أبحاث

المدينة والحضارة

العدد 33

مقدمة:

المدنية والحضارة قد ترجمت عن أصل فارسي يحمل نفس العنوان بمعرفة الدكتور علي شريعتي خلال عمره القصير وافر العطاء، ولقد كتب شريعتي عدة مجلدات محاولا إضفاء صورة واضحة وصادقة عن الدين عامة والإسلام خاصة.

هذه العجالة تخطو خطوة متواضعة نحو تقديم مدرسة شريعتي الفكرية، ولكن -نظرا لتعذر إيجاد مرادف دقيق للغة شريعتي المتميزة- لا يصح أن تعتبر هذه الترجمات تصورا صادقا للأصل ولكن مع ذلك فلم ندخر جهدا لإيصال جوهر المعنى الذي أراده المؤلف بصورة دقيقة واضحة قدر المستطاع إلى القارئ.

ومن الواجب أن نشير إلى أن المؤلف ذاته لم يراجع أو يصحح هذه الترجمة وتبعا لذلك فلا يمكن اعتباره مسئولا عن أي خطأ أو اختلاف في التصور ينتج عن هذا العمل.

ولقد نشرت الترجمة الانجليزية في الأصل بمعرفة جمعية الطلاب الإيرانيين المسلمين بعليكرة بالهند ثم أعيد نشرها في سنة 1979 بمعرفة جمعية الأدب الإسلامي الحر، فإلى جميع من ساهموا في إنجاز هذا العمل نزجي وافر الشكر والتقدير. بارك الله فيهم جميعا.

المدنية والحضارة

لعله من الأنسب في ضوء العقيدة الإسلامية أن نناقش تعريف الثقافة الفكرية في مواجهة البربرية، أو السؤال عمن هو المتمدين ومن هو المتحضر. ومن الواضح وجوب أن تبقى هذه النقطة عالقة بالأذهان خصوصا بوصفها موضوعا يتعلق بأفراد الطبقة المثقفة المفكرة في المجتمعات الإسلامية والتي يقع على عاتقها عبء المسئولية والريادة في هذه الأمة.

وتعتبر الحضارة من أدق التنائج الحيوية التي تواجهنا نحن شعوب البلاد غير الأوربية التابعة للمجتمعات الإسلامية.

وثمة نتيجة أخرى أكثر أهمية، هي تلك التي توضح العلاقة بين الحضارة المفروضة والمدنية الأصيلة. ومن الواجب أن نتبين ما إذا كانت الحضارة كما ينادى بها هي المرادف لأن يكون المرء متمدينا أو أنها نتيجة مختلفة تماما وظاهرة اجتماعية لا علاقة لها مطلقا بالمدنية. ومن المؤسف حقا أن تفرض علينا الحضارة نحن الشعوب غير الأوربية بوصفها المدنية.

وفي خلال المائة وخمسين سنة الأخيرة شرع الغرب في فرض الحضارة على الناس بهمة المبشرين وتحت قناع الأمم المتحضرة ثم تعريفهم بالثقافة الغربية وقدموا لنا هذه الحضارة التي صمموا على تسميتها بالمدنية المثلى.

ولقد كان على مفكرينا أن يفهموا ذلك منذ سنين طويلة وأن يجعلوا الناس يدركون الفارق بين المدنية والحضارة ولكنهم أخفقوا في هذا.. لماذا لم يتبين المثقفون طوال المائة وخمسين سنة الماضية هذه النتيجة التي تفرض التحضير الغربي على بلادهم. سنناقش إخفاقهم هذا فيما بعد.

ولكن قبل أي مناقشة تالية أود أن أضع تعريفا لبعض العبارات التي سنركز عليها والتي إذا تركت غامضة فقد تجعل النقاش غير واضح وسطحيا، ولسوف نعالج لب الموضوع بعد شرح تلك العبارات.

(1) المفكر: تعبير مطرد شائع يسمع دوما في الأوساط الإيرانية والأوربية وغيرها. فماذا يعنى به حقا؟ ومن هو الذي نطلق عليه وصف المفكر؟ من هم المفكرون؟ وما هو الدور الذي يقومون به وما هي مسئولياتهم في مجتمعنا؟.

المفكر واحد من الذين يدركون طبيعتهم الإنسانية في المجتمع في زمان ومكان محدد. إن إحساسه بشخصيته يلقي عليه تبعة المسئولية وعليه كمسئول أن يقود قومه بإحساس ذاتي إلى الحركات العلمية والاجتماعية والثورية.

(2) الاستيعاب: إنه من الجذور الراسخة لكل الاضطرابات والقهر التي تواجه البلاد غير العربية والإسلامية وينطبق هذا التعبير على سلوك كل فرد يبدأ في محاكاة سلوك الآخرين سواء كان ذلك عن وعي أو بدونه. إن الشخص الذي يجهر بهذا الضعف إنما يغفل عن ماضيه وطبيعته الوطنية وثقافته أو إن تذكرهم جميعا فإنما يتذكرهم باستياء. وهو ينكر في صلاة ودون تحفظ ذاته كي يبدل هويته آملا أن يصل إلى الرفعة التي يراها في سواه ويحاول المستوعب أن يتخلص من الخزي الذي يشعر به لانتمائه إلى مجتمعه الأصلي وثقافته القديمة.

(3) الانعزالية: إنها عملية نسيان أو إنكار أو لا مبالاة بالذات: إنها عملية فقدان الشخصية من خلال شخص أو شيء آخر. هذا المرض النفسي والاجتماعي تظهر أعراضه بصور وأشكال شتى وخطيرة ويستند إلى عوامل كثيرة مختلفة وتعتبر إحداها الأداة التي يعمل بها. ويوضح علم الاجتماع والسيكولوجيا كيف أن الإنسان في حياته يحاول أن يتجنب حقيقة ذاته المستقلة تدريجيا كلما ازداد اختلاطه ببعض الأدوات والوظائف يوما بعد يوم.. إنه يبدأ بالإحساس بأدوات عمله بدلا من الإحساس بذاته.

وعلى سبيل المثال، فإن الشخص الذي يتعامل مع الآلة يوميا من الساعة الثامنة صباحا وحتى السادسة مساءا تتوقف لديه كل الأحاسيس والأفكار والميول ويفقد شخصيته تدريجيا. عليه أن يقوم بعمل ميكانيكي دائب، من الممكن أن يمر أمامه أحد أشرطة التجميع وطلب إليه أن يترك (صامولتين) وأن يلف الثالثة مرة واحدة.

هذا الرجل ذو المشاعر والقدرات والأفكار والذوق والتوترات والكراهية والأحاسيس والمهارات المختلفة يصبح جسدا يتجاوز عن (صامولتين) ويلف الثالثة لفة واحدة في أغلب ساعات عمله وهي أيضا الأوقات التي يكون فيها أكثر نشاطا وحيوية هذا الرجل يصبح مجرد أداة إنتاج ينحصر كل نشاطه في عمل رتيب ممل يجب عليه أن يؤديه يوما بعد يوم وهو بهذا إنما يشل ويتوقف كل الصفات المكونة لشخصيته.

إن أحسن مثلا يضرب من بين عدة أمثلة لمثل هذه الحالات قد أعطاه شارلي شابلن في فيلمه الشهير (العصور الحديثة) ويقوم فيه بدور الرجل المتحرر من كل الارتباطات والالتزامات له كل الرغبات والمشاعر والأحاسيس والمتطلبات إنه يشعر بالحب نحو خطيبته وبالاحترام نحو ذويه وبالعطف نحو كل أصدقائه، يسعده أن يجلس ويحادث الآخرين ويشاركهم عاداتهم الطبيعية وتبدو منه مجموعة طبيعية متنوعة من الخوف والأمل والمهارة والتجاوب.

فهو، على سبيل المثال، عندما يرى والدته يبدي مشاعره نحوها كما لو لم يكن قد رآها منذ زمن بعيد. وهو عندما يقابل صديقا قديما يود أن يقضي معه وقتا يتبادل خلاله الحديث مستفسرا عن أحواله ذاكرا الأيام الخوالي، والحياة التي مضت، يشعر بالحب والحنان عندما يرى خطيبته، وبالحقد يتدفق في عروقه إذا رأى عدوا له يود أن يعتدي عليه ويثأر منه. فهو إنسان بكل حاجاته وتوقعاته المتعددة يتعشق المنظر البهي ويمقت المنظر الذي ينقبض له صدره. هو رجل بسيط بكل ما ينبغي للرجل الحر أن يكون له من مقومات الشخصية.

يذهب للعمل في مصنع ضخم لا يتصور كيف يدار ولا يعلم ماذا ينتج ولا ما يضبط توقيت حركة آلاته. لقد طلب العمل إلى مكتب وحرر نموذجا خاصا ثم طُلب إليه أن يقابل السيد فلان وساروا به من خلال بهو إلى احدى الحجرات وحضر إليه شخص وأفهمه ما يجب عليه أن يقوم به من عمل… ولكن ما هو هذا العمل على وجه التحديد؟ إنه يتلخص في الآتي: هناك بهو متسع معد ليكون مكانا للتجميع به شريط معدني كبير دائم الحركة يدخل من أحد جوانب البهو ويخرج من الجانب الآخر، حيث توجد قطاعات أخرى للتجميع، هو لا يعلم من أين أتي هذا الشريط ولا إلى أين ينتهي ولا السبب في ذلك. سبع أو ثمان عمال متراصين الواحد بجوار الآخر، إن عمله يتلخص في أن يتجاوز عن (صامولتين) من تلك التي فوق الشريط المتحرك وأن يلف الثالثة لفة واحدة ويتابع هذا ثم يعاوده دون انقطاع طوال عشر ساعات من العمل الدائب. وبعد ذلك يدق جرس وينتهي اليوم فيذهب إلى داره دون أن يدري أين راحت (الصواميل) ولم قام بهذا العمل الذي كلف به؟ ثم من أين جاءت وأين ذهبت وفيما ستستعمل؟.. إنه لا يدرك كنه هذا العمل. يقف بجواره 7 أو 8 عمال لا يستطعيون التخاطب فالشريط يتحرك بسرعة تحول دون تعرفه على زميله الواقف بجواره. إن اهماله لمتابعة ذلك الشريط المتحرك سيجعله يخفق في ملاحقة (الصامولة) الثالثة وسيتوقف المصنع بأكمله ولسوف يعاقب أو قد يفصل من عمله.

هذا الرجل يجب أن يكون كله عيونا تراقب (الصواميل) فالعمل الذي يضطلع به ينحصر في متابعة (الصواميل) ولفها مرة أو مرتين. ولكن الإنسان مخلوق له خصائص معينة يجب بداءة أن يعلم الغرض من عمله ثم أن يقوم له ليصل إلى هدف معين وهو الذي يختار هذا الهدف وبعد هذا الاختيار عليه أن يبتكر عملا يكون هو الوسيلة لتحقيقه المؤمل.

إن هدفا معينا وقدرا محددا من الإنتاج هما اللذان يرسمان حدود عمل الفرد الذي قد يصل في النهاية إلى تحقيق الهدف. ولكن بخلاف بحث الفرد عن هدف من خلال العمل وهو واعٍ له، فالرجل لا يعدو أن يكون إنسانا له مشاعر ودوافع.

شارلي شابلن وهو يقوم بتمثيل دور هذا العامل يرى والدته وخطيبته وصديقه وقد حضروا لرؤيته بالمصنع وهو بعد لم يألف عمل الآلة الجاف الرتيب الممل ولكنه لم يتحطم بعد. وفي أثناء عمله يلمح والدته فجأة وخطيبته أو صديقه فيضع جانبا أدوات عمله ليرحب بهم قائلا: كيف حالكم…؟ أين كنتم…؟ لقد انقضى زمن طويل دون أن أراكم.. لقد افتقدتكم طويلا… اجلسوا ولنتناول قدحا من الشاي. وفجأة يشاهد رجال الشرطة يهرعون إليه… والضوء الأحمر يتوهج وأجراس الخطر تدق ويرى مفتشين يدخلون.. ماذا حدث..؟ إن جهاز المراقبة بالمصنع قد أبلغ أن (صامولة) واحدة قد تركت دون أن تلف، لهذا كل شيء، توقف.

ماذا فعلت؟ كيف أمكن أن تفعل هذا..؟ ثم ألقي القبض عليه ونهروه وعوقب عقابا صارما لاهماله.

إن التعبير المؤقت عن شعور إنساني طبيعي وبسيط ترتب عليه الانحلال بنظام الآلة وتوقفها. هذا يوضح تماما أن النظام الحالي لم يعد فيه مكان ولو صغير لابداء الأحاسيس الإنسانية ومع ذلك فهم يروضون ويقيدون وينظمون هذا الإنسان الذي كان له فيما مضى أحاسيس وشعور حتى يصبح كآلة هو أيضا. وبعد انقضاء زهاء العشرين سنة من هذا العمل تصبح العبارات مثل (الإنسان مخلوق متعقل) (الإنسان حيوان متعبد) (الإنسان حيوان خلاق ذاتي الشعور) التي كانت تطلق على الإنسان في ما مضى لم تعد اليوم مقبولة في استعمالها. وبعد، فماذا أصبح عليه هذا الرجل بعد كل ذلك؟ لقد أصبح مخلوقا يلف (الصواميل) عليه أن يتجاوز عن (صامولتين) ويلف الثالثة مرة واحدة.

عندما يلمح هذا الرجل في الطريق أحد رجال الشرطة يرتدي زيا به أزرار في شكل (الصواميل) يتناول مفتاحه فورا ليربط عليهم وهو قد يرى أحد السيدات تحمل وساما مثبتا فوق قبعتها أو ردائها يشبه (الصامولة) وللحال يخطر له أن يذهب فيلفه مرة أو مرتين أو أكثر. فبالنسبة له تتلخص الدنيا في عبارة تجاوز عن اثنتين ولف الثالثة.

لقد أصبحت تلك هي فلسفته وهويته وحقيقته وعنوان كونه آدميا… فلماذا يربط؟ لكي يأكل. ولماذا يأكل؟ لكي يلف ويربط. فهو إذا رجل دائري. هذا الرجل لم يعد يشعر أنه كان فيما مضى إنسانا له أحاسيسه ورغباته واحتياجاته له مواطن ضعفه وقوته له مشاعره وذكرياته وفضائله كل ذلك قد انهار وأصبح كما قال ماركوس الرجل ذو البعد الواحد أو هو على حد تعبير “رينو جينون” (الرجل الذي فقد قيمته) وعبر عنه “شوندل” بأنه أصبح الرجل الدائري الذي ينتج من أجل أن يستهلك من أجل أن ينتج.

هذا الرجل الذي كان في يوم من الأيام دنيا وعالما قائما بذاته، كروموسوم صغير نفخ الله فيه من روحه قد أصبح الآن امتدادا لمفتاح يلف (الصواميل) أي نفذت إلى أعماقه كل خصائص الآلة والحركة الميكانيكية. لم يعد يعتبر نفسه كهذا الشخص أو ذاك أو ابن هذا أو ذاك، ينتمي إلى هذه أو تلك العائلة، له صفات ثقافات معينة وينتمي إلى جنس وخلفية معينة لها مقومات وخصائص، هو بالأحرى يشعر بنفسه مجرد جزء من الآلة فقط.

إن الانعزال قد يصبح أحيانا مرضا نفسيا خطيرا يستوجب عناية الأطباء النفسيين وإذا استفحل أمره ووصل إلى أقصى درجاته فقد يستوجب العزلة في احدى المصحات العقلية.

إن الانعزالية قد تصيب بعض الناس نتيجة للتربية الميكانيكية اللإنسانية قد تتسبب أيضا عن البيروقراطية والتكنولوجيا، وكما أوضح أحد علماء الاجتماع وهو “ماكس ويبر” أو “مارسيل موز” إن الرجل الذي يعمل في ظروف بيروقراطية معقدة حيث توجد غرف كلها تحمل أرقاما يمارس عمله بداخلها لفترة ولتكن 20 أو 30 سنة وليكن رقمه 345 يتخيل نفسه بعد انقضاء هذه المدة الطويلة كما لو كان هو نفسه الغرفة رقم 345 وليس شخصا يحمل اسما ولقبا آخر. الناس سينادونه باسم الغرفة 345 وسينظرون إليه ويتذكرونه بوصفه الغرفة 345 وسيتكون شعور عام أنه أصبح لا ينتمي لشيء سوى الغرفة 345 وسيولد لديه ذلك إحساسا أنه قد أصبح فعلا الغرفة رقم 345 وليس إنسانا اسمه كذا وابن لإنسان اسمه كيت له صفات معينة ومحددة.

التجنيب أو العزل كلمة لها مدلول باللغة الانكليزية يفيد معنى تقمص (روح) للجسد وباللغة الإيرانية تقمص (الجن) للجسد وكان الناس فيما مضى يؤمنون (بالأراوح) وكان المرء عندما يصاب بالجنون يظن عنه أن (الروح) قد استحوزت عليه وأفقدته عقله. يعتقد الناس أن (الروح) قد طردت عقله وحلت محله ويترتب على هذا أن المتقمص لا يشعر بنفسه كإنسان ولكن كائن شرير. (لكن مدلول هذه الكلمة اليوم يعني نوعا من الأمراض يعرفه علماء النفس والاجتماع).

وكما كانت (الأرواح) الناس فيما مضى أصبح المرء اليوم مجرد (صامولة) مرتبطة ببيروقراطية رتيبة جائرة معدومة الشعور لارتباطها المستمر بآلات ميكانيكية معينة. أصبح لا يحس ولا يتعرف على شخصيته فقد فقد نفسه. وكما كان الناس فيما مضى يعتقدون أنه أصيب بمس من الجنون استحوذ على عقله وأفقده صوابه فاليوم وسائل الإنتاج، الآلة وطبيعة عمله تستحوذ عليه وتتحكم في عقليته.

إنها تمحو تدريجيا شخصيته الحقيقة وتحل محلها خصائص الآلة وأدواتها وأسلوب العمل والتدرج الوظيفي وفي بعض الأحيان تندمج شخصيته تماما فيها.

وثمة نوع آخر من (رقابة الجن) الذي يتقمص البشر ويمحو شخصية فرد أو جماعة بأسرها. هذا النوع من التجنيب أو العزل يعتبر أكثر واقعية وخطورة وارهابا وتدميرا.

إن هذا النوع السائد الوجود من التجنيب أو العزل هو الذي يصيبنا نحن الإيرانيين والمسلمين والأسيويين والأفريقيين، إنها ليست انعزالية سببها التكنولوجيا فإننا لم ننعزل نتيجة للآلات، والأمر غير متعلق لا بالآلة ولا بالبيروقراطية فليس لبعض الأدوات القليلة التي يديرها عدد قليل من العاملين القدرة على عزل أحد ولم تصل الطبقة الوسطى “البيروجوازية” إلى الدرجة التي تمكنها من عزلنا. ولكن ما نقاومه ونناضله هو شيء بالغ الخطورة والقبح ألا هو “الانعزال الثقافي” فما معنى الانعزال الثقافي؟ لقد ذكرنا فيما سبق أن الانعزال أو التجنيب على أي صورة كان إنما يعبر عن حالة لا يتبين المرء نفسه من خلالها كما هي ولكنه يتبين شيئا آخر يحل محلها فالمرء وهو في هذه الحالة يعتبر معزولا ومجنبا.. فما يتصوره ليس حقيقة نفسه بحال من الأحوال وسواء كان ذلك مالا أو آلة أو الغرفة رقم 345 فتصوره لا يهم اطلاقا وإنما يستند فقط إلى الحظ أو التذوق.

فما هي الثقافة…؟ لن أبدأ هنا بسرد التعريفات المتباينة للثقافة.. فمهما كان تعريفها فهي تشتمل على مجموعة من التعبيرات العقلانية غير المادية فنية كانت أم تاريخية أم أدبية أم دينية (صورة معاملات ورموز وعادات وتقاليد) لأمة من الأمم جمعت خلالها تاريخها القديم فخلقت لها شكلا متميزا.

إنها تعبر عن الآلام والرغبات والأحاسيس والصفات الاجتماعية وأساليب الحياة والعلاقات الاجتماعية والهياكل الاقتصادية للأمة. إنني عندما أشعر بديانتي الخاصة وأدبي وإحساسي ورغباتي وآلامي من خلال ثقافتي إنما أشعر بذاتيتي وبحقيقة التاريخ والمجتمع والمنبع الذي أتى بهذه الثقافة وتطبيقا لذلك فالثقافة هي التعبير والهيكل الخارجي للوجود الحقيقي لمجتمعمي. فهي فعلا تاريخ كامل للمجتمع.

ولكن بعض العوامل المصطنعة، قد تكون ذات طبيعة مريبة، تزحف إلى داخل مجتمع له ظروف اجتماعية محددة تحديدا دقيقا أو علاقات اجتماعية نمت من خلال هيكل تاريخي محدد وعرفته بآلام وأوجاع وأحاسيس ومشاعر لها طابع غريب هي نتاج ماض مختلف ومران مختلف ومجتمع (متخلف عقليا واقتصاديا) هذه العوامل المصطنعة تمحو كل ثقافة حقيقية وتحل محلها ثقافة مزيفة تصلح لظروف أخرى وحقبة تاريخة مختلفة تمام الاختلاف واقتصاد مغاير وخلفية أخرى ووضع سياسي واجتماعي مغاير.

وعندما أود الشعور بذاتي الحقيقية أجد نفسي قد تعودت ثقافة اجتماعية أخرى بدلا من ثقافتي متحملا وآسفا لمشاكل ليست مشاكلي على الاطلاق إني أتوجع من أنانية لا علاقة بآداب أو فلسفة أو حقيقة اجتماعية لمجتمعي، ثم أجد نفسي قد احتضنت أطماع وطموحات ومخاوف هي في الأصل لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية خاصة بمجتمعات غير مجتمعي ومع ذلك فإني أتعامل مع هذه الإحساسات والطموحات والمخاوف كما لو كانت خاصة بي.

ثقافة أخرى جنبتني وعزلتني. فالرجل ذو البشرة السوداء الأفريقي وبربر شمال أفريقيا والهنود والفرس بآسيا كل منهم له ماض خاص وحاضر منفرد ومع هذا فلهم إحساس داخلي بالآلام والإشفاق يعتبرونه خاصا بهم مع أنه في الواقع أثر من آثار مشاكل أعقبت العصور الوسطى في القرن السادس عشر للنهضة والقرن السابع عشر عهد الحرية الاقتصادية والثامن عشر عهد التقدم العلمي وأيديولوجيا القرن التاسع عشر والمجتمعات الرأسمالية التي وجدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى والثانية.

فكيف يكون لكم صلة بهذا أيتها الشعوب الأفريقية والآسيوية؟ وما هي تلك المشاكل التي تخصكم فيسبب لكم وجودها كل هذه المتاعب والحلول المفروضة لها والإحساس بها وانفعالكم معها. إنها كما لو كنت أشعر بألم في قدمي فأرجعه إلى توتر في أعصابي لماذا؟ ألأنني أشترك مع أناس أظنهم أكثر ذكاء واحتراما وثراء مني ولديهم اضطراب عصبي أرجع إليه السبب في آلامي.

في مجتمع يشكو من كل هذه المجاعة والأمية الشائعة ليس بمستغرب أن نجد طبقة مثقفة ومفكرة لها أحاسيس ورغبات وسلوك يشابه ما في أمريكا وانكلترا وفرنسا الآن. والأخيرة تشكو من التخمة، من الملذات والرفاهية وانعدام القصد والأهداف والمجتمع يريد الراحة وينشد السلام، لقد أمرضته، صرامة التربية المفروضة عليه من الآلة أن يشكو ويأمن من الطاعة العمياء الصارمة والنظام الذي فرض عليه وجعله يشعر بكل هذا الألم ولكني وأنا أشكو من انعدام التكنولوجيا أشكو أئن أيضا من الآلام التي تسببها هذه التكنولوجيا فهي كما لو كانت سيارة داهمتنا فكسرت منا الأذرع والقدم. والدماء تغطي وجوهنا ورؤوسنا ومع ذلك فنحن نعطف ونشعر بمن هو خلف عجلة القيادة الذي مج القيادة ومداهمة الناس.

بهذه الطريقة فالمجتمعات غير الأوربية قد عزلتهم وجنبتهم المجتمعات الأوربية ومفكروهم لم يعودوا يشعرون بشعور الشرقيين ولا يئنوا كالشرقيين وليس لهم تطلعات الشرقيين. فالمفكر لا يشقى بمشاكله الاجتماعكية ولكنه يشعر بشقاء وألم ورغبات واحتياجات الأوربي وهو في قمة الرأسمالية والنجاح المادي والتمتع. وهكذا فاليوم تجتاح البلاد غير الأوربية أقصى صورة المعاناة من الفساد وانعدام النظام وهذه المجتمعات لها صفات خاصة ومع ذلك تتنكر لها. فهم يبقون في أذهانهم شيئا غريبا عنهم إنهم يشعرون بشخص آخر يحاكونه بصورة عمياء.

تلك الشعوب غير الأوربية كانت فيما مضى حقيقية وأصيلة. وإذا كنت قد قمت بزيارتها ولنقل من 200 سنة خلت لما وجدت لديها حضارة الشعوب الأوربية القائمة اليوم ولكن لكل شعب من تلك الشعوب مدنيته الحقة الصلبة. كانت شعوبا فريدة، رغباتها، طريقة صنعها للأشياء، أفكارها، نزهاتها وترويحها عن نفسها، تذوقها وطيباتها، طرق عبادتها وكل سلوكها الطيب منه والخبيث، أعمالها وفلسفتها، ودياناتها، كل شيء يعود إليها وتمتلكه.

فمثلا لو كنت قد ذهبت إلى بلد كالهند أو أي بلد أفريقي لعرفت أن لكل منها ذوقه المتميز ومبانيه الخاصة إنهم يؤلفون قصائدهم وأشعارهم الخاصة التي تتفق وثقافتهم وتتصل بحياتهم. لهم عاداتهم الاجتماعية الخاصة بهم ولهو ألوانهم وأمراضهم وأمانيهم ودياناتهم فكل ما عندهم ملك لهم..

وبالرغم من أنهم كانوا حقيقة في مستوى أدنى بكثير من المستوى القائم في يومنا هذا مدنية ومتاعا ماديا، إلا أن ما كان لديهم مهما كان تافها كان ملكا لهم، لم يكونوا مرضى بل كانوا فقراء. الفقر شيء مختلف عن المرض.

ولكن اليوم تمكنت المجتمعات الغربية من فرض فلسفاتها وطرق تفكيرها ورغباتها وتذوقها للأشياء وعاداتها على البلاد غير الأوربية وبنفس الدرجة التي تمكنوا بها من فرض رموز مدنيتهم (المستحدثات التكنولوجية) عليهم، فأصبحت تستهلك منتجات حديثة ودميات صغيرة بلاد لن تتمكن أبدا من تطوير نفسها بحيث تنسجم مع العادات الأوربية وتطلعاتها وأذواقها وطرق تفكيرها.

وكما قال “الان يوب” أحد كبار المفكرين السود أن المجتمعات التي وجدت خارج نطاق المدينة الأوربية “كمجتمعاتنا” تعتبر مجتمعات من الموزايكو. ولكن ما هو المقصود بمجتمعات الموزايكو؟ إن الموزايكو يحتوي على مئات من الأحجار الملونة ذات أشكال مختلفة كلها مضغوطة في قالب واحد فما هو شكل هذه البلاطات.. لا شكل لها فالموزايكو له صور متعددة وألوان مختلفة، يتكون من قطع صغيرة من الحصى المتعدد الأشكال ولكنها في مجموعها لا تكون شكلا محددا إن بعض المدنيات تعتبر أيضا مدنيات موزايكو أي مدنيات تحمل بعض ملامح الماضي لكنها ملامح ممسوخة مستوردة من أورب وبذلك تتكون من مجموعتين غير متجانستين نصف متمدينة ونصف متحضرة.. وهي أيضا من الموزايكو لأننا لم نكن نعرف ما هي المدنية وكيف نصنعها فهم الذين أعطونا شكلها أيضا.

وهكذا بدون أن نعلم ماذا نصنع وبدون أن تكون لدينا أي فكرة مسبقة عن دمج الأجزاء المختلفة من هنا وهناك لتكوين مدنية حديثة ولكنها عديمة الشكل والهدف. ومن خلال هذه النتيجة ذات المظهر غير المنتظم نجد أجزاء من كل مكان بعضها وطني وبعضها الآخرل أوربي بعضها عتيق وبعضها حديث.. الكل متراكم ومكونا لوحدة لا شكل لها متنافرة المظهر وفي النهاية تخلق مجتمعا لا مظهر ولا هدف له كذلك. مثل هذه المجتمعات غير الأوربية أمكنها خلال القرن الماضي أن تجمع المواد اللازمة من الغرب لتكوين ذاتها باسم “المدنية”.

ما هو الأصل في ظهور مدنية الموزايكو هذه أو تلك التي يمكنني أن أسميها مجتمعات الظرافات في البلاد غير الأوربية التي ليس لها منظر محدد خاص أو هدف؟ ليس من الواضح معرفة من أي نوع من المجتمعات هي. شعوبها ومفكروها لا يعرفون لماذا يعيشون يجهلون هدفهم وما يخفيه لهم المستقبل ولا مم تتكون طموحاتهم ومذاهبهم الفكرية.

فالآن ظهرت وتطورت خلال القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في أوربا على يد الرأسمالية والأثرياء والآلة مجتمعات لها خاصية الاحتياج المستمر لزيادة الإنتاج عندما تدور.

هذه هي ضغوط الآلة فهي إذا لم تزد من إنتاجها خلال 10 أو 11 سنة تموت وتنقضي إذ لا يمكن أن تستمر في العمل ولا أن تنافس سواها من الآلات. لماذا…؟ لأنها إذا لم تزيد من إنتاجها فغيرها من الآلات التي تنتج نفس السلغة على نطاق أوسع يمكنها أن تبيعها بسعر أقل.

وعلى هذا فإنتاج الآلة العتيقة سيتوقف فالآلة يجب أن تنتج أزيد فأزيد لتتمكن من أن تدفع أكثر للعاملين وأن تعرض السلعة في الأسواق بأسعار أقل من منافسيها. العلم والتكنولوجيا ساهما في تطوير وتنمية الآلة وتحسين إنتاجها. هذا التطوير قد غير ملامح البشرية في هذه الأيام. ولا يصح أن نعتبر ذلك أحد المشاكل التي ظهرت اليوم في العالم مع أنه إذا جددنا القول فليس هناك مشكلة سواها وقد وجدت قبلنا خلال القرنين الماضيين ومنها تتفرع جميع المشكلات التي تواجه عالمنا اليوم.

فالآلة يجب أن تزيد إنتاجها تدريجيا في كل عام وحتى تتفادى التراكمات يجب عليها أن تنتج أيضا الحاجة إلى استمرار الاستهلاك.. ولكن زيادة استهلاك الأفراد لا تضطرد بنفس نسبة زيادة الإنتاج فبعض المجتمعات قد يكون لديها زيادة 30% في استهلاكها من الورق خلال عشر سنوات ولديها 300% أي عشرة أضعاف الإنتاج من الورق خلال نفس الفترة.

منذ عشر سنوات كانت الآلات تنتج خمس كيلومترات من الورق في الساعة الواحدة أما اليوم فهي تنتج خمسين كيلو مترا في الساعة ومع هذا فاستهلاك الورق لم ولن يرتفع إلى هذا المستوى.

فما هو الحل بالنسبة للزيادة في الإنتاج أو الفائض؟ ما الذي يجب عمله إزاء تراكم الورق؟ يجب ايجاد مجالات جديدة للاستهلاك.. كل بلد أوربي له تذوق خاص محدد تعداد أفراد الشعب لا يتجاوز 40 أو 60 مليون… والإنتاج المتزايد بصورة مستمرة يفيض عن حاجة الأفراد إلى الاستهلاك إنهم لن يتمكنوا من اللحاق بها..

وعلى ذلك فما دامت الآلة تعمل حتما على زيادة الإنتاج فيجب عليها أيضا تجاوز حدودها الوطنية ودفع الإنتاج إلى الأسواق الأجنبية.

عندما سيطر الرأسماليون على رقابة الآلة والتكنولوجيا والعلم في القرن الثامن عشر تحدد مصير البشرية.. فكل فرد على الأرض سيرغم على أن يصبح مستهلكا للبضائع المنتجة… وسرعان ما أصبحت الأسواق الأوربية متخمة..

ونتيجة لذلك وجب أن يتجه فائض الإنتاج إلى آسيا وأفريقيا وكان على الآسيويين والأفريقيين أن يستهلكوا فائض إنتاج أوربا.

ولكن هل يمكن حقا تصدير هذا الإنتاج إلى الشرق حيث طبيعة حياة الفرد هناك في غنى عنه وهل يمكن ارغامه على استهلاكه؟ هذا مستحيل فأنت عندما تدخل أحد المجتمعات الآسيوية تلاحظ أن ملابس الرجل الآسيوي قد حيكت بمعرفة زوجته أو في أحدى الورش الوطنية الصغيرة.. فهم يرتدون الملابس التقليدية.. ولا يوجد طلب هناك على إنتاج المصانع التي تخلق (الموضات) في الملابس أو الأقمشة الحديثة الأوربية.

في المجتمع الأفريقي نلاحظ أن رغباتهم ومتطلباتهم وسعادتهم تنحصر في ركوب الخيل والإعجاب برشاقة خيولهم… ليس لديهم طرقة سريعة أو سائقين أو أفكار عن الآلات أو الحاجة إلى أي منها فتبعا لأسلوبهم في الحياة يتعادل إنتاجهم مع استهلاكهم وهو ما يلائم تقاليدهم وأذواقهم واحتياجاتهم… فالسيارة بالنسبة لهم لا قيمة لها مثلها في ذلك مثل أي إنتاج أوربي آخر.

لقد استمرت المصانع الأوربية في زيادة الكمية الإنتاجية المضطردة للسلع الفاخرة واستمر بحثهم عن أسواق لها في البلاد الأفريقية والآسيوية.. ولكن كان من المستحيل أن تنتظر من رجل أو امرأة آسيوية أو أفريقية أن تستعمل هذه المنتجات في القرن الثامن عشر أو حتى التاسع عشر حتى لو أعطيت لهم دون مقابل.. فلديهم وسائل أخرى للبهجة والسرور لديهم ملابسهم الوطنية الخاصة بهم.

المرأة الأفريقية أو الآسيوية لم يكن لديها حاجة إلى استعمال مستحضرات التزين الأوربية ولا حاجة فيها في بعض المصوغات الصغيرة للتزين بها واستكمال هندامها فلديها مستحضرات زينتها وكل ما يلزم لذلك تستعملها وسيعجب بها كل الناس. وبعد فهي لا تشعر أيضا بالحاجة إلى التغيير.

ونتيجة لموقفها هذا بقيت بضائع الرأسمالية دون أن تباع لشعوب لها هذه الطريقة في التفكير واحتياجاتها وأذواقها والأفراد ينتجون احتياجاتهم يستهلكوا منتجات رأسماليي القرن الثامن عشر.. فما هو العمل إذا؟ المشكل ينحصر في جعل شعوب أفريقيا وآسيا مستهلكين للمنتجات الأوربية.. يجب تغيير هيكل مجتمعاتهم بحيث يصبحون مستهلكين للمنتجات الأوربية..

ومعنى هذا تغيير مجتمعاتهم تغييرا جذريا.. يجب عليهم تعديل الأمة والفرد بحيث يبدل ثيابه ونمط استهلاكه وزينته ومسكنه ومدينته… ولكن أي جزء منه يجب تغييره في البداية.. عقيدته وطريقة تفكيره.. من يمكن تغيير روح المجتمع؟ أخلاق المجتمع وطريقة تفكير الأمة؟ في هذا الخصوص لم يكن لدى الرأسماليين الأوربيين والمهندسين أو المنتجين ما يستطيعون عمله. كان هذا بالأحرى عمل المفكرين الأوربيين فعليهم ايجاد الخطة… أو الطريقة.. الخاصة لافساد الفكر والذوق وطريقة معيشة غير الأوربيون.. ليس بالوسيلة التي يختارها هو مادام التغير الذي قد يرغب فيه لا يؤدي بالضرورة إلى استهلاك الإنتاج الأوربي ولكن يجب تغيير رغباته واختياره وآلامه وأحزانه وتذوقه ومثله العليا وإحساسه بالجمال، وتقاليده وعلاقاته الاجتماعية، ووسائل لهوه.

كل هذا يجب تغييره وارغامه على أن يصبح مستهلكا للمنتجات الصناعية الأوربية.. ولهذا فقد ترك كبار المنتجين وكبار الرأسماليين الأوربيين في القرن الثامن عشر والتاسع عشر للمفكرين ايجاد الحلول المناسبة لهذا المشروع.

هذا المشروع يتلخص في الآتي: على جميع شعوب العالم أن يصبحوا على شاكلة واحدة، يجب عليهم أن يحيوا نفس الحياة ويفكروا نفس التفكير.

ولكن من المستحيل على كل الأمم أن تفكر بنفس الأسلوب نفس التفكير. أي العناصر التكوينية يمكن أن تدخل شخصية الفرد والأمة. هل هي الديانة أم التاريخ أم التربية أم المدنية السابقة والثقافة والتقاليد- كل ما ذكرنا آنفا هي العناصر التكوينية لشخصية الإنسان وروحه وبعبارة أعم للأمته هذه العناصر تختلف من مجتمع لآخر.. فهي تتخذ مظهرا معينا في أوربا وآخر في آسيا وأفريقيا.. عليهم جميعا أن يتماثلوا..

إن اختلاف التفكير وروح الأمم في العالم يجب أن يدمر كي يصبح الناس متماثلين.. يجب عليهم أن يتبعوا أينما كانوا نمطا موحدا.. ولكن ما هو هذا النمط؟

هذا النمط قدمته أوربا. إنه يحدد لجميع الشرقيين الآسيويين والأفريقيين كيفية التفكير وارتداء الملابس وكيفية الرغبة والحزن وبناء المساكن وانشاء العلاقات الاجتماعية.. وكيفية استهلاكهم وابداء وجهات نظرهم- وأخيرا كيفية الاختيار وماذا يختارون ويحبون.. وقد اتضح للجميع أن ثمة ثقافة جديدة اسمها “الحضارة” قد قدمت وعرضت على العالم بأكمله..

الحضارة كانت أحسن طريقة لتحويل عالم غير الأوربيون عن أي شكل أو طابع للتفكير يتعلق بطابعهم وأفكارهم وشخصيتهم.. وأصبحت المهمة الوحيدة للأوربيين أن يضغوا اغراء “الحضارة” أمام أعين المجتمعات غير أوربية…

لقد أدرك الأوربيون أنه باغراء الشرقيين على الرغبة في التحضر فقد يقبلوا أن يتعاونوا معهم على إنكار الماضي ورفض وتدمير مقومات ثقافتهم الخاصة وديانتهم وشخصيتهم.. وهكذا يتغلب الاغراء والشوق إلى “الحضارة” على كل شيء في جميع أنحاء الشرق الأقصى والأوسط والأدنى وفي البلاد الإسلامية والسوداء.. وأصبح أن يكون الإنسان متحضرا معناه أن يكون صنوا للأوربي.

وبتعبير أدق فكلمة التحضر معناها التحضر في الاستهلاك فالإنسان المتحضر هو الإنسان الذي أصبح ذوقه يتطلب أصناف حضرية لسد رغباته، وبعبارة أخرى فهو مستورد من أوربا أشكالا جديدة للمعيشة وإنتاجا جديدا ولم يعد يستعمل أنواع جديدة من المنتجات وطرق للمعيشة مستوحاة من ماضيه الوني وأحواله.. البلاد غير الأوربية قد تحضرت من أجل الاستهلاك.. ولكن الغربيين لم يستطيعوا أن يقولوا للآخرين أنهم سيغيروا تفكيرهم وعقليتهم وشخصيتهم خشية أن تصحو المقاومة.

ولذلك كان على الأوربيين أن يجعلوا غير الأوربيين ينظروا إلى الحضارة كأنها المدنية كي يغيروا من طريق استهلاكهم مادام الكل يرغب في التمدين.. وبذا فقد تم التعريف بالحضارة على أنها هي المدنية وبذا تعاون الناس مع الأوربيين في رسم خطوط التحضر بصورة أكثر فاعلية من الرأسماليين والبورجوازيين واجتهد المفكرون في البلاد غير الأوربية اجتهادا كبيرا لتغيير طريقة الاستهلاك وأسلوب المعيشة في مجتمعاتهم ومادات الدول غير الأوربية لا تستطيع أن تنتج السلع الجديدة فقد أصبحوا تلقائيا يعتمدون على التكنولوجية التي تنتج لهم وتنتظر منهم أن يشتروا كل الإنتاج مهما كان.

عندما كنت أدرس في أوربا ترامى إلى سمعي خبر أحد مصانع السيارات وقد أعلن عن وظائف خالية بأجور مرتفعة لاجتماعيين وعلماء نفسيين.. وقد كنت أبحث عن عمل وقتئذ وأود معرفة السبب الذي حدا بأحد مصانع السيارات أن يحتاج إلى علماء اجتماعيين ونفسيين فذهبت إلى هناك لأؤدي اختبار المواجهة مع أحد الرجال العاملين في ادارة العلاقات الخارجية.. سألني: “قد تكون متعجبا لأننا نطلب خبراء اجتاعيين في الوقت الذي كان يجب في العادة أن نطلب مهندسين ميكانيكيين وما شابههم”، فقلت “نعم” فأحضر لي خريطة آسيا وأفريقيا وأشار إلى بعض المدن قائلا: إن لدى بعضها طلبات كبيرة على السيارات وهناك عملاء كثيرون وعلى العكس ففي البعض الآخر لا يوجد طلبات. وأضاف: (لن ندري السبب في ذلك من سؤال المهندسين ولكن على الاجتماعيين واجب التعرف على رغبات هؤلاء الذين يمتنعون عن الشراء.. وحينئذ يمكننا تغيير لون وتصميم السيارة إذا كان هذا ممكنا وإلا فعليهم أن يجبروهم على تغيير أذواقهم”.

ضرب لي مثلا عن نجاح بعض الاجتماعيين الأوربيين في إضفاء الحضارة على بعض القبائل.. أطلعني على منطقة جبلية مغطاة بالأشجار على ضفاف نهر التشاد بأفريقيا حيث تعيش قبائل رحل. القوم هناك لا يرتدون الملابس ويعيشون على تربية الماشية.. وأشار إلى منطقة أخرى يقيم بها بعض الناس حول قصر رئيس القبيلة.. لم يكن لديهم دارس أو ممرات أو طرق سريعة أو ملابس أو منازل لسكناهم.. كانوا يعيشون في الخيام.. ثم قال لي إن رئيس هذه القبيلة نصف المتوحشة قد أوقف أمام قصره سيارتين رينو مزخرفتين بالذهب.

لم يكن هؤلاء السكان يهتمون في الأصل بشيء غير الخيول وكان الشخص الذي لديه أحسن حصان هو الأكثر شهرة. كل واحد حاول أن يربي أحسن الخيول كوسيلة لاستحقاق التعظيم والسيطرة.. وأبلغني صاحب العمل عن إحجام أي شخص عن شراء سيارة مادام هذا النمط من التفكير هو السائد في القبيلة فالجميع يستمرون في شراء الخيول ولكننا لا ننتج خيولا، ولذلك بدأنا نبحث عن وسيلة تجعل هؤلاء الأهالي يشترون سيارات من تلك التي ننتجها في أوربا.

النساء كن يجملن أنفسهن بمستحضرات صنعت من الصمغ وبعض عصارة أشجار الغابات.. وكان هذا موضع إعجاب الجميع.. كانوا سعداء بثقافتهم المحلية. ورقصاتهم الشعبية وطعامهم الوطني.. وكان من الواضح طبعا أن النساء لن يشترين مستحضرات “كريستيان ديور” ولا أحد من الرجال سيشتري سيارات رينو.. ولم يحاول الأوربيون أن يبيعوا أي شيء.. ولكن ثمة تطور حدث أتاح للاجتماعيين الأوربيين أن يغيروا ذوق الأهالي.. كان رئيس القبيلة يربط حصانيه الجميلين مع أحسن كلاب الصيد لديه أمام مقره.

والآن غيرنا تذوقه.. لقد جعلناه متحضرا.. وبدلا من أن يربط حصانيه أمام منزليه أصبح يوقف بفخر وزهو سيارتين رينو ذهبيتي الزخرف وسألته في تعجب “ولكن ليس لديهم طرق” فقال (لقد شقوا مؤقتا طريقا طوله ثمانية كيلومترات).

عندما اشترى رئيس القبيلة بادئ الأمر السيارة كان يستقلها كل صباح وكان جميع أهل القبيلة يتجمعون ليشاهدوا السيارة ولكنه لم يكن يعرف كيف يقودها لذلك فقد استأجر سائقا من هنا.. وكان السائق يعمل لديه ثمانية أشهر ويحصل على أجر مرتفع للغاية.. لم تكن هناك محطات للبنزين قريبة من موقع القبيلة ولذلك فقد حملوا إليها الغاز من مسافات بالمراكب.. وهكذا لم يكن هدف الرأسماليين الحقيقيين هو إضفاء المدنية على هذه القبيلة ولكن جلب الحضارة إليها.. ورئيس القبيلة الذي كان فيما مضى فخورا بحصانه وكان فارسا ماهرا أصبح الآن فخورا بسيارته وسعيد بركوبها..

لقد أصبح رئيس القبيلة هذه مثله مثل الكثير من الآسيويين وغير الأوربيين متحضرا. ولكن يجب على الإنسان أن يكون من أهالي هذه القرية ليحكم حكما سطحيا يفيد ما إذا كان رئيسها قد أصبح متمدينا أيضا أم لا.

إن التحضر بدأ يعدل التقاليد وطريقة الاستهلاك والحياة المادية ويغيرها من القديم إلى الحديث.. الناس صنعوا الطرق القديمة والآلة أنتجت الجديدة.. ولكي يجعلوا غير الأوربيين متحضرين كان عليهم في البداية أن يتغلبوا على نفوذ الدين ما دام هو السبب في جعل كل مجتمع يشعر باستقلاله الذاتي.. الديانة تقوي وترفع وتستدعي التفكير الذي ينتمي إليه كل فرد فكريا.. فإذا دمر وحقر هذا التفكير شعر الإنسان الذي ينتمي إليه بأنه هو شخصيا قد تحطم وحقر..

لذلك فقد بدأ المفكرون من الأهالي في القيام بحركة مضادة للتعصب. وكما قال “فرانز فانون” أرادت أوربا أن تؤثر غير الأوربيين بواسطة الآلة… هل لإنسان أو مجتمع أن يستعبد بواسطة آلة أو بواسطة إنتاج أوربي دون أن يجرد من شخصيته؟ لا.. هذا غير مستطاع.. فالشخصية يجب إذا أن تمحى أولا.

وما دام التاريخ والديانة والثقافة جملة والفكر والفن والأدب هي التي تكون شخصية المجتمع.. لهذا كان يجب تدميرها جميعا. كذلك في القرن التاسع عشر كنت سأشعر كإيراني أنني وثيق الارتباط بحضارة عظيمة بدأت في القرن الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن للإسلام الذي لم يكن له مثيل في العالم بأسره وكان العالم كله واقعا تحت تأثيره.

كنت سأشعر أنني مرتبط بثقافة يزيد عمرها على 2000 سنة كانت قد خلقت بأشكال وأنماط متباينة فكرا وأدبا وفن جديدا في عالم الإنسانية.. كنت سأشعر بارتباطي بالإسلام أحدث وأعظم وأعم الديانات في العالم مبدع كل هذه الأفكار وقاهر كل تلك الحضارات ليخلق في النهاية حضارة أقوى وأكبر. كنت سأشعر بارتباطي بالإسلام الذي خلق أجمل المعاني إلا لإنسانية. وكنت أيضا سأشعر بوصفي كإنسان أن لي شخصية منفردة متميزة في أعين الدنيا بأكملها ومن فيها من البشر.. فكيف يتيسر لهم تبديل هذه الـ “أنا” وتحويلها إلى مجرد دمية أو آلة صغيرة كل وظيفتها أن تستهلك منتجات جديدة. سيكونون قد نجحوا في تجريده من شخصيته.. يجب تجريده من كل الـ “أنا” التي يشعر بها داخل نفسه.. يجب إجباره على الاعتقاد بأنه ينتمي إلى حضارات أقل شأنا وإلى نظام اجتماعي أكثر تواضعا وأن يتقبل الحضارة الأوربية والغربية والغرب كله على أنه جنس أرقى..

أفريقيا يجب أن تؤمن بأن الأفريقي شخص متوحش وبذلك يمكن إغراؤه ليكون “متمدينا” واضعا نفسه بين أيدي الأوربيين الذين سيحددون مصيره. هذا الرجل التعس لا يدرك أنه يتحضر بدلا من أن يتمدين.. هذا هو السبب الذي جعلنا نرى فجأة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كل الأفريقيين يتصفون بأنهم متوحشون وأكلة لحوم البشر.

إن الأفريقيون الذين تعاملوا مع المدنية الإسلامية طوال قرون عديدة لم يعرفوا أبدا على أنهم –أكلة لحوم البشر- فجأة يصبح الأفريقي الأسود من أكلة لحوم البشر له رائحة خاصة وأصل خاص.. والمادة الرمادية في مخه لا تؤدي وظيفتها. ومقدمة هذا المخ أضيق إذا قورنت بمقدمة جبهة الغربيين.

وحتى أطباؤهم قد أثبتوا أن الجهة الغربية لها مادة رمادية أزيد يفتقدها الشرقيون والسود.. وأثبتوا أيضا أن مخ الغربيين أكبر حجما في خلاياه مما يساعد على التفكير بصورة أفضل من غير الغربي.. وعلى هذا ترى ثقافة جديدة تبنى على أساس “الرقي الغربي” و”رقي مدنيته وشعوبه” جعلونا ومعنا العالم بأسره نعتقد أن الأوربي إنسان موهوب فكريا وفنيا أكثر من سواه.. أما الشرقي فصاحب هبات غامضة وعواطف غريبة والأسود لا يصلح إلا للرقص والغناء والرسم والنحت.

ونتيجة لذلك انقسم العالم إلى ثلاثة أجناس متميزة – جنس يستطيع التفكير والادراك وهو الأوربي (منذ زمن الاغريق القدامى إلى يومنا هذا) فكان وحده الذي يحس ويقرض الشعر، وجنس ثان وهو الشرقي ليس لديه سوى أحاسيس غامضة وخارقة وجنس ثالث وهو الأسود لا يحسن سوى الرقص والغناء وعزف الموسيقى جاز عزفا جيدا.

طريقة التفكير هذه التي قدمت إلى العالم لتدبير الحاجة إلى إضفاء الحضارة على الشعوب غير الأوربية أصبحت هي أيضا قاعدة تفكير النخبة الممتازة من غير الأوربيين وهكذا نرى كيف خلقوا التنازع بين “المتحضرين” و”المتخلفين” في المجتمعات غير الأوربية ولمائة سنة قادمة – ذلك التنازع الذي كان ولا زال أعقم النزاعات التي رآها الإنسان.

الحضارة في أي شيء؟ في الاستهلاك وليس في التفكير. والتخلف في أي شيء؟ في طريقة الاستهلاك. فكان من الطبيعي أن ينتهي النزاع في صالح التحضر وحتى لو كان قد انتهى إلى نهاية أخرى فهي لن تكون أبدا في صالح الجماهير.

في هذا النزاع، النزاع بين المتحضرين والمتمدينين، كانت القيادة دائما للأوربي وباسم التمدين استمرت الحملة للتحضر وحتى 100 سنة قادمة أو أكثر من 100 سنة. التجمعات غير الأوربية نفسها تناضل كي تصبح متحضرة تحت قيادة مفكريهم الممتازين.

دعونا نتدبر أمر هذه الأجناس وتكوين هذه الطبقة من المفكر “جان بول سارتر” في مقدمته لمؤلفه “المعذبون في الأرض” أشار إلى ما يأتي: قد نأتي بجماعة من الأفريقيين أو شباب الآسيويين إلى أمستردام، أو باريس، أو لندن.. ونبقيهم لعدة شهور قليلة ولنتجول بهم ونغير ملابسهم وما يتحلون به ولنعلمهم طرق التصرف في المجتمع وبعض مقاطع من اللغة.

وباختصار سنفرغ ما لديهم من قيمهم الثقافية ثم نعيدهم مرة أخرى إلى بلادهم، فلن يكونوا أبدا هذا النوع من الناس الذي يصرح بما في نفسه سيكونون مرجعا لصدى ما نقوله نحن.. سننادي بشعارات الإنسانية والمساواة وسيرددون صدى ندائنا في أفريقيا وآسيا “إنسانية” “مساواة”.

هؤلاء هم الذين أقنعوا الشعوب بترك استقامتهم وبأن يقصوا دياناتهم وبأن يتخلصوا من ثقافتهم الوطنية (فتلك كلها أبقتهم بعيدا خلف المجتمعات الأوربية الحديثة) وأن يصبحوا غربيين من أخماص أقدامهم إلى قمم رؤوسهم.

ولكن كيف يمكن أن يصبح الإنسان أوربيا عن طريق التصدير والمبادلة؟ هل المدنية سلعة يمكن للمرء أن يصدرها ويستوردها من مكان لآخر؟ بالتأكيد لا. ولكن الحضارة مجموع من المنتجات الحديثة التي يمكن لأي مجتمع أن يستوردها في خلال سنة ونصف إلى خمس سنوات، من الممكن أن نجعل بعض المجتمعات تتحضر كلية في ظرف بضع سنين.

وبالمثل فمن الممكن أن نجعل أي شخص يتحضر تماما بل يصبح أكثر تحضرا من الأوربيين أنفسهم.. ما عليك إلا أن تغير طريقة استهلاكه وفي الحال يصبح متحضرا. ذلك ما كان ينتظره الأوربيون تماما ولكن ليس من اليسير جعل أمة أو مجتمع يتمدين. فالتمدن والثقافة ليسا صناعة أوربية يمكن لصاحبها أن يجعل أي شخص يتمدن. ولكنهم جعلونا نعتقد أن كل هذا الهراء عن التحضر هو مظهر المدنية. وفي تلهف نلقي بعيدا عنا كل شيء نمتلكه حتى مكانتنا وهيبتنا الاجتماعية وتفكيرها ومعنوياتنا لنصبح مصاصين في نهم لكل ما تنقطه أوربا في أفواهنا الظامئة. هذا هو ما تعنيه في الحقيقة كلمة (الحضارة).

وهكذا وجد مخلوق لا ماضي له محروم من تاريخه وديانته غريب عن جنسه وتاريخه وأجداده، واستمر في العالم غريب عن خصائصه الإنسانية. هو شخصية مستعملة تغيرت طريقة استهلاكها وتغير تفكيرها فقدت أفكارها القديمة الثمينة وماضيها العريق وصفاتها التفكيرية، وأصبحت الآن مفرغة داخليا. أو كما قال (جان بول سارتر) في هذه المجتمعات “المستوعب” معناه شخص نصف مفكر ونصف مثقف فهو ليس بمفكر كامل ولا بمثقف كامل.

فالمفكر الحق هو ذلك الذي يعرف مجتمعه ويعي مشاكله ويمكنه أن يعرف مصيره ويعرف ماضيه ويمكنه وحده أن يقرر ما يبغي. هؤلاء أنصاف المفكرين نجحوا مع ذلك في التأثير على الشعب.. ولكن من هم هؤلاء أنصاف المفكرين في المجتمعات غير الأوربية؟ هم الوسطاء بين من يملكون المنتجات ومن يستهلكونها.. وسطاء تعرفوا على الأوربيين وعلى شعوبهم الخاصة.. فمهدوا الطريق للاستعمار والاستغلال.

ذلك هو السبب في خلقهم للمفكرين الوطنين الذين لا يجرؤون على أن يختاروا لأنفسهم.. أو لديهم الشجاعة في التمسك بآرائهم أو ما يفتقد منهم أو أن يقطعوا في أمر بأنفسهم. مثل هؤلاء الأشخاص من الانحطاط بدرجة لو سئلوا عن الطعام الذين يأكلون أو الموسيقى التي يستمعون إليها أو الملابس التي يرتدونها لا يستطيعون الجزم بما إذا كانوا يستطبيونها أم لا ذلك لأنهم لم يعودوا هم الذين يقررون.. يجب أن يلقنوا ما إذا كان هذا النوع أو ذاك من الثياب هو الذي يلبس في أوربا ومن ثم يحبونه.. قد يقال لهم إن هذا النوع المر من الطعام وطعمه في فمهم كالسم يؤكل في أوروبا وفي الحال يشرعون في أكله حتى ولم يستسيغوا طعمه يأكلونه لأن الأوربيين يأكلوه… ليس لديهم الشجاعة أو الثقة في أن يصرحوا بأنهم يمجوه.

في أوروبا وأمريكا إذا ذهب الناس حيث تعزف موسيقى الجاز ثم لا يعجبون بها يصرحون بهذا في صراحة تامة وصوت مرتفع. ولكن في البلاد الشرقية لا يوجد من لديه الشجاعة الكافية ليقول “موسيقى الجاز رديئة ولا تعجبني” لماذا.. لأنهم لم يتركوا له بقية من الشخصية أو من القيمة الإنسانية ليتمكن من الاختيار للون ثيابه أو طعم طعامه..

وكما قال فانون “لكي تتبع البلاد الشرقية أوروبا وتحاكيها كالقردة كان عليهم أن يثبتوا للدول غير الأوربية أنهم لا يملكون نفس صفات القيم الإنسانية التي للأوربيين كان يجب عليهم أن يقللوا من شأن تاريخهم وآدابهم ودياناتهم وفنونهم كي يعزلوهم عن كل ذلك. من الممكن أن ترى الأوربيين وقد حققوا بالفعل ذلك.

لقد خلقوا أناسا لا يعرفون ثقافتهم ولكنهم مع ذلك مستعدون لاحتقارها. إنهم لا يعرفون شيئا عن إسلامهم ومع ذلك يقولون عنه قولا قبيحا.. إنهم لا يفهمون قصيد شعر بسيط ومع ذلك ينتقدونه بألفاظ غير منتقاة.. إنهم لا يعرفون تاريخهم وماضيهم ومع ذلك فهم على استعداد لإدانته..

ومن ناحية أخرى وبدون أي تحفظ نراهم معجبين بكل ما هو مستورد من أوربا. ونتيجة لذلك وجد مخلوق انعزالي في بادئ الأمر عن ديانته وثقافته وماضيه وتاريخه ثم احتقر كل ذلك.

لقد اقتنع بأنه أقل قدرا ومستوى من الأوربي. وعندما استقرت هذه القناعة لديه حاول وأد وإنكار ذاته وقطع علاقته بكل الأشياء المرتبطة به، وبطريقة ما جعل من نفسه شبها للأوربي الذي لم يحتقره ولم ينظر إليه من عل، وأخيرا أمكنه أن يقول شكرا لله فأنا لست شرقيا ما دمت قد جعلت نفسي متحضرا بما فيه الكفاية لأصل إلى مستوى الأوربي.

وبينما نرى غير الأوربي سعيدا بفكرة أنه قد أصبح متحضرا نرى الرأسمالي الأوربي والبورجوازي يضحك لنجاحه في تغييره وجعله مستهلكا لفائض إنتاجه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر