أبحاث

في القانون الدولي والشريعة الإسلامية

العدد 101

غني عن البيان أن قيام اتصالات والدخول في علاقات بين الأمة الإسلامية، أو قل – إن شئت – : بين الدولة (الدول) الإسلامية وبين غيرها من الدول والجماعات التى لا تدين بالإسلام، بقدر ما تدعو إليه ضرورات الواقع الاقتصادية والاجتماعية وتدفع إليه السنن الكونية ، هو أمر تقتضيه وتفرضه تلك الخصائص العامة والسمات الكلية للشريعة الإسلامية والتي تتحصل – على الجملة – في كون هذه الشريعة خاتمة الرسالات السماوية بكل ما يعنيه ذلك من عموم أحكامها للناس كافة وشمولها لمناحي الحياة البشرية قاطبة .

وغني عن البيان كذلك أن الشريعة الإسلامية كما تحوى من القواعد والأحكام ما يكفل تنظيم الحياة وإدارة التعاملات والعلاقات داخل المجتمع الإسلامي أو فيما بين المسلمين وبعضهم البعض ، دولاً كانوا أو جماعات ، فإنها – أي الشريعة الإسلامية – في الوقت ذاته تضع مجموعة من القواعد والالتزامات التي يتعين على أولي الأمر في الدولة («الدول» الإسلامية مراعاتها وهم بصدد تنظيم وإدارة علاقاتهم مع غير المسلمين أيًّا ما كان شكل التنظيم السياسي الذي يجمع غير المسلمين هؤلاء (دول بسيطة ، دول اتحادية ، مجتمع دولي ينتظم الدول الإسلامية جنبًا إلى جنب مع الدول غير الإسلامية ) .

ومن جهة ثانية ، فقد تمخضت الحروب الدينية في أوربا بين البروتستانت والكاثوليك عن ظهور مجتمع دولي أوربي ينتظم دولاً قومية  ذات سيادة Sovصلى الله عليه وسلمrصلى الله عليه وسلمign Nation-States تدير علاقاتها المتبادلة على أساس من المساواة في السيادة والاعتراف المتبادل، وظهر بالتالي ما يسمى بالقانون الدولي «أو القانون العام الأوربي» لحكم وتنظيم العلاقات المتبادلة بين هذه الدول وبعضها البعض. وظل المجتمع الدولي منذ ذلك الحين ( صلح وستفاليا 1648) مرادفًا في نطاقه وطبيعته لمجتمع الدول الأوربية المسيحية إلى أن اعترف بتركيا عضوًا فيه في عام 1856 ثم الصين واليابان بعد الحرب العالمية الأولي ، إلى أن أصبحت عضوية المجتمع الدولي تتسع لتشمل كافة الدول المستقلة ذات السيادة في جميع أرجاء المعمورة ، إلى جانب الواحدات والكيانات الأخرى عدا الدولة كالمنظمات الدولية – العالمية والإقليمية – وحركات التحرر الوطنى ، والشركات متعددة الجنسيات ….. ، وغدا القانون الدولي المعاصر في ظل هذا التطور مجموعة القواعد التى تحكم وتنظم العلاقات بين أشخاص الجماعة الدولية أو داخل المجتمع الدولي .

ومن جهة ثالثة ، فإن الأمة الإسلامية بعد أن كانت تتجسد في دولة واحدة إبان عهد النبي صلى الله عليه وسلم والفترة الممتدة من الخلفاء الراشدين وحتى سقوط دولة الخلافة العثمانية في 1924 ، هذه الأمة توزعت وتفرقت بعد حادثة انهيار الخلافة إلى دول إسلامية متعددة تتمتع كل منها بالسيادة والاستقلال، سواء في مواجهة غيرها من الدول الإسلامية أو في مواجهة الدول الأخرى غير الإسلامية من أعضاء الجماعة الدولية ، وصارت الدول الإسلامية بهذا الوصف أعضاء في الجماعة الدولية تخضع من ثم لأحكام القانون الدولي بوصفه قانون الجماعة الدولية .

وإذا كان مؤدى ماسبق أن «الدولية» أو إن شئت فقل: «الخارجية» وصف تشترك فيه كل من الأحكام العامة للشريعة الإسلامية ذات الصلة بتنظيم العلاقات الخارجية للدولة (الدول) الإسلامية وأحكام القانون الدولي المعاصر ، فإن ما توافر لدينا من خبرة البحث والتدريس في هذين المجالين يحدونا أن نطرح افتراضًا عامًّا مفاده أن «الأحكام العامة للقانون الدولي المعاصر تتفق – في قليل أو كثير – مع ما سبق أن قررته المبادئ والأحكام العامة للشريعة الإسلامية بشأن إدارة وتنظيم العلاقات الخارجية للدولة (الدول) الإسلامية ، كما تحدونا خبرة البحث والتدريس في القانون الدولي المعاصر والشريعة الإسلامية إلى القول بأن الافتراض العام سالف الذكر تنبني عليه نتائج ذات دلالة مهمة فيما يتصل بمنهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي أو من وجهة نظر إسلامية .

ولأغراض هذا البحث – المحددة زمانًا وموضوعًا – نعكف على تحقيق وتمحيص الافتراض سالف الذكر من خلال استعراض الأحكام المنظمة لاستخدام القوة المسلحة في كل من الشريعة الإسلامية والقانون الدولي لنرى إلى أي مدى تتفق أحكام القانون الدولي المعاصر مع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا الخصوص ودلالة ذلك بالنسبة لسلوك الدول الإسلامية في إطار التنظيم الدولي الراهن .

وبدهي أن اختيار هذا الموضوع – استخدام القوة المسلحة – لاختبار وتمحيص الافتراض المشار إليه أمر يتفق ومقتضيات العقل والمنطق التى تشير إلى أنه إذا وجد مجال للاتفاق بين الحقلين بشأن مبررات استخدام القوة المسلحة والقواعد المنظمة لهذا الاستخدام ، فإن مجال الاتفاق يغدو أرحب وأوسع بالنسبة للأحكام المنظمة لعلاقات السلم والتعاون في كل من الشريعة الإسلامية والقانون الدولي ، وعلى ذلك تكون خطة البحث كالتالي :

أولاً : نظرة عامة مقارنة في قانون استخدام القوة المسلحة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي .

1- مبررات استخدام القوة المسلحة في الشريعة الإسلامية والقواعد المنظمة لها .

2- أحكام القانون الدولي المعاصر بشأن استخدام القوة المسلحة وتنظيم سلوك المحاربين .

3- الدلالات الخاصة للنظرة المقارنة: أحكام القانون الدولي بشأن استخدام القوة تجد لها مصدرًا في الشريعة الإسلامية .

ثانيًا : الدلالات العامة للنظرة المقارنة على منهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي .

1- تعزيز التضامن الإسلامي لا يتعارض والتنظيم الدولي المعاصر .

2- تطوير أحكام السلم والتعاون في القانون الدولي المعاصر .

القسم الأول

نظرة عامة مقارنة في قانون استخدام القوة المسلحة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي:

أولاً : مبررات استخدام القوة المسلحة في الشريعة الإسلامية والقواعد المنظمة لها:

أ – انطلاقًا من أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم تقوم على أساس الدعوة ، يمكن القول بأن مبررات استخدام القوة في الشريعة الإسلامية ضد غير المسلمين تتحصل في أسباب وموجبات تنأى بالدول الإسلامية عن أن تشن حربًا هجومية أو أن تعتدى على دولة أخرى غير إسلامية . وبعبارة أخرى ، فإن آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وحروبه وحروب الخلفاء الراشدين من بعده ، كل ذلك ليكشف عن أن مبررات استخدام القوة المسلحة ضد الدولة أو الدول غير الإسلامية تتحصل في الآتي :

1- الدفاع ضد العدوان :

يأتي في مقدمة البواعث الموجبة للقتال في الإسلام ، والتى لا يختلف فيها موقف الإسلام عن كافة الشرائع أو النظم الوضعية ، حالة تعرض الدولة الإسلامية لعدوان خارجي يستهدف النيل من ديار المسلمين أو القضاء على عقيدتهم وفتنتهم في دينهم . فوقوع عدوان كهذا يوجب على الدولة الإسلامية الاستعداد والنهوض لمواجهته والقضاء عليه بما يصون ديار المسلمين ويحمى عقيدتهم. يتضح ذلك في الآيات البينات 190 – 193 من سورة البقرة التى يقرر فيها الحق تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَــــــــزَاءُ الْكَافِرِين َ(191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(192)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين َ(193)} .

فأسباب نزول الآيات السابقة توضح أن الأمر بالقتال لم يستهدف القتال العدواني بل الدفاعي؛ لأن لفظة «الفتنة» التى وردت في الآية الكريمة تعنى أن الكفار من أهل مكة كانوا لا يزالون مستمرين في تعذيب المسلمين ، والقرآن يصف الفتنة بأنها أشد من القتل، وظاهر الآيات السابقة على الآية 193 يكشف عن أن الأمر بالقتال كان ضد الظالمين، وهو صورة من صور الدفاع عن الذات، كما أن الآيات صريحة في أن حق المسلمين في مقاتلة المشركين إنما يمارس فقط ضد الذين يقاتلون المسلمين. وقد ربطت الآية 193 بما سبقها من آيات بواو العطف لتحديد الغاية من القتال وهي سحق الفتنة، ولا شأن لها ببدء القتال ، فذلك أمر حكمت فيه الآية 190، فضلاً عن أن آخر الآية 193 يقول {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين} والانتهاء هنا هو الانتهاء من الفتنة؛ لأن الدين مسألة بين العبد وربه ، وليس لأحد أن يتدخل في تلك العلاقة ما بقيت خافية ، وإذن فمعنى الآية هو أن يوقف المسلمون القتال إذا ما توقف المشركون الأعداء عن فتنة المسلمين بالقوة .

وتأتي الآية 217 من سورة البقرة لتدل على أن عدوان المشركين وإصرارهم على فتنة المسلمين عن دينهم هو الموجب للقتال {يَسْألُونَكَ عَنِ الشهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ والمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِندَ اللهِ والفِتنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ استَطَاعُوا } .

وإلى جانب ما سبق ، فإن آيات سورة التوبة (1 – 13) إذا قرئت سويًّا تكشف عن أن الأمر بقتال المشركين يخص منهم أولئك الذين لا عهد لهم، والذين إن يظهروا علي المسلمين لا يرقبوا فيهم إلاًّ ولا ذمة .

وهذه الآيات نزلت في المدينة وقت أن انتهكت قريش عهد الحديبية وهاجم حلفاؤها حلفاء المسلمين من بني خزاعة، فأعطت الآيات قريشًا أربعة أشهر للتسليم وإلا هاجمهم المسلمون ، وقد حدث أن استسلمت مكة ولم تطبق الآيات عملاً . واستثنت الآيات صراحة الذين لم ينقضوا العهد ولم يظاهروا على المسلمين والذين عاهدوا واستقاموا على عهدهم ، والأمر بقتال أهل الكتاب ليس للكافة وإنما يخص منهم فريقًا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، يؤكد ذلك ما جـــــاء في الآيتين (32 ، 34) من السورة ذاتها التى تكشف عن محاولات فريق من أهل الكتاب لمحاربة دين الإسلام .

والآية 41 من سورة التوبة تستحث المسلمين على محاربة بيزنطة حين أنبئ الرسول صلى الله عليه وسلم بأن بيزنطة تعد العدة لغزو الجزيرة العربية واستئصال الإسلام، فلم يكن أمامه من بد في صيف 630م وعلى الرغم من نكوص بعض أصحابه إلا أن يدعو إلى هجوم مضاد، فلما وصل جيش المسلمين تبوك كانت قوات بيزنطة قد انسحبت، ولما كان القصد من الحملة دفاعيًّا فقد عاد الرسول برجاله دون قتال ، والآيات التى تعيب على المسلمين الذين تخلفوا عن القتال وتطالبهم بأن ينفروا خفافًا وثقالاً وأن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لا تأمر بقتال عدواني وإنما تحذر المسلمين من التخلف عن دعوة الإمام للجهاد .

وقوله تعالى في السورة نفسها {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة} [التوبة: 36] لا يمكن أن يعني أن كل فرد مسلم بلا استثناء مأمور بأن يقاتل كل فرد مشرك بلا استثناء ، وإنما تعني المشركين المعتدين، وأن قتال المسلمين هو رد للعدوان ؛ لأن الآية استخدمت الفعل المضارع في وصف قتال المشركين، الأمر الذي يدل على أن قتالهم ظل مستمرًّا إلى وقت نزول الآية، بل لعله باق إلى الآن . فضلا عن أن لفظة «كافة» تعنى الوحدة وليس الشمول العددي، فالمسلمون مأمورون أن يحرصوا على وحدتهم فيكونوا يدًا واحدة في قتال المشركين؛ لأن ذلك هو ما يفعله المشركون في قتالهم (حث المسلمين على طرح خلافاتهم وراء ظهورهم لدى قتالهم المشركين) .

وقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم} (البقرة 244) يرتبط بالآيـــة الســــابقة عليها (243) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}، فالآية الأخيرة سيقت لإقناع المسلمين بالذود عن استقلال دولتهم وحقها في البقاء الذي هو موضوع الآية (244) ، وذلك بالربط بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة وإبراز مدى تشابك المصلحتين ، وهذه الآية لا شأن لها بالحرب العدوانية وأغلب الظن أنها نزلت في أول عهد المسلمين بالمدينة وقبل معركة بدر ، وقت أن كان المسلمون لا يزالون متأثرين بسلوكهم في مكة ألا وهو عدم الالتجاء إلى العنف ، فضلاً عن أن لفظة «قاتلوا» لا تعنى حتمًا ولزامًا أن يكون القتال عدوانيًّا ، لاسيما وقد قيدت الآية القتال بأن يكون في سبيل الله ، والله لا يحب المعتدين .

أما قوله تعالى{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}، لا يشير حتمًا إلى أن لفظة الجهاد في الآية تعنى الجهاد العسكري؛ لأن الآية تتعلق بالكفار والمنافقين معًا . ومعلوم شرعًا أن المنافقين مسلمون، وتبعًا فلا يسوغ مقاتلتهم أو رفع السيف في وجههم. ولو كان الجهاد في هذه الآية يعني القتال لما تقاعس الرسول صلى الله عليه وسلم عن تنفيذه ضد المنافقين .

وأخيرًا ، فإن قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} [التوبة 123] ، يناقش مسألة إجرائية تكتيكية (البدء بمن هو أقرب من الأعداء لأنه هو العدو الأكثر تهديدًا) . وتبعًا فالآية لا تفرض حكمًا موضوعيًّا عامًّا ينطبق على الكفار جميعًا .

وفضلاً عما سبق ، فإن الحرب الهجومية تتعارض مع الحكمة الإلهية من خلق البشرية . فالله تعالى قسم الناس إلى شعوب وقبائل تتباين في ألوانها ولغاتها ومواقعها على الرغم من انتمائها أو رجوعها إلى أصل واحد (نفس واحدة خلق الله تعالى منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء) ، يتضح ذلك من قوله تعالى : {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُــــــــعُوبًا وَقَبَـــائِلَ لِتَعَــــــارَفُوا } [الحجرات:13] فالتعارف – أو ما يقبله المنطق والعقل – هو حكمة الخالق في تشكيل العالم أو «الجماعة الدولية» في وحدات وكيانات سياسية منفصلة ، وبدهي أن الحرب الهجومية ليست مما يدخل في ذلك التعارف .

2- حماية العقيدة والدفاع عن حرية الرأي والاعتقاد مبرر للقتال :

يكشف إمعان النظر في آيات القرآن الكريم واستعراض حروب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده عن أن الباعث على القتال في الإسلام ليس هو فرض الإسلام دينا على المخالفين ولا فرض نظام اجتماعي معين . فقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} [البقرة: 256] ، يؤكد أن القتال ليس للإكراه في الدين، وقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم منع رجلاً حاول أن يكره بعض ولده على الدخول في الإسلام ، كما ثبت أيضًا أن امرأة عجوزًا جاءت عمر بن الخطاب في حاجة لها وكانت غير مسلمة، فدعاها إلى الإسلام فأبت فتركها عمر ، وخشي أن يكون في قوله وهو أمير المؤمنين إكراه ، فدعا ربه قائلاً:« اللهم أرشدت ولم أكره» وتلا قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} .

بيد أن الشريعة الإسلامية من جهة أخرى تعتبر فتنة المتدين في دينه أشد من قتله، وتعتبر الاعتداء على العقيدة أشد من الاعتداء على النفس ، مما يبرر استخدام القوة لردع المعتدين إذا ما لزم الأمر. وبيان ذلك أن «كل مبدأ سام يتجه إلى الدفاع عن العقيدة وعن الحرية الشخصية يهم الداعي إليه أن تخلو له وجوه الناس، وأن يكون كل امرئ حرًّا فيما يعتقد، يصطفى من المذاهب ما يراه أصلح للاتباع في اعتقاده وما يراه أقرب إلى العقل في نظره» . وفي سبيل الدعوة إلى الإسلام ، سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريقين :

أولهما : أن أرسل الدعاة والرسل إلى ملوك وحكام الدول المجاورة في عصره يدعوهم إلى الإسلام ويحملهم إثمهم واثم من يتبعونهم إن لم يجيبوا دعوته، من ذلك ما جاء في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل«أسلم تسلم، وإلا فعليك إثم الأريسيين» أي الرعية من الزراع وغيرهم {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه} [آل عمران: 64] .

ثانيهما : أنه بعد هذه الدعوة الرسمية، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعلن الحقائق الإسلامية ليتعرفها رعايا تلك الشعوب فيتبعها من يريد اتباعها، وقد اتبعها فعلاً بعض أهل الشام ممن يخضعون لحكام الرومان، وعرف المصريون وغيرهم حقيقتها حتى لم تعد مجهولة لمن يريد أن يتعرفها وتسامعت بها البلاد المتاخمة للعرب.

ولم يكن قتال النبي صلى الله عليه وسلم الروم أو الفرس إلا ردًّا لعدوان ومنعًا للفتنة في الدين، فالروم بدأوا بالاعتداء على المؤمنين الذين دخلوا في الإسلام من أهل الشام وأخذوا يفتنونهم في دينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم – وإن كان لا يحمل الناس على اعتناق الإسلام كرهًا – لا يمكن أن يسكت عمن يحاول إخراج أتباعه عن دينهم كرهًا . فاعتبر ذلك عدوانًا يلزم دفعه، فأرسل سرية أَمَّرَ عليها زيد بن حارثة ثم جعفرًا ثم ابن رواحة، وكان ذلك أول قتال قاتله المسلمون بمؤتة من أرض الشام .

وكذلك الشأن بالنسبة لقتال الفرس، فكسرى عندما بلغ إليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم هم بقتل رسوله، وأخذ الأهبة ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم واختار من قومه من يأتيه برأس النبي صلى الله عليه وسلم ، فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم ليسكت حتى يرتكب كسرى هذا الإثم، وكان لابد من مواجهة هذا الأمر قبل أن يتحول إلى اعتداء فعلي حال .

ومما يؤكد أن حروب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عدوانية وإنما كانت دفاعًا وأمانًا أنه أحاطت بالإسلام في أول عهده ثلاث دول هي بيزنطة وفارس والحبشة، وقد حارب الإسلام بيزنطة وفارس؛ لأنهما – كما سلف – بدآه بالعدوان وأضمرا له العداوة والخصام ، أما الحبشة فقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من معاداتها إن لم تبدأ هي المسلمين بالعدوان؛ لأنها سبق أن آوت المهاجرين وأبت أن تسلمهم للمشركين، وتابعت بعد ذلك سياسة  الود والصداقة، وثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» ، مما يدل على عدم مقاتلة الدول غير الإسلامية، أو بالأحرى النظم القائمة فيها إذا هي لم تقف عقبة دون إيصال الدعوة إلى رعاياها أو إذا هي لم تؤلب شعوبها ضد الدولة الإسلامية من أجل محاربة الدعوة والقضاء عليها ، كما يتأكد ذلك أيضًا بما ثبت في السنة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمراء السرايا في البعوث بتخيير العدو بين ثلاث خصال هي «الدخول في الإسلام فيصبح الجميع رعايا في الدولة الإسلامية ملتزمين بأحكام الشريعة ، أو إعطاء الجزية بما يدل على ارتضاء الدخول في كنف السيادة الإسلامية ، مع البقاء على غير دين الإسلام ، أو القتال؛ لأن رفض الخيارين الأولين يدل على توافر النية لدى العدو على مناوئة الدعوة ومحاربتها بكل وسيلة وترقب الفرصة للانقضاض على المسلمين وطمس دعوتهم .

وقد سار الخلفاء الراشدون من بعد النبي صلى الله عليه وسلم على نفس النهج في مقاتلة غير المسلمين ، فالقتال واجب ولازم لرد الاعتداء والدفاع عن حرية الرأي وحماية العقيدة وتوفير الأمن والطمأنينة للناس في عقائدهم دون تفرقة في ذلك بين المسلمين وغيرهم من أتباع الشرائع السماوية . فاليعقوبيون من المسيحيين أمن لهم اعتقادهم فحيل بين الرومان وبين ما يشتهون من محاولة حملهم على الكثلكة ، الأمر الذي حملهم على الترحيب بجيش المسلمين ، ولم يكن قتال إلا مع الرومان، حتى إذا هزموا في أول صدمة صارت المعركة بين المسلمين والمصريين مناوشات وليست حروبًا ، وانتهى الأمر بالتسليم لعدالة الإسلام الذي يحمى الحريات وخصوصًا حرية الاعتقاد . يؤيد ذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] من أن الحروب الموجهة لتحدى قوى الشر وحماية عقائد الناس وبيوت العبادة التى يذكر فيها اسم الله لمنع هدمها وتخريبها ، كلها حروب في سبيل الله ودفاع عن حرية العقيدة .

ومؤدى ما سبق أن الدعوة الإسلامية بوصفها رسالة عالمية وجدت لتبلغ للناس كافة في الأرض (جميع الأرض) تشكل أساس علاقات المسلمين بغيرهم. فعلى المسلمين التزام دائم ومستمر بحمل هذه الدعوة وأمانة إيصالها للناس في كافة أنحاء الأرض، ويجب إيضاحها خالصة نقية للمخاطبين بها حتى يدرك هؤلاء المخاطبون كنهها فيؤمنون بها؛ لأنها تتفق مع فطرة الله التى فطر الناس عليها ، ويجب في ذلك تحقيق الحرية أمام المخاطبين بالدعوة الإسلامية بحيث إذا ما شاءوا أن يدخلوا في الإسلام لم يجدوا ما يمنعهم، ولن يتسنى ذلك إلا إذا وقفت الدعوة قوية أمام سلطات البلاد المخاطبة بالدعوة ، وقفة تضعها في موضع القوة التى تجعل الأشخاص يفكرون كثيرًا في عقيدتهم ، فيختارون عن حرية واقتناع تامين . والأصل أن الدعوة – كما تكشف آيات القرآن والسنة الصحيحة – تكون بالجهاد السلمي، وأنها تتحقق بمجرد الإبلاغ التام وتبصير الناس بها، بحيث لا يكون قتال غير المسلمين لمجرد بقائهم على الشرك أو الكفر، وإنما بحسب ما يكون عليه موقفهم من الدعوة الإسلامية قبولاً أو إعراضًا وصدًّا، أخذًا بعين الاعتبار كذلك ما يكون عليه المسلمون من قوة أو ضعف، فعندما بلغت الدعوة الإسلامية الأمم والجماعات المجاورة للدولة الإسلامية أكثر من مرة ، دون انقيادهم لها وتخلية الطريق أمامها بل وانصرافهم إلى جمع الجموع وإعمال التآمر والتأليب على الإسلام وأهله ، بما في ذلك نقض العهود وعدم مراعاة الذمة مع المسلمين، كان لابد من مبادأة غير المسلمين بالهجوم من باب «الدفاع الوقائي» بهدف حماية الدعوة وتأمين نشرها بين الناس .

3- نصرة المستضعفين من المسلمين في الدول غير الإسلامية:

حرم الله تعالى الظلم على نفسه وجعله محرمًا بين خلقه ، ففي الحديث القدسي « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا» والإسلام يأمر المسلمين ، فرادى وجماعات ، شعوبًا ودولاً «بالإيجابية» أي بالتعاون على البر (كل أعمال الخير والنفع للإنسانية قاطبة) مصداقًا لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} [المائدة: 2] والظلم صورة من صور العدوان المنهى عنه والموجب للنهوض والوقوف في وجهه ولو بالقوة المسلحة. وبعبارة أخرى ، فقد جعل الإسلام من الظلم والتمادي فيه مبررًا لمقاتلة الظالم، فردًا كان أو دولة ، مسلمًا كان المظلوم أو غير مسلم . يوضح ذلك قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء : 75] . وقد ثبت في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر حلف الفضول الذي شهده في دار ابن جدعان قبل البعثة، وفيه تحالفت القبائل على نصرة المظلوم والانتصاف لحقوقه من الظالم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام لايزيده إلا شدة» ، كما ناصر الرسول صلى الله عليه وسلم خزاعة على قريش بعد أن استنصرت به ضد اضطهاد قريش وعدوانها على خزاعة، وإن كان ذلك إعمالاً لمقتضى معاهدة الدفاع والمساعدة المتبادلة المبرمة بين الطرفين .

وغني عن البيان أن الوقوف في وجه الظلم ومحاربته بغض النظر عن ديانة المظلوم يجعل من مناصرة المسلمين المستضعفين أو المظلومين والمضطهدين في الدول غير الإسلامية أمرًا أولى وألزم بالنسبة للدولة الإسلامية . وبعبارة أخرى ، فإن حق الأخوة في الدين وإعمال مقتضى الولاية والتناصر فيما بين المسلمين يفرض على الدولة الإسلامية التدخل لنصرة المسلمين المقيمين في الدول غير الإسلامية والذين يتعرضون للظلم والاضطهاد على أيدى سلطات هذه الدول بهدف صرفهم عن دينهم وفتنتهم فيه . وينبني واجب التدخل من جانب الدولة الإسلامية في مثل هذه الحالة على قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِـــــــــــيرًا} [النساء:75]

بل إن الإسلام يشدد على ضرورة إعمال هذا الالتزام (واجب التدخل للعون والنصرة) حتى بالنسبة للمسلمين الذين امتنعوا عن الهجرة من دار الكفر والشرك مع قدرتهم عليها وقت أن أذن للمسلمين بالهجرة من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة ،  فامتناع هؤلاء المسلمين عن إنفاذ التوجيه العام بالهجرة مع قدرتهم عليها ، وإن كان ينهض سببًا لانتفاء علاقات الموالاة بينهم وبين الدولة الإسلامية؛ إعمالاً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا (أي من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة) مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْء} [الأنفال: 72]، إلا أن انقطاع الموالاة بسبب الامتناع عن الهجرة مع القدرة عليها لا يسقط واجب الدولة الإسلامية في التدخل لاستنقاذ هؤلاء المسلمين الذين امتنعوا عن الهجرة، ولكنهم تعرضوا للظلم والاضطهاد بسبب دينهم ، فضلاً عن أن السبب المشار إليه – وهو الامتناع عن الهجرة مع القدرة عليها – لا ينال من حق هذه الفئة في طلب العون والاستنصار من الدولة الإسلامية ، مصداقاً لقوله تعالى في الآية ذاتها وبعد تقرير انقطاع الموالاة {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْر} [الأنفال: 72].

وغنى عن البيان أن التزام الدولة الإسلامية بنصرة المسلمين المضطهدين في الدول غير الإسلامية على الرغم من امتناع هؤلاء المسلمين عن الامتثال للأمر العام بالهجرة مع القدرة عليها ، هذا الالتزام يغدو أوثق وأشد تجاه المسلمين المضطهدين في دول غير إسلامية كانت من قبل جزءًا من دار الإسلام تسود فيها أحكام الإسلام ويأمن فيها المسلمون وغيرهم على عقائدهم ومعتقداتهم الدينية ، وكذلك المسلمين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي بعد أن وقفوا على حقيقة الدعوة الإسلامية وتبصروا جوهر الإسلام وحقيقته ، ويشكلون جماعات أقلية في دولهم غير الإسلامية .

وبدهي أن التدخل من جانب الدولة (الدول) الإسلامية لنصرة المسلمين المضطهدين في الدول غير الإسلامية يتسع ليشمل كافة صور وأشكال التدخل، بدءًا في ذلك بالاحتجاج الدبلوماسي والتلويح باتخاذ تدابير مضادة عسكرية، ومرورًا باتخاذ هذه التدابير فعلاً كقطع العلاقات ووقف الصلات والتعاملات التجارية والاقتصادية ووسائل المواصلات البحرية والجوية ، وانتهاء بالتدخل المسلح .

بيد أن المشكلة تدق وتثور إذا ما علمنا أن الاستثناء المقيد لواجب التدخل للنصرة والمنصوص عليه في الآية ذاتها المقررة لهذا الواجب {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاق} [الأنفال: 72] تدق المشكلة إذا كان الاستثناء المشار إليه متحققًا – بصفة عامة ودائمة – في العلاقات الدولية المعاصرة للدول الإسلامية ، ونعنى بذلك التزام جميع أعضاء الجماعة الدولية ، الدول الإسلامية منها وغير الإسلامية ، في الوقت الحاضر بأحكام ميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر – كقاعدة عامة آمرة – استخدام القوة في العلاقات الدولية وينشد السلم والأمن الدوليين ، وليس ثمة من استثناء على هذا الحظر العام سوى ما كان مقررًا لحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي ، أو استخدام القوة من قبل أو بترخيص من مجلس الأمن لإزالة أي تهديد للسلم والأمن الدوليين . وسنعرض لاحقًا «للحيل القانونية» التى يتسنى من خلالها للدولة (الدول) الإسلامية التوفيق بين مقتضى مبدأ الوفاء بالعهود واحترام المواثيق الدولية الموافقة لمقتضى الشرع، وبين إعمال مبدأ التدخل لنصرة المسلمين المضطهدين في الدول غير الإسلامية بما يمكن الدول الإسلامية من الجمع بين مقتضيات المبدأين سالفى الذكر في نطاق الجماعة الدولية المعاصرة.

ب – حدود الدفاع وضوابط رد الاعتداء في الشريعة الإسلامية :

يذهب رأي في الفقـــــه الإسلامي -الحديث والمعاصر- إلى القول بأن استعراض المبررات السابق الإشارة إليها لاستخدام القوة المسلحة في الإسلام يكشف عن أنها جميعًا تدور حول مناط واحد هو الدفاع ضد عدوان أو رد عدوان أيًّا ما كان القصد من ورائه، أي سواء أكان موجهًا للنيل من دولة إسلامية (ديار المسلمين) أو لفتنة المسلمين في دينهم أو لتعذيب واضطهاد المسلمين في دول غير إسلامية أو حتى للإمعان في ظلم واضطهاد غير المسلمين بوصف الظلم صورة من صور العدوان الموجب للدفاع عن الذات أو عن الغير.

وفي هذا السياق ، يذهب أنصار الاتجاه السابق إلى القول بأن الأحكام العامة للشريعة الإسلامية -وقد رخصت بل أوجبت على المسلمين رد الاعتداء بالمعنى المشار إليه- تضع ضوابط وشروطًا لاستخدام القوة المسلحة في إطار الدفاع ضد العدوان .

ويتحصل الشرط الأول في هذا المقام في «ضرورة» الحرب، أي في لزوم الدفاع، أي أن يكون اللجوء للقتال أو استخدام القوة المسلحة قد غدا أمرًا ضروريًّا لا مناص منه لرد العدوان .

يتضح ذلك في قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَـــبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُـــونَكُمْ } [البقرة: 190] بمعنى أن إباحة القتال من جانب المسلمين مبنية على إباحة القتال والبدء به من غيرهم . كما أن قوله تعالى في الآية نفسها ولاتعتدوا دل على أن قتال من لم يقاتل المسلمين أو قَتْل من ليس من شأنه أن يقاتل، عدوان منهى عنه ، وقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين} [البقرة: 193] وكذلك قوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه}، يؤكد على ألا يقوم المسلمون بقتال أو يستمرون في قتال ما دام العدو قد كف أيديه عنهم . فالباعث على القتال هو الاعتداء بالفتنة، والانتهاء يكون بانتهاء الفتنة ، أو الاعتداء على الأرض، والانتهاء يكون بتحرير الأرض .

وقد حفلت السنة الصحيحة بما يؤكد شرط ضرورة الحرب أو لزوم الدفاع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان دائمًا يوصي جيوشه بألا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الإسلام أو العهد، ولا يقاتلوا حتى يبتدئ الأعداء بالقتل. من ذلك وصيته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ولعلي بن أبي طالب حين أرسل كل واحد منهما على رأس طائفة من المسلمين للقتال ، فقد أوصى صلى الله عليه وسلم معاذًا « لا تقاتلوهم حتى تدعوهم ، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدءوكم ، فإن بدءوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً، ثم أروهم ذلك القتيل وقولوا لهم : هل إلى خير من هذا السبيل. فلأن يهدى الله على يديك رجلاً واحدًا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» . كما جاء في وصيته صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب « إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك ، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً . فإن قتلوا منكم قتيلاً فلا تقاتلهم حتى تريهم إياه ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا لا إله إلا الله .. ولأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» إلى غير ذلك؛ مما يؤكد أن دم المخالف حرام حتى يبيحه باعتدائه، ودم الحربي حرام حتى يبادر بالقتل ، فإن قتل فقد أصبح غير معصوم الدم، وعلى الجملة فالحرب ضرورة والدفاع لازم لرد الاعتداء .

أما الشرط الثاني لضبط الدفاع في مواجهة العدوان فيكمن في المعاملة بالمثل « أو ما يمكن أن يطلق عليه التناسب بين فعل العدوان وفعل الدفاع . فرد الاعتداء يجب أن يكون متناسبًا مع الفعل الذي مورس به الاعتداء، أو بمعنى آخر يجب أن يكون فعل الدفاع متماثلاً في نطاقه ومداه مع الفعل الذي وقعت به جريمة الاعتداء ، دون ما تزيد أو تجاوز. يتضح ذلك في قوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل: 126] وقوله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194].

ومعنى ذلك أن الدفاع الذي تقوم به الدولة الإسلامية ضد عدوان يستهدف أرضها وديارها يختلف في نطاقه ومداه عن الدفاع الرامي إلى قمع عدوان يستهدف فتنة المسلمين في دينهم، وهذا وذاك يختلفان عن الدفاع الذي تباشره الدولة الإسلامية لحماية المسلمين المضطهدين والمعذبين في دولة غير إسلامية . فعلى سبيل المثال ، إذا تحول الهدف من الدفاع لحماية هؤلاء المسلمين إلى محاولة التأثير في نظام الحكم القائم أو النيل من إقليم الدولة غير الإسلامية التى يضطهد المسلمين فيها ، عد ذلك تجاوزًا منهيًّا عنه، ولاسيما حال تعلق الأمر بدولة معاهدة مع الدولة الإسلامية مثلما هو حاصل في عالمنا المعاصر . فتجاوز حدود الدفاع يعتبر عدوانًا والله لا يحب المعتدين؛ مما يترتب علي وجوب مراعاة مبدأ المعاملة بالمثل أو التناسب بين الدفاع والعدوان في الشريعة الإسلامية ما ذهب إليه الفقه الدولي الإسلامي من تحريم عمليات القتل أو الانتقام الجماعي من الأبرياء، ردًّا على الاعتداء الفردي، سواء في الحرب العادية أم في الحروب الأهلية .

وفضلاً عما سبق ، فإنه إذا كانت الأحكام العامة للشريعة الإسلامية تقتضي مراعاة مبدأ المعاملة بالمثل في صدد الدفاع ضد الاعتداء ، فإن الإسلام في الوقت ذاته ينهى عن مجاراة الأعداء ومعاملتهم بالمثل إذا ما انتهكوا حمى الفضيلة . فإن هتكوا الأعراض لا يهتكها المجاهد المسلم، وإن مثلوا بالقتلى من المسلمين لا يمثل بالقتلى منهم .

جـ – القواعد التى تنظم سلوك المجاهدين في الشريعة الإسلامية :

بافتراض توافر الباعث أو المبررات الداعية إلى استخدام القوة المسلحة من قبل الدولة الإسلامية ضد دولة أخرى غير إسلامية على النحو السالف بيانه ، فقد تضمنت الأحكام العامة للشريعة الإسلامية مجموعة من القواعد ذات الصلة بتنظيم سلوك المجاهدين المسلمين في الميدان ، وكلها قواعد تدور في جملتها حول مبدأ احترام الكرامة الإنسانية واحترام آدمية الإنسان بغض النظر عن معتقده الديني وانتمائه إلى دولة العدو . وتتحصل هذه القواعد فيما يلي :

1- ضرورة إعلان الحرب في الشريعة الإسلامية :

فالإسلام يحرم القتال على غرة، ويشترط أن يسبقه توجيه تنبيه أو إنذار إلى العدو ، وتعتبر الدعوة إلى الإسلام أو إلى المسالمة والمعاهدة من قبيل الإعلان الواجب تحققه قبل بدء القتال أو الحرب، لسبب أساسي مؤداه أن الإسلام «لا يقصد بالقتال أن يستولى على أرض أو يحكم الرقاب أو يتحكم في مصائر العباد، بل يريد أن يأمن جانبهم إما بالعهد يعقدونه أو بالإسلام يعتنقونه ، فإن لم يكن واحد من الأمرين كانت نية الاعتداء واضحة بينة، ولابد للمسلمين أن يقوا أنفسهم منه» . ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَـــــةً فَانْبِذْ إِلَيْهِـمْ عَلَى سَــــوَاء} [الأنفال: 58] كما جرت سنته صلى الله عليه وسلم في تسيير السرايا والبعوث على التوصية بألا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الإسلام أو العهد ولايقاتلوا حتى يبتدئ الأعداء بالقتل . وقد سبق أن سقنا مثالاً لذلك وصيته صلى الله عليه وسلم إلى كل من معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب حين أرسلهما صلى الله عليه وسلم على رأس طائفة من المؤمنين للقتال . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجنده: «تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم، فما على الأرض من أهل مدر (القرى والمدن) ووبر ( أهل البادية) إلا أن تأتوني بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتوني بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم».

وقد سار الخلفاء الراشدون وقوادهم على مراعاة هذه القاعدة واحترامها، حتى أنه عندما دخل القائد الأموى قتيبة بن مسلم سمرقند بدون إنذار أهلها وأسكن المسلمين فيها على غدر وأرسل أهل المدينة يشكونه إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز أمر الأخير قتيبة أن ينصب لهم قاضيًا ينظر في أمرهم، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوا أهل سمرقند على سواء، فكره هؤلاء الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين ظهرانيهم .

2- التمييز بين المقاتلين والأهداف الحربية وبين غير المقاتلين والأعيان غير الحربية (المدنية) :

توجب التعاليم الإسلامية ضرورة التمييز أثناء احتدام القتال بين المقاتلين والأهداف الحربية من جانب وبين غير المقاتلين والأهداف المدنية من جانب آخر. فلا يقاتل إلا من يقاتل في الميدان بالفعل، أو يكون له رأي وتدبير في القتال. وتطبيقًا لذلك ، يتعين عدم مقاتلة رجال الدين الذين انصرفوا للعبادة ولا شأن لهم بالقتال بخلاف أولئك الذين تسربلوا بسربال الدين ولكنهم يشتغلون فعلاً بالقتال ويحرضون على المسلمين ، كما لا يحل مقاتلة الأطفال والشيوخ والنساء باعتبارهم ضعفاء لا يقاتلون ولا رأي لهم في قتال ولا يتصور منهم الاعتداء ، إلا ما كان من هؤلاء كالشيوخ له رأى وتدبير في الحرب كما فعل دريد بن الصمة في حنين وكان قد تجاوز المائة عام، وكذلك لا يحل قتل العسيف أي العامل الذي يعكف على الزرع أو العمل اليدوي فهم من بناة العمران ودعائمه – وليس له في الحرب يد ولا عمل، والحرب بطبيعتها محصورة في دائرة من يقاتل وليست قتالاً للشعوب، وإنما لدفع قوى الشر والفساد ممثلة في الذين يحملون السلاح أو يديرون ويرسمون الخطط . وفضلاً عن ذلك، فقد نهى الإسلام عن تدمير البيئة الطبيعية أو تخريب العمران المدني وكل ما من شأنه تجويع السكان الأبرياء غير المقاتلين . فنهى عن قطع الشجر أو قطع النخل وحرقه إلى غير ذلك من تدمير الغطاء النباتي وكافة مظاهر النماء والعمران البشري ( أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ووصايا أبي بكر الصديق لقواد الجيوش) .

3- التقيد بحدود الضرورة الحربية :

يشير قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّه} [الحشر: 5] وتخريب بيوت بني النضير لقوله تعالى { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِــأَيْدِيهِمْ وَأَيْـــدِي الْمُؤْمِنِين} [الحشر: 2] ، فضلا عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر برمي حصن ثقيف بالمنجنيق وقطع كروم ثقيف ، تشير كل هذه الأصول إلى أن الأصل هو عدم قطع الشجر أو الزرع والنخل وغيره من مظاهر الخضرة والنماء ، وعدم مهاجمة منازل السكان ، إلا أن مقتضيات الضرورة الحربية قد ترخص بالخروج – في حدود هذه الضرورة – عن ذاك الأصل العام كحاجة المجاهدين المسلمين لتمر النخيل للغذاء {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [الحشر: 5]، أو أن يستتر العدو بالمباني ويتخذ منها وسيلة لإيذاء الجيش الإسلامي، أو أن يكون التهديد بقطع الثمار كالكروم الذي كانت ثقيف تتخذ منه الخمر كوسيلة لتهديدهم وحملهم على التسليم بدلاً من الاستمرار في القتال ، إلى غير ذلك مما تحتمه الضرورة الحربية، ولكنه يكون محكومًا في الوقت ذاته بطبيعتها المؤقتة ونطاقها المحدود .

4- المعاملة بالمثل مع التمسك بالفضيلة :

أوجب الإسلام أن تكون معاملة الأعداء في الميدان على أساس المعاملة بالمثل مع وجوب التمسك بالفضيلة الإنسانية واحترام الكرامة الإنسانية لذات الإنسان بغض النظر عن كونه من المخالفين . ولذلك نهى الإسلام عن التمثيل بالقتلى «إياكم والمثلة» ، ويتعين إكرام الأسير وحسن معاملته {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] «لا يعترض أحدكم أسير أخيه ويقتله» وينهى الإسلام عن هتك الأعراض؛ لأنها حرمات الله تعالى، ولا يحل التعامل بالربا مع الأعداء ، كما نهى الإسلام عن تعذيب الجرحى أو تجويعهم، أو ضرب وجوه المقاتلين وتشويهها ، والتعامل بصدد مصير الأسرى وفقا لمبدأ المن عليهم بالحرية أو الفداء بمال أو نفس ( تبادل الأسرى) حسبما يراه أولو الأمر ملائمًا لمقتضى الظروف والأحوال {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: 4] .

5- العمل على تضييق دائرة القتال ما أمكن (منح الأمان أو اللجوء) بهدف الحد من دائرة القتال :

توسع الإسلام في إجازة منح الأمان للمحاربين من جند الأعداء فجعل الإسلام الأمان بيد أي مسلم ولم يقصره على قائد الجيش وحده أو قائد سرية من الجيش أو حتى كتيبة من كتائبه ، فأي مسلم أعطى مقاتلاً الأمان فهو أمان ملزم للمسلمين كافة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم» أي أن المسلمين متساوون، ويستطيع أقل واحد فيهم مقامًا في الحرب أن يعقد عقد أمان ، وأجاز عمر بن الخطاب أمان العبد المسلم ولو كان قد أمن جماعة أو جيشًا، كما توسع في عبارات الأمان والإشارات الدالة عليه فقال عمر: «أيما رجل دعا رجلاً من المشركين وأشار إلى السماء فقد أمنه» .

6- احترام العهود الخاصة بإنهاء القتال:

إذا تحقق القصد من القتال بأن منع الاعتداء وأبرم عهد بين الدولة الإسلامية والدولة المحاربة تعين احترام العهد والوفاء بأحكامه. ويشترط الإسلام في معاهدات كهذه أن تقوم على أساس من العدل والتساوي بين الحقوق والواجبات؛ لأن أي إخلال بهذا التوازن فيه ظلم والظلم نوع من الاعتداء منهى عنه في الإسلام .

ثانيًا : استخدام القوة المسلحة في القانون الدولي المعاصر والقواعد المنظمة لسير أعمال القتال المسلح :

أ – بعد أن كانت الحرب حقًّا مطلقًا للدولة باعتبارها أداة من أدوات تحقيق أهداف سياستها الخارجية ، وفي ضوء ما جلبته الحربان العالميتان على البشرية من آلام يعجز عنه الوصف وخاصة لما تميزت به فنون التسلح وأساليب القتال من قدرة هائلة على الفتك والتدمير ، جاء التنظيم الدولي المعاصر ممثلاً في ميثاق الأمم المتحدة بقواعد عامة آمرة تلزم الدول بتسوية منازعاتها بالوسائل السلمية، وتحظر على أعضاء المنظمة الدولية بل وغير الأعضاء فيها استخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة إلا على أى وجه آخر يتعارض ومقاصد الأمم المتحدة . ولم يرد على هذه القاعدة العامة الآمرة بشأن حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية من استثناء سوى ما كان متعلقًا بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي طبقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ، أو ما كان متصلاً بالكفاح المسلح في نطاق حق تقرير المصير في ضوء تواتر القرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن ، أو ما كان خاصًّا بأعمـــال آليــة الأمن الجمـاعي (التضامن الدولي في مواجهة العدوان) من خلال استخدام القوة من قبل مجلس الأمن الدولي أو بترخيص منه وتحت إشرافه لمواجهة أي تهديد للسلم أو إخلال به أو أي عمل من أعمال العدوان .

غير أن الواقع الدولي وممارسات الدول وخاصة فيما بعد انتهاء الحرب الباردة يكشفان عن لجوء الدول إلى استخدام القوة المسلحة في علاقاتها الدولية بما يعكس نوعًا من التوسع في مفهوم الدفاع الشرعي الذي يفترض لممارسته في نطاق أحكام الميثاق توافر شـــروط معينة أهمهـــا لزوم الدفـــاع (ضرورة الدفاع لرد عدوان فعلي مسلح – ومراعاة مبدأ التناسب بين فعل الاعتداء وفعل الدفاع، أي عدم تجاوز حدود الدفاع ، وإخطار مجلس الأمن بالتدابير المتخذة في نطاق الدفاع الشرعي ) . ومن تطبيقات ومظاهر استخدام القوة في ظل المفهوم الواسع للدفاع الشرعي استخدام القوة لحماية المصالح الحيوية للدولة ، ومقاومة أعمال الإرهاب أو إنقاذ الرهائن المحتجزين . كذلك فقد شهدت الآونة الأخيرة من تطور النظام الدولي حالات كثيرة لاستخدام القوة المسلحة تحت ستار التدخل لأغراض إنسانية أو بدعوى وقوع انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، سواء في ذلك استخدام القوة لمنع الاضطهاد ضد مواطني الدولة في دولة أخرى ، أو استخدام القوة لمنع انتهاك حقوق الإنسان في دولة ما على شكل واسع وخطير نتيجة اضطرابات وصراعات وحروب داخلية بما يضر بالمواطنين والأجانب على حد سواء ، أو استخدام القوة المسلحة لفرض الديمقراطية أو لإعادة  نظم ديمقراطية إلى السلطة .

ومن أمثلة ذلك ما حدث بعد انتهاء الحرب الباردة من تدخل دولي في شمال العراق وجنوبه ، وفي الصومال ، وفي رواندا وبورندي ، وفي ليبيريا ، والبوسنة والهرسك ، وسيراليون ، وهايتي ، وكوسوفا ، والكونغو، وفي غينيا بيساو.

وبغض النظر عما تكشف عنه الحالات سالفة الذكر وغيرها من أن التدخل العسكري لأغراض إنسانية يقوم على أسس انتقائية تعكس تباين مصالح الدول المتدخلة وتناقض أيديولوجياتها ومذاهبها السياسية دون أن يكون للاعتبارات الإنسانية المحضة دور في هذا الشأن ، وبغض النظر كذلك عن الخلاف الفقهي حول مدى مشروعية التدخل لأغراض إنسانية في ضوء أحكام ميثاق الأمم المتحدة ، بغض النظر عن ذلك كله ، فإن التدخل الدولي من خلال المنظمة الدولية من أجل مواجهة الانتهاكات الواسعة والخطيرة لحقوق الإنسان في الآونة الأخيرة مثلما حدث في البوسنة وفي الصومال وفي كوسوفا وهايتي وغيرها ، كل ذلك يضعنا أمام تطور مستحدث – مهم وجد خطير – في النظام القانوني للأمن الجماعي حسبما نصت عليه أحكام الميثاق . فلم يعد التدخل العسكري الجماعي من خلال الأمم المتحدة مرتبطًا بوجود تهديد مباشر للسلم والأمن الدوليين، وإنما أصبح يهدف أيضا إلى قمع الانتهاكات الخطيرة والصارخة لحقوق الإنسان باعتبارها صارت تشكل مصدرًا من مصادر هذا التهديد للسلم والأمن الدوليين .

وبعبارة أخرى ، فإن الممارسات الأخيرة لمجلس الأمن حيال الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في عديد من مناطق العالم تضعنا أمام تطور فعلي يتطلب تجاوز التفسير الشكلي الضيق لأحكام الأمن الجماعي في الميثاق إلى تفسير هذه الأحكام تفسيرًا «وظيفيًّا» يتجاوب مع التطور الحاصل في البيئة الدولية .

وبمعنى آخر أكثر دقة وتفصيلاً ، فإن حالات التدخل الأخيرة من قبل مجلس الأمن بشأن انتهاكات حقوق الإنسان تعكس مظهرًا من مظاهر التحديث والتجديد في النظام القانوني لحقوق الإنسان وفي إعمال آلية الأمن الجماعي الخاص بالتضامن الدولي في مواجهة العدوان والإخلال بالسلم والأمن الدوليين ، مما لا يسوغ معه دفع مثل هذا التدخل بعدم المشروعية استنادًا إلى التفسير الجامد والضيق لأحكام الميثاق على نحو يبعدها تمامًا عن واقع الحياة الدولية المتغير والمتطور .

بيد أن هذا التطور الحاصل في مباشرة مجلس الأمن لاختصاصاته وصلاحياته من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين يقع أو يحدث في وقت لا تملك فيه المنظمة الدولية القدرة العسكرية الذاتية التى تمكنها من التدخل لفرض احترام حقوق الإنسان المنتهكة في دولة من الدول . وهنا فإن أحكام الميثاق (م / 48) ترخص لمجلس الأمن أن يفوض دولة أو مجموعة من الدول في القيام نيابة عنه بتنفيذ التدابير الجماعية المطلوبة لفرض احترام حقوق الإنسان وإعادة السلم والأمن الدولي إلى نصابه، شريطة أن يكون هذا التفويض محددًا في نطاقه وواضحًا في الغرض منه وأن يخضع تنفيذه لرقابة مستمرة وفعالة ومباشرة من قبل مجلس الأمن ، وإلا عُدَّ القرار الخاص بالتفويض خارج دائرة الشرعية الدولية ؛ لأنه – والحال هذه – يدع المجال واسعًا أمام الدول المفوضة للانحراف بقرارات الشرعية الدولية إلى ما يحقق أهدافها ومصالحها الخاصة على غرار ما حصل في تجربة التدخل الدولي في الصومال ، وفي العراق .

ومؤدى كل ما سبق ، أنه إذا كان التطور الحاصل في النظام الدولي الراهن يقتضي تأييد التدخل الدولي لفرض احترام حقوق الإنسان ، فالملاحظ أن هذا التأييد ينبغي أن يتم في ضوء الحقائق والاعتبارات التالية :

1- الاتجاه الغالب في الفقه والعمل الدولي من خلال الأمم المتحدة يقوم على عدم مشروعية التدخل العسكري بحجة حماية مواطنى الدولة في الخارج . وفي حالة تعرض الأجانب لأخطار جسيمة نتيجة لسياسة متعمدة وشاملة لإهدار حقوقهم وحرياتهم الأساسية أو في حالة تعرض المدنيين الأبرياء عامة – مواطنين وأجانب – لمخاطر جسيمة من جراء حرب أهلية أو اضطرابات داخلية تسودها العشوائية وعدم الاكتراث بالحرمة الشخصية ، وبصفة عامة فإنه في حالة وقوع انتهاكات خطيرة وواسعة لحقوق الإنسان في دولة ما ، فإنه يحق للجماعة الدولية من خلال الأمم المتحدة التدخل لفرض احترام حقوق الإنسان وإعادة السلم والأمن إلى نصابه .

2- في حالة تفويض دولة أو مجموعة من الدول تنفيذ القرارات الدولية لفرض احترام حقوق الإنسان ، يتعين أن يكون التفويض محددًا ومحكومًا بالهدف الأساسي من وراء إصداره وأن يخضع لرقابة متصلة ومباشرة وفعالة من قبل المنظمة الدولية . وفضلاً عن ذلك ، فإنه يتعين أن يكون التدخل – سواء المباشر أو بالتفويض – مبررًا بوجود انتهاك واسع ومستمر للحقوق والحريات الأساسية للإنسان ، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف مضمون البعض من هذه الحقوق باختلاف في البيئات وتنوع الثقافات والمعتقدات الخاصة بكل دولة أو مجموعة من الدول على حدة ، أي بعبارة أخرى مراعاة النسبية والخصوصية لدى تمحيص وتقييم الانتهاكات الواسعة والخطيرة لحقوق الإنسان ، وتقرير مدى ملاءمة وضرورة التدخل الدولي لمواجهتها والقضاء عليها .

3- فيما يتعلق بمدى مشروعية ما شاع في الآونة الأخيرة من التدخل الدولي من أجل حماية الديمقراطية أو إعادة الديمقراطية على غرار ما حدث مثلاً في هايتي 1994 ، فالملاحظ أنه إذا كان من المنطقي والطبيعي أن احترام حقوق الإنسان يمثل ولا شك ركيزة أساسية لحفظ السلم ، إلا أنه من غير المنطقي والطبيعي في الوقت ذاته أن يكون تماثل النظم السياسية وفقًا لنمط معين في الحكم شرطًا للسلم العالمي . وهكذا فإن مثل هذا الادعاء – القديم والحديث في آن واحد – يتعارض والفلسفة الأساسية لميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بتطوير وتعزيز الحماية الدولية لحقوق الإنسان والمتمثلة في ضرورة توفير حماية دولية لحقوق الإنسان ليس على أساس تماثل أو تجانس النظم السياسية والذي قد يترتب على التمسك به حدوث تدخلات تعسفية في شئون الدول الأخرى ، وإنما تقوم هذه الحماية على أساس مبدأ المساواة في السيادة بين الدول واحترام تعدد نظمها السياسية ، وعلى أساس التعاون بين الدول، وليس على سياسة التدخل في شئونها الداخلية بدعوى حملها على إنتهاج النمط الديمقراطي في الحكم .

وخلاصة القول في ذلك أن ليس في الميثاق نص يدعو إلى إقامة نظام ديمقراطي على أساس تعددي باعتبار ذلك مما يندرج في صميم السلطان الداخلي لكل دولة وحق شعبها في تقرير المصير ، وعليه فإن التدخل العسكري لإعادة الديمقراطية عمل غير مشروع ولا يمت بصلــة إلى التدخل لأغراض إنسانية (فرض احترام حقوق الإنسان المنتهكة على نطاق واسع وخطير في دولة ما) سواء في ذلك أكان التدخل من قبل الدول فرادى أو مجتمعة أو حتى من قبل المنظمة الدولية ذاتها .

ب – القواعد التى تحكم سلوك المحاربين أو أطراف النزاعات المسلحة في القانون الدولي :

إذا كان القانون الدولي المعاصر – كما سلف – يقوم على نبذ استخدام القوة المسلحة في كافة صورها وأشكالها في العلاقات الدولية باستثناء حالات الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن النفس، والكفاح المسلح في حروب التحرير الوطنية وإعمال نظام الأمن الجماعي، إلا أن القانون الدولي – في الوقت ذاته – يتضمن مجموعة من القواعد ذات الصلة ببدء عمليات القتال وتنظيم سلوك الأطراف المتنازعة بغض النظر عن مشروعية الحرب أو النزاع المسلح الدائر بين الأطراف المعنية ، وتتحصل هذه القواعد في الآتي :

1- الإعلان عن الحرب أو بدء أعمال القتال :

تقضي المادة الأولى من اتفاقية لاهاي الثالثة لعام 1899 بضرورة توجيه إنذار مسبق وصريح يتخذ إما شكل الإعلان عن الحرب مع إعطاء الأسباب أو احتجاج ينطوى على مطالب الدولة التى يتوقف على إجابتها قيام الحرب. وإذا كانت هذه القاعدة قد لاقت احترامًا واسعًا حتى الحرب العالمية الأولى، فإن تطور الأسلحة بعد الحرب العالمية الثانية أضحى يشكك في مدى إمكان اتباع تلك القاعدة بالنظر إلى أهمية عنصر المفاجأة في الحروب الحديثة وما تعطيه الضربة الأولى من تفوق كبير على الخصم، بل وقد تشل قدرته على المقاومة . وواقع الأمر أنه يتعين في هذا المقام الأخذ بعين الاعتبار مجموعة من الحقائق ذات الصلة بمشروعية استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية ، وبمدى التقدم الحاصل في فنون القتال وأساليب التسلح ، فنظرًا لأن حرب العدوان لم تعد مشروعة في ظل القانون الدولي المعاصر ، فإن الدول التى تقدم على شن حروب من هذا النوع تخجل من الإعلان عن نيتها أو إرادتها في شن الحرب، ومن جهة ثانية ، فإن الدول التى ترى أن استخدامها للقوة مشروع، فإنها – في الغالب الأعم – تعتبر استنفاذ الوسائل السلمية على تنوعها واختلافها لتسوية النزاع بمثابة تحقق شرط الإعلان عن الحرب أو بدء عمليات القتال المسلح، وخاصة في ضوء التطور الهائل في فنون التسلح ووسائل القتال على نحو ما سلف بيانه ، وفضلاً عن ذلك ، فإن ثمة فارقًا بين الإعلان لبدء الحرب، وهذه قاعدة قانونية، وبين قيام النزاع أو ترتب آثار الحرب، فذلك مما يتوافر أو يتحقق بمجرد البدء في عمليات قتالية .

2- تقييد حق المتحاربين في استخدام الأسلحة من حيث حظر استخدام أسلحة معينة، وهي بصفة عامة الأسلحة ذات الأثر العشوائي أو الأسلحة المحرمة التى يتسبب عنها آلام وأضرار لا مبرر لها، بما في ذلك الالتزام بالتخلي عن القتال إذا ما كفت قوات العدو أو أعلنت التسليم ، وكذلك حظر استخدام الغازات السامة ورصاص دمدم.

3- التمييز بين المحاربين والأهداف العسكرية وبين غير المحاربين والأعيان المدنية ، فقد تضمنت اتفاقات جنيف 1949 وملحقيها (1977) العديد من الأحكام التى تحظر الهجوم على المدنيين أو توجيه أعمال العنف الرامية إلى بث الذعر بينهم أو التهديد بذلك ، وكذلك حظر الهجمات العشوائية التى لا توجه إلى هدف عسكرى محدد أو التى تستخدم طريقة أو وسيلة للقتال لا يمكن حصر آثارها ، بالإضافة إلى منع التذرع بوجود السكان المدنيين لحماية نقاط أو مناطق معينة ضد العمليات العسكرية ، فضلاً عن التزام الأطراف باتخاذ التدابير الوقائية لعدم إصابة السكان المدنيين بما في ذلك تجنب إقامة أهداف عسكرية داخل المناطق المكتظة بالسكان أو بالقرب منها . كذلك فقد أوجب القانون الدولي الإنساني حماية الأعيان المدنية التى لا تمثل أهدافًا عسكرية بحظر مهاجمتها ، وضرورة توجيه العمليات القتالية إلى الأهداف العسكرية التى تسهم في العمل العسكري مساهمة فعالة سواء لطبيعتها أو موقعها أو باستخدامها ، والتى يحقق تدميرها التام أو الجزئي أو الاستيلاء عليها أو تعطيلها في الظروف السائدة وقت الحرب ميزة عسكرية أكيدة. ونظمت هذه المواثيق حماية الأعيان والمواد الضرورية لحماية السكان المدنيين كالمواد الغذائية والمناطق الزراعية والماشية ومرافق مياه الشرب .

كما أعطت المواثيق الدولية حماية خاصة للأعيان الثقافية وأماكن العبادة ومنعت استخدامها في دعم المجهود الحربي أو اتخاذها محلاًّ لهجمات الردع. وأوجبت الاتفاقات الدولية سالفة الذكر حماية البيئة الطبيعية ضد الأضرار المترتبة على استخدام وسائل وأساليب معينة للقتال ، وحظرت مهاجمة الأشغال الهندسية والمنشآت المحتوية على قوى محركة خطرة كالسدود والجسور والمحطات النووية لتوليد الكهرباء حتى ولو كانت أهدافًا عسكرية ، وذلك إذا كان من شأن مهاجمتها ترتيب خسائر وأضرار فادحة بين السكان المدنيين ، وفضلاً عن ذلك كله ، فقد حظر البروتوكول الأول الملحق باتفاقيات جنيف على الأطراف المتحاربة أن تمد عملياتها العسكرية إلى المناطق منزوعة السلاح المتفق على إنشائها فيما بين الأطراف المعنية أو إلى المناطق المجردة من وسائل الدفاع التى يعلن عنها أحد الأطراف المتحاربة متى تحققت الشروط الواجب توافرها في مثل هذه المناطق لإسباغ الحماية عليها .

4- مراعاة مقتضى مبدأ الضرورة الحربية :

إذ يتعين استخدام القوة المسلحة بالقدر اللازم لتحقيق هدف الحرب وهو رد الاعتداء والتغلب على الخصم، أي أن أعمال العنف المسلح تباح فقط بالقدر الضروري لتحطيم قوى العدو المسلحة . وإعمالاً لمقتضيات مبدأ الضرورة هذا ، تعين على المقاتلين أن يميزوا بين الأهداف العسكرية، وهذه يحق ضربها ومهاجمتها وبين الأهداف المدنية التى لا يجوز ضربها أو مهاجمتها.

ثالثًا : أحكام القانون الدولي بشأن استخدام القوة تجد لها مصدرًا في الشريعة الإسلامية :

لعله يتبين من الاستعراض سالف الذكر للمبادئ والقواعد العامة ذات الصلة باستخدام القوة المسلحة وسير عمليات القتال في الميدان في كل من الشريعة الإسلامية والقانون الدولي المعاصر ، لعله يتبين من ذلك أن ثمة قدرًا كبيرًا من الاتفاق بين النظامين على نحو يمكن معه القول بأن أحكام القانون الدولي المعاصر بهذا الشأن لا تعدو -في كثير منها- إلا أن تكون امتدادًا أو تفصيلاً وتطبيقًا لما سبق وأن قررت الشريعة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنًا بصدد الموضوع ذاته .

أ- ففيما يتعلق بمبررات استخدام القوة المسلحة ، نلاحظ من جهة أولى : وجود توافق يكاد يكون تامًّا بين أحكام القانون الدولي المعاصر التى تحظر الحرب، بل وكافة صور استخدام القوة المسلحة من جانب الدول فرادى أو جماعات إلا ما كان في نطاق مباشرة حق الدفاع – الفردي والجماعي عن الذات ، أي استخدام القوة المسلحة في مواجهة عدوان مسلح حالّ أو وشيك الوقوع، شريطة أن تلتزم الدولة أو الدول المباشرة لحق الدفاع عن الذات بمراعاة شروط الدفاع والمتمثلة في لزوم الدفاع (استحالة رد الاعتداء إلا بالقوة المسلحة) ومراعاة التناسب بين فعل العدوان وفعل الدفاع ، مع إخطار مجلس الأمن بما تم اتخاذه من تدابير في مواجهة العدوان ، والتوقف عن مباشرة الدفاع بمجرد التدخل الفعلي «العسكري» لمجلس الأمن. ولا يختلف هذا المبرر لاستخدام القوة في القانون الدولي المعاصر – في مضمونه وحدوده – عن الباعث الرئيسي للقتال في الإسلام والذي يتحصل في القتال لرد الاعتداء المسلح – الحال أو الوشيك – على الدولة الإسلامية بهدف النيل من إقليمها أو عقيدتها أو فتنة الشعب المسلم في دينه ، مع وجوب التقيد بالشروط والحدود المقررة شرعًا للدفاع ضد العدوان، كما يوضحه قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} [البقرة: 190]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل: 126] ، وربما يكون الفارق الوحيد بين أحكام الشريعة والقانون الدولي في هذا الخصوص أن الإسلام يعتبر الاعتداء على النشاط الديني والثقافي (وظيفة الدعوة كأساس للعلاقة بين المسلمين وغيرهم) عدوانًا يتعين دفعه ولو بالقوة المسلحة ، وهو الأمر الذي يمكن أن يجد له تأييدًا في الفقه الدولي بشأن استخدام القوة المسلحة؛ دفاعًا عن المصالح الحيوية والجوهرية للدولة .

ومن جهة ثانية ، إذا كانت القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة وغيرهما من المنظمات الدولية الإقليمية قد تواترت على إقرار مشروعية القتال المسلح ضد كافة صور وأشكال السيطرة الأجنبية والتفرقة العنصرية في نطاق ما يسمى بحق تقرير المصير ، فإن الراجح فقهًا والمستقر عملاً وقانونًا أنه يميز في هذا الخصوص بين حالتين :

أولاهما : حالة الاحتلال الأجنبي، وهذا يعد جريمة مستمرة أو عدوانًا مستمرًّا على أرض الغير مما يحق معه للدولة المحتلة أرضها استخدام القوة المسلحة لإزاحة الاحتلال وتحرير الأرض إعمالاً لمبدأ الدفاع الشرعي عن الذات، ويكون تدخل الدول الغير – إسلامية كانت أو غير إسلامية – إلى جانب الدولة المحتلة مشروعًا من وجهة نظر القانون الدولي طبقًا لحق الدفاع الجماعي عن الذات . وذلك أيضًا ما تحث عليه بل توجبه الشريعة الإسلامية، سواء فيما يتعلق بالقتال إلى جانب دولة إسلامية معتدى عليها أو محتلة أرضها ، أو فيما يتصل بمساندة دولة غير إسلامية ترزح تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية، فالعدوان ظلم والتعاون والتضامن لدرئه واجب شرعًا ، لاسيما إذا كان المعتدى عليه أو المحتلة أرضه تربطه بالدولة الإسلامية معاهدة تحالف للدفاع والمساعدة المتبادلة مثلما حدث من تحالف خزاعة مع المسلمين ووقوف بني قنيقاع إلى جانب المسلمين في معركة خيبر ، ووقوف قبائل تغلب وبكر – وهي نصرانية – إلى جانب المسلمين في مقاتلة فارس .

وأما الحالة الثانية ، فتتعلق بشعب يقاتل ضد نظامه السياسي القائم على سياسة الفصل والتمييز العنصري في نطاق حق تقرير المصير ، فالراجح فقهًا وقانونًا في الآونة الأخيرة من تطور القانون الدولي المعاصر أنه وإن جاز للشعب المعنى حمل السلاح لتقرير مصيره ، فإن حدود مساعدة الدول الغير لهذا الشعب تقف عند إمداده بكافة صور وأشكال الدعم بما في ذلك إمداده بالسلاح دون أن يتجاوز الأمر ذلك إلى القتال المسلح جنبًا إلى جنب مع هذا الشعب ، ما لم يقرر المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن التدخل المباشر أو تفويض دولة أو مجموعة من الدول بالتدخل نيابة عن المجلس وتحت إشرافه ورقابته في نطاق إعمال آلية الأمن الجماعي .

وهذا يقودنا إلى مناقشة مدى وحدود الاتفاق بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي بشأن الدوافع والمبررات الأخرى عدا حالة الدفاع ضد العدوان لاستخدام القوة المسلحة، وقد سلف القول بأن الدوافع الأخرى للقتال في الإسلام تتمثل في نصرة المظلوم وحماية المستضعفين والمضطهدين من المسلمين في الدول غير الإسلامية وكفالة حرية الاعتقاد والرأي حال تعرض الأفراد والجماعات – مسلمين وغير مسلمين – للتعذيب والاضطهاد بغرض فتنتهم في دينهم وحملهم على تغيير آرائهم ومعتقداتهم قسرًا وإكراهًا . وينبني هذا الدافع على وجوب مواجهة الظلم والفتنة في الدين والمعتقد ، فضلاً عن وجوب التدخل لنصرة المسلمين في الدول غير الإسلامية، إعمالاً لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، وقوله تعالى {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ، وبدهي أن إنعام النظر في الدوافع سالفة الذكر يكشف عن أنها لا تعدو أن تكون من قبيل التدخل لأغراض إنسانية أو التدخل لمنع انتهاك حقوق الإنسان ، فقوله تعالى {الظَّالِمِ أَهْلُهَا} في الآية الأولى، وقوله تعالى {فِي الدِّينِ} في الآية الثانية ، يشيران إلى أن تعرض المسلمين للاضطهاد والتعذيب والقسر والإكراه ، يرجع إلى أو ناتج عن تمسكهم بدينهم وحقهم الأصيل في حرية الرأي والاعتقاد ، تلك الحرية التى تقع في صميم وجوهر الحقوق والحريات الأساسية للإنسان . بيد أنه في مقابل ذلك لا يوجد ثمة استثناء آخر على الحظر العام المتعلق باستخدام القوة في القانون الدولي المعاصر سوى ما كان في نطاق الأمن الجماعي (التضامن الدولي في مواجهة العدوان ) لإعادة السلم والأمن الدولي إلى نصابه وقمع أعمال العدوان . وتبعًا فإن ظاهر الحال يشير إلى وجود نوع من التعارض ما بين القانون الدولي والشريعة الإسلامية في هذا الشأن، على نحو قد تبدو معه الدولة (الدول) الإسلامية في حيرة من أمرها إزاء تلك المعادلة الصعبة التي يقف عند أحد طرفيها واجب التدخل لنصرة المسلمين في الدول غير الإسلامية بينما يقف على الطرف الآخر من المعادلة عدم جواز التدخل المسلح من قبل الدول فرادى أو جماعات لفرض احترام حقوق الإنسان أو كفالة الحقوق والحريات الأساسية للإنسان . بيد أن هذا التعارض يمكن توفيقه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجموعة من الحقائق والتطورات الحاصلة في النظام الدولي الراهن على النحو التالي :

فالملاحظ أولاً أن الشريعة الإسلامية قد قيدت «التدخل للنصرة» بوجود معاهدة أو ميثاق بين الدولة الإسلامية وبين الدولة غير الإسلامية التى يقيم على أرضها المسلمون المضطهدون في دينهم أو تمارس سياسة ثابتة ومتعمدة في التمييز والاضطهاد الديني وتقييد الحرية الدينية للمسلمين وغير المسلمين على السواء . فقوله تعالى: { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ  } [الأنفال: 72]، يشير إلى أن الوفاء بأحكام المعاهدة مقدم على التزام الدولة الإسلامية بالتدخل لاستنقاذ المسلمين المضطهدين في دينهم في الدولة الطرف في المعاهدة . وبعبارة أخرى ، فإن الشريعة الإسلامية تضع أحكامًا لتنظيم الوفاء من جانب الدولة الإسلامية بمقتضى الالتزامين سالفى الذكر (التدخل للنصرة واحترام العهود والمواثيق) ، فلا يجوز شرعًا ولا يتصور عقلاً أن تعقد الدولة الإسلامية أو أن تدخل طرفًا في معاهدة غير محددة المدة يمتنع بموجبها على الدولة الإسلامية أن تتدخل لنصرة المسلمين المضطهدين في دينهم . وتقديم واجب الوفاء بالمعاهدة على واجب التدخل للنصرة لا يعني – البتة – انقضاء الالتزام الأخير، كما أنه لا يقيد مسعى الدولة ( الدول) الإسلامية لإزالة هذا الاضطهاد بكافة الصور والأشكال فيما سوي التدخل العسكري، وكلها أمور يبيحها أو على الأقل لا يحظرها القانون الدولي المعاصر، وفضلاً على ذلك ، فإنـــه يمكن للدولة (الدول) الإسلامية أن تعتبر إمعان الطرف المعاهد في اضطهاد المسلمين وتعذيبهم دون التفات إلى أحكام العهد المبرم بين الطرفين ودون اكتراث باحتجاج الدولة الإسلامية ، يمكن لهذه الأخيرة أن تعتبر ذلك مبررًا للنبذ إلى الطرف المعنى وإعلان رغبتها في فسخ المعاهدة إن كانت ثنائية أو الانسحاب منها إن كانت معاهدة جماعية أو متعددة الأطراف .

وتدق المسألة في هذا المقام إذا ما علمنا أن الدولة الإسلامية -شأنها في ذلك شأن غيرها من الدول غير الإسلامية الأعضاء في الأمم المتحدة- «دار عهد» بالنسبة للدول الإسلامية الأعضاء في المنظمة ذاتها . وهو عهد تدور أحكامه – كما سلف البيان – حول حظر استخدام القوة المسلحة إلا في نطاق الاستثناءات سالفة الذكر ، ونشدان السلم والأمن للجماعة الدولية قاطبة والترخيص من أجل ذلك لمجلس الأمن باستخدام أو التفويض باستخدام القوة المسلحة حتى ولو كان ذلك في مواجهة دولة غير عضو في المنظمة الدولية . فكيف يمكن والحال كذلك التوفيق بين واجب التدخل لنصرة المسلمين في الدول غير الإسلامية وبين واجب احترام أحكام ميثاق الأمم المتحدة التى تحظر بشكل «عام وآمر ودائم» استخدام القوة المسلحة من قبل الدول فرادى أو جماعات في غير الاستثناءات سالفة الذكر والتى ليس من بينها التدخل العسكري لفرض احترام حقوق الإنسان .

واقع الأمر أنه يمكن حل هذا التعارض في ظل الحقيقة الثانية والمتمثلة فيما كشفت عنه ممارسات مجلس الأمن في فترة ما بعد الحرب الباردة من إعادة تفسير أحكام الميثاق ذات الصلة بالأمن الجماعي تفسيرًا وظيفيًّا بما يجعل من المنظمة  الدولية جهازًا حيًّا قادرًا على مواجهة البيئة الدولية المتغيرة ، وخاصة في مجال النظام القانوني لحقوق الإنسان، فقد تطورت الممارسة من خلال المجلس إلى حد اعتبار الانتهاكات الواسعة والخطيرة لحقوق الإنسان في دولة ما أيًّا ما كانت الظروف والملابسات والأسباب الكامنة وراءها مصدرًا لتهديد السلم والأمن الدوليين مما يخول المجلس سلطة التدخل لقمع هذه الانتهاكات وفرض احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان ، على غرار ما تم في الصومال وفي البوسنة والهرسك. وقد سلف البيان بأن مشروعية هذا التطوير الوظيفي المستحدث في تطبيق آلية الأمن الجماعي مشروطة بأن يتم التدخل من قبل مجلس الأمن وأن تبرره شروط وظروف موضوعية تتمثل في وقوع انتهاكات واسعة وجد خطيرة للحقوق والحريات الأساسية للإنسان ، وإنه إذا ما عهد المجلس إلى إحدى الدول أو إلى مجموعة من الدول بالقيام بمهمة كهذه ، تعين أن يكون التفويض محددًا في هدفه وواضحًا في نطاقه ومداه ، وأن يكون تحت إشراف مجلس الأمن ورقابته المباشرة والفعالة .

وفي هذا الإطار يجوز للدولة «الدول» الإسلامية، فضلاً عن حقها المشروع في اتخاذ كافة التدابير والإجراءات غير العسكرية لحمل الدولة التي تضطهد المسلمين على تغيير موقفها، يجوز لها أن تستحث المنظمة الدولية على التدخل المباشر لإزالة هذا الاضطهاد، ومواجهته بكل ما هو متاح لدى المنظمة من وسائل، أو أن تفوض دولة أو مجموعة من الدول- يستحسن أن يكون من بينها دولة أو «دول» إسلامية – تفويضًا صريحًا ومحددًا بهدف فرض احترام حقوق الإنسان وكفالة الحرية الدينية لجميع أفراد الشعب في الدولة ذات الشـأن ، وبذلك يمكـن للدولة (الدول) الإسلامية أن توفق في سلوكها الخارجي بين ما تفرضه عليها الشريعة من أحكام والتزامات بصدد التدخل للنصرة واحترام العهود والمواثيق وبين ما يترتب على العضوية في المنظمة العالمية للأمم المتحدة من أحكام والتزامات في شأن استخدام القوة المسلحة .

ب – وأما فيما يتعلق بالقواعد المنظمة لسير عمليات القتال، فالملاحظ أن « الاتفاق» أو قل – إن شئت – «التماثل» بين أحكام الشريعة الإسلامية وقواعد القانون الدولي الإنساني بهذا الخصوص إن لم يتسع ليشمل التطابق في اللفظة والعبارة فإنه – على الأقل – يبتدي في «وحدة» القصد والمضمون إلى الحد الذي يمكن معه القول بأن أحكام القانون الدولي الإنساني – بوصفه لاحقًا زمنًا للشريعة الإسلامية – تجد مصدرها «الأساسي والمادي» فيما سنته الشريعة الإسلامية الغراء من قواعد وأحكام لحكم وتنظيم سلوك المجاهدين في الميدان وخارج الميدان، ومن آيات ذلك أن استعراض الحروب في العصر السابق مباشرة أو المقارن لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم يكشف عن أن هذه الحروب كانت حروب شعوب لا حرب المقاتلين فقط . فكان الشعب المحارب يستبيح من عدوه كل الحرمات في الميدان وخارج الميدان ، في أثناء المعركة وبعدها بل وقبلها ما دامت العداوة مستحكمة والصراعات محتدمة . ولم يكن الحكام والملوك والأباطرة يعلنون عن شن غاراتهم وحروبهم ضد البلاد الأخرى ، وكان مقصدهم من وراء ذلك كله تحقيق السلب والنهب ، وتوسيع دائرة الملك والسلطان وتحقيق الأمجاد . فلما جاء الإسلام كرسالة جوهرها الود والسلام وإشاعة الرفق والرحمة بين بني الإنسان وتمجيد الإنسان وتكريمه بوصفه نفخة من روح الخالق تعالى ، فرض مجموعة من القواعد والأحكام تكون واجبة النفاذ والاحترام من قبل القادة والمجاهدين المسلمين ، وتنبني هذه القواعد في جملتها على مبدأ أساسي واحد مقتضاه احترام الكرامة الإنسانية . ويمكن القول باطمئنان بأن الإسلام – لأول مرة في تاريخ البشرية – قرر وأوجب التمييز بين المقاتلين والأهداف الحربية وبين غير المقاتلين والأهداف أو الأعيان المدنية ، وفرض مراعاة مقتضى الضرورة الحربية ، وحظر التدمير والتخريب في البيئة والعمران المدني ، وألزم حماية دور وأماكن العبادة على اختلافها وتنوعها ، ودعا إلى تجنب وسائل الخداع ، إلى غير ذلك من المبادئ والأحكام التى لم يكن لأوربا خاصة (اتفاقات لاهاي 1899 ، 1907 ، …..) ولا الجماعة الدولية كما في ( اتفاقيات جنيف 1949 ولحقيها 1977 ، 1987 ، 1980 ..) عهد بها إلا منذ زمن حديث وحديث جدًّا . ويكفينا في هذا المقام – علاوة على ما سبق أن سقناه من آيات قرآنية وأحاديث نبوية وممارسات راشدية بصدد مبدأ الإنسانية في الحرب – يكفينا في ذلك أن نشير إلى ما أجمع عليه المؤرخون – بمن فيهم من الأوربيين – من الفرق الشاسع بين معاملة أوربا لأسرى المسلمين وبين معاملة صلاح الدين وقواده لأسرى الأوربيين إبان فترة الحروب الصليبية ، فقد نقل أولئك عن هؤلاء قيم المحافظة على أرواح الأسرى وحسن معاملتهم واحترام المرأة ، وأصول الحرب الشريفة ، والرحمة والكرم والنخوة إلى غير ذلك من الشمائل الإنسانية ، «وباعتراف مؤرخين أوربيين عندما أقدم ريتشارد قلب الأسد على قتل الأسرى المسلمين أمام صلاح الدين ،لم يعامله البطل المسلم بالمثل ، ولم يمس الأسرى الأوربيين بسوء» .

ومؤدى كل ما سبق أن الإسلام قد أحاط الحرب والقتال المسلح في الباعث عليه ، وفي بدئه وأثناء سيره ، وبعد انتهائه ومعاملة المغلوب فيها ، أحاطه بسياج من القواعد والأحكام الفاضلة بما يكفل احترام الكرامة الإنسانية وتكريم بني الإنسان أيا ما كانت عاداتهم واعتقاداتهم . وإذا كانت التطورات الحديثة في فنون التسلح ووسائل القتال قد اقتضت في القانون الدولي المعاصر ضرورة التصدى بالمنع والتحريم لاســـتخدام أســـلحة معينــة في القتال (كالأسلحة ذات الأثر العشوائي وأسلحة التدمير الشامل) ، فإن مثل هذه الجهود الدولية المعاصرة ، وإن لم تكتمل بعد ، لا تعدو – في حقيقتها – إلا أن تكون تطويرًا أو بناء على أصول عامة ثابتة ومرعية سبق وأن قررتها الشريعة الإسلامية لأول مرة في تاريخ البشرية – منذ أربعة عشر قرنًا – وبعبارة أخرى ، فإن أية قواعد دولية تقتضيها التطورات الحديثة في هذا الشأن وتتغيا تحقيق المقاصد والأهداف الإنسانية التى حثت عليها الشريعة الإسلامية ، هذه القواعد توافق مقتضى الشرع ويقرها الإسلام . فالجهود الدولية الرامية إلى الحظر العام والشامل لإنتاج وحيازة واستخدام أسلحة التدمير الشامل بما في ذلك بعض أنواع الأسلحة التقليدية ذات الأثر العشوائي أو التي يترتب على استخدامها آلام وأضرار لا مبرر لها ، هذه الجهود يستحثها الإسلام ويحض عليها بوصفها أمرًا لازمًا لإعمال واجب احترام الكرامة الإنسانية في الميدان وخارج الميدان والمحافظة على البيئة ومظاهر النماء والعمران.

ويقودنا ذلك كله – في التحليل الأخير – إلى أن نقرر – باطمئنان – حقيقة أساسية مفادها أن المبادئ الإنسانية التى قررتها الشريعة الإسلامية وعرض لها الفقه الدولي الإسلامي بالشرح والتفصيل بشأن الباعث على القتال وسير عمليات القتال ، هذه المبادئ – في مفهوم المصدر المادي للقاعدة القانونية الدولية الذي يتسع ليشمل الظروف والملابسات الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة في بيئة صنع القاعدة الدولية إلى جانب الاعتبارات التاريخية – مبادئ الشريعة الإسلامية بهذا الخصوص – تشكل – وبحق – الخلفية التاريخية والمصدر التاريخي لقواعد القانون الدولي الإنساني وأحكام القانون الدولي المعاصر بشأن استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية .

أما كيف تسنى الأخذ تاريخيًّا عن أحكام الشريعة الإسلامية والفقه الدولي الإسلامي بدءًا من الأب المؤسس له وهو الشيباني – فيما يتعلق بالمجالات سالفة الذكر فذلك مما تستفتى فيه مؤلفات الحضارات وروايات الأدب ومخطوطات التاريخ ، ولعل مما يحضرنا في هذا المقام ما أجمعت عليه تلك المصادر من أن أسبانيا وروما ، فضلاً عن الحروب الصليبية بين العرب المسلمين وبين أوربا المسيحية كانت من أهم المسالك والقنوات التى أفاضت على أوربا والقانون الدولي بالكثير والكثير من المبادئ الإسلامية الدولية الفاضلة، وفي طليعتها المبادئ الإنسانية لتنظيم عمليات القتال والتعامل مع آثاره .

القسم الثاني

الدلالات العامة للنظرة المقارنة في قانون استخدام القوة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي : منهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي

سلف القول بأن من أهم الدلالات الخاصة للنظرة المقارنة في قانون استخدام القوة المسلحة بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي المعاصر أن ثمة توافقًا بين الحقلين – إن لم يكن واسعًا فمعقولاً – فيما يتصل بالباعث على القتال المسلح أو بالأحرى الدوافع والمبررات التى تجيز للدول – فرادى وجماعات – استخدام القوة المسلحة ، وأن ثمة «تماثلاً» بين الحقلين بالنسبة لما يتصل بالمبادئ والقواعد الإنسانية ذات الصلة بتنظيم سير عمليات القتال وتوجيه أو ضبط سلوك المحاربين في الميدان وخارج الميدان حتى لتبدو أحكام القانون الدولي الإنساني في وضعه المستحدث والراهن ابتناءً على وتفصيلاً لما سبق وأن أرسته الشريعة الإسلامية من أصول ثابتة ومرعية في هذا الخصوص .

وغنى عن البيان أن الانتهاء إلى النتيجة سالفة الذكر ينطوى في الوقت ذاته على دلالة عامة بالغة الأهمية مفادها أن «التوافق» و «التماثل» بين الحقلين المعنيين في مجال استخدام القوة يغدو أرحب وأوسع فيما يتصل بالقواعد والأحكام ذات الصلة بتنظيم علاقـــات الســــلم والتعاون بين الدولة (الدول) الإسلامية والدول غير الإسلامية، والقول بذلك ينطلق من ويتأسس على المكانة الحقيقية والمعتبرة للسلم في نطاق الدعوة كأساس للعلاقة بين المسلمين ، دولاً كانوا أو جماعات، وغيرهم من الدول والجماعات التى لا تدين بالإسلام . فاعتبار الدعوة مناط العلاقات الخارجية للدولة الإسلامية وأن ما يلجأ إليه المسلمون من قتال غيرهم لا يعدو – في حقيقته – إلا أن يكون أمرًا عارضًا تحتمه وتقتضيه الظروف والملابسات المحيطة والمقارنة لنشر الدعوة الإسلامية وما يكون عليه موقف غير المسلمين من الدعوة قبولاً أو إعراضًا وصدًّا وعدوانًا ، اعتبار ذلك يترتب عليه أن السلم أو السلام بكل ما يندرج تحته من مفردات كالقول اللين والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هي أحسن والصبر على الأذى والصفح والعفو وحسن المعاملة ومقابلة الغدر بالوفاء ، السلم بهذا المعنى العام يرقى في نطاق الدعوة ليشكل ليس فقط الأداة الأولى أو الأداة الرئيسية، وإنما الإطار العام الذي يفترض للدعوة أن تنطلق منه ابتداءًا وأن تنشده انتهاءً .

وواقع الأمر فإن القول باتساع نطاق التماثل أو التوافق بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي في وقت السلم له معقبتان ، أحداهما نافية والأخرى مثبتة. أما النافية فمؤداها أن تبوأ السلم هذه المكانة في نطاق الدعوة الإسلامية لا يعني – البتة – تضاؤل أو انحسار الأهمية المعتبرة للجهاد في معناه الضيق ( اللجوء للقتال ) ولا ينفى حقيقة أن الجهاد بهذا المعنى – شأنه شأن السلم – يشكل ركنًا مهمًّا وأساسيًّا في الشريعة حتى ليعد منكره في مفهوم الشرع خارجًا عن الملة وواقعًا في دائرة الكفر ، وذلك لسبب جوهرى وبسيط مؤداه أن اكتمال القوة للدولة الإسلامية من شأنه أن يهيئ لها الجو الملائم لنشر الدعوة وحمايتها ضد أي اعتداء ، والقيام على إعمار الأرض ونشر السلم والأمن في ربوعها وأرجائها . وأما النتيجة الإيجابية للطرح القائل باتساع نطاق «التوافق» و«التماثل» بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي فيما يتصل بقانون السلم فتشير إلى ضرورة توسيع دائرة البحث والاهتمام في نطاق الشريعة الإسلامية بالقواعد والأحكام المنظمة لعلاقات السلم بين الدولة (الدول) الإسلامية والدول غير الإسلامية . وإذا كان الفقهاء القدامى قد عنوا في فقههم وبحوثهم بقانون الحرب أكثر من عنايتهم بقانون السلام فذلك – على الأصوب والأرجح – راجع إلى تأثرهم بظروف الواقع المحيط بهم حين كانت ظاهرة الحرب هي المسيطرة على علاقات الدول أو الكيانات الإسلامية – الموحدة تحت خلافة واحدة – بالدول والجماعات الأخرى غير الإسلامية ، مما حدا بالفقهاء المسلمين إلى البحث والتنقيب في الأصول الإسلامية عما يضبط سلوك الدولة الإسلامية في قتالها ضد الدول غير الإسلامية . والحال على خلاف ذلك تمامًا في العصر الحديث والوقت الراهن حيث الدول الإسلامية – في الغالب الأعم – دول حديثة عهد بالاستقلال عن السيطرة الأجنبية «الاستعمار» التى كبلتها وشلت حركتها قرونًا طويلة ، وهي – أي الدول الإسلامية – إلى جانب ذلك تدور في «فلك» اسمه الجماعة الدولية ، «نجومه» «دول» رابية متقدمة غير إسلامية ، أصبحت فيه كل واحدة من هذه الدول جميعًا بالنسبة للأخرى «دار عهد» ترتسم أحكامه وتنضبط قواعده بما يسمى القانون الدولي المعاصر أو بالأحرى ميثاق الأمم المتحدة الذي يتغيا – كأهداف عامة – نشر السلم والأمن الدوليين وتدعيم علاقات التعاون بين أعضاء الجماعة الدولية – على اختلاف مذاهبهم وإيديولوجياتهم ، وتفاوتهم في الثروة ومدارك التقدم – بما يحقق رفاهية الشعوب وتنميتها .

في هذا السياق ، ليس صحيحًا ما يردده البعض من القول بعدم جدوى أو ملائمة البحث في «قانون السلام» في الإسلام بدعوى أن الإسلام مجرد من ركيزة السلام . فجهاز السلام في الإسلام جهاز مؤقت ينظم علاقات تهادن عارضة فيما بين الحروب ….. والدول الإسلامية تدرك أنه يستحيل عليها في الوقت الحاضر أن تحيي النظرية التقليدية في الشئون الخارجية حتى لا تضر بمصالحها ، فالأوضاع التى تسمح بربط الدين بالعلائق بين الأمم قد تغيرت تغيرًا جذريًّا، والاتجاه إلى إدخال عنصر ديني في السياسات سواء على الصعيد المحلي أم على الصعيد الدولي اتجاه خطر جدًّا؛ لأن الدين وربما أي أيديولوجية من أي نوع كانت من شأنه أن يعوق عمل النظام القانوني الذي هو في الأساس ثمرة العادة والتقاليد أكثر منه تجسيدًا لمبادئ معنوية .

ولئن كان قانون الدول الحديث قد أصبح عالميًّا خلافًا للقانون الدولي المسيحي والقانون الدولي الإسلامي في العصور الوسطى فلأن الدول الأوربية قد تخلت عن ربط الدين بالعلائق الخارجية منذ معاهدة وستفاليا وقبلت بتطور المراجع العلمانية وفقًا للحاجات المتزايدة لأسرة الدول .

ولا مراء في أن ادعاء كهذا ينطوى على مغالطة منهاجية ، فضلاً عن أنه يفتقد المصداقية التاريخية ، فمن ناحية المنهج يلبس هذا القول الإسلام بظلم حين يرى في النظرية التقليدية للفقه الإسلامي أحكامًا عامة في الإسلام . وإذا كان القانون الدولي المسيحي لا يعدو أن يكون غرسة استزرعها بشر كنسيون لتكون قيمًا لوصاية دولية طاغية سلكت سبيلاً باغية وأركست أوربا في حرب ضارية دامت ثلاثين سنة عاتية ، فلا غرو أن تكون معاهدة وستفاليا أمارة النهاية للحرب الضروس وإشارة البداية لخذلان هيمنة القليس وانحسار سيطرة القديس، أما إسلام العصر الوسيط فكان شرعة دولة عرضها من المحيط إلى الخليج … ثم إن علماء الإسلام يفتون ولا يتحكمون ويقطنون ولا يسيطرون .

وأما من وجهة النظر التاريخية ، فالادعاء سالف الذكر يصطدم بما دونته وثائق التاريخ من الدولة الإسلامية بدءًا من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومرورًا بتتابع دول الخلافة الإسلامية أبرموا معاهدات صلح غير محددة المدة مع جماعات ودول غير إسلامية . ومن آيات ذلك – على سبيل المثال – العهد الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران ، والمعاهدات التى أبرمها بنو أمية مع بيزنطة ، والعهد الذى أبرمه حاكم مصر المسلم مع أهل النوبة في جنوب مصر ، فضلاً عن المعاهدات غير محددة المدة التى أبرمتها دولة الخلافة العثمانية مع الدولة الأوربية ، كذلك ليس صحيحًا ما قد يراه البعض من أن البحث عن نقاط «الالتقاء والتماثل» بين الشريعة الإسلامية والقانون الدولي في مجال علاقات السلم يتعارض وحقيقة أن كلاًّ من الشريعة الإسلامية والقانون الدولي يمثل حضارة تختلف في جذورها وأصولها عن الأخرى، مما يجعل التلاقي بين النظامين «ضربًا من المحال» ، ومرد ذلك إلى أن فكرة السلام من حيث هي إنما تنبثق في جوهرها عن بواعث متقاربة وتدور في أطر متشابهة». وإذا كان النظامان – الشريعة الإسلامية والقانون الدولي – «لا ينبجسان من نبع واحد ، فإن فلسفة السلام أيًّا كانت تطبيقاتها يجمعها منطق واحد يتغيا رفاهية الجماعة الدولية عن طريق توطيد العلاقات الودية وتأكيد الروابط السلمية بالبناء على قاعدة احترام العهود والمواثيق» .

وينبني على كل ما سبق ، أن نشير إلى ملاحظتين لهما أهمية ودلالة بالنسبة لمنهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي أو من وجهة نظر إسلامية ، على النحو التالي :

أولاً : تطوير القانون الدولي الإسلامي كمدخل للفاعلية والإيجابية في التنظيم الدولي المعاصر :

فمن المعلوم أن الفقه الدولي الإسلامي قد انصب في بحوثه وأفكاره بالنسبة لعالم المسلمين حول مبدأ «وحدة العالم الإسلامي» تحت خلافة واحدة أو إمامة واحدة ، فالله واحد والعقيدة واحدة والأمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} . وتقاسمت آراء الفقهاء فكرة عامة مفادها أن في «الفرقة والتعدد» شقًّا لعصا الطاعة ومروقًا عن طريق الجماعة ، حتى إن قيام دولتين للخلافة في آن واحد كان بمثابة «الصدمة» أو « الواقعة» التى وقف الفقه إزاءها في حيرة من أمره واختلفت آراء الفقهاء حول أي الإمامين أولى بالاتباع؟ وأيهما سلك غير سبيل المؤمنين؟.

غير أن الواقع الإسلامي بعد ذلك شهد تطورًا واسعًا تمثل في اتساع مساحة دار الإسلام لدرجة أصبحت فيها الأمة الإسلامية تضم شعوبًا وجماعات متبانية في عاداتها وسمات موقعها ، ثم زادت الفرقة وتقطعت أوصال الأمة بعد أن سقطت دولة الخلافة العثمانية وأعلن عن إلغاء الخلافة رسميًّا، وغدا كل جزء من أجزاء الأمة الواحدة وحده أمام مصيره ومستقبله وإن خضع العدد الأكبر من هذه الأجزاء لألوان وأشكال مختلفة من السيطرة الأجنبية تحت صيغ قانونية عجيبة أسميت بالانتداب . واستقر الحال بهذه الأجزاء لتشكل – في مفهوم القانون الدولي المعاصر – دولاً مستقلة ذات سيادة، سواء في مواجهة بعضها البعض أو في مواجهة غيرها من الدول غير الإسلامية. وأضحت الدول الإسلامية بهذا الوصف أعضاء في الجماعة الدولية التى يحكمها قانون هو – في الأصل – من صنع ووضع دول غير إسلامية .

وهكذا فإنه إذا كانت الأمة الإسلامية الواحدة يضمها قاطبة سياج مشترك من وحدة العقيدة والدين والمصالح العليا المشتركة ، فإن الواقع المعيش يشهد « تعددًا» في الدول التى تنتمي إلى الأمة الإسلامية .

وقبل أن نوضح منهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي بالنسبة لهذا المستوى – مستوى العلاقات فيما بين الدول الإسلامية – يجدر بنا أن ننوه إلى حقيقة أن الشــريعة الإسلامية – مع التأكيد والحث على وحدة الأمة الإســـلامية بما يجعل منها ذات شوكة -تنطوى على أحكام متكافئة أو بالأحرى تواجه «واقع التعدد» بين أجزاء ووحدات الأمة الأسلامية . ويكفينا في هذا الصدد ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات :9] هذه الآية الكريمة تشير إلى أن لفظة «طائفتان» تتسع في معناها العام لتشمل إلى جانب القتال بين فئتين أو جماعتين من الأفراد في المجتمع الواحد، القتال بين فئتين أو دولتين من الدول الإسلامية في الأمة الإسلامية الواحدة  .

وأخذًا بعين الاعتبار واقعة تعدد الدول الإسلامية هذه ، فإن خبرة البحث والتدريس في القانون الدولي والشريعة الإسلامية تقودنا إلى طرح توجه عام لمنهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي فيما يختص بالعلاقات المتبادلة بين الدول الإسلامية وبعضها البعض ، هذا التوجه يقوم على أو يتخذ بعدين رئيسيين :

أما البعد الأول فيتعلق بالبحث في كيفية تطوير قانون دولي إسلامي، بمعنى البحث في القواعد والأحكام التى تحكم وتنظم سلوك الدول الإسلامية في علاقتها المتبادلة في نطاق الجماعة الدولية المعاصرة . وفي هذا الخصوص ، فإنه يتعين على الباحث في مثل هذا القانون أن ينصب اهتمامه حول تبيان القواعد والأحكام التى تكفل إعمال الواجبات العامة التى تحث عليها بل تفرضها الشريعة الإسلامية لتنظيم علاقات المسلمين ببعضهم البعض . وبادئ ذي بدء ، فإن البحث في السيادة بين الدول الإسلامية وفقًا للمفهوم المستقر والثابت للسيادة في القانون المعاصر يصطدم بالأصل التشريعي الثابت والمتمثل في وحدة العقيدة ووحدة المصير والمصلحة بكل ما ينطوى عليه ذلك من وجوب التعاون والتكامل والتكافل، أو قل إن شئت: «الوحدة والاندماج» لا بما يلغى الشخصية الدولية المستقلة للدول الإسلامية فرادى في مواجهة بقية أعضاء الجماعة الدولية من الدول غير الإسلامية، ولكن بما يحقق الود والتكامل والتراحم بين المسلمين أفرادًا كانوا أم جماعات ودولاً .

وبعبارة أخرى ، فإن موجبات الشريعة التى تفرض على المسلمين – على الرغم من تعددهم وتباعد مواقعهم – أن يكونوا وحدة واحدة ، هذه الموجبات ترتسم حدودًا لهذا «التعدد الإسلامي» في ظل الواقع الدولي المعيش، وهي حدود لا يعدو هذا التعدد في إطارها أن يكون تعددًا في «الشكل والقالب» بينما هو وحدة في «الموقف والمضمون» إزاء مختلف قضايا وجوانب العلاقات الدولية التى يتسع نطاقها ليشمل – ضمن ما يشمل – الدول الإسلامية جنبًا إلى جنب مع الدول غير الإسلامية .

ومؤدى ذلك أنه يتعين البحث في القواعد والآليات والنظم التى تكفل – على هدى من الأحكام العامة للشريعة الإسلامية – الارتقاء بعلاقات الدول الإسلامية ببعضها البعض في مختلف مجالات العلاقات الدولية من مجرد العمل المشترك والتنسيق إلى التعاون والتكافل والتكامل كما هو الشأن مثلاً – في التطور في المجال الاقتصادي والتجاري من مجرد إقامة منطقة تجارة حرة بين الدول الإسلامية إلى إقامة اتحاد جمركي، ثم التطور لتكوين سوق إسلامية مشتركة ، فاتحاد اقتصادي يكفل تنظيم السياسات المالية والنقدية والاقتصادية بين الدول الإسلامية .

وجدير بالذكر في هذ المقام أن البحث في تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية والارتقاء بالتنظيم الدولي الإسلامي ينسجم والقواعد العامة للتنظيم الدولي المعاصر . فالنهوض بالتعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية ينسجم والظاهرة الاتحادية أو نظرية التكامل الاقتصادي في العلاقات الدولية المعاصرة على المستويين الإقليمي والدولي (تجربة الاتحاد الأوربي – الآسيان – الأبك – نافتا – الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا…) والقانون الدولي أو بالأحرى التنظيم الدولى المعاصر وإن لم يستحث مثل هذه الظاهر الاتحادية النوعية، فهو على الأقل لا يقف عقبة دونها . كذلك فإنه يمكن البحث في تعزيز وتقوية التحالف بين الدول الإسلامية في المجالات الدفاعية والأمنية دون أن يصطدم الأمر في ذلك بالأحكام العامة للقانون الدولي المعاصر التى تحظر – بصفة عامة آمرة – استخدام القوة المسلحة في العلاقات الدولية فيما عدا حالات الدفاع عن الذات الفردي والجماعي والتضامن الدولي في مواجهة العدوان ( نظام الأمن الجماعي من خلال مجلس الأمن الدولي) .

إذًا يمكن للدول الإسلامية تعزيز التحالف وتقوية التضامن بينها في هذا المجال من خلال مبدأ حق الدفاع الجماعي عن الذات، فيعتبر أي اعتداء على دولة إسلامية اعتداء على الدول الإسلامية جميعًا ، بما يحق معه بل يتعين على الدول الإسلامية الأخرى أن تهب بكافة سبل الدعم بما فيها استخدام القوة المسلحة – للوقوف إلى جانب الدول الإسلامية ضحية العدوان .

وإذا كان استخدام القوة من قبل الدول الإسلامية في نطاق «منظمة دولية إسلامية » أمرًا محظورًا طبقًا لميثاق الأمم المتحدة الذي تلتزم الدول الإسلامية بمراعاة أحكامه ، إلا بناء على إذن مسبق من قبل مجلس الأمن وتحت إشرافه ومراقبته ( الفصل الثامن من الميثاق) إذا كان ذلك كذلك، فإنه يمكن – من باب الحيل القانونية – التغلب على هذه الصعوبة القانونية والعملية بإبرام اتفاقية للدفاع المشترك (على غرار اتفاقية الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية) يتسنى للدول الإسلامية من خلالها إعمال مبدأ التضامن الإسلامي في مواجهة العدوان ، دون الافتيات في الوقت ذاته على أحكام القانون الدولي بهذا الخصوص .

وخلاصة القول إذن أن تركيز البحث القانوني في كيفية تطوير وتعزيز التنظيــــم الدولي الإســـــلامي القــائم (منظمات دولية حكومية وغير حكومية، عامة ومتخصصة) لا يصطدم وحقيقة كون الدول الإسلامية – على تعددها – أعضاء في جماعة دولية يحكمها فيه هي وغيرها من أعضاء الجماعة «عهد مشترك» هو ميثاق الأمم المتحدة بوصفه قانون الجماعة الدولية قاطبة . يرتبط بذلك حقيقة أنه وإن كان واقع «التعدد الإسلامي» ينظر إليه بوصفه وضعًا طارئًا أو نقمة حلت بالمسلمين ، فإن هذا الواقع «المرير» ينطوى – مع ذلك – على «نعمة» إذا ما أخذنا في الاعتبار واقع الجماعة الدولية المعاصرة الذي يتميز بالتواصل والتشابك والاعتماد المتبادل وتكريس علاقات القوى والنفوذ في صيغ وقوالب قانونية تستأثر فيها الدول غير الإسلامية بالنصيب الأوفر والقدح المعلي ( كما هو حاصل في تكوين العضوية في الجهاز الدولي المختص نيابة عن الجماعة الدولية بحفظ السلم والأمن الدوليين – مجلس الأمن) .

وظاهرة النعمة في واقع التعدد الإسلامي القائم أن هذا التعدد – بافتراض تطوير علاقات التعاون والتضامن بين الدول الإسلامية على النحو سالف الذكر – يمكن أن يعمل كأداة لخدمة المواقف والقضايا والمصالح الإسلامية في ظل أحكام التصويت المعمــول بها في التنظيــم الدولي المعاصر (اتخاذ القرارات بالأغلبية موصوفة كانت أو بسطية ) . فتعدد الدول الإسلامية مع تمتع كل منها بصوت مسموع وله أثره قانونًا خير للدول الإسلامية إن هي أحسنت استثماره وتوظيفه، ولاسيما إن هي امتثلت لمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية في علاقاتها ببعضها البعض .

ويقودنا ذلك إلى تناول البعد الآخر لمنهاجية البحث في القانون الدولي من منظور إسلامي ، بالنسبة لمستوى العلاقات المتبادلة بين الدول الإسلامية وبين غيرها من أعضاء الجماعة الدولية.

ثانيًا : تطوير القانون الدولي وقت السلم من منظور إسلامي :

وفي هذا المقام ، تحدونا خبرة البحث والتدريس في القانون الدولي والشريعة الإسلامية إلى القول بضرورة توسيع دائرة الاهتمام البحثي لإبراز «وتفعيل» دور الدول الإسلامية في تطوير قواعد القانون الدولي العام بشأن علاقات السلم والتعاون بين أعضاء الجماعة الدولية قاطبة ، وبعبارة أخرى ، توجيه مجال البحث لينصب على بيان كيفية إعمال مقتضى الالتزام الواقع على الدول الإسلامية بالعمل الدءوب والمتواصل بشتى السبل المشروعة والممكنة لتطوير القانون الدولي بما يوافق الشريعة الإسلامية وبما يخدم مصالح المسلمين جمعاء في دعم السلم والأمن والرفاهية .

وغني عن البيان أن التوجيه سالف الذكر لمنهاجية البحث في هذا المجال ينطلق من حقيقة أن الشريعة الإسلامية بوصفها شريعة عالمية سابقة على القانون الدولي ، وهذا الأخير لاحق لها ، كما وأن الشريعة الإسلامية تمثل قانون «الكمال» والقانون الدولي بوصفه من وضع وأفكار وتلاقي إرادات البشر هو قانون «إقلال» . و«الكمال» هنا يشير في معناه إلى احتواء الشريعة الإسلامية على أصول عامة وقواعد كلية يمكن أن يبنى عليها وأن يجتهد في إطارها بمناسبة اشتراك الدول الإسلامية في صنع الجديد من القواعد القانونية الدولية أو تعديل وتطوير القائم فيها .

ومما لاشك فيه أنه إذا كان العديد أو قل إن شئت الغالب من قواعد القانون الدولي المعاصر بشأن استخدام القوة المسلحة ، ولاسيما فيما يتصل بتنظيم سلوك المحاربين في الميدان وخارج الميدان، يجد له مصدرًا – أصيلاً وثابتًا – في الشريعة الإسلامية ، إذا كان ذلك كذلك، فإن مجال التماثل أو التوافق وبالتالي مكنات وحدود المشاركة من جانب الدول الإسلامية في صنع وتعديل القواعد الدولية المنظمة لعلاقات السلم بما يوافق الشرع يغدو أمرًا أوسع نطاقًا وأقوى مضمونًا . ويكفينا في التدليل على ذلك أن نشير إلى أن مبدأي المساواة واحترام العهود والمواثيق واللذين ينبني عليهما النظام القانون الدولي ، هذان المبدآن يجدان مصدرهما الأساسي والبعيد في أحكام الشريعة الإسلامية وليس في معــاهدات صلـــح وسـتفاليا (1648) . فالإسلام منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنًا قرر مبدأ المساواة بين بني الإنسانية جمعاء ، أفرادًا كانوا أم دولاً وجماعات . فالمساواة في الإسلام هي الأصل في تعامل بني الإنسان مع بعضهم البعض أيًا ما كان الوصف الذي يشملهم ، أي بغض النظر عما إذا كانوا أفرادًا أو شعوبًا أو جماعات ودولاً ، والتعاهد ( إبرام المعاهدات) مع غير المسلمين مشروع في الإسلام واحترام أحكام العهد والوفاء به واجب شرعًا ، بل إن الوفاء مقابل الغدر (نقض العهد أياً كان موضوعه أو محله) خير في الإسلام من مقابلة الغدر بمثله لقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] وقوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وفاء بغدر خير من غدر بغدر» ، ومبدأ الحصانة الواجبة للمبعوث الدبلوماسي الذي انتقل من قواعد المجاملات ليشكل قاعدة قانونية مستقرة في نطاق القانون الدولي المعاصر هذا المبدأ يجد له أصلاً ثابتًا في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } [التوبة: 6] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة الكذاب «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» ، فضلاً عما تواتر عليه الفقه الدولي الإسلامي من أنه « لو جاز قتل الرسل لفاتت المصلحة من وراء المراسلة» . وانتهاء الجماعة الدولية في مستهل ثمانينات القرن العشرين إلى تنظيم الوضع القانوني للبحر بما في ذلك الاتفاق على اعتبار منطقة قيعان البحار والمحيطات فيما وراء الولاية الوطنية تراثًا مشتركًا للإنسانية تستغل موارده وثرواته من قبل الجماعة الدولية ممثلة في جهاز «السلطة» لصالح الدول جميعًا، وعلى وجه الخصوص الدول النامية الفقيرة ، مثل هذا التنظيم لا يعدو أن يكون تفصيلاً للقاعدة الشرعية في الإسلام التى تقتضي من بني الإنسان جميعًا الاتفاق على تنظيم سبل وقواعد الانتفاع بالبحر في صورته التى هيأها الله تعالى وسخرها لبني الإنسان لتحقيق مصالحهم ومنافعهم. والأمثلة كثيرة على قواعد القانون الدولي المعاصر التى تجد لها مصدرًا أو أصلاً في الشريعة الإسلامية أو  لا تعدو إلا أن تكون تفصيلاً وتطبيقًا لقاعدة كلية في الشريعة الغراء ، ويدفعنا ذلك إلى القول بأن ثمة علاقة «تبادلية تكاملية» ما بين القانون الدولي والشريعة الإسلامية بخصوص قواعد السلم والتعاون في العلاقات الدولية المعاصرة . فكما أن القانون الدولي المعاصر يتضمن من المبادئ والقواعد ما يجد مصدره في الشريعة الإسلامية ، فإنه في الوقت ذاته – عند عدم وجود حكم مخالف في الشريعة الإسلامية – يمكن أن يعد من الأعراف التطبيقية – أو التى تبنى على أصول كلية في الشريعة لاستحداث قواعد قانونية جديدة تواجه ما استجد من وقائع وأحداث في الجماعة الدولية المتغيرة أوضاعها وأحوالها دومًا .

وبعبارة أخرى فإن الشريعة الإسلامية تنهض – والحال كذلك – كقانون «معدل ومبدل ومكمل للقانون الدولي، وأما الأخير فهو قانون مكمل فحسب، ومؤدى ذلك أنه يمكن للبحث في القانون الدولي على هدى من أحكام الشريعة الإسلامية أن يسهم – بدرجة أو بأخرى – في تعديل أحكام القانون الدولي أو في اقتراح قواعد قانونية دولية جديدة توافق مقتضى الشريعة الإسلامية وتحقق في الوقت ذاته المصالح الدولية المشتركة ، وهكذا فإنه مما يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية توجيه البحث إلى ضرورة إصلاح الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة ، وخاصة فيما يتعلق بالوضع القانوني لمجلس الأمن بما يحقق مقتضى العدل والمساواة بين الدول ويضمن تمثيلاً صادقًا ومعبرًا عن حقيقة الخريطة السياسية الدولية ومواقع الدول عليها (كالمطالبة بإعطاء مقعد دائم ولو بالتناوب للدول الآسيوية وللدول الإفريقية ولدول أمريكا اللاتينية فضلاً عن إعطاء ألمانيا واليابان هذا المقعد بما يعكس توازنًا بين القوى الكبرى يمكن الدول النامية توظيفه والتعامل معه بما يخدم مصالحها .

كذلك فإنه مما يتفق ومقاصد الشريعة الإسلامية أن يتغيا البحث العلمي في نطاق القانون الدولي العام إصلاح النظام الاقتصادي الدولي وإقامة نظام اقتصادي دولي جديد يتوخي العدالة والإنصاف بين الدول جميعًا ويضمن للدول الفقيرة والمتخلفة حقوقًا قانونية نافذة في مواجهة الدول الغنية والمتقدمة باعتبار الأخيرة قد أثرت – في الغالب الأعم – ثراء غير مشروع على حساب الأولى إبان الحقبة «الاستعمارية» ، فضلاً عن نشدان البحث العلمي في هذا المجال إرساء حق الدول النامية في التنمية الشاملة وواجب الدول الصناعية المتقدمة في تقديم كافة صور الدعم والمساعدة الفنية والتقنية بما يمكن الأولى من تحقيق أهدافها ورعاية مصالحها .

وإذا ما اقتضى الواقع الدولي المتغير بطبيعته سن قواعد قانونية جديدة في مجال ما من المجالات ، تعين على الباحثين في القانون الدولي من منظور إسلامي وتعين تبعًا على الدول الإسلامية، الإسهام الإيجابي والفعال في المعالجة القانونية الدولية لمثل هذا المجال المستحدث، والحرص في ذلك على أن لا تأتي هذه القواعد مخالفة لمقتضى الشريعة الإسلامية ومصالح الجماعة الدولية قاطبة بما فيها الدول الإسلامية . وأضعف الإيمان في هذا الصدد أن يتم عرض القواعد المقترحة أو المتصورة لمعالجة وتنظيم الموضوع الدولي الناشئ على روح وجوهر المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فإن لم تخالف أصلاً عامًّا أو قاعدة كلية ، ارتفع الحرج في إقرارها والموافقة عليها . وعلى سبيل المثال إذا كانت التنمية تمثل الشغل الشاغل للدول النامية والتى تنتمي إليها بطبيعة الحال الدول الإسلامية فإن ما تنطوى عليه عملية التنمية وما يصاحبها من أضرار تتهدد البيئة بالتلوث والدمار الشامل يفرض على الباحثين في القانون الدولي من منظور إسلامي وتبعًا الدول الإسلامية البحث في القواعد التى تكفل المواءمة بين الالتزام العام الذي تفرضه الشريعة الإسلامية بشأن عمارة الأرض وتنميتها والانتفاع بما سخر الله تعالى فيها من موارد وثروات لخير الناس جميعًا وتأمين صالح الأجيال حاضرها ومستقبلها لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة} [البقرة: 30] ، وقوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]، وبين الواجب العام الذي تفرضه الشريعة أيضًا في الحفاظ على موارد البيئة والامتناع عن إفسادها أو الإخلال بالتوازن القائم بين مختلف عناصرها ومكوناتها لقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَاد} [البقرة: 205]، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس} [الروم: 41] وقوله صلى الله عليه وسلم: « إذا قامت القيامة على أحدكم وفي يده فسيلة فليغرسها» .

ولا يصح أن يقال إن الدولة الإسلامية دول مغلوبة على أمرها وليس لها في الجماعة الدولية من الكيان ما يؤهلها لأن تفرض نظرياتها أو تدعم مفاهيمها . فالدول الإسلامية تضم ما يقرب من (سدس) سكان العالم وتتشابك مع غيرها في العديد من المصالح والأهداف، وهي تملك من المباديء الإسلامية العالمية ما يمكنها من أن تكون قادرة على الإسهام بنصيب قل أم كثر في صنع وتطوير القانون الدولي المعاصر، وخاصة إذا ما علمنا أن المبادئ العامة للقانون التى تقرها الأمم المتمدينة تعد بصريح نص المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية مصدرًا من المصادر الرئيسية للقانون الدولي، فضلاً عن أن تشكيل هيئة المحكمة الدولية لابد وفقًا لنص المادة التاسعة من النظام الأساسي للمحكمة وأن يعكس تمثيلاً صادقًا للنظم القانونية الرئيسية في العالم ، تلك النظم التى يأتي في طليعتها ولاشك النظام الإسلامي .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر