عرض ونقد كتب

عرض كتب : القرآن والفلسفة.. أطروحة حديثة في العلاقة بين القرآن والفلسفة

ـ 1 ـ

كتاب القرآن والفلسفة

في سنة 1958م، أصدر الشيخ الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى (1317-1383هـ/ 1899-1963م)، الطبعة الأولى من كتابه (القرآن والفلسفة)، وهو في الأصل القسم الأول من رسالته للدكتوراه التي أعدها باللغة الفرنسية، وناقشها في جامعة السوريون الفرنسية سنة 1948م، وحصل بموجبها على دكتوراه دولة في الفلسفة بدرجة مشرف جدا، وهي أعلى الدرجات التي تمنحها الجامعة هناك، وحملت الرسالة عنوان (الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط).

وبعد مناقشة الرسالة، قام الدكتور موسى بترجمتها من الفرنسية إلى العربية، وأصدرها في كتابين، الكتاب الأول حمل عنوان (القرآن والفلسفة)، والكتاب الثاني حمل نفس عنوان الرسالة، وصدر سنة 1959م.

وأول ما يستوقف الانتباه في هذا الكتاب، هو عنوانه اللافت بشدة (القرآن والفلسفة)، ولعله أول كتاب في المجال العربي الحديث والمعاصر يحمل هذا العنوان، ويضع القرآن والفلسفة في حالة اقتران بصيغة ثنائية مركبة، اقتران توافق واتصال وليس اقتران تخالف وانفصال، وبشكل يثير الانتباه والدهشة، مع أنه على ما يبدو لم يستقبل بطريقة تتسم بإثارة الانتباه والدهشة، ليس هذا فحسب، بل إنه بقي خارج الانتباه، وبعيدا عن الذاكرة والتذكر، وكأنه من المؤلفات التي صدرت ومرت ونسيت ولم تترك أثرا باقيا، حاله كحال عشرات أو مئات أو آلاف الكتابات والمؤلفات التي نسيت عند العرب والمسلمين مع مرور الوقت.

منشأ هذا الانطباع، أنني لم أجد في حدود متابعاتي الفكرية والفلسفية التي لا تتوقف، تذكرا لهذا الكتاب إلا نادرا، لا بالإشارة إلى عنوانه، ولا بالعودة إليه والاقتباس منه، ولا بالحديث والكتابة عنه، ولا بتثبيت اسمه في قائمة المصادر والمراجع، إلى غير ذلك من الصور التي تخرج الكتاب من حالة النسيان إلى حالة التذكر.

وبالإشارة إلى حالي، فإنني لم أتعرف على الكتاب طيلة هذه السنوات الماضية، إلا بعد صدور الطبعة الجديدة منه الصادرة سنة 2012م، وجاءت في إطار مشروع إعادة إصدار كتب التراث الإسلامي الحديث في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، التاسع عشر والعشرين الميلاديين، والذي تربطني به صلة عمل وتواصل، وتشرف عليه مكتبة الإسكندرية المصرية.

لكنني ما إن تعرفت على الكتاب، حتى تساءلت مع نفسي بنوع من الغرابة: هل يعقل أن يوجد كتاب عن القرآن والفلسفة، ويظل مغمورا ومجهولا طيلة هذه الفترة، لا أحد يتذكره ويتحدث عنه؟ وأخذني حس الفضول العلمي، ودفعني بشوق نحو التعرف عليه، وعلى مادته ومحتوياته، وبعد مطالعته، وجدت نفسي متحفزا نحو الكتابة عنه، وإثارة الانتباه إليه.

ويأتي هذا الكتاب متصلا ومتناغما مع الموقف الرشدي (نسبة إلى ابن رشد)، في الدفاع عن الفلسفة ومشروعية التفلسف والبحث الفلسفي عند المسلمين، وفي ساحة الفكر الإسلامي، ومتخذا من القرآن الكريم إطارا ومصدرا للبرهنة على هذا الموقف، وتثبيته والدفاع عنه، وكاشفا عما بين القرآن والفلسفة من وشائج، تجعل هذه العلاقة تتسم في نظر المؤلف بالصلابة والتماسك، وتعطيها صفة البقاء والثبات، وترسخ فيها خاصية الاتصال منعا من القطع والانفصال.

ـ 2 ـ

الرؤية والأطروحة

بالعودة إلى مقدمة الكتاب وخاتمته، تتكشف رؤية المؤلف وأطروحته في بحث العلاقة بين القرآن والفلسفة، والتي يمكن القول إنها تتحدد في العناصر الآتية:

أولا:بيان أن القرآن كان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، وذلك لما اشتمل عليه من فلسفة، سواء ما يتعلق منها بالإنسان، وما يتعلق بالله وصلته سبحانه بالإنسان.

ثانيا:مع اعتبار أن القرآن قبل كل شيء هو كتاب العقيدة الحقة، والشريعة الصالحة لكل زمان ومكان، والأخلاق التي لا يقوم مجتمع سليم إلا بها، لكنه مع ذلك تعرَّض في كثير من آياته لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعية والإنسانية، المشاكل التي كانت وما تزال تثير أفكار وعقول العلماء والفلاسفة، وتعرُّض القرآن لبعض هذه المشاكل وبخاصة الإلهية منها، كان على نحو يدعو إلى تعمقها وإنعام التفكير فيها، وبشكل يجعل الفكر يذهب مذاهب شتى.

ثالثا:التأكيد على أن القرآن وإن دفع إلى التفكير الفلسفي، وكان المصدر الأول الذي استوحاه المتكلمون على اختلاف آرائهم ومذاهبهم، فإنه من ناحية أخرى كان حاجزا دون ضرب آخر من التفكير الفلسفي، ويعنى به التفكير الذي كان عماده الفلسفة الإغريقية، أو الذي تأثر بها إلى حد كبير، وذلك بفضل الآراء الحقة التي صدع بها القرآن، ودلل عليها في كثير من المشاكل التي كان المفكرون والفلاسفة منها في أمر مريج.

رابعا:لولا القرآن ما عرف تاريخ الفكر الإسلامي أكثر هذه المذاهب التي استمدها أصحابها، أو أقاموا الأدلة عليها من القرآن نفسه، وآية ذلك أن تفكير الفلاسفة من غير رجال علم الكلام، أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد، لم ينته إلى نحو مذاهب المتكلمين، لأن هؤلاء الفلاسفة لم يستوحوا القرآن في بناء وتكوين مذاهبهم، وإن حاولوا أحيانا أن يستدلوا منه على بعض ما ذهبوا إليه.

خامسا: بيان أن القرآن وإن كان قد دفع أو وجه المسلمين للتفلسف، وأوحى بكثير من الآراء والمذاهب الفلسفية، إلا أن هناك عوامل أخرى بجانبه كان لها أثرها فيما أثر عن المسلمين من فلسفة، وهي عوامل أجنبية حصلت نتيجة اتصال المسلمين بالفلسفة اليونانية عن طريق اختلاطهم بحملتها من السريانيين وغيرهم، ثم عن طريق نقلها إلى اللغة العربية.

الأمر الذي يعني أن ما دفع المسلمين للفلسفة القرآن أولا، ثم ما عرفوه ونقلوه من التراث الإغريقي ثانيا، وكل من هذين العاملين كان له أثر خاص به.

سادسا:نفي ما ذهب إليه المستشرق الألماني تنمان (ت 1819م)، في كتابه (المختصر في تاريخ الفلسفة)، الصادر بالألمانية سنة 1812م، من أن هناك جملة عوائق وقفت أمام تقدم المسلمين في الفلسفة، منها كتابهم المقدس الذي يتعارض ونظر العقل الحر.

ويرى الدكتور موسى أن تنمان لم يخطء كل الخطأ، إن كان يريد القول أن القرآن يتعارض ونظر العقل الحر، بناء على رأي بعض رجال الدين الذين كفَّروا بعض فلاسفة المسلمين، أو كان القصد بنظر العقل الحر الذي لا يقف عند الحدود التي جاء بها القرآن.

سابعا:التنبيه على أن القرآن، وهو خاتمة الرسالات الإلهية للبشرية جميعا في كل زمان ومكان، لم يدرس من هذه الناحية، الدراسة التي يجب أن يقوم بها المختصون، بل إن رجال علم الكلام لم يعرفوا كيف يفيدون منه الفائدة الكاملة، الأمر الذي يقتضي ضرورة معرفة الله المعرفة الحقة التي يؤمن بها القلب والعقل معا، أي المعرفة التي هي من بعض نواحيها فوق المعرفة الفلسفية التي تستند على العقل وحده.

هذه هي العناصر الأساسية المكونة لرؤية الدكتور موسى، وأطروحته في بحث العلاقة بين القرآن والفلسفة.

ـ 3 ـ

طبيعة القرآن تدعو للتفلسف

حمل الفصل الثاني من كتاب الدكتور موسى عنوانا لافتا للغاية، هو (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، ويعد هذا العنوان من أكثر عناوين فصول الكتاب الأربعة لفتا للانتباه، وإثارة للدهشة، ومن أكثرها قربا واتصالا بجوهر موضوع الكتاب.

ويصلح هذا العنوان، أن نعطيه صفة المقولة الفلسفية، الصفة التي ترتقي به وتحوله من مجرد عنوان شارح لمحتويات فصل من فصول الكتاب، إلى عنوان يكشف عن مقولة فلسفية بإمكانها أن تعرف بصاحبها، كأن نقول في تعريف الدكتور محمد يوسف موسى أنه صاحب مقولة (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، ولعله أول من أطلق هذه المقولة.

 وهذا التحويل من العنوان إلى المقولة، نعني به الانتقال من اللغة إلى المفهوم، ومن النظر إلى العنوان في جانبه اللغوي إلى جانبه المفهومي، ومن التحليل البياني إلى التحليل المفهومي، بوصفه مفهوما يكتنـز حقلا دلاليا قابلا للتعرف والاكتشاف، وقابلا كذلك للنظر والنقاش، والاتفاق والاختلاف.

علما أن المؤلف لم يعط هذا العنوان صفة المقولة، ولم يدافع عنه من هذه الجهة، وأظن أنه لم يتنبه هنا إلى وعي المقولة، وإمكانية تحويل ذلك العنوان إلى مقولة فلسفية لها قابلية التداول بهذه الصفة في المجال الفلسفي.

ولعل هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها التنبه إلى هذه الملاحظة، والنظر لهذا العنوان بصورة تتجاوز إطاره اللغوي والبياني، وتصل به إلى الإطار المفهومي، الذي يعطيه صفة المقولة الفلسفية، وذلك لما لهذه المقولة من أهمية وقيمة في التصور الفلسفي.

وأول ما يقرره الدكتور موسى في الكشف عن لماذا القرآن له طبيعة تدعو للتفلسف، هو تأكيده أن القرآن ليس كتاب تشريع وأخلاق فحسب، ولو كان كذلك لما أثار ويثير من نقاش وتفكير فلسفي، فهو إلى جانب ذلك كتاب دين وعقيدة جاء ليغير ما تواضع عليه العرب وغير العرب من عقائد، فكان من الضروري أن يثير القرآن ما أثار من الجدل والتفكير، سواء أكان ذلك من الذين أخلصوا حقا بقلوبهم للدين الجديد، أم من الآخرين أيضا الذين دخلوا في الإسلام وفي قلوبهم كثير أو قليل مما كانوا عليه من دين وعقائد لم يتخلصوا منها تماما(1).

ولإثبات أن القرآن له طبيعة تدعو للتفلسف، أشار الدكتور موسى إلى بعض الحقائق الدالة على ذلك، ومنها:

أولا:وجود الآيات المتشابهة في القرآن، التي أثارت في وجه الكلاميين والمفسرين – قديما وحديثا- تساؤلات مستمرة دارت حول حكمتها والغاية منها، وتعددت في النظر لها المواقف والآراء، وما زالت على هذا الحال إلى اليوم.

وقد وجد الدكتور موسى في هذه الآيات، التي هي جزء هام من القرآن، وتتعرض إلى أهم العقائد الدينية المتصلة بالله والعالم والإنسان، أن القرآن بهذه الطبيعة من الضروري أن يثير التفكير الفلسفي، ويوحي بكثير من الحلول للمشاكل الفلسفية التي عرضت للمفكرين في هذه النواحي، وعلى توالي العصور، فهذه الآيات كانت ولا تزال حتى الآن ودائما باعثا للفكر، وداعية لاستعمال العقل، ومعينا للتوجيه الفلسفي(2).

ثانيا:خاصية عدم التحديد، يرى الدكتور موسى أن القرآن كتاب منثور، خلص من قيود الشعر والسجع، ولهذا فهو يوحي إلى حد كبير بتفكير منهجي في المسائل التي تناولها صراحة أو إشارة ورمزا، والفاصلة التي تختتم بها الآيات ليست في شيء من القافية في الشعر، هذه القافية التي تتكرر دائما وتلتزم في القصيدة كلها، بخلاف الفاصلة القرآنية التي لا تلتزم دائما لا في السورة كلها، ولا في جزء كبير منها.

ومن ناحية طريقة علاج المشاكل، يرى الدكتور موسى أن الفلسفة شأنها شأن كل علم بوجه عام تلتزم التحديد، وهذه الخاصية يجدها موسى بوضوح حسب قوله في القرآن، ومبرهنا عليها بأمثلة عدة، منها المثال الذي يتصل بناحية ذات الله وصفاته، وأنه (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ)(3).

هذا من جانب التحديد، ومن جانب آخر لاحظ الدكتور موسى أن القرآن ترك التحديد أحيانا عمدا، بشكل يدفع العقل للتفكير الفلسفي لفهم ما يريده القرآن تماما، فقد تكلم القرآن في آيات كثيرة عن السماء والأرض، لكنه لم يبين لنا مطلقا ما هي السماء، وما هي الأرض، وما المادة التي خلقت منهما، وهل هذه المادة قديمة أو حادثة، وهكذا حين تكلم عن الروح لم يبين ما هو هذا الروح، وكذلك الحال في مسائل كثيرة.

ومعنى هذا كله ونحوه في نظر الدكتور موسى، أن القرآن بعدم التحديد في هذه المسائل وأمثالها، مما تعالجه فلسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة، إنما يدعو العقل بعد أن أثار له المشكلة بوجه عام، إلى النظر والتفكير(4).

ثالثا:تنوع الأدلة وتعدد طرقها، يرى الدكتور موسى أن القرآن في سبيل تقرير ما أراد من عقائد، يقدم بين يدي ذلك ما يصح أن يكون أدلة عليها، وهذه الأدلة مختلفة في أنواعها وطرقها، إلى درجة يصح القول بأن القرآن قد حوى إلى حد ما أصول نظرية في المعرفة، وأنه دعا من يتجه إليهم بهذا النوع من الأدلة، إلى إعمال الفكر فيما يراه ويحسه بأي نوع من أنواع الحس للوصول إلى المجهول، حصل هذا الأمر فيما يتصل بوجود الله وأنه واحد لا شريك له، وفيما يتصل بعالم البعث والحياة الأخرى، وفيما يتصل بغير هذا كله من العقائد الدينية.

ومن الأمثلة التي برهن بها الدكتور موسى على هذا الرأي، ما تحدث به القرآن في بعض آياته عن أن هذا العالم لم يوجد وحده بمحض الصدفة أو من الطبيعة، بل هو عمل خالق يستحق أن يعبد وحده، كقوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(5).

وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ)(6).

هذه الصور التي تؤخذ من هذه الآيات ونحوها، يرى فيها الدكتور موسى أنها توقظ الفكر، وتدعو للنظر والتأمل، وتكون النتيجة أن يصل الإنسان بهذا التفكير إلى أن لهذا العالم خالق يستحق وحده أن يكون المعبود(7).

رابعا:البحث في ما وراء الفلسفة، يرى الدكتور موسى أن هناك جانبا مهما من جوانب البحث في القرآن، لم يتعرض له كثير ممن نظروا فيه وخاصة علماء الكلام، فالقرآن بطبيعته يدعو إلى التفكير بسبب ما اشتمل عليه من أمور الغيب ودعوته إلى الإيمان بها، وبإعداده بهذا لما وراء الفلسفة التي ليس للعقل وحده أن يصل إليها، ولعل هذا في نظر موسى هو الغرض الأول للقرآن نفسه، ومن ثم يجب في رأيه أن يكون الغاية من علم الكلام.

وعلى ضوء ما تقدم، يقرر الدكتور موسى أن (القرآن بطبيعته وأسلوبه، وطريقة تناوله للمسائل أو المشاكل المختلفة يدعو للتفلسف، وأنه قابل لما هو حق من الآراء التي ذهب إليها المفكرون في هذه النواحي، وأنه لهذا كان كل أصحاب مذهب كلامي أو فلسفي في الإسلام يهتمون بأن يجدوا لمذاهبهم أسانيد من القرآن)(8).

ـ 4 ـ

انطباعات وملاحظات

هذا الكتاب الذي لم يعرف في أزمنتنا وعصورنا الراهنة، لو كان ينتسب إلى أحد فلاسفة المسلمين القدماء أمثال الكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد، لكان شأنه اليوم عظيما، واكتسب شهرة واهتماما ممتدا بين الكتاب والباحثين، مسلمين وغير مسلمين، عربا وأوروبيين، على طريقة ما حصل ويحصل مع كتابات ورسائل ومؤلفات أولئك الفلاسفة، وبمختلف صور وأنماط الاهتمام، شرحا وتعليقا وتحقيقا وترجمة، وبالكتابة عنها والدراسة والتحليل والنقد، مع جعلها مادة وحقلا للرسائل والأطروحات الجامعية، وموضوعا لندوات ومؤتمرات وحلقات فكرية وعلمية ودراسية، وغير ذلك.

ولو كان هذا الكتاب ينتسب إلى أحد الأوروبيين أو أحد المستشرقين منهم، لكانت منـزلته وشهرته عند العرب والمسلمين مختلفة تماما عما هي عليه اليوم، وهذا ما نعرفه نحن عن أنفسنا، وما نلمسه ونراه، وما يعرفه عنا الآخرون أيضا، وذلك لطبيعة المفارقات الفكرية والتاريخية والحضارية الفاصلة بين الأمم والمجتمعات المتقدمة والمتخلفة، الغالبة والمغلوبة.

ولو كانت الفلسفة يقظة وحية في بلاد العرب والمسلمين، لتغيرت كذلك منـزلة هذا الكتاب ومكانته، ولتغيرت أيضا صور وأنماط النظر إليه، والتعامل معه، ولوجدنا فيه مكسبا فلسفيا، لا لشيء مهم وخطير في الكتاب، وإنما لأنه يستند على القرآن الكريم في الدفاع عن الفلسفة، وهو موقف نادر الحدوث عند العرب والمسلمين المعاصرين، وبهذا الشكل من الحماس والاهتمام الذي عبر عنه المؤلف، وبهذا النمط من المحاججة والدفاع، ومن هنا تكمن أهمية هذا الكتاب، وتبرز فيه عنصر الإثارة والدهشة.

أما ما يستدعي النظر والنقاش في الكتاب، فيتحدد في بعض الملاحظات، ومنها:

أولا:مع ما بين الفلسفة وعلم الكلام من تداخل واتصال، إلا أن الكتاب ومواضيعه وقضاياه ومناقشاته ومحاججاته، هي أقرب إلى علم الكلام من الفلسفة، فالحديث عن ذات الله وصفاته، ومسألة الرؤية والكلام والعدالة الإلهية، والإرادة والحرية والإضلال والهداية، والوعد والوعيد، هذه المواضيع والقضايا هي من صميم علم الكلام، وهذا ما يعرفه الدكتور موسى جيدا.

وحتى لو قلنا أن هذه المواضيع والقضايا، هي مواضيع وقضايا مشتركة بين الفلسفة وعلم الكلام، وأنها في الفلسفة تعالج بمنهج وطريقة تختلف عن منهج وطريقة علم الكلام، من جهة أن الفلسفة تتخذ من العقل مصدرا ومعيارا وحيدا، بخلاف علم الكلام الذي يتخذ من العقل مصدرا ومعيارا كذلك لكن بشرط موافقة الشرع وعدم مخالفته.

ومن هذه الجهة أيضا، فإن الكتاب هو أقرب إلى علم الكلام من الفلسفة، لأنه اعتمد في مناقشة قضاياه على منهج وطريقة الكلام والكلاميين، وليس على منهج وطريقة الفلسفة والفلاسفة، ففي هذه المناقشات رجع الدكتور موسى إلى آراء ومواقف أصحاب المذاهب والفرق الإسلامية، وتحديدا مذاهب أهل السنة، وبالذات الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة، وهذا هو منهج الكلام وطريقة الكلاميين.

ولم يرجع المؤلف في هذه المناقشات، إلى آراء ومواقف فلاسفة المسلمين، وسلسلتهم المعروفة، التي تبدأ من الكندي وتصل إلى ابن رشد، غياب آراء ومواقف هؤلاء الفلاسفة أعطى ترجيحا لاعتبار أن الكتاب هو أقرب إلى الكلام من الفلسفة.

يضاف إلى ذلك، أن المؤلف أشار في كتابه إلى تلميحات مستمرة، تربط الكتاب بعلم الكلام ومنهج الكلاميين، ويكفي هنا الإشارة إلى ما ذكره في خاتمة الفصل الرابع والأخير من الكتاب، بقوله (بعد ما تقدم من المشاكل التي تعرضنا لبحثها لدى الفرق الهامة من المتكلمين على ضوء القرآن، ومن هذه المشاكل ما كان خاصا بذات الله، وما كان خاصا بصفاته، وما كان خاصا بالفعل بين الله والإنسان، وما كان خاصا أخيرا بالإضلال والهداية والوعد والوعيد، نقول بعد هذا، بقي أن نبين كيف أن القرآن، بما اشتمل من الآيات التي بحثناها، دعا وقبل تلك المذاهب والآراء الفلسفية التي عرفت عن المتكلمين، ثم بعد ذلك علينا أن نبين أثر القرآن باعتباره عاملا من العوامل في تفلسف المسلمين، وما يجب أن نستخلصه من درس طرق الفرق الكلامية في تفسير القرآن أو تأويله وغاياتها، وبذلك يتم البحث كله بفضل الله تعالى)(9).

وما يلفت الانتباه أيضا إلى هذه الملاحظة، أن المؤلف مع معرفته ودرايته بموضوع بحثه، إلا أنه لم يتطرق إلى ما بين الفلسفة وعلم الكلام ومنهجهما وطريقتهما من فروق وافتراق، وتحدث عنهما كما يتحدث عن منهج واحد، وطريقة واحدة، بلا مائز ولا تمايز.

وتشتد هذه الملاحظة عند معرفة أن الكتاب في الأصل هو رسالة دكتوراه دولة في الفلسفة، وأنه يمثل القسم الأول في هذه الرسالة، الذي عادة ما يشتمل على المقدمات والمداخل المنهجية، ويتم فيه الإشارة إلى المنهج المختار والمتبع، فكان من الضروري الإشارة والحديث عما بين الفلسفة وعلم الكلام ومنهجهما وطريقتهما من اتصال وانفصال، حتى يتسم المنهج بصفة الضبط والوضوح والإحكام.

ثانيا:أطلق الدكتور موسى مقولة إن (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، واتخذ منها عنوانا للفصل الثاني من الكتاب، وهو الفصل الأهم فيه، والناظر لهذه المقولة يرى أنها ليست مجرد مقولة عادية أو سهلة، وليست هي من نمط المقولات العابرة التي تحضر وتمر وتغيب من دون إثارة أو اكتراث بها، أو من دون أن تترك بقايا أثر، مع أنها وبخلاف المفترض منها، لم يصدق عليها شيء من هذه الحالات على ما وجدت، لكنها وبعد طول غياب حضرت واستعادت ذاكرتها، وجرى التنبه إليها من جديد، وتم إعطاؤها صفة المقولة لأول مرة على ما أعلم.

هذه المقولة كان ينبغي من المؤلف التوقف عندها، ولفت الانتباه إليها، وإعطاؤها صفة الوضوح، بتحديد ما هو المقصود بأن (طبيعة القرآن تدعو للتفلسف)، باعتبار أن هذه المقولة ليست من نمط المقولات الواضحة أو البديهية أو المتسالم عليها، وإنما هي من نمط المقولات التي تثير الجدل والاختلاف.

فهل طبيعة القرآن فعلا تدعو للتفلسف! وهل القرآن صرح أو بين وأبان بأنه يدعو للتفلسف؟ وهل التفلسف من الكلمات التي استعملها القرآن في آياته التي جاوزت الستة آلاف آية، أو أنها من الكلمات القريبة أو القرينة أو الشبيهة لكلمة أو كلمات وردت في القرآن، حتى يجوز لنا القول بأن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف!

هذا الجدل والاختلاف كان من الممكن التغاضي عنه، لو جاءت هذه المقولة بصيغة أن طبيعة القرآن تدعو للتعقل أو التفكر أو التبصر أو التذكر، لأن جميع هذه الكلمات وردت وتواترت في القرآن، وعرفت بوصفها من كلمات القرآن التي جرى استعمالها بعناية تستدعي الانتباه والنظر.

كما كان من الممكن أيضا التغاضي عن هذا الجدل والاختلاف أو التخفيف منه، لو جاءت هذه المقولة بصيغة أخرى، كأن يقال أن في القرآن ما يدعو للتفلسف، أما القول بأن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف، فكأننا نقول بأن القرآن كتاب فلسفي، وهذا ما لا يقول به أحد، ولا قال به أحد لا من القدماء ولا من المحدثين، ولا قال به حتى المؤلف نفسه، فالاختلاف هو في استعمال كلمة طبيعة القرآن، الطبيعة التي تعني أو تكشف حين تستعمل عن ماهية الشيء وحقيقته، فهل ماهية القرآن وحقيقته هي ماهية وحقيقة فلسفية بالمعنى الفلسفي المحض، وهذا ما لا يمكن التسليم به.

وإذا اعتبرنا أن في القرآن ما يدعو إلى إثارة التفكير الفلسفي، وأنه تعرض لأمهات المشاكل الفلسفية الإلهية والطبيعية والإنسانية، وكان من أهم العوامل التي دفعت المسلمين إلى التفلسف، فهل هذه الاعتبارات والحالات وغيرها، تجيز أو تبرهن أو تكشف عن أن طبيعة القرآن تدعو للتفلسف، أم أنها تكشف عن أن في القرآن ما يدعو للتفلسف، وليس طبيعة القرآن تدعو للتفلسف.

ثم ما هو المقصود من التفلسف! وهذا ما لم يتوقف عنده المؤلف ضبطا وتحديدا، فهل المقصود بالتفلسف هو فعل التأمل والتأويل والنظر الفكري والعقلي والتجريدي، كما توحي به هذه الكلمة في قاموس الفلسفة وقاموس الفلاسفة، وهل هذا يصدق على طبيعة القرآن!

أم الأصح القول بأن القرآن هو كتاب فعل وعمل وليس كتاب رأي ونظر، وهذا ما نبه عليه الدكتور محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م)، في السطر الأول من كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام) بقوله: (القرآن الكريم كتاب يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالرأي)(10).

وإقبال الذي نبه على هذا الرأي في السطر الأول من كتابه المذكور، أراد من هذا الكتاب إثبات أن القرآن جاء بالمنهج التجريبـي الذي قوامه الملاحظة والتجربة، وتأكيد أن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، بخلاف ومعارضة الفلسفة اليونانية التي تطبعت بالتفكير النظري المجرد، وإغفال الواقع المحسوس.

* * *

الهوامش

(1) محمد يوسف موسى، القرآن والفلسفة، الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، القاهرة – بيروت: دار الكتاب المصري، دار الكتاب اللبناني، 2012م، ص33.

(2) محمد يوسف موسى، المصدر نفسه، ص45.

(3) سورة التوحيد، آية:1-4.

(4) محمد يوسف موسى، القرآن والفلسفة، ص 56-58.

(5) سورة البقرة، آية: 164.

(6) سورة ق، آية: 6-8.

(7) محمد يوسف موسى، القرآن والفلسفة، ص61.

(8) محمد يوسف موسى، المصدر نفسه، ص65-69.

(9) محمد يوسف موسى، المصدر نفسه، ص196.

(10) محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1978م، ص1.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر