أبحاث

إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي

العدد 107

الدور  التربوي للفقه:

المستقرئ للإرهاصات الأولى للفقه الإسلامي يمكن أن يلمس بكل سهولة ويسر أنه نشأ وثيق الصلة بحركة الحياة العملية، وبمشكلات واجهت الناس،

وقضايا كانت محل اهتمام عموم الأمة، مما كان لابد معه أن تتوثق الصلة بين الفقه على وجه العموم وبين العمل التربوي، خاصة إذا تنبهنا إلى أن الدين، ليس مجرد معتقدات وأفكار تحتل موقعها في العقل والقلب، وليس مجرد شعائر تؤدى ، وإنما هو في لحمته وسداه (ما وقر في القلب وصدقه  العمل) ، أي أنه إذا كان يبدأ في العقل والقلب، إلا أنه لابد أن يتشخص واقعًا عمليًّا حيًّا في سلوك الناس ومعاملاتهم ، والعملية التربوية نفسها لا تخرج عن كونها إجراء تنفيذيًّا يسعى إلى أن يحيل الأفكار والتوجهات والمعتقدات القائمة في كل من العقل والقلب إلى عمليات سلوكية وأفعال إنسانية .

لقد قامت طريقة التشريع في عصر النبي (ص) على أساس الواقع، فكلما وقعت  حادثة تتطلب حكمًا، لجأ الصحابة إلى رسول الله يسألون البيان، فإذا لم يكن عنده حكمها تطلع إلى السماء فيأتيه الوحي تارة بآية أو آيات من القرآن فيه جواب ما سألوا، وطورًا ينزل عليه الوحي بغير قرآن مبينًا له الجواب ويترك له التعبير عنه وهو ما عرف بالسنة، وإما يتأخر الوحي عليه، فلا ينزل بهذا ولا بذاك، فيجتهد على ضوء ما أنزل عليه من أحكام، وما ألهمه الله من سر التشريع مرة ، ومع مشاورة أصحابه مرة أخرى ، فإذا أصاب الاجتهاد وجه الحق أقره الله عليه، وإن كان غير ذلك نبهه إليه(1)  .

ولم يكن لأحد من صحابة رسول الله (ص) في حالة حياته أن يجتهد في استنباط أي حكم شرعي إلا عند تعذر سؤاله أو  لبعد الشقة بينه وبين الرسول، أو لاشتغاله (ص) بما هو أهم أو نحوه، إو إذا أمره الرسول بذلك على سبيل التعليم والتدريب، وما كان يحدث شيء في ذلك لأي واحد من الأصحاب إلا عرضًا(2)  .

وعندما توفى رسول الله (ص) ، واجه صحابته من بعده حوادث ليس في القرآن الكريم ولا في السنة  النبوية بيان خاص بها، ولا حكم قاطع  فيها، فاجتهدوا في تفهم حكم الله على ضوء النصوص واستهداف المصلحة، واختلف فهمهم في هذا وذاك تبعًا لما يراه كل واحد منهم مقتضى النص أو سبب المصلحة، وقد ينتهى التشاور بينهم إلى رأى واحد يجمعون عليه(3)  .

كذلك فإن الحروب التى وقعت، وما نتج عنها من قضايا وعلاقات بين المسلمين وبين غيرهم في أثناء الحرب وبعدها، أدت إلى كثرة المسائل الفقهية، والفتوحات الإسلامية وما ترتب عليها من امتداد سلطان الإسلام على بلاد كثيرة، واتصال المسلمين بأهل تلك البلاد، ولكل بلد أعرافه وعاداته وتقاليده ونظمه كل ذلك أدى إلى ظهور مسائل وقضايا جديدة تستلزم معرفة حكم الشرع فيها، وقد قام فقهاء الصحابة بمهمة التعرف على أحكام هذه المسائل والوقائع الجديدة، فاجتهدوا واستعملوا آراءهم على ضوء قواعد الشريعة ومبادئها العامة ومعرفتهم بمقاصدها(4) .

فالفقه -كما نراه هنا، وفي كل الفترات، وفي كل الأمكنة كما سوف نرى- يسعى إلى توفير مبادئ وقواعد وأحكام تقوم بدور الموجه للمسلم في سلوكه .

وواكب تطور الفقه وازدهاره تطور آخر في ميادين فكرية مختلفة، وخاصة في مجالات علم الكلام والتصوف والفلسفة، فضلاً عن ظهور مدارس ومذاهب دينية متعددة، فظهر الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، وترددت أصوات المختلفين بصنوف من الدعاوى الغريبة، والمذاهب الجريئة، فحين كان المعتزلة يتحدثون في الإيمان والتوبة، والإله وصفاته، والعقل وحريته، كانت آراء عن الحلول والألوهية تذاع في جسارة عجيبة(1)  .

وفي هذا الجو المائج  الهائج تظهر زندقة عند البعض، التى تكون تحللاً  من قيود التدين، يغرى بها التحضر والرفاهية التى غمرت الجو، أثرًا لرواج اقتصادي واضح، فيندفع الناس إلى التحلل من المطالب الدينية، إما تظرفًا وتخففًا، وإما مجونًا وانتهابًا للذات.

ويظهر نفر آخر من أهل التصوف، عدد منهم يعيش حياة تقوم على الورع والزهد، وعدد آخر يشطح في آرائه وأحاديثه، وهكذا يبرز كل من (مالك ابن دينار) ، توفي عام 127هـ ، و(إبراهيم بن أدهم) ، توفي 162، و(داود بن نصير الطائي) ، توفي عام 162، و(عبد الله بن المبارك) توفي عام 181، و(الفضيل بن عياض) توفي عام 187، ومن السيدات (رابعة العدوية) ، توفيت عام 135 هـ أو 185 ، و(عائشة بنت جعفر الصادق) توفيت عام 145هـ ، وغيرهم وغيرهن(2)  .

وأضيف إلى هؤلاء وهؤلاء طائفة الفلاسفة الذين قصروا كلامهم على الخاصة، بل خاصة الخاصة ممن يقدرون على فهم المصطلحات الفلسفية، وتأثرهم البالغ بفلسفة اليونان الذي أفضى بهم إلى تناول مسائل لم تكن في دائرة اهتمام المسلم العادي، فضلاً عن الاستناد إلى طرق في الجدل والمناقشة لا يصبر عليها إلا القلة من خواص المتعلمين.

وجدت جماهير الأمة أمامها بالتالي مائدة ضخمة من الإنتاج الفكري المتنوع تنوعًا كبيرًا ، والمتعدد الأشكال والألوان، عليها ما قدمه علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة، وعلماء التصوف، وأهل الفلسفة، وعلماء السنة، فإلى أي فريق إذا يتجهون؟

اتجهوا إلى أهل السنة، فهم يقدمون كلامًا وآراء وأفكارًا سهلة الفهم، تتسم ببساطة العرض، وتخلو من التعقيد والالتواء ، وتتسم بملاءمتها للطبائع البشرية  جميعًا، ففيها العمق لمن يريد التعمق، والوسط لمن يرغب في التوسط، والحث على مداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين . وأهم من هذا وذاك أن شخصية رسول (ص) كان حجة في تدعيم الرأي، والاعتقاد في الآراء  يستند إلى شخصية قائلها إلى حد كبير، إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمة ذاتية، فاستناد أهل السنة إلى الآيات القرآنية، وإلى أحاديث رسول الله، قربهم من عقول عموم الناس وقلوبهم(1) .

ثم إن حياة العمل أقرب إلى اهتمام الناس، فهم إذا كانت لهم عقول لتفهم وتستوعب، وقلوب تشعر، فإن  لهم جسدًا له احتياجاته من الملبس والمشرب والمأكل والمأوى، مما لابد له من عمل لكسب الرزق، وحياة الرسول (ص) كانت تجمع بين عمل القلوب ونشاط العقل، وسد احتياجات الجسم، أو بمعنى أصح تجمع بين مطالب الدين والدنيا، وهذه هي الحياة المثلى للمسلم.

لكن أهل التصوف كانوا ينفرون في الدنيا ويرغبون في العزلة والزهد الزائد، طمعًا في كسب الدين، وأهل النظريات من متكلمين وفلاسفة، بالغوا في التنظير، فنسوا الدين، واستغرقوا  في الدنيا.

فاتسام مذاهب المتكلمين بالتجريد، ومغالاة المتصوفين في مسالكهم الروحية، وصعوبة الآراء الفلسفية وبعدها عن حركة حياة الناس، كل أولئك قرب بين  أهل الحديث وبين العامة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث الملائم لنفوسهم؛ ولهذا كان تعليم الناس في أيدي من يفهمون أفراد الأمة ويفهمون عقليتهم ونفسيتهم(2)  .

والنتيجة  المنطقية والطبيعية بناء على هذا أن عنى أهل السنة بالتعليم ليشب العامة على معرفة الدين علمًا وعملاً؛ لأن معرفة الدين لا تتم إلا بنوع من التعليم، سواء أكان هذا التعليم صادرًا من الوالد إلى أبنائه بالتلقين، أو أخذًا عن شيخ بعينه يتطوع لتعليم الصبيان شئون دينهم.

ورصد ميتز ملمحًا آخر عزز من مكانة الفقه والفقهاء(1) ، فقد تميز عن غيره من علوم الدين، وأصبح العلماء فريقين: الفقهاء، والعلماء على الحقيقة، وكانت غالبية طلبة العلم المتكسبين يقصدون الفقهاء؛ لأن الفقهاء هم حملة علوم الشريعة والعبادات، فكان لابد لمن يريد تولى القضاء والخطابة في المساجد من التتلمذ عليهم. واستعان ميتز بنص للجاحظ جاء في الجزء الأول من كتاب الحيوان قال فيه : (وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن، ويجالس الفقهاء خمسين عامًا، وهو لا يعد فقيهًا، ولا يجعل قاضيًا، فما هو إلا أن ينظر في كتب أبى حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين، حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال، وبالحرى ألا يمر عليه من الأيام  إلا اليسير، حتى يصير حاكمًا على مصر من الأمصار أو بلد من البلدان).

وحظى الفقهاء في كثير من العهود بالتبجيل والتكريم، وعلى سبيل المثال كان الإمام مالك موضع تقدير الخليفة  هارون الرشيد، وموضع ثقته، وكان شديد الإعجاب بكتابه الموطأ متفهمًا لمناحيه المختلفة ، مدركًا لكل ما يقوله الإمام(2)  .

وكذلك الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة، وخليفته ، نال الكثير من الاحترام والتبجيل والحظوة، وتولى منصب القضاء لثلاثة من خلفاء بني العباس، وهم المهدى، والهادي، والرشيد، ونظرة إلى مقدمة كتابه الخراج، تظهرنا على تلك المكانة الرائعة التى جعلته يخاطب أقوى ملوك ذلك الزمان، هارون الرشيد؛ حيث يذكره بالله وجبروته ، ويحثه على العدل بالرعية، والرشيد يستجيب لتلك النصائح المستمدة من الكتاب والسنة، ويكتب إلى عماله باتباعها، والاستعانة بالفقهاء في كل ما يستغلق عليهم(1) .

ورغم ذلك، لم يسلم المشاهير من الفقهاء من أذى الحكام لوقوفهم ضد رغباتهم في كثير من الأحيان، ومن الفقهاء الذين لحق بهم أذاهم سعيد بن  المسيب، وسعيد بن جبير، لرفض الأول البيعة لولدى سلمان بن عبد الملك ، وإعانة الثاني لبعض الخارجين على الحكم.

كذلك لم يسلم الإمام أبو حنيفة  من تعذيب بعض الخلفاء بسبب رفضه تولى منصب القضاء؛ نظرًا لما عليه الدولة من الظلم المبين، ومات بسجنه .

والإمام مالك تعرض للتعذيب بسبب فتواه في بيعة العباسيين .

وكذلك تعرض الإمام أحمد بن حنبل لمحنة قاسية بسبب موقفه من قضية خلق القرآن، وعذب كثيرًا من جراء ذلك في أكثر من عهد، إلى أن رفعت المحنة (2)  .

كذلك فلما كان من المعروف أن حركة التعليم إذ بدأت عقب البعثة، كان من الطبيعي أن تكون لحمة هذا التعليم وسداه القرآن الكريم، فهو الحامل للرسالة التى بعث للدعوة إليها رسول الله (ص)، وكان طبيعيًّا كذلك، بعد هذا أن تنشأ علوم وتظهر دراسات وفروع تدور حول هذا الكتاب السماوى فهمًا وشرحًا واستنباطًا وبيانًا لما جاء فيه من عقائد وأحكام ومعاملات. ولما كان (الفقه) يدور حول استنباط الأحكام من القرآن والسنة، شهدنا ارتباطًا وثيقًا بين المجالين: التربوي والفقهي .

وإذا كانت المدارس الفقهية قد شهدت كتابات تربوية متخصصة على أيدي علماء فقه، فلابد أن نضيف إلى ذلك جملة الأعمال الفقهية، في مختلف المذاهب على وجه التقريب حيث إنها حملت عددًا من المبادئ تشكل دعمًا وترسيخًا لتربية إسلامية سوية بالنسبة للدين وبالنسبة للدنيا، أجملها (مدكور) في نقاط ينورها فيما يلي(3) :

_ مبدأ التخاطب مع العقل، فالتشريع الإسلامي جعل العقول مناط التكليف، وخصوصًا فيما يتعلق بأمور الدنيا، وبمعرفة الخالق. ولما كان العلم دعامة تزيد العقل نورًا، دعا إليه وحث الناس على التزود منه.

_ مبدأ إحاطة العقيدة بالأخلاق الفاضلة المهذبة للنفس {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُـــمُ الْجَاهِلُـــونَ قَالُـوا سَلاَمًا} (الفرقان:63) .

_ مبدأ جعل التكاليف الشرعية لإصلاح الروح وتطهيرها، وليس لإرهاق البدن وتسخيره {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } (المائدة:6).

_ مبدأ التآخي بين الدين والدنيا في التشريع، فقد جاءت أحكامه بأمور الدين والدنيا في التشريع، ودعا إليهما {وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْـــسَ نَصِيبَـــكَ مِنَ الدُّنْيَـــــا} (القصص:77) .

_ مبدأ المساواة والعدالة، فقد ساوى بين الناس جميعًا دون تفريق بين الأجناس والأفراد والأشخاص {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات:13) .

_ مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مبدأ كلي شامل يصلح بمفرده لأن يكون دستورًا للإصلاح الاجتماعي .

_ مبدأ الشورى، فقد جعلت الشورى أساس الحكم في الإسلام .

_ مبدأ التسامح {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} (الممتحنة:8) .

_ مبدأ الحرية، وقد نادى الإسلام بالمحافظة على حرية الأفراد دون مساس بالمصلحة العامة، سواء فيما يتعلق بالعقائد {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ، أم كان في الرأي(1) .

_ مبدأ التكافل الاجتماعي، فجعل الزكاة حقًّا للفقير في مال الغني وليست تفضلاً وامتنانًا ، فلا تعاظم ولا استجداء  لها، بل وكفل الإسلام نفقة الفقير العاجز عن الكسب وجعلها في بيت مال المسلمين دون نظر لديانة الفقير.

إن مثل هذه المبادئ والقواعد المنظمة، من شأنها أن تعمل على توفير (بنية أساسية) عندما يعيش التعليم في كنفها، فإنها توفر له قواعد للعمل، وأسسًا للتنظيم ، وهذا كله من شأنه أن يرفع من كفاية التعليم وكفاءته إلى حد كبير .

وشهد سوق الثقافة الإسلامية عددًا وفيرًا من الكتابات التربوية المتخصصة التى دونها بعض الفقهاء، فضلاً عما جاء متناثرًا في عدد كبير من الكتابات الفقهية المتخصصة، بحكم وقوع بعض القضايا التربوية في عداد المسائل الفقهية، وخاصة ما يتعلق بالولاية على النفس، وتربية الأولاد وحقوقهم، ومدى سلطة الآباء عليهم وحضانتهم .

ونسوق فيما يلي نماذج من الكتابات التربوية كتبها فقهاء ومحدثون، من غير أتباع المدرسة المالكية، حيث سيختصون بحديث منفرد مطول وفقًا لوظيفة الدراسة الحالية:

_ كتاب ( أدب الإملاء والاستملاء) لعبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني المروزي المولود سنة 506هـ، ونسبته إلى سمعان، وسمعان بطن من تميـم، والمروزي لأن ولادتــه ووفاتــــه (562هـ ) كانت في مرو (1)، وهو فقيه شافعي.

والكتاب نشره مكس ويس ويلر Max Weis Weiler، ليدن، بريل 1952، وأعيد نشره في بيروت سنة 1984 ، وهو مجموعة من الآداب (أي تحديد) الشروط والآداب وطرائق العمل والأدوار الموجهة لكل من المعلم والمتعلم، وهي وإن كانت منصبة على طالب الحديث النبوي، وعلى مدرس الحديث (المحدث) ، فإنها في معظمها قابلة للتعميم .

_ كتاب (تعليم المتعلم طرق التعلم) لبرهان الإسلام الزرنوجي المتوفى سنة 591هـ ، وقد طبع الكتاب عدة طبعات في ألمانيا وتونس ومصر وتركيا، ومن الموضوعات التى تناولها: ماهية العلم والفقه وفضله _ النية حال التعلم _ اختيار العلم والأستاذ والشريك والثبات عليه _ تعظيم العلم وأهله _ الجد والمواظبة والهمة _ وقت التحصيل _ الورع في حالة التعلم _ فيما يورث الحفظ وما يورث النسيان(2) .

_ كتاب (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لبدر الدين بن جماعة  الحموي الشافعي، المولود سنة 639هـ بحماة ، ولى القضاء بمصر زمنًا وزاول بها التدريس زمنًا آخر، فضلاً عن تدريسه بدمشق، والكتاب حققه السيد محمد هاشم الندوى، وطبعته دائرة المعارف الهندية سنة 1354هـ، وهو ويقع في خمسة أبواب: الأول في فضل العلم وأهله وشرف العالم ونسله _ الثاني في آداب العالم في نفسه ومع طلبته ودرسه _ الثالث في آداب المتعلم في نفسه ومع شيخه ورفقته ودرسه _ والرابع في مصاحبة الكتب وما يتعلق بها من الآداب _ والخامس في آداب سكنى المدارس للمنتهى والطالب . وقد أعيــدت طباعته في بلدان عدة بعد ذلك(1)  .

_ وكتاب (تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي المتوفى عام 973هـ(2) ، وتناول فيه: قضايا أخلاقيات المهنة – قضية أجور المعلمين بين المنع والجواز – مستويات السلطة التعليمية في عصر ابن حجر – أوضاع الطلاب في المدارس الداخلية – العقوبات التأديبية .

_ كتاب (اللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم) للشيخ زكريا الأنصاري المولود سنة 825 هـ بمصر، ودار معظمه حول أهم العلوم التى ينبغي على المتعلم أن يسعى في طلبها(3) .

_ وكان الخطيب البغدادي الشافعي  المذهب، المولود 392هـ ذا قدم عالية في التأليف التربوي، وإن كان مقصده هو تعلم وتعليم الحديث، لكننا نجد أن كثيرًا مما احتوته كتاباته يؤسس لتربية إسلامية منهجية، من ذلك : اقتضاء العلم العمل _ الجامع لأخلاق الراوي  وآداب السامع _ شرف أصحاب الحديث _ نصيحة  أهل الحديث _ تقييد العلم _ الرحلة في طلب الحديث _ الفقيه والمتفقه(4) .

_ كتاب (الأخلاق والسير في مداواة النفوس) للفقيه الظاهري ابن حزم المتوفى سنة 456هـ ، ويتناول الكتاب: مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق _ العقل والراحة _ العلم _ الأخلاق والسير _ الإخوان والصداقة والنصيحة _ المحبة وأنواعها _ الأخلاق والعادات _ أدواء  الأخلاق الفاسدة ومداواتها _ غرائب أخلاق النفس _ تطلع النفس إلى ما يستر عنها _ حضور مجالس العلم . والكتاب كما هو واضح أقرب إلى الدراسات النفسية والأخلاقية(5) .

_ كتاب ( أدب الطلب) لمحمد بن على الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ باليمن، وهو يشدد على خطورة التقليد والتعصب، ويشرح أسبابهما، ويبين مراتب متعددة لطلبة العلم؛ ليؤكد على ما يجب أن يدرسه الطالب في كل مرتبة، ويوجه سهام النقد إلى بعض الفقهاء الذين ينقدون غيرهم من غير اطلاع على ما كتبوه، فضلاً عن تنديده للذين يتخذون من الفقه واجهة يسعون من خلالها إلى أغراض دنيوية بحتة(1) .

ولعل ما حتم أن يكون للفقه وللفقهاء إسهام واضح في حركة التربية والتعليم طوال عصور الحضارة الإسلامية، ما عرف به الفقه من اتساع الأفق الدراسي ، حيث يتناول عادة العديد مما يتصل بعلاقات الإنسان بنفسه، وبربه، وبغيره من الناس، وبالبيئة التى يعيشها، بحيث شملت وتنوعت أحكامه إلى(2) :

_ الأحكام التى تسمى في عصرنا الحاضر الأحوال الشخصية .

_ الأحكام المدنية .

_ الأحكام الجنائية .

_ أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية.

_ الأحكام الدستورية .

_ الأحكام الدولية .

_ الأحكام الاقتصادية والمالية .

_ الأخلاق أو الآداب .

وإذا كانت هذه النوعيات المتعددة من الأحكام قد لا تحمل، من حيث الشكل، بصمات تربوية، باستثناء النوع الأخير، فإننا نلفت النظر إلى أن كثيرًا منها يتصل -بالضرورة- بجوانب تعليمية، ودون الخوض في استطرادات للبرهنة على ذلك، فإن الجوانب الاقتصادية والمالية تتصل بتمويل التعليم وما يمكن أن يقوم به التعليم في التنمية، والجوانب الدستورية لابد أن يكون لها اتصال بقوانين التعليم والتنظيمات المختلفة التى توضع له والعلاقة بين التعليم  والدولة.. وهكذا.

كذلك فإن ما رصده القرضاوي من خصائص للفقه الإسلامي ، يعزز هذا الذي نقوله ويقوله غيرنا، من تلك الخصائص(3) :

_ العالمية ، من حيث إنه لا يخاطب جنسًا دون آخر .

_ الموضوعية ، تلك التى تخلو منها تشريعات أخرى مشهورة .

_ الوسطية، بحيث لا يجنح إلى إفراط أو إلى تفريط .

_ قيامه على أصول وقواعد دقيقة مقننة تضبط طرائق استنباط الأحكام.

_ الإنسانية، من حيث إعلاؤه لقيمة الإنسان ومراعاة فطرته، والأخذ بعين الاعتبار حقوقه وحرياته .

وقد اتهم (عبد الأمير) التربية الفقهية بـأنها تفتقر إلى نسق فكري منظم ومتكامل، أو بناء فكري (فلسفة) كإطار خارجي وضابط لها(1) ، هذا من جانب ، ومن الجانب الآخر كونها تقليدية دينية محافظة؛ مما جعل من الآراء والنظريات التى تداولها المربون الفقهاء لا تخرج عن كونها ترديدًا أو تكرارًا لما قاله السلف، فأخذه الخلف كسنة ونظريات لا يجوز الخروج عنها أو تجاوزها، مما دعا البعض إلى نعتها (بالآدابية) أي أنها عبارة عن منظومة من القواعد المثالية، والمسلكيات الفضلي الموجهة إلى المعلم والمتعلم وولي الأمر، وهذا بدوره جعلها تتميز بالإكثار من النصائح والإرشادات وتكرارها ، فالفكرة الواحدة نفسها تتكرر، ولكن بصياغات وأثواب مختلفة: النظرة للعلم والمتعلم _ آداب المعلم _ علاقة المعلم بالمتعلم، وعلاقة المتعلم بالمعلم (العالم) _ وغيرها من الاصطلاحات التربوية والتعليمية التى لم تخرج عن كونها ترديدًا لما قيل فيها، فكانت إلى الأدب، وإلى الحكمة الشعبية المأخوذة من الخبرة الشخصية والتجربة العلمية الفردية، أقرب منها إلى النظام الفكري التربوي المترابط والمنسق، أو إلى المنهجية العلمية ذات النظرة النافذة المتطورة .

وإذا كان هذا الرأي يحمل جانبًا من الحقيقة، إلا أنه أغفل أمرين :

أولهما ، أن الكثرة الغالبة من الكتابات التربوية حتى وقت قريب، كانت تنهج هذا النهج الذي يميل إلى  أسلوب الوعظ والإرشاد  والنصح؛ ذلك أن التربية لم تكن قد وصلت إلى درجة من النضج تجعل منها علمًا يقوم على أصول وقواعد ونظريات .

ثانيهما ، أن الفقهاء لم يجدوا أنفسهم بحاجة إلى وضع (نظريات) تربوية، فالأسس الفكرية، والقواعد الكلية، والأصول  العقيدية، متوافرة في القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص)، بحيث يصبح الدور المطلوب من الفقهاء هو البحث عن كيفية إنزال هذه الأصول والقواعد والأسس العامة منزلة  التطبيق والتنفيذ .

وفضلاً عن هذا وذاك ، فإن البحث المتعمق في كتابات الفقهاء غير المباشرة في المسألة التربوية يضع أيدينا على عدد غير قليل من التحليلات النظرية والتأملات العقلية المرتبطة بواقع المسلمين.

التأسيس التربوي للمدرسة  المالكية

إذا كان للفقه على وجه العموم، كما عرضنا في الجزء السابق إسهامات ملحوظة في حركة الفكر التربوي الإسلامي، فإن المدرسة المالكية -بصفة خاصة- كانت لها بصماتها التى لا تخطئها عين باحث، وكانت لها ملامحها التى تختص بها يستطيع المراقب أن يلاحظها بقليل من البحث والتأمل، وفي تصورنا فإن حسن بيان ما قامت به المدرسة المالكية في الحقل التربوي يستوجب البدء بمرحلة التأسيس، ووضع اللبنات الأولى على يد المؤسس: الإمام مالك المرجح مولده عام 93 للهجرة، وفي تناولنا لهذا الجزء، لا نقصد أن نتتبع مسيرة حياة، ولا أن نتوقف أمام ما تناوله من مسائل وقضايا فقهية، فذلك يخرجنا من نطاق الدراسة ، وإنما سوف نتوقف أمام ما يكون له من دلالة ومضامين وبذور في التأسيس للمدرسة المالكية التربوية .

وأول ما يمكن أن يلفت انتباهنا ذلك الرحم الأسرى الذي وجد فيه مالك، فما من اتجاه في العلوم التربوية والنفسية إلا ويضع (الأسرة) في المقام الأول من حيث قوة التأثير والقدرة على التشكيل والتربية والتنشئة، وإذا كان كثيرون، في تلك السنوات البعيدة قد نشأوا في بيئة فقيرة ثقافيًّا وعلميًّا فاعتمدوا على أنفسهم في التحصيل المعرفي، فإن مالكًا كان محظوظًا حقًّا إذ اجتمع لديه العزم والإرادة والرغبة والقدرة على التحصيل المعرفي، وفي الوقت نفسه، توافرت له ظروف مواتية تتسم بالإثراء المعرفي .

وعلى سبيل المثال ، فقد كان جد مالك، مالك بن أبي عامر من كبار التابعين وعلمائهم، روى عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أم المؤمنين(1) .

وإذا كان أنس أبو مالك لم يكن مشتغلاً كثيرًا بالحديث، فإن أعمامه كان لهم قدر طيب من هذا .

ثم ، ماذا نقول في المكان الذي نشأ فيه؟ إنه المدينة المنورة، مدينة رسول الله (ص) ، ومقصد هجرته ، وموطن الشرع، وهي المكان الذي شهد تأسيس البنية الأساسية للأمة الإسلامية ودولة       الإسلام، وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، مما لابد أن يكون له أثره في التكوين الشخصي لإمامنا المؤسس .

وهو يبدأ  خطوات تعلمه بتلك الخطوة التأسيسية التى أصبحت معلمًا أساسيًّا قرونًا عدة لكل متعلم مسلم ، حيث الاختلاف إلى (كتاب) يتعلم فيه القرآن الكريم، قراءة وحفظًا، ويحدد الخولي الكتاب بأنه مكتب (علقمة بن أبي علقمة المدني)، كانت أمه (مرجانة) مولاة لعائشة أم المؤمنين، وهو من موالى التيميين، الذين حالفهم جد مالك ووالاهم، وكان مكتبه يعلم فيه أكثر من حفظ القرآن ، إذ كان يعلم  العربية، والنحو، والعروض(1)  .

ثم كان عليه بعد ذلك أن يستجيب لنداء  أمه الواعية التى طلبت منه أن يتهيأ لطلب المرحلة التالية من العلم، استجابة للتوجه التعليمي العام في هذه الفترة بصفة خاصة، ألا وهي الإقبال على تعلم الفقه، بحيث يقر في ذهنه منذ البدايات أن طلب العلم لابد أن يكون لنفع يحصل عليه ويفيء به على آخرين ، وما غير الفقه يمكن أن يجد فيه هذا؟

كان المقصد الذي نصحت به الأم أن يطلب العلم عند ربيعة، تقصد ربيعة الرأي، ليتعلم من أدبه قبل علمه، فكأنها بذلك تضع يدها، منذ البداية على تلك القاعدة التربوية التى لا تبلى أبدًا بمرور القرون، ولن تبلى ما بقيت تربية واستمر تعليم، والتى نعبر عنها بقولنا (الأدب فضلوه على العلم)(2)!! .

لقد كانت المدينة بالفعل مهد العلم حقًّا وصدقًا، فكان بها في زمن مالك من التابعين عدد يجد فيهم مالك الناشئ المعين الذي لا ينضب، والمنهل العذب المستساغ الذي لا شائبة فيه، فكان أن تتلمذ على ابن هرمز عدة سنوات لازمه فيها يأخذ عنه العلم، مع التنبيه إلى أن البعض يخلط بين ابن هرمز هذا (أبو بكر ابن يزيد المتوفى سنة 148هـ) الفقيه، وآخر يحمل الاسم نفسه كان نحويًّا .

لكن أي علم أخذه الإمام من ابن هرمز؟ لو تأملنا عبارة الإمام عن أستاذه فربما وضعنا أيدينا على الإجابة عن هذا السؤال، إجابة ترجيح لا إجابة توكيد، فقد قال عنه : (كان أعلم الناس بالرد على أهل الأهواء وما اختلف فيه الناس)(1) ، فهذه العبارة تفيد أنه كان يتلقى عليه اختلاف الناس في الفتيا والفقه، ويتلقى عنه الرد على أهل الأهواء، ولعل هذا يفسر السبب الذي جعله لا ينشر كل عمله بين الناس، وقد ذكر ذلك، فإن مالكًا كان يقتصر فيما يلقيه على تلاميذه على الحديث، والفتيا في المسائل الفقهية، ولا يعدو هذين  الأمرين .

ويبدو أن عناية ابن هرمز بالرد على الأهواء، وجده في ذلك، على ما قيل، وأنه كان يسد على أهل  الأهواء، إنما كان ذلك كله منه صدى لشعوره الحي بالواجب الاجتماعي وخشيته من خطر تلك الأهواء والبدع على المجتمع الذي يعيش فيه ، ويشعر بواجبه نحوه، ذلك الشعور الحي الذي نرجوه اليوم لكل ذي علم في مجتمعنا، ولا سيما أصحاب العلم الديني، الذين كان ابن هرمز في سلفهم مثلاً صالحًا، وأسوة حسنة حقًّا.

ومن هنا فقد كان لا يحب الجدل فيما أثاره المعتزلة والجبرية والمرجئة والخوارج من أمور تتشابك فيها الآراء وتتحير فيها العقول، وتتنازع فيها الفرق، لا عن جهل بما كانوا يقولون، وإنما عن دراية وعلم؛ لأنه كان متيقنًا  أن مثل هذه المسائل غالبًا ما لا يستطيع المجادل فيها أن يصل إلى قول فصل يأمن له ويطمئن قلبه .

والمبدأ التربوي الذي يتضمنه هذا هو أهمية الأخذ بكل ما يقتضيه التفكير السليم من صرامة المنهج ودقة الأداة، والتحوط والحذر في الحكم، وهو الأمر الذي نشكو منه أشد ما تكون الشكوى، فكثرة الناس تميل إلى القفز على المقدمات لتصل إلى الحكم، لكن ما ورثه مالك عن ابن هرمز: أن يورث جلساءه قول: لا أدرى، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدرى قال: لا أدرى، ومن المشهور ، قول: (من قال لا أدرى فقد أفتى) .

بل إننا نفتقد مثل هذه الدقة المنهجية في حياتنا التعليمية إلى يومنا هذا ، فالتلاميذ كثيرًا ما يتساءلون، ويتطرقون من موضوع إلى آخر، وأحيانًا ما يوجهون أسئلة إلى معلمهم (خارج المقرر) أو المساق، وهنا ينسى معلمون هذا المبدأ العظيم، ويسارعون بالإجابة حيث لا يعلمون؛ لأنهم ينطلقون من موقف يتصورون فيه أنهم وحدهم سلطة المعرفة ومصدرها، ويتصور الواحد منهم أن عدم  الإجابة أمر  يشينه أمام تلاميذه!! .

ثم نجد أنفسنا أمام آية نادرة حقًّا في أدب طالب العلم، وصبره على مشاق الطلب وحرصه عليه ودأبه، مهما كلفه هذا من جهد وعرق ونصب، فلنستمع إليه يقول عن موقف طلبه المعرفة النبوية على يد نافع مولى ابن عمر بن الخطاب: ( كنت آتى نافعًا نصف النهار، وما تظلنى الشجرة من الشمس أتحين خروجه ، فإذا  خرج أدعه ساعة، كأنى لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه، وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا، فيجيبني ، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدة)(1) .

وهكذا ، في تلك البلاد شديدة الحرارة، يخرج ظهرًا حيث تبلغ الحرارة ذروتها، إلى منزل نافع، وهو في البقيع خارج المدينة يترقب خروجه من منزله، ثم يصحبه إلى المسجد، حتى إذا استقر نافع واطمأن ألقى عليه أسئلة في الحديث والفقه، فأخذ عنه حديثًا كثيرًا ، وتلقى عليه فتاوى ابن عمر، وابن عمر هو من هو في فقه الأثر، والتخريج عليه، واستنباط الأحكام على ضوء الحديث النبوي الشريف .

ولأن الكدح العلمي ليس حالاً عارضًا، وإنما هو (طبع) و(سجية) نرى مواقف مماثلة، كلها تشير إلى مدى حرصه على طلب الحديث، فقد كان حريصًا على تلقى الأحاديث من ابن شهاب الزهري (توفي سنة 123 هـ على وجه التقريب) فيصل إلى بيته أيًّا كانت حالة حرارة الجو، وهو لا يريد إزعاجه، فيظل منتظرًا خروجه، يروى في ذلك : (شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلي، حتى جلست علي بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من الباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك، قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك! قلت: لا ، قال : هل أكلت؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد ؟ قلت: تحدثني ، قال لي: هات، فأخرجت ألواحي ، فحدثني بأربعين حديثًا ، فقلت: زدني ، قال: حسبك ، إن كنت رويت هذه الأحاديث ، فأنت من الحفاظ ، قلت: قد رويتها، فأخذ الألواح من يدى، ثم قال: حدث ، فحدثته بها فردها إلى، وقال: قم، فأنت من أوعية العلم)(1)!.

وقد رسخت هذه المواقف التعليمية، والدروس التربوية في مالك، مهارة التحرى الدقيق، ونقد الرجال ، ومن هنا لم نكن نجده يأخذ الحديث عن كل من يحمله، وإنما كان يأخذه من الثقات العدول الضابطين، العارفين لما يحدثون به، المرضيين عنده علمًا ودينًا، حتى صار عند أئمة الحديث والجرح والتعديل  ميزانًا فيمن روى عنه من الرجال، وفيما روى من الأحاديث، فمن ذلك(2):

قول عبد الرحمن بن مهدي: (ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحدًا)، وقال أيضًا: (ما بقي على وجه الأرض أحد آمن على حديث رسول الله من مالك بن أنس) .

وقول الإمام الشافعي: (إذا جاء الحديث عن مالك فاشدد يديك به ) .

وابن عيينة إذ يقول : (كان مالك ينتقى الرجال ولا يحدث عن كل أحد).

ومما يتصل بهذا أن مالك عود نفسه أن يكون مقلاًّ من الحديث عن رسول الله (ص) في المجلس الواحد، بحيث لا يستحب الإكثار منه ، ولم يقتصر على إلزام نفسه بذلك، بل كان حريصًا على أن يربي تلاميذه على العادة نفسها، وما كان ذلك ليكون إلا لعوامل تتصل بنهجه التعليمي والتربوي، منها أنه كان يتخوف من الوقوع في الخطأ عند الإكثار من الحديث عن رسول الله، فقد روى عنه ابن وهب أنه قال: إذا كثر الكلام كان فيه الخطأ ، وإذا أصيب الجواب قل الخطاب ، وقال ابن وهب أيضًا: قال لي مالك: إنه لم يكن يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إمامًا أبدًا. ومنها رغبته في أن يتعلم السامعون منه القليل ويتفقهوا فيه؛ لأن الكثير ينسى بعضه بعضًا(3) .

وقد تنبه عدد غير قليل من المربين في العصور الإسلامية إلى هذا المبدأ، فشددوا على ضرورة ألا ينتقل المتعلم من موضوع إلى غيره إلا بعد أن يتأكد أنه قد أصبح مالكًا زمامه بإتقانه واستيعابه والإحاطة الواعية المتعمقة له، ووضح هذا لدى ابن خلدون بصفة خاصة(1) ، وابن خلدون -كما هو معروف- من علماء المغرب العربي حيث كان المناخ في مجمله مشبعًا بالمذهب المالكي .

وعندما نتأمل ما عرضنا له من أمثلة لمواقف تعليمية مرت بالإمام مالك، فإننا نستطيع أن نستنبط ، بالإضافة إلى ما سبق أن أشرنا إليه(2) :

1_ أن العلم في هذه الفترة كان يؤخذ بالتلقي المباشر من ينابيعه الممثلة في كبار العلماء، وليس عن طريق القراءة في كتب مسطورة، والتلقي المباشر من أفواه العلماء طريق في التعلم يقف موقف الصدارة في طرق التعلم وأساليبه، ففيه التفاعل بين المعلم والتلميذ، وفيه الاتصال المباشر، وما يضيفه هذا من حيوية وحميمية ، وفرصة للمراجعة المتصلة للتصويب والتصحيح، وفيه هذه الأبعاد الإنسانية مما يسرى من مشاعر وعواطف لا ترى، لكن لها دورها في تعزيز موضوع التعلم .

2_ أنها تشير إلى أن العلماء قد باشروا في تدوين العلم، بعد أن كان المتعلمون يعتمدون فقط على الذاكرة بحكم طبيعة البيئة والثقافة والمجتمع في شبه الجزيرة العربية، والتدوين خطوة جبارة على طريق التعلم والتعليم، والمعرفة على وجه العموم، بل إننا لنذكر القارئ بأن التاريخ إنما يبدأ بدقة أكثر عند بدء التدوين والكتابة، حيث يمكن الضبط وأن يراه أكثر من واحد فيكون الحكم أقرب ما يكون إلى الموضوعية.

3_ أن مالكا كان دءوبًا على طلب العلم، فقد صرف نفسه إليه في جد ونشاط وصبر لا تمنعه شدة الحر والجو اللافح من أن يخرج من منزله ، ويترقب أوقات خروج العلماء من منازلهم إلى المسجد ، ولا تمنعه حدة بعضهم من أن يأخذ عنهم ويتحمل غلظة اللوم أحيانًا ويتجنب بهدوئه وكياسته ورفقه أن يثير حدتهم بقدر المستطاع .

وعن طريق غير مباشر، وضع مالك أسسًا مهمة للمعلم في موقف التعليم، فالبعض يتصور أن المسألة المهمة هي المادة العلمية التى يتحدث فيها المعلم، وهي كذلك الطريقة التى ينقل بها ما يعلمه إلى التلاميذ، لكن ما لا يقل عن ذلك أهمية، (هيئة المعلم) ، فالمعلم تتعلق به أبصار العديد من طلاب العلم، ومن هنا يجب أن تقع أعينهم على هيئة نظيفة مقبولة على قدر معقول من حسن المنظر، فتلك مسائل ليست شكلية هامشية كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، وإنما لها دورها في عملية (التهيؤ) للتعليم وحسن تقبل ما يلقيه المعلم .

كذلك فإن المعلم أمام أنظار المتعلمين نموذج ومثل أعلى، ولا يتفق مع هذا أن يكون المعلم على غير وقار وسكينة وجدية ، ونحن إذ نشدد على هذا وننبه عليه نسجل وعينا بأن هناك فرقًا بين الجدية والوقار والسكينة وبين الشخصية التى تألف العبوس والجهامة على الوجه، ومظاهر الجفاء، والتعامل مع الآخرين من منطلق التعالي والأنفة .

فمن ذلك ما حدثوا عن إظهار مالك التجمل بعامة، وأنه _ على سبيل المثال _ كان إذا أصبح لبس ثيابه وتعمم، ولا يراه أحد من أهله ولا من أصدقائه إلا متعممًا، لابسًا ثيابه، وما رآه أحد أكل وشرب حيث يراه الناس.. هذا مع أن مألوف الناس عادة أن يتخففوا في بيوتهم(1) .

وحدثوا كذلك عن إيثاره السكون، وقلة الحركة، حتى بالمشي، ولعل هذا يكون راجعًا إلى ما كان عليه من ميل إلى العزلة ، وتحاشي مخالطة الناس إلا بقدر ما هو ضروري، ومن هنا يجيء قوله ذي المغزى: (ينبغي للعالم ألا يتولى شراء حوائجه من السوق بنفسه، وإن كان يقع عليه في ذلك نقص في ماله، فإن العامة لا يعرفون قدره) وقال بالفعل : (حق على طالب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة) ، وقال كذلك: (من علم أن قوله من عمله قل كلامه)(2) .

ويضع الإمام مالك بعضًا من أسس التعلم والتعليم، وكأنها دستور التربية الإسلامية في صورتها التنفيذية لما رسمه القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص) ..

فمن ذلك مثلاً، ضرورة التريث في طلب العلم، لا بمعنى التباطؤ، ولكن بمعنى التأنى والحرص، والبعد عن العجلة في التحصيل، ومن هنا يجيء قول أحد تلاميذه: (عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يومًا، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يومًا؟ ما أقل ما تفقهون ؟!!(1) .

ومثل هذا النص ينبغي أن يقرأ بمزيد من العمق والفهم، إذ من الطبيعي ألا يستغرق المتعلم في استيعاب كتاب المدة التى استغرقها مؤلفه، فقد يستغرق المؤلف بالفعل سنوات طويلة، لكن دراسة كتاب يمكن أن تتم خلال فترة أقل من هذه الفترة، ومن ثم يكون النص مقصود به دلالة معينة، ألا وهي البعد عن العجلة في التحصيل، ولا يمكن أن يعنى بأي حال من الأحوال أن كتابًا استغرق تأليفه أربعين سنة لا يجوز تعلمه في أقل من ذلك!

وعن حرية الاجتهاد في العلم يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة  فخذوا به، وما خالف فاتركوه)(2) .

وعن أهمية اختيار المعلم المناسب القادر على حسن التعليم، روي عنه قوله : (لا يؤخذ العلم من سفيه، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا يؤخذ من كذاب يكذب  في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله (ص)، ولا يؤخذ من شيخ له فضل صلاح وعبادة، إذا كان لا يعرف ما يحدث)(3) .

ولأهمية هذه القضية، تتعدد الأقوال المنسوبة إلى مالك، فنجد أيضًا أنه سئل: (أيؤخذ العلم عمن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقال: لا، قيل له: (أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ، ولا يفهم ما يحدث؟ قال: لا يكتب العلم إلا ممن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الشيوخ، وعرف وعمل، ويكون معه ورع)(4) .

وتأمل مسيرة مالك العلمية تؤكد لنا أن طالب المعرفة لا يمكن أن يحد نفسه بفترة زمنية بعينها، وإنما هو ساع وراءها طالما ظلت أنفاسه تتردد وقلبه يخفق، وهو ما نسميه بمصطلح العصر الحاضر (التربية أو التعليم المستمر).

ومن هنا فإن مالكًا، بعد أن تخرج على العلماء لم يتوقف علمه عند هذا، بل سعى إلى تنميته وتطويره عن طريق الاتصال المستمر بعلماء عصره، سواء أكانوا فقهاء أم كانوا غير فقهاء، وكان ذلك عن طرق ثلاث(1):

الأول: اتصاله بالعلماء في موسم الحج ومناظراته وأخذه منهم، ومناقشاته معهم، وفي أوقات زيارة المدينة، فهو، على سبيل المثال ، يلتقى بأبي حنيفة ويتناظران في مناظرة علمية بريئة، ويقول فيه: إنه لفقيه، ويقول الآخر فيه مثل ذلك، ويلتقى بالليث بن سعد، وبالأوزاعي ، وبأبى يوسف، ومحمد، وغيرهم، وهو في كل المقابلات يأخذ ويعطي .

الثاني: مجلسه العلمي الذي كان يلتقى فيه بالنابهين من العلماء المقيمين بالمدينة، سواء كانوا من أهلها أم من الوافدين عليها، واتخذوها مقامًا طلبًا للعلم والتثبت فيه، وكان هؤلاء يخصون مالكًا بالطلب، ومن ثم فنحن نرجح أنه كان يتحادث معهم فيما عندهم من الفقه، وقد لازمه محمد بن الحسن ثلاث سنوات، ومحمد راوية الفقه العراقي، ونحن نعلم شغف مالك بمعرفة آراء أبى حنيفة ومن في مستواه من حيث التقوى والفقه، ومن ثم فغالبًا أن نجد مالكًا يخص محمدًا بالتعرف على ما لديه مما ورثه من علم أبي حنيفة وأصحابه ومن سبقه من فقهاء العراق(2) .

الثالث: الاتصال بالعلماء عن طريق المراسلة، ومما يشير إلى ذلك رسالته إلى الليث بن سعـــــد ورسالة ابن سعد إليه(3).

نظرات تربوية على الطريق

لا تتوقف قيمة المفكر والعالم على مقدار ونوع ما كتب وفكر فيه وإنما فيما يتركه من بصمات على مسيرة الفكر والعلم، وتبلغ الذروة حقًّا بأن يكون له امتداد بشري عبر العصور المختلفة، لا عن طريق التناسل البيولوجي المعروف من خلال أولاده وأحفاده وهلم جرا، وإنما عن طريق التناسل الفكري والعلمي إن صح هذا التشبيه، من خلال فئة من الأتباع والتلاميذ والمريدين يحملون راية فكره إلى من بعدهم، وهؤلاء إلى من بعدهم .. وهكذا .

وتلك الميزة لا تتوافر إلا في هذا النفر الفذ حقًّا من أئمة الفقه الإسلامي وفي مقدمتهم الإمام مالك ..

لقد كتب كثيرون وفكروا من أقدم العصور حتى العصر الحديث، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم روسو وكانت وهيجل ، ثم هربرت ورسل وغيرهم، ولم يبق منهم إلا كتاباتهم، لكنهم (انقطعوا) من حيث الأتباع والمريدين إلا ما ندر.

ولكننا لو نظرنا إلى الحالة الخاصة بمالك سوف نجد تلاميذ وروادًا ومريدين دائمي النهل من معين فكره واجتهاده، في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي ، وعبر مختلف العصور.

ونحن إذ نتوقف أمام بعض الأمثلة والنماذج ، فسبيلنا الدائم، هو هذه الأبعاد والمضامين التربوية، فهي ساحتنا التى نرتادها ..

وقد بدأ انتشار المذهب المالكي بالعراق بالبصرة على يد بعض أصحاب الإمام مالك من أئمة الطبقة الوسطى ممن رووا عنه الحديث وتفقهوا به، ومن هؤلاء الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري المتوفى سنة 198هـ ، ومنهم  عبد الله بن مسلمة بن قعنب المتوفى سنة 221هـ ، ثم جاءت طبقة  بعد هؤلاء من أتباعهم، مثل أحمد بن المعذل(1) ، وتوالى التلاميذ والمريدون، كل ينهل من فيض مالك ويجوده، وقد يضفى عليه شروحًا وتعليقات تبعث كثيرًا من الضوء، ويجتذب العديد من التلاميذ ، فيزداد الانتشار عن طريق حلقات تعليمية تعقد في منازلهم أو في المساجد، ومن خلال المراسلات والمقابلات والمناظرات والمنتديات العلمية المختلفة .

وانتشر المذهب في مصر وخاصة على يد عبد الله بن وهب، الذي لازم مالكًا ما يقرب من عشرين سنة ، وإن كان لم يقتصر في تعلمه على الإمام مالك فقط، لكنه كان يكثر من الحديث، وفيما يبدو فإن كثرة أخذه عن العلماء أوقعته في الرواية عن بعض الضعفاء، لكن من حسن الحظ أنه أدرك هذا في نفسه، وكان مالك هو منقذه، بالإضافة إلى الليث بن سعد، وفي ذلك روى عنه قوله: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: (أكثرت من الحديث، فحيرني ، فكنت أعرض ذلك على مالك والليث، فيقولان : خذ هذا ودع هذا)(1) ، وبهذا يتبين لنا قيمة هذا النهج الذي أرساه مالك من حيث ضرورة التريث والتمهل في السماع والاستيعاب، والتدقيق في قبول ما نسمع وما نقرأ ، والسعى إلى التثبت من كل هذا خوف الوقوع في الخطأ .

وهناك أسد بن الفرات بن سنان، والذي كان له دور كبير في إذاعة المذهب المالكي في أرجاء المغرب، والقيام بهذا فريضة دينية وضرورة تربوية، فمن حيث هو فريضة دينية، أن الله ورسوله يأمرانا دائمًا بأن نذيع ما حصلناه من المعرفة إلى من هو بحاجة إليها حتى يعم نور الحق بين الناس، وأما أنه ضرورة تربوية، فمن حيث السعى لنفع أكبر عدد من الناس بما حصلناه ، فمن حقهم هذا ، وخاصة هؤلاء الذين يعيشون في أنحاء بعيدة عن ينابع المعرفة والعلم .

وأبرز ما يستوقفنا هنا أن تلقى ابن الفرات لم يكن تلقيًّا سلبيًّا، وكأن مثله مثل جهاز الاستقبال، فقد كانت قراءته لما في كتب الإمام محمد بن الحسن في العراق، مثلاً، وما فيها من الفروض والمسائل وحلولها، حافزًا له لأن يبحث عن مثل هذه الحلول على وفق مذهب الإمام مالك ليجتمع بين يديه حكم المذهب في تلك المسائل(2) .

ولابن خلدون رأي في انتشار المذهب المالكي في بلاد المغرب، جاء فيه(3) :

(وأما مالك رحمه الله تعالى ، فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبًا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة وشيخهم يومئذ، وإمامهم مالك وشيوخه من قبله، وتلميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس، وقلدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته، وأيضًا فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون  الحضارة التى لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، كما وقع في غيره من المذاهب . ولما صار مذهب كل إمام علمًا مخصوصًا عند أهل مذهبه، ولم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس، فاحتاجوا إلى تنظير المسائل في الإلحاق وتفريعها عند الاشتباه بعد الاستناد إلى الأصول المقررة من مذهب إمامهم، وصار يحتاج إلى ملكة راسخة يقتدرون بها على ذلك النوع من التنظير، أو التفرقة، واتباع مذهب إمامهم فيها ما استطاعوا ، وهذه الملكة هي علم الفقه).

والحق أنه مع التسليم بداية بعبقرية ابن خلدون وسداد رأيه في كثير من المسائل التى تضمنتها مقدمته، إلا أن الصواب قد خانه بعض الشيء في بعض تفسيراته هنا، فأهل الحجاز، وبعد ما يقرب من قرن من الزمان يصعب تقبل الرأي بأنهم كانوا أميل للبداوة، وكيف يستقيم ذلك وهو يقول في النص نفسه: إن المدينة كانت (دار العلم)؟ وكيف انتقل المذهب المالكي إلى العراق من المدينة، إذا كانت الأولى بيئة حضارة، والحجاز بيئة بداوة؟ وكيف تأتى للمذهب المالكي أيضًا أن يعرف طريقه إلى مصر، وهي أرض حضارة لا بداوة؟!

ولسنا في مقام أن نبرهن على خطأ تحليل ابن خلدون في ضعف قدرة أهل المغرب على الاجتهاد والقياس، وقلة جهدهم في التنظير والتجديد في المسائل الفقهية، إذ لا ندعى علمًا كافيًا في هذا الشأن، ولكننا ، وبالنسبة إلى الجهد الفكري التربوي، نرى اجتهادات واضحة سوف نعرض لها في حينها، ويكفى أن نشير فقط إلى واحدة من أكثر الأفكار الاجتهادية عبقرية وتجديدًا، تلك التى ناقشها الفقيه المالكي المغربي القابسي، والخاصة بقضية الإلزام في التعليم .

وإلى جانب الفقهاء المربين من المنتمين للمدرسة المالكية في بلاد المغرب، نشير إلى ابن عفيف(1) ، أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيف بن مريول ابن حاتم بن عبد الله الأموى ( 348 _ 420هـ) ، فهو لم يكتف بالعناية بالفقه، وإنما برز كذلك في علوم أخرى آخذًا منها بنصيب وافر، ومال إلى الزهد ومطالعة الأثر والوعظ، فكان يعظ الناس بمسجده بحوانيت الريحاني بقرطبة ويعلم القرآن فيه، وكان يقصده أهل الصلاح والتوبة ويلوذون به ، فيعظهم ويذكرهم، ويخوفهم العقاب ويدلهم على الخير، وكان رقيق القلب، غزير الدمع، حسن المجادلة، مليح المؤانسة، جميل الأخلاق، حسن اللقاء، وما يلفت نظرنا الإشارة إلى أنه جمع كتابًا حسنًا في (آداب المعلمين، أو المتعلمين)، وهو في خمسة أجزاء لم نسعد بالاطلاع عليها.

وكان أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد (450 _ 520هـ) _ جد الفيلسوف المعروف _ أنبه فقهاء المالكية ذكرًا في عصره، وقد تولى قضاء الجماعة في قرطبة، إذ كان فقيهًا عالمًا حافظًا للفقه مقدمًا فيه على جميع أهل عصره ، عارفًا بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه ، بصيرًا بأقوالهم واتفاقهم واختلافهم، نافذًا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم، مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن  والهدى الصالح، وكان صاحب الصلاة في مسجدها الجامع(1) .

وبقراءة عناوين عدد من الكتب التى صنفها بعض الفقهاء المالكية، في بلاد المغرب الإسلامي الذي نقتصر على دراسته، يمكن لنا أن نلمس طابعها (التعليمي) ، صحيح أن كل كتاب هو للتعليم ونشر العلم بين طلاب المعرفة، لكن أمثلة لكتابات فقيه مثل محمد بن أحمد بن حرب المتوفى سنة 741هـ تؤكد لنا ما نقول، فقد كان معنيًّا بأصول الدين والفقه، علاوة على تحققه بالعربية والأدب ، وله مؤلفــــات مثل: (كتاب الأنوار السنية في الكلمات السُّنية) ، و(كتاب في تهذيب صحيح مسلم) ، و(كتاب الدعوات ) في مجلدين، و(كتاب الفوائد الفقهية في مذاهب المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية) في ثلاثة مجلدات، و(كتاب في القراءة نافع وغير نافع) ، و(المختصر في لحن العامة) … الخ(2) .

ونجد لأحد الفقهاء موقفًا مذهلاً حقًّا في شدة الحرص على مقام المجالس التعليمية، والمحافظة على كرامة العلماء، أمام أصحاب السلطة والنفوذ هو من أكثر الدروس التربوية عمقًا ودلالة، فقد روى الفقيه أبو القاسم بن مفرج(1) :

(كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم _ رحمه الله تعالى _ فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية، فإنى لعنده بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبى عثمان، الذي كان يصلي به قرب داره، بجوفى قصر قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصى من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين أبقاه الله ، فإن الأمر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله .. الله!

(فقال له: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة ، فارجع إليه، وعرفه، وفقه الله عنى، أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى، مع طلاب العلم، أسمعهم حديث ابن عمه رسول الله (ص) ، فهم يقيدونه عنى، وليس يمكننى ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته ، فذلك أوكد من مسيرى إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليَّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله، الساعين لمرضاته، مشيت إليه إن شاء الله تعالى، ثم أقبل على شأنه ….) !!

ومن الملاحظ أن بعض فقهاء المالكية بالمغرب لم يقتصروا على التعليم الفقهي، وإنما امتدت ساحة التعليم لديهم إلى آفاق معرفية أخرى، وخاصة في مجالات الأدب واللغة والتاريخ، وكذلك امتدت ساحة  التعليم لديهم بما استطاعت أن تصل بهم إليه ظروفهم وجهودهم، فإذا بهم يعلمون في أكثر من موطن، اتساقًا مع ما تميز التعليم الإسلامي في عصور الحضارة الزاهية، فمع ظهور الدول الإقليمية المستقلة، إلا أن هذا لم يمنع عالمًا من أن ينتقل إلى منطقة أخرى طلبًا للعلم، أو سعيًا للتعليم.

فهناك على سبيل المثال أبو حيان الغرناطي، خرج من الأندلس عام 679هـ، واستوطن القاهرة بعد حجه، وأصبح إمام النحاة بالديار المصرية، وشيخ المحدثين بالمدرسة المنصورية، وتولى التفسير بها أيضًا، والإقراء بالجامع الأقمر، انتهت إليه رياسة التبريز في علم العربية واللغة والحديث، وكانت له تصانيف سارت وطارت، وانتشرت وما انتثرت، وقرئت ودريت، ونسخت وما (فسخت) .. وقرأ الناس عليه، وصاروا أئمة أشياخًا في حياته، وهو الذي جسر الناس على مصنفات مالك ورغبهم فيها وفي قراءتها، وشرح لهم غامضها، وخاض بهم لججهـــا ، وفتح لهم مقفلها(1).

وكان علماء الفقه المالكي، في عملية  التعليم، مثل الجمهرة الكبرى من علماء الفقه الإسلامي في مختلف المذاهب، لا يتقيدون بسن معينة في ممارستهم لمهنة  التدريس، إذ لم يكن ثمة قانون يحددها، ولا قاعدة تحكمها ، وكل من يرى في نفسه الكفاءة ليكون أستاذًا يمكن أن يمارس المهنة في الحال، والطلاب وحدهم هم الذين يقررون حظه من الفشل والنجاح، وحتى الطلاب أنفسهم يستطيعون أن يتبادلوا الدروس فيما بينهم، وأن يصبح بعضهم أستاذًا للآخرين. وإذا كان احتراف التدريس لا يتوقف على سن معينة، فهو أيضًا لم يكن يتطلب أية إجازة علمية، وحتى إذا طالب بهذه متشكك أو متردد، فمن السهل تقديمها له ما دام المدرس قد حضر دروس المادة على أي أستاذ؛ لأن الأساتذة هم الذين يمنحون الإجازات لطلابهم عندما ينتهون من دراسة المادة، أو الكتاب المحدد، ولكن العادة جرت بألا يكون للأستاذ حلقة معروفة يتردد عليها طلاب كثيرون إلا عندما ينضج سنًّا، وينال مع الزمن  شهرة مستفيضة، ويتردد اسمه في الأسماع وعلى الألسنة، ويقتنع جيل كامل بفضائله(2) .

فقهاء مربون

ولعلنا بعد كل هذا نستطيع أن نضيق دائرة البحث، لنتوقف أمام عدد من فقهاء المالكية الذين كان لهم إسهام واسع، إما بالكتابة المتخصصة، أو بتضمين بعض كتبهم قضايا تربوية على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لبناء فكر تربوي إسلامي . وقد كنا نود أن يتمحور عملنا من خلال تناول عدد من القضايا التربوية التى تناولها فقهاء المالكية، لكننا وجدنا أن مثل هذا المنحى، على ضرورته وأهميته، يحتاج إلى أن يتحول البحث الحالي إلى (كتاب) ، ومن هنا كان اضطرارنا إلى الاكتفاء بالتمحور حول شخصيات العلماء أنفسهم وكتاباتهم، فلربما ناسب هذا، إبراز مقدار المساهمة، فضلاً عن تيسيره للاختصار الذي يقتضيه موقف الدراسة البحثي في هذا الحيز المحدود:

آداب المعلمين:

هو لمحمد بن سحنون ، المولود بالقيروان سنة 202هـ ، وقد رحل سنة 235هـ إلى المشرق لأداء فريضة الحج وطلب العلم كعادة رجال التعليم والشريعة المغاربة، وقبل سفره نصحه والده الفقيه المالكي الكبير سحنون ، قائلاً : ( إنك تقدم على بلدان _ سماها _ إلى أن تقدم إلى مكة فاجتهد جهدك، فإن وجدت عند أحد من هذه البلدان مسألة خرجت من دماغ مالك بن أنس، وليس هي عند شيخك _ يعني نفسه _ فاعلــم أن شيخك كان مفرطًا)(1)!!

وفي رحلته هذه صحبه رجل يعرف بأبي الفضل بن حميد، وكان يسمع منه الفقه وعلم الكلام، ولم يكن ماهرًا في علم الجدل. ومما يذكر أنه قد خرج قبل هذه المرة إلى الحج، فمر بمصر ودخل ذات يوم حمامًا كان يديره رجل يهودي، فلما خرج من الحمام، أقبل يناظر ذلك اليهودي الذي غلبه لقلة معرفته، وحذقه لعلم الجدل والمناظرة، فرجع إلى القيروان، بعدما حج وفي قلبه حسرة، حيث لم يكن لديه من المهارة ما يمكنه من دحض ما كان يقوله اليهودي في مناظرته، وهاب أن يحكي لابن سحنون ما حدث!!

فلما شرع محمد بن سحنون في الحج مرة أخرى ، ألح أبو الفضل أن يصحبه مرة أخرى، ولما مرا بمصر رغّب أبو الفضل ابنَ سحنون في دخول الحمام، وتعمد أن يشعل فتيل المناظرة مع اليهودي قبل أن يخرج ابن سحنون، فلمس مدى ضعف صاحبه، فكان أن ألقى بثقله، واستمرت المناظرة وقتًا طويلاً، ظهر فيها ابن سحنون على اليهودي بالحجة الدامغة ،  والبرهان الساطع، فما كان من اليهودي إلا أن استسلم قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله(2) .

ويعتبر كتاب آداب المعلمين، مما دون محمد بن سحنون عن أبيه، من الكتب الرائدة في التربية والتعليم ، بل هو أقدم كتاب في هذا الميدان في حدود علمنا، وقد ألفت رسائل وكتب عديدة في التربية الإسلامية، وهي، على أهميتها، متأخرة عنه، وكان له فضل السبق عليها(3) .

ويرجع الفضل إلى الأستاذ حسن حسنى عبد الوهاب في نشر هذه الرسالة، ثم أتاح الأهواني فرصة الاطلاع عليها بنشر نصها كملحق لدراسته عن رسالة القابسي .

أما المسائل التى تناولها ابن سحنون في كتابه فهي :

_ ما جاء في تعليم القرآن العزيز.

_ ما جاء في العدل بين الصبيان .

_ باب ما يكره محوه من ذكر الله…

_ ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز.

_ ما جاء في الختم، وما يجب في ذلك للمعلم .

_ ما جاء في القضاء بعطية العيد .

_ ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان .

_ ما جاء في إجارة المعلم ومتى تجب.

_ ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها .

ولعل من القضايا البارزة التى تناولها ابن سحنون هي ما يتعلق بأمور الهدية والإجارة للمعلم، فبالنسبة للمسألة الأولى نجد أنها قد تحولت في عصرنا الحاضر إلى ما يشبه ( لزوم ما لا يلزم) واتخذ البعض منها سبيلاً للحصول على ما لا يستحق .

وأما بالنسبة للإجارة ، فقد كانت قضية مستحدثة في ذلك، وإن لم تكن موضع جدل في عصرنا الحاضر ، فقد كان التعليم جزءًا أساسيًّا من الدعوة إلى الإسلام التى لم يتصور أحد أن يطلب أجرًا عنها؛ وذلك لأن محور التعليم كان القرآن الكريم وحده، فلما مرت السنون والأعوام واستجد الكثير من المتغيرات، بدأ النقاش حول هذه القضية، وهنا نجد ابن سحنــون يقرر متى تجوز الإجارة (الأجر ، المبلغ المتفق عليه بين الولي والمعلم) كاملة، والإجارة عادة تستحق على الختمة الواحدة، إذ لابد من التأكد أن الصبي بلغ الغرض من قراءة القرآن، فيطرح عليه أسئلة في هذا الموضوع فيجيب عليها حسب ما يقضى الشرع، وبما أشار إليه السلف من الفقهاء ، إنها عملية تقييم لمدى استحقاق المعلم للأجر، وللتحقق من أن المتعلم بلغ القصد من (ختم) القرآن(2).

ومن أبرز ما أظهرته رسالة ابن سحنون هذا التأكيد الواضح لضرورة ((العدل التربوي) بين المتعلمين ، صحيح أنه لم يفصل ما يمكن أن يترتب على التفرقة، وتمييز بعض على آخر، لكن يبدو أن هذا مما لابد أن يعرفه كل إنسان كلف بمهمة التربية والتدريس، ويكفى هنا هذا التعبير المفزع الذي وصف فيه ابن سحنون من ينحرفون عن نهج العدل، إذ اعتبرهم (خونة) ،  والخيانة هنا هي خيانة للعهد، فما دام ولي أمر المتعلم قد عهد إلى المعلم بأن يربي ويعلم ابنه، فإن الانحراف عن العدل من شأنه أن يعيق عملية التربية، وغالبًا ما يأتى بعكس المطلوب منها.

وطلب ابن سحنون من المعلم أن لا يعلم أولاد النصاري مع أولاد المسلمين القرآن ، وربما يحمل هذا ضمنًا جواز تعليم أولاد النصارى مع أولاد المسلمين إذا كان موضوع الدرس غير القرآن.

كذلك أكد على ضرورة الفصل بين الذكور والإناث، وألا يخلط المعلم بين الجوارى والصبيان .

سياسة الصبيان وتدبيرهم:

وهي لعبد الله بن أبي زيد القيرواني، المتوفى عام 369هـ ، ولد بالقيروان سنة 310هـ ، وهي تموج بذخائر المعرفة ومظاهر الحضارة(1) .

وإذا كانت كثرة العلماء نجدهم عادة من غير الميسورين ماديًّا، إلا أن أبا زيد كان على العكس من ذلك فقد منحه الله  بسطة في المال والعلم، ولم نشهد بينهما تخاصمًا في شخصه وفي سلوكه وخاصة مع الناس، وإنما خضع الأول للثاني، فإذا بنا نجده ينفق بسخاء على  طلب العلم، ويجود على طلابه المعسرين.

وكان من مظاهر ارتفاع درجة الوعي التربوي لدى فقيهنا أنه كان يبتدئ دروسه في غالب الأحوال بالاستماع إلى ما قد يعن لطلابه من تساؤلات تتصل بمسائل قد تغمض عليهم، أو مسائل تحتاج إلى حلول وشروح وتحليلات.

ومن عجب حقًّا أن هذه الرسالة موضوع حديثنا، هي أول  تأليفه، حيث كان عمره سبع عشرة سنة، حيث يرجح البعض أن تكون كتابته لها بناء على طلب من الشيخ أبو إسحاق السبائي بهدف تعليم أولاد المسلمين، وكذلك بناء على طلب ابن خالته محرز بن خلف، بحيث تكون الرسالة متضمنة القواعد الأساسية الواجب مراعاتها لتتم  تربية الأبناء وفقًا لشريعة الإسلام ونهجه، ووفقًا للمذهب المالكي(1) .

وحتى نتبين القيمة التربوية لهذه الرسالة ، نتوقف قليلاً أمام ما جاء في مقدمتها(2) :

( … سألتني أن أكتب جملة مختصرة من واجب أمور الديانة بما تنطق به الألسنة، وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح، وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن … وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول  الفقه وفنونه على مذهب  الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين ، لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه …) .

فكأن الرسالة تستهدف تثقيفًا دينيًّا، لا على سبيل التعمق والتبحر، وإنما هي في حدود ما نعرفه عن ما هو معروف بـ (الكتب المدرسية) فهدفها تعليمي بالدرجة الأولى، وما يتصل بالتثقيف الديني من أصول وقواعد لابد من مراعاتها في عملية التعليم .

فإذا ما تساءلنا: لماذا هذه العناية الواضحة لدى الفقهاء المربين بتربية الصغار بصفة خاصة، فإن فقيهنا يجيب على ذلك بقوله، في المقدمة نفسها : (… فإنه روى أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الله، وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر) .

وإذا كان الأطفال مأمورين بالصلاة عند سن السابعة، ثم يضربون على إهمالها في سن العاشرة، فإن هذا يقتضي أن يواكب هذه السن  قدر ميسر من التعليم الديني حتى يكونوا على بينة بالأهداف المقصودة من العبادات الإسلامية .

وهو يؤكد أيضًا في المقدمة ربما أكثر من مرة على ما (تعتقده من الدين قلوبهم، وتعمل به جوارحهم) تطبيقًا  لنهج الإسلام التربوي في الربط الدائم بين ما نعلم وما نعمل.

والجزء الأكبر من الرسالة هو  في أمور دينية عامة، لا تقع مباشرة في الشأن التربوي بمعناه العلمي المتخصص، ولا نستطيع أن نعيب على الرجل هذا، فهذا هو المستوى المعرفي للتربية في تلك الفترة إلى حد كبير، ومن هنا نجد من موضوعات الرسالة كل ما يتعلق بالصلاة والزكاة والحج والعمرة والجهاد والنكاح والبيوع .. إلخ، وربما وجدنا في  الفصل الأربعين مجموعة من الفرائض والسنن الواجبة ، ضمنها مسائل تربوية مباشرة، مثل طلب العلم فريضة عامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبر الوالدين، وبعض الآداب العامة مثل صون اللسان عن الكذب والزور والغيبة والنميمة . ونجد في فصل آخر تناولاً لما يتعلق بآداب الأكل، والقراءة والدعاء والسلام والاستئذان(1) .

العقد الفريد:

وهو لأحمد بن محمد بن عبد ربه، شاعر الأندلــــس ، المتوفى سنة 382هـ(2) .

ويعد العقد من المصادر التى يرجع إليها الباحثون  في تاريخ الإسلام السياسي والاجتماعي والثقافي.

وإذا كان العرب قد أطلقوا علىقصائدهم الطويلة الخالدة من تراث العصر الجاهلي اسم المعلقات، لأنها جديرة بأن تعلق بالقلوب لجودتها، أو لأنها كانت تعلق  بأستار الكعبة ، فإن  ابن عبد ربه المغربي الأندلسي القرطبي  حينما فتح عينيه على أدب المشرق: شعره ونثره، راح يجمع أصدافه، ولآلئه ودرره وجواهره ويصوغها عقدًا فريدًا تتيه به الثقافة العربية الإسلامية(3) .

وصحيح أن الكتاب ليس في التربية، ولكن إذا تذكرنا أن الشعر هو ديوان العرب، وأن الشعر هو جوهر الأدب العربي، أدركنا أن أحد المصادر الأساسية  للكشف عن أخلاقيات العرب والمسلمين وآرائهم فيها، هو تلك الكتب الخاصة بالأدب .

وإذا كان النقص الذي يمكن أن يواجهنا هنا هو أن  ابن عبد ربه يقوم بدور (الراوي) بصفة أساسية، لكن ربما يكمن خلف عملية الاختيار والانتقاء والتصنيف لمحات من نظرات تربوية .

والقارئ الذي يسعى إلى التماس قيم تربوية في كتاب العقد الفريد، فإنه يمكنه القول أن ابن عبد ربه يجمع ما بين معارف فلسفية كلية، ينتظمها منهج تربوي عام، ومعارف علمية جزئية تقف عند حد الاستقراء أو القياس، ويستدل عليها باليقين العلمي المستند إلى القرآن الكريم أولاً، ثم إلى سنة الرسول (ص)، ثم التراث الإسلامي الفكري بمعناه الشامل(1) .

وقد تهيأ لابن عبد ربه أن يمارس دورًا تربويًّا ملحوظًا؛ لأنه مارس مهنة المعلم والمؤدب في مرحلة من مراحل  حياته، فقد كان مربيًّا ومؤدبًا للخليفة الناصر بالأندلس .

ويؤكد محللون أن كتاب العقد إنما صنف من أجل الخليفة الناصر، وكذلك أولاده بعد ذلك، فهو إذًا صورة من صور التربية الخاصة، وهو الأمر الذي اختلف بالنسبة للقابسي.

والعقد الفريد أقرب ما يكون إلى أن يكون سلسلة محاضرات في السياسة والعلم والأدب، وبحكم طبيعته الخاصة وغرضه المحدد، أراد منه ابن عبد ربه أن يرسم للخليفة عددًا من القواعد والقيم الواجب اتباعها  في رعاية شئون الرعية، وأن يجعل ذلك من بين دروس تأديبه(2).

ولعل ما يعزز محتواه  التربوي أن (محمد إبراهيم سليم) قد جمع معظم ما يتصل  بالمسائل التربوية اتصالاً مباشرًا  في موضوعات العقد ونشره واضعًا عناوين من عنده، ومن هنا نجد موضوعات مثل: أدب الله لنبيه _ أدب النبي لأمته _ أدب الحكماء والعلماء، وتضمن القسم الرابع (فضيلة  العلم _  في فضيلة الأدب وحب الولد _ اتخاذ الإخوان وما يجب لهم _ الرفق والأناة _ صفة الحلم _ في التواضع _ في الحياء _ السؤدد _ العقل والهوى _ في التجارب والتأدب بالزمان … ) . وفي أحد أقسامه جمع عددًا من مواعظ ووصايا بعض الأدباء لأبنائهم، مثل لقمان، وأكثم بن صيفي، وخالد بن صفوان، وعمر بن الخطاب، ووصية إعرابي لابنه، وعلي بن الحسين، وعلي بن أبي طالب لابنه الحسن، وبعض الحكماء .

الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين:

وهي للفقيه المربي المغربي المالكي، أبي الحسن القابسي، المتوفى عام 403هـ

وقد اقتصرت الرسالة على ناحية أساسية وهي ما كان يعترض شئون العلم والتعليم ويعيق مسيرته، ويوجد  ترددًا في عصره وتحفظًا في الإقبال سواء على التعليم أو طلب العلم، فانبرى ليحدد العلاقة الشرعية بين المعلم والمتعلم: ما يجوز له  وما لا يجوز ، وما يحق له حلالاً وما لا يحق، متى يجب أن  يتقاضي ، وكم؟ وممن؟ .. الخ ، وكل ذلك كانت قضايا مطروحة في عصره. لقد بدأت إرهاصاتها على يد ابن سحنون، ثم تزايدت في أيام القابسي فتناولها هذا بفكر الفقيه المالكي المتفهم، وقدم لها من هذا المنطلق ما اجتهد من حلول شرعية، بما تيسر له من الأحاديث النبوية والسيرة وما درج عليه السلف. وكان إذا تعسر عليه أمر، لجأ  إلى القياس، وأحيانًا إلى الاجتهاد ملتزمًا بمنهج الإمام مالك والأصول المأخوذة عنه(1) .

ووصف القابسي بأنه: (كان عالمًا عاملاً، جمع العلم والعبادة، والورع والزهد والإشفاق والخشية، ورقة القلب، ونزاهة النفس ومحبة الفقراء، حافظًا لكتاب الله ومعانيه وأحكامه، عالمًا بعلوم السنة والفقه واختلاف الناس، سلم له أهل عصره ونظراؤه في العلم والدين والفضل، كثير الصيام والتهجد بالليل والناس نيام مع كثرة التلاوة، وكانت فيه خصال لم تكمل إلا فيه: منها القناعة، والرفق بأهل الذنوب، وكتمان المصائب والشدائد، والصبر على الأذى، وخدمة الإخوان، والتواضع لهم، والإنفاق عليهم، وصلتهم  بما عنده)(2) .

ولعمرى لو أن أحدنا أغمض عينيه ليحلم حلم يقظة بما يتمناه في المعلم  المثالي، لما وجد أكثر من هذه المواصفات، فهل كان  الواصف يصف  واقعًا لعالم أم كان يصف ما ينبغي أن يكون؟!!

ويرجع الفضل إلى الدكتور أحمد فؤاد الأهواني في الكشف عن هذه الرسالة ، حيث كان تحقيقها وتحليلها هو موضوع رسالته للدكتوراه التى حصل عليها من كلية الآداب بجامعة القاهرة في أوائل الأربعينات من القرن العشرين بإشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة الإسلامية في ذلك الوقت، وشيخ الأزهر فيما بعد.

وبمقارنة الموضوعات التى تناولتها رسالة القابسي، بموضوعات رسالة ابن سحنون نلمس أن ما نقله القابسي عنه يكاد يكون بلفظه في بعض المواضع، وباختلاف يسير في مواضع أخرى، كحذف السند عن رأي فقيه، أو تغيير في العبارة دون إخلال بالمعنى .

لكن القابسي لم يكتف بما أخذه عن كتاب (آداب المعلمين) ، بل نقل عن الفقهاء الذين  أخذ عنهم سحنون  وابنه، كابن القاسم وابن وهب وغيرهما(1) .

فإذا كان لابن سحنون فضل الصدارة في تحرير كتاب خاص في تعليم الصبيان فللقابسي مزية التوسع في هذا الموضوع، والإفاضة في أبوابه المختلفة، والترتيب الذي يدل على استقرار فكرة التعليم في الذهن والعمل على بيان  السبل المختلفة المؤدية إلى تحقيق الغاية المنشودة منه، فالقابسي يسجل في كتابه أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع، وابن سحنون يدون هذه الأحوال في القرن الثالث .

ولعل الفكرة التى طرحها القابسي وعُدّ فيها غير مسبوق، فضلاً عن كونه سابقًا لعدة عصور تلت عصره، هي طرحه لإلزامية التعليم بالمنهج نفسه: منهج الفقهاء ، ذلك  أن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضًا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مكلف تعليم ابنه القرآن والصلاة لأن حكم الولد في الدين حكم  أبيه، فإذا لم يتيسر للوالد أن يعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يرسلهم إلى الكتاب لتلقي العلم بالأجر، فإذا لم يكن الوالد قادرًا على نفقة التعليم فأقرباؤه  مكلفون بذلك، فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم فالمحسنون مرغبون في ذلك، أو معلم الكتاب يعلم الفقير احتسابًا أو من بيت المال(2) .

فكرة أخرى تعد دعامة لديمقراطية التعليم، وهي تعليم الإناث، فالإسلام حث على تعليمهن ، لكن واقع المسلمين في العهد الأول لم يتح إلا لقليلات أن يتعلمن ، فجاء القابسي ليؤكد أن  هذا حق لهن لابد أن يحصلن عليه، كل ما هنالك أنه رفض أن يختلطن بالصبيان في التعليم .

وعلى الرغم من تسوية الإسلام بين جميع أفراد الأمة في التعليم، إلا أن  المجتمع الإسلامي كان قد بدأ يعرف صورة من صور الأرستقراطية في التعليم بانزواء أبناء الفئات الحاكمة وكبار القادة داخل القصور يتعلمون تعليمًا خاصًّا على أيدي (مؤدبين) وقد أشار الجاحظ إلى هذا بأن المعلمين ينقسمون قسمين، أحدهما يعلم أبناء الملوك  والأمراء، والآخر يعلم أبناء السوقة، ولم يكن هذا ليعجب  القابسي، فقد  خاطب الجمهور وفكر في مصلحته، ونظر في فائدة أبنائه، وأهمل الكلام على الأمراء والأشراف، فلا نجد إشارة إلى هؤلاء المؤدبين الذين يصحبون  أولاد الملوك لتعليمهم وتأدبيهم(1) .

لقد أراد القابسي في القرن الرابع أن يكون وفيًّا للسلف الصالح، متبعًا لأثارهم، مقتفيًا خطواتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فهو يريد أن يعلم أبناء المسلمين القرآن والكتابة لمعرفة الدين، وإذا كان قد اضطر إلى التعديل من طريقة السلف، فهو تعديل يتلاءم مع أحوال المجتمع المتغيرة، ولهذا أوصى بأجر  المعــلم، وبتعليم النحـــو والعربية والشعر (2).

جامع بيان العلم وفضله:

لمؤلفه شيخ الإسلام ، حافظ  المغرب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر بن عاصم  النمري القرطبي، ولد في قرطبة سنة 368، ومات سنة 463هـ(3) ، ووصف بأنه ليس في المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين، والتبحر في الفقه والعربية والأخبار، وفيها (قرطبة) طلب الفقه وتفقه، ولزم  أبا عمر أحمد بن عبد الملك الإشبيلي، وكتب بين يديه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي وعنه أخذ كثيرًا من علم الأدب والحديث(4) .

وكان ابن عبد البر يتمتع باحترام وتقدير أمراء الطوائف، حتى من عرف منهم بالقسوة والفظاظة، وربما كان سبب ذلك حياده إزاء الخلافات السياسية من جهة، ومكانته العلمية من جهة أخرى، وله مؤلفات كثيرة في الحديث والفقه والأدب والأنساب، أشاد بها بعض العلماء ومنهم ابن حزم. وقد كان ، بالإضافة إلى ذلك، معلمًا له كثير من الطلاب الذين يتلقون عنه هذه العلوم وبخاصة علم الحديث، ولعل اهتمامه بالحديث وتركيزه عليه راجع  إلى تأثره بمن تتلمذ عليهم من كبار علماء الحديث ، وقد تتلمذ عليه بدوره كثيرون كان أبرزهم في الحديث والأنساب ابن حزم(1) .

وكثيرًا ما يجد القارئ أن ابن عبد البر كان يستغنى بما يورده من النصوص  المختلفة عن أن يقدم رأيه بأسلوبه.  وهو يقدم كثيرًا من هذه الأحاديث في رواياتها المختلفة بدون ترجيح أو تحليل لبعضها، وهذا ظاهر عندما نقرأ موضوعًا مثل (العقاب أو التأديب) ، أو (فضل العلم على العبادة). وفي  الجزء الثاني من الكتاب بصفة خاصة تظهر شخصيته وآراؤه ظهورًا متميزًا، وهو في هذا الجزء يقدم تصنيفين للعلوم من وجهتي نظر دينية وفلسفية، كما يضع منهجًا لإعداد المتخصصين في الفقه والحديث(2) .

وتحمل مقدمة ابن عبد البر لكتابه الغرض من تأليفه، مما يشير إلى أن بعضًا من تلاميذه سأله أن يصنف كتابًا في هذا الموضوع ، وهو  يلخص في هذه المقدمة أهم الموضوعات التى وعد بأن يتناولها، فها هو يقول(3) :

(أما بعد، فإنك سألتني رحمك الله عن معنى العلم وفضل طلبه، وحمد السعى فيه والعناية به، وعن تثبيت الحجاج  بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم، وتحريم الحكمة بغير حجة، وما الذي أجيز من الاحتجاج  والجدل، وما الذي كره منه، وما الذي ذم من الرأي وما حمد منه، وما يجوز من التقليد وما حرم منه. ورغبت أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم، وما يلزم العالم والمتعلم  التخلق به والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب، وما حمد ومدح فيه من الاجتهاد والنصب، إلى سائر أنواع آداب التعلم والتعليم، وفضل ذلك وتلخيصه بابًا بابًا، مما روى عن سلف هذه الأمة رضى الله عنهم أجمعين لتتبع هديهم، وتسلك سبيلهم، وتعرف ما اعتمدوا عليه من ذلك مجتمعين أو مختلفين في المعنى  منه …) .

ذلك  هو الغرض من الكتاب وأهم موضوعاته، لكن بأي الدوافع استجاب ابن عبد البر  لسؤال تلاميذه؟

هنا نجده يقول: (… فأجبتك إلى ما رغبت، وسارعت فيما طلبت رجاء عظيم الثواب، وطمعًا في الزلفى يوم المآب، ولما أخذه الله عز وجل على المسئول العالم  بما سئل عنه من بيان ما طلب منه وترك الكتمان لما علمه).

وهو في استجابته هذه يستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو نهج فقهاء المالكية المربين، وكان هذا نهجه  في تأليف الكتاب.

أما الدليل الذي يستند إليه من القرآن فهو قول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَه} (آل عمران: 187).

والدليل الذي استند إليه من السنة النبوية، هو قول المصطفى (ص) : (من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار)(1) .

وإذا أردنا أن نسوق مثالاً واحدًا من عديد من الأفكار التى طرحها ابن عبد البر، فإننا نشير إلى تأكيده على أهمية الحوار والسؤال في طرق وأساليب التعلم والتعليم :

إن توجيه المتعلم سؤالاً إلى من يعتقد أن لديه  قدرة على الإجابة عنه من شأنه أن يؤدى إلى سد فجوة في البناء المعرفي لدى السائل، ومن هنا نجد ابن عبد البر يسوق عددًا كبيرًا من الآثار والأحاديث  والمواقف التى تسير كلها على طريق التأكيد على ضرورة ألا يستحى متعلم من أن يسأل عما يجهل، فهذا هو طريق النمو المعرفي، وهذا هو طريق الترقي  وتنمية التفكير .

ومما استشهد به ابن عبد البر قول السيدة عائشة رضى الله عنها: رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن(2) .

وقال ابن شهاب: العلم خزائن  مفاتحها المسألة .

ومن المواقف العملية، ما روى عن ابن عباس من أن رجلاً جرح على عهد رسول الله (ص) ثم أصابه احتلام فأمر بالاغتسال، فأصابه البرد، فمات. فلما بلغ ذلك رسول الله قال: قتلوه قتلهم الله: ألم يكن شفاء العي السؤال ؟! .

ونقل عن أمية بن أبي الصلت قوله شعرًا (1) :

لايذهبن بك التفريط منتظرًا

طول الأناة ولا يطمح بك العجل

فقد يزيد السؤال المرء تجربة

ويستريح إلى الأخبار من يسل

وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها

ولا البصير كأعمى ما له بصر

فاستخبر الناس عما أنت جاهله

إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر

الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع:

وهو للقاضي عياض بن موسى التحصبي، من الصف الأول من علماء المغرب، ولد في مدينة سبتة، في منتصف شعبان من سنة 476هـ، وهنا نجد أنفسنا أمام كتاب لا يقع بشكل مباشر في حقل الفكر التربوي، كما رأينا في كتابات ابن سحنون والقابسي وابن عبد البر، فهو في الحديث، ولكن عددًا من موضوعاته يمكن أن تشكل رافدًا يرفد الفكر التربوي الإسلامي بزاد تربوى على درجة عالية من الأهمية، وهذه هي الصورة التى يمكن أن نجدها في جهود كثيرين آخرين .

وسوف نقتصر على فكرتين اثنتين  من الكتاب لما لهما من صلة وثيقة بعلوم التربية ..

أولهما: ما يتعلق بالفهم والوعي، فعلى الرغم مما هو مشهور من احتلال (الحفظ)  مكانة مرموقة في التربية الإسلامية ، فإن ذلك لم يكن ناتجًا عن التقليل من ضرورة (الفهم) و(الوعي)، فلقد كان الحفظ مسألة ضرورية بالنسبة لمجتمع لم تتوافر فيه أدوات ووسائل الطباعة، والدليل على ذلك هو هذه الأقوال والمواقف المتعددة التى تنوه بالفهم، وبضرورة حسن الإدراك والوعي، وهو ما عبر عنه بألفاظ مختلفة، لكنها تحمل المعنى نفسه، ونفس  المضمون .

فلقد روى القاضي عياض عن مصعب الزيدي أنه سمع من مالك بن أنس يقول لابني أخته، أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس : (أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه _ يعنى الحديث _ ؟ قالا: نعم ، قال: إن أحببتما أن تنتفعا وينفع الله بكما ، فأقلا منه وتفقها).

فهو يشير إلى أن المسألة ليست (كمًّا) من الأحاديث يحفظها المتعلم، وإنما لابد من (الإجادة) ، والإجادة لا تتأتى  بمجرد الحفظ وإنما بالفقه الذي هو الوعي والفهم، ويؤيد هذا ما روى عن مالك أيضا قوله : (ليس (العلم) بكثرة الرواية ، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب)(1) .

والعلم عندما يتحول إلى نور في القلب، فإنما يعني ذلك حسن  الاستفادة به في مسالك الحياة ودروبها المختلفة.

ثانيهما: التدرج، فمن المهم في عملية التعلم والتعليم أن يسير الإنسان بخطى متئدة، لا ينتقل إلى واحدة قبل أن ينتهى من سابقتها، وهو ما سبق أن أشرنا إليه من أساسيات التعلم والتعليم عند المؤسس الأول، الإمام مالك . ولا غرو في ذلك، فالعلم (تراكمي) طابقًا بعد طابق، مما يجعلنا نحرز تقدمًا فيه وتطورًا ، وهذا يوجب كذلك الالتزام بقاعدة (التدرج) لا القفز  جملة واحدة، وينقل القاضي عن ابن شهاب:

( … ولا تأخذ العلم جملة واحدة ، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الليالي والأيام)(2) .

ونحن مع ميلنا إلى عدم المقارنة دائمًا مع توجيهات العلوم الحديثة، إلا أننا لا نملك هنا إلا أن نشير إلى ما أكدته دراسات علم النفس في مجال التعلم من أن التدريب الموزع، خير من التدريب الذي يتم دفعه واحدة، ومن أجل ذلك تحرص نظم التعليم في مختلف أنحاء العالم على توزيع المادة المقررة على عدة أسابيع تمتد إلى فصل دراسي، وربما إلى عام كامل .

كذلك، فهناك مراحل لابد من المرور بها وعدم الوقوف عند واحدة منها دون الأخــرى ، والمرحـلة الأولى -بطبيعة الحال- تقدم على المستويات الثلاث، أولها: الاستماع، وثانيهما: الإنصات ، وثالثها: الحفظ، ومن ثم يمكن تسمية هذه المرحلة (الاستيعاب) .

وهو في قوله وتفرقته بين (الاستماع) و(الإنصات) إنما يعي جيدًا ما ورد في القرآن الكريم، مما يتصل بواجبنا حين يقرأ أمامنا القرآن  أن (نسمع) وهي مرحلة الاستقبال السلبي، ثم (ننصت) حيث يكون الانتباه والإدراك لما استقبلته الآذان .

ثم تأتى المرحلة الثانية المهمة، وهي الانتقال بما نعلم من حيز الفكر إلى حيز التطبيق، من المثال إلى الواقع، هي مرحلة العمل بما نعلم .

وأخيرًا لابد من (إذاعة) و(نشر) ما تعلمناه حتى تعم الفائدة ويكثر المستفيدون ونكســـر بها احتكار المعرفة(1) .

الموافقات في أصول الشريعة:

وهو لأبى إسحاق الشاطبي، الغرناطي المالكي، المتوفى سنة 790هـ.

والكتاب -كما هو واضح في عنوانه-  يدخل في باب أصول الفقه، ولا علاقة له بالمسألة التربوية، حيث تناول فيه مقاصد الشريعة وقسمها إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها، وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، ويسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة، وتسعة وأربعين فصلاً، مبينًا كيف أن الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام بشري أبدي، لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية(2).

لكن ، وبحكم العروة الوثقى بين التربية والفقه، كما ألمحنا مرارًا، عرج على الكثير من القضايا التربوية، كما سيتضح لنا فيما يلي ..

ففي المجلد الأول، في القسم الأول من الكتاب والذي خصصه للمقدمات الأساسية ، نجد :

المقدمة الخامسة: الاشتغال بالمباحث النظرية التى ليس لها ثمرة عملية مذموم شرعًا، والقدر المطلوب من علم التفسير والعلوم الكونية .

المقدمة السادسة: في بيان هدى الشريعة في التعليم وأن التعمق في التعاريف والأدلة والبعد بها عن مدارك الجمهور ليس من هدى الرسول ولا السلف الصالح .

المقدمة السابعة: العلم ليس مقصودًا لذاته بل للعمل به ، حتى أن العلم بالله تعالى لا فضل فيه بدون العمل به، وتأويل أدلة فضل العلم .

المقدمة الثامنة، مراتب العلم ثلاث: علم تقليدي، وعلم استدلالي، وعلم تحقيق راسخ، وهذا هو المطلوب شرعًا؛ لأنه يبعث على العمل، ويعصم عن الزلل.

المقدمة التاسعة، أقسام العلم ثلاثة: ما هو من صلب العلم، وما هو من ملح العلم، وما ليس من صلبه ولا من ملحه.

المقدمة الثانية عشرة: لابد للعلم من معلم ، ولابد في المعلم أن يكون متحققًا بالعلم ، وطريق أخذ العلم .

وفي القسم الثاني، وهو كتاب الأحكام ، نجد في المسألة الحادية عشرة فصلاً عن بيان الاختلاف في الغرائز والأهليات في الناس (القدرات والاستعدادات) ، ووجوب توزيع الأعمال في المسلمين على هذه القاعدة، وقد علق شارح الكتاب (عبد الله دراز) على هذا المبحث بقوله : (بحث قيم في التربية والاجتماع) .

وفي المجلد الثاني ، نجد في القسم الثالث المخصص لمقاصد الشارع:

في المسألة الثالثة يشير الشاطبي إلى ما كان للعرب به عناية من العلوم، وأن القرآن  أتى عليها بالتقرير أو التعديل أو الإبطال أو الزيادة .. الخ .

وفي المسألة الرابعة نجده يؤكد أن ليس كل العلوم لها أصل في القرآن كما زعم كثير من الناس .

وفي اعتقادنا أن في مباحثه التى أوردها في كتاب الاجتهاد ، في المجلد الرابع، القسم الخامس، عدد غير قليل منها يفيد إلى حد كبير في منهجية البحث التربوي الإسلامي، وكذلك في فلسفة التربية الإسلامية .

أما ما جاء بعد ذلك عن الاستفتاء والاقتداء في المجلد الرابع نفسه، فعدد من مسائله قريب الصلة بطرق التعليم، كقوله، على سبيل المثال في المسألة الأولى : لا يسع المقلد إلا السؤال عما يجهل، وفي الثانية: إنما يسأل أهل الذكر، فإن تعددوا وجب الترجيح. وفي المسألة السابعة يذكر فيها أوصاف العلماء الذين يصح تقليدهم .

 وفي نهاية الكتاب، في الجزء الخاص بلواحق الاجتهاد ، وخاصة في موضوع (أحكام السؤال والجواب) ، نجد المسألة الأولى يتناول فيها: بيان الحال التى يلزم فيها للعالم أن يجيب المتعلم، والثانية تتعلق بذم الإكثار من الأسئلة ،  ويتناول في المسألتين الخامسة والسادسة أمور تتعلق بقواعد وآداب المناظرة .

جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض بين المعلمين وآباء الصبيان:

وهو لأحمد بن أبى جمعة المغراوي، الملقب بشقرون، المتوفى سنة 929هـ على وجه التقريب ، وهو من مغراوة بالمغرب الأوسط بين مليانة وتلمسان شمالاً(1) .

والحق أن أهمية الكتاب ترجع إلى كشفه عن ملامح المجتمع المغربي أثناء القرن التاسع، وعن البواعث والعوامل  التى ساعدت على إبراز السمات الفكرية في تلك الفترة، فهو زيادة على ما يقدمه من معلومات عن أساليب التعليم ومناهجه وموضوعاته ابتداء من القيروان ومرورًا بالمغرب الأوسط إلى المغرب الأقصى، يقدم لنا وصفًا غير مباشر للوضع الأخلاقي الذي كان سائدًا(1) .

والكتاب يتضمن قدرًا لا بأس به من الأحكام الفقهية التى تتصل بالمعلمين وعلاقاتهم بأولياء أمور التلاميذ ، كما تتصل بالأجور التى يتقاضونها في مقابل قيامهم بواجبهم .

وتشير مقدمة الكتاب إلى الدافع الذي دفع المغراوي إلى كتابة الكتاب، وهو الدافع نفسه على وجه التقريب الذي رأيناه عند غيره من الكتاب، فهو يشير إلى ما طلبه منه بعض الإخوان من أن يضع جامعًا مختصرًا مفيدًا في أحكام المعلمين والمتعلمين وآبائهم، وحقوق بعضهم على بعض وأمر الحذقة وأجرة الشهور والأعوام والحذاق وسائر ما هو عرف لهم وعليهم في مواسم المسلمين (ليرتفع بذلك بينهم الشقاق، مما ورد في ذلك عليه في الشراح من أنقال أئمتنا المالكية والأمهات وتشتته في الدفات والكناشات  بما لا يطيق حصره مع ضيق الوقت)(2) .

وباستقراء الكتاب، نجده يتناول موضوعات مثل :

_ باب الحذقة، وما موضعها من القرآن، وهل هي محدودة أو موكولة إلى العرف، ولمن تعطى من المعلمين إذا تداولوا صبيًّا ومتى يستحقها المعلم، وهل له ذلك إن عاود الصبي القرآن أم لا؟

_ باب حكم الإجارة على تعليم القرآن والأصل فيها، وهل يقضى بما يعطى للمعلم في المواسيم؟ وحكم آداب الصبيان وتعليمهم وتسريحهم وقبول هديتهم .

وقد تناول المغراوي موضوع أجرة التعليم حيث أخذ يبحث فيما يبررها من مصادر الحديث والفقه، وهنا يظهر المذهب المالكي واضحًا في جواز أخذ الأجرة من قبل المعلم في مقابل قيامه بمهمة التعليم، فعلى غير ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، نجد مالكًا قد سوغ للمعلم أن يتصرف فيما يقدم إليه من لدن الأولياء، ذلك أن النظر من جهة، وعمل أهل المدينة من جهة أخرى يعززان الرأي بأخذ الأجرة(1) .

وإذا كان المغراوي قد تأثر  بكل من  ابن سحنون والقابسي، فإننا لا نراه موافقًا لما ذهب إليه القابسي من حيث (الإجبار) بالنسبة لوالد الطفل أن يعلم ابنه، فذلك ينبغي أن يتم عن طواعية واختيار، ووفقًا لظروف هذا الوالد.

وبعد …

فإننا ونحن نختتم هذه الدراسة لابد وأن نشير إلى ما ساقه د. الأهواني من نقد قاس للمنهج الذي سار عليه القابسي ألا وهو منهج أهل الفقه،  فالمسألة لا تتعلق بالقابسي وحده، وإنما بكل الفقهاء على وجه العموم وفقهاء المالكية على وجه الخصوص، حيث اتهم هذا المنهج بأنه  يؤدي  إلى الجمود، بينما الحياة في حركة دائمة، تتغير من زمن إلى زمن .

ونحن نسجل دهشتنا لهذا، فليس الجمود لصيقًا بكون المنهج نقليًّا، ولكنه  قد يكون ناتجًا عن سياق حضاري عام يقهر الأمة، ويمنع حرية التفكير والنقد، فلا ينتج العلماء والمفكرون إلا آراء متخلفة .

إن منهج الفقهاء إذ يجعل مصدريه اللذين يسبقان غيرهما، القرآن ا لكريم والسنة النبوية، لابد أن يعلم مستخدمه أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير النفس هو أخطر وأهم تغيير، وهما يدعوانه دائمًا إلى الأخذ بعين الاعتبار مصلحة الأمة، وما دامت مصلحة الأمة تحكمها في كثير من الأحيان متغيرات العصر وتحولاته، كان على المستخدم للمنهج أن يراعي ذلك .

لقد أشار الأهواني إلى قول إبراهيم النخعي(2) (من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتيه مداد) ، وثنى على ذلك الرأى مستنبطًا أن فيه دليلاً على أنه لا بأس أن يلعط (المتعلم) الكتابة بلسانه!

وهنا ينتهز الأهواني الفرصة ليدلل على صحة حكمه بأن المنهج الفقهي يؤدي إلى الجمود ! لكن الحقيقة تقول أن اتباع المنهج الفقهي إذا كان قد أدى بالقابسي في زمنه إلى هذا الرأى، فقد كان هذا أمرًا لا غبار عليه لأن المعطيات العلمية لم تكن قد كشفت ضرر ذلك، أما في عصرنا الحاضر، ومقاصد الشريعة، وتحكيم العرف والمصلحة تجبرنا على قبول ما كشفت عنه المعارف الطبية بعدم فعل ذلك ، خاصة وقد كشف التقدم التقني عن وسائل أخرى متقدمة سواء للكتابة أولمحوها !! ونكرر مرة أخرى أن الذنب قد لا يكون ذنب الكاتب بقدر ما يكون الأمر راجعًا إلى المستوى المتواضع الذي كان في ذلك الوقت للمعرفة التربوية .

وفضلاً عن ذلك ، فإذا كان المنهج النقلي لم يؤد بالبعض إلى إنتاج فكري يتميز بالجدة والحيوية والعقلانية، فإنه أدى بكثير إلى غير ذلك، ويكفى الإشارة إلى الأئمة أنفسهم، وعدد من  كبار تلاميذهم ممن يضيق المقام عن الإشارة إليهم . إن الجمود والتخلف عندما يتسربان إلى عروق الفكر، فغالبًا ما يكون ذلك إشارة إلى أن السياق الحضاري العام القائم قد رضى بذلك، وربما أدت معطياته إليه .

ولا شك أن المستقرئ لجملة الإنتاج التربوي الذي أنجزه فقهاء مالكيون يجد أن الكثير منه قد ساد الفكر التربوي الإسلامي على وجه العموم، واعتبر من علاماته وصفحاته المشرقة التي تحتل دائمًا الصفحات الأولى عند التأريخ له في معظم عهود الحضارة الإسلامية، ولم ينافس المدرسة المالكية في هذا إلا بعض علماء الشافعية.

لكننا على أية حال لا نلمس تباينًا ملحوظًا بين ما ذهب إليه فقهاء المالكية في الكثرة الغالبة من المسائل التربوية وبين فقهاء المذاهب السنية الأخرى، حتى أننا لنجد ما قد يوجد من اختلافات، فإنما هي -في الغالب والأعم- مما يرجع إلى متغيرات الزمان والمكان وشخصيات الكُتّاب واجتهاداتهم الخاصة، ولا ترجع إلى اختلافات (أصولية)، مثلما نرى في المسائل الفقهية البحتة.

ولعل جزءًا من هذا يرجع إلى طبيعة العملية التربوية نفسها التي لا يدخل كثير من جوانبها في باب الحلال والحرام مما يقتضي مناظرات فقهية ومجادلات، فطريقة تعليم يتبعهـا معلم من المعلمين -مثلاً- قد تختلف عن تلك التي يتبعها آخر، ولا يستتبع هذا أن نخطّئ أيًّا منهما بالضرورة إذا رأينا الآخر على صواب، فكلا الأمرين جائز لأن المسألة يحكمها كثير من المتغيرات، كطبيعة المعلم نفسه ونوعية المقرر الذي يشرحه، وطبيعة التلاميذ وأعمارهم، والثقافة السائدة، والمكان الذي يعيشون فيه .. وهكذا، مما يجعلنا نؤكد كثيرًا أن ما يصلح في مكان قد لا يصلح في مكان آخر.

وعلى أية حال، فإن ساحة البحث التربوي إذا كانت قد شهدت عددًا غير قليل من البحوث والدراسات التي اختصت بدراسة الجهد التربوي في هذا المذهب أو ذاك، أو عند هذا المفكر أو ذاك من علماء وفقهاء مذهب ما، أو عند جملة المدرسة الفقهية، فإننا نطمع أن يتوفر باحث -أو أكثر- للقيام بدراسة مقارنة بين المذاهب الأربعة بصدد قضايا تربوية يتم تحديدها، فإن هذا يمكن بالفعل أن يضيف جديدًا إلى بنية البحث التربوي الإسلامي.

لقد سبق لنا أن عقدنا فصلاً بالفعل عن الإسهامات التربوية لبعض علماء الفقه في كتابنا (اتجاهات الفكر التربوي الإسلامي / 1991م)، لكننا اكتفينا فيه ببيان الموقف الفقهي من عدد من القضايا التربوية دون عناية بالمقارنة؛ مما يجعلنا نلح على النهوض بمثل هذا العمل العلمي المنشود.

إنها طبيعة البحث العلمي، كلما اقتحم الإنسان موقعًا، وظن أنه بهذا قد أشبع نهمه، ويأمل أن يشبع نهم القراء، تبين له أن بابًا آخر قد ظهر أمامه يحتاج إلى جهد آخر لاقتحامه بحثًا عن جديد، وصدق من قال : {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} .

الهوامش

(1) محمد على السايس: نشأة الفقه الاجتهادي وأطواره ، القاهرة ، مجمع البحوث  الإسلامية، سلسلة البحوث الإسلامية (9) يناير 1970 ، ص 34.

(2) محمد الحسيني حنفى: المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، القاهرة ، دار النهضة العربية، 1971، ص 12 .

(3) زكريا البري: الفقه الإسلامي، أطواره في الماضي والحاضر والمستقبل، مكة المكرمة، المركز العالمي للتعليم الإسلامي، 1983، ص13.

(4) عبد الكريم زيدان: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية ،بغداد، 1969، ص 118.

(1) أمين الخولي: مالك، تجارب حياة، القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف  والترجمة والنشر، سلسلة أعلام العرب (11) ، أكتوبر 1962، ص 168.

(2) المرجع السابق، ص 171 .

(1) أحمد فؤاد الأهواني : التربية في الإسلام، أو التعليم في رأى القابسي، القاهرة، عيسى البابي الحلبي ، 1955 ، ص 82 .

(2) المرجع السابق، ص 83.

(1) ميتز، آدم : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، بيروت، دار الكتاب العربي، القاهرة، مكتبة الخانجي ، 1967، م1، ص 320.

(2) طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، تحقيق: كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، القاهرة، د.ت ، ج3 ، ص86 .

(1) أبو يوسف: الخراج، القاهرة، المطبعة السلفية ، 1346هـ،  المقدمة.

(2) فتحى محمد حسين معبد: الفكر التربوي عند الفقهاء والمحدثين  حتى نهاية القرن الخامس الهجري، رسالة دكتواره، كلية التربية بجامعة قناة السويس ، الإسماعيلية (مصر) 1990، ص 27 .

(3) محمد سلام مدكور: المدخل للفقه الإسلامي ، القاهرة ، دار النهضة العربية، 1966، ص 20 .

(1) المرجع السابق ، ص 22.

(1) شفيق محمد زيعور: المذهب التربوي عند السمعاني، بيروت ، دار اقرأ ، 1984، ص 9.

(2) سيد أحمد عثمان: التعلم  عند برهان الإسلام الزرنوجي، القاهرة ، الأنجلو المصرية، 1977، ص 32.

(1) حسن عبد العال: فن التعلم عند بدر الدين بن جماعة، القاهرة، على الآلة  الكاتبة، غير منشور، 1983، ص 97.

(2) ابن حجر الهيثمي: تحرير المقال، تحقيق: مصطفى رجب، سوهاج ، 1991، د.ن، المقدمة

(3) هام نشابه (محقق) التراث التربوي الإسلامي في خمس مخطوطات، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1988.

(4) سالك أحمد علوم: الفكر التربوي عند الخطيب البغدادي، المدينة المنورة، 1992، د.ن، ص 78.

(5) ابن حزم: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، بيروت، دار الآفاق الجديدة ، 1980 ، ط 3.

(1) محمد بن على الشوكاني: أدب الطلب، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمنية، 1979.

(2) محمد ناجح محمد أبو شوشة: المضامين التربوية في أهم مصادر المذهب الشافعي، سوهاج (مصر) ، رسالة دكتوراه ، كلية التربية، جامعة جنوب الوادي ، 2002.

(3) يوسف  القرضاوي: الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، القاهرة، مكتبة وهبة، 1999 ، ط2، ص 15.

(1) عبد الأمير شمس الدين: الفكر التربوي عند ابن  سحنون والقابسي، بيروت، دار اقرأ ، 1985، ص 198.

(1) محمد أبو زهرة : مالك ، القاهرة ، الأنجلو المصرية ، 1952 ، ط2 ، ص28.

(1) أمين الخولي : مالك ، ص 69.

(2) المرجع السابق ، ص 79.

(1) محمد أبو زهرة : مالك ، ص 34.

(1) المرجع السابق، ص 35.

(1) المرجع السابق، ص 36.

(2) بدوى عبد الصمد الطاهر: منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل، دبي، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، 2002، ص44.

(3) المرجع السابق ، ص 58.

(1) مقدمة ابن خلدون، طبعة الشعب، القاهرة ، د. ت.

(2) محمد أبو زهرة : مالك، ص 38.

(1) أمين الخولي: مالك، ص 230.

(2) المرجع السابق ، ص 231.

(1) ابن عبد البر: الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، القاهرة، مطبعة المعاهد، 1350هـ ، ص 16.

(2) الشوكاني: القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، بيروت، دار القلم، 1983، ص 42.

(3) ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، القاهرة، دار الكتب المصرية، 1930 ، ط2، ج5، ص 135.

(4) ابن الجوزي: صفوة الصفوة، طبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكني ، الهند، 1355هـ ، ج 1، ص101.

(5) محمد أبو زهرة ، مالك ، ص 120

(1) محمد أبو زهرة ، مالك ، ص 120

(2) المرجع السابق ، ص 121.

(3) المرجع السابق ، ص 122.

(1) بدوى عبد الصمد : منهج كتابة الفقه المالكي، ص 130.

(2) محمد أبو زهرة : مالك ، ص 233.

(1) محمد أبو زهرة : مالك ، ص 233.

(2) المرجع السابق ، ص 236.

(3) مقدمة ابن خلدون .

(1) بالنثيا، آنخل جنثالث: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، طبعة مصورة عن الطبعة الأولى (1955) ، ص 423.

(1) المرجع السابق، ص 427.

(2) المرجع السابق، ص 429.

(1) ريبيرا، خوليان، التربية الإسلامية في الأندلس ، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف ، 1981، ص 102.

(1) ريبيرا، خوليان، التربية الإسلامية في الأندلس ، ترجمة الطاهر أحمد مكي، القاهرة، دار المعارف ، 1981، ص 102.

(1) المرجع السابق، ص 111.

(1) المرجع السابق، ص 111.

(2) المرجع السابق ، ص 117.

(1) محمد بن سحنون: كتاب آداب المعلمين، تحقيق محمود عبد المولي، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، 1969، ص 41.

(2) المرجع السابق، ص 42.

(3) المرجع السابق، ص 61.

(1) المرجع السابق، ص 61.

(2) عبد الأمير شمس الدين، مرجع سابق ، ص 44.

(1) على إدريس : عبد الله بن أبى زيد القيرواني ، في (مكتب التربية العربي لدول الخليج: من أعلام التربية العربية الإسلامية) ، 1988 ، م2 ، ص 129.

(2) المرجع السابق، ص 132.

(3) لم تتح لنا فرصة الاطلاع على نص الرسالة، وكان اعتمادنا على ما نشره من مقتطفات منها على إدريس في المرجع السابق.

(1) المرجع السابق، ص 132.

(2) لم تتح لنا فرصة الاطلاع على نص الرسالة، وكان اعتمادنا على ما نشره من مقتطفات منها على إدريس في المرجع السابق.

(1) المرجع السابق، ص 132.

(2) لم تتح لنا فرصة الاطلاع على نص الرسالة، وكان اعتمادنا على ما نشره من مقتطفات منها على إدريس في المرجع السابق.

(1) المرجع السابق، ص 137.

(2) ابن الفرضي ( أبو الوليد عبد الله الأزدي) : تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، القاهرة، مكتبة الخانجي ، 1954، ج1، ص 50.

(3) محمد إبراهيم سليم: تأديب الناشئين بأدب الدنيا والدين، لأحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي، القاهرة ، مكتبة القرآن، 1986، ص 11.

(1) حسن عيسى أبو ياسين، ووفاء فهمي السنديوني: النظريات التربوية في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي، في (من أعلام التربية العربية الإسلامية)، ج2، ص 157.

(2) المرجع السابق ، ص 158.

(1) عبد الأمير شمس الدين، مرجع سابق، ص 94.

(2) أحمد فؤاد الأهواني، مرجع سابق، ص 15.

(1) المرجع السابق، ص 46.

(2) المرجع السابق، ص91.

(1) المرجع السابق، ص 248.

(2) المرجع السابق، ص 258.

(3) عياض بن موسى: ترتيب المدارك وتقريب المسالك، بيروت، دار الحياة، د.ت. ج3، ص 808.

(4) عبد الرحمن النحلاوي: يوسف بن عبد البر القرطبي، دمشق، دار الفكر ، 1986، ص 9.

(1) عبد البديع عبد العزيز الخولي: الفكر التربوي في الأندلس، القاهرة، دار الفكر العربي ، 1985، ص 90.

(2) المرجع السابق، ص 92.

(3) ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، المدينة المنورة، المكتبة السلفية، 1968م، المقدمة.

(1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه على شرط الشيخين، ولم يخرجاه .

(2) جامع بيان العلم وفضله، ج1، ص 105.

(3) المرجع السابق ، ص 106.

(1) المرجع السابق ، ص 106.

(1) سعيد إسماعيل على : بحوث في التربية الإسلامية، القاهرة، مركز التنمية البشرية والمعلومات، 1987، ص 220.

(1) سعيد إسماعيل على : بحوث في التربية الإسلامية، القاهرة، مركز التنمية البشرية والمعلومات، 1987، ص202.

(2) عياض بن موسى اليحصبي: الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، تونس، دار التراث ، المكتبة العتيقة ، 1970، ص 220.

(1) المرجع السابق، ص 221.

(2) أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، بيروت ، دار المعرفة، د. ت. ج1، ص6 مقدمة الشارح.

(1) عبد الهادي التازي (محقق) : المغراوي وفكره التربوي، الرياض، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 1986، ص 14.

(1) المرجع السابق، ص 25.

(2) المرجع السابق، ص 26.

(1) المرجع السابق، ص 33.

(2) الأهواني: التربية في الإسلام ، ص 39.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر