة التباين بين المجتمعات , أو يختلف مع أجيال لاحقه … ان الكلمة النهائية في أي مجال لن تقال , حتى تنتهي حياة آخر إنسان من على وجه الأرض.
وأكثر كتاب الإسلام اليوم يمرون في عجلة على أية مشكلة للمسلمين دون دراسة عميقة مستوفاة, ويشفقون من أي رأي قاطع يصدرونه نتيجة دراسة التراث الفكر الإسلامي وواقع المسلمين ورصيد الفكر الإنساني المعاصر …. وهكذا يغيب الفكر الإسلامي – بل تغيب الحركة الإسلامية نفسها أيضا – عن واقع الأحداث.
وعلى العكس هناك من يقبل على ( مغامرات فكرية) مثل ( تقنين الفقه الإسلامي ) , وكأن شريعة الإسلام يراد لها أن تطبق فورا , ولا ينقصها إلا التقنين وحده …
نريد ( فقها إسلاميا ) جديدا و (اجتهاد ) معاصرا, لا مجرد تقنين ما ورد من آراء فقهائنا الماضين , أو نقل ما في مصنفات تراثنا … نريد ( دراسات إسلامية ) مفصلة عميقة في قضايا مجتمعاتنا المعاصرة : التربية والتعليم , الأسرة , المعاملات, حقوق الإنسان المواطن في الدولة الحديثة التي تنمو نحو ( الشمولية ) حتى في النظم الرأسمالية …. الخ.
لطالما تغنينا ( بالاجتهاد) في أصولنا وبذم التقليد عندنا وبقول أئمتنا إنهم بشر يخطئون ويصيبون, وإنهم يوافقون الحاجات المتغيرة للمجتمعات المتطورة ومن هنا تتغير الفتوى باختلاف الزمان والعوائد , ويكون الاختلاف بين الآراء اختلاف عصر وزمان لا حجة وبرهان …. ولكن أين حصيلة هذا (الاجتهاد) في عصرنا بالنسبة لأية قضية محدده, بعيدا عن متاهات التعميمات السطحية الساذجة؟؟ ولماذا لم يسهم الفكر الإسلامي بأي جهد جديد له وزن إزاء المحاولات التشريعية في مجال الأحوال الشخصية مثلا بالبلاد الإسلامية, حيث يسلم الجميع بوجوب ( إسلامية ) التشريع في هذا المجال ؟؟ بل لماذا نبادر فنخنق الاجتهاد نفسه حين نحارب المجتهد المخطئ , غافلين عن أن ( حق الاجتهاد) يستلزم (حرية الخطأ) , وأن المجتهد المخطئ ليس بآثم وإنما هو مأجور على اجتهاده ولو أجرا واحدا, وأن الواجب مناقشة ( الخطأ) في الاجتهاد ذاته, فيقتلع جذوره ويصادر وجوده وحياته.
ما أكثر ما يتوقع المسلمون من هذه المجلة … وما أكبر ما يعلقون عليها من آمال.