أبحاث

موجب الحسبة في الفقه الشرعي

العدد 51- 52

تمهيـد :

الحسبة لغة : الأجر, والاحتساب طلبه من الله أو إدخاره عنده, أما اصطلاحاً فقد عرّفها الفقهاء بأنها الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر, وزاد بعضهم : والإِصلاح بين الناس. وعرفها البعض بأنها من باب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر, وقيَّدها بعضهم بأنها الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه, والنهى عن المنكر إذا ظهر فعله. وعرفها ابن تيمية وابن القيم بأنها الأمر بأنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. مما ليس من خصائص الولاة أو القضاة, وأهل الديون, وغيرهم. وعرَّفها الغزالى بأنها المنع عن منكر لحق الله صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر. وهذه التعاريف في نظرنا غير دقيقة؛ فأغلبها غير جامع والبعض غامض, والأصح عندنا تعريف الحسبة بأنها درء المفاسد الظاهرة لحق الله تعالى.

وقد عنى الفقهاء ببيان أركان الحسبة فجعلوها المحتَسِب والمحتَسَب غيه والمحتَسَب عليه وفعل الحسبة, وحدودا المحتسَب فيه بأنه المنكر؛ فالمنكر عند جمهور الفقهاء هو موجب الحسبة وعندنا أن قصر الموجب على المنكر وحده محل نظر, لأن فى هذا القصر تحكما وتضييقا لموجب الحسبة بغير علة, بل على خلاف علة الاحتساب. وفضلا عن ذلك فإن مسلك الفقهاء أو منهجهم فى بيان الحسبة لا يستقيم مع قصرهم موجبها على المنكر وحده. وتجدر الإِشارة إلى أن نظرية الحسبة فقها وتطبيقا هي من اجتهاد المجتهدين من الفقهاء وولاة الأمور؛ فليس فى نصوص القرآن ولا السنة أحكام تفصيلية لها, بل إن مصطلح الحسبة ذاته لم يعرف فى صدر الإِسلام وإنما ظهر لأول مرة فى عهد الخليفة المهدى العباسى ( 158 ـــ 169 هـ) (1). والواقع أنه ليس فى شرع من الحسبة غير أساسها, ويتمثل ذلك فى عدد من القواعد الكلية, كوجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وأنه لا ضرر ولا ضرار, وأن الضرر يزال, وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وقد حرص الخلفاء على جعل الحسبة ولاية, واجتهد الفقهاء فصاغوا لها نظرية, غير أن ذلك يقتضى بالضرورة إلزام الفكر الإِسلامى المعاصر بتلقى الحسبة كما طبقت أو كما أُصّلت على أنها من الشرع بكل تفاصيلها, ومن هنا كان تحفظنا على قصر موجبها على المنكر وحده. فما المنكر إلا مفسدة مصدرها الإِنسان, وهو واجب الدفع من حيث هو مفسدو لامن حيث أنه فعل إنسان؛ فعلّة المنع فيه لا تكمن فى مصدريّته بل فى طبيعته. وقد كان من الممكن قبول رأى الجمهور لو أنهم جعلوا المنكر مرادفاً للمعصية, لأن المعصية واجبة الدفع من حيث هى معصية كما أن المفسدة واجبة الدفع هى مفسدة. لكن السائد لدى الفقهاء غير ذلك, فهم يوجبون دفع المنكر ولو لم يكن معصية بسبب حال مرتكبه. وإذا كان معنى المعصية فى المنكر غير معتبر فى الحسبة فيه وكانت المصدرية غير مؤثرة فلا يبقى إلا أن تكون الحسبة فيه معلولة بوصف المفسدة, ولهذا فقد كان الأوفق فى مذهبنا جعل الحسبة شاملة للمفاسد مطلقاً دون اعتداد بمصدرها؛ فهذا المذهب أكثر تستقامة مع الأصول الشرعية التى تنهى عن الفساد وتوجب قطع دابره. ثم هو فى حقيقة الأمر لا يعد خروجاً على رأى الجمهور؛ فليس بين الفقهاء خلاف على وجوب درء المفاسد كلها سواء كانت منكرات أو لم تكن. كل ما هنالك أنهم يطلقون اسم الحبة على درء المنكر ولا يطلقون هذا الاسم على درء المفاسد الأخرى(2). واختلاف الاسم لا يؤثر, والخلاف فيه لا يعد جوهريا. بل إن الماوردى نفسه وهو من أبرز فقهاء الحسبة يجعل من اختصاص المحتسب درء بعض المفاسد التي ليست منكرات كما سنرى, وكان حريًّا به لو التزم أصله أن يخرج هذه المفاسد فلا يجعل دفعها من أعمال الحسبة(3).

وخلاص ما تقدم أن موجب الحسبة عندنا هو المفسدة مطلقاً, وهى كل أمر يترتب عليه ضرر بمقصد من مقاصد الشرع أو بحق من حقوق الله. والمفاسد من حيث مصدرها قسمان : منكرات وتوازل. فأما المنكرات فمن عمل الإِنسان أو كسبه, وأما النوازل فليست من عمله بوجه عام. ولما كان المنكر والنازلة يختلفان فى طبيعتهما وفى بعض أحكامها التفصيلية فى نظر فريق من الفقهاء فقد رأينا دراسة كل منها في فصل على حدة.

الفصل الأول

المنكرات

خطة الدراسة :

ينفسم هذا الفصل إلى مبحثين : أولهما يتناول تعريف المنكر وبيان أقسامه, والثانى يفصل شروطه.

المبحث الأول

تعريف المنكر وأقسامه

تعريف المنكر :

المنكر بمعناه الضيق هو فعل القبيح, وهو بهذا المعنى نقيض المعروف, أى فعل الحسن. أمّا بالمعنى الواسع فهو فعل القبيح أو ترك الحسن. وفقهاء الحسبة حين يتحدثون عن المنكر فإنهم يقصدون به المعنى الثانى, أى الواسع.

وللفقهاء فى تعريف المنكر أقوال عديدة, فقد عرَّفه الغزالى : بأنه كل محذور الوقوع فى الشرع(4), وعرفه آخرون بأنه كل قول أو فعل أو قصد قبَّحه الشارع ونهى عنه, وعرَّفوا المعروف بأنه كل قول أو فعل أو قصد حسَّنه الشارع وأمر به(5), وعرف المنكر آخرون بأنه ما حرمه الشارع أو كرهه أو رآه المؤمنون منكرا وإن لم ينه عنه الدين بدليل خاص, وعرّفوا المعروف بأنه ما طلبه الشارع على سبيل الحتم أو الاستحسان, وكذلك ما استحسنه المسلمون مما لم يأت به دليل خاص ولا يعرض مع مبادئ الإِسلام وحكمه فى تشريعه من العادات والتقاليد المستحسنة(6). وذهب البعض إلى أن المعروف عند إطلاقه هو ما عرفته العقول والطباع السليمة, والمنكر ضده, وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة, والمرشد إلى ذلك ــ مع سلامة الفطرة ــ كتاب الله وسنه رسوله(7). ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ.

وهذه التعاريف وإن كانت صحيحة فى الجملة, وعلى الأخص من حيث الضابط, إلا أنها تفتقد إلى الدقة. وربما كانت السبيل المثلى إلى تعريف المنكر هى تحليل مفهومه أولاً واستجلاء حقيقته, فالمنكر فى مفهومه العام ينطوى على أمرين : سلوك وحكم, فهو سلوك صادر عن إنسان وحكم فى نفس الوقت على هذا السلوك. ذلك بأن المنكر هو السلوك المستهجن أو المستنكر. وعلى هذا فإنه لكى يتحقق المنكر لابد من اجتماع أمرين : وقوع سلوك معين من إنسان واستقباح هذا السلوك.

أولًا : السلوك :

السلوك قوام المنكر, فلا يتصور وقوع منكر بغير سلوك. ولا يقدح فى ذلك ما يقال عادة من أن الخمر والخنزير والميسر والربا منكرت؛ فليس المراد بذلك أعيانها, إذ ليس ثمة عين هى منكر فى ذاتها, وإنما المراد أفعال تتعلق بها, كشرب الخمر أو صنعها وأكل الخنزير ولعب الميسر والتعامل بالربا, فهذا الأفعال ــ لا ذات الأعيان ــ هى محل الإِنكار. ذلك أن الإِنكار نهى, والنهى لا يكون إلا عن فعل, فلزم أن يكون قوام المنكر سلوكاً صادراً عمَّن يتوجه إليه النهى وهو الإِنسان.

ويقصد بالسلوك كل حركة عضوية إرادية تصدر عن إنسان فى موقف معين, فتخرج بذلك حركات غير الإِنسان, كما تخرج أفكار الإِنسان ونواياه, وكذلك مشاعره وأوصافة الباطنة, وتخرج أخيرا حركات الجسد غير الإِرادية, فهذا كلها لا تعتبر منكرات مهما تكن سيئة فى ذاتها أو فى آثارها. أما حركات غير الإِنسان فنرجئ البحث فيها إلى موضعها من الفصل الثانى, ونكتفى الآن بالحديث عن الأفكار والنوايا وعن المشاعر والأوصاف وكذلك عن الحركات غير الإِرادية.

(1) النوايا المجردة :

يُجمع فقهاء الشريعة على أن الهواجس والخواطر وحديث النفس والهمّ والعزل على المعصية(8) لا اعتبار لها جميعا ــ من حيث العقاب ــ ما لم تنقلب إلى عمل. فكل ما يدور فى خلد الإِنسان أو تنعقد عليه إرادته لا جزاء عليه فى الدنيا, أما فى الآخرة فبعضه محل خلاف. وقد امتنّ الله على عباده فأثابهم على حسن نواياهم ولو حيل بينهم وبين العمل من أجل تحقيقها, لكنه لم يؤاخذهم على سوء نواياهم إلا إذا قرنوها بالعمل. بل الله يثيب العبد إذا وسوس له الشيطان فانعقدت على الشر عزيمته ثم ثاب إلى رشده فتاب إلى ربه وعدل عما عزم عليه. وليس مردّ عفو الله عن سوء النية أنها أمر غير مقدور عليه من قبل العبد, فهذا القول إن صدق على الهاجس والخاطر فإنه لا يصدق على مراودة النفس ولا على الهمّ والعزل لأنها أمور مقدور عليها ومرادة من قبل العبد أيضاً. وإنما العفو فصل من الله ورحمة, فقد شاء سبحانه أن يملى لعباده ليوسع عليهم فتجاوز عن كل ما يدور فى نفوسهم وهو أعلم منهم بها ولم يؤاخذهم إلا على أعمالهم(9). فحركات الجوارح وحدها دون خلجات النفس وعزماتها عى مناط المساءلة والحساب. ولذلك فالنوايا المجردة مهما تكن سيئة لا حكم لها فى الشرع, ومن ثم فإنها لا تدخل فى عداد المنكرات. وهذا يوضح خطأ القائلين باعتبار القصد القبيح منكرا؛ فهذا القصد مجرداً معفو عنه, ولأن أحكام الشرع تتعلق بالأعمال وحدها.

(2) المشاعر والأوصاف الباطنة :

مشاعر الإِنسان وأوصافه الباطنة لا تدخل فى زمرة المنكرات, ومنها الحزن والغضب والشهوة والبغض والكبر والحسد وحب الدنيا وزخرفها. فهذه الأمور لا قدرة للإِنسان عليها إثباتا ونفياً لأنها تدخل عليه اضطراراً, إما لكونها خلقة فيه وجبلة أو لأنها تثور فيه ــ كما تثور فى غيره ــ لباعث يثيرها بحكم الطبيعة البشرية. والمسلَّم عند الجمهور من أهل الأصول أن ما يخرج عن قدرة المكلف لا يتعلق به أمر ولا نهى. غير أن المتأمل فى نصوص الشرع يرى كثيرا من تلك الشاعر والأوصاف واقعاً تحت الأمر أو النهى.

و الرأى عند أهل الأصول أن الطلب فى هذه النصوص لا ينصرف إلى المشاعر والأوصاف ذاتها, بل إلى سوابقها أو لواحقها من الأفعال المقدور عليها. فإن كانت المشاعر والأوصاف خلقة وجبلة فالطلب وارد على ما ينشأ عنها لا عليها. وإن كانت وليدة مثيرة فهذا المثير وحده هو محل الطلب أمراً أو نهياً(10). ويضرب الشاطبى أمثلة لذلك بقوله : إن كان المثير داخلًا تحت الكسب فالطلب يرد عليه كقوله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ : تهادوا تحابوا, وكقوله : أحبوا الله لما أسدى إليكم من نعمه, مراد به التوجه إلى النظر فى نعم الله تعالى على العبد وكثرة إحسانه إليه وكنهيه عن النظر المثير للشهوة لم ينه عنه. وإن لم يكن المثير لها داخلًا تحت كسبه فالطالب يرد على اللواحق, كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الواقع(11).

وحاصل ما تقدم أن  محل النهى في تلك الأحوال ليس عين المشاعر أو ذميم الخصال بل ما يثيرها أو ما يعبر عنها أو يشبعها من أفعال تدخل تحت القدرة أو الكسب.

(3) الحركات غير الإِرادية :

يقصد بها الحركات الجوارح التى تخرج عن سلطان الإِرادة, كردود الفعل الآلية وحركات النائم والمغمى عليه والمكروه إكراهاً مادياً. فما يصدر فى هذه الأحوال لا يعد سلوكاً بمعنى الكلمة, لأن السلوك هو التكيف الحر مع الموقف أو الاستجابة الإِرادية له. ومناط السلوك هو القدرة على الاختيار, فمن عدم هذه القدرة تماماً خرج ما يأتيه عن أن يكون سلوكاً وامتنع تبعاً لذلك  اعتباره منكرا منها تكن آثاره. ذلك بأن المنكر سلوك يخالف الأمر أو النهى, وكلاهما يفترض القدرة على الامتثال, فإذا عدم الشخص هذه القدرة لم ينسب إليه مخالفة الأمر والهى. ولذلك فإن من لدغة ثعبان أو مسه يار كهربائى فانتفض فأصاب عند انتفاضة إنسانا أو أتلف بعض ماله لا يرتكب منكرا, ومثله من تفوه فى أثناء نومه أو فى حال إغمائه بألفاظ تشين غيره, وكذلك من دفعه شخص بقوة فسقط على غيره فأصابه بأذى, لأن كلا من هؤلاء لم تتجه إرادته انتفاء وصف المنكر فى تلك الأحوال لا يقتضى الإِغضاء عما يقع فيها, لأن المنكر كما ذكرنا ليس هو الموجب الوحيد للحسبة وإنما هو أحد موجبين. فالقاعدة فى الشرع ألإِضرر ولا ضرار وأن الضرر يزال, ومن ثم فكل أمر من شأنه إحداث الضرر يتعين درؤه سواء كان مصدره إنسانا فإنه يستوى أن يكون عملاً إراديا أو غير إرادى, كل ما هنالك أنه يدفع في إحدى الحالين باعتباره منكرا وفى الأخرى باعتباره فى حكم النازلة.

ثانيا : الحكم على السلوك :

فكرة المعروف والمنكر ليست من خصائص الإِسلام, وإنما هى فكرة إنسانية عامة. فكل جماعة من البشر أيا كان زمانها أو مكانها عرفت المعروف وأمرت به وعرفت النمكر ونهت عنه سواء كانت تؤمن بدين أو كانت بغير دين. فهذه الفكرة من لوازم الاجتماع لأنها ضرورية لاستمرار حياة الجماعة وانتظام شئونها, فكل جماعة تقوّم سلوك أفرادها وتحكم عليه بالحسن أو بالقبح وتلقاه بالرضا أو بالرفض لتستقيم حياتها وتنظم أمورها(13). وتهتدى كل جماعة فى تقويمها لسلوك أفرادها بقيمها ومثلها بجملة مصالحها وأهدافها. ولما كانت قيم الجماعات ومثلها وكذلك مصالحها وأهدافها تختلف من جماعة إلى جماعة, كما تختلف بالنسبة للجماعة الواحدة من زمن إلى زمن فإن جانبا غير قليل من صورة المعروف والمنكر يتّسم بطابع النسبية.

وكل جماعة تختار لنفسها الضابط الذى يحدد لأفرادها ما يعد معروفاً وما يعد منكرا. وينذر أن يجزىء فى ذلك ضابط واحد, وإنما المألوف أن تتعدد الضوابط وأن تتفاوف فى الأهمية. وأبرز الضوابط فى هذا الشأن هى الدين والتشريع والأختلاف والعرف. وفى كثير من الجماعات تكون الغلبة لضابط فى مجال ولغيره فى مجال آخر. وهذا هو السبب فى أن صور المعروف والمنكر لا تتماثل لدى كل الجماَّعات, بل إنها لا تتمثل تماماً لدى الجماعات التى تتبنّى عين الضوابط فى ذات المجالات. ذلك بأن العبرة ليست بوحدة الضابط با بمضمونه ومحتواه. وكل ضابط يتأثر مضمونه بقيم الجماعة ومثلها وبمصالحها وأهدافها.

وفى بعض الأحيان يقع التعارض فى داخل الجماعة الواحدة بين ضوابط المعروف والمنكر, فيكون السلوك الواحد منكرا طبقا لضابط ومعروفا طبقا لضابط آخر. وهذه الظاهرة ملموسة فى الدول المعاصرة التى تجعل التشريع الوضعى هو الضابط الرسمى للمعروف والمنكر وتفسح المجال إلى جانبه لضوابط أخرى مكملة وإن كانت غير ملزمة بوحه عام. فبعض التشريعات الوضعية تبيح البغاء ولعب الميسر وشرب الخمر والتعامل بالربا وتنظيم ذلك بقوانين ولوائح, وهذا يعنى أنها لا تعد هذه الأفعال منكرا مع أن الدين والأخلاق فى معظم هذه الجماعات يعدانها ــ أو يعدان بعضها ــ من المنكر. ومرّد هذه الظاهرة إلى استقلال الضوابط فى تلك الجماعات عن بعضها وانفصام الروابط بينها وقبول الناس أو استسلامهم للعيش فى ظل هذا الوضع الشاذ.

ولا وجود لهذه الظاهرة فى الدولة المسلمة, لأن الاسلام يهيمن على كل ضوابط المعروف والمنكر فيها؛ فلا معروف إلا ما يعده الإِسلام معروفا ولا منكر إلا ما يعده منكرا. وضوابط المعروف والمنكر فى الإِسلام هي نفسها مصادر الأحكام, وهى لا تعدو النص والاجتهاد والعرف. أما الاجتهاد فيشمل المصادر الفرعية عدا العرف. والقاعدة أنه لا اجتهاد مع النص ولا على خلافه, وأنه لا اعتبار للعرف إذا كان معارضاً لنص أو قاعدة كلية, وهذا من شأنه نفى التضارب بين الضوابط فى الحكم على سلوك الأفراد, فلا يتصور فى المجتمع الإِسلامى أن يختلف حكم السلوك باختلاف ضوابطه.

ويتبنى على ما تقدم أن العقل المجرد لا يُحسَّن شرعاً ولا يُقَبَّح, فأحكام الشرع كلها لا تنفك عن مصادره, وليس من بينها العقل المجرد(14). وإذا كان بعض الفقهاء يردّدون أن صحيح المنقول لا يخالف صحيح المعقول فهم لا يقصدون بذلك تسليط العقل على النص والحكم له أو عليه فذلك هو الهوى, ولكنهم يقصدون فحسب تأكيد معقولية النص وموافقته للفطر السليمة.

وحكم السلوك فى الشرع يتردد بين الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإِباحة. وكل أحكام الشرع ــ عدا العبادات المحضة والمقدّرات ــ معقولة المعنى, فكل حكم فيه يحقق مصلحة للمخاطبين به جماعةً وآحاداً. وتنقسم المصالح فى الشرع ــ من حيث أهميتها ــ أقساماً ثلاثة : ضرورية وحاجيّة وتحسينية. والمعتبر فى تقرير هذه المصالح جملة العباد, غير أن منها ما يكون خالصا لواحد بعينه من الآحاد. والطائفة الأولى من هذه المصالح وحدها التى تتعلق بها أحكام الوجوب والتحريم والندب والكراهة, أما الثانية ــ وهى مصالح الآحاد أو حظوظهم ــ فتتعلق بها أحكام الإِباحة فحسب, لأن المباح هو ما خيَّر فيه بين الفعل والترك بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام, فهو من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضرورى فى الفعل أو فى الترك ولا حاجى ولا تكميلى من حيث هو جزئى, فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة, ولا أثر له على مصالح المجموع سلباً ولا إيجاباً(15).

وبيان الحكم الشرعى لازم لتحديد المعروف والمنكر؛ فالمعروف فى الشرع هو ما كان مطلوب الفعل على سبيل الوجوب أو الندب, والمنكر ما كان مطلوب الترك على سبيل التحريم أو الكراهة. أما المباح فلا يوصف بأى منها, إذ يستوى فى الشرع فعله وتركه, ويمكن تعريف المنكر فى الحسبة تعريفاً أعم وأخصر بأنه «فعل ما ينبغى تركه وترك ما ينبغى فعله». وعلة اعتباره منكراً أن فيه إخلالاً بمصلحة ضرورية أو حاجية أو تحسينية, وذلك وجه المفسدة فيه.

والقاعدة أن وصف المنكر لا يثبت للسلوك مجرداً, لأن السلوك وإن كان ركن المنكر إلا أنه لا يقع به وحده, وإنما يقع المنكر باجتماع أمور ثلاثة هى تحقيق ركنه وتوفر شروطه وانتفاء موانعه. ولكل منكر شروط يتوقف عليها وجوده وموانع تنفيه, وتختلف الشروط والموانع باختلاف المنكر, والمرجع فيها إلى الشرع وحده, فهو الذى يحدد شروط كل منكر وتختلف شروطه, أو وجد ركنه وشروطه ولكن قام مانع من موانعه لم يقم المنكر. وينبنى على ذلك أن السلوك الواحد يمكن أن يكون منكرا فى حال ومعروفا فى حال ومباحا فى حال, وذلك تبعاً لما يحف به من ملابسات. وهذا يفرض على من يحتسب ألا يقف عند السلوك وحده لأنه بالرغم من أهميته غير حاسم. وعليه قبل أن يحتسب أن يتحقق يتكقق أيضاً من توفر شروط المنكر وألا يظهر له مانع من موانعه.

تدخل المعروف والمنكر :

يتداخل المعروف والمنكر فى بعض الأحيان تداخلا يكون من شأنه أم يؤدى منع المنكر إلى منع المعروف وأن يؤدى الإِبقاء على المعروف إلى الإِبقاء على المنكر, والأمر فى الحالين ينطوى على حرج. ومن قبيل ذلك انقطاع الشخص للصوم والصلاة وتركه السعى لكسب رزقه ورزق من يعول, وكذلك تصدقه بكل ماله وهو مدين لآخرين. ووجه الحرج أن المعروف مطلوب الفعل وأن المنكر مطلوب الترك وأن الطلبين يجتمعان فى وقت واحد على محل واحد. ويجب التسليم بأن تداخل المعروف و المنكر لا يغير من طبيعة أحدهما ولا من حكمه, فالمعروف رغم التداخل يظل معروفا والمنكر يظل منكرا. وحل الإِشكال يكمن فى القاعدة التى تقضى بأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولهذا تصح الحسبة على من أدى به فعل المعروف إلى ارتكاب المنكر لا بقصد منعه من عمل المعروف بل بقصد كفه عن عمل المنكر, فيلزم الأول بالعمل ــ وهو عبادة أيضا ــ لكسب رزقه ورزق من يعول, وله بعد ذلك أن ينفق فضل وقته فيما يشاء من ضروب العبادات, ويلزم الثانى بالوفاء أولًا بديونه ثم له بعد ذلك أن يتصدق بفضل ماله على من يشاء(16).

المنكر والمعصية :

كثير ما يقترن المنكر بالمعصية أو تقترن المعصية بالمنكر, غير أن التلازم بينهما ليس أمرا تفرضه طبيعتها؛ فقد يرتكب الشخص منكرا ولا يكون مع ذلك عاصيا, وقد يأتى المعصية دون أن يقع منه منكر. وعلة ذلك أن المنكر سلوك يخالف الأمر أو النهى, أما المعصية فاعتقاد وقت السلوك بأنه يخالف الأمر أو النهى سواء أكان كذلك فى واقع الحال أو لم يكن. فليس من لوازم المنكر إذن أن يكون فاعله عالماً بوجه المخالفة, وليس من لوازم المعصية أن يكون السلوك فيها منطويا علة مخالفة. والحسبة إنما تجب بالمنكر لا بمطلق المعصية. فما لم تكن المعصية منكرا فلا حسبة فيها لأنها عندئذ تتمحض نية آثمة.

أما المنكر فالحسبة فيه واجبة فى كل الحال, سواء كان معصية أو لم يكن. ويترتب على ذلك أن من أقدم على ارتكاب فعل مباح فى ذاته لا يمنع منه ولو كان يعتقد خطأ حرمته. ونستعير لذلك مثالًا ضربه الغزالى فى الإِحياء, وهو مثال الأصمّ يجامع امرأة على قصد الزنا وهو لا يدرى أن أباه زوجه إياها فى صغره وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لجهله لغته, فهو فى الإِقدام على إتيانها مع اعتقاده أنها أجنبية عاصٍ ومعاقب على ذلك فى دار الآخرة, إلا أن فعله مه ذلك لا يعد منكرا فى الشرع بل هو حلال فى ذاته فلا يمنع عنه (17). ومثله من يختلس مالًا بظنه مال غيره وهو ماله, ومن يدخل فى الليل دارا يظنها دار غيره وهى داره. وهذا ما يرجحه الغزالى, فالأظهر عنده أن ما ليس بمنكر عند الله لا يمنع منه وإن كان منكراً عند الفاعل لجهله(18).

ويترتب على ذلك أيضاً أن ما كان منكرا عند الله يجب المنع منه ولو كان الفاعل غير عاصً به أو كان ما أتاه لا يعد منكرا فى نظره(19). فمناط الاحتساب كما يقول القرافى هو حدوث المفسده وإن لم يكن فعلها عصياناً بسبب حال مرتكبها. فإذا حدثت وجب الاحتساب بمنعها(20). ولا اعتبار عندئذ لأحوال الفاعل, فهذه الأحوال إن كانت تؤثر فى وصف المنكر. ولهذا فإنه يستوى فى مقام الحسبة أن يكون فاعل المنكر مسلما أو غير مسلم, مكلفا أو غير مكلف, عالما أن ما يأتيه منكر أو غير عالم, سليم الإِرادة أو معيبها, ونفصل فيما يلى ما أجملناه.

(1)  إسلام الفاعل ليس شرطا لاعتبار سلوكه منكرا :

لا خلاف أن الكفار مخاطبون بالإِيمان, لكن الخلاف فى خطابهم بالفروع كالصوم والصلاة والحج والزكاة ونحوها. وقد عنى فقهاء الأصول ببحث هذا الموضوع ولهم فيه عدة آراء : أولها أن الكفار غير مخاطبين بالفروع أصلًا, والثانى أنهم مخاطبون بها مطلقاً, والثالث أنهم مخاطبون بما اعدا الجهاد, والرابع أنهم مخاطبون بالنواهى دون الأوامر. على أن القائلين بالخطاب يصرحون بأن فائدته تضعيف العذاب للكفار فى الآخرة(21), أما فى الحياة الدنيا فلا يرتبون عليه أثرا, فليس لولى الأمر أن يحمل الكفار على الأداء ولا أن يؤاخذهم على المخالفة, لأن الإِيمان شرط لصحة الأداء, ومن أصول الشرع عدم الإِكراه على الإِيمان فلو جاز جمل الكفار على الأداء ومؤاخذتهم على تركه لكان معنى ذلك إكراههم على الإِيمان وهو ممتنع شرعاً. ومن هنا كان قولهم إن فائدة التكليف تضعيف العذاب فى الآخرة.

والذى نطمئن إليه هو الرأى الأول, فالكافر حال كفره غير مخاطب إلا بالإِيمان, فإن استجاب تحمل تبعاته وإن أبى لم يلزمه شىء منها(22). ولذلك فإن بقاء الكافر على كفره هو معصيته الكبرى, أما بقية أفعاله فلا حكم لها فى الشرع, فهى لا توصف فيه بأنها معروف ولا منكر, لأن وصف السلوك مشروط بتوجه الخطاب, فكل من أغفله الحكم عند الخطاب فلم يوجه إليه أمرا ولا نهيا فإن ما يأتيه يخرج عن سلطان الحكم, ولا من حيث ما يترتب عليه من أثر فحسب, بل وكذلك من حيث ما يلحقه من تكييف أو وصف. ذلك أن التكاليف الشرعية كلها ــ عدا الإِيمان ــ لا يمكن أداؤها على وجهها إلا من مسلم, ولما كانت صحة الأداء ضابط لتحديد المخاطب فإنه ينتج من  ذلك أن المسلم وحده هو المخاطب, أما غيره فلا يشمله الخطاب ما لم يدخل فى زمرة المسلمين. وشبيه بذلك ما نلمسه فى الدول المعاصرة, فلكل دولة تشريع يخاطب المقيمين على إقليمها ولا شأن له ــ كأصل ــ بمن يقيم فى خارجه, فما يقع من هؤلاء لا حكم له فيه سواء وافقة أو خالفه, فهو لا يدخل فى عداد المباحث ولا المحظورات, لأن الإِباحة والحظر كلاهما حكم, وهو يقتضى توحه الخطاب والفارق بين الإِسلام والنظم الوضعية فى هذا الخصوص يكمن فى مناط الخطاب, فهو الإِيمان فى الأول والوجود فى الإِقليم فى الثانية.

ومقتضى ما تقدم أن الكافر لا يعد عاصيا إذا خالف بسلوكه حكماً من أحكام الإِسلام, لأن من لا يتوجه إليه أمر ولا نهى لا يتصور منه عصيان. وكان مقتضى ذلك أيضاً أن لا يعد سلوك الكافر منكرا فى أى حال, لأن المنكر سلوك على خلاف الأمر أو النهى, مادام الإِسلام لا يأمر الكافر ــ بغير الإِيمان ــ ولا ينهاه فليس لسلوكه حكم فيه, وإنما المنكر الوحيد الذى ينسب إليه هو بقاؤه على الكفر(23).

غير أن هذه النتيجة غير صحيحة فى إطلاقها؛ فهى إن صدقت بالنسبة للكافر غير المقيم فى دار الإِسلام فإنها لا تصدق بالنسبة لمن يقيم فيها, لأن الإِسلام لا يدع غير المسلمين فى داره هملًا, وإنما القاعدة فيه أن نتركهم وما يدينون, وفيما عدا ذلك فإن لهم مالنا وعليهم ما علينا. ولهذا فليس للمسلم أن ينكر على المسيحى صومه وصلانه ولا تعظيمه للصليب لأن هذه الأمور عبادة محضة, وليس له كذلك أن ينكر عليه شربه الخمر أو أكل لحم الخنزير لأن ذلك حلال عنده وليس فيه مساس بحق غيره, وليس له من باب أولى أن ينكر عليه عدم قيامه بشعائر الإِسلام لأنها عبادة تخالف معتقده, فكل ذلك لا يعد فى نظر الشرع منكرا متى وقع من غير المسلم, ولهذا لا تجوز الحسبة فى شىء منه. أما ماعدا ذلك من أحكام فغير المسلم مأخوذ بها إن كان مقيما, لا باعتبارها خطاباً مباشراً من الشرع له, فقد بينا أنه غير مخاطب أصلاً إلا بالدخول فى الإِسلام, وإنما هو مأخوذ بتلك الأحكام باعتبارها أثرا لازما للمقام فى دار الإِسلام, إذ يوجب الشرع على الجماعة المسلمة أن تفرض أحكامها على كل من يقيم فى دارها. وغير المسلم إذ يتحمل بهذه الأحكام فأنما يتحمل بها بإرادته لا بوصفها أحكاماً شرعية تلازمه, فهو باختياره المقام فى دار الإِسلام يحقق السبب الذى يجعله خاضعاً لتلك الأحكام. وكما أنه حقق السبب بإرادته فإن فى استطاعته أن يرفعه بإرادته, وذلك بمفارقة الجماعة المسلمة والخروج من دارها. فإن هو أقدم على ذلك لم يكن للشرع حكم فيما يصدر عنه من فعل أو ترك(24).

وينبنى على ذلك أن كل سلوك من غير المسلم المقيم فى دار الإِسلام فيه مساس بحق للجماعة أو لفرد فيها يعد منكرا موجبا للحسبة. فالقتل والضرب والسرقة والقذف والغضب والإِتلاف والرشوة والغش فى المعاملات والمطل فى سداد الدين والإِقراض بالربا ــ كل ذلك يعد منكرا فى حق غير المسلم مثلما هو منكر فى حق المسلم, ولا يختلف الحكم ولو كانت بعض هذه الأفعال جائزة فى دين غير المسلم, لأن هناك فرقاً بين اعتقاده حِليّة الفعل وإتيانه إياه فى دار الإِسلام بما ينطوى عليه من مساس بحقوق الجماعة أو بحقوق أفرادها. بل إن الحسبة تجب ولو كان من وقع عليه فعل المنكر على دين الفاعل, وذلك كما فى حالة التعامل بالربا, لأن أثر الفعل لا يقتصر عليها بل يتعدى إلى غيرها.

(2) تكليف الفاعل ليس شرطا لاعتبار السلوك منكرا :

الراجح عندنا أن التكليف ليس شرطا لتواجه الخطاب, ولكنه شرط للمسئولية عند عدم الانتهاء أو عدم الامتثال. فالصبى يعلم الصلاة عند سبع ويضرب عليها عند عشر, ويقال أن ضربه عليها ليس ضرب تغرير بل ضرب تأديب, والذى نراه أنه ضرب على كل حال, ولو صح أن الخطاب غير موجه إليه ما جاز ضربه تعزيزاً ولا تأديباً. وقد رد الإِمام الغزالى على ذلك بقوله : فإن قيل فالصبى المميز مأمور بالصلاة قلنا : مأمور من جهة الولى والوالى مأمور من جهة الله تعالى, وذلك لأنه يفهم خطاب الوالىّ ويخاف صربه فصار أهلا له, ولا يفهم خطاب الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة(25). وهذا الرأى محل نظر من وجهين : الأول أن مطلوب خطاب الوالى للصبى هو عين مطلوب خطاب الشارع له, فهو فى الحالين أداء الصلاة, وقد سلم الغزالى بقدرة الصبى على فهم خطاب الوالى. وامتثاله له, وهذا يوجب التسليم بقدرته على فهم خطابى الشارع وامتثاله له. أما الفرق بين الخطابين فينحصر فى جزاء المخالفة, إذ يتمثل الصبى جزاء مخالفة الوالى ولا يتمثل جزاء مخالفة الشرع, وهذا الفارق على فرض صحته غير معتبر لأنه لا يتعلق بفهم ذات الخطاب وهو محل النزاع. أما الوجه الثانى فيتصل بحكم الشرع فى صلاة الصبى إذا امتثل لأدلئها. والمتفق عليه أن صلاته قبل البلوغ قربة, وكذالك صومه وحجه واحتسابه. واعتبار تلك العبادات قربة فى حقه يعنى أن امتثاله لأدائها طاعة, فهى إذن معروف مطلوب على وجه الندب, والندب حكم, أى خطاب, فدل ذلك على أن الصبى من أهل الخطاب(26).

والحق عندنا أن صفة «الإِنسان» هى وحدها مناط الخطاب, فكل من قامت به تلك الصفه كان أهلاً لأن يتوجه إليه أصل الخطاب. ومن كان كذلك صح الاحتساب عليه لإِمكان وقوع المنكر منه, سواء كان مكلفا أو غير مكلف. ولسنا نرى فى ذلك أى شذوذ لأن غاية الحسبة هى رفع المنكر لا عقاب فاعله, وإذا كلن فعل غير مكلف ــ لعلة فى الفاعل ــ لا يوجب العقاب فإنه ــ لمعنى المنكر فيه أو المفسدة ــ يوجب الاحتساب. وهذا يعنى أنه لا تلازم بين موجب الحسبة وموجب العقاب, فيصح الاحتساب على من لا يجوز عقابه. وذلك هو مذهب الغزالى فى الإِحياء, فقد صرح بأنه يشترط فيمن يحتسب عليه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه فى حقه منكرا, وأقل ما يكفى فى ذلك أن يكون إنسانا, ولا يشترط كونه مكلفا(27). ولهذا فهو يوجب على من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر أن يريق خمره ويمنعه, وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه(28).

غير أن ذلك لا يعنى بالضرورة أن كل ما يعد منكرا فى حق المكلف يكون كذلك فى حق غير المكلف, لأنه لا يكفى لقيام المنكر أن يوجد ركنه وهو السلوك, بل يجب كذلك أن تتوفر شروطه وتنتقى موانعه, وبعض المنكرات لها شروط منها ما يقتضى التكليف, فلا يتصور وقوعها إلا من مكلف. ولهذا فقد اعتبر الغزالى الزنا وشرب الخمر منكرا فى حق المجنون والصبى ولم يعتبر ترك الصلاة والصوم منكرا فى حقهما, وتردد فى اعتبار لبسهما الحرير منكرا(29). وما  رآه الغزالى صحيح بوجه عام؛ فالزنا ومثله القتل والضرب والسرقة والقذف وإتلاف مال الغير منكرات مطلقة, بمعنى أنه لا يشترط فيمن تقع منه شروط خاصة, ولذلك فهى واجبة المنع فى كل حال دون اعتداد بين الفاعل أو جنسه أو سنه أو سلامة عقله : أما ترك الصوم والصلاة وكذلك لبس الحرير فتنتمى إلى طائفة أخرى من المنكرات لا تقع إلا إذا قامت بفاعلها شروط خاصة تتعلق بحال أو أكثر من أحواله, كدينه أو جنسه أو صحته أو ملاءته أو علمه أو عدالته أو حالة عقله. وهذه المنكرات على خلاف السابقية لا تقع من أى أحد, بل ممن توفرت فيه شروطها وحده, فترك الجهاد منكرا لا ينسب إلا لمسلم قادر, وعدم الحجج منكر لا يقع إلا من مسلم قادر صحيح, وترك ولاية القضاء منكر لا ينسب إلا لمسلم عدل عالم. والعقل شرط عام لوقوع تلك المنكرات. غير أنه يلزم فى بعضها كمال العقل أو العقل التكليفى ويجزىء فى سائرها العقل الطبيعى. فالولايات جميعا لا تسند إلا لمكلف, فتركها منكر لا يقع من غيره, وأمارة الجهاد والصلاة والصوم فإنها تجب على المكلف وتنصب لغيرة بشرط أن يكون قادرا على إدراك مهنى العبادة فيها, وهذا ما يحققه العقل الطبيعى, وهو أسبق فى زمنه من العقل التكليفى. ويترتب على ذلك أن ترك العبادات يختلف حكمه باختلاف حال الفاعل, فأن كان مكلفا فالترك فى حقه منكر بإطلاق لوقوعه على أمر مطلوب على سبيل الوجوب, وإن كان غير مكلف فله حالان, حال يقوم فيها المنكر وأخرى لا يقوم. فأما التى يقوم فيها المنكر فهى التى يتوفر فيها العقل الطبيعى لدى الفاعل, ويتمثل المنكر فيها فر ترك المندوب, وأما التى لا يقوم فيها منكر فهى التى يتخلف فيها ذلك العقل فى حدوده الدنيا المعتبرة شرعا. والقاعدة فى الحسبة أن مدارها على المنكر مطلقا, أى فى كل صوره. كل ما هنالك أنه إذا كان المنكر قد خرق الوجوب أو التحريم فعلى المحتسب منعه بكل ما يسعه, أما إن كان قد خاف الندب أو الكراهة فعلى المحتسب أن يحث فاعله على سلوك الأوْلى ولكن يتمنع عليه أن يبلغ حد القسر والإِرغام, لأن مسلك الفاعل وإن يكن على خلاف الأوْلى إلا أنه جائز شرعاً. وتطبيقا لذلك يصح الاحتساب على الصبى المراهق للبلوغ إذا لم يتعلم الصلاة أو لم يدرب نفسه على الصوم, والاحتساب عليه يكون بنصحه وتوجيهه أو بلومه وتأنيبه, أما الضرب فلا يجوز(30).

وتنبغى الإِشارة إلى أن امتناع الحسبة على من افتقد الفعل الطبيعى ـــ لصغر أو جنون ليس مبناه عدم توجه الخطاب إليه وخروج فعله تبعا لذلك عن حكم الشرع, ولكن مبناه تخلف شرط من شروط المنكر الذى ارتكب فعله وهو العقل. إلا فالحسبة واجبة قِبَل من عُدم العقل لصغر أو جنون إذا أخذ فى العدوان على نفس غيره أو بدنه أو عرضه أو ماله, وغاية الحسبة فى هذه الأحوال كفه عما أخذ فيه. وإنما جازت الحسبة هنا لأن العقل ليس شرطا فى هذا النوع من المنكر وامتنعت هناك لأنه شرط فيه.

(3) جهل الفاعل بأن سلوكه منكر لا اعتبار له :

الجهل من حيث محله إما أن يكون جهلا بحكم الشرع أو بما هية الفعل أو بشرط من شروط المنكر, وهو من حيث ملابساته إما أن يكون مغتفرا أو غير مغتفر. وللجهل أثره فى باب الجنايات على تفصيل لا يقتضيه المقام, أما فى مجال الحسبة فهو عقيم فى كل أحواله؛ فليس من شأنه أن يحول دون قيام المنكر والاحتساب على فعله. وعلة التفرقة فى المجالين مفهومة, فالعقاب جزاء, وهو يفترض الإِثم والجهل يؤثر فيه, فكان طبيعيا أن يعتد بالجهل فى حدود وبشروط معينة فى مجال العقاب. أما فى مجال الحسبة فليس للجهل اعتبار, لأن مدار الحسبة على المنكر وهو مفسدة, وغاية الحسبة منعه. وهنا يكمن الفارق الجوهرى؛ فالحسبة تتجه أساساً إلى المنكر القائم لدفعه أو لرفعه ولا تتجه إلى الفاعل لقمعه أو ردعه. وليس من شأن علم الفاعل أن يقيم المنكر أو ينفعه لأن وجه المفسدة فيه لا يتوقف إيجاباً أو سلبا على علمه أو جهله. ولهذا فإن حديث العهد بالإِسلام إذا شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو عقد على إحدى محارمه وهو يجهل حكم الشرع فى ذلك فإنه يرتكب منكرا يوجب الحسبة. ومثله من شرب عقب الفجر فى رمضان أو قبيل الغروب وهو يجعل طلوع الفجر يتوهم غروب الشمس. وذكر الغزالى أنه لو علق طلاق زوجته على صفة فى قلب المحتسب كمشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت هذه الصفة فى قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ولكن علم وقوع الطلاق فى الباطن فإذا راه يجامعها فعليه المنع, لأن ذلك زنا إلا أن الزانى غير عالم به والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثا. ويضيف الغزالى أن كونهما غير عاصيين لجهلهما وجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكرا(31).

(4) التدليس والإِكراه لا ينفيان المنكر :

يختلف التدليس والإِكراه كل عن الآخر فى طبيعته, ولكنهما يتفقان من حيث النتيجة والأثر فالتدليس ضرب من ضروب الغيش والاحتيال يعمد إليه المدلس لإِيهام الغير بأمر يخالف الواقع فيصدقه, أما الإِكراه فقهر لإِرادة الغير بقصد حمله على إتيان ما يكره. والجامع بين التدليس والإِكراه أن كليهما يعيب الإِرادة أو يفسدها؛ ففى التدليس يأتى المدلس عليه سلوكاً لو علم حقيقة الواقع فيه ما أتاه, وفى الإِكراه يسلك المكره على نحو لولا ما تعرض له من إكراه ما أقدم عليه. وفى الحالين يعزى السلوك إلى إرادة من أتاه, إلا أنها إرادة معيبة. وليس المقصود بالإِكراه هنا ذلك الذى يعطل الإِرادة تماماً ويشلها, فذلك هو الإِكراه المادى كما يسميه أهل القانون أو الملجىء كما يسميه فقهاء الشريعة, وفيه يغدو المكرَه مجرد آلة أو أداة. وإنما المقصود بالإِكراه هنا ذلك الذى يعيب الإِرادة دون أن يلغيها أو يشملها, وهو ما يعرف بالإِكراه الأدبى فى الفقه الوضعى أو غير الملجىء فى الفقه الشرعى. وفى هذا الإِكراه تبقى حرية الاختيار قائمة إلا أنها تضيق كثيرا فيكون فى وسع المكرَه أن يتحمل الإِكراه على مضض ويمتنع عن إتيان السلوك الذى ينجيه أو أن يرضخ للقوة المُكْرِهة ويأتى السلوك خلاصا مما يحيق به ويتهدده. ولا محل للحديث عن المنكر حيث يكون الإِكراه ملجئا, لأن الإِرادة عندئذ تكون غائبة, وحيث تغيب الإِرادة يمتنع تسمية الحركة العضوية سلوكاً, وإذا امتنع السلوك فلا منكر لأنه ركنه. لكن المنكر يقوم مع الإِكراه الأدبى أو غير الملجىء, لأن الإِرادة تظل قائمة رغم الإِكراه الواقع عليها, فهذا الإِكراه يحد من حريتها لكنه لا يلغيها ولا يعطلها ولهذا صح اعتبار السلوك رغم الإِكراه إراديا. والتدليس كالإِكراه من هذا الوجه.

وتطبيقا لذلك فإن من مزجت له الخمر بالماء ثم قدمت له على أنها ماء أو قدم له لحم الخنزير علة أنه لحم ضأن فشرب وأكل على ظن أن ما تناوله حلال يعد فعله رغم التدليس منكرا. ومثله من هدده الغير بالقتل إن لم يشرب الخمر أو يأكل لحم الخنزير فشرب أو أكل. ففعل كل من الشخصين يعد فى الشرع منكرا لأنه محل نهى, ولهذا تصح الحسبة فيه بل تجب. أما التدليس والإِكراه فلا أثر لأى منها على ثبوت وصف المنكر, فكلاهما لا يسقط النهى ولا يغير من طبيعة الفعل وإنما يقتصر أثره على رفع الإِثم والعقاب, لكن الفعل يظل منكرا وإن كان الفاعل غير آثم.

أقسام المنكر :

ينقسم المنكر أقساماً عدة تختلف تبعاً لاختلاف زاوية النظر :

(أ‌)    فهو من حيث فاعله ينقسم إلى منكر عام ومنكر خاص. فأما العام فهو الذى يقع من الجماعة كلها أو من عدد غير محصور منها, كترك الأذان أو صلاة الجماعة أو الجمعة أو العيدين وكذلك التقصير فى إنشاء أو صيانة مايحتاج إليه المسلمون من طرق وجسور ومدارس ومساجد ومحاكم ودور علاج, أو إهمال توفير مياه شربهم وريهم وتأمين سبلهم. وأما المنكر الخاص فهو الذى يقع من شخص معين أو من أشخاص محدودين, كمطل المدين وعقوق الوالدين وغش السلع وتطفيف الكيل والميزان والتعامل بالربا وشرب الخمر والسرقة والقذف.

( ب ) وينفسم المنكر من حيث جسامته إلى منكر واجب المنع ومنكر مستحب المنع. أما الأول فيشمل فعل المحرم وترك الواجب, وأما الثانى فيشمل فعل المنكر وترك المندوب. والحسبة فى القسمين واجبة إلا أن وسيلتها تختلف؛ فالأول يدفع بكل ما يحقق المنع ولو أدى الأمر إلى العنف والقهر, وأما الثانى فالسبيل إلى منعه النصح والوعظ, فإن استجاب الفاعل فيها, وإلا ترك وشأنه لأن فعله جائز شرعاً فلا يصح إرغامه على الكف وإلا جعل الحلال حراماً.

كذلك فإن المنكر ينقسم من حيث جسامته إلى كبائر وصغائر, وإلى معاص ومجرد مناكر, والحسبة فى كل ذلك واجبة.

(جـ) وينقسم المنكر من حيث محله إلى منكر واقع على حق الله كترك الصوم والصلاة وارتكاب الزنا, أو على حق للجماعة كتخريب مرافقها, أو على حق لفرد كالعدوان على حياته أو سرقة ماله أو إتلافه. وقد يكون الحق المعتدى عليه خالصا لصاحبه أو مشتركا بينه وبين غيره. والحسبة واجبة فى كل حال, إلا أنها تتوقف على الاستعداء إن كان محل العدوان يغلب فيه حق العبد وكان صاحب الحق وقت العدوان حاضرا وقادرا على الإِذن والمنع.

(د) وينقسم المنكر من حيث مدى اتصاله بمحل العدوان إلى منكر لعينه ومنكر لغيره. فأما المنكر لعينه فهو ما تمحض عدوانا مباشراً على حق أو على مصلحة معتبرة شرعاً. ومنه القتل والسرقة والزنا وترك الصوم والصلاة والامتناع عن أداء الزكاة أو عن سداد الدين وأما المنكر لغيره فهو ما أفضى بحكم اللزوم أو المألوف إلى وقوع منكر من جنس ما تقدم وإن لم ينطو فى ذاته على مساس مباشر بحق للغير أو بمصلحة معتبرة فى الشرع. واعتباره منكرا هو من باب سد الذرائع. ومن قبيله الخلوة بأجنبية والوقوف فى طريق النساء وارتياد مجالس المنكر ومخالطة الأشرار وحيازة الخمر والمخدرات وعرض السلع المغشوشة للبيع وإبرام عقود الغدر, فهذه الأفعال فى ذاتها لا تنطوى على إخلال ناجز بحق يحميه الشرع, إلا أنها تفضى إلى ذلك حتماً أو غالبا, ولهذا عدها الشرع منكرا تجب الحسبة فيه كما تجب فى المنكر لعينه سواء بسواء(32).

(هـ) وينقسم المنكر من حيث صورة السلوك الذى يأتيه الفاعل إلى إيجابى وسلبى. أما الإِيجابى فيتمثل فى (( فعل)), ويشمل المنكرات التى ينتهك فيها الفاعل قواعد التحريم أو الكراهة لأنها قواعد ناهية, والسبيل إلى مخالفتها هو ارتكاب الفعل المنهى عنه. وأما السلبى فيتمثل فى (( امتناع أو ترك )), ويشمل المنكرات التى ينتهك بها الفاعل قواعد الوجوب أو الندب لأنها قواعد آمرة, والسبيل إلى مخالفتها هو القعود عن إتيان الفعل المطلوب. ومن المنكرات الإِيجابية الزنا والسرقة والربا وقول الزور, ومن السلبية عدم الصلاة والصوم بغير عذر شرعى والامتناع عن أداء الشهادة وعن إغاثة الملهوف. ومن المنكرات ما يختلف حاله فيقع بالفعل تارة وبالترك أخرى, وتلك هى المنكرات التى يكون التكليف فيها بتحقيق نتيجة أو بمنع حدوثها, إذ يسع الفاعل أن ينتهك التكليف بالفعل أو يترك وفقا لمقتضى الحال. فالأب راع فى بيته وهو مسئول عن أسرته, فإذا حرض والده على السرقة أو الكذب فإنه يرتكب منكرا إيجابيا, أما إذا تغاضى عما يقع منه من سرقة أو كذب فإنه يرتكب منكرا سلبيا, والمنكر فى الحالين واحد وهو الإِخلال بواجب التربية. والقتل منكرا سلبيا, والمنكر فى الحالين واحد وهو الإِخلال بواجب التربية. والقتل منكر يقع بالفعل غالبا وبالترك أو الامتناع أحياناً, فمن يطعن غيره بسكين فى صدره فيودى بحياته يرتكب القتل بفعل إيجابى, ومن يمنع الدواء عن مريض أو يرفض علاجه أو يضن بالطعام أو الشراب على جائع أو ظمآن فيؤدى ذلك إلى وفاته يكون مرتكبا للقتل بالترك أو الامتناع. والحسبة واجبة بمنع المنكر أيا كانت صورته, كل ماهنالك أن وسيلة الاحتساب تختلف باختلاف صورة المنكر, وتتحدد الوسيلة فى كل حال بحسبها.

(و) وينقسم المنكر من حيث المدى الزمنى الذى يستغرقه ارتكابه إلى وقتى ومستمر. فأما الوقتى فهو الذى يبدأ وينتهى فى فور واحد, فهو لا يشتغل مساحة من الزمن عريضة, ومنه الضرب والإِتلاف وشهادة الزور. وأما المستمر فهو الذى يمتد فى الزمن فيشغل منه حيزا معتبرا وأغلب المنكرات السلبية منكرات مستمرة كمطل المدين وامتناع القاضى عن الفصل فيما يرفع إليه من دعاوى المسلمين وامتناع الولاة عن إنفاذ حكم الشرع فيما يعرض لهم من أمور. ومن المنكرات الإِيجابية ما يكون مستمرا كحيازة الخمر والمخدرات والمسروقات وتربية الخنازير وعرض السلع الفاسدة للبيع واكتاز الذهب والفضة ولبس الراجل للحرير. ومما تجب الإِشارة إليه أن توقيت المنكر واستمراره مناطه السلوك لا النتيجة, ولهذا يعد القتل فى عامة أحواله منكرا وقتيا ولو أن نتيجته ــ وهى الوفاة ــ مستمرة, وكذلك الجرح ولو خلّف عاهة مع أن العاهة مستمرة. والسرقة منكر وقتى لأن فعلها الاختلاس وهو لا يمتد فى الزمن مع أن نتيجه وهى احتياز المسورق مستمرة. ولهذا التقسيم أهمية خاصة فى الحسبة, لأنها لا ترد إلا على منكر قائم وقت الاحتساب, وغايتها منعه. فإذا كان المنكر قد انصرم فلا حسبة فيه وكل ما يمكن عمله هو عقاب فاعله إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك. وأكثر ما تكون الحسبة فى المنكرات المستمرة لأن امتداد وقتها يسمح بشهودها والاحساب فيها. غير أن الحبسة مع ذلك ممكنة فى المنكرات الوقتية وإن كان انقضاؤها فور البدء فيها فى كثير من الأحيان دون الاحتساب فيها.

المبحث الثانى

شروط المنكر الموجب للحسبة

تمهيد :

الحسبة لا تجب فى كل منكر, بل يقتصر وجوبها على المنكرات التى تستوفى شروطا معينة. ولا ينبغى الخلط بين الشروط اللازمة لوجود المنكر والشروط اللازمة للاحتساب فيه. فالمنكر هو الموجب ــ بكسر الجيم ــ والحسبة هى الموجب ــ بفتحها ــ ولكل منها شروط يتوقف عليها وجوده أو وجوبه. وإذا كان صحيحاً أن الحسبة لا تجب إذا لم يستكمل المنكر كل شروطه فليس من اللازم وجوبها إذا استكمل المنكر شروط وجوده, بل ينبغى كذلك أن تستكمل الحسبة بدورها شروط وجوبها. وهى عديدة, منها ما يتصل بمن يلزمه الوجوب, ومنها ما يتصل بفاعل المنكر, ومنها ما يتصل بذات المنكر. والبحث هنا ليس فى الشروط اللازمة لوجود المنكر, بل فى شروط المنكر اللازمة لإِيجاب الحسبة. وقد حصر الفقهاء هذه الشروط فى ثلاثة, أولها أن يكون المنكر حالاً, والثانى أن يكون ظاهرا, والثالث أن يكون معلوما بغير اجتهاد.

الشرط الأول : حلول المنكر :

يشترط الفقهاء فى المنكر الموجب للحسبة أن يكون حالا أو ناجزا, أى قائما وقت الاحتساب وهذا الشرط تملية وظيفة الحسبة, فهى إنما شرعت لرفع المنكر, وهذا يقتضى أمرين : وقوعه وبقاءه. وقد فرض الفقهاء للمنكر أحولاً ثلاثة(33) :

إحداها أن يكون فاعله قد فرغ منه, وفى هذه الحالة لا تجوز الحسبة حتى وإن خشى عود الفاعل إلى تكرار المنكر, لأن الحسبة إنما جُعلت لرفع المنكر, أى منع استمراره, لا للوقاية من تكراره. فالوقاية من التكرار سبيلها العقاب وليس الاحتساب. ولا يعنى ذلك حظر وعظ الفاعل, غير أن هذا الوعظ يدخل فى عموم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولكنه لايعد من الحسبة بمفهومها الاصطلاحى, لأنه لا يهدف إلى كفّ الفاعل عما يفعل, بل إلى نهيه عن تكرار الفعل فة المستقبل.

والثانية أن يكون المنكر قائما وصاحبه عليه عاكفاً, وفى هذه الحالة تكون الحسبة واجبة.

والثالثة أن يكون المنكر متوقعاً, وحكم هذه الحالة كحكم الحالة الأولى, فلا يجوز الاحتساب فيها. وفى ذلك يقول الغزالى : من عُلم بقرينة حاله أنه عازم على الشرب فى ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ, فأن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضا, فإن فيه إساءة ظن بالمسلم, وربما صدق فى قوله, وربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق(34). وعندنا أن الوعظ الجائز فى هذه الحالة ــ كالوعظ الجائز فى الحالة الأولى ــ ليس وعظ الحسبة بل هو من عموم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, لأن الحسبة حتى فى أدنى مراتبها لاتنفك عن المنكر, إذ هو مناطها, فإذا لم يكن ثم منكر لم تجز الحسبة أصلاً.

فالقاعدة إذن أن موجب الحسبة هو المنكر الواقع لا المنكر الذى لم يقع بعد ولا الذى وقع وانصرم.

تداخل المنكر الواقع والمتوقع :

يدق الأمر بالنسبة إلى معنى الوقوع وضابطه, فهل يشترط لوقوع المنكر أن يبدأ الفاعل فى مقارفة السلوك المكون له بحيث تمتنع الحسبة قبل ذلك ولو ثبت فى يقين المحتسب أو غلب على ظنه من قرائن حال قائمة أن المنكر واقع لا محالة ؟.

يقتضى الجواب عن هذا السؤال تعقب المراحل المختلفة التى يمر بها المنكر. فهو ـــ كأى نشاط إنسانى إرادى ــ يمر فى العادة بجملة مراحل, أولاها مرحلة التفكير واتخاذ القرار, والثانية مرحلة التجهيز والتحضير, والثالثة مرحلة البدء فى التنفيذ.

أما المرحلة الأولى فلا منكر فيها ولو قامت على ثبوتها قرائن حال, لأن التفكير والتقرير نشاط نفسى خالص, والمنكر نشاط مادلى, أى حركة جوارح. فمهما تدنس فكر المرء أو ساءت نواياه فلا منكر فى ذلك إلا أن ينقلب فكره أو عزمه عملاً. ولهذا لا يجوز الحسبة على من دلت شواهد الحال على اعتزامه ارتكاب المنكر, لأن اعتزام المنكر ليس بمنكر(35).

وأما المرحلة الثانية وهى التجهيز والتحضير فالأصل أنه لاحسبة فيها لا متناع المفسدة فى الفعل من جهة ولخلفاء نية ارتكاب المنكر لدى الفاعل من جهة أخرى. غير أن الأمر يختلف إذا أفصح الفاعل عن نيته أو دلت عليها قرائن, إذ تكون الحسبة عندئذ واجبة, وذلك تأسيسا على أن مايتذرع به الشخص لارتكاب المنكر فهو منكر. ولهذا يتعين الاحتساب على من شوهد وهو يتسلل إلى بيت غيره ليسرقه أو يغش طعاما ليبيعه أو يخلو بأجنبية ليزنى بها أو يزور سندا أو يزيف نقداً ليستعمله أو يروجه. وعلة الوجوب هنا هو المنكر المرتكب لا المرتقب أو هو المنكر الواقع لا المتوقع. فدخول بيت الغير بدون إذنه وغش الطعام بقصد بيعه والخلوة بالأجنبية والتزوير والتزييف, كل ذلك منكر فى نفسه سواء اجتزأ به الفاعل أو أتبعه بمنكر غيره. وكون الأول منكرا يكفى لجعل الحسبة فيه واجبة. بل إن الحسبة تجب كذلك على من اعتزم سرقة بيت فعانيه واختار لدخوله أضعف منافذه وأعد ما يلزم لفتحه ورصد حركة أهله وحدد الوقت المناسب لاقتحامه. فما أتاه الفاعل وإن لم يكن منكرا فى نفسه إلا أنه منكر لغيره. وهو كذلك عند الله ويجب أن يكون كذلك عند الناس متى أفصح الفاعل عن قصده أو دلت على هذا القصد قرائن الحال. ولا يقال أن الحسبة هنا تكون قد وجبت لدفع منكر وشيك الوقوع أو منكر مستقبل وهو التجهيز أو الإِعداد له, بل الصحيح أنها وجبت لدفع منكر ناجز وهو ما أتاه الشخص فعلاً. وقد أشرنا من قبل إلى السند الشرعى لذلك وهو اتفاق العلماء على أن للوسائل حكم المقاصد, وأنه إذا اتخذ الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة كان منكرا واجب المنع(36).

أما المرجلة الثالثة فلا خلاف فى وجوب الحسبة فيها, بل إنها المجال الطبيعى للحسبة, لأن الفاعل فيها يحقق جانبا من السلوك المكون للمنكر. وليس من لوازم الحسبة أن يكتمل المنكر, لأن كل جزء من فعله يصدق عليه وصف المنكر وهو مناط الحسبة. بل إن اكتمال المنكر كثيرا مايحول دون الحسبة فيه لما هو معلوم من أن الحسبة لاتجوز إذا كان المنكر قد فرغ منه فاعله. ولذلك فالحسبة تجب دائما بمجرد الشروع فى المنكر.

تداخل المنكر الواقع والمنكر المنصرم :

القاعدة فى الحسبة أنها تظل واجبة مادام المنكر قائماً, فإذت زال زال الوجوب. وضابط الدوام فى المنكر كما ذكرنا هو السلوك لا نتيجته, فالمنكر يظل قائما ما بقى الفاعل عاكفا على سلوكه ــ فعلاً كان أو امتناعاً ــ فإذا فرغ منه زال المنكر ولو بقيت آثاره قائمة. فأذا اغتصب شخص مالًا لغيره فهذا منكر يظل قائما ولو دام الغصب سنين, والاحتساب فيه واجب فى كل وقت حتى يكف الغاصب عن غضبه, أما إذا أحدث شخص بغيره جرحا تخلفت عنه عاهة مستديمة فإن الاحتساب بعد الجرح يمتنع, لأن الجرح هو السلوك وقد انتهى, وبانتهائه زال المنكر ومن هنا كان القول بامتناع الحسبة فى المنكر المنصرم.

إلا أن المنكرات فى كثير من الأحوال تتوالى فيكون بعضها سببا لبعض أو من لوازمه وإذا كان فراغ الفاعل من منكر يحول دون الاحتساب عليه فى غيره. وذلك شأن بائع اللبن إذا ما خلط بالماء باللبن, فهذا الخلط المنكر يجل على من يراه أن يحتسب بمنعه, أما بعد تمامه فلا حسبة فيه لاستحالة منعه بعد أن وقع. لكن حيازة اللبن المغشوش بقصد بيعه منكر آخر يتعين منعه, والحسبة فيه واجبة على من يراه, وكذلك عرض هذا اللبن للبيع ونفس بيعه. فهذه كلها منكرات توالت وفاعلها واحد, وانقضاء أحدها لا يمنع الاحتساب فى غيره. وكذلك الشأن فيمن يسرق مالا من غيره, فالسرقة منكر يجب الاحتساب فيه بمنعه, فإذا وقع كانت حيازة المسروق منكرا آخر يتعين منعه, والاحتساب فيه ــ باسترداد المسروق وإعادته إلى ربه ــ لا يعتبر احتساباً فمنكر السرقة الذى انصرم بل فى منكر الحيازة القائم. وبهذا يزول اللبس وتسلم القاعدة العامة, وهى أن الحسبة لا تكون إلا فى منكر قائم لا فى منكر منصرم.

الشرط الثانى : ظهور المنكر :

يشترط الفقهاء فى المنكر الموجب للحسبة أن يكون ظاهراً. وهذا الشرط مطلوب لا لعلة فى المنكر تجعله قميناً بالمنع, فكل منكر واجب المنع بحسب الأصل سواء كان ظاهراً أو مستتراً. وإنما الظهور شرط أملته قواعد الشرع التى تصون الحياة الخاصة وتجعل انتهاك حرمتها منكرا بل إثما كبيراً. وقد وازن الفقهاء بين مصلحة الجماعة فى تعقب كل منكر ودفعه ومصلحتها فى صيانة الحياة الخاصة إذا كان الكشف عن المنكر فيه هتك لحرمتها ثم رجحوا الثانية على الأولى فاشترطوا الظهور فى المنكر الموجب للحسبة تأكيدا لما هو معلوم من أم الغاية فى الإِسلام لا تبرر الوسيلة. ويقول الغزالى تعليلا لهذا الشرط : أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته(37). والأمر الذى عناه الغزالى مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام (( من أتى شيئاً من هذه القاذورات فليستتر الله, فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه )). فهذا الحديث يفيد الأمر ضمنا بعدم هتك الأستار كشفا عما يرتكب من منكرات.

معنى الظهور :

ليس المراد بظهور المنكر ذيوعه وشيوعه أو افتضاح أمره بالنسبة للكافة, بل المراد تمكن الغير من شهوده ولو كان الغير واحداً. فمن دخل بيتا بإذن صاحبه فرآه على منكر فإن شرط الظهور يكون متحققا وتكون الحسبة عندئذ واجبة(38).

ومناط الظهور هو إدراك الغير للمنكر إدراكا مباشراً. ولا يتخصص هذا الإِدراك بطريق معينة, بل كل ما يؤدى إليه معتبر. وتتسع طرائق الإِدراك للحواس الخمس, وهى السمع والبصر واللمس والشم والذوق. ويختلف إدراك والذوق. ويختلف إدراك المنكر باختلاف طبيعته وحاله فمن المنكرات مايُدرك بحاسة معينة ومنها مايدرك بغيرها, ومنها مايدرك بحاسة فى حال وبأخر فى حال, ومنها مايدرك بأكثر من حاسة فى ذات الحال. وكل الحواس فى هذا المقام سواء لأن كلا منها يؤدى إلى الإِدراك وهو مناط الظهور.

ولا يلزم فى الإِدراك أو العلم الذى يتوفر به شرط الظهور أن يبلغ حد اليقين, بل يكفى لذلك غالب الظن, والضابط فيه مجرى العادات, فيخرج بذلك مطلق الظن كنا يخرج الشك. والشك هو استواء طرف العلم بالشىء والجهل به, أما الظن فهو رجحان طرف العلم بغير دليل أو بدليل فاسد. ويرى الغزالى تطبيقات لذلك أنه إذا رأى فاسق وتحت ذيله شىء فإن فسقه لا يدل عل أن الذى معه خمر, إذ الفاسق محتاج أيضاً إلى الخلّ وفيره, ومن المحتمل أن يكون ما معه حلّا أو غيره, فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان خلّا لما أخفاه, لأن الأغراض فى الإِخقاء مما تكثر(39). ولهذا فإنه يتعين لظهور المنكر أن يكون هناك دليل أو أمارة يتحقق به العلم القاطع أو الظن الغالب.

والعلم القاطع بقيام المنكر يحققه الإِدراك الحسى الكامل له, أما الظن الغالب فيثمره الإِدراك الحسى فى شق. والاستدلال العقلى فى شق. ومن أمثلة العلم القاطع أن يرى الشخص رجلا قد أوثق غيره وهمَّ بقتله, أو يسمع من يقذف غيره أو يسبه, أو يشم رائحة الخمر تنبعث من كأس يراها أمام غيره, فهذا إدراك حسى كامل للمنكر لا يقتضى استدلالاً عقليا للتيقن من وقوعه. ومن أمثلة الظن الغالب أن يلمح شخصا يعدو وبين يديه طفل وامرأة تعدو فى أثره وتستغيث بالناس ليردوا عليها طفلها, فهذه واقعة لا يقطع الحس وحده بأنها منكر لاحتمال أن يكون طفله, لكن الحس والاستدلال العقلى السليم معا يسمحان باعتبارها منكرا فى غالب الظن.

محل الظهور :

الظهور وصف يتعلق بالمنكر ذاته لا بمرتكبه, فإذا ظهر المنكر وجبت الحسبة فيه سواء كان مرتكبه معلوما أو غير معلوم(40). ولهذا تجب الحسبة على من عثر فى الصلاة على مخدر مخبوء, كما تجب على من رأى طفلا مخطوفا محبوسا فى منزل مهجور أو على آلة تصوير مخبوءة فى مكان خفى لرصد أوضاع جيش المسلمين. ولا تتوقف الحسبة فى هذه الأحوال على ظهور الفاعل نفسه ولا على معرفته, إذ هى تتحه أساساً إلى المنكر بقصد منعه لا إلى الفاعل بقصد عقابه, وإذ اتجهت إلى الفاعل فى بعض الأحيان فإن ذلك لا يكون مقصودا لذاته, بل باعتباره لازما لدفع المنكر, فإذا أمكن دفعه دون التعرض لفاعله لم يجز التعرض له.

وظهور المنكر يقتضى ظهور كل ما يتحقق به وجوده, فلا يكفى أن يظهر السلوك وهو ركن المنكر, بل يجب كذلك أن تظهر شروطه التى يتوقف عليها وجوده, سواء كانت شروطا إيجابية يلزم وجودها لوجوده أو سلبية يلزم عدمها لوجوده, وهذه هى الموانع. ذلك بأن السلوك قد يكون ظاهرا وبعض تلك الشروط غير ظاهر فيكون المنكر غير ظاهر فى الجملة. وهذا يعنى أن الظهور لا يقصد به ظهور السلوك وحده, بل ظهور كونه منكرا.

وضابط الظهور عندنا لا يختلف سواء تعلق الأمر بركن المنكر ــ وهو السلوك ــ أو بشروطه أو موانعه, فلا بد أن يبلغ العلم بكل منها حد اليقين أو الظن الغالب فى الأقل. غير أن بعض الفقهاء يعتدُون بما دون ذلك بالنسبة للمانع. زمؤدى رأيهم أن الشك فيه أو الظن بوجوده يحول دون ظهور المنكر ويمنع بالتالى من الحسبة فيه.

فقد ذكر المارودى أن من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الآذان والإِقامة لصلاته فلا اعترض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة والفاً, لأنها من الندب الذى يسقط بالعذر إلا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفا وعادة(41). وذكر شيخنا على الخفيف أنه ليس يتوجه المحتسب باحتسابه إلى شخص لاحظ أنه لم يصل الجمعة أو العيد لأن ترك ذلك قد يكون لعذر مبيح لهذا شرعا(42). وهذا الرأى فيما نرى محل نظر, لأن المنكر إذا ظهر فعله وشروطه فقد ظهر كونه منكرا, ولا ينتفى الظهور باحتمال وجود المانع لأن الأصل عدمه, فعدمه ظاهر بحسب الأصل ولذلك فإن احتماله لا يقدح(43). أما إذا ظهر ما يعارض هذا الأصل أو كان المعارض معلوما على سبيل القطع أو فى غالب الظن فهنا فقط يكون المنكر غير ظاهر بل غير قائم. ومن قبيل ذلك أن يرى بالشخص زمانة تقعده عن السعى إلى مكتن المسجد أو يكون معهودا صلاحه بحيث يغلب على الظن أن امتناعه عن صلاة الجماعة أو العيد إنما هو لعذر حابس.

نسبية الظهور :

ظهور المنكر دو طبيعة مزدوجة, فهو ليس شرطا موضوعيا خالصا, ولكنه شرط موضوعى وشخصى معاً. وعلة ذلك أن للظهور طرفين : أمر يظهر وشخص يتحقق له الظهور, ولا يلزم من ظهور المنكر لشخص أن يكون ظاهرا لكل شخص؛ فقد يظهر لواحد ويخفى عن غيره. ومن هنا كانت نسبية الظهور؛ فهو يثبت لمن أدرك المنكر دون سواه, وهذا الشخص وحده هو الذى تلزمه الحسبة, أما غيره فلا تجب عليه. ولا تندب له.

وليس المراد بالإِدراك الذى هو مناط الظهور مطلق العلم بقيام المنكر, وإنما المراد به الإِدراك المباشر عن طريق إحدى الحواس. أما العلم المكتسب بالتلقى عن الغير فلا يعدُّ إدراكا مباشراً ولا يتحقق به شرط الظهور(44). ولا يختلف الأمر عندنا ولو كان الغير من الثقاة العدول. ومع ذلك فالغزالى يرى أن المحتسب إذا أخبره عدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلانا يشرب الخمر فى داره وبأن فى داره خمراً أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزمه الاستئذان, ويكون تخطّى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر(45).

وهذا الرأى فيه نظر, لا من جهة أن للدار فى هذا المثال حرمة مطلقة يمتنع على ولى الأمر بسببها أن يدخلها بدون استئذان, بل من جهة اعتبار هذا الدخول من صميم الحسبة. فالحسبة لم تجب لدفع المنكر مطلقا بل لدفع المنكر الظاهر فقط, فإذا كان المنكر غير ظاهر لأحد فلا حسبة فيه أصلاً, وإذا ظهر للبعض لزمت الحسبة هذا البعض, أما من لم يظهر له المنكر فلا يجوز له أن يحتسب ولو أخبره عدلان بظهور المنكر. ولا يعترض بأنه إذا كانت الحدود نفسها ــ فيما عدا الزنا ــ تثبت بشهادة العدلين فكيف لا يثبت ظهور المنكر بشهادتهما, فهذا الاعتراض مردود بأن هناك فرقاً بين ثبوت المنكر وظهوره. فلو كان المراد عقاب فاعله لأجزأ فى ذلك العدلان لأن شهادتهما تكفى شرعاً لثبوته, أما إذا كان المراد الاحتساب على فاعل المنكر فالعدلان لا يكفيان لأن شهادتهما وإن حققت ثبوت المنكر فإنها لا تحقق ظهوره للغير. وقد ذكرنا من قبل أن الحسبة لا تجب على كل الناس لمجرد ظهور المنكر لبعضهم, بل تجب فقط على من ظهر له المنكر من بينهم, وشهادة العدلين لا تغير من طبيعة الأشياء, لأن الإِدراك لا يستعار. والقاعدة أنه إذا كان القاضى ممنوعا من القضاء بعلم نفسه فالمحتسب على خلافه ممنوع من الاحتساب بعلم غيره, لأن الأول يقضى بناء على الثبوت. والثانى يحتسب بناء على الظهور. على أن ذلك لا يقتضى حظر دخول المساكن مطلقا بشهادة العدلين إذا ما شهدا بوقوع منكر فيها, بل يصح دخولها بشروط تختلف باختلاف الحال. ومن هذه الشروط ما يتصل بمن له حق الدخول, ومنها ما يتصل بسبب الدخول وليس فى شرع بيان مفصل لتلك الشروط, وإنما يحددها ولى الأمر باجتهاده فى ضوء القواعد الكلية, وعلى رأسها أنه إذا تعارضت مصلحتان حُصلت أعلاهما وإن فاتت الدنيا, وإذا تعارضت مفسدتان دفعت أعلاهما إن وقعت الدنيا. وإذا كان المنكر غير ظاهر للمحتسب المنصّب وقام من الأسباب مع ذلك ما يقتضى دخول المسكن فإن ذلك لا يكون بقصد منع المنكر أساساً ــ لأنه غير ظاهر للداخل وإن كان معلوما له بشهادة غيره ــ بل يكون بقصد كشفه, فإذا اكتشفه كان له أن يحتسب بمنعه. فالحاصل أن العلم بوقوع المنكر ولو كان من ثقة لا يعد ظهورا للمنكر, لأن الظهور لا يتحقق إلا بالإِدراك الحسى. ولذلك فالعالم بمجرده لا يوجب الحسبة, أى منع المنكر(46), ولكنه يبرر السعى للتحقق من قيامه, وذلك غير مسموح به لكل أحد ولا هو مطلق بغير قيد. وعلى أى حال فالسعى لكشف المنكر ــ حتى عند جوازه ــ ليس من صميم الحسبة, ولكنه إجراء حقق أحد شروطها وهو الظهور, ولنا عودة إلى هذا الموضوع بعد قليل.

وقت الظهور :

الأصل أن الوقت الذى يعتد به فى ظهور المنكر هو الوقت الذى يراد فيه الاحتساب, فإذا ظهر المنكر فلم يحتسب فيه أحد حتى انصرف فالمتفق عليه أن الحسبة فيه لا تجوز بعد انصرامه. لكن الأمر يدق حين يظهر المنكر ثم يحتجب قبل أن يحتسب على فاعله, فهل يمتنع الاحتساب بعد الاحتجاب بناء على أن المنكر لم يعد ظاهراً والظهور شرط الوجوب, أو يثبت الاحتساب رغم الاحتجاب بناء على أنه مادام المنكر قد ظهر فإن الاحتساب فيه يكون قد وجب ويظل الوجوب قائما حتى وإن لم يعد المنكر ظاهراً ؟.

الرأى عندنا أن الظهور شرط لوجوب الحسبة لا لاستمرار وجوبها؛ فالوجوب يتوقف على الظهور ولكنه لا يدور معه. وعلة ما نراه أن المنكر من حيث هو منكر واجب المنع فى كل حال باعتباره مفسدة, سواء كان ظاهرا أو مستترا, وإنما جعل الظهور شرطاً لوجوب الحسبة من أجل حرمة الحياة الخاصة لآحاد الناس. فإذا ما أطلّ المنكر بعنقه وبدت للغير صفحته دون أن تهتك أستار هذه الحرمة فقد تحقق موجب منعه, ولا يرتفع الوجوب بعد ثبوته باحتجاب المنكر وإنما يرتفع بارتفاعه. يؤكد ذلك أن الحسبة لم تشرع بقصد حمل الناس على ستر المنكر بل شرعت لمنعه. ولو صح أنها شرعت لستره لساغ القول بدوران الوجوب فيها مع ظهور المنكر, أما وقد شرعت لمنعه فإن المنع يكون متعينا متى ظهر المنكر, سواء ظل ظاهرا أو احتجب, لأن الظهور شرط فى الموجب وليس هو عين الموجب(47).

ويترتب على ذلك أن من شوهد بين يديه خمر أو مخدر وجب الاحتساب عليه ولو دس ما معه فى طيات ثوبه, ويجب الاحتساب كذلك على من خطف طفلا أو الًا لغيره ثم شوهد وهو به حتى اختفى فى بيته.

وخلاصة ما تقدم أن احتجاب المنكر بعد ظهوره ليس له حكم زواله, فهو لا يحول دون الحسبة فيه. ولا وجه للقول بأن الحسبة قد تؤدى إلى هتك الأستار وهو مايخطور بإطلاق, وإنما المحظور هو هتك الذى يتخذ ذريعة للكشف عن منكر غير ظاهر لأنه مفسدة مؤكدة من أجل مصلحة مظنونة. أما بعد الظهور المنكر فالأمر يختلف لأن الهتك ــ إذا اقتضته الاحتساب ــ لا يقع من أجل الكشف عن المنكر, بل تعقبا له بعد ظهوره وبقصد منعه, وتلك مصلحة مؤكدة.

ظهور المنكر واستظهاره :

ظهور المنكر إما أن يكون تلقائيا أو غير تلقائى. يكون تلقائيا إذا تعمد الفاعل الجهر بمنكره أو لم يحتط لستره وكتمانه فوقع تحت حس الغير وإدراكه, وتلك هى الصورة المثلى للظهور ومن قبيلهقذف وتحميل البهيمة فوق ما تطيق. غير أن المنكر قد يقع فى غير علن لكنه لظروف خاصة يظهر للغير, وهما يدق الأمر : فهل العبرة فى وجوب الحسبة بظهور المنكر مطلقا بغض النظر عن سبب ظهوره وعن موقف فاعله, أو يشترط لوجوبها أن يكون الفاعل مجاهرا بمنكره أو فى الأقل غير مبال خفى المنكر أو ظهر بحيث تمتنع الحسبة لو تبين أنه كان حريصا على ستره ؟.

السائد عند جمهور الفقهاء أن من ستر منكرا فليس لأحد أن يهتك ستره مالم يعلم ذلك عن ثقة وبشرط أن يكون فى المنكر انتهاك لحرمة يفوت استدراكها, كأن يخبر من يوثق بصدقه أن رجلا خلا برجل فى بيته ليقتله أو بامرأه ليزنى بها, ففى هذه الحال يصح كشف المنكر ومنعه حذورا من فوات مالا يستدرك من ارتكاب المحظورات(48).

وهذا القول فيه إجمال لا يغنى عن التفصيل لأن أسباب الظهور ــ رغم حرص الفاعل على ستر منكره ــ كثيرة؛ فقد يقع الظهور عرضا لسبب يرجع إلى الفاعل نفسه أو إلى غيره أو إلى ظرف خارج عن كليهما. وقد يكون الظهور متعمدا من جانب الغير بفعل مقصود به كشف المنكر, فهل يصح قول ــ مع تعدد الفروض واختلافها ــ بوجوب الحسبة فى كل الأحوال أو يقتصر الوجوب على بعضها ؟

والأمر الذى لا خلاف فيه أن الحسبة تكون واجبة إذا ظهر المنكر على يد فاعله سواء كان ذلك مقصودا أو غير مقصود من جانبه. فمن عثرت قدمه أثناء سيره فسقطت حقيبة من يده وتنائر ما فيها واتضح أنها مواد مخدرة كانت الحسبة عليه واجبة. ولا خلاف كذلك فى وجوب الحسبة إذا كان ظهور المنكر ناشئا عن قوة قاهرة كمن وضع حقيبة على ظهر سيارة ثم أسرع بها فاشتدت الريح فطوحت بها فسقطت على الأرض وبان ما فيها من مواد مخدرة, فالحسبة فى هذه الحالة أيضا تكون واجبة.

أما إذا كان المنكر قد ظهر بفعل من جانب الغير فالقاعدة أنه إذا كان لم يقصد بفعله كشف المنكر ولكن الفعل مع ذلك أظهره فإن الحسبة تكون واجبة على من كان سببا فى ظهور المنكر وعلى غيره ممن ظهر المنكر له. فمن كان فى عجلة من أمره فاصطدم فى أثناء سيره بشخص يحمل حقيبة فوقعت من يده وتبعثرت محتوياتها فشاهد بينها زجاجات خمر أو صورا خليعة أو أوراق نقد مزورة وجب عليه أن يحتسب, ووجب ذلك أيضاً على كل من رأى شيئا من ذلك. بل إن الحكم لا يختلف ولو كان كشف المنكر وليد عمل غير مشروع؛ فمن تسلل ليلا إلى بيت غيره ليسرق بعض متاعه ففوجىء به عاكفا على تقطير خمر أو على تزييف نقد أو مختليا بأجنبية ليزنى بها فإن عليه أن يحتسب وأن يكفه عن المنكره. وإذا اغتصب أحد اللصوص محل قصاب وسرق بعض ما فيه ثم مر بعض الناس فرأوا فى داخل المكان ذبيحة محرمة كخنزير أو كلب كان عليهم أن يحتسبوا على صاحب المكان.

أما إذا كان الغير قد تعمد كشف المنكر وانتهى الأمر بكشفه ورآه آخر فلا خلاف فى وجوب الحسبة عليه, إذ لا يسقط الواجب عن شخص بفعل غيره ولو ساء قصده لأنه أمام منكر ظهر فعليه منعه, وأما من هتك الستر ليكشف المنكر فأمره يحتمل الخلاف :

فقد يقال بأنه لا ينبغى له أن يحتسب لأن فقهاء الحسبة مجمعون على أنه ليس للمحتسب أن يتجسس عن المنكرات ولا أن يهتك الأستار حذرا من الاستتار بها لقوله عليه الصلاة والسلام : (( متى أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله )). فأمره الفاعل المنكر ــ إن كان لا محالة فاعلاً ــ بالاستتار هو فى الوقت نفسه نهى عن هتك الأستار. ويؤكد ذلك أن نصح الفاعل بالاستتار ضرب من ضروب الاحتساب, فلا يجوز للمحتسب من باب أولى أن يخرج الفاعل من ستر ربه وأن يعلن منكرا أخفاه عن غيره وإلا كان هذا الفعل منه منكرا يحتسب عليه فيه. وقد يحتج لذلك بما روى أن عمر رضى الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال : يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه, فقال : وما هى ؟ فقال : قد قال الله تعالى (ولاتجسسوا) وقد تجسست, وقال تعالى : (وأتو البيوت من أبوابها) وقد تسورت من السطح, وقال (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وما سلمت, فتركته عمر وشرط عليه التوبة. وقد يقال إن تكلف إظهار المنكر واتخاذ الوسائل غير المشروعة إليه يجب أن يكون مانعاً من الحسبة, لأن التوسل بالحرام لا يصلح سبيلا لما أوجبه الشرع فوجب أن تمنع الحسبة سدا للذرائع وصوناً للحرمات.

غير أننا لا نأخذ بهذا الرأى ونرجح عكسه, لأنه لا يلزم من عدم مشروعية إظهار المنكر عدم مشروعية الحسبة فيه. فالحسبة ليست حقا للمحتسب بل هى واجب عليه, وهى إنما وجبت لحق الله لا لحظ المحتسب, ولا يسقط الواجب عنه عند قيام سببه بسوء فعله ولا بسوء قصد. ولا شك أنه بتعمد هتك الستر وكشف المنكر آثم, وفعله قبل تمامه يوجب التعزير لنفس العلة. لكن ذلك لا ينفى أن فعل الآخر منكر وأنه قد ظهر, وفى هذا ما يكفى لوجوب الحسبة فيه لا على الذين ظهر لهم المنكر ولم يكن لهم دخل فى ظهوره فحسب, بل وعلى من تعمد إظهار المنكر أيضاً. وقد أسرف قوم. فقالوا ليس للفاسق أن يحتسب, وتعلقوا فى ذلك بظاهر بعض الآيات, وزعموا أن كل مقدم على شىء فليس له أن يمنع مثله ولا مادونه وإنما يمنع ما فوقه. وقد رد الغزالى على هذا القول وفنده وقرر أن العدالة ليست شرطا فى المحتسب(49).

أما الأثر المروى عن عمر فلا حجة فيه, لأنه وإن كان قد اعتذر عن تعدّيه على حق المسلم إلا أنه مع ذلك احتسب حيث شرط عليه التوبة, وقد رآها خير احتساب لما بان له من حال الرجل وأنه فقيه حافظ فاختار له من وجوه الحسبة ما يناسب حاله وهو الوعظ. أما الذى تركه عمر فى هذه الواقعة فهو العقوبة, وتلك قضية أخرى. لا مدخل لها فيما نحن فيه.

وحاصل ما تقدم أن مدار الحسبة على ظهور المنكر, فحيثما ظهر وجبت بصرف النظر عن الكيفية التى ظهر بها المنكر, كما أن الحسبة تجب على كل من ظهر له المنكر سواء كان له دخل فى ظهوره أو لم يكن, وسواء كان عاصيا بإظهاره أو غير عاص.

جواز استظهار المنكر استثناءً :

استظهار المنكر وإن محظورا بحسب الأصل إلا أنه يباح إذا اقتضاه واجب. وبندر أن يكون هذا الواجب عاما لما ينطوى عليه من هتك للحرمات, وإنما هو فى أغلب أحواله خاص. وخصوصه من وجهين : من حيث من يتحمل به ومن حيث ما يحمله : أما من يتحمل به فأشخاص معينون هم فى العادة أعوان السلطات, وأما مايجب على كل منهم فينحصر فى دائرة محددة يعينها ولى الأمر. والأصل فى ذلك أن ولى الأمر مسئول عن تطبيق أحكام الشرع فى أرجاء الدولة المسلمة, وهو لا يقوى على ذلك بمفرده فكان لا بد له من أعوان يحملون عنه بعض ما يحمله.

ولما كانت مجالات الحياة كثيرة ومتشعبة فقد اقتضى حسن التنظيم إسناد كل مجال لطائفة وتحديد مايُعهد به لكل فرد من أفرادها. ومن هؤلاء من يدخل فى اختصاصهم استظهار بعض المنكرات. وإيضاحا لذلك نضرب أمثلة : ففى مجال التجارة يلزم ولى الأمر بضمان نزاهة المعاملات, وهذا يقتضى ضبط الموازين والمكاييل ومنع التجار من احتكار السلع أو بيع مالا يحل بيعه, وسبيله إلى ذلك أن يدخل أعوانه محال التجار وأن يتحققوا من التزامهم بما هو واجب عليهم. وفى مجال الصحة يلزم ولى الأمر بكفالة الأسباب التى تحفظ على الناس صحتهم, وسبيله إلى ذلك أن يتحقق أعوانه من سلامة ما يباع للناس من أطعمة وأشربة أو مطالبة من يتصل عملهم بها بتقديم ما يثبت جدارتهم بإنتاجها أو صنعها أو بيعها, وقد يقتضى كذلك التحقق من استيفاء القائمين بعلاج الناس للشروط اللازمة لممارسة هذه المهنة. ولا يخلو كل ذلك من تقييد لحريات الآخرين وكشف لأمور يعدونها من أسرارهم. وكان الأصل أن تصان حريات الناس وأسرارهم لولا أن ولى الأمر أوجب ما أوجب فى حدود ما هو مخول له شرعاً. ولما كنا بصدد استثناء فإنه ينبغى استيفاء شروطه, ومنها أن يكون القائم باستظهار المنكر ذا الصفة وأن يلزم حدوده, فلا يجوز لغيره أن يقوم بعمله ولا يجوز له هو نفسه أن يباشر ما عهد به ولى الأمر إلى غيره إلا كان ذلك تجسسا محظورا فإذا التزم أعوان ولى الأمر حدودهم فكشفوا عن منكر صح كشفهم ووجبت الحسبة فيه عليهم.

استظهار المنكر لا يعد من الحسبة :

استظهار المنكر فى الأحوال التى يصح فيها اللجوء إليه لا يعد من أعمال الحسبة, لأن استظهاره يؤدى إلى ظهوره, وظهوره شرط لوجوب الحسبة. ولو صح أن استظهار المنكر من أعمال الحسبة لكان ذلك تسليماً بوجوبها قبل أن يتحقق شرطها, وهو ممتنع.

غير أن لبعض فقهاء الحسبة أقوالًا توهم بغير ذلك, فقد ذكر الماوردى أنه إن غلب على الظن استسرار قوم بالمنكر لأمارات دلت آثار ظهرت فذلك ضربان : أحدهما أن يكون فى ذلك انتهاك لحرمة يفوت استدراكها, مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا بامرأة ليزنى بها أو برجل ليقتله فيجوز له فى مثل هذه الحالة أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذراً من فوات مالا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات, وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإِقدام على الكشف والبحث فى ذلك والإِنكار(50). وجاء فى معالم القربة فيها يجب على المحتسب فعله ما يلى : ينبغى أن يكون ملازما للأسواق يركب فى كل وقت ويدور على السوقة والباعة ويكشف الدكاكين والطرقات, ويتفقد الموازين والأرطال, ويتفقد معايشهم وأطعمتهم وما يغشونه, ويفعل ذلك فى النهار والليل فى أوقات مختلفة, وذلك على غفلة منهم, ويختم فى الليل حوانيت من لا يتمكن من الكشف عليها بالنهار(51). وهذا يعنى أن عمل المحتسب ــ فى التطبيق العملى ــ لم يكن يقتصر على منع المنكرات التى تظهر له, بل كان من عمله كذلك السعى للكشف عن بعض ما استتر منها, فإذا ما ثبت له وقوعها قام بمنعها.

والصحيح عندنا أن استظهار المنكر لا يدخل فى عمل المحتسب بوصفه محتسباً. وإذا كان الفقهاء الحسبة وكذلك التطبيق العلى لها فيما سلف من عهود قد أسْند للمحتسب مهمة الكشف عن بعض المنكرات, وعلى الأخص ما كانت الأسواق مسرحها, فذلك لا يقدح فى صحة الأصل الذى قررناه, وهو أن العمل الحقيقى للمحتسب ينحصر فى منع المنكر إذا ظهر, وليس له الكشف عما استتر. وإنما الكشف من سلطات ولى الأمر بوصفه مشئولاً عن تطبيق أحكام الشرع وتحقيق مقاصده, ومنها تحرى الفساد فى مظانه, وهذا إنما يكون ولى الأمر وحده لما يقتضيه غالبا من تقييد لحريات الآخرين وحقوقهم. ولو صح أن استظهار المنكر من صميم الحسبة لجاز لكل أحد أن يجوب الأسواق وأن يدور على الصناع والتجار وأهل الحرف وأن يقتحم مصانعهم ومتاجرهم ومقار عملهم فى أى وقت ليتفقد موازينهم ومكاييلهم وسائر أدوات عملهم ويفحص ما يصنعون وما يبيعون وكيف يعلمون, وهذا ما لم يقل به أحد, فدل على أن ذلك ليس من صميم الحسبة وإنما هو من خصائص ولى الأمر وحده. وإذا كان المحتسب المنصب يباشر هذه الأعمال فذلك لا يحجب حقيقتها, فهى ليست من صميم الحسبة وإن كان العمل قد جرى فيما مضى على أن يعهد ولى الأمر بها إلى المحتسب عند توليته, فإذا لم يعهد بها إليه وجرده منها لم يكن له أن يباشرها, ولا يكون له من أمر الحسبة إلا ما يكون لغيره من الآحاد وهو منع المنكر الظاهر فقط.

أما القول بجواز التجسس والكشف إذا أخبر من يوثق بصدقه بوقوع منكر فيه انتهاك لحرمة يفوت استدراكها فلا نسلم به لكل أحد بل نقصره على ولى الأمر وحده أو على من عهد له بذلك, لأنه أقدر على معرفة طبيعة المنكر وعلى تقدير مدى جدية التهمة وصدق المبلغ, وهو أقدر كذلك على اختيار وسيلة الهجوم ومداه, كما أن تدخله أكثر ضماناً لحفظ الأمن ومنع الفتنة. أما (( المتطوعة )). فلا نرى لهم فى ذلك حقا, فليس لهم أن يهجموا على البيوت أو ينتهكوا المحارم كشفاً عن منكر بلغهم أمره عن طريق الرواية أيا كان الراوى, فاسقا أو عدلا. ذلك أن هجومهم هذا إما أن يكون حسبة أو لا يكون, وهو ليس من الحسبة قطعاً لأن شرطها ظهور المنكر وليس بظاهر, بل المراد استظهاره. وإذا لم يكن الهجوم من الحسبة فلا بد من سند لتقريره, فإن لم يكن ثم مسند نمحض عدوانا على حقين : حق الفرد فى حرمة مسكنه وحق ولى الأمر فى الانفراد على وفق شروطه بكشف المنكرات غير الظاهرة.

الشرط الثالث : كون المنكر معلوما بغير اجتهاد :

فقهاء الحسبة على أن كل ما هو فى محل الاجتهاد فلا حسبة فيه لأن الأصل ــ وفقا لما يرجحه الأصوليون ــ إن كل مجتهد معيب, ولا يكون الفعل صوابا ومنكرا فى آن واحد لما فى ذلك من تناقض. ولو قيل بصحة الاحتساب على من أدى به اجتهاد إلى حل فعله بدعوى أن الفعل منكر فى رأى من يحتسب لوجوب القول كذلك بصحة احتساب الأول على الثانى إذا رآه يسلك على خلاف اجتهاد لأن ذلك بدوره منكر فى رأيه, وبهذا يصير كل مجتهد فيه منكرا؛ وهو فى غاية الشذوذ. ومن هنا كان الإِجماع على أن ما اختلف الفقهاء فى حظره وإباحته فلا حسبة فيه(52).

غير أن الحسبة لا تمتنع بكل اختلاف, بل بالاختلاف الذى يعتد به ممن يعتد  به؛ فلا غبرة باختلاف من لم يبلغ رتبة الاجتهاد, فهذا ليس اختلافا فى الرأى بل اجتراء على الدين لا يؤبه به, ولا عبرة كذلك بالخلاف الضعيف إذا كان ذريعة لمحظور متفق عليه كزواج المتهة(53).

ومحل الاجتهاد هو المسائل التى تخلو من نص قطعى الثبوت والدلالة ولم ينعقد عليها إجماع وهذا الاجتهاد هو ما يعرفه الأصوليون ويفصلون أحكامه. غير أن فقهاء الحسبة يهتمون كذلك بنوع آخر من الاجتهاد يطلقون عليه اسم الاجتهاد الشرعى من حيث الحكم فى باب الحسبة.

· الاجتهاد الشرعى :

يقصد بهذا الاجتهاد طلب العلم بحكم الشرع فيما ليس عليه دليل قطعى. والأصل أنه ليس للمستحب أن يحمل الناس على رأيه فى المجتهدات, لأن اعتقاده بصوب رأيه إنما يوجب عليه به لكنه لا يخوله الحق فى حمل الآخرين على العمل به وترك ما يعتقدون أنه صواب بدورهم. ولهذا يقول الغزالى : ليس للحنفى أن ينكر على الشافعى أكل الضّب والضبع ومتروك التسمية (وهى الذبحية التى لم يذكر عليها اسم الله), ولا للشافعى أن ينكر على الحفنى شرب النبيذ الذى ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوى الأرحام وجلوسه فى دار أخذها بشفعة الجوار, إلى غير ذلك من مجارى الاجتهاد(54).

غير أن الأمر يدور حين يسلك البعض على خلاف مذهبه, كأن يشرب الشافعى النبيذ أو ينكح بلا ولى ويطأ زوجته أو يسكن دارا أخذها بشفعة الجوار. ووجه الدقه أن فعل الفاعل وإن كان فى محل الاجتهاد إلا أنه مخالف لمذهبه. ويزداد الأمر دقة إذا كان الفعل الذى خالف به الفاعل مذهبه قد جاء على وفاق مذهب المحتسب. فهل يمتنع الاحتساب فى الأحوال السابقة على أساس أن الفعل داخل فى محل الاجتهاد, أو يحتسب فيه اعتباراً بأنه منكر فى حق فاعله, أو لا يحتسب إلا إذا كان منكرا فى حق الفاعل والمحتسب معاً. عرض الغزالى لهذه المسألة وذكر أن من الفقهاء من ذهل المذهب الأول فلم يجروا الحسبة إلا فى منكر معلوم على القطع كالخمر والخنزير, أما ما هو فى محل الاجتهاد فلا احتساب فيه ولو كان الفعل مخالفا لمذهب الفاعل ومذهب المحتسب معاً. غير أن الغزالى يرجح الاحتساب إذا كان المعترض عليه منكرا باتفاق الفاعل والمحتسب وإن لم يكن كذلك عند غيرهما, ولهذا فالأظهر عنده أن الشافعى إذا رأى شافعيا يشرب النبيذ وينكح بلا ولى ويطأ زوجته فإن الحسبة والإِنكار عليه. أما إذا كان الفعل مباحاً فى مذهب المحتسب فليس له أن ينكر على فاعله ولو كان منكرا فى مذهبه ولهذا فليس للحنفى أن يعترض على الشافعى فى النكاح بلا ولى(55).

ورأى الغزالى فى هذه المسألة محل نظر من وجهين : من حيث التفرقة التى قال بها أولا, ومن حيث أساس رأيه ثانياً. فأما التفرقة فلا محل لها, بل هى على خلاف الأصل الذى قدم به لرأيه, وهو أن ما ليس بمنكر عند الله فلا يمنع منه ولو كام منكرا عند الفاعل نفسه فهذا الأصل كان يقتضى من الغزالى ــ وقد نفى عن عمل الشخص بغير مذهبه وصف المنكر ــ أن يلتزم موقفاً واحداً سواء اختلف مذهب الفاعل عن مذهب المحتسب أو وافقه, لأن اتفاقهما فى المذهب لا يحيل ما ليس بمنكر عند الله منكرا. وهكذا فإن مقدمة الغزالى تنتهى به حتما إلى ما انتهى إليه القائلون بأن الحسبة لا تكون إلا فى معلوم على القطع.

أما أساس الرأى فلا نقره, فقد ظن الغزالى ــ وهو الفقيه الأصولى الفحل ــ أنه مادام كل مجتهد مصيبا فكل ماصادف قول مجتهد حلال, وهذا غير صحيح بإطلاق. فقد ذهب محققوا المصوبة ــ ومذهبهم هو اختيار الغزالى ــ إلى أنه ليس فى الواقعة التى لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن, وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه(56), وهذا يقتضى لحلية فعل الفاعل فى المجتهدات أن يوافق عمله ظن نفسه لا ظن غيره, فإن خالف فعله ظن نفسه فقد أتى ــ فى نظر المسلمين ــ ما يخالف حكم الله فى حقه, وذلك هو المنكر. ولا يدرأ عن فعله هذا الوصف أن يكون حلالاً من غيره, لأن المعوّل عليه ليس موافقة الفعل لقول مجتهد بل لظن المجتهد أو المقلد نفسه, وتلك سمة خاصة تنفرد بها هذه الطائفة من المنكرات. وقد صرح الغزالى نفسه بأن الاجتهاد يؤثر فى حق المجتهد, إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد فى القبلة ويعترف بظهورها عنده فى جهةٍ بالدلالات الظنية ثم يستدبرها ولا يمنع لأجل ظن غيره أن الاستدبار هو الصواب(57). وينبنى على ذلك أنه إذا شرب الشافعى النبيذ أو نكح بلا ولى مع اعتقاده بعدم حلّية ذلك فإن فعله يكون منكرا موجبا للحسبة ويصح الاحتساب عليه من كل أحد, شافعيا كان أو غير شافعى, لأن ما وقع منه يعد منكرا فى نظر نفسه, وهو كذلك فى نظر المسلمين فيما يخصه.

اما بالنسبة إليه فالأمر واضح لأن هذا رأيه حسما أدى إليه اجتهاده, وأما بالنسبة إلى المسلمين فلأن حكم الفعل عندهم هو عين ظن الفاعل فيه مادام الفعل من المجتهدات.

ونخلص مما سبق إلى أنه وإن كان الأصل فى المنكر الموجب للحسبة أن يكون معلوماً بغير اجتهاد إلا أن الحسبة تصح كذلك على من عمل بخلاف مذهبه إذا كانت الواقعة فى محل الاجتهاد وكان الفاعل لم يعدل بعد عن مذهبه إلى مذهب آخر يوافق فعله, بل كان مصرا على أن اجتهاد مذهبه هو الصواب, وفى هذه الحالة يصح الاحتساب عليه ممن وافق مذهبه مذهبه وممن خالفه على السواء.

· الاجتهاد العرفى :

الاجتهاد العرفى ــ كما تدل التسمية ــ هو ما كان العرف محله. وهذا المصطلح بلفظه لا يلقى اهتماما من أهل الأصول, فاهتمامهم مركوز فى الاجتهاد الشرعى وحده. لكن من فقهاء الحسبة من يعنى بالاجتهاد الشرعى. ولم يحرص فقهاء الحسبة على تحديد المراد بالاجتهاد العرفى, ولعل ذلك راجع إلى وضوح مفهومه لديهم ولدى معاصريهم. ويحسن فى هذا المقام تحديد هذا المفهوم دفعاً لاحتمالات اللبس, فلا يكفى بيانا للتفرقة بين الاجتهاد الشرعى والاجتهاد العرفى أن يقال إن الأول هو تحرى حكم الشرع وإن الثانى هو تحرى حكم العرف, لأن العرف من مصادر الأحكام فى الشرع فلا يصح قسيما له. وقد اعتد الفقهاء بكثير من الأعراف وأوجبوا على القاضى وعلى المفتى اعتبارها, وتلك هى المنطقة التى يحتمل أن يقع فيها التداخل بين الاجتهاد العرفى الذى يجوز للمحتسب والاجتهاد الشرعى الذى يمتنع عليه.

وعندنا أن الفارق بين النوعين ينحصر أساساً فى الغاية التى يستهدفها كل منها. فغاية الاجتهاد الشرعى هى المعرفه حكم الشرع فى الواقعة توطئة لإِعماله, والشرع ملزم فى كل حال, فمتى عرف حكمه كان ملزماً. أما الاجتهاد العرفى فغايته التحقق من وجود عرف أولًا ثم من مضمونه ثانياً, أما البحث فى مدى إلزامه شرعا فيخرج عن مجال الاجتهاد العرفى. وبهذا تتضح المعالم بين نوعى الاجتهاد بالنسبة إلى العرف, فالمحتسب يتحرى العرف من حيث وجوده وحدوده, أما الفقيه فيتحراه من حيث صحته وفساده. ولا مدخل للمحتسب فى تقرير صحة العرف أو فساده عند اختلاف الفقهاء فيه, فهذا اجتهاد شرعى لا يجوز له بوصفه محتسباً أن يخوض فيه ولا أن يحمل الناس على اتباع مذهب دون مذهب فيه. أما إذا اتفق الفقهاء على صحة عرف أو فساده فإن ما انتهوا إليه يكون حكماً شرعيا واجب الاتباع, ومقتضاه العمل بالعرف الصحيح وترك الفاسد. وإذا كان العرف صحيحاً شرعاً فإن دور المحتسب ينحصر فى تحرى ما يقتضى به وفى توفر شروطه فى واقعة الحال.

غير أن فقهاء الحسبة يفرقون فى هذا الخصوص بين المحتسب المنصّب وغير المنصّب فنراهم يثبتون الاجتهاد العرفى للأول دون الثانى. وقد أجمل الماوردى الفروق بين المحتسب المنصّب وغيره فذكر منها أن للأول اجتهاد رأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع, كالمقاعد فى الأسواق وإخراج الأجنحة فيه فيقر وينكر من ذلك ما أدراه إليه اجتهاده, وليس هذا للمتطوع(58). وتطبيقا لذلك قال : إذا كان من أرباب المواشى من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه ومنعه منه, فإن ادعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن ينظر فيه لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفى يرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم وليس باجتهاد شرعى, والمحتسب لا يمتنع من اجتهاد العرف وإن امتنع من اجتهاد الشرع(59). ولا نرى بأسا من هذه التفرقة, لأن إنكارها يؤدى ــ بحكم طبيعة الاجتهاد ــ إلى اختلاف الرأى وإلى احتمال إقدام البعض على الحسبة دون قيام موجبها فى حقيقة الأمر, وفى هذا من الضرر ما فيه فوجب سدّ الذريعة إليه وذلك بحظر الاجتهاد العرفى على الآحاد وقصره على المحتسب المنصب. غير أن ذلك مشروط بأن يكون استظهار العرف فى حاجة إلى اجتهاد, أما إن كان ظاهرا بغير خلاف فلا حرج على الآحاد فى الاحتساب. ويتحقق ذلك إذا أدى القعود فى السوق, وفى الطريق إلى سدّ السبيل تماما على المارة, كما يتحقق إذا ناءت الدابة بما تحمله أو بما تجره فلم تعد قادرة على السير فى طريقها. فالأمر فى هذه الأحوال وإشباهها لا يقتضى اجتهاد لمعرفة ما يسمح العرف بشغله من السوق أو من الطريق أو بما تحمله الدابة أو تجره, لأن وجه المخالفة ظهر دون اجتهاد, فكان الاحتساب واجبا على الكافه.

تدخل ولى الأمر فى محل الاجتهاد :

إذا كان الأصل أنه لا حسبة فيما كان محلا لاجتهاد شرعى ولا حسبة للآحاد فيما يقتضى اجتهاد عرفيا فهذا الأصل مشروط بعدم تدخل ولى الأمر فى محل الاجتهاد بنوعيه. فأما إن تدخل ورأى رأيا فقد حسم الخلاف وألزم الكافة بالامتثال سواء وافق رأيهم رأيه أو خالفه, وعندئذ يصح الاحتساب من كل أحد فيما كان من قبل محل لاجتهاد شرعى أو عرفى لأن رأية يرفع الخلاف. وحق الإِمام فى الاجتهاد مسلّم لما فى ذلك من المصلحة(60). فإذا رأى تحريم النبيذ أو منع الزواج بلا ولى وجب الاحتساب على من شرب النبيذ أو تزوج بلا ولى ولو كان مذهبه على جواز ذلك. أما الاجتهاد العرفى فحق الإِمام فيه أظهر, فإذا حدد لشغل الأسواق أو الطرق أو لإِقامة الأبنية شروطا وجب التزامها وانقطع الاجتهاد فيها ووجب الاحتسلب على كل من يخالفها.

الفصل الثانى

النوازل

موجب الحسبة هو المفسدة مطلقاً :

الأصل فى الشرائع كلها أنها وضعت لخير الإِنسان, لا فرق فى ذلك بين شريعة قديمة وحديثة ولا بين سماوية ووضعية. ولهذا فإن ما بين الشرائع من التوافق أكثر مما بينها من التباين فمعظم مصالح الدنيا ومفاسدها ــ كما يقول العز بن عبد السلام ــ معروف بالعقل فى معظم الشرائع, إذا لا يخفى على كل عاقل قبل ورود الشرع أن تقديم المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإِنسان وعن غيره محمود حسن. وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن, وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن, واتفق العقلاء وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأمول والأغراض وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال(61). وإنما تختلف الشرائع فيما بينها فى تقدير بعض المصالح والمفاسد من جهة, وفى تقدير أمثل الطرق لجلب ما هو مصلحة ودرء ما هو مفسدة من جهة أخرى. ولا خلاف بين فقهاء الشريعة الإِسلامية فى أنها إنما وضعت لمصالح العباد فى العاجلة والآجلة, أى فى الدنيا والآخرة. وجمهورهم على أن كل أحكامها ــ عدا العبادات والمقدّرات ــ معلل بالمصلحة, ومن هنا ثبت القياس والاجتهاد عموماً واحتل كلاهما مكانه ــ بجانب النص ــ كمصدر للأحكام.

ومتى ثبت أن مصالح الناس بحسب ما قدرها الشرع هى مقصوده فقد ثبت بالضرورة أن كل ما يحقق هذه المصالح مطلوب وأن كل مايدأ عنها المفاسد مطلوب كذلك. وهذه النتيجة لا خلاف فيها على مستوى الشرائع جميعاً. وإنما يدور البحث ــ والاختلاف تبعاً ــ حول من يتوجه إليه الطلب ودرجة هذا الطلب ومحله ومداه؛ فهل يتوجه الطلب إلى كل المخاطبين أو إلى بعضم, وعلى سبيل الوجوب أو الندب, وهل يشمل كل المصالح و المفاسد أو يقتصر على بعضها ؟.

ونقرر ابتداءً أن جلب المصالح ودرء المفاسد فى الشرع الإِسلامى لايخص ولاية بعينها, بل هو منوط بالولايات كلها ومنها الحسبة؛ فالولايات كلها لم تجعل إلا لتحقيق مقاصد الشرع وهى لا تعدو جلب المصالح ودرء المفساد. وإنما تختلف ولاية عو ولاية فى نوع أو فى قدر ما يهد إلى القائم هليها بتحقيقه.

والسائد لدى فقهاء الحسبة أنها واجب كفائى يقتصر محله على المنكر وحده. وهو مفسدة من عمل الإِنسان. أما المفاسد الأخرى فإنها وإن كانت واجبة الدرء إلا أن درأها لا يعد من الحسبة بمعناها الاصطلاحى. وقد عبر شيخنا على الخفيف عن هذا المعنى بقوله : إن الاحتساب إنما يكون عند الضرر سعياً إلى منعه, وليس يعارض هذا البيان أنه يجب على من أرى بهيمة تفسد فى مزرعة جاره أن يمنعها من ذلك محافظة على مال جاره وعدم الضرر به, لأن ذلك ليس من قبيل الاحتساب إذ الاحتساب إنما يكون بمنع من يفعل منكرا من فعله. وليس يراد منع البهيمة من الإِتلاف وإنما يراد بذلك واجب دينى آخر غير واجب الحسبة.(62) وهذا القول ترديد لما قرره الغزالى فى الإِحياء وفيه نظر كما سنرى.

وعندنا أن الحسبة بمفهومها الاصطلاحى لا تقتصر على منع المنكرات الظاهرة وحدها, بل تشمل المفاسد الظاهرة مطلقاً سواء كانت منكرات أو لم تكن. ونلفت النظر إلى أن اختلافنا فى هذا الصدد مع فقهاء الحسبة لا يضير, وذلك لسببين : الأول أنه ليس اختلافاً على أصل شرعى بل هو اختلاف فى مسألة تدخل فى باب السياسة الشرعية, فقد صرح ابن تيمية وابن القيم بأن عموما الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولى من الولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حد فى الشرع؛ فقد يدخل فى ولاية القضاء فى بعض الأزمنة والأمكنة ما يدخل فى ولاية الحرب فى زمان ومكان آخر, وكذا الحسبة ولاية المال(63). والثانى أن فقهاء الحسبة أنفسهم لا يغضون الطرف عن المفاسد التى ليست منكرات, بل يوجبون درأها كما تدرأ المنكرات. وهم لا يقصرون هذا الواجب على من يتعين له من الولاة بل يفرضونه كذلك ــ وبشروط خاصة ــ على الآحاد. فالخلاف إذن لا ينصب على وجوب المنع بل على تسميته الشرعية أو تكييفه وهل يعد أو لا يعد حسبة.

وإذا آل الأمر هذا المآل ضاقت شقة الخلاف كثيرا وصار إلى الشكل أقرب منه إلى الموضوع. ولهذا قلنا إنه خلاف لا يضير.

مناقشة رأى الغزالى فى قصر موجب الحسبة على المنكر وحده :

لم يعن فقهاء الشريعة بوجه عام بتعليل قصرهم موجبها على المنكر وحده, إلا أن الغزالى بما عهد فيه من عمق النظر ودقة التحليل حرص على بيان تلك العلة.

والرأى عنده أن الحسبة لاتجب إلا إذا اكتملت أركانها ومنها المحتسب عليه, وقد اشترط فيه أن يكون إنساناً فإن تخلف هذا الركن لم نكن بصدد حسبة ولو كان المنع واجباً. وفرض الغزالى اعتراضاً لمخالفه فأورده ثم رده فقال : فإن قلت فاكتف بكونه ــ أى المحتسب عليه ــ حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً, فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإِنسان لكنا بمعنها منه كما نمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة, فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها, إذ الحسبة عبارة عن المنع عن المنكر لحق الله صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر. ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله, وكنا منع الصبى عن شرب الخمر, والإِنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين, أحدهما حق الله تعالى فإن فعله معصية, والثانى حق المتلف عليه, فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى؛ فلو قطع طرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجنى عليه بإذنه, فثبتت الحسبة والمنع بإحدى العلتين. والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين. ولكن فيه دقيقة, وهو أنّا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال مسلم, إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم يمنعها منه, بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات. ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال. بل لو وقعت جرة لإِنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة لا لمنع الجرة من السقوط, فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة, ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشرب الخمر وكذلك الصبى لا صيانه للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب, بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيها له من حيث إنه إنسان محترم(64).

بهذه العبارة كشف الغزالى عن علة اقتصار الحسبة على المنكر دون ما عداه من المفاسد, وقد قدم لرأيه بتعريف الحسبة تعريفا كان لابد أن ينتهى به إلى ما انتهى إليه, إذ جعل لخا ماهية وغاية؛ فأما الماهية فهى المنع عن المنكر, وأما الغاية فهى صيانة الممنوع عن مقارفته. ومن هنا كانت تفرقته بين إتلاف الإِنسان. زرع غيره وإتلاف البهيمة هذا الزرع, وكانت تفرقته أيضاً بين زنا المجنون وسقوط الجرة على القارورة. ونحن نختلف معه تبعاً لذلك فى موجبها. فقد جعل الغزالى مدار الحسبة على فاعل المنكر فاعتبر محلها فعله وغايتها شخصه. وهذا الرأى محل نظر, لأن فعل الفاعل لم يجعل محل احتساب لكونه فعلا بل لكونه مفسدة, كما أن صيانة الفاعل عما يفعل قد تكون ملحوظة فى الاحتساب لكنها ليست غاية الاحتساب. والأدلة على ذلك عديدة :

منها أنه لو استحال منع الفاعل عن مقارفة فعله فإن منطق الغزالى يوجب القول بامتناع الحسبة. وهذه النتيجة لا تخلو من شذوذ؛ فلو أن شخصا رأى آخر يغرق خصمه فى اليم فبادر بالنزول إلى الماء ليمنعه وينقذ المعتدى عليه كان ذلك احتساباً, أما لو دفع المعتدى خصمه فى اليم فسقط فيه وأوشك على الغرق فاندفع ذلك الشخص إلى الماء لينقذه لم يكن هذا احتسابا, ولو أن مسلما وجد مسلما يحمل زجاجة خمر فأراق ما فيها كان ذلك احتساياً, أما لو وجد زجاجة خمر فى الطريق فأراقها لم يكن ذلك احتساباً, ولو أن إنسانا رأى آخر يشعل النار فى مال غيره فمنعه عدّ ذلك احتسابا, أما إذا لم يدركه إلا بعد أن أشعل النار فأطفأها لم يكن ذلك احتساباً. ووجه الشذوذ فيما تقدم ظاهر, لأن اعتبار المنع احتسابا فى حال دون حال لا معنى له القيام المفسدة فى كل الأحوال.

وكان يمكن أن يكون لرأى الغزالى ــ ومن نحا نحوه ــ فائدة لو أنه أوجب المنع فيما أثبت الحسبة فيه ولم يوجبه فيما عداه, لكنه لم يفعل بل أوجب المنع أو الدرء فى كل مفسدة سواء كانت منكرا أو لم تكن؛ فهو يوجب على من رأى بهيمة قد استرسلت فى زرع إنسان أن يخرجها, كما يوجب على من رأى مالا لمسلم أشرف على الضياع أن يقوم بما من شأنه حفظه(65). وهذا الوجوب لا يمكن أن يكون إلا ضربا من ضروب الحسبة. ولا يتعرض بأن الغزالى لا يسمى ذلك حسبة, لأنه لا اعتبار للاسم بل لحقيقة المسمى. وقد ذكر شيخنا على الخفيف أن هذا واجب دينى آخر غير واجب الحسبة, لكنه لم يبين طبيعة هذا الواجب ولم يحدد له اسماً. وعندنا أن هذا الواجب هو عين الحسبة, لأن الحسبة واجب عام يلتزم كل فرد بمقتضاه بمنع الضرر ــ أيا كان مصدره ــ عن حقوق غيره ابتغاء وجه الله وهذا المعنى متحقق فى المثلين اللذين ساقهما الغزالى.

ولا يعترض كذلك بأن الغزالى يفرق من حيث شروط الوجوب بين منع المنكر ومنع غيره من المفاسد, إذ يوجب الأول ولو كان فيه تعب ولا يوجب الثانى إذا كان فيه تعب, وإن هذا الفرق ثمرة لكون الواجب الأول حسبة وكون الثانى ليس بحسبة؛ فهذا الاعتراض محدود بأن التفرقة التى أقامها الغزالى مجرد اجتهاد يصح أن تختلف فيه وجهات النظر؛ فهى غير مسلّمة بإطلاق, وإن سلمت فلا يلزم منها ثبوت الحسبة إذا كان محل المنع منكرا ونفيها إذا كان المحل مفسدة أخرى, لأن الأمر لا يتعلق بأصل المنع, فهو فى الحالين واجب, بل ببعض شروطه, واختلاف الشروط ــ إن سُلّم ــ لا يجعل المنع حسبة تارة وتارة لا, إلا لزم بيان طبيعة المنع الذى لا يعد حسبة, وهو ما لم يفعله الغزالى ــ وكذلك من حذا حذوه ــ رغم اشتمال هذا المنع على خصائص الحسبة.

ولعل ما دعا الغزالى إلى التفرقة بين فعل الإِنسان وفعل البهيمة وإلى اعتبار الأول دون الثانى موجباً للحسبة افتراضه أن فعل الإِنسان ينطوى فوق خاصية الإِضرار على معنى المعصية مع أن التلازم بين المنكر والمعصية غير مطرد. وقد نفى الغزالى نفسه هذا التلازم حيث صرح بأنه ما كان منكرا عند الله يجب المنع منه ولو كان الفاعل غير عاصٍ به(66). وإذا انتفى أن يكون المنكر معصية فى كل أحواله فقد ثبت أن المنع منه إنما هو لمعنى آخر, وهو كونه مفسدة, وهذا المعنى مشترك بين فعل الإِنسان وفعل البهيمة مما يقتضى التسوية بينهما فى الطبيعة الشرعية وكذلك فى الحكم وهو وجوب الاحتساب لاتحاد العلة.

والحق أن الخلاف بين مايراه الإِمام الغزالى وما يبدو لنا أصوب إنما ينحصر أساساً فى تحديد ماهية الحسبة وغايتها. فهو يعرف الحسبة بأنها المنع عن المنكر صيانة للممنوع عن مقارفته وتنزيها له من حيث إنه إنسان محترم. والراجح لدينا أن الحسبة هى دفع المفاسد سواء تمثلت فى منكر أو نازلة. وليس صحيحاً أن حق الله لا ينال منه سوى المعصية, فذلك فهم لحقه تعالى على أنه مجرد الامتثال لنواهيه وأوامره, مع أن النواهى والأوامر لم تقصد لذاتها بل لما يترتب عليها من تحقيق المصالح ودرء المفاسد. والصحيح فى نظرنا أن حق الله تعالى يتمثل فى مقاصد الشرع, فكل ما يخل بمقصد منها فإنه يخل بالضرورة بحق من حقوق الله. ولهذا فإن موجب الحسبة يتجاوز دائرة المعصية ويشمل كل واقعة فيها مساس بحق لله بالمعنى السابق سواء كانت هذه الواقعة فعلًا ــ مؤثما إو غير مؤثم ــ أو كانت نازلة من النوازل.

فالشرع لا يقتصر على نهى المسلم عن العدوان على حقوق غيره, بل يفرض عليه كذلك رعاية حقوق الغير, فكلا الأمرين من مقاصد الشرع. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية فى هذا الباب أكثر من أن تحصى. أما صيانة الممنوع عن مقارفة المنكر فقد تكون ملحوظة فى الحسبة بل ومطلوبة أيضا, لكنها فى تقديرنا لا تستغرق الغاية من الحسبة, وإنما هى عند التأمل مجرد صورة من صورة المفاسد التى شرعت الحسبة لدرئها. وما ينبغى أن يكون تعدد المفاسد فى بعض الأحوال مبررا للاعتداد ببعضها والاعتقاد خطأ بأنه الغاية الوحيدة للحسبة وصرف النظر عما عداها. لأن التخصص عندئذ يكون مفتقرا إلى العلة.

وقد تحدثنا من قبل عن المنكر وحديثنا الآن عن النازلة.

تعريف النوازل :

يقصد بالنازلة فى باب الحسبة كل مفسدة لا تعد منكرا. والفساد نقيض الصلاح؛ فهو خروج الشىء أو الأمر عما جعل له أو قصد به. والمناط فى ذلك حكم الشرع؛ فالفساد ما كان على خلافه, سواء تمثل فى تغير ما يجب أن يبقى على حاله أو فى بقاء ما يجب أن يتغير أو فى تغير الشىء أو وقوع الأمر على وجه يخالف المطلوب.

ولا يقتضى التقابل بين النازلة والمنكر أن تكون النازلة منقطعة الصلة تماما بالإِنسان وإن كان ذلك هو ما يقع فى غالب الأحيان. فالأصل فى النازلة أن تكون حدثا كونيا كالزلازل والصواعق والسيول والقحط, أو نشاطاً حيوانيا كجموح الدواب وهجوم الكواسر وغزو الجراد وتفشى الوباء, أو ظاهرة طبيعية كالموت والمرض والجوع والعطش. فهذه الأحداث جميعاً تفجأ الناس وتقتحم حياتهم وكثيرا ما تحلق الضرر بحقوقهم دون أن يكون لهم دخل فى حدوثها, وقد لا يكون لعامتهم قبل بتفاديها أو مقاومتها. لكن النازلة مع ذلك قد تكون لها صلة بالإِنسان؛ فبعض ما يصدر عنه قد يكون مفسدة ولكنه لا يعد رغم ذلك منكرا, أو يكون منكرا ولكنه انصرم فلم يعد يوجب الحسبة بهذا الوصف وإن ظلت آثاره السيئة قائمة, أو لا يكون مفسدة أصلاً ولكنه يفضى إليها بحكم سنن الله التى أودعها فى كونه. فالمريض قد تشتد عليه وطأة الحمى فيهذى بما يعد قذفا فى غيره, والمنوم مغناطيسياً قد تبدر منه ــ بإيحاء ممن أوقعه فى هذه الحالة ــ حركة فيها انتهاك لحرمة نفس غيره أو ماله, ومثله المكره إكراها ملجئاً. فهؤلاء جميعا تصدر عنهم أفعال لا دخل لإِرادتهم فيها فلا تعد منكرا إن كانت تفضى إلى مفسدة. كذلك فإم الشخص قد يشغل النار فى مال غيره أو يلقى به فى اليم أو يمزج فى شرابه سما أو يضع فى فراشه عقربا ثم يمضى فيكون فعله منكرا تصّرم لكن المفسدة التى تنجم عنه تظل قائمة. وأخيرا فقد يعصر الشخص عنبا ليشربه فيتخمر أو يضع مالا بجانبه عند الصلاة ثم ينساه وينصرف أو ينزل إلى الماء ليستحم وهو لا يحسن العوم فيجرفه التيار بعيدا عن الشاطىء, فهذه أفعال لا منكر فيها ولا مفسدة لكن المفسدة تنشأ عنها لأسباب عارضة. والحسبة فى كل هذه الأحوال فى مذهبنا واجبة لقيام العلة التى من أجلها شرع الاحتساب وهى ضرورة دفع المفسدة.

حكم النوازل عند الفقهاء :

تختلف الشريعة الإِسلامية عن القوانين الوضعية من جملة وجوه نقف منها عند وجه واحد يقتضيه المقام. فالقانون كما يقول فقهاؤه لا يفرض على الناس المروءة والإِيثار ولا يدعوهم إليه, وتبعا لذلك فهو لايحاسبهم على النكول عنه, أما الإِسلام فيحض على البر فى عامة الأحوال ويفرضه فى بعض الأحوال. ولا نقصد بالبر هنا ما كان سببه علاقة خاصة تربط شخصا بآخر وتوجب عليه أن يكون بارا به ــ كالأم والأب والزوجة ــ بل نقصد مطلق البر بكافة المسلمين, فهذا أصل من أصول الإِسلام تكاثرت أدلته وتواتر عليه عمل السلف الصالح. وحيث يكون الأمر بالبر عاما فى واقعة حال فإن الواجب يكون كفائيا يسقط عن الجميع إذا قام به أحدهم ويأثم الجميع إذا لم يقم به بعضهم, وتلك هى الحسبة بعينها.

يقول ابن حزم : مما كتبه الله علينا استنقاذ كل متورط من الموت إما بيد ظالم ــ كافر أو مؤمن متعدّ ــ أو حيّة أو سبع أو نار أو سيل أو هدم أو حيوان أو علة صعبة نقدر على معافاته منها أو من أى وجه كان(67). وذكر رواية عن الحسن أن رجلا استسقى قوماً فأبوا أن يسقوه فمات عطشا فضمنهم عمر بن الخطاب ديته(68). وهذا يعنى أن الشرع يوجب عليهم ــ ديانة وقضاء أيضاً ــ أن يسقوه.

وذكر الماوردى أنه إذا تعطل شرب البلد أو استهدم سوره فإن كان فى بيت المال مال المحتسب بإصلاح الشرب وبناء السور لأنها حقوق تلزم بيت المال دون أهل البلد, أما إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم وإصلاح شربهم وعمارة مساجدهم متوجها إلى كافة ذوى المكنة منهم(69).

وجاء فى فروق القرافى أن التقاط المال الضائع قد يكون واجبا ومستحبا ومحرما ومكروها بحسب المال الملتقط وحال الزمان الحاضر وأهله ومقدار اللقطة. فإن كان الوجد مأمونا ولايخشى السلطان على اللقطة إذا أشهرها وهى بين قوم غير أمنا ولها قدر كان أخذها واجبا على من وجدها لأن حرمة المال كحرمة النفس, ولنهيه ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ عن إضاعة المال(70).

فهذه نقولٌ قبسناها, وفى كتب الفقه مالا نحصيه عدّا من نظائرها, وكلها فروع من أصل حاصله أن حفظ النفوس والعقول والأعراض والأنساب والأموال والدين من فروض الكفاية وأن قيام المسلم بذلك ــ حيث لا يتعين للحفظ ــ إنما هو من باب الحسبة. وإذا كان بعض الفقهاء قد أوجب الحفظ ولم يخلع عليه هذا الوصف فذلك لا ينفى أنه احتساب لأن إطلاق الوصف على الواجب فى بعض أحواله يقتضى إطلاقه هليه فى سائر أحواله, إلا كانت التفرقة مفتقرة إلى العلة.

اجتماع النازلة والمنكر :

كثيرا ما يتولد المنكر عن النازلة, والحسبة فى كل منها فى رأينا واجبة. غير أن اهتمام بعض الفقهاء بالحسبة فى المنكر قد شغلهم فيما يبدو عن الاهتمام بنفس الدرجة بالحسبة فى النازلة. فالنازلة إذا وقعت وجب على الناس أن يحتسبوا بدفعها أو بدفع ما ينشأ عنها من مفسدة, فإن قعدوا عن ذلك كان قعودهم منكرا يحتسب عليهم من أجله. وهكذا يمكن تجتمع النازلة والمنكر وكذلك الحسبة فيها. وما ينبغى أن تكون الحسبة بسبب المنكر مانعة أو مغنية عن الحسبة بسبب النازلة, بل الواجب ألا يصير المحتسب إلى الأولى إلا عندما تتعذر الثانية, لأن الأولى أصل والثانية تبع. وهذا الأمر ــ لوضوحه ــ لا يحتمل خلافا فيما يرى. فلو أن جماعة من الناس شهدوا شخصا موشكا على الغرق فإن عليهم أن يحتسبوا بإنقاذه, ولا يخلق بأحدهم أن يحتسب على غيره فيأمره بالنزول لإِنقاذ الغريق إلا إذا كان هو نفسه لا يحسن العوم أو كانت به علة تمنعه من أن ينزل إلى الماء لينقذه. ذلك أن الحسبة بالنزول فيها دفع مباشر للنازلة وحفظ لنفس الغريق, أما حمل الغير على النزول إلى الماء لإِنقاذه فحسبة على الغير لارتكابه منكر القعود عن ذلك. ولما كان إنقاذ الغريق واجبا على كل حاضر قادر فالأصل أن يبدأ كل بنفسه قبل أن يأمر غيره بفعل ما نكل عنه. على أن إخلال الشخص بواجب الأحتساب بدفع النازلة بنفسه لا يبطل احتسابه على منكر امتناع غيره عن دفعها, لأن دفعها هو مقصد الشرع, فإذا دفعت تحقق مقصوده ثم ليأثم بعد ذلك من يأثم ويؤخر من يؤخر. وذلك شأن من رأى دابة قد استرسلت فى زرع غيره ومضت تتلفه, أو رأى تائماً فى العراء أطارات الريج ثوبه فكشفت عورته, فواجب على من رأى المفسدة أن يدفعها بنفسه, وليس له أن يأمر غيره بدفعها إلا إذا استحال عليه ذلك أو تعذر أو كان الدفع على غيره أهون. غير أن بدء الشخص بنفسه إنما هو أمر يخصه شرعا ليعظم أجره أو ليطالع أمره, فإن آثر الدعة والأثره صح مع ذلك احتسابه على غيره إذا رآه قد تقاعس مثله. وهذا مبنى على ما نأخذ به من أن فسق المحتسب لا يقدح, وأن عدالته ليست شرطا لوجوب أن لصحة احتسابه على غيره.

هل تتميز الحسبة فى النازلة بأحكام خاصة ؟

المنكر بحسب طبيعته سلوك بشرى, فلا بد له من فاعل, ولهذا جرى فقهاء الحسبة على اعتبار المحتسب عليه ركنا فيها. أما النازلة فقلما تعزى إلى الإِنسان, ولذلك فإن المحتسب عليه لايدخل ركنا فى الاحتساب فيها. والواقع أن هذا الفارق شكلى؛ فالحسبة فى مذهبنا لايستغرقها الإِنكار, وإنما الحسبة دفع الفساد لحق الله, وفى ظل هذا المفهوم فإن المحتسب إما أن يتجه إلى ذات المفسدة ليرفعها أو إلى مصدر الفساد ليكفّه أو يعقمه. وليس لطبيعة المصدر أو صفته أهميتة قط, لأن العبرة بمصدريته لابصفته أو طبيعته.

أما الفارق المحتمل بين الحسبة فى المنكر والحسبة عند النازلة فيكمن فيما أثاره الإِمام الغزالى ومجمل رأيه أن المنكر واجب المنع وإن كان فى المنع تعب, أما المفاسد الأخرى فمنعها وإن كان واجبا إلا أنه مشروط بعدم التعب. وعلة التفرقة عنده هى الإِشفاق من أن يؤدى إيجاب المنع بغير قيد فى كل الأحوال إلى أن يصير الإِنسان مسخرا لغيره طول عمره, وهذا تكليف شطط. وضرب الغزالى أمثلة لتوضيح رأيه, فمثّل للمنع المطلق بفوات المال بطريق هو معصية كالغضب, وللمنع المقيد باسترسال البهيمة فى زرع الغير وباللقطة فى مضيعة, وخلص إلى أن المنع فى المثال الأول واجب وإن كان فيه تعب لأن القصور حق الشرع والغرض دفع المعصية, أما فى المثالين الآخرين فوجوب المنع مشروط بأن لا ينال الشخص تعب فى بدنه أو خسران فى ماله أو نقصان فى جاهله, لأن حقه مرعى فى منفعة بدنه وفى ماله وجاهه كحق غيره فلا يلزمه أن يفدى غيره بنفسه(71).

وهذا الرأى محل نظر, والصحيح عندنا أن شروط الاحتساب فى المنكر وعند النازلة واحدة, وأن يرتهن بموجب الحسبة بل بظروف الحال فى كل واقعة. والضابط فى ذلك هو الحق الذى يُحتسَب لرعايته؛ فإن كان حقا خالصا لله وجبت الحسبة ولو كان فيها تعب, وكذلك الشأن لو كان حق الله مختلطاً بحق العبد ولكن حق الله غالب, أو كان هناك مساس بحقين أحدهما لله والآخر للعبد. أما إن كان المساس بحق للعبد مختلط بخق لله, وكان حقّ العبد غالباً فهنا يصح النظر فى مئونة الحسبة على المحتسب, فإن حفت هذه المئوية وجبت الحسبة وإن ثقلت لم تجب.

واهتداءً بهذا الضابط يصح رأى الغزالى فى الأمثلة التى ضربها دون أن يعنى ذلك صحة الرأى الذى اجتهد فى التدليل عليه بإيراد تلك الأمثلة. وما نظن الغزالى كان يلتزم منطقه لو أن البهيمة بدر من إتلاف الزرع كانت بسبيلها إلى أن نطأ صغيرا نائما فتقتله, لأن إتلاف الزرع إضاعة لمال أما بطء الصغير فازهاق لحياة, وحق الإِنسان فى ماله أغلب من حق الله, أما الحياة فحق الله فيها أظهر بدليل أنها لا تستباح بالإِباحة. ولهذا صح أن لا تجب الحسبة لحفظ المال إلا إذا خفت مئونتها ووجبت لحفظ الحياة ولو عظمت مئونتها وإذا تعلق الأمر بحق الحياة فلا فرق بين أن يرى الشخص شخصاً أمسك بغيره غى اليم ليغرقه وبين أن يرى مستحما جرفه التيار فأوشك على الغرق, فإتقذ الضحية فى الحالين واجب. وإذا جاز أن يكون بين الحالين فرق فى مئونة الحسبة فلأن الإِغراق ينطوى فوق إتلاف الحياة على معصية فوجب تغليظ المئونة لأن المفسدة مغلظة.

ونرى الحسبة بالمثل واجبة بغض النظر عن مئونتها إذا أطارت الريح ثواب نائم فى العراء فكشفت عورته, لأن حفظ الأعراض من مقاصد الشرع وحق الله فيها أغلب, فهى ــ كالحياة ــ لا تستباح بالبذل. ولا فرق فى وجوب الحسبة حين يتعلق الأمر بالعورة بين أن يكون كشفها بفعل مُعتدٍ أو من أثر لريح لأن سترها واجب فى كل حال. وإذا ساغ أن يكون هناك فرق فى مئونة الحسبة حين يكون كشف العورة بفعل مكلف مُعتدٍ أو من أثر لريح لأن سترها واجب فى كل حال. وإذا ساغ أن يكون هناك فرق فى مئونة الحسبة حين يكون كشف العورة بفعل مكلف معتدِ فلأن الكشف مفسدة فى ذاته فضلا عن كونه معصية من وجهة فاعله.

ونلخص مما سبق إلى أن مئونة الحسبة لا تدور مع الموجب ــ منكرا كان أو نازلة ــ بل تدور مع الحق الذى لحقته المفسدة, فتثقل وتخف تبعا لمدى خلوصه لله لك أو لمدى اختلاط حق الله فيه بحق العبد. ذلك هو الضابط العام, وهناك إلى جانبه ضوابط فرعيّة تحدد المئونه الواجبة فى كل حالة على حدة. ويدخل فى تحديدها عوامل عدة, منها ما يتعلق بإمكانات المحتسب ومنها ما يتعلق بالظروف الملابسة وللمئونة ــ كما يقول الإِمام الغزالى ــ طرف فى القلة لا يشك فى أنه لا يبالى به وطرف فى الكثرة لايشك فى أنه لا يلزم احتماله ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبدا فى محل الشبهة والنظر(72).

الهوامش

(1)  تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن ــ الطبعة العاشرة 1983 ــ القاهرة جـ 2 ص 299.

(2) أنظر على سبيل المثال : الشيخ على الخفيف ــ الحسبة, بحث عن منشور فى مجموعة أعمال الفقه الإِسلامى ومهراجان الإِمام ابن تيمية ــ دمشق من 16 ــ 12 من شوال 1380 هـ ص 584. وانظر كذلك الغزالى ـــ إحياء علوم الدين ــ طبهة دار الشعب جـ 7 ص 1224.

(3)  أنظر الماوردى ــ الأحكام السلطانية والولايات الدينية ــ القاهرة 1386 هـ ــ ص 245. وانظر كذلك أبا يعلى الفراء ــ الأحكام السلطانية ــ القاهرة 1357 هـ ــ ص 289.

(4) الغزالى ــ المرجع السابق ص 1217.

(5)  إبراهيم دسوقى الشهاوى ــ الحسبة فى الإِسلام ــ القاهرة 1962 ص 9.

(6)  على الخفيف ــ المرجع السابق ص 576.

(7)  تفسير المنار جـ 4 ص 26 ــ 27.

(8) حكى السيوطى عن السبكى هذا التقسيم الدقيق للمراحل النفسية التى تمر بها الفكرة منذ أن تنبت فى الذهن إلى أن تصبح قراراً فقال نقلا عنه : (( الذى يقع فى النفس من قصد المعصية على خمس مراتب : الأولى الهاجس وهو ما يلقى فيها, ثم جريانه فيها وهو الخاطر, ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من تردد, هل يفعل أم لا, ثم المهمّ وهو ترجيح قصد الفعل, ثم العزم وهو قوة ذلك القصد الجزم به)). السيوطى ــ الأشباه والنظائر فى قواعد وفروع فقه الشافعية ــ القاهرة 1959 ص 37.

(9)  يقول السيوطى نقلا عن السبكى : (( فالهاجس لا يؤخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شىء ورد عليه لا قدرة له ولا صنع. والخاطر الذى بعده كان قادرا على دفعه بصرف الهاجس أو وروده, ولكنه هو وما بعده من حديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح. وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع ما قبله بطريق الأولى. وهذه المراتب الثلاثة أيضا لو كانت فى الحسنات لم يكتب له بها أجر. أما الأول فظاهر, وأما الثانى والثالث فلعدم القصد. وأما الهمّ فقد بين الحديث الصحيح أن الهمّ بالحسنة يكتب حسنة والهم ــ بالسيئة لا يكتب سيئة وينتظر, فأن تركها لله كتبت حسنة وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. والأصح فى معناها أن يكتب عليه الفعل وحده, وهو معنى قوله (( واحدة )) وأن الهمّ ملافوع … وأما العزم فالمحققون على أنه يؤخذ به, وخالف بعضهم وقال إنه من الهمّ المرفوع)). السيوطى المرجع السابق ص 37 ــ 38, والنظر كذلك شرح الزرقانى جـ 4 ص 104.

(10)                     أشار القرفى فى فروقه إلى قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)), ولفت النظر إلى شبهة قد تثور فقال (( ههنا سؤال, فالظن يهجم على النفس عند حضور أسبابه, والضرورى لا ينهى عنه فكيف صح النهى عنه ههنا؟ وأجاب بأن القاعدة أن الخطاب فى التكليف لا يتعلق إلا بمقدور مكتسب دون الضرورى اللازم الوقوع أو اللازم الامتناع. فإذا ورد خطاب وكان متعلقه مقدوراً حمل عليه, نحو أقيموا الصلاة, أو غير مقدور صرف الخطاب لثمرته أو لسببه ومثال ما يحمل على ثمرته قوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله, فالرأفة أمر يهجم على القلب قهرا عند حصول أسبابها فيتعين الحمل على الثمرة والآثار وهو تنقيص الحد, فيصير معنى الآية لا ننقص الحد. فكذلك ههنا لما تعذر حمل الأمر على الظن نفسه فتعين حمله على آثاره من باب التعبير بالمسبب عن السبب, وآثاره التحدث عن الإِنسان بما ظن فيه أو أذيته بطريق من الطرق بل يكف حتى يوجد سبب شرعى يبيح ذلك)).

(11)                    الشاطبى ــ الموافقات فى أصول الأحكام ــ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ــ القاهرة جـ 2 ص 76 ــ 78.

(12)                    جاء فى الأشباه والنظائر : (( إن انتهى الإِكراه إلى حد الإِلجاء لم يتعلق به حكم, وإن لم ينته إلى ذلك فهو مختار وتكليفه جائز شرعاً وعقلاً)). السيوطى ــ المرجع السابق ص 222.

ويؤكد الخرشى هذا المبدأ بقوله : فعل المكره ـــ إكراها ملجئا ــ لا يوصف بحكم من الأحكام الخمسة لأنه لا يوصف بها إلا أفعال المكلفين والمكره غير مكلف. الخراشى جـ 8 ص 131.

(   1 3) وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على هذا المعنى. قال تعالى على لسان القمان (( يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك)) (لقمان ــ الآية 17), وقال فلى سورة آل عمران : (( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون, ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون فى الخيرات وأولئك من الصالحين )) ( آل عمران ــ الأيتان 113 و 114), وقال أيضا : (( إن الذين كفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم )) ( آل عمران ــ الآية 22). قال القرطبى : دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كان واجباً فى الأمم المتقدمة, وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. ( القرطبى ــ أحكام القرآن ــ طبعة دار الشعب ص 1289).ــ وقال صّلى الله عليــه وسلم ــ : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) فدل على أن المعروف عند أهل الجاهلية كان معلوماً.

(14)   (( يقرر الغزالى أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل, أما انتفاؤها فمعلوم بدليل العقل قبل ورود السمع, وأن ذلك واجب الاستصحاب إلى أن يرد السمع. وإذن فالنظر فى الأحكام إما أن يكون فى إثباتها أو فى نفيها, أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه, وأما نفيها فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعى بالمعنى الناقل من النفى الأصلى, فانتهض العقل دليلا على أحد الشطرين وهو النفى )). الغزالى ــ المستصفى من علم الأصول ــ تحقيق محمد مصطفى أبو العلا ــ القاهرة 1971 ص 230.

(15)  انظر فى تفصيل ذلك : الشاطبى ــ الموافقات, المرج السابق جـ 1 ص 90, جـ 2 ص 4 وما بعدها.

(16) وفى المسألة تفصيل لعل المقام لا يتسع له, فقد افترضنا إمكان الفصل بين المعروف والمنكر فقلنا بوجوب الأمر بالأول والنهى عن الثانى. لكن الأمر يدق حين يكون المعروف والمنكر فى ظروف الواقعة ممتنعا أو متعذرا لسبب أو لآخر. وقد عرض ابن تيمية بإيجاز لهذا الموضوع وبين الحكم فيه فقال : إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون ــ أى يفصلون ــ بينما, بل إما أن يفعلوها جميعا أو يتركوها جميعا لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر, بل ينظر : فأن كان المعروف أكبر أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر, ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه, بل يكون النهى حينئذ من باب الصد عن سبيل الله. وإن كان المنكر أغلب نُهى عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف, ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الذائد عليه أمراً بمنكر وسعيا فى زوال طاعة الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لك يؤمر بهما ولم ينه عنها, فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهى, وتارة لا يصلح أمر ولا نهى حيث كان المعروف والمنكر متلازمين, وذلك فى الأمور المعينة الواقعة.

وعرض لبن تيمة كذلك لحالة أخرى يكون الأمر فيها بمعروف معين مفوتا لمعروف أكبر منه ويكون النهى فيها عن منكر معين محققا لمنكر أعظم منه فقال :  وفى الفاعل الواحد الطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها, ويحمد محمودها ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات معروف أكبر منه أو حصول منكر فوقه, ولا يتضمن النهى عن المنكر حصول ما هو أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق … ومن هذا الباب ترك النبى ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ لعبد الله بن أبى بن أبى سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان, فإزالة المنكر بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس إذا سمعوا أن الرسول ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ يقتل أصحابه. رسالة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ــ جدة 1979 ص 32 ــ 34. وما ذكره شيخ الإِسلام فى هذا الخصوص ليس إلا تطبيقا لما اتفق عليه أهل الأصول فى ترتيب المصالح إذا تعارضت والمفاسد إذا تزاحمت والمصالح والمفاسد إذا اجتمعت.

(17)                    الغزالى ــ الأحياء, المرجع السابق ص 1220. وفى هذا يقول الشاطبى : إذا نظرنا إلى فعل الفاعل أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة. وإذا نظرنا إلى فعل الفاعل أو تركه وجدناه لم تقع به مفسدة ولا فاتت به مصلحة. وإذا نظرنا إلى قصده وجدناه منتهكاً حرمة الأمر والنهى, فهو عاص فى مجرد القصد غير عاص بمجرد العمل. الموافقات جـ 1 ص 249.

(18)                    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1220.

(19)                    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1221.

(20)                    القرافى ــ الفروق.

(21)                    أنظر شرح البدخشى ــ مناهج العقول وشرح الأسنوى ــ نهاية المسول جـ 1 ص 152 وما بعدها, والمستصفى للغزالى ص 109 ــ 111, وإرشاد الفحوص إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشو كانى ص 9, وأصول الفقه للشيخ محمد الخضرى القاهرة ط 6 سنة 1969 ص 84 ــ 86.

(22)                    ومحل النزاع فى اعتقادنا هو وضع الإِيمان بالنسبة لأحكام الفروع, فالقائلون بخطاب الكفار بالفروع يرون الإِيمان شرطاً لصحة الأداء, والقلعدة عند الأصوليين أن حصول الشرط الشرعى ليس شرطا لصحة التكليف, بل يتوجه الطلب بالشرط والمشروط معاً ويكون المخاطب مأمور بتقديم الشرط, كالجنب والمحدث يقدمان الغسل والوضوء لكى تصح الصلاة. وعلى هذا الأساس يكون الأمر بالصوم والصلاة والحج والزكاة مقتضيا الأمر بتقديم الإِيمان لكى تصح هذه العبادات. ولا يعد الكفر مانعا من التكليف بها لأن إزالة الكفر ممكنة بالإيمان.

ولو سلمنا بكون الإِيمان شرطا فى صحة التكليف بالفروع لوجب أن نسلم بخطاب الكفار بالفروع, ولهذا كان موقف من سلَّم بالمقدمة من الفقهاء ولم يسلم بالنتيجة ضعيفاً ولم شفع لهم قولهم إن النزاع فى جزئى من القاعدة لا فى أصل القاعدة. والصحيح فى اعتقادنا أن الإِيمان ليس شرطا فى التكليف بالفروع ولكنه سبب لوجوبها. فالخلاف ينحصر ابتداء فى الوصف الشرعى للإِيمان. ولا نزعم أن نفى الشرطية أمر سبقْنا المتقدمين إليه, فقد قال بذلك من يعتد بخلافه من الفقهاء. وعبر عن هذا الاتجاه صاحب (( كشف الأسرار )) بعبارة ربما بدت صعبة الفهم على غير الأصوليين, ولذلك فقد آثارنا إيراد عبارة الشاطبى لسهولتها رغم أنه من القائلين بخطاب الكفار بالفروع. قال فى الموافقات : أما الإِيمان فلا نسلم أنه شرط لأن العبادات مبنية عليه, ألا ترى أن معنى العبارات التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح, وهذا فرع الإِيمان, فكيف يكون أصل الشىء وقاعدته التى يتبنى عليها شرطا فيه ؟ هذا غير معقول . ومن أطلق هنا لفظ الشرط الفعلى التوسع فى العبارة. وأيضا فإن سُلم فى الإِيمان أنه شرط ففى المكلف لا فى التكليف, ويكون شرط صحة عند بعض وشرط وجوب عند بعض, فيما عدا التكليف بالإِيمان حسما ذكره الأصوليون فى مسألة خطاب الكفار بالفروع. ( الشاطبى ــ الموافقات جـ 1 ص 181 ــ 182). وانظر لمزيد من التفصيل ( كشف الأسرار عن أصول فخر الإِسلام البزدوى للإِمام علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخارى ــ دار الكتاب العربى ببيروت ــ جـ 3 ص 242 ــ 245).

(23)  وهذا المنكر يوجب الحسبة بما يناسبه ويقتضيه. وحد الحسبة فيه ألا تجاوز الدعوة بالحسنى إلى الإِكراه والقهر لقوله تعالى : (( لا إكره فى الدين قد تبين الرشد من الفىء )).

(24)    يقول البدخشى إن إيجاب حد الزنا على غير المسلمين هو من ترتيب الحكم على السبب لإِلزامها أحكامنا لا لحرمة الزنا عليهم. شرح البدخشى جـ 1 ص 154. ومعنى هذه العبارة أن الحكم يلزمهم من باب الوضع لا التكليف.

(25)الغزالى ــ المستصفى جـ 1 ص 54, وانظر كذلك الإِحكام فى أصول الأحكام للآمدى جـ 2 ص 217.

(26) والمسألة فى فقه الأصول تقتضى بعض التفصيل. ذلك أنه لما كان المتفق عليه بالإِجماع أن الصبى إذا سلك على خلاف الأمر أو النهى فلا عقاب عليه فإن حاله لا يخلو من أحد فروض أربعة : أولهما أن يكون غير مخاطب بالحكم أصلاً, والثانى أن يكون مخاطبا لكن الوجوب سقط عنه بعذر الصبا لرفع الحرج, والثالث أن يكون مخاطبا لكن الوجوب فى حق غيره ندب فى حقه لصباه, والرابع أن يكون مخاطبا كغيره بكل الأحكام لكن جزاء المخالفة سقط عنه لعذر الصبا. والأول مذهب الجمهور, والثانى قال به فريق من الفقهاء, والثالث والرابع فرضان واردان. ولعل الفرض الثانى أضعف الجميع, وقد مال إليه البزدوى زمنا ثم عدل عنه لأسباب أجملها وفصلها صاحب كشف الأسرار, وأقوى الأسباب عندنا فساد الصورة, لأن حاصل هذا الرأى أن الوجوب يسقط لحظة ثبوته, وفيه تكلف وفساد صورة ( أنظر كشف الأسرار ــ المرجع السابق ص 245 ــ 246). والذى نرجحه أن الصبى مخاطب قبل البلوغ وأن الحكمه يتردد بين الفرضين الثالث والرابع على تفصيل لا يقتضيه المقام.

(27)    الغزالى ــ إحياء علوم الدين, جـ 7 ص 1223.

(28)     الغزالى ــ المرجع السابق ص 1217.

(29)    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1223.

(30)   لا يصح ضرب الصبى إلا من قبل وليه, ولا يدخل هذا الضرب فى باب الحسبة, لأن الوالى لا يحتسب بتعليم ولده الصلاة ولا بتعويده عليها, بل يؤدى واجبا على العين لزمه. ولما كانت الحسبة واجبا كفائياً فإن الأب حين يعلم والده الصلاة لا يكون محتسبا, ولهذا خوله الشرع ضربه لا لحمله على الصلاة فهى مندوبة له بل لتعويده عليها.

(31)                    الغزالى ــ إحياء علوم الدين جـ 7 ص 1120 ــ 1221.

(32)   يقول القرافى : موارد الأحكام على قسمين : مقاصد للمصالح والمفاسد فى أنفسها, ووسائل وهى الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل. الفروق جـ 2 ص 33. ويقول أيضاً : متى كان الفعل السلم عن المفسدة منع مالك من ذلك الفعل فى كثير من الصور. وليس سد الذرائع من خواص مذهب مالك كما يتوهمه كثير من المالكية. المرجع السابق ص 32.

ويقول ابن القيم : لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضى إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها, فوسائل المحرمات والمعاصى فى كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غايتها. فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود, لكنه مقصود قصد الغايات وهى مقصودة قصد الوسائل. فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضى إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً للتحريم وتثبيتا له ومنعاً أن يقرب حماه. ابن قيم الجوزية ــ اعلام الموقعين عن رب العالمين ــ القاهرة 1968 ــ جـ 3 ص 135.

(33)     أنظر فى ذلك على الخفيف ــ المرجع السابق ص 575.

(34)    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1218.

(35)      أما المجاهير بالعزم على ارتكاب المنكر ففعل المنكر لا مجرد فكر وعزم, ولهذا يجب الاحتساب فيها بما يناسبها.

(36)  وهذا ما يراه الغزالى تقريباً, فقد عرض للمنكر المتوقع كالذى يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعد لم يحضر الخمر, فهذا ــ فى رأيه ــ مشكوك فيه, إذ ربما يعوقه عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على العازم على الشراب إلا بطريق الوعظ والنصح, فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية قد عملت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدى إليها ولم يبق بحصول المعصية إلا ما ليس فيه إلا الانتظار, وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج, فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعنه فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضوع ومنعهم من الوقوف بالتعنيف والضرب. وكان تحقيق هذا وهو ما نراه مهما ــ إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف فى نفسه معصية وإن كان مقصد العاصى وراءه, كما أن الخلوة بالأجنبية فى نفسها معصية لأنها مظنه وقوع المعصية, وتحصيل مظنة حصول المعصية معصية. ونهنى بالمظنة ما يتعرض الإِنسان به لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها, فإذن هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة. إحياء علوم الدين ص 1217.

(37)                    الغزالى ــ إحياء علوم الدين ص 1219. ويقول تأكيدا لذلك : فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر فى الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار . ص 1219.

(38)                    ويقول الغزالى فى الحسبة على المجنون إذا رئى يزنى بمجنونة أو ببهيمة إن المنع ليس لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس, بل لو صادف هذا المنكر فى خلوة لوجب المنه منه. المرجع السابق ص 1217.

(39)                    العزالى ــ المرجع السابق 1219.

(40)                    الدكتور عبد الفتاح الصيفى ــ شرط الظهور فى المنكر الموجب للحسبة ــ الرياض. ص 5.

(41)                    الماوردى ــ الأحكام السلطانية ص 244, وانظر كذلك القرشى المعروف بابن الإِخوة ــ معالم القربة فى أحكام الحسبة ــ القاهرة 1976 ص 75. وخالف عن ذلك أبو يعلى الفراء فى أحكامه السلطانية حيث ذكر أن من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس فقياس المذهب أن يعترض عليه لأنها من فرائض الأعيان, فهى كترك الجمعة ــ إبو يعلى ــ المرجع السابق ص 288.

(42)                    على الخفيف ــ المرجع السابق ص 579.

(43)                    ومع ذلك فإن بين احتمال قيام المانع والتيقن من عدمه فارقا يظهر لا فى أصل الاحتساب بل فى وسيلته, فالمنكر فى الحالة الأولى يكون ثابتا يغالب الظن وفى الثانية على وجع القطع, ودرجة الثبوت من الأمور التى توضع فى الاعتبار عند اختيار وسيلة الحسبة.

(44)                    جاء فى المعالم القربة بيانا لواجبنا المحتسب ما يلى : وليكن معه أمين عارف يعتمد على قوله, ومع ذلك فلا يعتمد إلا على ما يظهر لخ ويباشره بنفسه. معالم القربة ص 320.

(45)                    الغزالى ــ إحياء علوم الدين ص 1226.

(46)                     وهو ما يؤيده قوله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ : (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده … الحديث )).

فقد علق الأمر على (( رؤية )) المنكر لا على مجرد العلم به. والرؤية المقصودة هنا لاتقتصر على الرؤية البصرية فحسب, بل يراد بها الرؤية الحسية, أى إدراك المنكر بأى حاسة من الجواس.

(47)                    بل إن حكمة الشرط ومضمونه يوجبان القول بأن طروء الاحتجاب لا ينافى الظهور, لأنه لما كان الظهور ضابطه إدراك المنكر بإحدى الحواس, وكان احتجاب المنكر بعد ظهوره لا يعنى زواله ولا ينفى استمداد العلم بوجوده فإن شرط الظهور يظل متحققا بحكم الاستصحاب بالنسبة إلى من رأى المنكر رغم طروء الاحتجاب.

(48)                    الماوردى ــ المرجع السابق ص 252, أبو يعلى الفراء ــ المرجع السابق ص 297, ابن الإِخوة ــ المرجع السابق ص 91, على الخفيف ــ المرجع السابق ص 581 ــ 582.

(49)                    انظر الغزالى ــ إحياء علوم الدين ص 1198.

(50)                    الماوردى ــ المرجع السابق ص 252, أبو يعلى ــ المرجع السابق 296, على الخفيف ــ المرجع السابق. ص 581 ــ 582.

(51)                    ابن الإِخوة ــ المرجع السابق. ص 91.

(52)                    وهذا الشرط بالغ الأهمية, وكثير ما أدى إغفاله إلى تشويه وجه الحسبة. ولهذا رأى الفقهاء وجوب التفرقة بين الفقه وغيره إذا احتسبا. يقول الغزالى : ينبغى للعامى ألا يحتسب إلا فى الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة, فأما ما يعلم كونه معصية بالإِضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ــ أى بالنظر إليها ــ ويفتقر إلى اجتهادٍ فالعامى إن خاض فيه كان مايفسده أكثر مما يصلحه, ثم عقب قائلا : وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالى, وإذ ربما ينتدب ــ أى يتصدى ــ لها من ليس أهلا لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدى ذلك إلى وجوه من الخلل. إحياء علوم الدين 7 / 1210.

(53)                    الماوردى ــ المرجع السابق ص 253, أبو يعلى ــ المرجع السابق 297.

(54)                    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1219 ــ 1220.

(55)                    الغزالى ــ المرجع السابق ص 1221.

(56)                    الغزالى ــ المسصفى ص 492.

(57)                    الغزالى ــ إحياء علوم الدين, المرجع السابق ص 1221.

(58)                    الماوردى ــ المرجع السابق ص 240, وأبو يعلى ــ المرجع السابق ص 385. وعبر شيخنا على الخفيف عن هذا العنى بقوله إن للمحتسب المعين أن يجتهد رأية فيما يتعلق بما يقضى به العرف وتوجبه التقاليد المألوغة فى مثل المقاعد فى الأسواق والطرقات وإخراج الأجنحة وما إلى ذلك بما تفضى مراعاته إلى عدم الإِضرار بالمارة والسابلة وأرباب المصالح فى ذلك. المرجع السابق ص 572.

(59)                    الماوردى ص 257, أبو يعلى ص 305.

(60)                    أنظر الغزالى ــ المستصفى ص 484.

(61)                    العزّ بن عبد السلام ــ قواعد الأحكام فى مصالح الأنام ــ بيروت ــ الجزء الأول ص 4.

(62)                    على الخفيف ــ المرجع السابق ص 584.

(63)                    ابن القيم ــ الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية ــ القاهرة ص 348.

(64)                    الغزالى ــ إحياء علوم الدين, المرجع السابق ص 1223 ــ 1224.

(65)                    تساءل الغزالى عمن رأى بهيمة قد استرسلت فى زرع غير هل يجب إخراجها, أو رأى نالًا لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه, ثم أجاب : مهما قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب فى بدنه أو خسران فى حاله أو نقص فى جاهه وجب عليه ذلك, فذلك القدر واجب فى حقوق المسلم, بل هو أقل درجات الحقوق. والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها. فأما إن كان عليه تعب فى مال أو جاه لم يلزمه ذلك لأن حقه مرعىّ فى منفعة بدنه وفى ماله وجاهه كحق غيره فلا يلزمه أن يفدى غيره بنفسه, وأما إن كان فوات المال بطريق هو معصية كالغضب فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما, لأن المقصود حق الشرع, والغرض دفع المعصية, وعلى الإِنسان أن يتعب نفسه فى دفع المعاصى كما عليه أن يتعب نفسه فى ترك المعاصى, والمعاصى كلها فى تركها تعب, وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهى غاية التعب. إحياء علوم الدين, المرجع السابق 1224 ــ 1225.

(66)                    وصرح كذلك بأن الظن المخالفة لايعد منكرا موجبا للحسبة وإن كان معصية فى ذاته. أنظر الإِحياء  7/ 1221. وقال القرافى إن مناط الاحتساب هو حدوث المفسدة وإن يكن فعلها عصيانا بسبب حال مرتكبها, فإذا حدثت وجب الاحتساب بمنعها.

(67)                    ابن حزم ــ المحلى جـ 11 ص 23.

(68)                    ابن حزم ــ المحلى جـ 10 ص 632.

(69)                    الماوردى ــ الأحكام السلطانية ص 245, أبو يعلى ــ الأحكام السلطانية ص 289.

(70)                    القرفى ــ الفروق جـ 4 ص 33.

(71)                    لغزالى ــ إحياء علوم الدين ــ المرجع السابق.

(72)                    الغزالى ــ المرجع السابق 1225 ــ 1226.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر