أبحاث

آراء جديدة في علم الاقتصاد المعياري: النهوج الغربية والمنظور الإسلامي

New Views in Normative Economics - العدد 69- 70

إن النتيجة التي انتهي إليها هذا البحث هي أن ” المذهب العقلي النقدي ” يمكن أن يمثل منهجية مشتركة للعلوم الاقتصادية الغربية والإسلامية ، ويعتبر هذا الأساس المشترك شرطا مسبقا لأي تبادل ذي معني للحجج بين الاقتصاديين الغربيين والمسلمين ولقد اشتمل البحث على ثلاثة فصول :

  • فأما الفصل الأول : فيلخص التطورات المهمة في النظرية الغربية للمعرفة ( الأبستيمولوجيا ) ، وسيجري توضيح الوضع الابستيمولوجي للمعرفة الحقيقية والمعتقدات الدينية .
  • وأما الفصل الثاني : فإنه يشرح التاريخ المنهجي لعلم الاقتصاد والفرق بين على الاقتصاد الإيجابي والمعياري وسيجري بحث الافتراض الخاص بعلم الاجتماع ومنهجية المذهب العقلي النقدي ، ومن المناسب ، وبالنسبة إلي علم الاقتصاد الإسلامي ، استعراض موجز للمعالجات الأخيرة للمسائل المعيارية والمعنوية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والغربية .
  • أما الفصل الثالث : فإنه يستخلص بعض النتائج من مجمل المواقف الأبستيمولوجية والمنهجية الغربية إزاء الاقتصاد الإسلامي وإذا حكمنا على حالة علم الاقتصاد الإسلامي من ذلك الموقف لوجدنا أنه في بعض أجزائه غير مرض . مع إيراد بعض التلميحات بتحسين الوضع .

ويشتمل هذا البحث الذي أعده اقتصادي غربي على بعض التوصيات الجلية والضمنية بصدد إجراء مزيد من التطوير لعلم الاقتصاد الإسلامي ، وقد يحكم بعض المسلمين على ذلك بأنه غطرسة فكرية أو ” إمبريالية أكاديمية ” .

  • الأسس الإبستيمولوجية لعلم

الاقتصاد

  • الاقتصاد : علم يتعامل مع العمل الإنساني ، أي مع سلوك هادف ، فالإنسان العامل يبتغي الانتقال من حالة راهنة إلي أخري أكثر إرضاء له ، ولبلوغه هذا الهدف فإنه يستخدم ما يراه مناسبا من الوسائل ، وليس ثمة حاجة إلي قصر التحليل على الأوجه التي تتسم بالأنانية والمادية للعمل الإنساني ، فإن جميع ألوان السلوك الهادف والاختيارات الواعية قد تصبح موضوعا لتحليل اقتصادي (1) .
  • إن العمل الإنساني تحدده معتقدات الإنسان : وينبغي التمييز بين نمطين من المعتقدات بالنسبة إلي مضامينها : وهما المعتقدات اليقينية والمعتقدات الفرضية .
  • فالمعتقدات اليقينية : معتقدات عن حقيقة العالم ، وتتحدد الإمكانات البديلة المتاحة للفاعل وكيف أنها تغير الوضع أو الحالة ( حسب ” قوانين الطبيعة أو القوانين الاقتصادية ” . . . الخ ) ، معتقدات تسمي توقعات .
  • أما المعتقدات الفرضية : فهي معتقدات بما ينبغي أن يكون عليه العالم وعما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان . إن بواعث وأهداف فعل الإنسان تقررها المعتقدات الفرضية . وتعتبر المعتقدات الفرضية في علم الاقتصاد أسس المثل والأهداف والمستويات المتعلقة بتقييم الأحوال البديلة ومناهج العمل .

لقد كانت نظرية العرفة ( الأبستيمولوجيا ) – كفرع من فروع الفلسفة الغربية – تهتم بصفة رئيسية بمشاكل المعتقدات الاستيفائية . أي المعتقدات بأن شيئاً ما موجود أو غير موجود في الواقع ، وكانت المعتقدات الفرضية مسألة كبري في الدين واللاهوت .

المعرفة عن العالم الواقعي

  • يمكن أن تكون المعتقدات اليقينية ( توقعات عن العالم الواقعي ) معتقدات صحيحة أ و زائفة ، وثمة شرط أساسي للاعتقاد ، وهو الفهم : ذلك أن من الحماقة الاعتقاد بأن افتراضا ما افتراض صحيح ولكن دون فهم معني ذلك الافتراض ، إن الاعتقاد يستلزم الفهم ولكن ليس العكس . فمن الممكن فهم افتراض ( مثلاً أن الأرض سطحية ) بدون الاعتقاد بذلك ، ولذلك فإن الاعتقاد شئ أكثر من الفهم .

إن الافتراض يفهم ولكنه لا يصدق حينما لا يكون هناك مبرر كاف له . ويمكن تبرير افتراض عن العالم الواقعي بالاحتكام إلي ” الحقائق ” وإلي الدليل التجريبي (2) أما وأن افتراضا ليس هناك ما يبرره لا يستبعد إمكانية أن يكون صحيحاً ( بالصدفة ، ” الصحيح للأسباب الخاطئة ” ) فمثلا إن الافتراض بأن الأرض مستديرة افتراض صحيح ، ولكن يمكن تبريره من جانب صاحب الافتراض وذلك باللجوء إلي معلومات يدعي أنه تلقاها من كائنات كونية .

وبالرجوع إلي هذه الإيضاحات ( وفي تقليد طويل يعود إلي أفلاطون ) قد تم تعريف المعرفة بأنها اعتقاد صحيح له ما يبرره . إن نظرية العرفة تهتم بالمشاكل المتعلقة بكيفية اكتساب المعرفة وبإيجاد القيمة الحقيقية للافتراضات . إذن فإن تطبيق النظرية الفلسفية الأبستيمولوجيا يؤدي إلي منجيات بعينها لحساب علوم محددة مثل علم الاقتصاد .

  • إن الأيستيمولوجيا الغربية تتبع مثلا عقلانيا ، ولقد ظهر المذهب العقلي الحديث في القرنين السابع عشر والثامن عشر . وقد قام بالإسهامات ” المنطقية ” في هذا المجال رينيه ديكارت ” scartes Rene De . “ ( 1596 – 1650 ) ودافيد هيوم “ David Hume” ( 1711 – 1776 ) (3) .
  • ولقد حاول ديكارت وضع نظام للمعرفة محصن ضد النقد المريب ومؤسس على فهم صحيح ومعرفة بالله . . و ” هو ” يستهدف استكشاف افتراض أو أكثر من شأنه أن يكون محصنا ضد الاعتراضات المربية . (4) وكان ديكارت مقتنعا بأن للإنسان منفذاً إلي معرفة أولية عن العالم . . . أي معرفة قبل التجربة أو في معزل عن هذه التجربة ، وهي معرفة وضعها الله في عقل الإنسان بأن ما يشاهده الإنسان بوضوح وجلاء فهو حق . . . فالوضوح والجلاء يجعلان الحقيقة متاحة للإنسان بفضل إحسان الله . فهذه المعايير تضمن الحقيقة . . وهي معايير معصومة ، والافتراضات مثل ” أنا أفكر ” أو ” أنا موجود ” أو ” أنا أفكر . إذن أنا موجود ” ، تعتبر حقائق أولية غنية عن البيان ( أي أنها لا تحتاج إلي دليل تجريبي أخر ) ، وهي حقائق ثابتة لا ريب فيها . إن الافتراضات الصحيحة بالنسبة إلي ديكارت يجب أن تكون أبعد ما يكون عن أي شك منطقي ممكن أو يجب استنتاجها بالضرورة من افتراضات ثابتة لامراء فيها ، ولا ريب في أن المعرفة بمثابة نظام هرمي وإن الرياضيات ( تنبثق من بعض البديهات الأساسية وتتدرج نحو كشف مجموعة كبيرة من الافتراضات ) هي المثل الأعلي لنمط المعرفة الذي يدور بخلد العقلانيين الكلاسيكين .

ولقد واجه هذا المنهج الصارم كل الصرامة إزاء المذهب العقلي بعض التحديات . وهناك على وجه التحديد نمطان من افتراضات لا سبيل إلي الشك فيهما :

  • الافتراضات .
  • والافتراضات الذاتية والتثبت .

ولقد تساءل ( التجربيون الكلاسيكيون مثلا ) ما إذا كانت أي معرفة وراء الحقائق التافهة اللاوزن لها يمكن أن تتيحها أساليب أولية ” أي سابقة على التجربة ) . وحتي إذا كان هناك أدراج الاستبطان ( التأمل الباطني ) والإدراكات الحسية المباشرة في قائمة الأمور المرشحة .

فإنه لا يمكن تبرير المعتقدات التي تسمو فوق الموضوع . كما أن المذهب العقلي الصارم لا يمكن أن يتيح ( تبريرا ) لمعرفة الحقائق التي تشمل تعليل وتجارب الموضوعات الأخري . إن الاتصال اللازم بين الموضوعات يثير احتمال حدوث أخطاء ، ومن هنا لا يمكن أن يصمد أمام الاختيار الصارم لليقينية ( المنطقية ) على انه إذا كانت جميع المعتقدات بشأن الحقائق خارج إطار عقل المرء ، فإنها لا يمكن أن تصبح غير قابلة للجدل ، ومن ثم لا يمكن أن تكون مؤهلا للحقيقة ، وهذا من شأنه  إثارة شك أساسي فيما إذا كان الإنسان يستطيع أن يجد افتراضات حقيقية ويكتسب معرفة عن العالم ، ولسوء الحظ لم يستطع الفرع التجريبي للمذهب العقلي أن يقدم أيضاً جوابا مقنعا وبالتالي فإنه يؤدي إلي مزيد من الشك والريبة .

  • كان هيوم (Hume ) الداعية الكبير للمذهب التجريبي الكلاسيكي ، فيما كان المذهب العقلي الكلاسيكي يتبناه أساسا فلاسفة في القارة الأوربية ( وخاصة فرنسا وألمانيا ) . وكان الفلاسفة البريطانية على العموم يبدون أهمية أكبر ” بالمعرفة التجريبية ” .

كان هيوم يسلم بأن بعض ” علاقات الأفكار ” مثل تلك الموجودة في الحساب يمكن أن تعرف بأنها علاقات أولية ولكن ” الحقائق ” لا يمكن معرفتها بتمرين عقلي محض . إن الاعتقاد بأن شيئاً موجوداً ( هو حقيقة ) لا يستبعد الإمكانية المنطقية بأن الاعتقاد زائف وأنه في الحقيقة لا وجود له . ولمعرفة ما إذا كان ثمة افتراض عن حقائق صحيحا أم لا ، فهذا أمر يتطلب مراقبة ورصد .

وهناك افتراضات تجريبية كثيرة من هذا نوع لا يمكن تقييم قيمتها الصحيحة بالمراقبة المباشرة وإنما يتم ذلك بصورة غير مباشرة بشئ من المراقبة والتفسير معا وهو ما يسميه هيوم ” الاستدلال العقلي ” .

فإذا نفي المرء أن المعرفة في العالم يمكن اكتسابها بالاستدلال وحده . عندئذ لابد أن يبدأ السعي لبلوغ الحقيقة بمراقبة الحقائق . إن الأخذ بالاعتبار للحقائق القابلة للمراقبة المباشرة لا يدفع قدما معرفتنا عن العالم ، وإنما يمكن أن يسير قدما بالافتراضات الحقيقية عن أمثلة ليس لها ( حتي الأن ) تجارب ، إن ما أسماه هيوم بالاستدلال العقلي ” يسمي في علم المصطلحات الفنية الحديث ” بالاستنتاج الاستقرائي ” ، فبدءا من الحقائق المراقبة يتوصل المرء بواسطة الاستنتاج الاستقرائي إلي بيان أعم أو ” قوانين عالمية ” عن الظواهر التجريبية ” العالم الحقيقي ” .

كان هيوم نفسه على علم بمشكلة أساسية فيما يتعلق بالصفة الأبستيمولوجية لمبدأ الاستقراء ، أو ما يسمي مبدأ التماثل (5) وتتمثل المشكلة بالتحديد في كيفية الاستنتاج منطقيا بأي شئ عن تجربة مستقبلية على أساس تجربة ماضية ولا شئ خلاف ذلك . على أن الاستقراء من أمثلة بعينها إلي قانون عالمي يتطلب في مرحلة من مراحل المنافسة ، قفزة غير منطقية في الفكر ” (6) والسبب في ذلك أننا لا يمكن أن نعرف مبدأ التماثل من الاستدلال البحت ( فهو افتراض عن العالم خارج عن نطاق العقل ، ونظرا لأن عدم التماثل في الطبيعة لا يستبعد المنطق فإنه لا يمكن أن يكون له وضع ثابت . كما انه لا يمكن معرفته بالمراقبة المباشرة ( لأنه يتجاوز الإدراك الحسي ) ، وإلي جانب ذلك لا يمكن إثباته بواسطة تجارب ماضية لأن ذلك يتطلب استنتاجا استقرائيا ، وهكذا فإن مبدأ الاستقراء بحاجة إلي ذاته لإثبات مبدأ التماثل . ” إن انتقاد هيوم انتقاداً كاملاً : فهو يقول إن مبدأ التماثل لا أساس له ومن هنا فإن الاستدلال من التجربة مبني على فروض لامبرر لها ” (7) إن من المستحيل ضمان حقيقة افتراض عن العالم الواقعي بالاستنتاج الاستقرائي .

(ج) وهذا من شأنه أن يفضي إلي نتيجة مزعجة جدا : ذلك أنه ليس في الإمكان اكتساب ” المعرفة التجريبية ” بالمعني العقلاني لا بالأسلوب الاستدلالي الذي ينتهجه العقلانيون الكلاسيكيون ولا بالأسلوب الاستقرائي الذي ينتهجه التجريبييون الكلاسيكيون .

إنه لضرب من المستحيل التوصل إلي افتراضات يقينية لا تقبل الجدل بمادة تجريبية ، وإنه لمن المستحيل أيضاً إثبات حقيقة المعتقدات اليقينية .

  • لقد أعاد الفلاسفة المعاصرون ( مثل لودفيج ويتنجشتاين LudwomgWittengstein) النظر في معايير التبرير والتيقن بالرجوع إلي معانيها في ” اللغة العادية ” ، ففي اللغة العادية تعني المعرفة الأمور التي لها ما يبررها من اليقين الذي لا يشوبه أي شك ( منطقيا ) ويصبح الفرق واضحا يبحث مثال من الأمثلة : عندما يري رجل مائدة أمامه ، يكون الافتراض عندئذ وهو ” هناك مائدة ” بالنسبة إليه أمر لا يساوره أي شك ، وسيقبل الافتراض كيقين وحقيقة مع أنه قد يقر بأنه ليس في منأي عن جميع الشكوك المحتملة : فهو لا يمكن منطقيا أن يستبعد الإمكانية بأن رؤيته ليست سوي نوع من الهلوسة وإذا ما وجه بسبب ما يحمله على الاعتقاد بأن ملاحظته شئ من الهلوسة فإنه – كرجل عقلاني – سيرضي بأن يبحث هذا السبب ويعمد إلي تغيير اعتقاده وفقا للدليل الجديد ، ولذلك فإنه لا يدعي العصمة لاعتقاده ( اليقيني ) ولكنه سيبقي عليه مفتوحا للنقد والتعديل ، وطالما أن الاعتقاد ( بأن هناك مائدة أمامه ) له تبريره الكافي ، فإن الرجل يمكن أن يبني أفعاله على أساس هذه ” المعرفة الذاتية ” ( أي على سبيل المثال ، أن يضع كوب ماء هناك ) ، ويمكنه أن يستخدمها لتقييمات إدراكية لا فتراضات أخري ( مثل أنه ليست هناك مائدة وإنما كرسي ) .

ليس ثمة صعوبة في هذا النهج : فإذا كان الوضع الإدراكي للافتراض (ب) يقيم على ضوء افتراض أخر (ق) . فإن هذا لا يمكن أن يكون معقولا إذا كان ” ق ” بعيد عن أي شكوك ، ولكن من أين تستخلص حقيقة ( ق ) ؟ ألم يكن من الضروري ، في المثل الأخير أن يكون ل ” ق ” وضع المعرفة الأولية التي تدرك بالاستدلال العقلي ؟ إن التمييز في هذه الحالة اليقينية التي لا ترقي إليها شكوك معقولة لا يفضي إلي تقدم حقيقي .

ومما يبرز هذه الحجة هوتفسير ” خطي ” أو ” هرمي ” ( لعملية ) التبرير فإذا اعتبر الافتراض “ب” على أنه صحيح فإنه يجب أن يكون قابلا للاقتطاع من الافتراض “ق” الصحيح الذي هو ذاته قابل للاقتطاع من “ر” . . الخ إلي أن تنتهي إلي الافتراض “ي” الذي يمكن اقتطاعه أو تبريره من افتراض سابق ، ولذلك فإنه لابد أن يكون ، كافتراض نهائي صحيحا في حدا ذاته ، ولا ريب في أن هذا التفسير مقنع حينما يقبل المنظور ” الخطي ” على أنه منطقي ليس هناك أساس قهري ، لماذا يجب أن يكون التبرير خطيا عندما نريد أن نثبت يقينا معقولا ( ولكن ليس قابلا للشك فيه ) ، وعلى العكس ، يبدو أكثر ملاءمة للأخذ بتفسير ” لا مركزي ” للتبرير أو التخلي عن فكرة التبرير كلية .

  • وإذا ظهر دليل يؤيد الافتراض “ق” ويفيد الافتراض “ب” عندئذ قد يحل “ق” محل “ب” إن تعديل الاعتقاد الاستيقاني سببه الدليل الجديد الذي أثار بداءة الشكوك حول حقيقة الافتراض “ب” ثم أقنعنا بإحلال “ق” محل (ب) ولهذا فإنه ليس من الضروري أن يكون هناك افتراض إضافي يتجاوز ما سبق أن تم قبوله بالفعل ( عند قبول “ب” على أنه مؤكد بصورة معقولة ) وأنه ليس ثمة ما يدعو إلي أن تكون نوعية “ق” الإدراكية مختلفة عن تلك التي ل “ب” (8) إن التمسك ب “ق” يبرره الدليل الجديد وتفرقه على “ب” ، وفي ضوء هذا الدليل ، فإنه لمن المسوغ تقييم “ق” بأنه مؤكد بصورة معقولة .

ولكن ذلك يعني أن “ق” لا مراء فيه ، وقد يحدث بعد مرور فترة من الوقت أن يظهر دليل جديد من شأنه أن يرد اعتبار “ب” ( في شكله الأصلي أو في شكله المعدل ولكين ليس بصورة كبيرة ) (9) وصفوة القول إن قبول المرء الافتراض على أنه صحيح بصورة معقولة ( أي لا ترقي إليه شكوك معقولة ) لا يكون هذا المرء في هذه الحالة بحاجة إلي تبرير باللجوء إلي افتراض صحيح حقيقي ، والتبرير الوحيد الذي يحتاجه هو أنه لا تكون هناك شكوك معقولة ، وحيث إنه لا توجد هناك مطالب لمعرفة محققة وضمانات نهائية ” للحقيقة ” ، فإنه ليست هناك حاجة إلي سلطة مركزية وإنما فقط إلي شكل ” لا مركزي للتبرير ” .

والغرض الكلاسيكي للتبرير العقلاني هو ضمان الحقيقة ، ولكننا اليوم يجب أن نعترف بأن من المستحيل ، من حيث المبدأ ، التوصل إلي للمعتقدات اليقينية أكثر من الحقيقة الممكنة للمعتقدات اليقينية عن الظواهر التجريبية خارج إطار عقل الفرد .

ونحن لا نستطيع الادعاء بأن لدينا معرفة معصمومة من الخطأ ، وأنه لكي نكون عقلانيين يعني أن نكون مستعدين لإعادة النظر في معتقداتنا في ضوء ظهور دليل جديد وقبول الإمكانية بأن المعتقدات يمكن أن تدحض . ولكي نتجنب سوء الفهم وأن نؤكد النقيض للمذهب العقلي الكلاسيكي لا ينبغي لنا أن نعرب عن المعني الجديد ” للتبرير ” بواسطة صفة قوية مثل ” اللامركزية ” فحسب وإنما ينبغي لنا أن لا نتحدث عن التبرير على الإطلاق (10) ، إذ لا ينبغي بعد ذلك تعريف ” المعرفة ” على أنها ” اعتقاد حقيقي له ما يبرره ” وإنما ” كاعتقاد فوق مستوي الشكوك المعقولة ” أو على وجه التحديد – ” اعتقاد معقول ” ، وهو أساسا سؤال منهجي مؤداه في ظل أي ظروف يمكن أن نقبل افتراضا فوق مستوي الشكوك ، والجواب على ذلك مرهون إلي حد كبير بالتقاليد والأعراف المقبولة في علم بعينه .

إن الفكرة القائلة بأن جميع معرفتنا التجريبية عرضة للخطأ وليست أكثر ( أو على أحسن تقدير ) من اعتقاد غير مزيف ، قد أكدتها الأبستيمولوجيا والمنهجية للمذهب العقلي النقدي المبني على أساس كتابات كارل ر . بوبر (Karl R . Popper) ” المولود عام 1902 ” ، فقد استرعي الانتباه إلي عدم تماثل أساسي في المنطق المتعلق بإثبات أو تفنيد التحقيق والتزييف على التوالي (11) ومن المستحيل منطقيا التثبت من افتراض عام من العالم الواقعي بجمع دليل مدعم ، ولكن ليس هناك منطق لاستنتاج استقرائي من بيانات فردية ” لقانون ” عام ، ولكن من الممكن بمساعدة منطق استنباطي تفنيد بيان عام بواسطة إيجاد بيان فردي مناقض (12) .

(ب)تبرير الأعراف والقيم

(7) لقد تناولنا حتي الأن المشاكل الأبيستيمولوجية لمشاكل المعتقدات اليقينية فقط ، لكن الفعل البشري لا يتحدد بها فقط وإنما بالمعتقدات التقادمية أيضاً ، أي الأعراف والقيم . كان فلاسفة القرن السابع عشر مثل ديكارت العقلاني أو لوك التجريبي مقتنعيين بأن للإنسان معرفة بالأعراف والتقاليد أما ” السلوك والأخلاق ” فهي في معزل عن التجربة ( أي أمر المعيارية ) تشمل المعرفة بوجود الله .

ولكن هيوم أوضح أن هناك اختلافا بين تعبير ” يكون ” وتعبير ” يجب ” ففيما يمكن أن تكون تعبيرات ” يكون ” كتعبيرات حقيقية أو صفية . صحيحة أو زائفة ، فإن تعبيرات ” يجب ” تعبر عن تقييمات لحالة العالم ، ومن المنطقي أن يشمل تعبير ” يكون ” تعبيرات ” يكون ” عديدة أخري فقط ، ولذلك فإنه من غير الممكن استخلاص تعبير ” يجب ” من ” يكون ” ونظراً لأن الصفات الإدراكية لتعبيري “يكون ” و “يجب ” مختلفة وأن نظرية المعرفة الأبيستيمولوجيا التي وضعت لتعبيرات ” يكون ” لا يمكن تطبيقها على تعبيرات ” يجب ” مباشرة وبدون تحفظات ، ومع ذلك فإنه يمكن تباين بعض أوجه المماثلة والمطابقة .

إن الطلب العقلاني على التبرير قائم بصفة عامة ، وهو ينسحب لا على المعتقدات اليقينية فحسب ، وإنما على المعتقدات الفرضية أيضاً ، ولا يمكن تبرير المعتقدات الفرضية إلا بأعراف وقيم ” أعلي ” ، ولكن ما دمنا رسمنا خطا فاصلا بين تعبيري “يكون ” و “يجب ” وأسندنا قيمة حقيقية إلي الأولي فإنه حتي أعلي الأعراف النهائية لا يمكن اعتبارها صحيحة ، وفي حين أن حقيقة نهائية يقينية يجب أن تعترف بها جميع الكائنات البشرية على السواء ما دامت تعرف كأمر مسلم به وبديهي ) .

فإن زعما عالما من هذا القبيل لا تتضمنه منطقيا فكرة عرف أعلي ونهائي ، وهذا يعني أن من الممكن منطقيا أن أناساً مختلفين لهم أعراف مختلفة (14) ولما كانت الأعراف بالتحديد أعرافا نهائية لا يمكن أن يكون هناك “عرف أعلي ” لقرار يتعلق ب (من هو على صواب ) (15) .

إننا لا نستطيع أن نقيم الأعراف أو النظم النهائية للمعتقدات المعيارية بطريقة تمييزية ولكن هذا لا يعني أن إجراء معالجة عقلانية للنظم المعيارية أمر مستحيل تماما . ولكن هذا يعني فقط أن إجراء تقييم عقلاني لا يجب أن يتم من خارج النظام ولكن من داخله ، وإذا سلمنا بالأعراف النهائية فإن المرء يستطيع أن يسأل ما إذا كانت الأعراف والقيم “الأدني ” تستخلص منطقيا من الأعراف النهائية وما إذا كان النظام المعياري كله نظاما متماسكا ومتناغما . إن المجموعة الإجمالية للأعراف والقيم والمثل وتوقعات الأخرويات تمثل ” نظرية للحياة ” تحدد ( مع توقعات حالة العالم ) فعل الإنسان وعمله وطريقة حياته ، ولا يمكن إلا لنظام معياري متناغم أن يسمح بتوجيه واضح ويعطي أجوبة معقولة عن جميع الأسئلة المتعلقة بطريقة الحياة . ولا ريب في أن نظاما متقلبا يعطي أجوبة متناقضة ولا يستطيع أن يحدد العمل البشري بطريقة معقولة (16) .

يجب أن تكون للحياة عالمية ، ويجب أن تحدد هي مواقف الإنسان وأفعاله في أي حال من الأحوال . ” إن نظرة الحياة تصبح لا تطاق إذا قامت أحوال ليست لها هذه النظرة متضمنات علمية ، أو أن يتضح أن المواقف أو الأفعال التي تبدو فيها صحيحة بالنسبة إلي تلك النظرة للحياة ، غير عملية ، ويتبين من هذا أن نظرة الحياة لا يمكن أن تكون نظاما مغلقا وثابتا ” (17) إنه يجب أن تكون مفتوحة لتكييف مستمر لحالات جديدة وتلبية مطالب ( وتحديات ) جديدة .

ويجب أن تكون النظرة للحياة مرنة وأن تكون لها صفات ديناميكية .

(8)لقد كانت الأديان خلال معظم أحقاب التاريخ الإنساني أساسا لنظريات الرجال للحياة وفي خلال ال 250 عاما المنصرمة واجه الدين المسيحي تحديا عقلانيا حاشدا وكان عليه أن يستجيب للمطالب الخاصة بالتبرير العقلاني .

إن العقلانيين الكلاسيكيين لم ينكروا الله ، ولكن فكرة ديكارت المجردة عن الله لم تكن شيئاً مشتركا ذا بال مع إله والإنجيل وعقائد الكنيسة والعقيدة المسيحية ” الشائعة ” ، لم يرد كثير من الناس التدني بالله إلي فكرة عقلانية مجردة أو إلي الفكرة ( الأكثر ” فهما ” والأكثر حيوية ) عن خالق الكون الذي لم يعد يتدخل في ” خلقه ” ، لقد كانوا مقتنعين بوجود إله الإنجيل الفعال الرحيم ولكنهم في الوقت نفسه أرادوا أن يكونوا أناسا ” عقلانيين ” . وكتب عقلاني ” فإننا لا نؤمن إلا بالذي يمكن إقامة الدليل عليه على أسس بينة لكل إنسان .

وإذا كان في استطاعتنا أن نؤمن بعقائد المسيحية . فإن علينا إما أن نعمل على إثبات هذه العقائد على أسس عقلانية واضحة لكل إنسان . أو أننا يجب أن نبرر على مثل هذه الأسس السلطة التي تؤمن بها ” (18) وتكون السلطة النهائية في الحالتين لتبرير ، حتي المعتقدات الدينية ، هي العقل . إن الأجوبة على هذا التحدي العقلاني للدين المسيحي أجوبة من نوع أخر تماما .

  • فمن ناحية ، بذلت محاولات ” لإثبات ” العقيدة المسيحية بحجج عقلانية ( اللاهوت العقلاني ) .
  • ومن ناحية أخري ، فقد أنكر أن المعايير العقلانية يمكن أن تنسحب بصورة ذات معني على المعتقدات الدينية غير المهتمة بالحقيقة الافتراضية وإنما بطرائق الحياة ، فهي ليست فكرية وإنما وجودية ( اللاهوت الوجودي ) . أما الزعم العقلاني نفسه – بأنه يجب تبرير جميع الافتراضات حتي تكون فوق مستوي الشبهات والشكوك المحتملة . لم يتناولها النقاش (19) .
  • لقد لجأ اللاهوت العقلاني إلي حجج سبق أن طرحها سانت طوماس
  • St . Thomas– ( 1225 – 1274 ) .

وقدم خمسة براهين على وجود الله التي

  • إذا كانت صحيحة منطقيا – فإنها ستلبي المعايير العقلانية لأن وجود الله وحقيقة هذا الموجود تستخلص من افتراضات رأي ، أي طومأس – أنها واضحة لكل إنسان . ولكن تبين أن جميع براهينه غير مقنعة منطلقيا . ” إن هذه البراهين كلها تثير مسألة : أن النتيجة القائلة بأن الله موجود مستمدة من الافتراضات فقط إذا كانت الافتراضات تفسر في ضوء الإيمان بوجود الله ” (20) .
  • يؤكد اللاهوت الوجودي أن العقيدة المسيحية ليست عقيدة فكرية وإنما هي عقيدة وجودية : إن عقيدة من هذا القبيل لا يمكن تبريرها بحجج عقلانية وإنما ” بواسطة احتكام إلي تجارب مؤثرة تفضي إلي تبصر وجودي . . . إن العقيدة المسيحية ليست عقيدة بأن بعض الافتراضات عن الله افتراضات صحيحة : إنها الاعتقاد بالله والإيمان به والعيش بهذا الإيمان ” (21) ولكن الاعتقاد بالله يستلزم أولا الاعتقاد بأنه موجود وأن له صفات ومميزات معينة . وأن توقعات الحشر ( مثل البعث والحساب الأخير ) ستتحقق يقينا (22) ولذلك فإن الدين المسيحي غير مقيد بمعتقدات فرضية فحسب . ولكنه يشمل أيضاً أو يستلزم بعض المعتقدات اليقينية . ولكن هذا يعني أن اللاهوت الوجودي لم يواجه التحدي العقلاني إن تفنيد الكهنوت العقلاني والوجودي ( بصفتها أهم محاولتين للرد على التحدي العقلاني للدين ) يؤدي إلي النتيجة وهي أن عقلانيا صارما لا يمكن ( كعقلاني ) أن يقبل العقائد المسيحية لأن من المستحيل إقامة الدليل عليها على أسس عقلانية بحتة ، ولكن بالنسبة إلي مؤمن بالعقيدة المسيحية ، فإن هذا لا يعني ضمنا أنه ينبغي أن يتخلي عن دينه ، فهو يستطيع أن يقر بأن عقيدته لا يمكن أن تدعي يقينيه إليه ، يجب أن يكون فوق أي شك معقول عندما نعجز عن إقامة الدليل على وجود الله بحجج عقلانية ، فإننا لا نستطيع أيضاً إثبات عدم وجوده . ولذلك فإننا يجب أن نترك المسألة مفتوحة .

(9) إننا لا نستطيع عقلانيا أن ” نقرر” الإيمان بالله ، ولكننا مع ذلك يمكن أن نكون مقتنعين بأنه موجود . والقناعة حالة من حالات العقل التي تؤدي بنا إلي قبول افتراضات معينة على أنها فوق مستوي أي شك معقول . إن الناس لن ينساقوا إلي الاعتقاد بحجج عقلانية ، وإنما بفضل تجاربهم المؤثرة ، وهذه التجارب المؤثرة تجارب شخصية وقد تختلف اختلافا كبيرا عند كل مؤمن وقد يميل الناس الذين مارسوا مثل هذه التجارب المؤثرة إلي معرفة الله على ضوء صنعه في العالم الواقعي ( بما في ذلك العقل والمشاعر ) . ومعرفة الله عن طريق خلقه قد يؤكد إيمان المؤمنين ويقنعهم بأن وجود الله ( بالنسبة إليهم ) فوق مستوي الشك المعقول ولكنهم بلا شك يرون العالم في ضوء مذهبم ، وهم لا لديهم نفس التفسير لنفس الظواهر (23) والسؤال ” كيف نعرف أن الله موجود ؟ لا يمكن الإجابة عليه بالبيان أو البرهان ، وإنما بالمؤمن الذي يشهد بتجاربه الخاصة المؤثرة الذي يبني عليها دعواه بأن الله موجود ، وبالتقاليد المؤثرة التي يفسر في إطارها تجاربه ” (24) .

إن الإيمان بالله لا ينبثق من العقل ولكن ذلك لا يعني ضمنا أن العقل يجب أن تكون ضد العقيدة والدين فالعقل على العكس ، يمكن أن يعزز الدين : إن التحدي العقلاني قد أثار توضيحا لأسس المعتقدات الدينية ، ونستطيع الحجج العقلانية أن تساعد على جعل الدين في منأي عن الشكوك المعقولة . . أي تبرير الدين ولكن العقل ، من ناحية أخري ، قد يرغم الإنسان على إعادة النظر في معتقده الديني وبالتالي يصححه . فقد تكون تلك هي الحالة بالنسبة إلي الافتراضات الحقيقية التي تتضمنها عقيدته . إذا استطاعت العلوم الطبيعية الحديثة مثلا أن تقدم تفسيرات مقنعة عن “خلق” الكون والجنس البشري التي تتناقض مع المعتقد تقليديا في الإنجيل (25) عندئذ ينبغي لمؤمن عقلاني أن يكون مستعدا لإعادة النظر في معتقداته اليقينية عن أصل الكون والجنس البشري . ولا سبيل إلي النفي بأن معرفة حقيقية جديدة من هذا القبيل قد تتطلب تعديلات حيوية بل وبعيدة المدي للنظم العقيدية ( مثلا نظم الكنيسة ) (26) وكذلك الأراء وطرائق الحياة . ولكن الدين بالنسبة إلي المؤمن العقلاني ليس ديناً ” أعمي ” وإنما دين”مستنير” الذي يجب أن يكون متفتحا للتعديلات على ضوء المعتقدات المقنعة الجديدة ، فإذا أصبح مقتنعا بالمعرفة الجديدة ولكنه لم يكيف رأيه وطريقة حياته على التوالي ، فإن عقيدته لم يعد لها مبرر لأنها لا تكون فوق مستوي الشكوك المعقولة ( حسب مستوياته هو ) أما بالنسبة إلي مؤمن عقلاني ، فإن الدليل الجديد لا يمكن أبداً أن يكذب إيمانه ( لأن إيمانه ليس مبنيا على هذا الدليل ) ولكنه يمكن أن يتحدي فهمه لصنع الله ويصبح رأية وطريقة حياته في الواقع متأثرة ( إلي حد كبير ) بمعتقداته اليقينية .

(10) إن النظرة المسيحية للحياة هي أن الله الأحد هو المقدر الأول لمعني جميع الأشياء (27) .

– إن وحدانية الله تعني أن موقف الإنسان من الله تختلف عن موقف الإنسان من جميع الأشياء الأخري .

– أما وأن كون الله هو المقدر للمعاني يدل على أن معني جميع الأشياء ( مثلا الإنسان نفسه وأترابه والطبيعة والممتلكات الخاصة ) ، تتقرر بالنسبة إلي علاقتها بالله ، ولنضرب مثلا : أن الله خلق البشر والطبيعة وسمح ( في إطار حدود معينة ) للرجال أن يستغلوا الطبيعة .

وقد يعتبر الله على أنه “المالك” الأول والأخير للطبيعة وأن الإنسان ” كخليفة له ” فإذا كان هذا الرأي مقبولا ، فإنه يمكن أن تكون له عواقب لأعمال الإنسان اوأفعاله لأنه يضع حدوداً ” أخلاقية ” لاستغلال الإنسان للطبيعة ( مثلا ، أنه يحرم استخدام الطبية استخداما هداماً ) . هناك في مجتمع ديني نظرة مشتركة بين المؤمنين عن الصفات المعزوة لله وعن معني الأشياء بالنسبة إلي الله ( وكنتيجة لذلك بالنسبة إلي كل منها ) ولكن التفسير الكامل لمتضمنات هذه المعاني والعلاقات يعتبر مهمة موكولة إلي خبراء عقديين يصنعون ويشرحون نظرة للحياة تكون كاملة ومتماسكة بقدر المستطاع (28) إنها لن تشمل العلاقات الشخصية بين الإنسان وإلهه فحسب ، ولكن لما كانت هذه العلاقة تشمل معني جميع الأشياء ( وعلاقتها بعضها ببعض ) . فإنها ستمتد لتشمل جميع أبعاد الحياة الإنسانية . إن هذه النظرة للحياة تعطي الإنسان توجيهه الأخلاقي ، وستقرر ، مع توقعاتها الحقيقية ، طريقة حياته بصفة عامة (29) .

وهكذا فإن الدين المسيحي يتيح “دستورا كاملا للحياة ” ويشمل نظامه العقدي ، في جملة أمور أخري ، اقتراحات للحياة الاقتصادية وهذه اقتراحات للحياة الاقتصادية وهذه الاقتراحات في الواقع موضحة ( ” كعلم اقتصاد مسيحي ” ) إلي حد أنها تمثل جزءاً كبيراً من موضوع أكاديمي واضح ، تصيغه الكاثوليك بأنه ” تعاليم اجتماعية ، ويصفة البروتستنات بأنه ” أخلاقية اجتماعية ” .

(11) وخلاصة القول إن علم الاقتصاد المسيحي يجمع بين توجيها تقواعد الدين المسيحي (30) ، وبين المعرفة اليقينية التي يتيحها علم الاقتصاد “العلماني ” ، وليس ثمة ادعاء بعصمة العقائد عن الخطأ ولكن في الحقيقة تحت مراجعة جوهر بعض العقائد في ضوء الظروف المتغيرة أو ظهور دليل جديد يتيحه علم الاقتصاد العلماني . إن الزعم ( المعقول ) هو أن الأجوبة التي طرحت لأسئلة واقتراحات إيجابية لحل المشاكل السياسية تتمشي مع النظرة المسيحية الشاملة للحياة ، وعلى أنه لم يزعم أحد – حتي ولا البابا – أن الأجوبة والاقترحات هي الوحيدة المتمشية مع النظرة المسيحية للحياة ، فعلم الاقتصاد المسيحي لا يقوم نموذجا بالغ المتانة عن الطريقة التي ينبغي بها تنظيم الاقتصاد وهناك في إطار حدود معينة طرق مختلفة للحياة الإقتصادية والنظم الإقتصادية تتمشي مع النظرة المسيحية للحياة . وقد طرحت أولويات مبادئ ( منها مثلا أولوية العدالة وألوية العمل وأسبقية على رأس المال والتضامن والتلاحم ) ، ولكن هذا لا يكاد يكفي لتحديد ” نظام اقتصادي مسيحي ” فريد بصورة إيجابية ، ويمكن وضع خطط هامة ولكن سلبيا فقط وذلك بإيضاح كيف يجب أن يبدو النظام الاقتصادي ونظمة الفرعية .

(2) المنهجية في علم الاقتصاد

(12) حينما ظهر علم الاقتصاد كعلم مستقل في القرن الثامن عشر ، كان المذهب العقلي الكلاسيكي والمذهب التجريبي الكلاسيكي يمثلان النظريتين للمعرفة ( الأبستيمولوجيا ) .

وكان الاعتقاد السائد أن حقيقة الافتراضات والنظريات يمكن إثباتها بما لا يدع مجالا لأي شك محتمل بالاحتكام إلي العقل ، ولما كان كثير من الاقتصاديين الكلاسكيين مقتنعين بمثل هذه النظريات الحقيقية ، حاولوا تطبيقها لشرح الظواهر في العالم الواقعي ، وكانوا يتطلعون إلي دليل قوي “لإثبات” أفكارهم . ولم تكن الحالات حيث يتناقض الدليل مع النظريات ، تعتبر تزويرا للنظريات ، وكانت تناقضات من هذا القبيل تفهم فقط على أنه تلميحات بأن النظريات – الحقيقية أساساً – قد طبقت بصورة خاطئة ، وما كان ينبغي لحقيقة النظريات أن تبحث ( تقرر ) على المستوي التجريبي ، وأما على مستوي المنطق والعقل .

كانت قلة قليلة من الاقتصاديين في القرن العشرين ما زالت متمسكة بهذا الرأي (31) ، لأن مسألة الحقيقة بالنسبة إلي غالبية الاقتصاديين ينبغي تقريرها على المستوي التجريبي ، ويجري قياس نوعية النظريات “بعلاقتها التجريبية ” وأصبح من المشكوك فيه ما إذا كانت النظريات التي لا يمكن اختيارها تجريبيا يمكن اعتبارها نظريات ” علمية ” .

يعتبر الموقف المنهجي في التيار المعاصر لعلم الاقتصاد على طرفي نقيض تقريبا مع الموقف الذي يتخذه الاقتصاديون الكلاسكيون أثناء فترة ” الطفولة ” التي مر بها علم الاقتصاد ، وثمة أمران ازدادت أهميتها أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين هما :

  • أن البيانات الإيجابية والمعيارية ذات نوعية إدراكية مختلفة .
  • وأن هناك تنافرا بين تحقيق وتزييف الافتراضات .

وهذان الأمران ليسا جديدين ، وإنما يمكن التماسهما في كتابات دافيد هيوم ، ولكن تقييم علاقتهما بالموضوع قد تغيرت إلي حد كبير على مر السنين .

  • التمييز والتزييف الإيجابي / المعياري

لقد أدخل جون ستيورات ( John S tewart Mill ) وناسا والكثير “WassouwSonio” التمييز الثابت الأن بين علم الاقتصاد المعياري والإيجابي خلال الربع الثاني من القرن الثاني عشر (32) .

  • علم الاقتصاد الإيجابي ( = علم الاقتصاد السياسي ) وهو كما يفهم منه ” مجموعة من الحقائق ” التي تعترف بالظاهرة ، وتحاول اكتشاف قانونها ” (33) .
  • علم الاقتصاد المعياري ( = فن الاقتصاد السياسي ) ، وقد اعتبر ” مجموعة من القواعد والقوانين . أو توجيهات للسلوك ” التي ” تقترح لنفسها نهاية وتبحث عن وسيلة لتحقيقها ” (34) .

لقد تقدم بالفعل أنه من المستحيل منطقيا استنتاج ” يجب ” من ” يكون ” والمعياري من الإيجابي ( والعكس بالعكس ) ، ذلك أن الحقائق التجريبية لا تتضمن حكمها الأدبي ( ولم تدمجه ) .

  • وبالرغم من الاختلافات البينية بين الحقائق الإيجابية ( التي يمكن أن تكون صحيحة أو مزيفة ) والحقيقة المعيارية ( التي ليست لها قيمة حقيقية وإنما يمكن أن تكون مقنعة أم لا ) ، فإن من المسلم به أثناء القرن التاسع عشر أن علم الاقتصاد كان يتضمن حقائق من النمطين ، فقد كان الاقتصاد علما ذا فرعين : الإيجابي والمعياري . ولقد كان التعليل المعياري بشأن المسائل الاقتصادية أقدم من علم الاقتصاد كعلم مستقل ، ويمكن تتبع تاريخه من عهد فلاسفة اليونان القديمة حتي المدارس الكولاسية اللاهوتية في العصور الوسطي إلي الحكام المستبدين في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، وفي أوائل القرن التاسع عشر ، عندما تأكد التمييز الإيجابي / المعياري لم يكد الاقتصاديون يشعرون بأي نقص في الحقائق المعيارية وقيمة الأحكام والإرشادات الأدبية . وإذا ما قورن هذا التراث المعياري الثري من القرون ، فإن جسم البيانات والتفسيرات الإيجابية و ” القوانين ” الاقتصادية لابد وأنه كان يبدو هزيلا ومتخلفا ولذلك فإن عجبا أن يركز معظم الاقتصاديين .
  • أن البيانات العالمية أو “القوانين العامة ” عن العالم الواقعي لا يمكن التحقق منها لأن من المستحيل منطقيا إقامة الدليل على حقيقتها بواسطة الملاحظات التجريبية ( التي لا تكون أبداً عالمة وإنما دائماً فردية ) ، ولكن ما هو ممكن منطقيا ، دليل على زيف البيانات العالمية أو ” القوانين ” العامة ، فهي يمكن تفنيدها بمساعدة المنطق الاستنباطي وذلك بتقديم دليل تجريبي مناقض .
  • يقوم معيار بوير ” Popper ” لرسم خط فاصل ليس بين ” فروع ” العلم واللاعلم ، على أساس ذلك اللاتماثل يعتبر العلم جسماً من افتراضات عن العالم الواقعي ويمكن تفنيده ( من حيث المبدأ ) بالاختبارات التجريبية ولكن يكون افتراض عن العالم الواقعي قابلا للتفنيد ، فإنه يجب أن يستبعد وقوع أحداث معينة ( قابلة للملاحظة تجريبيا ) .
  • ولما كنا نستطيع التيقن بين الافتراضات التجريبية ، وأن جميع معرفتنا عن العالم الواقعي ليست في منأي عن جميع الشكوك المحتملة ، فإننا لا نستطيع ضمان حقيقة المعرفة التجريبية ، ولكن يجب أن نقر بأنها معرضة للخطأ ، وأن أي دعاوي لحقيقة مطلقة ومعرفة لا يرقي إليها الشك مرفوضة .

ولقد أشاع هتشتون (37) منهجية بوبرز التي وضعها بداءة مع ( العلوم الطبيعية في العقل ) بين الاقتصاديين . ولما كانت الاعتبارات البيانية غير قابلة للتفنيد ، فإنها قد استبعدت تماما عن العلم (38) وحرم الاقتصاديون حينا طويلا من الدهر على أنفسهم المشاركة في المناقشات المعيارية أو الفلسفية (39) ولكننا لا نستطيع أن نري في السنوات الأخيرة يقظة جديدة بين الاقتصاديين الغربيين للاهتمام بالمسائل المعيارية .

  • معرفة قابلة للخطأ لا يرقي إليها الشك

(14) لقد وجد المذهب العقلي النقدي لبوبر قبولا كبيرا ولكن غير اجتماعي بين الاقتصاديين الغربين ولقد أثير عدد من الأسئلة النقدية (40) ، ولكن أهم حجتين أساسيتين هما :

– أن من المستحيل تحديد أو السيطرة على جميع الظروف الأولية ( التي تسبق الحوادث ) التي تعتبر بالغة الأهمية للبت في اختبار تجريبي .

– ومن المستحيل اختبار افتراض في معزل عن غيرة إن التفسير ( أو التبؤ ) بظاهرة تجريبية يتطلب مجموعة من الافتراضات ، مصاغة ” كقانون عالمي ” (عندما يحدث “ب” يحدث “ق” أيضاً ) ومجموعة من الظروف الأولية ( تثبت حدوث حقيقة “ب” ، وهو تطبيق القانون العالمي ” وتسمي هذه المجموعة من القانون العالمي والظروف الأولوية ” بالفرضية ” ExplanansExplanans والظاهرة التي ينبغي تفسيرها هي المستنتج ( Explanandum ) (41) فإذا حدث في اختبار تجريبي أن يكون حدوث “ق” ناتجا عن ” الفرضية ” ) ولكن في الحقيقة لم يلاحظ “ق” فإن هذا يمكن تفسيره على أنه تزييف ” للفرضية ” ولكن الاختبار لا يعني أن الافتراض يجب أن يكون زائفا : فقد يكون الافتراض صحيحا ، ولكن الظروف الأولية ( السابقة لوقوع الحدث ) لم تتوفر . وهذا يسمح للعلماء بالتمسك بافتراضهم ونظرياتهم بالرغم من ظهور دليل نفي .

إن مناقشات من هذا القبيل تعطي الانطباع بأنه ليس التثبت وحده مستحيلا وإنما التزييف أيضاً – ويبدو أن النتائج تكون قاتلة ، وينبغي في الحقيقة القول بأن اختبار نفي واحد لا يستطيع منطقيا أن يحمل أي شخص على اعتبار نظرية ما أنها مزيفة . ولكن الافتراض بأن اختبارا واحدا كاف لتفنيد نظرية قد وصفت بإنه ” تزييف شخصية ” (42) وأنه لا يكتسب المعني الكامل وجوهر المذهب العقلي النقدي .

إن الرسالة الجوهرية للمذهب العقلي النقدي هي أن “للمذهب العقلي النقدي هي أن ” جميع معرفتنا قابلة للخطأ ” ليس هناك منطق الإثبات ، وإنما هناك منطق التفنيد ، ولكن هناك على ما يبدو حدودا خطيرة لتطبيق هذا المنطق في علم تجريبي ، لقد قبلنا بالفعل أنه ليس ثمة ضمان عقلاني للحقيقة ، وأن معتقداتنا اليقينية لا يمكن شك محتمل منطقيا وتدل الحجج ضد التزيفية على أنه ليس هناك أيضا ضمان عقلاني لزيف النظريات التجريبية . إنه لا يمكن إثبات الحقيقة أو الزيف بدون أي ظلال محتملة من الشك ،أما ونحن لا يمكن أبدا أن نكون متأكدين من أن افتراضا حقيقيا صحيح ، فإننا لا يمكن أبدا أن نكون متأكدين من أنه ليس زائفا . ولكن هذا ليس شيئاً أخر خلاف أنه يمثل المعني الكامل للرسالة القائلة بأن جميع المعرفة قابلة للخطأ .

(15) إن ما يمكن أن نحصل عليه ،

– معرفة فوق مستوي الشك المعقول :

وليست منهجية المذهب العقلي النقدي شيئاً اللهم سوي مجموعة من القواعد التي ستؤدي مرعاتها إلي انتفاء تلك النظريات التي يقال إنها فوق مستوي الشك المعقول . وإنها مؤكدة بصورة معقولة . ويعتبر التزييف الأداة الوحيدة – وإن كانت أهم الأدوات في صندوق التعدد المنهجي للمذهب العقلي النقدي ، ولا ينبغي أن يكون التزييف – حينما يكون معقولا اختبارا فريدا وإنما عملية مستمرة وينبغي استبعاد مناورات تحصينية ( مثل تقديم افتراض مؤقت بعد اختبار نفي ) .

ومن المعقول بالنسبة إلي مجتمع علمي لوضع بعض المستويات التي يري أن يستوفيها افتراض أو نظرية يراد لها الاعتراف ” كحقيقة بصورة مؤكدة ” أو – أن تكون فوق مستوي الشكوك المعقولة والواضح أنه ليست هناك منهجية مقبولة بصفة اجماعية في العلوم الاجتماعية ، فمثلا فقد تقدم ذكر النمساويين ومنهجهم الأول في علم الاقتصاد . إن قبول منهجية بعينها يتوقف بصورة نهائية على توافق أراء أعضاء ذلك المجتمع ، فهم يجدون أن بعض المنهجيات أكثر اقتناعا من الأخري ولكن الأحكام المنهجية في النهاية مماثلة لأحكام القيمة أو هي لا يمكن أن تكون في الواقع صحيحة أو زائفة وإنما مقنعة . فقط . وعلينا أن نقبل أنه ليس كل الناس يقتنعون بقدر متساو لنفس الحجج . ولذلك لا ينبغي أن نصبح متعسفين في المسائل المنهجية : ولا ينبغي لنا أن نرفق الحجج أو النظريات بدون بحث جدي لمجرد أنها تلبي مستوياتنا المنهجية . وعلينا أن نقبل التعددية المنهجية (43) ولكن الأهلية الأساسية لبيان ” علمي ” لا يمكن عندئذ أن تكون في المطابقة مع قواعد منهجية بعينها ، وإنما ببساطة هي قوتها الإقناعية العقلانية .

(16) وهذا من شأنه أن يؤدي إلي النتيجة الأتية : أننا قد نقبل منهجية المذهب العقلي النقدي لأننا مقتنعون بأنه من أنفع النهوج لتحقيق بعض المعرفة عن العالم والنهوض بها . تكون معرفة قابلة في الأساس للخطأ ولكنها معقولة . وقد تم هذا الحكم المنهجي بسبب القوة المقنعة للحجج المؤيدة لتلك المنهجية .

ولكن هذا لا يحملنا ( كانصار التعددية المنهجية ) . على قبول المعيار الذي وضعه “بوبر ” كخط فاصل بين العلم واللاعلم . إن مثل هذا المعيار من شأنه أن يقربنا إلي حد كبير من القطعية ( مذهب اليقين ) المنهجية : إننا نميل إلي رفض الحجج بدون بحث جاد لأنها لا ترضي ستوياتنا المنهجية ، مع أنها يمكن أن تكون لها قوة إقناعية كبيرة ، وهذا يعني وجود تقلب في مواقفنا . فإذا كنا ننظر إلي العلم كنظام تجري فيه تسوية النزاعات ، بالاحتكام إلي العقل ، فإنه ينبغي أن ندمج في ذلك النظام جميع الحجج التي لها قوة إقناعية عقلانية .

على أننا إذا استخدمنا هذا المفهوم الأعم للعلم دون أن نستبعد الافتراضات غير القابلة للتزييف منذ البداية ، فإننا يمكن أ نعود إلي المفهوم الكلاسيكي للاقتصاد السياسي كعلم ذي فرعين – إيجابي ومعياري ، وبالتالي يكون لزاما علينا أن نفكر في إحياء الفرع المعياري وهذا يتطلب ، في جملة أمور أخري ، إعادة النظر في شرط المسلم به لحرية القيمة في العلوم الاجتماعية .

ج – مناقشة عقلانية للمسائل المعيارية

(17) إن قبول الاختلاف في الوضع الأبستيمولوجي للبيانات الإيجابية والمعيارية لا يعني أن إجراء مناقشة عقلانية لهذه الأخيرة أمر مستحيل . فالمذهب العقلاني يعتبر ” موقفا يسعي إلي حل أكبر عدد ممكن من المشاكل بالاحتكام إلي العقل . . أي إلي الفكر الواضح والتجربة ” لا بالاحتكام إلي المشاعر والعواطف ” ، وهو ” موقف الاستعداد للإصغاء إلي الحجج النقدية والتعليم من الخبرة ” (44) .

– ولقد أجري ماكس ويبر الذي طرح مبدأ ” فيرتفرايهايت ” Wertfreiheit ( حرية القيم ) في العلوم الاجتماعية مناقشات حول القيم لا بالنسبة إلي الممكن فحسب ، وإنما بالنسبة إلي المفيد أيضاً ، وينبغي أن يبدأ البحث العقلاني للقيم ، وفقا لرأية (45) ، ” بشرح وبسط المبادئ النهائية ، ” الدائمة ” داخليا ، للقيمة ، عندما يجري التقييم العلمي للمواقف الحقيقية على أساس هذه المبادئ وحدها . وبعدها ينبغي تحديد النتائج الحقيقية التي يجب أن ينطوي عليها بلوغ تقييم عمل معين – إن مناقشات من هذا القبيل عن القيمة ” يمكن أن تكون ذات فائدة كبري طالما أن إمكاناتها تفهم فهما صحيحا ” .

– لقد قال د . بوبر إنه ” حينما نواجه بقرار أدبي من النوع المجرد فإن ما يساعد على ذلك إلي أقصي حد ، إجراء تحليل النتائج التي يحتمل أن تنبثق من البدائل التي لدينا لنختار من بينها . إننا إذا استطعنا فقط أن نتصور هذه النتائج بطريقة إيجابية وعملية ، فإننا سنعرف حقاً طبيعة قرارنا وإلا فإننا سنتخذ قرارنا عشوائياً ” (46) .

– ويقول مارك بلوج إن مجموعة ” يجب ” وإن القيم التي لدينا تعتمد دائماً على سلسلة كاملة من المعتقدات الحقيقية . وهذا يدل على كيفية سير مناقشة عقلانيا لإصدار حكم حول نزاعات على القيمة : إننا نعرض ظروفا حقيقية بديلة ونسأل : أفينبغي أن تسود هذه الظروف ، أأنت مستعد للتخلي عن قرارك ؟ . . وطالما أن القرار المتعلق بالقيمة قرار غير أساسي أو لا تشوبه أي شائبة ، فإن المناقشة حول قرارات القيمة يمكن أن تتخذ شكل الاحتكام إلي الحقائق ، وهذا كله للمنفعة ، لأن هناك تقليدا لتسوية النزاعات حول الحقائق أقوي من تسوية النزاعات حول القيم إننا إذا استطعنا فقط أن نستخلص قرارا حكيما عن القيمة في النهاية ( وهو أمر معلق في ظل جميع الظروف المحتملة ) . . . فإذا نكون قد استنفذنا إمكانات التحليل العقلاني ” (47) .

وإلي المدي الذي يمكن عنده تأسيس مناقشة عقلانية عن مسائل معيارية على حجج حقيقية فإن الاقتصاديين يمكن أن يسهموا بأنصبة وافرة لأنهم ” حرفيون ” بالنسبة إلي هذه المسائل الحقيقية . أما البديل الذي أذاعته الذرائعيون – أي ترك المجال للسياسيين وقبول أحكامهم وأهدافهم – غير مقنع : فالسياسيون ليسوا ( بحكم مهنتهم السياسية ) مؤهلين بصفة خاصة لتقييم المواقف المعيارية ورسم السلوكيات الأخلاقيات كما أنهم ليسوا مؤهلين سوي في الخطابة والمفاوضات الجماعية وكسب أكبر عدد من الأصوات الانتخابية والمساومة وتقديم التنازلات .

(18) إن مثل هذه المناقشة العقلانية للمشاكل المعيارية من شأنها أن تؤدي إلي مجموعة متماسكة من أحكام القيمة وإلي نظرة ثابتة للحياة . إن النظرة للحياة تتوقف على قيمة أساسية أو “نقية” لأحكام القيمة القائمة في ظل جميع الظروف الممكنة . فإذا كان لدي أناس أحكام أساسية مختلفة بشأن القيمة . فإن السؤال ينهض عما إذا كانت هذه الأحكام ستقبل على علاتها أو ما إذا كانت ثمة حجج لإجراء تقييم “موضوعي ” حتي يتسني لمراقب خارجي أن “يقرر” أي مجموعة من أحكام القيمة الأساسية هي التي “تعلو” على الأخري (48) .

لقد حاول بعض الفلاسفة والاقتصاديين في السنوات الأخيرة أن يحددوا ما هي الأعراف وأحكام القيمة التي يمكن أن يقبلها رجل عقلاني بالاحكام إلي العقل وحده .

  • لقد اعتنق موراي ن . روثبارد “ Murray N . Rothbard ” بعض الأفكار التقليدية في محاولته توفير أساس أخلاقي لنظام يعتنق مذهب حرية الإرادة ( أي الاعتقاد بأن الإنسان مخير في أعماله وليس مسيرا ) .

وتقول نظريته الأخلاقية على أساس قانون طبيعي يعتمد على العقل والاستعلام العقلاني ومنفصل عن الدين واللاهوت ، وبشرح نظام ” الأخلاقيات الموضوعية للقانون الطبيعي ” ما هي الغايات والوسائل المتناغمة مع طبيعة الإنسان أو تميل إلي تحقيق هذه الطبيعة وهكذا ، ” يقوم القانون الطبيعي مجموعة موضوعية من الأعراف الأخلاقية التي بها تقاس الأعمال الإنسانية في أي زمان أو مكان والتي يمكن أن تنطوي على نقد جذري للقانون الوضعي القائم المفروض من الدولة ” (49) ولقد حدد روثبارد ثلاثة حقوق طبيعية أساسية ، وهي أن للإنسان ملكية طبيعية على نفسه وعمله وموارده العقارية غير المستغلة . ومن هناك يستخلص نظاما أخلاقيا معاديا غاية العداء للدولة التي تعتبر ” مؤسسة غير مشروعة من عدوان منظم ، وجريمة منظمة ومكيفة ضد أشخاص وممتلكات رعاياها ” (50) .

  • وثمة نهج مختلف تنتهجه مجموعة من المؤلفين الذي وضعوا ” بالتعاقديين (51) وأبرز أنصار هذا المنهج هما الفيلسوف جون روالز ” John Rawls ” والاقتصادي جيمس م . بوخانات “ James M . Buchanan” (52) وهما يحاولان وضع نظام قوامه ” الأخلاقيات العقلانية ” وذلك بتحديد تلك الأحكام والأعراف ( وخاصة المتعلقة منها بالعدالة ) التي يقبلها الإنسان إذا لم تعترض قراره مصالح ( أنانية ) شخصية ، وتكون مؤسسة على لا شئ اللهم سوي حجج عقلانية . وللتأكد من أنه لا شئ سوي عقل وحده هو الذي يقرر قبول حكم ، فإنه تنشأ حالة حيث يكون صانع القرار فيها غير واثق كلية من مركزه المستقبلي في المجتمع ، ويظن أنه وراه ” دثار من الجهل ” الذي لا يمكن اختراقه وإلي حد لا يعرف عنده جنسه أو عرقه ، وتصبح الأحكام والقواعد المقبولة فرديا أعرافا ” اجتماعية” بحكم ” عقد اجتماعي ” بين جميع الأعضاء العقلانيين ” في المجتمع .

ويزعم النهجان أنهما يميطان اللثام عن مجموعة من الأعراف أو الأخلاقيات التي لا يمكن تحديها من المنطق أو الحجج العقلانية ، فالأعراف والأخلاقيات ” عقلانية تماما ” لا يرقي إليها الشك ، وتستخدم النظم الأخلاقية في كلا النهجين لوضع الأسس لنظام اجتماعي واقتصادي واضح المعالم يصاغ على منوال المذهب العقلي الديكارتي والمذهب الانشائي . ويمكن إثارة نقطة نقدية ضد القانون الطبيعي وكذلك ضد النهج التعاقدي .

  • وثمة بيان عن طبيعة الإنسان هو بيان ( على الأقل جزيئا ) حقيقي والذي يمكن أن تكون صحيحا أو زائفا . ولا يمكن الزعم بوجود يقينية مطلقة لا يرقي إليها أي شك تحمل لصحة أي بيان حقيقي أن اعتقاد يقيني . ولكن ليس من الواضح أن أخلاقيات القانون الطبيعي تقوم على أساس فهم طبيعة الإنسان التي هو فوق مستوي أي شك معقول . وعلينا أن نعي أن الديانات المختلفة ( الحالية والقديمة ) ذات التوقعات الأخروية المختلفة ( أي الحشر والبعث ) ذات أحاسيس مختلفة بطبيعة الإنسان ومصيره .

ولم يقدم روثبارد ” Rothbard ” أي فحص نقدي لهذه النظرات البديلة للحياة . ولكن حتي لو أن المرء تقبل نهجه الأساسي الخاص بالقانون الطبيعي ، فإنه – أي المرء – عليه أن يستريب في العلاقة العلمية للنظام الأخلاقي المستخلص لعالمنا : لأن استقطاع بعض الافتراضات الأساسية لذلك النظام الذي فيه حق الإنسان الطبيعي للموارد العقارية غير الإنسان الطبيعي للموارد العقارية غير المستغلة أمر هام للغاية . ولكن في مناطق مثل أوربا أو أمريكا الشمالية ، هناك موارد عقارية غير مستغلة منذ قرون كثيرة ، ولذلك فإن من المستحيل التنقيب في الماضي عما إذا كانت هناك صكوك تمليك قد أحرزت ” قانونا ” ( بأشكال مشروعة للانتقال الاختياري ) أو بالقوة .

  • إن النهج التعاقدي مثقل بمشاكل مماثلة : والمعرفة كيف يتسني للإنسان تقرير ما إذا كان من غير المناسب في موقف من الشك ، حل أي مشكلة في العالم الواقعي . لأن الإنسان هناك لن يكون في مثل هذا الموقف . ومن المنطقي أنه ليس من المقنع استنتاج معايير التي يمكن ” لمحايد ” أن يؤسس عليها قراراته في عالم ( غير عقلاني ) قوامه الجهل التام ووصف هذه المعايير كأطراف لأعمال كائنات بشرية حقيقية التي لديها معرفة حقيقية عن العالم الحقيقي ، وكذلك على أثار أعمالهم عليهم أنفسهم (53) .

(19) إن كلا النهجين يحملان المذهب العقلي أكثر من طاقته ويمكن اعتبارها مثلين طيبين لما سمي ب ” ادعاء المعرفة ” (54) أو ” غطرسة الفكر البشري ” (55) إن الأعراف وأحكام القيمة الأساسية – وبإيجاز : الأخلاقيات – تلعب حتما دورا هاما وحيويا في حياة الإنسان الاجتماعية ، فمثلا ، في مجتمع لأناس ” أخلاقيين ” يراعون قوانين وقواعد معينة مقبولة ( التي تحدد مدي سلبهم البديلة للعمل ) ، حتي تصبح أعمالهم عموما أكثر قابلية للتنبؤ وهكذا فإن الأخلاقيات تقلل من الشك ونتيجة لذلك تخفض تكاليف المعاملات الشاملة لمجتمع ما ، ولكن ، أما وإن كانت الأخلاقيات مفيدة لا تعني أن النظام الأخلاقي يجب استنباطه قصدا أو تعميمه عقلانيا وأن ” يصوغه ” الناس . فهناك وسائل مفيدة أخري ، ولكنها لم تفرض عملا مثل اللغة والمال والأسواق .

د- الأخلاقيات والمذهب العقلي

(20) تعمل هذه النظم لمصلحة الناس ومنفعتهم حتى لو لم يفهم أي شخص حقاً كيف ظهرت إلي حيز الوجود وكيف تؤدي وظيفتها . ومن نافلة القول : إن أخلاقياتنا ظهرت قبل “الثورة العقلانية” التي نسبت في القرن السابع عشر بوقت طويل ، ومع ذلك ، كان العقلانيون دوما يميلون إلي الافتراض بأنه بعد التقدم الهائل الذي تحققه في ميدان العلم (وخاصة العلوم الطبيعية) خلال القرون الثلاثة الماضية ينبغي أن يكون الإنسان قادراً جداً علي فهم هذه النظم المفيدة وإعادة بنائها عقلانياً بغية “تحسن” أدائها وتحقيق أقصي حد من فوائدها ومنافعها للناس (56) وهذا يبدو معقولا لأول وهلة ، ولكنه في النهاية يعتبر نهجاً بالغاً الخطورة .

أ- هناك من ناحية شكوك خطيرة حول ما إذا كنا بالفعل قد أحطنا بالعملية وفهمناها والتي بها ظهرت القواعد الأخلاقية إلي الوجود ، وقبلت في فئات صغيرة ، وانتشرت في مجتمع وعاشت وازدهرت أثناء الأحقاب التاريخية الطويلة أو انهارت وتلاشت علي مر الزمن . إن الفهم التام لتطور الأخلاقيات وتأدية وظيفتها يعتبر شرطاً لازماً لأي محاولة “لتحسين” أو “تسويغ” أو “تحديث” أو “إحياء” نظام أخلاقي . وليس لدي العلوم الاجتماعية الكثير لتقديمه في هذا المجال حتى الآن .

ب – ومن ناحية أخري ، لدينا مثال ينطوي علي التحذير وهو كيف أن العقلانيين أساءوا فهم نظام اجتماعي مفيد وتسببوا في تعطيل أدائه بدلا من تحسينه .

وهذا النظام هو السوق ، والاعتقاد الخاطئ العقلاني هو “اقتصاد الرخاء” إن اقتصاد الرخاء يتعامل مع ظروف وملامح التوازن العام الإجمالي للاقتصاد ، مع التوزيع الأمثل لموارد بعينها في ظل افتراض أفضليات معينة ، وتكنولوجيا بعينها ومنافسة تامة ومعلومات تامة وغياب تكاليف العمليات . ولم يحدث في العالم الواقعي أن توفر أي من هذه الظروف وهكذا فإنه لا يمكن التوصل أبداً إلي توازن ثابت . ولكي يتسني لنا تحسين معرفتنا وفهمنا للعالم الواقعي ، لا ينبغي لعلم الاقتصاد إن يهتم بالمواقف البعيدة المنال وإنما العمليات ، وبالطريقة التي ينبغي لناس أن يعالجوا بها المعلومات الناقصة وكيف يتم نقلها وكيف تنسق التوقعات وكيف تكون الأعمال “بصورة صحيحة” حسب الظروف غير المعروفة لأي عقل منفرد (أو نظام جماعي) . فإذا قيست العمليات السوقية الحقيقية بنموذج المنافسة الكاملة فإنها لا بد أن تكون دون المستويات ، ولقد راح اقتصاديو الرخاء يجأرون بالشكوي من الحالة الناقصة للعالم وخاصة “الوجود الكلي تقريبا” للموضوعيات ، ووضعوا تدخلات سياسية لمعالجة هذه “النقائص السوقية” . ولكن هذا في الواقع يمكن أن يدمر بسهولة أو يخرب أهم كفاية للسوق بالنسبة إلي تنسيق التوقعات . إن التدخلات الحكومية المفرطة يمكن أن تدمر الصفات الديناميكية لاقتصاد السوق والتي لا يمكن تحليلها تحليلاً كافياً في إطار نماذج ثابتة للتوازن (57) .

(21) لم يعبأ الاقتصاديون كثيراً بالأخلاقيات ما دام نظامهم أصبح علما اجتماعيا تجريبياً خالياً من القيمة . ولم تسترح مشاكل دور الأخلاقيات وتطورها بعض الانتباه إلا في السنوات الأخيرة .

أ- هناك مجموعة أولي من المساهمات تتعامل مع دور القواعد الأخلاقية كأجهزة لتخفيف حدة القلق (58) ولقد طالما استغلت نماذج نظرية للألعاب (وخاصة تنوعات ورطة المسجونين المعروفة) لإثبات أنها (في المعدل أو في غالبية الحالات) مفيدة أو عقلانية للاعبين (أو الناس) بقبول القواعد الأخلاقية القائمة اجتماعيا واتباعها . ولكن هناك دائما خطراً بإن أنصار هذا المنهج يبدأون بتصميمات عقلانية جديدة للأخلاقيات في ظل منظورات بعينها (مثل الأخلاقيات كأجهزة لتخفيف حدة الشك والتي تشمل معني الأخلاقيات التام للحياة الاجتماعية وصلتها بها) .

ب – وثمة مجموعة ثانية من الإسهامات تهتم أساساً بظهور وتطور الأعراف والأخلاقيات وهذا أيضاً موضوع رئيسي للبحث في مادة جديدة ، ألا وهي “علم الأحياء الاجتماعي” (59) . ولقد تحول ف . أ . هايك ، الاقتصادي الليبرالي المعروف إلي هذا الميدان في السنوات الأخيرة . ولقد عمق بفضل إسهاماته السابقة فهمنا للسوق كنظام عفوي ومؤسسة لأفضل استخدام للمعرفة المتفرقة عن المجتمع . وقال أيضاً إن السوق ليست آلية للتوزيع ، ففي السوق الاقتصادية تعتبر المنافسة “أكثر إجراء (60) فعال للاكتشاف” . ولقد وضع علي أساس هذه المفاهيم المتعمقة في كتاباته الأخيرة نظرية “تطورية” للأخلاقيات .

(22) إن الإنسان لم يخترع أو يصمم الأسواق أو الأخلاقيات بدافع الرغبة منه ، فإذا كانت الأخلاقيات ليست نتيجة تصميم عقلاني ، فإنها لن تكون ذات معني كبير(ولربما مستحيله) لتبرير الأخلاقيات المتلقاة من جماعة بعينها أو مجتمع بعينه بأسلوب عقلاني خالص . وذلك أن القواعد التقليدية قد تبدو لعقلاني صارم غير عقلانية ، ومع ذلك فإن قواعد “لا عقلانية” من هذا القبيل كانت مهمة لنجاح مجموعات معينة من الناس في عملية التطور الثقافي : إن القواعد الأدبية التي كان يراعيها أعضاء بعض الجماعات كانت “أكفأ” في هذا المعني حتى إن أعضاء هذه الجماعات كانت أقدر علي تكييف أعمالها وفقاً للظروف التي لم يكن أي عضو منفرد ملماً بها تمام الإلمام وثمة قاعدة أدبية هامة وهي قبول الملكية الخاصة (علي خلاف الملكية العامة أو الملكية المجتمعية) . إن الجماعات الاجتماعية التي مارست مثل هذه القواعد أطلقت العنام لطاقات أعضائها وكانت قادرة علي النمو بمعدل الأسرع من الجماعات الأخري ذات الأخلاقيات المختلفة . وهذا النمو أسرع لبعض الجماعات يمثل لب عملية ” الاختيار الاجتماعي” التي التي تؤدي إلي التطور الثقافي (61) .

“إن الاختيار الاجتماعي لا يختار أساساً ما يدركه الأفراد مما يخدم غاياتهم ويلبيها ، أو ما يرغبون ، إلا أنه يختار العادات التي لا يلاحظ الأفراد مساعدتها المفيدة لبقاء الناس . ولهذا فإن المجتمع يصبح عالة ، من أجل بقاء أعضائه المتزايدين ، علي مرعاة هؤلاء الأعضاء للمارسات التي لا يستطيعون تبريرها عقلانياً والتي قد تتعارض مع غرائزهم الفطرية من ناحية ومع بصيرتهم الفكرية من ناحية أخري” (62) .

“ليست الأخلاقيات مسألة ذوق ، فهي جد ضرورية ولكن تمثل قيوداً غير مرغوب فيها فهي تخبرنا بما هي الأشياء التي نبتغيها غريزيا وما تلك التي يجب أن ننأي بجانبنا عنها إذا أردنا أن نحافظ علي نظام يعتمد السواد الأعظم منا عليه من أجل بقائنا وإن لم يكن لنا يد في صنعه أو تعلمه لكي تفهمه . إذا فالفكرة القائلة بأن أخلاقيتنا جهاز تحقق لنا ما نريد فكرة خاطئة من أساسها (63) .

(23) لا يتكلم هايك أبدا عن مجموعة محددة من القواعد الأخلاقية ، ولكنه فقط يشير إلي أهمية الملكية المتعددة الخاصة وأهمية الأمانة والأسرة .

 ويوجه شديد النقد للأخلاقيات الاشتراكية والشيوعية كمفاهيم عقلانية .

وغرضه الأساسي من ذلك تحذيرنا ضد الغطرسة الفكرية والمغالطات وللحكم علي القواعد الأخلاقية بأنها لا عقلانية لأنها لم تخطط ولا يمكن تبريرها بعقلانية صارمة يكون ضد الحكم نفسه نتيجة لفهم غير معقول للمذهب العقلي .

ويقول هايك : “إن اعتقد بأنني انصاع للعقل وأطيعه إذا استسلمت لقواعد تقليدية لا أستطيع أن أبرزها عقلانيا طالما أنه ليس لدي – في هذه الحالة بعينها – أسس عقلانية قوية علي نقيضها ، وخاصة إذا لم يكن هناك تناقض مع قواعد مماثلة أخري التي لم أجد نفسي ميالا لقبولها” (64) . إن المذهب العقلي بهذا المعني يعتبر مذهباً عقلياً نقدياً ، ولكنه ليس ضد الدين ولا “الأخلاقيات” ، فهو يؤيد مناقشة عقلانية للمسائل العقلانية ولكنه يتيح بعض المعايير حيث تكون هذه المناقشة معرضة لخط أن تصبح “لا عقلانية” في ضوء معرفتنا الإيجابية الراهنة (المحدودة الغاية) ، عن نشوء الأعراف (65) وتطورها وثبوت أهميتها الاجتماعية (65) .

ويختتم حديثه بقوله : “إنه الإدراك المتواضع لحدود العقل البشري الذي يحملنا علي قبول تفوق نظام أخلاقي الذي نحن مدينون له بوجودنا والذي لا يوجد مصدره لا في غرائزنا الفطرية التي مازالت غرائز المتوحشين ولا في قدرتنا العقلية (ذكائنا) التي ليست من القوة ما يمكنها من بناء ما هو افضل ما تعرفه ، وكذلك قبول تقليد نجد لزاماً علينا أن نحترمه ونعني به حتى لو أننا دأبنا باستمرار علي إجراء أي تصميم ، وإنما العكوف بتواضع علي ترميم نظام علينا أن نقبله كأمر مسلم به . إن أعظم إنجاز للعقل البشري لا يتمثل فقط في إدراك حدوده التي لا يمكن تخطيها ، وإنما أيضاً وجود مجموعة من القواعد المجردة التي تطورت تدريجياً . والتي بها يمكن أن يبني أفضل مما يعرف” (66) .

ولقد وجه هايك رسالته إلي العلماء الاجتماعيين الغربيين ، ولو أن رسالته حملت محمل الجد ، لوجدنا أنها تتضمن برنامج بحث جديد وتتيح قاعدة لإحياء “الفرع المعماري” في علم الاقتصاد الغربي ، وهو لم يقصر نهجه علي نظام أخلاقي بعينه وهو مستعد ، كعقلاني نقدي ، أن يقول ما هو وراء الشكوك المعقولة . إن معياراً كهذا ليس في معزل عن نظرة الإنسان للحياة التي تعتبر – في آخر المطاف – قائمة علي أساس تجاربه المؤثرة . وهذه التجارب تختلف باختلاف الناس ، ولذلك يجب علينا أن نقبل نظرات مختلفة إلي الحياة وأديانا مختلفة (وإن كنا شخصياً مقتنعين بدين واحد) . إن معتقدات الإنسان الدينية تنبثق من تجربة مؤثرة ، وأن موقفه إزاء العقل قد يكون مبنيا ، بصورة قوية علي حجج عقلانية . ليس هناك تناقض منطقي في ان يكون للإنسان عقيدة دينية وأن يكون في ذات الوقت عقلانياً (ولكن ليس – عقلانياً مغاليا – بالمعني الديكارتي) . ويخاطب برنامج هايك الرجل العقلاني وهو محايد فيما يتعلق بعقيدته الدينية . ولذلك فإنه قد يكون مقبولا للعملماء المسلمين – وهناك فيلاالحقيقة أوجة شبة صارخة كثيرة بين بعض آرائه وبين ما ينبغي عمله في برنامج بغية تحقيق تطور عقلاني للنظم الأخلاقية . ولكن العلماء الغربيين والمسلمين يمكن أن يجدوا أساساً مشتركاً للفهم المتبادل وللتعاون في المجال البحثي وعلي العلماء المسلمين ألا يحكموا عليه كعمل من “الأمبريالية الأكاديمية” وذلك عندما يحاول الاقتصاديون الغربيون الإسهام في علم الاقتصاد الإسلامي . إن الجزء الأخير من هذا البحث مبني علي الافتراض بأن أساساً من هذا القبيل للتفاهم قد تم وضعه (أو أنه يمكن وضعه) .

(3 ) علم الاقصاد الإسلامي في ضوء المذهب العقلي النقدي

(24) يفهم من علم الاقتصاد الإسلامي علي أنه فرع خاص من علم الاقتصاد (وليس فرعاً من الفقه الإسلامي) . ولقد شرحت الأجزاء السابقة من هذا البحث “نظريات” عن العالم الواقعي … وهذه النظريات ليست لها قيمة في حد ذاتها (لأنها تعزز فهمنا للظواهر والعمليات الاقتصادية) ، ولكنها تعتبر أيضاً شرطاً أساسياً للإفتراضات الإرشادية التي تتعامل مع “أخلاقيات” الحياة الاقتصادية .

وعلم الاقتصاد الإسلامي ، كعلم ينبغي أن يكون نظاماً أيدلوجياً محاسبياً ومصوبا للذات ، حيث تجري فيه تسوية النزاعات فقط بقوة الحجج الإقناعية . إن الهدف الرئيسي لأي علم ينبغي أن يكون النهوض بمعرفتنا لا إسداء النصح والمشورة للسياسين إذ ليس من الضروري ، لتوعية النظرية ، أن تكون افتراضاتها مناسبة لأغراض سياسية ، أو علي الأعم ، لأغراض عملية ، وينبغي أن تكون لنظرية جيدة قوية تفسيرية ولكن ليس بالضروري أن تكون قادرة علي التنبؤ بأحداث بعينها (67) .

  • النظرة الإسلامية للحياة وعلم الاقتصاد الإسلامي النوعي

(25) إن النظام الأخلاقي للإسلام وارد في الشريعة ، أي القانون الإلهي كما جاء في القرآن والسنة يعتبر القرآن ، بالنسبة للمسلمين ، هو رسالة السماء المنزلة من عند الله والتي بلغها النبي محمد صلي الله عليه وسلم وشرحها في السنة . إن القرآن يحث الإنسان ، في مواضع عديدة ، علي تحصيل العلم والمعرفة . ولكن الإنسان نفسه له قدرات محدودة ، “ذلك لأنه لا الأحاسيس ولا الفعل يمكن أن يكون أساساً لمعرفة أكيدة”  (68) وبدلا من ذلك ، فإن علي الإنسان أن يرجع إلي “الوحي الذي يعتبر المصدر الوحيد لمعرفة حقيقية ويستطيع أن يرشدنا إلي الحقيقة النهائية” (96) ولكن الحقيقة “النهائية” ليست حقيقة هذا العالم وإنما حقيقة الله . ولذلك فإن الرجوع إلي الوحي لا يعني اللجوء إلي اللاعقلانية . وإنما ينبغي فهمه علي أنه دليل علي مصادر الإلهام والتجربة المؤثرة .

إن الله هو الكائن الكامل ، وكذلك شريعته ، وهي “شريعة عالمية صالحة لكل زمان ومكان لا سيما لأنها لا تشمل هذا العالم فحسب ، وإنما الآخرة أيضاً . ولم تضم الشريعة الإلهية في ذاتها ، وما ينبغي أن “تكون” عليه الشريعة فحسب ، وإنما ينبغي أن تكون عليه “وقد توصف بحق” الشريعة الإلهية ، في شكل مثالي (70) وهذا الفهم للشريعة المنزلة لها متضمنات مهمة .

  • الشريعة هي أساساً “قانون أخلاقي” . وهي بهذه الصفة ، فإن مضمونها الرئيسي لا يمكن أن يكون لوائح وإنذارات ثابتة لحالات بعينها وإنما هي مبادئ أخلاقية ، ينبغي أن تراعي في حالات غير محددة لا تحصي ، وهكذا فإن الشريعة خصائص أساسية لنظرة دينكاميكية للحياة التي لا بد وأن تواجهه دائماً وأبداً تحديات جديدة .
  • إن الشريعة تتقدم علي أي قانون حكومي علماني (أو قانون وضعي) وأنه ينبغي استخدامها لتقييمه (71) .
  • تعتير الشريعة قانونا كاملا ، ولذلك فإن مهمة القانونيين والمشرعين لا يمكن أن تكون صياغة أو وضع قانون جديد ولكن للفقه الإسلامي مهمة رئيسية هي إيجاد مغزي ومعني النص القرآني .. أي إجراء شروح حينما تنشأ مشاكل قانونية جديدة .
  • وعلي الفقه الإسلامي أن يصوغ نظرة دائمة للحياة وأن يكفيها حسب التحديات الجديدة ، ويمكن أن تكون الردود الإيجابية علي أسئلة بعينها مختلفة عندما لا يكون هناك إجماع حول شرح افتراضات معينة . ولكن ذلك لا يمثل مشكلة حقيقية طالما أن النظام القانوني والأخلاقي يبقي ثابتا في ظل افتراضاته وشروحه المحددة . ولذلك فإن تنوع النظرات الإسلامية للحياة أمر ممكن ، بل هو موجود في الحقيقة وأصبح يدرس في المدارس القانونية المختلفة .

(26) إنه لمن صميم الموضوع أن نذكر أن الفقه الإسلامي ، من وجهة النظر المنهجية ، قد وضع نظاما إجرائيا محددا يجب مراعاته عندما تجري شروح للنص (72) ومع الاعتراف بأوجه قصور عقل الإنسان وقابليته للخطأ . فإن الشرح “لا ينبغي أن يكون نتاجا لعقل الإنسان أو رأيا شخصيا ، إنما ينبغي أن يكون استنباطا قياسيا ، أي التقليل بطريق القياس ” . (73) إن أسلوب القياس الذي شرحه بإسهاب القانونيون الإسلامية في القرون الأولي ، يعطي عقل الإنسان “توجيها” في محاولاته إيجاد القانون “الوضعي” الصيحيح لمسألة جديدة ويمكن اعتبار مراعاة مبدأ القياس هذا واتباعه علي أنه جهاز منهجي لإعطاء الافتراضات وضع يجعلها فوق مستوي الشك المعقول .

ويظهر هذا بوضوح أكثر فيما يتعلق بمبدأ الإجماع ، يعني ان تعديل الشريعة ممكن في حالة واحدة فقط ، وذلك عندما يتفق جميع الفقهاء القانونين علي الحل “الصحيح” لمشكلة قيد البحث .

إن إتباع ومراعاة مبدأ للقياس ينبغي أن يسمح بوضع مجموعة من القواعد الأخلاقية المتماسكة الثابتة بصورة تدريجية والتي تكون وظيفتها بمثابة مرجع وأساس لتقييم السلوك الفردي ، والسياسات الاقتصادية أو وضع عناصر لنظام اقتصادي إسلامي وهذا ينطبق ، مع اختلاف يسير ، مع ما ينتظر الفلاسفة الغربيون أن تؤديه نظرة إلي الحياة لتقرير وتحديد طريقة الحياة .

(27) لقد تطور نظام الإسلام الأخلاقي إلي حد كبير علي يد الفقهاء ، وعلماء الدين في القرون الماضية (وعلي أساس الإفتاء) . وينبغي اليوم إعادة النظر فيها وتكملتها في بعض أجزائها (وتعديلها : وتكييفها) بغية تقديم حلول للمشاكل الاقتصادية الراهنة ، ولقد أدرك الاقتصاديون المسلمون ذلك وقد نشطوا لطرح تفسيراتهم الشخصية الجديدة لنظام الإسلام الأخلاقي وهناك بعض التوافق بينها بالنسبة إلي التوجيه العام – وخاصة في التأكيد علي الالتزامات “الاجتماعية” للأفراد والحكومات – ولكن هناك اختلافات كثيرة وخطيرة وخاصة فيما يتعلق بالتفاصيل والمسائل الاستراتيجية بالتنفيذ العملي والمتضمنات السياسية (74) .

إن بحثاً نقدياً لهذه النماذج ما زال ناقصاً وإن آليات العلم الضابطة للنفس ليست بعد في حالة عمل كاملة ، علي أنه ليس من غير المعقول توقع حدوث مناقشات نقدية عن نماذج واقتراحات بعينها في المستقبل . ولكن حتى حدوث هذه المناقشات فإن من المحتمل استمرار الخلافات في الرأي .

  • عندما يبدأ الاقتصاديون مناقشات حول أعراف ونماذج ، فإن السواد الأعظم منهم يدخلون الميدان الذي يعتبر جديداً عليهم فهم ليسوا ملمين بالتقنيات المتقدمة للنزاعات الأخلاقية والأدبية فحسب ، وإنما للنزاعات القانونية أيضاً ولكنهم قد يختلفون كذلك حول حل لمشاكل جديدة والسبب في ذلك ببساطة أن بعضهم يرتكب الأخطاء في تعليلهم .

إنه لمن المفيد في هذا الصدد ، لو أن الاقتصاديون المنهمكين في مناقشات معيارية يحاولون ربط مواقفهم بالتقليد القانوني ومع أن هذا لا يتم إلا نادراً . فإن الأمثلة يمكن إيجادها في ميدان النشاط المصرفي الإسلامي .

  • إنه لا يكاد يكون ممكناً الاستنتاج من قانون أخلاقي مثل تعليمات الشريعة الفريدة والدقيقة للسلوك الصحيح في الحياة الاقتصادية اليومية (اللهم باستثناء تلك الحالات القليلة جداً حيث نص القرىن علي تعاليم عملية محددة مثل تقسيم الميراث) . إن القانون الأخلاقي كثيرا ما يقتصر علي أن يقضي بما هو محرم ولكن ليس بما ينبغي أن يفعل (75) .
  • ولذلك فإنه بالنسبة إلي السياسة الاقتصادية ما زال هناك سؤال مفتوح ، وهو إلي أي مدي يمكن أن يذهب الاستنباط من النظام الأخلاقي وبمعني آخر وهو ما مدي التفاصيل والتحديد الذي ينبغي أن تذهب إليه التوصيات الموجبة وما مدي التصرف وفي أي ميادين ينبغي أن يترك الممثلين السياسيين وتتراوح النماذج من اقتصاد سوقي اجتماعي 76) إلي تنوع من دكتاتورية الرخاء الخيرية (77) .
  • وحتى لو لم يكن هناك توافق في الآراء حول الجوهر المعياري لأحكام القيمة والقواعد الأخلاقية الأساسية وغير الأساسية ، فإن الاقتراحات الخاصة بتعديل الشريعة الإسلامية يمكن (وربما) تختلف في جوانب مهمة . والسبب في ذلك هو أن أية توصية ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار النتائج الحقيقية لتوصية إرشادية بعينها ، وهذا يتطلب الرجوع إلي نظريات اقتصادية ذات جوهر تجريبي ، ولكنه يعتبر الاستثناء النادر لا القاعدة الذي يتفق الاقتصاديون فيه علي نظرية الكفاية .

ويعني البيان والقول الأخير ضمنا أن هناك شرطاً أساسياً لتسوية النزاعات في الفرع المعياري لعلم الاقتصاد الإسلامي وهذا الشرط هو الموافقة أو علي الأقل توضيح المواقف الاقتصادية غير الأخلاقية ، وينبغي أن يكون هناك نوع من النظريات “غير الأخلاقية”في علم الاقتصاد الإسلامي : فالنوع الأول يحلل نوعيات العوالم المثالية حيث يعمل جميع الناس بتعاليم الإسلام المعيارية ويتصرفون كمسلمين “مثاليين” والنوع الثاني يحلل أفعال “المسلمين المثالين” أي أفعال الناس الذين لا يلتزمون التزاما تاما بتلك القواعد والأخلاقيات التي ينبغي أن تقرر حياتهم كمؤمنين .

  • النماذج المثالية (اليوتوبية)

للتوازن العام .

(28) الواضح أن سلوك الناس في غالبية البلدان الإسلامية لا يتمشي مع المثل والمستويات التي فصلت في الكتابات عن الأخلاقيات والآداب الإسلامية .

ولقد عرف المسلم “المثالي” بخلاف المسلمين “الحقيقيين” بأنه ذلك المسلم الذي تتسم مصالحه الذاتية أساساً بالاعتدال والذي تتأثر أعماله تأثيراً قوياً بالالتزامات الاجتماعية التي يفرضها عليه الإسلام .

ومما لا شك فيه أن السؤال المهم هو كيف يبدو عالم اقتصادي إذا كان كل الناس “مسلمين مثاليين” بهذا المعني ولكن وصف عالم من هذا القبيل لن يكون نظرية إيجابية وإنما مفهوم عقلي يوتوبي (مثالي) . إن مثل هذا المفهوم قد يكون ذا قيمة كشفية ، ولكن العالم المثالي الذي يصوره ليس سوي خيال فكري (78) .

هذه النماذج اليوتوبية تثير أسئلة أكثر من إجاباتها . ولنذكر أمثلة قليلة منها : كيف يصبح الناس مسلمين مثاليين (أمن بصيرتهم أم بالرعاية أم بالقوة) ؟ وكيف تظهر مؤسسات اقتصادية إسلامية مهمة (مثل المصارف وإدرات الزكاة والمؤسسات الإسلامية) إلي عالم الوجود ؟ ما الدور الذي ينبغي أن تضطلع به الدولة هل هناك “ضمانات” في النموذج وذلك في حالة “نكوص” الناس .

  • ومن المشكوك فيه غاية الشك هو ما إذا كانت الشريعة تسمح باختيار عدد محدود من الأفضليات الفردية المسموح بها ، إن ما يقال هو إن الشريعة تستثني عدداً محدوداً من الأفضليات الفردية المباحة تاركة عدد الأفضليات المباحة مفتوحاً .
  • فإذا أرادت الحكومات ، بالرغم من هذه الحجة ، أن ترسم خطاً فاصلاً بين “الحقيقي” و “الحق” أو الأفضليات المشروعة : كيف يمكن تحديد هذه الأخيرة ؟ وكيف يتسني للبيروقراطيات الحكومية أن تدرك وتختار الأفضليات المباحة ؟ وما الذي يحدث عندما لا يكون الناس مستعدين لإنفاق كل دخولهم إلا علي سلع مباحة ولكنهم مع ذلك لديهم أفضليات “خاطئة” وقوة شرائية حرة ؟ .
  • وحتى لو أن الشريعة تسمح باختيار عدد محدود من الأفضليات الفردية ، فإن ذلك لا يعني أن هذه الأفضليات يمكن تمثيلها بصورة صحيحة في وظيفة الرخاء الاجتماعي ، ويمكن أن تعرف في معظم الحالات ، وعلي أحسن الفروض ، من حيث النوع لا من حيث الكم ، وقد لا تكون هناك أفضليات نوعية . وكيف يمكن أن ينعكس ذلك في سياسة الرخاء وفي الاختيارات المفيدة لدولة إسلامية لم يفترض المراء معرفة تامة (بما في ذلك معرفة جميع الظروف الخاصة والفردية التي يعمل الأفراد في ظلها) في جانب الدولة الإسلامية ؟ .
  • وإذا لم يكن من المستطاع قصر عدد من مثل الرخاء العليا المستمدة من الأفضليات الفردية المختلفة ، علي أفضلية فريدة واحدة مماثلة لتلك التي تختارها الدولة الإسلامية ، فإن إدخال وظيفة الرخاء الخاصة تعني وجود سمة دكتاتورية .
  • إن نهج اقتصاد الرخاء يسترعي الانتباه إلي حل خيالي لمشكلة خيالية لأنه يقوم علي أساس منطق الاختيار بين اليقنيات (الحقائق) (81) . ولكن الدول الإسلامية الحقيقية لن تشغل بالها بالاختيار بين اليقنيات ، فمشكلتها هي الاختيار السياسي بين الاختيارات المشكوك فيها … أي بين الإجراءات التي لا تعرف نتائجها مقدماً .
  • يفترض نموذج الرخاء السلطوي أنه ليس للسياسيين في دول إسلامية أهداف غير الوصول بوظيفة الرخاء الاجتماعي الإسلامي أقصي غاياتها . ولما كان تحديد هذه الوظيفة ليس في الأساس عملا سياسيا وإنما مشكلة تحليل أخلاقي ومنطق استنباطي فإن السياسيين لم يكونوا أكثر من موظفين تنفذين ، لم إذن يقبل السياسيون مثل هذا الدور السلبي ؟ وماذا عن وظيفة الرخاء إذا كان للسياسيين أفكارهم الخاصة ويرون السياسة الاقتصادية كأداة لا لتحقيق المثل العليا الإسلامية ، وإنما لتعزيز مصالحهم الشخصية ؟ إنه ليس ثمة نموذج يذكر أي ضمان ضد المعالجات السياسية لوظيفة الرخاء .
  • فإذا أريد لوظيفة الرخاء الؤسلمة أن تذهب إلي أقصي مداها ، فإن ذلك قد يتطلب تخطيطاً شاملاً (أو علي الأقل استراتيجياً) للاقتصاد كله . ولكن قد تكون هناك حاجة إلي تدخلات أقل صلابة في قرارت منظمي الأعمال والحد من حقوق الملكية الخاصة . ونتيجة لذلك قد ينشأ تناقض بين تخطيط الرخاء وضمان حقوق الملكية الخاصة ، ما هو الحل وكيف يمكن الاحتفاظ بالنظام المعياري متماسكاً ؟ .
  • إنه لا يمكن اعتبار نماذج التوازن العام مع خلفية اقتصاد الرخاء نظريات مقنعة : فهي تتعامل مع صفات عوالم خيالية لا سبيل إلي تحقيقها حيث يفترض أن تكون الظواهر – وهي أساسية ومكونة لمشكلة اقتصادية ، مستبعدة ، وهي (النقص في المعرفة البشرية والشكوك . ولا بد ان تبدأ نظرية مقنعة عن عالم الشك ثم تبين كيف تستطيع القيم الإسلامية أن تؤثر علي القرارات الاقتصادية حيث تقرر الاختيارات بين البدائل غير اليقينية .
  • ليست هناك معرفة كاملة في العالم التجريبي وأن الافتراض بأن الأفراد جميعهم قد أضفوا الصفة الذاتية علي مجموعة الأفضليات الإسلامية المياحة التي تقوض تماما سلوكهم الاقتصادي افتراض غير واقعي اليوم . فالدولة الإسلامية لا يمكن أن تتوقع أن يكون كل الناس سعداء بالتدخلات السياسية أو يوافقوا عليها والتي من شأنها ان تدفع بوظيفة الرخاء الاجتماعي المفروضة من الدولة إلي أقصي غاياتها : وقد حاول البعض التهرب من الإجراءات التقليدية المرهقة ، فيما يحاول آخرون الدفاع عن الامتيازات القديمة … إلخ . وخلاصة القول إنه لمن الشكوك فيه معرفة كيف سيتصرف الناس إزاء سياسة رخاء “إسلامية” .

يتطلب نهج علم اقتصاد الرخاء استنباطا لوظيفة الرخاء الاجتماعي من أعراف إسلامية أساسية من ناحية ، وحلا لبعض المشاكل المساعدة بالنسبة لضمان أداء إلي أقصي حد لوظيفة الرخاء ، من ناحية أخري . إن النموذج في كل جانب مهم ، يعتمد على ” واردات” المعرفة من ” علم الاقتصاد التقليدي ” : إلا إن تنفيذاً عمليا لسياسات الرخاء يتطلب معرفة عن كيفية تفاعل العوامل الاقتصادية مع بعضها بعضا وتتصرف إزاء التدخلات الحكومية . وهذه المعرفة عن العالم الحقيقي لا يوفرها نهج الرخاء ذاته ، فإن لم يرد أحد أن يستورد هذه المعرفة المهمة من عل الاقتصاد الإسلامي ،ويجب تطوير هذا الفرع مع مراعاة الأولوية لأنه ينبغي أن يكون الأساس لجميع الإجراءات السياسية .

(31) وثمة صيغة معدلة نوعا ما لنهج الرخاء الاقتصادي يستهدف استنباط الأهداف والشروط الحدية لاستراتيجية إنمائية إسلامية وحالما توضح السياسات الحكومية فإنها يمكن أن تكيف حسب هذه الاستراتيجية .

وهذا النموذج أيضا نموذج معياري أساساً أن بعض الحجج الأساسية ضد نهج الرخاء يمكن تكرارها :

  • من المشكوك فيه ما إذا كانت استراتيجية إنمائية واحدة ( فقط ) يمكن استنباطها من المصادر الإسلامية .
  • ليس هناك ضمان بأن حكومة ما ستتبع هذه الاستراتيجية ولا تخلطها بعناصر ” أنانية” .
  • تتطلب النظريات معرفة حقيقية لا يستطيع علم الاقتصاد الإسلامي أن يوفرها إذا ظل مقيدا بالمنهج قيد البحث .

(32) ليست مقمعة جميع هذه المحاولات المبذولة لتصميم نظا اقتصاد إسلامي كامل وذلك باتخاذ بعض ” القواعد الأخلاقية ” ثم استنباط ما هو أحسن ملائمة للناس . ويمكن إبداء حجج نقدية على غرار تلك التي تقدم شرحها ( مع بعض التعديلات ) ضد أي نموذج أولي واستنباطي من هذا القبيل . فإلي جانب الشكوك في التماسك الداخلي لهذه النماذج ، يتبغي للمرء أن يدرك أن المنهج الأولي – الاستنباطي يعتبر استمرار للنمط الديكارتي عن المذهب العقلي الذي تعرض لمرير النقد من جانب المذهب العقلي النقدي . إن هذا النوع من ” الهندس الاجتماعية ” الشامل الاستدلالي بفترض أن مصمم النظام الجديد له سيطرة على المعرفة التي لا يمكها أساسا ، يمكن للمرء أن يثير شكوكا خطيرة فيما إذا كان النمط الديكارتي للمذهب العقلي يمثل وقفا عقليا كافيا بالنسبة إلي السياسة الاقتصادية عامة ، وبالنسبة إلي علم الاقتصاد الإسلامي خاصة . إن النظرة الإسلامية للحياة ليست نظرة ضد العقل أو النظرة اللاعقلانية ، ولكن ذلك لا يعني أنه يمكن الهبوط بها إلي عدد صغير من المبادئ والقواعد الأخلاقية التي يمكن استنباط أو استنتاج كل شئ منها بالعقل دون غيره . والإسلام دين ذو تقليد خلقي طويل وفترات ويجمع أكثر من أربعة أو ستة مبادئ أو قواعد أخلاقية ويعني إغفال اليقينية أنها غير مناسبة لصياغة نظام اقتصادي يتمشي مع النظرة الإسلامية للحياة . وهذا افتراض قوي ( أو حتي غريب ) ويحتاج حتما إلي فحص نظري ، إن قوته الإقناعية الأولية محدودة للغاية .

ج- توجيهات للفرع الإيجابي من علم الاقتصاد الإسلامي

(33) إن نهجا أكثر إقناعا لتطوير علم الاقتصاد الإسلامي ينبغي أن يبدأ بوضع برامج بحثي للفرع الإيجابي من هذا العلم . ومن الأهمية بمكان تعزيز المعرفة الحقيقة عن نظام يسترشد العمل الإنساني فيه ننظرة إسلامية للحياة ، أو حيث ينبغي للمؤسسات الإسلامية أن تعمل في بيئة أكثر علمانية .

(34) إنه ينبغي للمسلمين أن يدرسوا النظريات ( الاجتماعية – البيولوجية ) للاختيار ( الانتخاب ) الاجتماعي والتطور الثقافي ، وعليهم أن يحاولوا تطبيق هذه النظريات على تاريخ العالم الإسلامي . لقد مكنت النظرة الإسلامية للحياة المسلمين ذات مرة لا من إقامة أمبرطورية ممتدة الأطراف فحسب ، وإنما من نشر دينهم فوق مناطق شاسعة من العالم أيضا والمعروف تماما أنه كان للعالم الإسلامي “عصره الذهبي ” وأن الاقتصاد في ذلك الوقت لم يكن يدار بواسطة الحكومات وإنما كان اقتصادا غير مركزي ومنسقا بواسطة شبكة من الأسواق ولكن حدث فيما بعد في التاريخ أن الثقافة الإسلامية انهارت ما هي الأسباب الداخلية ، لهذا الانهيار ؟ هل تغيرت الأخلاقيات ؟ ألم يطرأ عليها أي تغيير ولكنها أصبحت جامدة ومتعسفة ؟ هل كان سبب الانهيار نجاح جماعات اجتماعية أخري كانت لديها قواعد أخلاقية “أفضل” . إن هذه أسئلة لا ينبغي ترك الإجابة عليها إلي المؤرخين فقط (82) .

إن الاقتصاديين الملمين بعمل الأسواق وبتحليل الظواهر التي تعتبر نتائج غير مقصودة للعمل الإنساني ، يمكن أن يسخروا معرفتهم ومهاراتهم الفكرية لوضع نظرية نشوء وتطور النظرة الإسلامية للحياة وعليهم أن يجدوا “الخطأ” الذي تسبب في انهيار العالم الإسلامي . كما ينبغي لهم أيضاً أن يولوا انتباها خاصا إلي الأخلاقيات السائدة ونتائجها علي الحياة الاقتصادية وثمة أسئلة مهمة وهي : ما أنماط المؤسسات ( فمثلا الأسواق الحرة أو المنظمة ) التي سمحت للناس أن يتكيفوا حسب ظروف مجهولة ومتغيرة ؟ وما هي النتائج الاجتماعية غير المقصودة التي ترتبت عليها أعمالهم ؟ وما هو دور الحكومة . . . الخ ؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يجب سلوك نهج متعدد الفروع العلمية حيث يتعاون الاقتصاديون مع الخبراء في التاريخ القانوني والاجتماعي واللغات واللاهوت .

  • لقد وضع الاقتصاديون المسلمون نماذج متقدمة نوعا ما من علوم الاقتصادي الخالية من الفائدة (83) ، وحاولوا إثبات تفوق الوظائف التخصيصية والتوزيعية لنظام قائم على اقتسام الربح والخسارة كبديل لنظام الفائدة التقليدي .

وربما لا تستطيع أي نظرية من نظريات النمط الثاني ( الاقتصاديات الكبري للأعمال المصرفية الإسلامية ) أن تدعي لنفسها صفة نظرة إيجابية ذات صلة تجريبية . إن جميع النماذج تفترض أن أنماطا ذات فائدة ثابتة للتمويل ستحل محلها ترتيبات تقوم على أساس اقتسام الربح والخسارة ، وثم تقنيات تمويلية للمصارف الإسلامية ( مثل رفع الأسعار أو التأجير ) قد ورد ذكرها أحيانا كاحتمالات ، قد ورد ذكرها أحيانا كاحتمالات ، ولكن المفروض أنها لا تلعب دوراً بارزاً ، ولكن حقيقة المصارف الإسلامية هي العكس تماماً : فالأساليب المباحة ” للدخل المحدود ” الخاصة بالتمويل ( رفع الأسعار والتأجير . . الخ ) أساليب سائدة فيما أن نظام المشاركة في الأرباح والخسائر تعتبر في معظم الحالات هامشية فقط (84) .

تتجاهل نماذج الاقتصاديات الكبري القائمة على الربح والخسارة أن المصارف الإسلامية لها خيار بين الأدوات المباحة ( التي تضم أدوات ذات دخل محدود ) وأن هناك أسبابا كثيرة تتعلق بالاقتصاديات الصغري تبين لماذا يكون في مصلحة المصرف التركيز على التقنيات وإغفال الربح والخسارة فمثلا تشمل الترتيبات المتعلقة بالربح والخسارة أخطاء أكبر وتكاليف أكثر إلي حد كبير ( لتقييم المشاريع ورصدها ) . بالنسبة إلي المصرف وإلي تمويل المتعهدين بتكاليف محددة سلفا مثل ( رفع الأسعار والتأجير ) وهي تسمح بتحقيق نتائج للفعالية المالية المعلنة أكثر مما تحدثه أساليب الربح والخسارة . والنتيجة المستخلصة من هذه الاعتبارات للاقتصاديات الصغيرة هي أن المصارف الإسلامية تميل دائما إلي الاحتفاظ بتمويلاتهم القائمة على أساس الربح والخسارة على مستوي منخفض وليست فقط المصارف العاملة في مجال اقتصاديات مبنية على أساس الفائدة وإنما المصارف في النظم المالية المؤسلمة أسلمة تامة .

مقبول لاقتصاد صغير . ولذلك . فإنه ليست هناك فقط نظريات إيجابية من شأنها أن تسهم في معرفتنا عن العالم الحقيقي ، وإنما ليس هناك أيضاً نظريات معيارية مقنعة يمكن أن تعطينا فكرة عن كيف يمكن لنظام إسلامي أن يعمل في عالم الواقع . فالنماذج ليست فقط مناقضة للواقع كما أنها ليست فوق مستوي الشكوك المعقول .

إن النظريات الأكثر قابلية للقبول عن صفات الاقتصاد الكبير للاقتصاديات الخالية من الفائدة يتبغي أن يكون لها أساس أفضل لاقتصاد صغير ويجب أن تؤسس على افتراضات واقعية فيما يتعلق بسلوك المصارف الموجهة نحو الربح ، عندئذ يستطيع المرء أن ينتقل من المستوي الصغير إلي المستوي الكبير ويميط اللثام عن جميع متضمنات الاقتصاد الكبير للسلوك العقلاني الذي ينتهجه الاقتصاد الصغير . وهذا من شأنه أن يؤدي إلي معرفة محسنة عن العالم الحقيقي وليس إلي التخمين والتمني .

(38) إن الدرس العام المستفاد من مثال الأعمال المصرفية هو أنه لمن الأهمية بمكان التمييز بين ما هو مرغوب فيه ، من وجهة النظر المعيارية ، وما هو المعقول من وجهة النظر التجريبية ، ، ولذلك فإن الرأي القائل بأن ” الفرق بين علم الاقتصاد المعياري وعلم الاقتصاد الإيجابي ليس في الواقع مهما للاقتصاديين المسلمين ” ، أي مشكوك فيه (85) إن المسائل المعيارية يجب ألا تترك وشأنها ، ولكن هذا لا يعني أن الفرق الإيجابي / المعياري ليس ذا صلة ، وعلم الاقتصاد الإيجابي فقط هو الذي يمكن أن يعزز معرفتنا عن العالم الواقعي ( في الماضي والحاضر والمستقبل ) ويمدنا بالمعرفة اللازمة لفهم المسائل في علم الاقتصاد المعياري فهما تاما وتقيمها تقيما تاما أيضا . وعلى الاقتصاديين المسلمين أن يراعوا المبادئ التزيفية – المتقدمة – لأنهم منهمكون في المناقشات المعيارية والإيجابية .

يجب أن يتحول علم الاقتصاد الإسلامي إلي انتكاسه وارتداد إلي القرن التاسع عشر تختلط فيها البيانات الإيجابية والمعيارية ، وينبغي أن يكون إجراء مناقشة عقلانية أمرا ننكنا في كلا فرعي العلم . إن تطبيق علم الاقتصاد الإسلامي محاسبا وضابطا للذات – وبمعني أخر . . علم .

ومع أن النظرة الغربية والإسلامية للعالم ( وبالتالي طريقة الحياة ) تختلف في كثير من الجوانب ، فإنه لمن الممكن إيجاد قاسم منهجي مشترك يمكن أن يقدم للاقتصاديين الغربيين والمسلمين أساسا لحوار فكري وتبادل مثمر للأراء .

الهوامش

  1. لقد عمد ميسيز Mises ( 1949م) إلي شرح الاقتصاد كعلم للعمل الإنساني شرحا وافيا وهو يتفق ( إن لم يكن متطابقا ) مع تعريف الاقتصاد كعلم للاختيار الذي روجه بصفة خاصة Robbins ( 1932م) .
  2. سيتم بحث تبرير المعتقدات الفرضية في قسم لاحق ( راجع ص ) .
  3. وإلي جانب ديكارت أسهم من كل باروخ ديسينبوزوز “Baruch do Spinoza“( 1632 – 1677 ) وجوتفرايد ولا يبنتز (1646 – 1716 ) وايمانويل كانت ( 1724 – 1804 ) بتصيب وافر في المذهب العقلي الكلاسيكي . وبالنسبة إلي المذهب التجريبي ينبغي الإشارة إلي جانب هيوم ، إلي جون لوك ” John Looke” ( 1632 – 1704 ) وجون ستيوارت ” John Steuart Mill” ( 1806 – 1873 ) .
  4. أوكونور . كار “Oconnor . Carr” ( 1982 ) ص 4 – 5 .
  5. يعني هذا المبدأ ” إن الأمثلة التي ليست لدينا خبرة بها ، يجب أن تماثل تلك التي لدينا خبرة عنها وأن منهج الطبيعة يمضي دائما على وتيرة واحدة وبصورة متماثلة ، هيوم ( 1739 – 1740 ) استشهد به أوكونور . كار (1982م) ص 11 .
  6. بلوج ” Bioug ” (1980م) ص 12 .
  7. أوكونور . كار (1982م) ص 12 .
  8. ليس ثمة شك في أن المرء قد يقول مثلا إن “ق” من “ب” لأنه يستطيع أن يفسر نفس الظواهر مثل “ب” بل وأكثر منها . ولكن هذه مسألة تتعلق بالقيمة الإعلامية لا بالقيمة الإدراكية الأساسية ل “ب” .
  9. يمكن الاستشهاد بالنظرية الكمية للمال كمثل اقتصادي .
  10. للاطلاع على نقد عام ” لنهج التبرير ” راجع بارتلي “Borthey” (1962م) .
  11. كانت أسس هذه الحجة معروفة بالفعل ل ” هيوم ” .
  12. الخلاصة أنك لا تستطيع إقامة الدليل على أن أي شئ صحيح ماديا ولكنك يمكن أن تبرهن على أن بعض الأشياء زائفة ماديا بلوج “Bloug” (1980م) ص 12 .
  13. هذا لا يمثل إمكانية منطقية فحسب ، وإنما يمثل أيضا اعتقادا ثابتا معقولا لا يبرره وجود نظم دينية ذات أخلاقيات مختلفة مثل المسيحية والإسلام والهندوكية والبوذية .
  14. ولكن هذا لا يعني أن القرارات ( الشخصية ) النهائية بشأن قبول الأعراف النهائية قرارات جائزة ولا تقوم على أساس لأنه من المستحيل منطقيا تقديم أسس أخري لتبرير الأعراف النهائية . ” إن قرارات من هذا القبيل ليست بلا أساس وليست جائزة . وإنما على العكس . فهي تقوم على أساس قوي وليس هناك ببساطة سبيل لتؤسس على أسس أفضل والدفاع عنها بصور أصح ” برومر (Brummer ) ( 1987 م) ص 137 .
  15. يمكن أن يصبح هذا ذا صلة قوية لعلم الاقتصاد حينما للسواد الأعظم للسكان ” أو السكان كلهم ” هذه النظرة للحياة .
  16. برومر ( 1981م ) ص 140 .
  17. برومر (1981م ) ص 207 .
  18. ” لقد بنيت هاتان المحاولتان لمواجهة تحدي المذهب العقلي على أساس الافتراض بأن المعايير العقلانية معايير صحيحة ، وهكذا فإنه لا يمكن قبول أي افتراض على أساس منطقية ( واضحة لكل إنسان ) إن اللاهوت العقلاني يحاول الدفاع عن العقيدة المسيحية بالنسبة إلي هذه المعايير . فيما يحاول اللاهوت الوجودي تمييز العقيدة المسيحية عن نوع المعتقدات التي تتطلب هذا النوع من الدفاع برومر (1981م ) ص 208 .
  19. برومر ( 1981م ) ص 208 .
  20. برومر ( 1981 م )ص 211 – 212 .
  21. ” إنه لمن السخف العيش وفقا لتوقيع بعث وحساب أخير إذا افتراض المرء أن البعث والحساب الأخير ليس سوي قصتين لم تقم بصددهما دعاوي حقيقية ” برومر (1981م ) ص 267 .
  22. ” إن أي محاولة لإقامة الدليل على وجود الله بالاحتكام إلي صنعه ، محاولة دائرية وغير مباشرة ) إننا نزعم أننا نعرف الله ( الخالق ) لأننا نلمس خلقه ، ولكننا نري الكون كخلق فقط في ضوء معتقداتنا بالخالق ” . برومر ( 1981م ) ص 273 .
  23. برومر ( 1981م ) ص 274 .
  24. للحصول على موجز لنتائج العلوم الطبيعية الحديثة في قد تكون لها نتائج هامة بالنسبة إلي المعتقدات الدينية ، راجع ديفيز ( 1983 م ) Davies .
  25. في التاريخ أمثلة كثيرة عن مقاومة قوية بين الكنيسة المسيحية المؤسسية لإجراء تعديلات من هذا القبيل للنظام العقدي في ضوء المعارف الجديدة ولكن هذا لا يقم الدليل على أن مثل هذه التعديلات مستحيلة على الأسس العقلانية ، وإنما الكنيسة هي التي كانت مؤسسة غير عقلانية في هذه الأمثلة .
  26. للمتابعة راجع برومر (1981 ) صفحات 132 – 135 ، 265 – 265 .
  27. أما وأن الخبراء العقيدين يصيغون نظرة للحياة ” بالنيابة ” عن المؤمنين ، فإنها يجب أن تكون مقبولة للرجل العقلاني : فهي نوع من تقسيم العمل ، وشرط أساسي أن تكون الخبراء العقيديون مؤهلين وجديرين بالثقة .
  28. من وجهة نظر الابستيمولوجية ليس هناك فرق ما إذا كان المؤمنون يتلقون هذه النظرة للحياة في شكل ” اقترحات أدبية ” أو قوانين ملزمة تسنها الدولة ، أما وإنها تستطيع أن تحدث فرقاً كبيراً حقيقيا ، فهذا أمر واضح ، ولكن البحث في شكل كاف لايصال النظرة للحياة يجب أن يتم في إطار هذه النظرة ذاتها وبالنسبة إلي جوهرها .
  29. للوقوف على ” المنظورات الإنجيلية عن الحياة الاقتصادية ” راجع مثلا : Bishop `s Postoral ” (1984) .
  30. إن النظريات التي تثبت حقيقتها بدون اللجوء إلي دليل تجريبي يجب أن تكون مؤسسة إما علي الافتراضات الذاتية الوضوح أو على معرفة أولية أي معرفة سابقة للتجربة ومستقلة عنها . وفي العصر الحديث يمارس علم الاقتصاد النمساوي ، النهج الأولي ، راجع مثلا رولان ” Dolan ” ( 1976 ) وهوايت ( 1984 ) White .
  31. رصد هتشيتون ( 1964 ) Hatchiwon التمييز الإيجابي / المعياري في التاريخ .
  32. هتشيتون يستشهد بجون ستيوات مل (1964) ص 24
  33. هتشيتون يستشهد بجون مل ( 1964 ) ص 27 .
  34. مراجع هتشنون ( 1938 ) ، وراجع أيضاً ماكلوسيكي (1983 ) .
  35. لقد أدي هذا ، في جملة أمور أخري إلي المنهج ” الذرائعي ” في السياسة الاقتصادية : أن أهداف السياسة الاقتصادية وأغراضها يضعها السياسيون ويقترح الاقتصاديون أدوات مناسبة لتحقيق هذه الأهداف : أما تبرير الأهداف لا يضع لفحص الاقتصاديون .
  36. يجب إجراء استثناء للمناقشة حول وضع اقتصاد الرخاء ، وفي حين أنه كان عند بداية عرضة من جانب باريتون ( Pareto ) بمثابة نظرية إيجابية ولكن ما لبث أن أصبح فيما بعد معياريا فيما يتعلق بمتي أدخلت وظائف الرخاء ومتي اتخذ الأمثل كهدف أو مرجع لتخطيط الإجراءات السياسية وللوقوف على هذه المناقشة راجع بلوج Blaug ( 1980 )صفحات 140 – 148 .
  37. للوقوف على ملخص راجع كولدويل Coldwell ( 1982 ) ص 238 – 242 . وراجع أيضا بلوج ( 1980 ) ص 17 – 19 ، 114 – 115 .
  38. لقد أدخل همبل ( Hempel ) وأوبنهايم ( Oppenheim ) (1935 ) هذا الاصطلاح .
  39. راجع بلوج (1980) ، ص 115 – 120 – 163 .
  40. كولدويل –Caldwell– ( 1982 ) ، ص 245 – 252 يدافع عن التعدد المنهجية .
  41. بوبر ( 1964 ) ص 224 ، 225 .
  42. راجع ويبرر ( 1917 ) ص 20 .
  43. بوبر ( 1963 ) ص 232 .
  44. بلوج ( 1980 ) ، ص 133 . الفرق بين الأحكام الأساسية وغير الأساسية المتعلقة بالقيمة قد اقترحه سن ( Sen ) 1970 م .
  45. إن لكل فرد على حد أن يفرز بنفسه ما الذي يقبله وما الذي يقنعه كحكم لقيمة أساسية ، فهذه ليست المشكلة هنا ، فإن كل شخص يلجأ إلي خبرته المؤثرة لتقرير نظرته للحياة ” بنفسه ” .
  46. روثبارد ( 1982 ) ص 17 .
  47. روثبارد ( 1982 ) ص 186 .
  48. راجع راولز ( 1971 ) ( Rawls ) بوخانان ( 1975 ، 1977 ) .
  49. إذا لم تكن معروفا كيف يؤثر القرار على صانع القرار نفسه ، عندئذ لماذا يتخذ صانع القرار أي قرار ؟فإذا رفض أن يقرر أي شئ في عالم من الجهل التام ، فإنه لن يكون هناك قواعد لإصدار القرارات على الاطلاق .
  50. هذا عنوان المحاضرة التي القاها ف . أ . هايك ” F .A . Hayek” عندما حصل على جائزة نوبل راجع هايك ( 1975 ) .
  51. هايك ( 1984 ) ، ص 321 .
  52. هناك ” محاولات عقلانية ” للتخلص من بعض هذه النظم ( الأخلاقيات والأسواق ) كلية وإحلال تخطيط عقلاني محلها ، وأتخاذ الماركسية والاشتراكية كمثلين .
  53. للوقوف على تقرير عن اقتصاد الرخاء الكلاسيكي الجديد ونماذج التوازن العام ، راجع هتشون ( Hutchinson ) ص 183 – 187 ، وراولي ( Rowiey) وبيكوك ( 1957 ) Peacock .
  54. راجع مثلا ولسون(Wilson) ، 1975 ، باراش (Barash) 1977 ، وهوليت (White) 1981 .
  55. راجع مثلا هايك (1945 – 1968) .
  56. إن تسمية هذه “بالداروينية الاجتماعية” تسمية مضللة وغير صحيحة .
  57. هايك (1948) ص 324 “الاعتماد التام علي البصيرة العقلانية كأساس كاف للعمل الإنساني يعتبر خطأ فكريا” .. نفس المصدر ، ص 326 .
  58. هايك (1984) ، ص 328 .
  59. هايك (1984) ، ص 325 .
  60. “يبقي التقليد الأخلاقي كنزا لا يستطيع العقل أن يحل محله ، ولكنه يمكن فقط أن يحاول تحسينه بنقد بناء ، أي محاولة إقامة نظام لا نستطيع أن نخلفه ككل ، إن نظم الأخلاقيات مستقلة ، بمعني أن جميع الأحكام أو القيم الأخلاقية بعينها تتمشي بدورها مع الأصول الأخلاقية . إننا لا نستطع أن نحكم علي قاعدة بعينها من قواعد السلوك الأخلاقي إلا بالنسبة إلي نظام من هذه القواعد التي يجب علينا أن نعالجها من أجل ذلك الغرض علي أنها غير مشكوك” فيها هايك (1984) ، ص 329 .
  61. هايك (1984) ، ص 330 .
  62. لقد اقترح فريدمان (1945) –Friedman– أن يجري الحكم علي نوعية النظريات حسب قوتها التفسيرية . ولكن هذا ليس نهجا مقنعاً : فمن ناحية يمكن إجراء تنبؤات ناجحة علي أساس “نظريات” ليست لها قوة تفسيرية علي الإطلاق (مثل استيفاءات بسيطة لأتجاهات ماضية) وهذا لا يسهم في معرفتنا . وهناك من ناحية أخري نظريات ليست لها قوة تنبؤيه وإنما لها قوة تفسيرية (مثل نظرية داروين ، وهي نظرية النشوء والارتقاء والتي تفسر العملية التطورية التي حدثت ولكنها لا تستطيع التنبؤ سلفا بأي خطوات بعينها المتطورة .
  63. مصلح الدين (1977) ص 13 : ولشرح النظام الأخلاقي (والقانوني) للإسلام راجع رمضان (1961) وحسن (1970) .
  64. مصلح الدين (1977) ص 13 ، راجع أيضاً نفس المصدر ، ص 119 .
  65. مصلح الدين (1977) ص 18 ، راجع أيضاً نفس المصدر ، ص 123 .
  66. يقترب هذا من الفكرة الليبرالية الخاصة “بحكم القانون” وأن “الحكومات تحت القانون” .
  67. ولكن هناك اختلافات بين المذاهب الأربعة للشريعة الإسلامية بالنسبة إلي هذه الإجراءات راجع مصلح الدين (1977) ص 140 .
  68. مصلح الدين (1977) ص 125 ، “إن .. التعليل لا يمكن التعويل عليه أو قبوله ما لم يسنده دليل في النص أو السياق .” ، نفس المصدر ص 138 .
  69. راجع وقارن مثلا بين التوصيات العملية والسياسية لكل من شابرا (Chapra) (1970 – 1980) وناقفي (Nagvi) (1981) . ومانان (Mannan) (1984) .
  70. يمكن إبداء ملاحظة مماثلة فيما يتعلق بعلم الاقتصاد المسيحي .
  71. راجع علي سبيل المثال شابرا (1970) .
  72. راجع علي سبيل المثال ناقفي (1981) .
  73. أما وإن التهيؤات واليوتوبيات قد تلهم الناس وتعبئهم ليست مسألة ذات صلة في السياق الراهن .
  74. راجع هتشنون (1964) ص 183 – 187 .
  75. كيف يمكن للاقتصاديين أن يتناولوا التطورات التاريخية ، فهناك أمثلة علي ذلك واردة في كتابات نورث (North) ، وطوماس (1973) ، ونورث (1981) – راجع أيضاً نهجاً مختلفاً – أولوسون (Olson) (1982) .
  76. راجع تيلا صديقي (1983 – 1983م) منان (Mannan) (1984) ، شابرا (1985) خان (1986) .
  77. للوقوف علي تفاصيل أكثر تراجع نينهاوس (Nienhouse) (1986 – 1986م) .
  78. منان (1984) ص 90 .
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر