كلمة التحرير

التعددية مدخل وإطار للبحث

Pluralism - العدد 105

أولاً: التعددية – مع الاختلاف والتنوع دون نمطية – هي الأصل:

1- موضوع التعددية – بالصورة التى سنتناوله بها إن شاء الله – موضوع شامل ولا يقتصر على التعددية بمعناها السياسي كما هو موجود في الكتابات الدولية.

2- وحتى نصعد بهذا الموضوع إلى أصوله الفلسفية نبدأ بأن نشير إلى أن التعددية هي الأصل إذا ما قابلناها بالواحدية التى هي صفة لله سبحانه وتعالى، فالله وحده هو الذي يتصف بهذه الصفة وما عداه متعدد ..

3- والتعدد قد يكون مع النمطية، وقد يكون مع الاختلاف والتنوع، وفي كلا الأمرين حكمة بالغة لله سبحانه وتعالى، والأمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل من القرآن الكريم.

4- ومع ذلك فالآيات التى تشير إلى ذلك كثيرة، وإشارتها إليه إنما هي للفت النظر إلى ما تريد أن توظف له التعددية من بيان عظمة الخالق وإبداعه في خلقه، من الآيات التى تتكلم عن هذه التعددية في الخلق قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98)وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونََ) (الأنعام : 98 – 99) وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور) (فاطر 27 – 28) .

وكذلك قوله تعالى : (وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِين) (الروم: 22).

5- هذا هو المشاهد من حولنا بدءًا من الكواكب والمجرات والمخلوقات، سواء فيها الجماد أو النبات أو الحيوانات أو الإنسان .

6- وفي خصوص الإنسان تحدثت أكثر من آية لافتة للنظر كذلك إلى تعدد السلالات والأجناس واختلاف الألسنة إلى جانب ما نشاهده من اختلاف الكفاءات والإمكانات والقدرات لكل منا ..

7- وكما تكون التعددية جبرية كسنة كونية من سنن الله في خلقه، تكون كذلك اختيارية نتيجة قابلية الإنسان في تكوينه الفطري للصور المتعددة من السلوك التى يختار من بينها بإرادته الحرة.

8- وهناك تعدد الطبقات في المجتمع الناتج عن تراكم الفروق الفردية الجبرية من ناحية، وتراكم نتائج الاختيارات الإرادية الفردية والجماعية من ناحية أخرى .

9- كما شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تتعدد الرسالات والشرائع، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ، نصت على ذلك أكثر من آية كريمة.

ويحسن أن نشير إلى الآية الكريمة التى تقول: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون) (البقرة : 62)، وهي بذلك تشير إلى ما يشار إليه أحيانًا بالنجاة، أي أن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات فإنهم يأتون يوم القيامة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

10- ولكن هناك إشارة أخرى كذلك إلى أن هذا الخلاف أو الاختلاف طبيعي ومقصود، فالآية تقول: ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّك وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) (هود: 118: 119) وفسرت على أنه للاختلاف خلقهم . فإذًا هي سنة من سنن الكون أرادها الله سبحانه وتعالى .

11- وفي كل نوع من أنواع التعدد التى أشرنا إليها ضوابط تضمن تحقيق الآثار الإيجابية وتفادي السلبيات.

ثانيًا : حكمة التعددية

قد يمضى التساؤل عن حكمة التعددية:

1- والإشارات التى أشرنا إليها في الآيات السابقة تبين أن إحدى الحكم البالغة لإيراد هذه الآيات هو إظهار إبداع الله سبحانه وتعالى في التنوع والاختلاف، خاصة إذا كان الأصل واحدًا .. فمن الماء الواحد أو من الأرض الواحدة أو من النفس الواحدة تنتج الأجناس المختلفة، سواء في ألوانها أو في غير ذلك، هذا هو الغرض الأول من الإشارة إلى هذا التعدد .

2- وهناك الحكمة الغائية التى تتبدى في الآية الكريمة : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13) فهنا معنى التعارف كهدف أو مقصد غائي من الخلقة التعددية واضح، وإذا أردنا أن نطبق هذا على الخلق من ذكر وأنثى فهو واضح بمعنى التعارف والتقارب بين الجنسين. كما أن الهدف كذلك من تعارف القبائل والشعوب واضح، فمن هذا التعارف تحدث الحضارة وتتقدم الحياة .

لو أننا تصورنا أن يكون الناس على نمط واحد فالنتيجة الأولى التى تنتج هي عدم التعارف؛ لأننا لو خلقنا جميعًا على مقاس واحد وبسحنة واحدة، وبخلقة واحدة لن يعرف كل منا الآخر؛ لأننا سنصبح في النهاية نسخًا متكررة لا ضرورة للتعارف بينها .

3- التعارف إذا كان قد نص عليه في الآية الكريمة فإنه يؤدي بالطبيعة إلى معنى التكامل؛ لأن هذا التفاوت بين القدرات، وكما في حالة الذكر والأنثى فإنه يؤدي إلى التكامل؛ فالذكر لا يستغنى عن الأنثى والأنثى لا تستغنى عن الذكر، كذلك الناس منهم القوى ومنهم الضعيف، منهم الذكى ومنهم الغبي، وهكذا، وكل إنسان يحتاج إلى زميله الذي عنده من القدرات والإمكانيات ما ليس عنده؛ وبهذا تتكامل المخلوقات في تسيير هذه الحياة.

4- ثم إننا إذا كنا متساويين في قدراتنا وفي إمكانياتنا لأصبح كل منا مستغنيًا عن الآخر، وبطبيعة الحال فالاستغناء يؤدى إلى الطغيان، كما أشارت الآية الكريمة : ( كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْـــتَغْنَى) (العلق: 6 _7) فنُقصان بعض الإمكانات لدى البعض ووجودها لدى البعض الآخر يؤدى إلى هذا الاعتماد المتبادل والتعاون بين الناس بما يمنع من الطغيان، والآية تنتهى بقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم) (الحجرات: 13) وهذا هو المعنى الذي أشار إليه الحديث الشريف : ((لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى )) فهو لا يجعل الفضل نتيجة التفاضل الناتج عن التغاير والاختلاف الذي ليس للإنسان فيه فضل وإنما هو الفطرة التى خلق عليها، لا يجوز أن يكون هذا أساسًا أو معيارًا للتفاضل بين الناس، وإنما يكون التفاضل بما يكسبه كل منا . وهنا يفهم كل من الآية والحديث.

ثالثًا: التعددية في التاريخ

1- على مر التاريخ نجد هذه التعددية بين البشر قد اتضحت على المستوى الدولي أولاً سواء قبل الإسلام أو بعده، فلا توجد دولة واحدة تحكم هذا العالم وتسيطر عليه، وفي هذا من معاني التدافع والتوازن الدولي ما أشارت إليه آيات كثيرة (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَـــــــدَتِ الأَرْض) (البقرة: 251) (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج:40) فهذه التعددية تؤدي إلى التوازن وإلى التدافع الذي يحافظ على نظام الكون، وإذا كانت الظروف في الماضي قد أدت إلى أن يكون للدين أثر في انقسام العالم إلى دار للإسلام ودار للكفر أو دار للحرب فهذا ما سنأتى إليه بعد قليل حينما نناقش القضايا المعاصرة في التعددية . ومن ناحية أخرى، فإن انفراد الولايات المتحدة حاليًا بالسيطرة على العالم بما يُخِلُّ بالتوازن بين القوى ، هو وضع مؤقت مخالف لسنة التدافع التى لابد أن تعود إلى العمل لتحقيق التوازن المفقود مؤقتًا .

2- وهنا يحسن أن نشير إلى ما قد يوجد من تفاوت في فهم موقفين أحدهما هو عالمية الإسلام كرسالة، وعالمية الإسلام كشريعة، هنا  نوضح أن وحدة الإنسانية هدف يسعى إليه الإسلام : فالآية الكريمة تقول: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف: 158) فهنا الرسالة عالمية (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) (سبأ : 28) .

كذلك الشريعة عالمية، فالآية تقول (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون)(التوبة : 33) (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا ) (الفتح: 28) ولا يقف الأمر عند وضع هذه الوحدة العالمية كهدف يسعى إليه وإنما نجد وعدًا من الله تعالى بتحقيق ذلك، والشرط الذي وضع لتحقيق هذا الغرض في الآية الكريمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) (النور:55) هذا يوضح شرط تحقيق هذا الوعد (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين) (القصص :5) فهنا يتبين أن الإسلام جاء كرسالة عالمية ليطبق في الأرض كلها وللناس كلهم وعلى شئون الحياة  كلها، وأن هناك وعدًا من الله سبحانه وتعالى بتحقيق هذه الوحدة إذا تحققت شروطها .

3- نأتي بعد ذلك إلى التعددية داخل الأمة الإسلامية: فالأمة الإسلامية أمة واحدة، نصت على ذلك كثير من النصوص. وكان في التاريخ الإسلامي وضع الأمة في بداية أمرها متطابقًا مع وضع الدولة الإسلامية فيما عدا الحالة التى تبين أن مفهوم الأمة يختلف عن مفهوم الدولة وهي حالة دولة المدينة التى كانت تضم إلى جانب المسلمين باقي سكان المدينة من غير المسلمين والذين كانوا مواطنين في هذه الدولة الإسلامية. كما أن المسلمين الذين لم يهاجروا كانوا جزءًا من  الأمة الإسلامية ولكنهم لم يكونوا جزءًا من الدولة الإسلامية، والآية تقول : (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (الأنفال: 72) فهنا الموالاة قد انحسرت عن المسلمين الذين لم يهاجروا فبقوا خارج دائرة الدولة الإسلامية، وإن كانوا ما زالوا ضمن إطار الأمة الإسلامية. وبعد فترة من الزمن انقسمت هذه الدولة الإسلامية، وكانت النصوص الفقهية تعتبر أنه إذا وجد خليفة آخر إلى جانب الخليفة الأول فإنه يكون خارجًا يجب قتاله حتى يعود إلى الخلافة الأصلية، ولكن هذا الحكم تبين أنه في ظل الواقع الناتج عن انقسام الدولة الإسلامية سيؤدى إلى فتن وإلى حروب بين المسلمين، فهنا اضطر الفقهاء إلى أن يقبلوا بهذا الأمر الواقع، وإلى أن يقووا دائرة الأمة طالما أن دائرة الدولة قد تفتتت وانقسمت .. الآية الكريمة تقول : (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُـــــمْ فَاتَّقُـــــون) (المؤمنون: 52) (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون) (الأنبياء: 92) (إِنَّمَــا الْمُؤْمِنُــــونَ إِخْـــــوَةٌ) (الحجرات: 10) (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2) والحديث يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي)). فهنا أمام هذا الواقع الذي انقسمت فيه دولة الإسلام أكد الفقهاء على معنى الأمة الواحدة عوضًا عن الدولة الواحدة.

4- نجد كذلك في التاريخ أن التعددية كانت قائمة على الصعيدين العقيدي والفقهي .. فعلى الصعيد العقيدي وجدت عدة فرق أو ملل ونحل داخل إطار الإسلام اختلفوا في أمور تتعلق بالعقيدة ..

5- كما وجد في التطبيق في الفروع خلافات مذهبية كذلك تفرق إليها المسلمون، وهذا واقع معروف تكفي فيه الإشارة، ولا مجال للحديث التفصيلي عنه.

 

رابعًا: قضايا معاصرة في التعددية

إذا انتقلنا بعد ذلك إلى القضايا المعاصرة في هذه التعددية نجد:

1- أن التقسيم الذي كان في التاريخ بين دار الإسلام ودار الحرب أو دار الكفر، ومشروعية القتال والجهاد بين هذه الدار وتلك على أرجح الرأيين أن هذه المشروعية إنما تكون للدفاع ولتأمين نشر الدعوة، وهنا نقف وقفة حينما نلاحظ أنه مع تقدم التنظيم في المجتمع الدولي وتقدم مفهوم حقوق الإنسان وما تشمله من حرية التعبير عن الرأي وحرية الفكر وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وغير ذلك من الحريات .. ومع قيام منظمات دولية عالمية وإقليمية ومتخصصة في رعاية هذه الأمور وتنظيم المجتمع الدولي نجد أن غرض نشر الدعوة يمكن تحقيقه باستخدام وسائل الاتصال التى أصبحت متقدمة، بحيث إننا دون أن نتحرك من مكاننا يمكننا بوسائل الاتصال المسموعة والمرئية أن ننقل أفكارنا إلى جميع أنحاء العالم، وعلى هذا فالتساؤل يطرح – عن مدى جدوى عملية الفتح بمفهومها القديم لنشر الإسلام خاصة إذا كان لدينا هذه الإمكانيات التى تؤدي الغرض دون الدخول في هذه الصراعات .. هذا لا ينفى طبعًا بقاء الجهاد والقتال دفاعًا عن النفس إذا اعتدى علينا معتدٍ، هذا أمر آخر لا نتعرض له ولا يقبل المناقشة .

2- إلى جانب هذه التعددية على الصعيد الدولي هناك تعددية للأديان داخل الوطن الواحد وهنا كذلك نقف وقفة، لأن أهل الذمة ووضعهم في الدولة الإسلامية والأحكام التى وضعت لهذا الغرض كان المنطلق فيها – رغم بعض الخلافات الفرعية حتى داخل المذهبين الحنفى والشافعي – الاتجاه العام إلى حماية أهل الذمة .. ويتأرجح الاعتبار لتحقيق هذه الحماية بين أمرين: أحدهما، هو (أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وهذا فيه مراعاة لهم، والآخر هو: (أن نتركهم وما يدينون) وهذا كذلك فيه مراعاة لهم .. فلو أننا طبقنا عليهم شرائعنا على مبدأ (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) فهذه المساواة هي في صالحهم، ولو أننا تركنا لهم تطبيق شرائعهم في الأمور التى يختصون بها ويختلفون فيها عن المسـلمين اتباعًا لمبدأ (تركهم وما يدينون) فنحن في كلا الأمرين نتحرى صالح أهل الذمة .

من ناحية أخرى فإن التطبيق التاريخي في هذه المسألة بالذات يظهر أن تساهل المسلمين مع أهل الذمة أدى إلى تدخل القوى الأجنبية لحمايتهم كأقليات مما أدى بدوره إلى إنشاء محاكم خاصة بهم – سواء المحاكم الكنسية أو الدينية أو المحاكم القنصلية أو غيرها – وكان ذلك ثغرة نفذ منها التدخل الأجنبي إلى بلادنا.

ومن ناحية أخرى فإن معنى الذمة في المفهوم التاريخي يطرح عليه الشبهة بعد أن قامت معظم الدول الإسلامية الحديثة نتيجة جلاء المستعمر عنها وإقامتها على أساس من دساتير حديثة أعطت للمواطنين في هذه الدول جميعًا حقوقًا وواجبات متساوية.

من هذا المنطلق أطرح فكرة أننا يجب أن نكون حريصين على وحدة القانون الإسلامي وعلى وحدة القضاء في الدولة الإسلامية، وأن نستفيد من درس الماضي الذي أدى إلى إيجاد المبرر والتكئة للدول الغربية للتدخل في شئون المسلمين .

وتبقى بعد ذلك نقطة شكلية تتعلق بتسميتهم بأهل الذمة، وفي هذا الموضوع فإن للأستاذ فهمي هويدي رأي في كتابه ((مواطنون لا ذميون)). فهو يرى في هذا الاسم ظلالاً من التفرقة المذمومة، وأنا أرى فيها إضافة ضرورية لمزيد من الحماية لهم؛ لأننا لو نظمنا أمور الدولة الإسلامية على أساس المساواة بين جميع المواطنين على اختلاف أديانهم فإنه بحكم قاعدة الأغلبية وأن أغلبية السكان من المسلمين فسيكون في مقدور هذه الأغلبية أن تسن من القوانين وتصدر من النظم ما يمكن أن يؤثر في وضع غير المسلمين بصفتهم أقلية، ومن هنا كانت توصية الرسول e لنا أن نرعي أهل الذمة ويكون من الطبيعي أن نبقي هذا الاسم حتى يضفي عليهم هذا مزيدًا من الحماية، خاصة إذا اتجهت الدولة الإسلامية اتجاهًا دينيًّا يقوم على تطبيق الشريعة الإسلامية فإنه يخشى في هذه الحالة أن يكون في استخدام قانون الأغلبية مساسًا بهم، ويكون في هذا الإطار الإبقاء على معنى الذمة وعدم استبعاد هذا المعنى حماية إضافية لهم وليست انتقاصًا من حقهم كما يتصور البعض .

3- ننتقل بعد ذلك إلى التعددية السياسية الحزبية:

نظرًا لوجود عدد من التجمعات السياسية داخل الدولة الإسلامية فبطبيعة الحال أول ما يطرح في هذا الشأن هو مدى جواز أن تكون في داخل الدولة الإسلامية أحزاب لا تعمل في إطار الفكرة الإسلامية، أي أننا أولاً نسلم بأن الدولة الإسلامية يجب أن يكون فيها من الأنشطة الحزبية والسياسية ما يسمح بوجود عدد من الأحزاب .

هذه الأحزاب على نوعين، أحدهما: أحزاب تعمل في إطار الفكرة الإسلامية العامة . والنوع الثاني: أحزاب تعمل خارج الفكرة الإسلامية العامة .

البعض يرى أنه في ظل الدولة الإسلامية لا يجوز أن تكون هناك أحزاب إلا من النوع الأول – أي النوع الذي يعمل في إطار الشريعة الإسلامية أو الفكرة الإسلامية، وأنه بمجرد قيام الدولة الإسلامية فلا يجوز الإبقاء أو السماح بأحزاب أخرى كالأحزاب العلمانية أو الاشتراكية أو غير ذلك، ولكنهم يرون من باب السياسة أنه في مرحلة الدعوة أو قبل قيام الدولة الإسلامية فلا بأس من قبول أن يكون في داخل الدولة الإسلامية أحزاب من كل نوع . وهذا أمر واقع بطبيعة الحال، لأنه قبل قيام الدولة الإسلامية فليس هذا التنظيم مرجعه إلى الإسلاميين، وإنما هو الأمر الواقع الذي يسعى الإسلاميون فيه – ولنكن صرحاء – إلى أن يعترف لهم بقيام حزب إلى جانب الأحزاب الأخرى.. أنا أرى في هذه التفرقة بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة نوع من الانتهازية التى لا يجوز أن يكون عليها الإسلاميون ؛ بمعنى أننا كما أننا نستفيد من الحرية المعطاة لمختلف الأحزاب حتى ندعو إلى فكرتنا .. كذلك يجب أن نسمح – في حالة وصول الفكرة الإسلامية إلى الحكم – ببقاء الأحزاب الأخرى تمارس نشاطها . هذه كذلك فكرة أطرحها .

4- فكرة أخرى: هي تعدد الأحزاب الإسلامية في مرحلة الدعوة وفي مرحلة الدولة، وكما أشرت من قبل ففي تاريخنا الإسلامي كانت هناك مذاهب كثيرة، منها ما قام على أساس العقيدة، كما أنه كانت هناك عدة مذاهب فقهية كان أساس الخلاف فيها في الفروع وفي الفقه، فكما كان هذا الأمر مقبولاً في الماضي فطبيعي أن يكون هذا الأمر مقبولاً في الحاضر كذلك، وأن يسمح بقيام أكثر من تجمع سياسي إسلامي، سواء في مرحلة الدعوة أو في مرحلة الدولة . وتصور أن يكون المسلمون جميعًا متفقين في الأصول وفي الفروع هو تصور يتنافي مع فكرة التعددية .

طبيعي أن يختلف المسلمون وأن يكون لكل رأيه فيما لا يوجد فيه نص قطعي الورود وقطعي الدلالة، فإباحة الاختلاف يترتب عليها بالضرورة أن يتعاون أصحاب الرأي الواحد لتوصيل رأيهم وإشاعته وإقناع الناس به .

5- بل أصل إلى أكثر من ذلك.. أصل إلى أنه داخل التجمع السياسي الواحد أو داخل الحزب السياسي الواحد يجب أن نفرق بين الأمور الأساسية والأمور الثانوية، وهذا الأمر تعرضت له النظم الحزبية في بريطانيا وغيرها، فيسمح لنواب الحزب الواحد الذين انتخبوا على مبادئ الحزب أن يختلفوا داخل البرلمان ويصوتوا كل لما هو مقتنع به في المسائل المفتوحة للتصويت، ولكن إذا كانت إحدى هذه المسائل من الأمور الجوهرية التى لها أهمية خاصة للحزب فإنهم حينئذ يلتزمون جميعًا بأن يصوتوا وفقًا لرأي الحزب، وإلا فعليهم أن يتركوا الحزب.

هذا التفريق بين الأمور الجوهرية والأمور الثانوية يعطى حرية فكرية للفرد داخل التنظيم السياسي، وبدون هذا يصبح الحزب بتنظيماته الفوقية قيدًا على حرية أعضائه بدلاً من أن يكون تنظيمًا لحرية الناس السياسية.

وأخيرًا في هذا المجال المعاصر أجدني مضطرًا إلى طرح أمرين قد يكون لهما علاقة بمعنى التعددية .

6- أحدهما هو التعددية داخل الأسرة .. الأسرة هي نواة المجتمع، وكأي مجتمع لها رئيس ، والرئيس هو رب الأسرة (الزوج ، الوالد) ولكن هل يعني ذلك أن يكون الزوج والوالد ديكتاتورًا في الأسرة .. إذا قال صمت الآخرون . ولا يسمح لأي رأي آخر أن يعبر عنه داخل الأسرة أم يكون للزوجة أو للأبناء – حينما يكبرون وينضجون – آراء لها فائدتها، بل قد تكون هي الصحيحة ورب الأسرة حظه أن يكون رأيه هو الرأي الخاطئ؟

لابد أن تتربي أسرنا على إتاحة هذا القدر من الشورى والاختلاف في الرأي والتعددية في إطارها، لأنه في داخل هذا الإطار يتربي الأطفال على معنى الحرية ومعنى التعددية الذي يمارسونه بعد ذلك خارج الأسرة .

7- وفي هذا الإطار كذلك أشير إلى معنى التعددية داخل الفصل الدراسي.. وبطبيعة الحال الفصل الدراسي يبدأ في المراحل الصغري حينما يكون النشء غير قادرين على تمييز الخطأ من الصواب ولكنه يمتد إلى داخل قاعات الدراسة الجامعية وما بعد الجامعية. إذا أخذنا بالنظر التربوي الذي يتيح للطالب مهما كان صغيرًا أن يعبر عن رأيه وأن نناقشه في هذا الرأي، فإن هذا أكبر معين له على تكوين شخصيته، وعلى أن يقتنع بالرأي عن دليل يدافع بعد ذلك عنه عن اقتناع ، لا أن يكون سلبيًّا يتلقى الأمور ويحفظها دون فهم ولا اقتناع، ونحن إذا أخذنا بهذا التلقين إنما نربي صغار أمتنا منذ نشأتهم على أن يكونوا سلبيين في المجتمع الكبير، هذا ما يتيح للحاكم أو للرئيس أن يستبد، لأننا قلمنا أظافر رعاياه منذ الصغر داخل الأسرة وداخل المدرسة .

خامسًا : إشكاليات

أخيرًا هناك بعض الإشكاليات في موضوع التعددية:

1- الإشكال الخاص بالحق هل هو واحد أم يتعدد .. وحتى لا ندخل في تفاصيل الآراء التى نوقشت بالتفصيل في تراثنا حول ما إذا كان كل مجتهد مأجور فقط أم أنه مأجور ومصيب في الوقت نفسه ؟ أجيب فقط من الناحية العملية – بصرف النظر عن هذه الناحية النظرية – أنه في ظل الأمور القطعية التى ورد فيها نص قطعي الورود وقطعي الدلالة – وهي أمور محدودة بطبيعة الحال ومعظمها يقع في دائرة الاعتقاد – فبطبيعة الحال الاجتهاد جائز والاختلاف جائز.. إذًا فالبحث فيم إذا كان الحق واحدًا أم يتعدد لا أثر له على الناحية العملية طالما أنه يجوز لنا أن نجتهد في ظل الأمور القطعية، ويكون القول حينئذ في هذه الأمور القطعية بأن الحق واحد، يكون هذا من باب تحصيل الحاصل، لأنه طالما هي أمور قطعية أي لا مجال فيها للاجتهاد فلا مجال فيها للاختلاف ويكون الحق فيها واحدًا وهو ما نص عليه النص القطعي .

ومع ذلك يظل دائمًا في غير دائرة المؤمنين معنى أن الحق واحد غير وارد، سواء كان في ظل دائرة النصوص القطعية أم الظنية. والقرآن الكريم يعلمنا في حوارنا مع غير المسلمين أدب الحوار حتى لا نأخذ موقفًا مسبقًا يمنع الحوار منذ البداية حينما يقول: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ) (سبأ: 24) فهو لا يفترض منذ البداية أن نكون نحن على الحق، ومن نناقشه على الباطل .. وبطبيعة الحال نحن لا نستطيع أن نحتج على غير المسلم بالآيات والأحاديث لأنه أصلاً غير مقتنع بها، فهي لا تصلح حكمًا أو مرجعًا في الحوار بين المسلمين وغير المسلمين.

2- الأمر الآخر الذي يطرح كإشكال في هذا المعنى هو الآيات التى تكلمت عن الشيع وعن الأحزاب : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الأنعام :159) (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:53) (فَاخْتَلَفَ الأَحْــزَابُ مِنْ بَيْنِهِم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْــهَدِ يَوْمٍ عَظِيم) (مريم : 37) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) (غافر: 5) .

هذه الآيات استخدمها البعض لتشويه فكرة التعددية وتشويه اسم الحزب والأحزاب ، ولكنهم تناسوا وجود آيات أخرى قد استعملت لفظ الأحزاب في المعنى الإيجابي.

منها قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون) (المائدة:56) ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون) (المجادلة: 22) (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) (الكهف: 12) فالآيات الواردة بالمعنى السلبي – مع وجود تلك الواردة بالمعنى الإيجابي – لاتعطي دلالة لمن يقول بأن الحزبية ممنوعة بنص القرآن الكريم .

سادسًا: ضوابط التعددية

وأخيرًا أشير إلى أن لهذه التعددية التى هي الأصل – كما أوضحنا-  ضوابط في الإسلام على أساس أن الإسلام رغم أنه يسعى إلى الوحدة إلا أنه يعترف بالواقع ويحاول أن ينظم هذا الواقع، ذلك كان من تعاليم الإسلام ضبط هذه التعددية وهذا الاختلاف.

وهناك علوم كاملة قامت في الإسلام لتنظيم الاختلاف وضبطه ..

1- هناك علم الاختلاف الذي يوضح أسباب الاختلاف ويدرس هذه الأسباب، سواء ما كان منها يتعلق بالقواعد الأصولية التى ينبني على الاختلاف فيها الاختلاف في الفروع أو الاختلاف في قبول حديث أو رده .. هذه الأسباب وغيرها توضح أن المسلمين حينما اختلفوا لم يكن ذلك للتشهي أو رغبة في الخلاف، وإنما كان ذلك يرجع إلى أسباب أخرى جدية هي التي أدت إلى هذا الاختلاف .

2- وكذلك نشأت علوم أخرى وهي أدب الخلاف، وأدب الجدل، وأدب المناظرة التى تعلم المسلمين كيف يتعاملون مع بعضهم البعض حين يتناظرون وحين يتحاورون حينما يكونون مختلفين .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر