أبحاث

تأملات في السنن الكونية التي تحكم قيام الحضارات وتراجعها في ضوء القرآن الكريم

العدد 80

من البديهى أن الفكر البناء ليس تجريداً في  الخيال ،بل بحًثا في  الحياة والكون ،متجهاً باستمرار نحو المركز والمقياس لكل فكر ، وهو :”المساهمة في  ترشيد حركة الإنسان كوسيلة لتحقيق السعادة له في  الدنيا والآخرة”.

وحيث إن الفكر البناء لا بد له من الحركة في  الحياة والكون – أى في  واقع مخلوق – ويعينه بالطبع أن تكون حركته مسيرة ومنتجة إذا عليه أن يحيط بأقصى ممكن من القوانين الكلية لهذا الموقع ،وعليه أن يفهم فعلها وتأثيرها وتسخيرها .

ونعنى بالقوانين الكلية تلك التي  لا حيلة للفكر منفرداً أو مجتمعاً مع حركة الإنسان في  تغييرها أو منع اطرادها ،بل أقصى الممكن هو فهمها ثم استثمار قوتها وتجنب مصادقتها .وهذه القوانين تستمد فعلها من قوة لدنية فطرها الخالق عز وجل في  الموجودات بحكمته وإرادته وقدرته .

فماذا كشف لنا الوحي من هذه القوانين الكلية أو السنن والفطر الإلهية ؟ أرى مناسبًا للمقام أن أقسم هذه السنن التي  أخبرنا الوحي بها إلى الأقسام التالية :

أولا :سنن وفطر وأخبار ووعود من عالم الغيب .وتنقسم إلى قسمين :

(أ ) أخبار ووعود غيبية ليس لها صفة الاطراد (الجريان أو السريان )بل تأتى بغتة بقول :”كن فيكون “.

(ب ) سنن وفطر وأخبار ووعود غيبية لها صفة الاطراد والجريان .

ثانيا : سنن وفطر وأخبار من عالم الشهادة ،ولها صفة الاطراد والجريان .

ودعنا الآن نناقش هذه الأنواع كل على حدة :

أولًا : (أ ) الأخبار والوعود الغيبية والتي  تأتى بغتة “بكن فيكون ” وليس لها صفة الجريان منها على سبيل المثال : ياجوج ومأجوج ،المسيح الدجال ،عودة المسيح عليه السلام ،علامات الساعة الكبرى ،قيام الساعة ،الدابة ،الدخان ،خرق النواميس بخسف أو إضفاء نعمة بكن فيكون ،وهكذا …هذه أخبار ووعود حقة ،منها القادم ،ومنها ممكن القدوم ،ونسأل الله سبحانة وتعالى أن يعطينا خيرها ويجنبنا شرها . وأما حكمتها في  حياة المسلم وأثناء قيامة بالتكليف فتنحصر في  ضرورة العمل الصالح والتمسك بالحق للفوز بالجنة وبلطف الله ،وهى معززة ومؤكدة للوعد والوعيد الذى جاء به الوحي ولتثبيت القلوب على الإيمان بالغيب ،ولا تأتى إلا بغتة ،فوفقها مغيب عن الإنسان ،ومن ثم ليس بوسعه اعتبارها في  خططه لإعمار الأرض ،اللهم إلا في  إطار المأمور به من العمل الصالح ، والذى يطلبه الإسلام على أى حال في  كل تعاليمه ، كما ذكرنا آنفًا ،ومن ثم لا يوجد لها علاقة مباشرة في  تشكيل التاريخ البشرى ،ولا أثر للتاريخ عليها ،فهى بإرادة الله ،ومصدر خبرها الوحي ،فمن آمن به عرفها ومن جحده غابت عنه .ولا حيلة في  كشف المزيد منها أو عنها أو تأويل خبرها .وما جاء به الوحي عنه يؤخذ بنصه ، وهو مبنى على التوقيف كما يقال ، ويكفي  الناس ما يفهم منه . والتعمق في خبرها عبث ورجم بالغيب من بابين ؛ أولهما : أنه لا يضيف للعلم الصحيح شيًئا ،بل يخلط ظنون الخلق بحق الوحي ،فتغيب الحقيقة عن كثير من الناس .

وثانيهما : أنه لا يترتب عليه عمل نافع ، فهو قبض ريح على أى حال .

(ب ) سنن وفطر ووعود غيبية  لها صفة الاطراد الجاريان :

هذا النوع جد واسع في  القرآن والسنة ،فمنه السنن والفطر ومنه الاخبار ومنه ما هو وعد أو وعيد ومثاله :

*{لا تزر وازرة وزر أخرى }

*{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها }

*{إن الله لا يغفر أن يشرك به }

* صفات الله سبحانه وتعالى كلها أخبار الغيب .

*{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }

*{إن النفس لأمارة بالسوء }

*ما ورد في  القرآن من طبائع الإنسان وما فطر عليه

*قصة خلق آدم وعداوة إبليس له .

* {وما يوتكل على الله فهو حسبه }

*{وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب مجيب دعوة الداع إذا دعان }

*{ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب }

*{إن الله يدافع عن الذين آمنوا }

*{وتلك الأيام نداولها بين الناس }

*{وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبنا شديدا وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً }

*{وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة }’ الأية وردت في قصة عيسي عليه السلام (آل عمران : 55 )

* تأييد الله عز وجل للمؤمنين وخذلانه للكفار , والواردة سنته في كثير من الآيات والأحاديث .

وهكذا الكثير الكثير من القوانين الكلية والفطر والسنن والوعود والأخبار التي تتعلق بالحياة الدنيا والآخرة .

وحري بنا أن نذكر هنا أن ما حواه الوحي من هذه السنن الغيبية بشقيها المضطرد وغيره هي كامل ما يحتاجه الإنسان للقيام بأمانة التكليف التي حملها, ومن هنا وصف الله الإسلام بالتمام والكمال {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة :3)  وهي من أعظم ما يميز الإسلام عن غيره من العقائد, إذ تجعله ملجأ العقول والنقوس لفهم الحق والحقيقة في تماس الغيب بالشهادة .

ولذا فإن هذه المجموعة علي درجة عظيمة من المحورية والركنية في الإسلام , ومن ثم لا بد للمسلمين أن يستوعبوا حكمها ومعانيها وآثارها , ويجعلوها موجهاً لحياتهم وحركتهم أفراداً ومجتمعات .

ومع أن هذه المجموعة وحي من الله إلا أن منها ما يمكن  للإنسان – عقلاً- أن يصل إليه بتجاربه في الحياة ونظره في شؤونها , إلا أن اليقين فيما قد يصل إليه العقل منها عزيز علي كل جاحد بالوحي مهما بلغ من العلم والتجربة وهو ميسر للمؤمن , وما يؤيده من تجارب الحياة وعلومها , فمثلاً قد يصل الإنسان بفكره وتجربته إلي بعض مما فطر عليه البشر في نفوسهم إلا أن علمه في هذا يبقي محض احتمال وترجيح لا يرقي إلي اليقين , ومن ثم لا يكون له القوة والركون والثبات التي يحظي بها العلم اليقيني , ويبقي معرضاً للنظر والتبديل والتحويل مما يجعله دائماً قابلا للإلغاء والتجميد من ” مجتهدين جدد ” , وبذا يتذبذب أهل هذا العلم البشري بين الإصابة والخطأ فكراً وبين الأخذ والإلغاء تطبيقاً .

وسر عدم اليقين – عقلًا – في هذا النوع من المعارف أن في دالتها (مجموعة المتغيرات فيها ) قبساً من غيب (3) (الروح والجانب اللطيف في البشر في هذه الحالة ) يعز علي القياس بمعايير العقل البشري , ومن ثم كانت رحمة الله بالمؤمن في أمر هذه السنن أن أكمل له ما يمكن أن يدرك بعضه بالنظر والفكر والتجربة ’ أي أعطاه اليقين , ولنا فيما تعرضت له علوم النفس الوضعية من تغيير وتبديل في الأسس مثال صدق علي ما نقول , كما أن من هذه المجموعة ما هو متعلق تعليقاً محضاً بالإيمان , ولا يعرفه أو يصل إليه إلا المؤمن با لله ورسوله .

(2) السنن والفطر والأخبار من عالم الشهادة ومثلها في القرآن :

*{وجعلنا من الماء كل شئ حي }

*{والشمس تجري لمستقر لها }

*{والقمر قدرناه منازل}

*{ والأرض بعد ذلك دحاها }

*{خلق من ماء دافق }

*{ وإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } (الأرض) .

وهكذا الكثير من حقائق الكون وسننه مما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية .

وما ورد في الوحي هو بعض مما بثه الله سبحانه وتعالي في الكون من هذه السنن والفطر ليس إلا .

ولقد كشف الله هذا البعض آيات إعجاز وبينات إيمان وإشارة لدور هذه السنن في حياة الناس وتثبيتاً للمؤمنين ورحمة بهم , ولكي تستقيم حياتهم قبل نضوج خبرتهم وتجاربهم .

وهي بكونها من عالم الشهادة الصرف ولا تحوي قبسًا من غيب مغيب إلي يوم الدين , فهي في أصلها في متناول العقل والتجربة ولو بعد حين , واليقين فيها ممكن وبالعقل وحده دون وحي .

ثم إن منها الكثير والكثير الذي لم يكشف عنه الوحي , بل كلف العقل بكشفه وتسخيره , ولذا فإن كمال القرآن في مجال هذا النوع من السنن هو كمال التنبيه لها والحض علي البحث عنها وكشفها وتسخيرها مع إعطاء أمثله منها وإشارات عليها لا كمال الإحصاء لها في محكم التنزيل .

وبعد هذا التقسيم دعنا نتساءل كيف تفعل وتتفاعل هذه السنن والفطر والوعود والأخبار غيبية كانت أو من عالم الشهادة في واقع الحياة إنها تتفاعل وتتداخل كلها معاً متآلفة متناسقة متوازنة دون تفاوت أو فطور , وتصنع تأثير المشترك – بإذن ربها – علي الحياة والكون نسيج الأسباب , هي ناتج التفاعل والتراكب والتوازن والتناسق بين كل السنن والفطر والوعود والأخبار , سواء كانت من عالم الشهادة أو عالم الغيب , وهي المظهر المؤثر والفاعل لجميع هذه القوانين الكلية .

وسوف نشير ومن الآن وفي كثير من المواضع إلي هذه السنن والفطر والوعود والأخبار وأثرها باسم جامع هو ” نسيج الأسباب ” أو ” الأسباب ” إلا أنني أنبه القارئ إلي أمر جوهري وهو أن ” نسيج الأسباب ” أو ” الأسباب ” والتي نعنيها هنا تشمل قوانين وحركة المادة في الكون , أي عالم الشهادة , ولكن لا تقتصر عليها, بل تشمل أيضاً سنن الغيب وفطره ووعوده  وأخباره , والتي لا ينال فضلها و كمالها  إلا المؤمن العامل بهديها , وتنبيهي هذا نابع من أن هذا الفهم للأسباب ليس هو المعتاد والشائع في الكتب والدراسات .

علي أي حال السبب عندنا من شقين متراكبين متوازنين يفعلان كوحدة واحدة ” شق شهادة وشق غيب ” ولأضرب مثلاً بسيطاً وشائعًا بين الناس :

يقال: “التوكل ” (وعموما الشق الغيبي من نسيج الأسباب ) لا يأتي برزق, بل الأخذ” بالسبب ” ويعني القائل “بالسبب ” هنا السعي المادي للرزق , أي الأخذ ” بشق الأسباب التابع لعالم الشهادة .

وعلي هذا يدور نزاع أو فصام نفسي , كيف يسقط التوكل علي  الله من معادلة الرزق بهذه البساطة ويعلو شأن “السبب ” , والذي هو فعل قوانين عالم الشهادة إلا أن هذه المقولة حسب فهمنا للسبب كما بيناه فيها مغالطة وباطل , وتحوي بعضاً من الصحة .

وضبطها في نظرنا كالتالي : التوكل شق من سبب الرزق الطيب  ,وليس كل السبب , والسعي المادي شق من سبب الرزق الطيب وليس كل السبب , وكمال السبب يتم باجتماع الشقين معاً .

أي إننا نري أن وعد الغيب مشمول في السبب وليس خارجه , والسبب لا يمكن له عند المؤمن أن يكتمل من حركة المادة وقوانينها المحضة فقط , (وقيل : الدعاء من السبب , ومن جند الله ).

وهذه وتلك معاً , أي شق الشهادة وشق الغيب في السبب هما من قدر الله سبحانه وتعالي :

الشق الأول : يمثل الحركة بعلم الشهادة .

والشق الثاني يمثل التوفيق والتوجيه والتيسير والتأييد والبركة للمؤمن العامل , أو التعسير والخذلان ونزع البركة لمن ينسي الله . وقد يقال في هذا المقام : إننا نري من لا يتوكل علي الله , بل لا يعرف  الله ولا يؤمن به يرزق من عرض الدنيا الكثير بسعيه وأخذه بالأسباب المادية المحضة للرزق .

وهذا صحيح ومشاهد وينسحب علي كافة أنشطة الدنيا للأفراد والمجتمعات , ولوضيح ذلك لا بد من فهم حكم الباري عز وجل وسننه , كما بينٌها القرآن في هذا السياق :

1-  رزق الدنيا مطلقاً غير محذور علي أحد من الخلق , مؤمناً كان أم كافراً ’ قال تعالي : {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً} (الإسراء :20) وقال تعالي :

{ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما في الآخرة من نصيب }(الشوري : 20) .

2- لم يجعل الله سبحانه وتعالي الإيمان به وبكتبه ورسله  سبباً لازماً “للرزق في الدنيا ” علي إطلاقه طيباً أو خبيثاً, إذ ليس بالضرورة أن يجوع  الكافر في الدنيا بكفره, ولكن يقيناً يشقي الكافر بكفره في الدنيا ولو بعد حين – فضلاً عن شقاء الآخرة – لمصادمته لقطاع عريض من سنن الله الغيبية التي جحدها وكفر بها , وهي تعمل فيه وفيما حوله دون توقف أو تحول , غير عابئة بكفره أو جحود .

قال تعالي : {ومن أعرض  عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمي } (طه :124).

كما يرزق الكافر من عرض الدنيا الفانية بما يليق بوضاعة معتقده وجحوده لخالقه .

فالدنيا مع كفر المآل في الدار الآخرة تصبح دار للبوار ومصدراً للندم والهلاك والضنك والمتاع القليل , قال تعالي :

{لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } (آل عمران : 197,196).

وقال تعالي : {اعملوا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد } (الحديد : 20 ).

وقال تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله علي كل شئ مقتدراً } (الكهف : 45) , وقال تعالي : {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوي لهم } (محمد : 12) وقال صلي الله عليه وسلم : “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقي منها كافراً شربة ماء ” .

3- أما ما يخص الله به المؤمن دون غيره فهو الرزق الطيب الذي يفضي به إلي حياة طيبة في الدنيا وإلي الفوز بالجنة والنجاة من النار .

قال تعالي :{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثي وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }(النحل : 97) وقال تعالي :{الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم }(النور : 26).

لقد جعل الله سبحانه وتعالي الرزق في الدنيا بأنواعه (دون طيبة وخلاصة من الخبائث ) متاحاً للكافر الجاحد إذا سعي آخذاً بشق الأسباب الخاص بعالم الشهادة , وجعل للكافر أن يتمتع بهذا الرزق المتاع القليل الزائل نظير سعيه وعمله له .

والله سبحانه وتعالي لا يظلم أحداً , قال تعالي :

{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون }

(هود : 15, 16 ) ولو أردنا هنا أن نفضل بعض الشئ فيما عنيناه من رزق خبيث لمن يغفل أسباب الإيمان والتوكل لقلنا : إن أسباب المادة قد تأتي بمبلغ الربح من دنانير  أو غيرها , وتبقي الا عتبارات القيمية والخيرية في استعمال هذا الربح مبلبلة وغامضة ’ بل مهملة لمن لا يري أهمية لأسباب الغيب , ومن ثم قد يبذر الربح أو يشتري به ما لا ينفع , أو يصرف في لذة حرام أو متعة غاشمة , أو يضل السعي في مشاركة أو استثمار , أو يشتري به ما قصد به التفاخر والرياء أو الاعتداء والاستعلاء أو البغي أو الإفساد أو الصد عن سبيل الله , أو قد يورث لمن يفسد به في الأرض ويكون عاقبة هذا الربح الذي حققه بأسباب المادة مع مغاضبة الخالق والبعد عن أسباب توفيقه وتيسيره هو قليل من النفع وكثير من البلاء , وأما من يأخذ بالأسباب جملة : أسباب الشهادة وأسباب الغيب فيجوز الرزق ويوفق لحسن استعماله والاستفادة منه لدنياه وعاقبة أمره بإذن الله , وهكذه في كافة الأنشطة .

ويلاحظ من استقراء كتاب الله وسنن الحياة أن الأخذ بالأسباب المادية يؤدي إلي الحصول علي شئ من جنس تلك الأسباب , وهو إنتاج مادي قابل أن يستعمل في الخير أو الشر في الحياة الناس , وأما دور الأسباب الغيبية التي تحكم أخلاق الإنسان ومثله وقيمه وضوابط ودوافع حركته فيأتي في توجيه هذا الإنتاج المادي للخير في الدنيا والآخرة .

وكما سبق القول فإن الله سبحانه وتعالي وعد بثبات سننه ؛ لذا لا تتوقع منها أن تقف عن الفعل لمجرد أن المنتج أو المجرد لا يؤمن بالغيب الحق , هذا وعد من الله أن هذه السنن سارية جارية لا علاقة لها بموقع الإنسان من قضية الإيمان , وأما الذي له علاقة حميمة بإيمان الإنسان من عدمه فهو قضية الحكمة , قضية التوفيق المحكم بين الطاقات التي تنتجها سنن المادة وتوجيهها إلي خير البشرية في الدنيا والآخرة .

وكما يعلمنا القرآن فإن قضية الحكمة هذه هي مناط العلم والثقافة والمعرفة والتربية والخبرة في حياة الإنسان , قال تعالي :

{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } (البقرة :269).

ثم بعد هذا التقسيم للسنن والفطر والوعود دعنا نتساءل عما تكون عليه حتمية الإسلام في هذا المجال , لما لهذا التساءل من أهمية بالغة في تاريخ وحاضر الأمة الإسلامية والعالم عموماً .

إن حتميات الإسلام في مجال السنن وفي حقيقتها – لا تتعدي أن تكون وعداً باستمرار فعل هذه السنن والفطر التي فطر الله عليها هذا الكون وما فيه من مخلوقات , وذلك دون تغيير أو تبديل , قال تعالي :

{فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } (فاطر : 43 ).

قال تعالي : {فطرة الله التي  فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }[الروم : 30]

فالحق سبحانه وتعالى عرض الأمانة على الإنسان بشروطها المحيطة بها فيها نفس الإنسان وخلقه وخلق ما حوله ،وحملها الإنسان على هذا الإنسان على هذا الأساس ، والحكمة والعدل الربانى يقتضى ثبات الشروط مع ثبات أمانة التكليف في  آن ،قال تعالى :{إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }[الأحزاب ]

إن تحرك الإنسان وطلبه بعمله النتائج بأسبابها الصحيحة هو طلب من الله أن يفي  بوعده ،والله لا يخلف الميعاد ،وعليه ،فإن الأسباب جاهزة للتلبية لأى من بنى البشر عند طلبها الصحيح .

ومن ثم فإن الحتمية الإسلامية لا تعد بأشكال أو أحوال اجتماعية أو عمرانية يتطور لها العالم مع الوقت رغم أنفه . بل إن هذه السنن والفطر الثوابت في  توافق تام مع تخيير الإنسان وحريته في  تحديد مصيره من خلال عمله .

وعليه ،فإن السنن والفطر (نسيج الأسباب )الفاعلة في  أيامنا هذه ،وستبقى على إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .هذا ما تعد به الحتمية الإسلامية ،وبالتالى فإن ما يتم على الأرض ، هو نتيجة لعمل الإنسان وفعل السنن والفطر بشقيها :الشهادة والغيب من خلاله ومن خلال تفاعلات الكون عامة .فالمستقبل قد يكون رائعاً أو قاتما ،وكل ذلك متوقف على أعمال الناس وتفاعلها مع سنن الكون والحياة كما بينا آنفا .

ولكي نلحظ الخلاف الجذرى بين الحتمية الإسلامية وبعض الحتميات الوضعية في  فلسفة الغرب نذكر العناوين التالية :

– حتمية مالتس تقول :بانهيار العالم نتيجة الزيادة السكانية عاجلاً أم آجلاً .

وأما الإسلام فيقول :إن السنن والفطر (نسيج الأسباب ) فاعلة باستمرار تعمل على أى حال ،أحسن الناس أم أساؤوا، كما أنها لا تتقصد الإنسان بإعاقة أو الزام ،بل هى مسخرة له وهو إيمانه وعلمه وحكمته وعمله ،فإن أحسن توظيفها واستعمالها كان من قونها خصما من قوته .وذكر الإيمان هنا جوهرى ؛لأنه يفتح للإنسان أبوابا من نسيج الأسباب الشامل ، لا تفتح إلا للمؤمن كما سبق أن قدمنا .

ثم بعد هذا العرض هناك أسئلة هامة لا بد من توضيحها على ضوء ما تقدم :

أولًا: هل تقوم حضارة في  حياة الناس دون الاهتداء بمنهج الوحي ؟

والجواب هو:نعم تقوم ،والدليل على ذلك ما ورد في  القرآن والسنة وما خبرته البشرية من تاريخها ،إلا أنه لابد بادئ ذى بدء من أن نقول كلمة فيها نعنيه بالحضارة :هنا لا تعنى الخيرية أو السعادة أو الطيبة أو الحق أو الجمال ،بل تعنى حصول تفاعل قوى بين عناصر ثلاثة هى :الإنسان والحياة والكون في  بقعة ما من الأرض ،وينتج عن هذا التفاعل نمط جديد في  للحياة في  هذه البقعة يختلف عما قبله .فالحضارة تقوم مع جحود الوحي ،وفي  غياب الإيمان ،ولكن أى حضارة وأى حياة ؟إن العبرة بجودة الحضارة التي  تقوم وليس بمجرد قيامها في  ذاتها .

ولقد ذكر لنا القرآن أمثلة كثيرة لحضارات قامت في  غياب الوحي .قال تعالى :{وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً }[يونس :88] .وقال :{وإن فرعون لعال في  الأرض وإنه لمن المسرفين } [يونس :83 ] .وقال :{ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ،التي  لم يخلق مثلها في  البلاد ،وثمود الذين جابوا الصخر بالواد , وفرعون ذي الأوتاد , الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب }(الفجر : 6-13) .

وقال تعالي : {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وآثاروا الأرض وعمروها وجائهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن أنفسهم يظلمون } (الروم : 9).

وقال تعالي في هود قوم صالح عليه السلام :{واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في  الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكورا آلاء الله ولا تعثوا في  الأرض مفسدين }[الأعراف  :74] .وكذا ما نشاهده من حضارة الغرب المعاصرة المفارقة للدين .

لقد جعل الله سبحانه وتعالى لمن يكفر التفاعل مع الحياة والكون واستعمال عناصره المسخرة للناس كافة – في  حوائجه وغاياته، وجعل لمن يكفر القدرة على الحياة وممارستها والتمتع بها ،وحتى يموت على فراشة دون أن يقله كفره ،بل يقتله عند انتهاء أجله – فعل الأسباب من مرض أو وهرم ، وما يصح في  حق الفرد في  هذا المقام ،يصح في  حق الفرد والمجتمعات ،(اللهم إلا أن يصيب الله من يشاء بخسف – كن فيكون – وهذا مما لا يقعد له وليس من موضوعنا ) .

فأى حضارة يمكن أن تكون مع جحود الوحي ؟لا تقوم حضارة مع جحود الوحي إلا مشوهة هذا البناء ، وسمتها الغالبة مبدأ القوة الغاشمة دون حق أو عدل والمتعة عامة شاملة دون قيود أو حدود ،والمتعة بطولها وعرضها وكل أبعاد ما أستحسن منها وما استخبث وبأى مقياس .فمن لا يرى للآخرة وجودا ،فضلا عن جزاءصالح ، لا بد أن يطلب جزاءه في  الدنيا ، وجزاءه في  الدنيا لا بد أن يكون المتعة والمتعة فقط ،حيث تتسع وتعم حتى تصبح محور الحياة ومناط كل عمل وقول كل نشاط ،ولا يغنى عن تلك المتعة قيم تربط بالدنيا من أملاك أو أبناء ،فكل ذلك يتركه عند موته – فنائه كما يعتقد – لغيره .

ولقد بين الله سبحانه وتعالى في  القرآن الكريم أن محور حياة الكافرفي  دنياه هى المتعة وليس غيرها ، وذلك في  آيات محكمات نذكر منها :قال تعالى :{والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } [محمد : 12] . وقال تعالى :{قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار } [الزمر: 8] وقال تعالى :{ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }[النحل :55 ] وقال تعالى :{كلوا وتمتعوا قليلا أنكم محرمون }[المرسلات : 46]

وقال تعالى :{ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذى أجلت لنا }[الأنعام :128] وقال تعالى :{أذهبتم طيباتكم منها في  حياتكم الدنيا واستمتعتم بها }[الأحقاف : 20] .

وقال تعالى :{متاع في  الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد }[يونس :70 ] وقال تعالى :{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}[آل عمران :185].

والآيات في  هذا الباب كثيرة ،وكلها تبين أن الكفر بالله يفضى بأهله إلى فلسفة المتعة في  الدنيا لا محالة ،ومن ثم يسخرون كل إمكاناتهم وما تصل إليه أيديهم للإكثار من المتع وتنويعها دون أى رادع من عرف أو خلق . ومن تنافس المتع دون رادع من حق أو عدل يطلع الطلع الخبيث ،طلع فلسفة القوة الغاشمة والتباهى بها فيقوم المتنافسون بحشد كل وسائل القوة ،لتستعمل في  الاستكبار والظلم والفتك بالناس والكائنات التي  قد تنافس أو تقف في  وجه موج المتع والجمع العارم لأسبابها .

وتتشعب من هذا النبت الخبيث – فلسفة القوة الغاشمة – عقائد وفلسفات وسياسات مفتراة ،كالعنصرية والعبودية والإقطاع في  النظم الاجتماعية والاستعمار والسيطرة في  السياسة الخارجية ،والدكتاتورية في  نظر الحكم ،والقومية والقبلية والعصبية في  الولاء والبراء ، وبنى الممالك والكيانات السياسية ،فتسفك الدماء وتستباح الأعراض والأموال ،ويظهر الفساد في  الأرض . ولقد بين الله سبحانه وتعالى من هذه المفاسد في  القرآن الكريم قال تعالى :”{ قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أذلة وكذلك يفعلون }[النمل : 34 ]. وقال تعالى :{فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئتهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في  الأرض وإنه لمن المسرفين }[يونس : 83 ] . وقال تعالى :{آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبير كم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم كالذين من قبلكم كانوا وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في  جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى }[طه :71 ]

وقال تعالى :{ أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولاد فاستمتعوا بخلاقكم كما أستمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذى خاضوا أولئك هم الخاسرون }[التوبة :69 ] .

وقال تعالى في  قارون: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفتاحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذا قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين .واتبغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في  الأرض إن الله يحب المفسدين .قال إنما أوتيته على علم من عندى أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله القرون من هو أشد قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون }[القصص :76- 78 ] .وقال تعالى :{فأمت عاد فاستكبروا في  الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هوأشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون }[فصلت :15 ] وقال تعالى :{قالوا نحن أولوا قوة وألوا بأس شديد والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين }[النمل : 33]

وقال تعالى {أولم يسيروا في  الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وأثارا في  الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق }[فافر :21 ] ولنا فيما يحدث من حضارة الغرب الراهنة عبرة .إن ما يقترف الآن من متع واستعمال للقوة الغاشمة في  هذه الحضارة ،لهو معجزة للقرآن وما ورد به من حسم لهذه المسألة !وانظر ما وصل إليه ذوق هذه الحضارة من خزى في  المتعة : زنا – لواط – سحاق – نكاح المحارم – نكاح البهائم – اغتصاب – خطف الأطفال – بذخ – ترف ألوان الأطعمة والمشهيات ، وحتى أن كثرة الأكل والتخمة أصبحت على رأس قائمة الأمراض التمتع بالقتل – التمتع بالتعذيب والمخدرات – الخيانة الزوجية – إلى آخر القائمة من الأفانين التي  أضحت مستنقعا أسنا يغاص فيه صباح مساء .والأدهى والأمر أن هذه الموبقات لم تعد تستهجن إلا قليلا ، وهذا القليل في  تآكل عاما بعد عاما حتى كادت أن تصبح في  مسلمات الحياة . وأما استعمال القوة الغاشمة فحدث ولا حرج : سفك الدماء وقهر الشعوب ، ونهب الأموال وإفساد النفوس والعقول والقلوب . بما لا يعد ولا يحصى على الأرض . لقد لطخت القارات والبحار كلها بدماء الأبرياء ، وأبيدت شعوب بأسرها ،وكدست خزائن الأرض في  الحواضر والمتاحف والقصور ، وطمس الحق ، وروجت الفلسفات الوثنية ومالا يحصى من الموبقات .

هذا مآل الحياة دون دين ،حياة مشوهة فاجرة . حياة استسلام للمتعلا وامتطاء لصهوة القوة الغاشمة ، تفسد النفوس والعقول والأبدان وكل قيم الحياة ، وتورث الضنك والآلام والعذاب في  الدنيا ، ثم تفضى أخيرا بأهلها إلى نار جهنم .

ثانياً : وهل تستطيع حضارة قامت على جحود الوحي أن تستمر ؟ لا ،لا تستطيع والمسألة في  أمرها مسألة وقت ،إذا إنها سرعان ما تتحول إلى الإغراق في  المتع ،وتنافسها كالشارب من ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا ، ثم التراشق بالقوة الغاشمة بين أطرافها ، فتشتد أزمتها مع الزمن إلى أن تقطع مفاصلها وأحشاؤها ، فيجئ أجلها فتتساقط وتدول دولتها .قال تعالى :{ولكن أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأجرون ساعة ولا يستقدمون }[الأعراف :34 ] وقال تعالى :{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة :251 ]

كما أن تلك الحضارة – ومهما علت – فلن تأخذ بالأسباب المبنية على الغيب والتي  لا حيلة للعقل منفردا في  التعرف عليها فتطلب هذه الحضارة الخاسرة عزها بطلب الأسباب المادية وحسب ،وتوجهها للهوى والمتعة وتنافسهما ، وتغفل عما جحدته من أسباب الغيب والإيمان ،فتبقى أسسها وبنيتها الاجتماعية والعمرانية هشة في  مجملها ، ينخرها البلى من داخلها .وما يزال يفتك بها ما افتقدته من أسباب الغيب حتى يخر بنينانها من القواعد قال تعالى :{قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون }[النحل :26]

ولقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا بالغاً في  هشاشة بنيان الكفر حيث قال :{هو الذى أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وفذف في  قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار }[الحشر :2 ]

لقد بينت هذه الآية الكريمة العبر التالية :

1- أن بنيان الكفر وعزه هش نخر رغم ما قدر يبدوا عليه من مظاهر المنعة .

ب – الكافر لا يدرى مدى هشاشة بنيانه ؛ لأنه غافل عن أثر جحود ،ويباهى بما يتصوره تفوق له ، ومن ثم تراه ينسى خراب نفسة وجبنة وتعلقه بالدنيا .

ج- حتى المؤمنون لم يتصورا أن بنيان الكافر بهذه الهشاشة (وانظر على سبيل المثال ما تصوره كثير من المسلمين من منعه الشيوعية فتهاوت في  بضع سنين ) .

د- أتى الله أهل الكفر من حيث لم يجهزوا أنفسهم به ،وهو عمار القلوب بالإيمان ،والثقة بالله ، فكانت قلوبهم خاوية داهمها الرعب فهوت دون مقاومة .

ذ- نداء من الله لاهل البصيرة ان يعتبروا ويعلموا أن القوة ليست بالتراكم المادى وحده ، وإن كان أحد عناصرها ، بل باتباع الصراط المستقيم الذى يشمل القوة الإيمانية والمادية معا .

ثالثًا : هل يمكن أن تستمر الحضارة المبنية على الوحي ؟وما معنى المداولة في  الآية الكريمة {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين }[آل عمران:140 ]

نقول :إذا قدر الله لحضارة أن تقوم على الإسلام الحق ،وأن يقيم أهلها الدين الشامل كما أمر الله فإنها يمكن أن تستمر إلى ما شاء الله ،وما دام أهلها على الحق ودون انقطاع ، والعبرة هنا بصبر أهلها على الحق كما نزل به الوحي قولا وعملا ليس إلا ، قال تعالى :{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }[الأنفال :53 ]

فوعد الله للؤمنين بالتثبيت والتمكين والنصر والظهور كما يحدثنا القرآن،لاوالنصروالظهور كما يحدثنا القرآن لايحده وقت أو فترة أو زمان أو حقبة ،بل هو عام لكل الأوقات حتى يرث الله الأرض ومن عليها (سنة كونية جارية ). فينتقل ذلك الوعد من الأب المؤمن إلى الابن المؤمن ثم الحفيد المؤمن ، ولا يخلف الله لأحد مادام على شرط الوعد وموجبات التمكين من إيمان خالص وعمل صالح .

ثم هناك نقطة هامة لا بد من التحذير منها وهى أن الله سبحانه وتعالى – وبنسيج الأسباب التي  هى جند من جنود الله – يصيب المجتمعات بجريرة بعض من أفرادها . قال تعالى :{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}[الأنفال :25] وإن لنا في  غزوة أحد لعبرة ، إذا بين الله سبحانه وتعالى في  كتابه العزيز أن عصيان مجموعة من الجنود لأمر الرسول أفضى إلى هزيمة جيش فيه أكرم خلق الله على الله .فالسنن والفطر ، أى نسيج الأسباب ،لا تجامل أحدا ولا تتحول ولا تتبدل ، وهذا وعد الله والله لا يخلف وعده . كما لابد أن يكون واضحا أن عقاب الهزيمة الذى وقع في  أحد على ذلك المجتمع الطاهر ، كان بأمر الله لنسيج الأسباب أن تفعل دون تغيير أو تبديل . ولم تكن الهزيمة بطلاقة القدرة وخرق الناموس كما الحال في  المعجزة والخسف ، وشاهدنا في  ذلك أن ما حدث يفهمه العقل السليم ، وكان لا بد أن تحرج الجماعة المسلمة في  المعركة بعد أن طوقت من خلفها دون ساتر، وأصبح عدوها يكاد يحيط بها من كل جانب .

إن هذا الدرس وغيره مما ورد في  الوحي ، وكذا تجارب التاريخ ، تبين أن المجتمع في  شؤونه المشتركة لا بد أن ينظر له كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى – كما قد يقضى فساد في  أحد أصابع اليد إلى الموت ومن ثم فقد يعانى المجتمع هزيمة نكراء ، بل وسقوطاً تاماً لفساد بعض أفراده من ذوى التوجيه أو القيادة أو التأثير . وهذا مشاهد في  الحياة ويتفق مع فعل الأسباب المجردة والمحاكمة العقلية البسيطة للواقع المعاش .

وأما “المداولة ” المذكورة في  الآية الكريمة فإنها لا تعنى الحتمية أو “الضرورة التاريخية ” التي  تنقل النصر والهزيمة والتمكين والدحر بين الشعوب والأمم تلقائيا ، وعلى فترات ، فإذا نظرنا إلى المعنى الخاص للآية – وكما سبق البيان – فهى قد وردت في  هزمية أصابت المسلمين بفعل الأسباب وبوضوح ، إذا لا يخفي  لأى عارف بالحرب أثر الحصار في  جلب هزيمة المحاصر ، وهذا ما حدث للمسلمين . ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى بفصل الخطاب ، إذا بين سبب الهزيمة بعصيان الرسول الذى أدى بدوره إلى الحصار قال تعالى :{ولقد صدقكم الله وعده إذا تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في  الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون }[آل عمران : 152] .

وأما المعنى العام للآية الكريمة فلا ينبغى أن الأسباب لا تجامل أحدا كائنا من كان ، كما تجدر الإشارة هنا أن الآية موضوع التعليق [آل عمران : 140] ختمت بعبارة {والله لا يحب الظالمين }وهى درة في  موقعها الأمثل كدرر القرآن جميعا ، ولعلها ضربت عصافير كثيرة بحجر واحد – كما يقول المثل – كدأب هذا الكتاب الربانى المعجز ، فالله لا يحب ما ارتكبه المخالفون لأمر الرسول من ظلم ، ولا يحب ظلم جماعة المسلمين لنفسها ،ولا يحب ظلم من اعتراض على الهزيمة قائلا أنا هذا ، ولا يحب أن يظلم الكفار بوقف الأسباب في  هذا المقام والله أعلم .

وأما النظر إلى معنى المداولة الوارد في  الآية الكريمة على عمومه من تغيير أحوال الناس من نصر إلى هزيمة ،ومن عز إلى هوان والعكس فهذا حق وهو ما يحدث في  كثير من الحالات إلا أنه ليس “حتمية تاريخية “تحدث تلقائيا رغم أنف الاسباب ،بل إخبار من الله عز وجل عن ضعف الإنسان وعجلته وقلة صبره على الحق ، {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يتوسًا }[الإسراء : 83] .

وقال تعالى :{وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض }[فصلت : 51] .

كما أن تغير الحال من ذل إلى عز ومن سقوط إلى نهوض ، هو إخبار من الله عز وجل أن من الناس من يؤمن بعد كفر ويصلح بعد كفر ويصلح بعد فساد ، وبذا يرث من آمن بالحق من تولى وفسد . قال تعالى :{وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }[محمد : 38] . وهذه الآية صريحة في  أن الاستبدال مشروط بالتولى أى الفساد بعد الصلاح ، وأنه لا يتم تلقائيًا كحتمية تاريخية .

رابعًا : مادامت السنن والفطر لا تتبدل ولا تتحول بوعد صريح من الله ، فكيف يخرق الله الناموس ويوقف السنن والاسباب ليسخف أقوامًا بعصيانهم أو ينعم على أقوام بتقواهم ؟

الحق كما بينه القرآن أن سنن الله وفطره تشمل في  عمومها اللالكامل كما بينا آنفا – خرق تلك السنن وتعطيلها من قبل خالقها وخالق كل شئ عندما يريد وكيف يريد . ولقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في  كتابه العزيز مرارًا محذرًا ومنذرًا من يتمادى في  طغيانه ويغفل قلبه عن جبروت الله وطلاقة قدرته . قال تعالى :{أفأمن اللذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض } [النحل :45 ]، وقال تعالى :{أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا }[الإسراء :68]، وقال تعالى :{ياأيها الذين أوتو الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدًقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولًا}[النساء :47 ] .ولقد شملنا هذا الناموس الغيبى (وهو خرق الناموس ) في  القسم 1- أ- من تصنيف السنن إلا أن النص القرآنى والتربية النبوية ثم المعايشة للسنن والفطر في  تاريخ البشرية تبين أن ظاهرة تعطيل الناموس من الله عز وجل بكن فيكون ، وذلك لإضفاء نعمة أو إنزال نقمة هى جد نادرة وليست مطردة ولا يبنى عليها من العمل إلا تعزيز الالتزام بدين الحق والصراط المستقيم ولزوم الدعاء .

ولذا حرى بالمسلم أن يأخذ بنسيج الأسباب المطردة (بشقها الغيبى والمشاهد كما سبق تفصيله ) لفهم حاله ما حوله وأن يجعل سنة (تعطيل الناموس ) في  إضفاء الخالق النعم على المؤمنين وإنزال العذاب على الكافرين من احتياطى القوة والمنعة والثقة بالله ويتعهد هذا الأمر الغيبى بالعناية والاحتفاء في  دعائه ومناجاته لربه .

خامساً : ما مدى شفاعة الإسلام في  أهله – وإن كان ضعيفاً في  نفوسهم كحال المسلمين اليوم – للأخذ بيدهم إلى الظهور والتمكين ؟

هذا سؤال يردده المسلم هامساً بين جنبات نفسه ، وأكاد أقول : معاتبًا لربه كلما أصاب أمة الإسلام بلاء جديد ، والإجابة عليه يسيرة وهى – تكرار – أن سنن الله وفطره التي  أودعها كونه وتمخض عنها نسيج الأسباب كما سبق شرحه لا تجامل أحداً ،وثباتها وإطرادها وعد ،قال تعالى : {فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً } [الروم :30]

ثم ارجع يا أخى المسلم إلى قائمة السنن والفطر – ولقد ذكرنا عينة منها في  البحث – واسأل نفسك ما الذى عرفته منها وآمنت به وحولته إلى عمل في  نفسك كم من سنن عالم الشهادة والتي  لم تذكر في  كتاب الله إلا من قبيل الإجمال والإشارة سعيت النهار والليل في  البحث عنها واكتشافها وتوظيفها في  أسباب القوة والمنعة والتمكين ، ثم احص ما أحسنت فيه قولاً وعلماً ، وما قصرت فيه ، وحاكم نفسك وفي  المأثور “دينوا أنفسكم قبل أن تدانوا “إن اجمال إحسانك ومجتمعك ،وتقصيرك ومجتمعك ،بين لك حظ ما أخذت به من أسباب الظهور والتمكين ، فما عساها تكون النتيجة ؟

ستجد مسلمى اليوم قد حصلوا على 10% أو دون ذلك ،فكيف يكون لهم تمكين أو عز ، وقد يحظر ببالك أيها المسلم – وتكراراً- حال الغرب ،وكيف تظهر لهم منعة وقوة مقارنة بنا ؟

والحال أننا أخذنا بالقليل المتضارب من أسباب الغيب ، وهم غفلوا عنه ، ونحن أخذنا بقليل مثبر من أسباب عالم الشهادة وهم أخذوا بالكثير المنسق منها ، فهم في  مقياس الأخذ بالأسباب والذى هو مناط التمكين في  الدنيا أوفر حظاً منا ، وأما ما وعدنا الله به من مآل للجنة بإذن الله به مآل للجنة بإذن الله ولو بعد حين من العذاب ،وذلك بشفاعة قول : “لا إله إلا الله “فهذا وعد مكانه الآخرة ،وليس الدنيا ،وآخرة المسلم خير من آخرة الكافر الجاحد على أى حال .

ولعلى أرجع جل هذا الخور والتخاذل والاستهتار والبلادة إلى وهم سيطر على النفوس أخال لسان حاله يقول : حيث إننا حملة الدين الحق وأتباع النبى الخاتم (ص) ، وحيث إن الله لا يقبل إلا- الإسلام ديًنا {إن الدين عند الله الإسلام }وحيث إن الله وعد بحفظ الدين {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }وعد سبحانه بنصر المؤمنين {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } فإن نصرنا حتمى ، وجولتنا قادمة مهما طال الزمن ، ففقرنا ابتلاء وحب من الله إذا أحب الله عبداً ابتلاه “. فنحن نستحق الغنى والسعة ننا،ولكن الله يمحص نفوسنا ليرى الصابر من غيره {حم ’أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون }[العنكبوت 2-1].

ثم إن الغنى غنى النفس ،ونفوسنا غنية بالإسلام ، وهزيمتنا درس وأميتنا أصالة فالنبى (ص) أمى ، وعزوفنا عن حديث العلوم والمعارف عزوف عن البدع والخوض مع الخائضين ،وضعفنا هو ظاهر الأمر ،ولكن حقيقة الأمر أننا أقوياء بإيماننا وبقول لا إله إلا الله ،وبطؤنا في  الابداع والاكتشاف ورع ، فقد أمرنا أن لا نتعرض لما ليس لنا به علم {ولا تقف ما ليس لك به علم }, وذلنا ليس بحقيقة بل سراب يراه الكفرة وأعوانهم ،فنحن أعزاء بإيماننا {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } وجبننا ليس واقعا بل هو حكمة وروية ،ألم يقل رب العزة :{ولا تلقوا بأديكم إلى التهلكة} وعجزنا وتخاذلنا ليس واقعاً أيضاً بل هو الاعتدال والتوازن ألم يقل رب العزة :{ لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها }واستسلامنا لأعدائنا ليس حقاً ،بل نتبع الحكمة من ديننا ألم يقل رب العزة :{وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله }وخضوعنا للخسف والظلم والجور من الحكام ليس حقاً ،بل هو الصبر الجميل اتقاء الفتن ، ألم يقل رب العزة :{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم }، وكسلنا وقعودنا ليس واقعاً ،بل هو التوكل على الله ، ألم يقل رب العزة : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه }, وخطاينا مغفورة فنحن الأمة المرحومة والله عز وجل تواب رحيم ومصيرنا الجنة ، فنحن أمة التوحيد :”من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة ”  وغيرنا خالد في النار ؛ لأنه لم يقبل الإسلام ألم يقل رب العزة :{ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }فنحن متفوقون على الناس كافة مهما صار إليه حالنا في  الدنيا ولم يبق لنا إلا أن نقول :نحن أبناء الله وأحباؤه كما قالت اليهود ، ثم ماذا ؟ المضحك المبكى أن هذا الدين العظيم المتين يتعرض لمحنة مستطيرة في  هذا الحاضر الأغير ، مصدرها حملته وأتباعه ، ورحم الله الأفغانى ،حيث قال :”الإسلام محجوب بأهله ” إنه لعسير على الفهم أن تجهض المعانى العظيمة والنصوص المحكمة في  عيون خاسرة ونفوس خاوية إلى هذا الحد ،وحرى في  هذا المقام أن يتداعى إلى أذهاننا ما أصاب بنى إسرائيل من فساد في  القلوب ومرض في  العقول والنفوس لحال لعله يشبه ما نحن عليه اليوم . لقد كانت في  بنى إسرائيل رسالة الله الحقة وكانوا أمة الإسلام (كما نحن اليوم )، ولكن ما أصاب صدورهم من فساد وأرواحهم من خواء وعقولهم من بلاء جعلهم لا يرون في  نصوص التوراة إلا طرق الإفلات منها والتحايل على محكمها وتحريف كلامها عن مواضعه ، ومع هذا أمنعوا في  الزهور والاستعلاء وإظهار الشرف والرفعة ،فهم بادعائهم أصحاب الرسالة وحملة الدين الحق ، وهم أبناء الله وأحباؤه وشعبه المختار والمفضلون على العالمين ، ولا يدخل الجنة سواهم ، وإن مسهم عذاب فهو لأيام وغيرهم خالد في  النار ، وهم مهد النبوة والرسالة وأهل العلم والمعرفة ،وغيرهم أميون عوام ثم ماذا ؟  هل أغنى عنهم هذا التشدق بالشرف والنبل ؟ وهل ظهروا يوماً في  الأرض بغزمهم وعلمهم ؟كلا بل قضوا زمانهم من ذل إلى ذل ،ومن استبعاد إلى سبي ،ومن محنة إلى محنة أشد ،ومن فتنة إلى فتنة أعظم واستكانوا عل حالهم قبائل من همج البدو والرحل لم يعرفوا حضارة ولا طعموا كرامة ولا عمروا أرضاً ولا أقاموا ديناً ، ولا وطئوا موطئاً يغيظ الكفار ، وكانوا من آخر الناس في  ميزان التقدم والمدنية بشهادة أنبيائهم وعلماء التاريخ ،فهل لنا أن نعتبر ونتقى الله في  ديننا وأنفسنا .

ثم ماذا رد الله عز وجل على بنى إسرائيل ؟هل جاملهم الله لأنهم أمة الإسلام وفيهم دينه وكتابه ؟ حاشا وكلا ، والله هو العدل الحق . لقد أوجز الله عز وجل حالهم – بعد سلسلة من الأنبياء الكرام – حيث قال في  كتابه العزيز : {وغرهم في  دينهم ما كانوا يفترون }[آل عمران :24] . نعم أصابهم الغرور وتشدقوا بالأنساب والرسالات وتركوا العمل الصالح ثم إلى ماذا انتهى أمرهم ؟ لقد انتهى أمرهم أن لعنهم الله وطردهم من رحمته وخسف بعضهم إلى قردة وخنازير ، قال تعالى : {فنردها عل أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } [النساء : 47] وقال تعالى :{ومن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير}[المائدة :60 ] إلى هذا الحد بلغ غضب الله على أمة مسلمة فسد الدين في  قلبها وعقلها .(كما نشتكى اليوم )لقد بلغ الغضب حد اللعن والخسف ، فالرسالة نعمة عظيمة إذا قام الناس بحقها وهى حجة رهيبة على أهلها إن ضيعوها ،فهل لنا أن نعتبر ونتقى الله في  ديننا وأنفسنا ؟

سادساً :لقد فتك من ليسوا بمسلمين بأمة الإسلام مرات ومرات وأذلوا عزها واستباحوا بيضة كثير من أجزائها ، فكيف يكون ذلك ؟

بادئ ذى بدء نقول – وكما سبق البيان – :لقد وعد الله المؤمنين الذين يعلمون الصالحات العزة والتمكين والنصر ، ووعده سبحانه وتعالى حق لا مبدل له ، قال تعالى :{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون }[المنافقون :8] ،وقال تعالى :{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في  الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونى لا يشركون بى شيئاً }[النور :55] ،وقال تعالى :{وكان حقً علينا نصر المؤمنين }[الروم :47] لكن أغلب مسلمى اليوم لم يحققوا موجبات العزة والتمكين والنصر من إيمان خالص وعمل صالح ،وهم على حرف في  دينهم ،نسوا كثيراً مما ذكروا به ،وأظهروا الفساد في  الأرض ، فكان حقاً على الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم لعلهم يثوبوا إلى رشدهم ويكفوا عن غيبهم ويرجعوا من غفلتهم .قال تعالى :{فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون }[الأعراف : 165] وقال تعالى :{ظهر الفساد في  البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون }[الروم: 41] .

ثم يقال :إن المسلمين يقومون بجزء من دين الإسلام ويتركون جزاءاً ،وهم بهذا أفضل ممن لا إسلام لهم وأولى أن تكون لهم السيادة والريادة . لقد أجبنا عن جل هذا التساؤل سابقاً ،ونضيف هنا أن هذا القول غير دقيق ، وقد يقود إلى سوء الفهم وخداع النفس فمن ناحية لا يطلب من البشر الكمال في  الدين أو غيره ولكن ما يعجزون عن القيام به لا بد أن يكون لعذر يقبله الله سبحانه وتعالى وليس بالطبع من القبول لله الجحود والإصرار على الذنوب والاستمرار عليها ونسيان الاستغفار والقعود في  الدنيا بدلاً عن بذل الاستطاعة ونقص عرى الإسلام وتعطيل بعض أركانه وما عرف منه بالضرورة ،فهذا يقارب أو يصبح كحال من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض ، ولقد توعد الله من يفعل ذلك بالعذاب في  الدنيا والآخرة ، قال تعالى :

{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في  الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } [البقرة :85] . وأما من أطاع الله وأطاع الرسول وعمل بما يعلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، واستغفر لذنبه ولم يستبدل الإسلام في  شأن من شؤون حياته بعقيدة ابتداعها أو قلد فيها مبتدعاً ،وكانت قدوته رسول الله (ص) ، وكان شعاره قول رسول الله :”لقد نهيتكم عن أشياء فاجتنبوها وأمرتكم بأشياء فأتوا منها ما استطعتم ” وكما قال (ص) في  دعاء سيد الاستغفار :”اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ” ولم يقعد عن الأخذ بنسيج الأسباب بشقيها من عالم الغيب والشهادة كما أمر الله ورسوله من عمل هذا مخلصاً لله فإنه – إن شاء الله – من النصورين في  الدنيا والآخرة .

والحال هذا ،فإن ما يصيب مسلمى اليوم من محن ،واضحة أسبابه ومفهوم مغزاه في  ضوء محكم التنزيل . وأما أن يصيبهم الله بهذه المحن بتسليط غير المسلمين عليهم ، فليس في  هذا ما يستغرب ،فالريح والصواعق والخسف والقصف وكل الظواهر الطبيعية وكذا المخلوقات بما فيها الوحوش والظلمة جند من جنود الله لا يحصيهم إلا المحصى عز وجل ولا يعلمهم إلا المحصى عز وجل ولا يعلمهم إلا هو سبحانه ، قال تعالى :(وما يعلم جنود ربك إلا هو ) [المدثر :31]  فله سبحانه وتعالى أن يسلط من يشاء من جنوه بطلاقة وإرادته لإنزال العذاب أو الابتلاء فيمن استحقه من عباده ، قال تعالى :{وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون }[الأنعام :129 ] وقال تعالى عن إنزاله العذاب ببنى إسرائيل في  الدنيا :{فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا }[الإسراء :5]

وجمهور المسرفين  على أن المبعوث للانتقام من بنى إسرائيل هو بخختصر ماك بابل ،وهو لشركه أقل درجة من اليهود رغم فسادهم وانحرافهم ، وفي  الأثر : (الظالم سيف الله في  الأرض ينتقم به وينتقم منه ) والله سبحانه وتعالى لا يرضى عن كل جنده ولا يحبهم جميعاً ، بل منهم المشرك بالله والمفسد في  الأرض ،لكنه سبحانه وتعالى سسخرهم ويسلطهم على من يشاء وكيف ومتى شاء ، ومن ثم لا يجوز أن يفهم المسلم الذى درس القرآن أن أداة العقاب وعصاه (والتي  في  السؤال غير المسلمين ) هى بالضرورة أكرم عند الله من المعاقب (المسلمين ) ،ويبدوا أن الله سبحانه وتعالى قد سخر غير المسلمين في  هذا الزمان لينزلوا الذل والعذاب وبالمسلمين من باب التسليط والاستدراج بإذن الله ،فمن ناحية ينزل بطشهم وظلمهم عقاباً بالمسلم الذى نسى رسالته وأمانته ،وهذا هو التسليط وهو من ناحية أخرى إغراء للظالم المشرك الذى اختار الظلم نبراسًا لحياته ليزداد ظلماً وسفكاً للدماء وإفساداً في  الأرض ،فيحق عليه القول والعقاب من جنس تسليط غير المسلمين على ليس عزاً للأولين ،فالعزة الحقة هى قبس من الله سبحانه وتعالى ولا تكون إلا لمن ملأ قلبه إيماناً بالله ، ومن ثم توكلاً واعتماداً عليه ولو كان عبداً مهيض الجناح في  الظاهر ، قال تعالى :{من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } [فاطر:10] وكذا ليس تمكينًا لهم ،بل مكر بهم واستدراج .

قال تعالى :{فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } [الأنعام :44 ] وليس نصراً لهم ،فالنصر لا يكون إلا بالحق وللحق وفي  الحق ، وهم مغيبون عن الحق بكفرهم وشركهم بالله ، وفي  معنى النصر قال صلى الله عليه وسلم : “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ” الحديث . فالظالم لم المستكبر لا نصر له ولو علا في  معركة حربية أو في  منافسة مادية أو في  عرض من عروض الدنيا . ومن ثم فإن ما يظهره بعض المسلمين من احتجاج على مايصيب أمة الإسلام من محن احتجاج على يد أعداء الدين مصدره الجهل بحقيقة التكليف والأمانة الإسلامية والجهل بحقيقة ممارسة المسلمين لدينهم في  هذا الزمان والغفلة عن بيان القرآن الكريم لعواقب التفريط والقعود ، فترى هؤلاء المحتجين مغرقين في  إحسان الظن بأعمالهم ، وكذا مغمضين أعينهم عما يقترف في  مجتمعاتهم من ظلم وفساد ، وهاجرين لحكم القرآن ومعاينه ،كما أن ما يظهره بعض المسلمين من التبرم والضجر بطول الليل وتأخر النصر والتمكين لا يعدو أن يكون جزءاً من طبع الإنسان الأصيل في  العجلة وطلبه الثمرة قبل موجباتها بدافع الظلم والجهل ، قال تعالى :{وكان الإنسان عجولاً }[الإسراء :11] وقال تعالى :{وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }[الأحزاب :72 ] . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد على أصحابه الذين استعجلوه نصر الله وتمكينه قبل وقته وتمام موجباته “كل آت قريب – لا بعد لما هو آت – لا يعجل الله لعجلة أحد – ما شاء الله لا ما شاء الناس “.

سابعاً : ما علاقة القضاء والقدر بنسيج الأسباب كما بين في  هذه الرسالة ؟

تعريف : القضاء هو علم الله عز وجل في  الأزل (البداية المطلقة ) بالأشياء كلها على ما ستكون عليه في  المستقبل وحتى الأبد (النهاية المطلقة ) .

القدر : إيجاد الله لتلك الأشياء بالفعل طبقاً لعمله الأزلى بها .

نالت قضية القضاء والقدر اهتماماً واسعاً من المفكرين والفلاسفة المسلمين ، وأدخل التعمق فيها بعضهم في  متاهات أودت إلى ضلال وهلاك في  الدين (انظر على سبيل المثال كتيب الاحتجاج بالقدر لشيخ الإسلام ابن تميمة ) فمنهم من قاده التعمق والتكلف الفكرى إلى القول بالجبر المطلق ، إذا جعل ما يحبه الله ويرضاه هو عين قضائه وقدره ومشيئته في  كلياتها وتداعياتها .

ويجدر بى هنا أن أحاول توضيح ما أعنى بهاتين الكلمتين فيما يخص أعمال العباد ؟ لقد شاء الله في  الأزل أن يخلق بشراً يعطيه درساً في  الطاعة ودرساً في  كيد الشيطان ، ثم يهبطه إلى الأرض ليعمرها ، وهذه مشيئه كلية ، كما شاء الله أن يودع في  مفردات هذا البشر جهازاً للاختيار بين بدائل الخير والشر ، وذلك الجهاز هو العقل ومتعلقاته من الحواس ، وهذه مشيئة كلية كما شاء الله أن يصطفي  الإنسان لأمانة التكليف ثم يحاسبه على كسبه ، وما قدمت يداه ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر، وهذه مشئة كلية أيضاً وهكذا . وفي  مشيئات الله الكلية والتي  ضربنا مثلاً لبعضها فيما تقدم تتطابق مشيئته الكلية سبحانه وتعالى مع ما يحبه وما يرضاه ويصح لنا أن نقول : إن الله شاء وأحب ورضى في  آن أن يصطفي  الإنسان لأمانة التكليف ، ثم يحاسب على كسبه وما قدمت يداه إن خيرا خير ، وإن شراً شر .

وهكذا الحال في  كل مشيئة كلية لله عز وجل من مفردات وتفاصيل في  حياه الناس فهى من مشيئة الله بالتداعى ؛لأنها من متعلقات ونتائج المشيئة الكلية ، إذا إن هذه المشيئة الكلية ليست عنواناً لغوياً فحسب ، بل مشيئة مركبة تشمل الاحتمالات والخيارات والإمكانات والنتائج والتفاصيل والأبواب التي  تفتحها وتؤدى إليها هذه المشيئة ودون استثناء ، والتداعيات والتفاصيل هذه من مخلوقات الله ، إذا هو خالق خاماتها والقدرة على عملها وجمعها وإخراجها من كسب البشر ، وخالق القدرة على النزوع والكسب في  الإنسان وهو – سبحانه الحى القيوم – المحصى – لكل ذلك من الأزل وفي  حين وقوعه ، ومن ثم منع حدوث أى حادث جل أو صغر إن شاء . إلا أن هذه التداعيات والمتعلقات والتفاصيل لا يصح في  حقها كلها أن يقال 🙁 إن الله يشاؤها ويحبها ويرضاها في  آن وفي  كل الأحوال ، وأما الحب والرضا فهى من حال إلى حال ، فذنوب العباد تحدث بمشيئة الكلية في  التكليف وخلق الإنسان القادر على فعلها إلا أن الله لا يرضاها لعباده .

قال تعالى :{ولايرضى لعباده الكفر }[الزمر :7] ،وقال تعالى :{والله لا يحب الفساد }[البقرة :205 ] .

هنا افترقت المشيئة عن الحب والرضا ، وأما الحب والرضا فهما متلازمان ، لأنهما تعبير عن حال واحد . ومعلوم من الدين بالضرورة أن الله يكره عمل الشيطان ويمقته ، والشيطان جالب لغضب الله العلى القادر على الانتقام من هذا المخلوق المغاضب في  الحال إلا أن مشيئة الله في  الأزل والتي  تحكم كل ما سواها هى أن الشيطان منظر إلى يوم الدين بكلمة سبقت من الله ، ودخلت هذه الكلمة في  عالم السنن الكونية التي  لا تتبدل ولا تتحول لغضب أو رضا .

ولنضرب لك مثلاً من الواقع المعاش – ولله المثل الأعلى – شاء زيد ،بادئ ذى بدء ، أن يجعل لابنه عمر حرية اختيار الكلية التي  يلتحق بها ، وزيد يسر في  نفسه أنه يفضل لابنه كلية الشريعة- فاختار عمر بعد ذلك كلية التجارة ، فما موقع هذا الاختيار من زيد ،لأنه شاء لابنه حرية الاختيار من زيد ؟ لقد شاءه زيد ، لأنه شاء لأبنه حرية الاختيار ، وليس من المنطق أن يقال : إن عمر اختار كلية التجارة رغم أنف أبيه ، ولكن من الحق أن يقال :إن زيدا لا يحب اختيار ابنه لكلية التجارة .ومثل آخر :قبقل زيد القران من ليلى ،وهو في  هذا شاء وأحب ورضى بعد أن وازن بين محاسنها وعيوبها ورجح المحاسن على العيوب ، ففي  حقه يقال : إنه شاء القران وشاء ما بها من محاسن وعيوب أى علمها ووازن بين تفاصيلها وأعمل الحكم فيها ورجح ،ولا يقال : إنه أحب ورضى عيوبها .

والواقع أن هذا الفرق اللغوى الواجب تحديده بين المشيئة والحب والرضا علمه لنا القرآن ، وهو من متواتره ومحكمه فلا يحدث حادث في  الأرض ولا في  السماء إلا بمشيئة الله ، ومن ذلك ما لا يرضى عنه ولا يحبه سبحانه كذنوب العباد . والقرآن يقعد منه ولا يقعد له ، ولو أن من تناولوا هذه المسألة في  تاريخنا الإسلامى عرفوا للقرآن حقه كوحى من الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا اختلاف فيه وجاء بلسان عربى مبين وجاء بينا ، فخاطب البسطاء بلغتهم وما اعتادوا فهمه من ألفاظها وتعابيرها دون استغلاق أو تفلسف لأخذوا الحق من القرآن وفهموه ولما كان لكثير من البدع حظ في  الظهور والانتشار إلا أنها آفة أصابت كثيراً ممن عالجوا فهم القرآن لا بتحكيم حالاتهم النفسية والعقلية في  محكم النصوص ، ومن ثم ليها عن معناها البين المستقيم .

ونعود بعد هذا التوضيح إلى ما قلناه من أن بعض من عالج موضوع القدر قاده التعمق والتكلف الفكرى إلى القول بالجبر المطلق ،إذا جعل ما يحبه الله ويرضاه هو عين قضائه وقدره ومشيئته ، ومن ثم نفي  مسئولية العباد عن أعمالهم إذا بزعمهم أن كل ما يحدث من أعمال هو مما يرضاه الله ويحبه ،وبذا أصبح الإحسان والإساءة سواء ،وهذا قول أخطل ، ومن أشد الفلسفات العبثية إسفافاً وسفهاً ، ومنهم من بدأ بداية الجبريين وجعل أيضاً ما يحبه الله ويرضاه هو عين قضائه ومشيئته ، ولكن كى لا يقع فيما وقع فيه الجبريون من ظلم بجعلهم الإحسان والإساءة سواء وإنقاذا للعدل من براثن الجبرية وقعوا فيما هو أسوأ ، فقالوا بالقدرة الإنسانية وجعلوا الإنسان غير مقدور عليه في  الكون ، إذا يعمل ما يشاؤه الله في  كونه ، ورغم مخالفة هذه الهرطقات لحكم القرآن إلا أن أصحابها ابتدعوها اعتمادها على عقولهم وحسب ، واعتذروا للقرآن بتأويلات فاسدة ، فأتكلهم الله في  علمهم على العقل الإنسانى القاصر محروما من نور الوحي . وأما أهل النجاة وأتباع الصراط الحق من المسلمين فيقولون بما علمهم الله قرآنا وسنة دون الخوض في  بحار لجية من الظن والرجم بالغيب فهم يؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويقرون أن مشيئة الله عله كل حادث ،قال تعالى : {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }[التكوير : 29]  وقال صلى الله عليه وسلم :”ما شاء الله كان وما لم يشأ الله لم يكن ” ويؤمنون بمسئولية الإنسان عن أعماله : {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }[الزلزلة :8 ،7] ويؤمنون بعدل الله وحكمته وأنه سبحانه وتعالى لا يسأل الناس إلا عما اكتسبوا باختيارهم ولا يكلفهم إلا ما كان في  وسعهم . قال تعالى :{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت }[البقرة : 286] فما يصيب الناس في  نفوسهم ومعاشهم من قدر خالص لا كسب لهم فيه لا يسألون عنه ، فإن كان خيراً وجب عليهم الشكر ويثابون عليه ،وإن كان غير ذلك وجب عليهم الصبر ويثابون عليه كما يثيبهم الله في  الدنيا والآخرة أو فيهما معا على ما أصابهم من قدره وهم صابرون .

ولو نظرنا في  تعريف القدر كما ورد في  بداية هذا التسأول لوجدنا أنه يشمل كافة جنود الله المسخرين لإنفاذ مشيئته وقضائه ، وحيث إن نسيج الأسباب الذى يجوز لنا – عقلًا – أن نتحدث عنه وعن آثار هو مجمل الأسباب من عالم الغيب وعالم الشهادة التي  يأذن الله بكشفها لبنى البشر وحياً أو بالعقل والحواس ، وكتب الله لهذا العلم المكشوف للبشر أن يبقى قليلاً حتى قيلم الساعة قال تعالى :{وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً }[الأسراء :85]  لذا فإن نسيج الأسباب جزء من قدر الله الأوسع والأشمل .”سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم :أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله ؟ قال :هى من قدر الله “[الترمذى وابن ماجة] .

وجزئية أخرى لها شيوع في  أذهان الناس لا بد من تصحيحها ،وفحواها :إن القدر والجبر المحض يكادان يتطابقان في  المعنى ، وهذا فهم قاصر .فالقدر بالعودة إلى التعريف – يشمل نسيج الأسباب بما فيه الإدارة الإنسانية والنزوع الإنسانى الحر والسنن الكونية بما فيها حتمية العلوم وما لم يعلم الإنسان وما لن يعلم الإنسان من قوى ومن جنود الله المسخرين لإنفاذ مشيئته وقضائه وعليه إذا قيل :”قدر فلان ” عيننا حقا عناصر الجبر وعناصر الإرادة الإنسانية والنزوع الإنسانى الحر مجتمعة معا في  حركته وحيث أن ما جرى في  الأنفس والحياة والكون – كما يعلمنا كتاب الله المسطور :القرآن الكريم ،وكتابه المنشور : الكون والحياة في  غاية التركيب والتشابك والتداخل ،فإن فرز ما في  الحوادث من جبر خالص لا حيلة للنفس فيه وما فيها من كسب بشرى تسأل النفس عنه أمر فوق طاقة الإنسان . فالنفس الإنسانية مثلاً والتي  هى مصدر النزوع للكسب والاكتساب خلقها الله سبحانه وتعالى وأودع في  مفرادتها ما قدر وأراد من مواهب القوة والضعف والذكاء والبلاء والصحة والمرض والقدرة والعجز والعزم والقعود مالا يتطابق بين مفردتين منذ بدء الخليقة وإلى يوم الحشر . وهذه المواهب هى أدوات النشاط البشرى في  كل المجالات كم أن ما يشكل تلك النفس في  رحلة الحياة من عوامل الوراثة والبيئة والتربية والمحيط الاجتماعى وسبل المعرفة ووسائل الرزق والمناخ وغير ذلك من العوامل مما لا يماثل بين الأفراد والجماعات وما يحوى من الجبر الخالص على الفرد ما لا يحصى . إلا أن لكسب الإنسان نصيب يزداد وينقص من حال إلى حال ، فيكاد لا يخلو حادث في  الكون من جبر خالص لا نصيب لنزوع البشر فيه وحوادث لا تحصى عظيمة ودقيقة لكسب البشر فيها نصيب يحاسبون عليه أمام الله وعداً ووعيداً . وكل هذا وذاك متداخل متراكب لا يقدر على فرزه وإحصائه عداٌ وعدلاً إلا الحق المحصى جل شأنه . قال تعالى :{يوم يبعثهم الله جميعًا فينبؤهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد }[المجادلة :6] وقال تعالى :{ونخرج له يوم القيامة كتاًبا يلقاه منشوراً} [الأسراء :13]، وقال تعالى في  الحديث القدسى (ياعبادى إن هى إلا أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه ) [البخارى ومسلم ].

كل عمل ينزع إليه إنسان لإرادته الحرة فيه نصيب ولغير ذلك نصيب ، وهذه الأنصبة جد مختلفة بين الأفراد وفي  الزمان وتامكان وتاحال ومن ثم فإن ميزان الفرد في  آخرته لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى الذى أحصى عليه وكسبه مستخلصًّا ومصفي  من نسيج الحوادث والأنفس المركبة ،إذا يفرز الخالق عز وجل عناصر الجبرية (ما لا حيلة للفرد فيه ) وعناصر الإرادة الإنسانية (كسب الفرد ) كل على حدة بقدرة اللطيف الخبير . قال تعالى :{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }[الزلزلة :7 ،8] . ويعمل هنا في  الآية الكريمة تعنى شق النزوع والكسب بإرادة حرة فيما قام به وأحدثه الفرد خاليًا من تأثير الجبريات الوراثية والتربوية والخارجية وغيرها مما لم يكن له حيلة في  تشكيله . والحال كذلك ، فلقد أمرنا أن لا نزكى أنفسنا على أى حال ، ولا نقدم بين يدى الله ، ونؤمن بعدل الله سبحانه وتعالى ، ولا نخوض في  القدر . قال تعالى :{هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في  بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى }[النجم : 32] .

فذكر الله سبحانه وتعالى علمه بالنشأة الأولى وما فطرت عليه ، وعلمه بحال الإنسان جنينا في  الرحم وذلك في  سياق النهى عن تزكية النفس . وفي  هذا إشارة عميقة إلى تشابك وتداخل مسألة الحكم والتقويم . قال تعالى :{ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلاً } [النساء :49] . ذكر سبحانه وتعالى في  هذه الآية الكريمة بعدله المطلق في  تزكية من يشاء ، والحال كذلك ، فلا مجال للإصغاء لما يدعيه الجبريون من إلقاء التبعة جملة على الجبر في  أعمال العباد ، والحق أن فيها من الجبر مقدراً لا يعلمه إلا الله خالق النفس وعالم الظرف وفيها من النزوع والكسب البشرى ما لا يعلمه إلا الله أيضاً . وتحاسب النفس على نسبة النزوع والكسب الحر في  عمل ما ، ولا تؤاخذ على نسبة الجبر فيه ، ولا مجال أيضاً للإصغاء لما يدعيه القدريون من افتئات عل حق الله وتصريفه لكونه بإرادته ومشيئته . والمسلم الوسط من اجتنب المحذور وقام بالمأمور وصبر على المقدور ، مستغفراً لذنبه شاكراً ربه على نعمه وتوفيقه ، والناجى من كان شعاره الإيمان الخالص والعمل الصالح ولسان حاله يقول قول الرسول الأسوة صلى الله عليه وسلم :”اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت “.

والعمل الصالح لا يأتى صدفة بل مدخله نسيج الأسباب الشامل غيباً وشهادة ، كما سبق البيان .

ثم إن الله سبحانه وتعالى بين الناس في  مواضع جد من القرآن والسنة أن المآل مربوط بالأعمال ولا يسأل امرؤ إلا عما عمل بإرادته الحرة إن خيراً خير وإن شراً شر ، وهذا المعنى متواتر محكم لا لبس فيه . وعليه فالمؤمن الكيس الواثق بوعد الله وعدله ليس لديه من عمره ما يضيعه في  التفلسف حول القدر والجبر ،وكيف يقيم الله العدل ،بل يوقن أن عمله هو حصاد أيامه وثمرة عمره ،وبه وحده يثقل ميزانه أو يخف ، ومن ثم ينطلق إلى العمل الصالح بأسبابه .

روى عن رسول الله عليه وسلم عندما قيل له : إن فلانا علامة أنساب الخيل أنه قال “علم لا ينفع وجهل لا يضر “ وحال المتعمقين في  القدر أسوأ من هذا ، فهم يشربون السراب ومعه السم ، فلا يأتى تعمقهم بعلم نافع أو بعلم أيا كان وهم يسيرون في  أحسن الأحوال على حافة الضلال وغالبا ما يقعون فيه ، ولقد نهانا الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدل في  القدر رحمة بنا وصيانة لأعمارنا وعقائدنا من الهدر والتلف ، روى أنه جاء مشركو قريش يخاصمون النبى صلى الله عليه وسلم في  القدر ، فنزلت الآية :

{يوم يسحبون في  النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شئ خلقناه بقدر  } [القمر :48-49] الآية (مسلم وابن ماجة ) وروى ابن ماجة الترمذى :خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابة وهم يختصمون في  القدر كأنما يفقأ في  وجهه الغضب ، فقال :”أبهذا أمرتم ؟ أو لهذا خلقتهم ؟ تضربون القرآن بعضه ببعض ، بهذا هلكت الأمم قبلكم “.

إن حصن المسلم الحصين في  هذا الأمر الغيبى الشائك هو تعاليم دينه يؤمن بها ويقف عندها دون زيادة أو نقصان .

والحمد لله رب العالمين .

○○○

الهوامش

(1) قلنا هنا :عالم الغيب تعبيراً جعل الله بينه وبين العقل البشرى في  حيلته ووسيلته حجاب لا يرفع في  الحياه الدنيا . وشاعت تسميته بما وراء الطبيعة ،والعلم ببعض أخباره لا يكون إلا بوحى السماء .

(2) عالم الشهادة :ما كانت مفرداته في  متناول العقل البشرى وسيلة وحيلة ،والمعتاد أن يكون العلم بها بالتجربة أو النظر أو المنطق العقلى السليم . وسواء جاء العلم بها الماضى أو المستقبل أو بقى بعضها مجهولاً للإنسان لانتهاء أجله (قيام الساعة )، ومادة هذا العالم وعناصره هى كل قابل بطبيعته للحس في  الكون والحياة .

(3) والغيب هنا يعنى مغيب عن الإنسان إلى يوم الدين ،ولذا صنفناها تحت باب السنن الغيبية .

○○○

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر