أبحاث

الإصلاح المعرفي والتغريب في العالم الإسلامي (2)

العدد 153

المبحث الرابع

قضايا الإصلاح المعرفي

أولاً: مصطفى صبري

السؤال الأكثر إلحاحاً على “مصطفى صبري” في مسألة الإصلاح هو السؤال العقدي، الذى تبلور في البحث عن كيفية إعادة المسلمين إلى عقيدتهم في منابعها الأولى وتخليص هذه العقيدة من الشوائب التي علقت بها نتيجة الأوضاع الفكرية والثقافية المعاصرة (التغريب واتصال الشرق بالغرب وتأثره بفلسفاته وأفكاره) والأحوال السياسية (فصل الدين عن الدولة). ومثَّل البحث عن هذه الكيفية السؤال الأساسي للإصلاح المعرفي والمجال الحيوي الذى تحرك فيه، كما مثَّل البحث عن آليات هذا الإصلاح المعرفي دائرة الاهتمام ذات الأولوية في إنتاجه الفكري.

وبناء على ذلك جعل”مصطفى صبري” مهمته الأساسية في “الجهاد العلمي الديني”(1)، والذي يسعى فيه إلى “تلبية الاحتياجات المعرفية للمتعلم المسلم من المسائل العلمية والفلسفية لتسْلَم عقيدته الدينية وتصمد أمام تيارات الزيغ العصري”(2)، فالدائرة المركزية لفكره هي “الدين” و”المعرفة الدينية” باعتبارهما الطريق الأساس لنهضة الأمة المسلمة وسلاحها الأقوى في مواجهة باقي الأمم “فالتمسك بديننا وأخذ القوة من قوته حتى القوة الدنيوية إلى حد أن نغلب الغالبين، لأن الإسلام أقوى الأديان وأوفقها للعقل الذى يغلب بفضله غُلاب الدنيا… الذين يحاربون الأمم بسلاح العقل”(3).

يشترك مصطفى صبري مع كثير من المصلحين على فكرة وجود خلل في “المعرفة الدينية” وضرورة إصلاح هذا الخلل هو العامل الأساس للنهوض الحضاري للأمة، فحين تقوم العقيدة بوظيفتها في النفس المسلمة تكون باعثاً لها للعمل والنهوض “وحين تتعطل دافعيتها للنفوس فلا يكون لها أثر يذكر في الفعل الحضاري يكون إذن التراجع والانحسار في التحضر، ويكون العجز عن النهوض لاستئنافه من جديد، وقد كان الخلل الذى أصاب الأمة الإسلامية في تحملها لعقيدتها عاملاً حاسماً في انحسارها الحضاري سواء ما آل إليه الأمر من انحراف في التصور العقدي، أو من سطحية في التحمل الإيماني تراخى بها الدافع الإرادي للعمل الحضاري. وهذا الخلل بمظهريه هو نفسه الذى يعوق الأمة اليوم عن الانطلاق من جديد للنهوض الحضاري فيكون إذن إصلاح هذا الخلل عاملاً أساسياً من عوامل النهضة”(4).

 1- إحياء علم الكلام والدعوة لتجديده:

  من الضروري أن نشير هنا إلى أن الآلية التي استخدمها “مصطفى صبري” للإصلاح المعرفي في ميدان المعرفة العقدية هي “علم الكلام” الذى اعتبره الطريق الأهم الذى ينبغي على المصلح أن يسلكه، وهو في ذلك مقلداً للمتكلمين الأوائل الذين استخدموا “علم الكلام” للدفاع عن عقائد المسلمين أمام الفلسفات اليونانية وغيرها مما تعارض مع عقائد الإسلام من ناحية، ولتبيين وتوضيح العقائد للمسلمين أنفسهم في صورتها الصحيحة من ناحية أخرى، وذلك باعتبار أن “المتكلم” حسب “علم الكلام” وسيط بين الخطاب “النص الديني” و”المخاطَب” الناس.

ويشير في هذا الصدد بقوله “ولهذا عنيتُ بالناحية الاعتقادية وصرفت كل جهدي في تثبيتها, وإنما قلت أن مُحاوِلي التجديد في أحكام علم الفقه طلباً للسهولة والمصلحة العامة غير عادّيها من الدين، يريدون الخروج على الدين نفسه لأنا نراهم قد يجترثون أيضاً تغيير وتجديد في عقائد الإسلام الثابتة بالكتاب والسنة”(5). ويوضح هذا النص هاجس “مصطفى صبري” العقدي، وخوفه من المخاطر التي يمكن أن تُلم بالعقيدة إزاء حركات وتيارات التجديد التي تأثرت بالغرب ومناهجه سواء كان شكل هذا التأثر بالتبرؤ من ” الدين” جملةً، أو محاولة إصلاح مناهج الفكر المرتبط به؛ لذا شن “مصطفى صبري” حملات فكرية واسعة على كل المفكرين الذين اعتبرهم “مجددين” ووضعهم جميعهم في سلة واحدة مع أنصار المشروع التغريبـي، ورأى – أيضاً – أن العلم الأنجح لمواجهتهم هو علم الكلام، “فلا يعادل علم الكلام غيره من العلوم الإسلامية… وهو أشرف العلوم لكونه أساس الأحكام الشرعية ورئيس العلوم الدينية”(6)، بل إنه اعتبر تراجع الاهتمام بعلم الكلام في بلاد المسلمين مؤشراً “لتراجع مكانة الإسلام بين الأمم”(7).

وجاء اهتمام “مصطفى صبري” بعلم الكلام في عدة صور منها مواجهة الطعن في علم الكلام نفسه ورد الشبهات عنه، حيث تناول في الجزء الأول من موسوعته الكلامية “موقف العقل والعلم والعالم”(8) الشبهات التي تتعلق بعلم الكلام ومنها عدم إسلاميته, وإنه علم يوناني بالأساس لاعتماده على الفلسفة والمنطق، وأن رواده “المتكلمون الأوائل” قاموا بالنقل والتقليد لفلاسفة اليونان، وكثرة المسائل الكلامية والاختلاف فيها. لذلك انبرى في مناقشة هذه الشبهات مؤكداً أن علم الكلام بالأساس علماً إسلامياً وإن استخدم أدوات ومنهجيات من خارج الفكر الإسلامي، وذلك لأن “موضوعه” يتعلق بإثبات العقائد الدينية تعلقاً قريباً أو بعيداً… ويتناول كل علم شرعي أو غير شرعي يتعلق بالعقائد الإسلامية، حتى إن العلم الطبيعي إذا كان فيه ما يصلح للنظر في درس عقائد الإسلام فهو داخل في علم الكلام، وقد جعل الرواد الأوائل من المتكلمين موضوعه “المعلوم” ليشمل الموجود والمعدوم.

كما أنه اعتبر الفلسفة اليونانية فلسفة مؤمنة بالتوحيد فيقول لمن يناظره “… ولا تنس أن فلاسفة اليونان الذين دخلت فلسفاتهم في كلام المتأخرين مثل أرسطو وأفلاطون كانوا قبل كل شئ موحدين مثبتين الله الواجب الوجود وواضعين منطق الاستدلال العقلي الذى لابد أن يستند إليه من يريد إثبات وجود في نفسه وفي إزاء منكريه استناداً إجمالياً أو تفصيلياً”(9).

ومن الدعوات الرائدة لمصطفى صبري هو دعوته لتجديد مباحث علم الكلام في ضوء القضايا الفكرية المستجدة التي أفرزتها الفلسفات الوضعية في الغرب والتي لم تكن مطروحة من قبل – في عهد المتكلمين الأوائل– وهو ما يؤكد قناعته بـ”وظيفية الأفكار”، وأن لكل عصر أفكاره ومباحثه التي يجب أن يتناولها علم الكلام. وهي دعوة إلى تطوير وتجديد لمباحث هذا العلم ومناهجه المستخدمة في آن واحد. كما يظهر تأثر جهوده الفكرية بالسياقات الاجتماعية والفكرية التي عاشها، ويدعو – أيضاً – إلى إيجاد جيل جديد ينهض بهذه المهمة الكلامية نحو الإسلام متمثلاً في دراسة الكلام المدافع عن العقيدة.

فإذا كانت مباحث الطبيعيات في علم الكلام لا تسد حاجة العصر الحاضر فلا أقل من أن تكون هذه المباحث جواباً ماثلاً أمام أعين المولين وجوههم عن الكلام جاعلين من العلم الطبيعي مزاحماً له مفضلاً عليه… أما إن مباحث الطبيعيات في علم الكلام المنتقل إلينا من علمائنا باسم كلام المتأخرين لا تسد حاجة العصر الحاضر، فلا لوم على علماء الكلام من ذلك وهم كانوا حاكمين في علوم زمانهم حتى جعلوا ما ليس بإسلامي من العلوم إسلامياً وأدخلوه في علم الكلام وحملوا بتأسيس هذه السنة واجباً كبيراً على الخلف(10).

2- نقد أصول المشروع المعرفي الغربي:

واصل “مصطفى صبري” فكرته الإصلاحية في مواجهة الفكر الغربي والمشروع التغريبـي بهدف إصلاح الآثار المعرفية التي اعتبرها العامل الأول للبناء المعرفي الإسلامي الحيوي, وبدأ ذلك بنقد الأصول الفكرية التي قامت عليها الفكرة الغربية الحديثة وحددها بأصلين اثنين يُعدان من أسس المشروع الغربي، الأول: الاستناد إلى الدليل التجريبي وحده، وقد حدث ذلك في الغرب منذ عهد بيكون، حيث توجهت عناية الغربيين إلى الأدلة التجريبية أكثر من عنايتهم بالأدلة العقلية على الرغم من أن إثبات وجود الله لا يستند إلى الأدلة التجريبية لكون الله متعالياً عن متناول التجربة، وكان من أهم آثار ذلك هو “قصر التسمية بالعلم في عرف الغربيين على العلوم المستندة إلى التجربة الحسية، ونقل ذلك العرف بعينه إلينا (أي المسلمين) من طرف هؤلاء الكتاب (أي المتغربين) كأنه عرف لنا أيضاً”(11)، حيث “تتفق عقلية المثقفين ثقافة عصرية في موقف العقل والعلم مع عقلية الغرب الدينية، لكون مكتسباتهم العلمية كلها مترجمة من تأليفات علمائه. فالدين منبوذ العقل عند ملاحدتهم، والعقل منبوذ الدين ومبغوضه عند متدينيهم، في حين أن الدين والعقل متساندان في الإسلام لكن جيل المتتلمذين على الغرب في غفلة من هذا.يستخرج ملاحدتهم من العقل عدواً للدين غير مغلوب، ويتأسف المتمسكون منهم بدينه لضعف العقل وعدم كفايته دليلاً يقوم عليه الدين. ومنشأ الغلط لكل من هذين الفريقين تقليد فريق من الغرب اللاديني أو الغرب المسيحي”(12) . ويطلق على ذلك الانتقال المفاهيمي بأنه “خطأ فاحش”. وذلك بالنظر إلى مفهوم العلم في الفلسفة الإسلامية والذي يعنى صفة توجب تميزاً لا يحتمل النقيض وهو “أي هذا النقيض” مرتبة من المعرفة لا تحصل إلا بالدليل العقلي لا بالدليل التجريبـي وهذا هو سر كون إثبات وجود الله في الفلسفة الإسلامية يتطلب دليلاً عقلياً لا تجريبياً.

الأساس الثاني: الصراع بين العقل والدين، يرسم الفكر الغربي شكل العلاقة بين العقل والدين في صورة صراع حيث “يمضى تاريخ أفكارهم الفلسفية بين محاربة العقل محاباة للدين ومتابعة العقل رغبة في الحصول على اليقين، ولم يلحظ قراء الفلسفة الغربية هذه السجالات الحربية الصاعدة والنازلة بين العقل والدين من غير تنبيه من ناقليها من الغرب إلى الشرق، على اختصاص هذه الحالة بدين تلك البلاد الصادرة عنها هذه الأفكار الفلسفية المختلفة وهو المسيحية”(13).

ومن هنا رأى “مصطفى صبري” ضرورة البحث في السياقات المعرفية والاجتماعية لنشأة المفاهيم في الفكر الغربي قبل استيرادها ونقلها إلى العقل المسلم، وهو ما لم يحدث، مما تسبب في وجود خللاً معرفياً وثقافياً في التكوين الفكري للشخصية المسلمة وللمشهد الثقافي الإسلامي بصفة عامة.

ثم انتقل “مصطفى صبري” بعد ذلك إلى مناقشة أطروحات تطبيقية توضح الآثار المعرفية للمشروع الغربي في بلدان العالم الإسلامي وذلك فيما عرف باتجاه “التفسير العلمي للعقائد الإسلامية” أي محاولة إخضاع العقائد الإسلامية للتفسير العلمي التجريبـي.

ومن أهم الأفكار التي طرحها للمناقشة كانت آراء محمد فريد وجدي في كتابه “السيرة النبوية تحت ضوء العلم والفلسفة”, ومحمد حسين هيكل في كتابيه “حياة محمد” و”الوحي المحمدي”، وشبلي شميل في ترجمته لنظرية دارون، وغيرهم من الكتَّاب والكتابات التي أثارت جدلاً واسعاً في الفترة الباكرة من انتشار التغريب وحركات وأفكار الإصلاح في العالم الإسلامي.

واجه مصطفى صبري الإشكالية العلمية والإيمان بالغيب بنقد الأسس التي قامت عليها من ناحية، وبإثبات مسألة الإيمان بالدليل العقلي والاستدلال المنطقي من ناحية أخرى، وأفرد لذلك الجزء الثاني من موسوعته “موقف العقل والعلم والعالم” والذي تناول فيه موقف العقل من الدين، وموقف العلم من الدين، وموقف التجربة من الدين. على أنه لم يستبعد المنهج التجريبـي بصورة مطلقة حيث أشار إليه في دليل نظام العالم، وانتهى في علاجه لهذه الإشكالية بقوله: “أنه يمكن نـزع اسم العلم عن معناه المحدث الخاص بعلم الطبيعة لعدم كون قوانينه قوانين ضرورية… ولا يمكن نـزع اسم العلم عن معناه الأصلي الذى هو أقوى والذي ينطبق على العلم بوجود الله لكونه معرفة مستندة إلى سببها المستلزم لمسببه، وذلك أن أسباب المعرفة في العلم الطبيعي ليست أسباباً عقلية لا يمكن تخلف مسبباتها عنها وإنما هي أسباب مبنية على التجارب التي هي غير مضمونة النتائج ضماناً أبدياً. فإن لم يحدث شئ يغير ما ثبت بالعلم الطبيعي فقد تأتي معجزة تغيره وتنقضه، ولا تأتي معجزة تنقض قوانين العلوم العقلية”(14).

3- الإشكالية السياسية:

انطلاقاً من منهجيته الكلامية في الدفاع عن العقائد الإسلامية وتمثلاتها في الواقع المعاش تعرض “مصطفى صبري” لمسألة تُعد الأكثر سجالاً للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر وهي ” فصل الدين عن الدولة” مما يعد استمراراً لتغلغل المشروع التغريبـي، لاسيما فيما يتصل بعملية نقل المفاهيم من البيئة الغربية إلى البيئة الإسلامية دون مراعاة للبنى المعرفية والتصورات الأساسية للمجتمع الإسلامي.

في البدء يوضح منهجه في معالجة هذه الإشكالية ولماذا وضعها في المباحث الكلامية المتصلة بالعقائد وهي مسألة يبدو من مظاهرها أنها تتعلق بالمصلحة الدنيوية فيقول: “إن السبب الذى حداني إلى حشر مسألة فصل الدين عن السياسة مع مسائل الألوهية والنبوة التي هي موضوع هذا الكتاب المتصل بعلم أصول الدين على الرغم من عدم كون مسألة الفصل والتحذير منه من مسائل هذا العلم الباحث في عقائد الإسلام وإنما مسألة الفصل والتحذير منه ترجع إلى ناحية العمل، وذلك أن ترجع مسألة عدم جواز فصل الدين عن السياسة إلى مسألة وجوب نصب الإمام المعدودة من المسائل الكلامية لأن المقصود من نصب الإمام من جانب المسلمين تقييد الحكومة بأن تكون أعمالها في حدود الشريعة الإسلامية فيكون هذا الإمام خليفة عن رسول الله بهذا التقييد”(15).

ومن ناحية أخرى يؤكد على ضرورة اشتغال العلماء بالسياسة حيث يدمج البناء المعرفي الإسلامي بين الدين والسياسة, وبين العلماء وممارسة الدور الاجتماعي، ويشير إلى ذلك بقوله: “إن المساعي المتعلقة بالمصلحة العامة إن تجردت عن السياسة تذهب هباء وهواءً، وكل نصيحة لا تؤيدها السياسة فهي بمنـزلة تضرع العاجز… والذين جردوا الدين في ديارنا عن السياسة كانوا هم وإخوانهم لا يرون الاشتغال بالسياسة لعلماء الدين بحجة أنه لا ينبغي لهم وينقص من كرامتهم، ومرادهم حكر السياسة وحصرها لأنفسهم ومخادعة العلماء بتنـزيلهم منـزلة العجزة… فالعلماء المعتزلون عن السياسة كأنهم تواطئوا مع كل ساسة صالحيهم وطالحيهم على أن يكون الأمر بأيديهم، ولما أن هداني الله من قديم إلى التنبه لمكائد السياسيين ذوى المبادئ اللادينية وواجب علماء الدين لقاءهم ما تنحيت عن المجاهدة في غمرات السياسة لا على اتخاذ الدين آلة للساسة، بل على جعل السياسة آلة للدين مستخدَمة في تعزيزه وتنفيذه لكونها أقوى الآلات ممثلة لقوة الحكومات”(16).

وقد تنبه “مصطفى صبري” مبكراً ومن خلال قراءة سياسية واعية لمشروع “تفكيك الخلافة” لهذا الموضوع، وذكر ذلك في أكثر من موضع لاسيما كتابه “النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة”، و”النعمة” التي يشير إليها هنا الخلافة وقوانينها الإسلامية التي تحكم الأمة التي ارتضت الإسلام ديناً وعقيدة ومنهجاً “إنا إذا اعتقدنا أن دين الإسلام نعمة للمسلمين وسعادة لهم في دنياهم وأخراهم وأنه داخل في مشخصات شعوب المسلمين الذين يشعرون بها أنفسهم ويعدونها من مزاياهم النفسية، فلا ينافى حريتهم واستقلالهم كون حكومتهم ممنوعة من التخطى إلى ما وراء حدود الدين كما أن كونها ممنوعة بالطبع عن العمل بما يغاير الوطنية والشعائر الملية لا ينافى الحرية والاستقلال. وهنا مزلقة فكرية يجب أن ننبه عليها: وهي أن إذا أحببنا الحرية وأطربنا مكانها عند النفوس الشريفة فلابد أن نريد بها حرية الأمم تجاه الحكومات لا حرية الحكومات في القيام بأمور الأمة، حتى إن الزيادة في حرية الحكومة تضر بحرية الأمة وتنقصها، ولهذا يجب أن تكون الحكومة في معاملاتها مع الأمة مقيدة بقوانينها”(17).

ثم أشار – أيضاً – إلى الشروط التي يمكن من خلالها تحقيق مفهوم “الأمة المسلمة” ومنها: “كون أفرادها منتسبين إليها ومقيدين بها باختيارهم التام غير مخاطبين في ذلك بأمر أحد أو نهيه يبلغ درجة السلطة، فهذه ديانة الأمة بالنظر إلى أحوالهم الانفرادية، ثم إن لهم حالة الجمعية وحالة الحكومة، ودين الإسلام لما لم يعزب عن عنايته ورقابته حال الإفراد وحال الجمعية معاً؛ بل كان شديد العناية والعلاقة بالأحوال الاجتماعية والمدنية فلا جرم أن كان شرطاً لصحة أن تعد الأمة أمة مسلمة إسلام فردها الحكمي وشخصيتها الاجتماعية والسياسية كإسلام أفرادها الجزئية بكون هذا الفرد الحكمي – أيضاً – منقاداً لأحكام الشريعة الإسلامية ومعترفاً بها، فإذا أذعنت الأمة لأحكام الإسلام وحدانا ولم تذعن لها في حالة الجمعية والحكومة التي تمثل فرد الأمة الحكمي ما صح إسلامها”(18).

تناول – أيضاً – مسألة الخلافة وما حدث لها من افتراق بينها وبين السلطة وهو ما قام به “الاتحاديين” في تركيا قبل إعلان إسقاط الخلافة عام 1926م، فيعرِّف الخلافة بأنها “عبارة عن كون حكومة ما نائبة مناب رسول الله rفي القيام بأحكام الشرع… فاللازم في تحقيق الخلافة رعاية الحكومة لشرائطها الإسلامية، فيكون اتصاف الحكومات الإسلامية بـ”الخلافة” على قدر تلك الرعاية، وهي لا تكتسب باعتبار المعتبر كالوراثة أو التوجيه من قبل شخص أو جماعة(19)، (إشارة إلى نقل الحكومة والسلطة إلى المجلس الوطني وبقاء الخلافة دون حكم أو سلطة)، كما أشار إلى آراء على عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وأفرد لها نقداً مطولاً(20). مؤكداً على عدم الفصل بين الخلافة والحكم فهذا يخالف السيرة النبوية وإجماع الأمة، حيث إن “الخلافة والحكم” كانا متحدين منذ زمن النبي r، والخلافة قامت عبر التاريخ الإسلامي بالنيابة عن النبي rفي الأمة ولم يفترقا، لأنه إذا انتقلت الحكومة عن الخلافة افترقت عن الدين.

4- الإشكالية التشريعية (التشريع الإسلامي والقانون الوضعي):

طرح “مصطفى صبري” قضية أخرى متفرعة عن مسألة فصل الدين عن الدولة أو الخلافة عن السلطنة، وما تبعهما في البلدان الإسلامية من إلغاء المحاكم الشرعية، والدعوة إلى العمل بالدستور وسن القوانين الوضعية وإلغاء العمل بالتشريع الإسلامي، واتسم الطرح هنا بالمقارنة بين نمطي التشريع (الإسلامي والوضعي) مبيناً الفوارق الأساسية والكلية لاسيما ما يتعلق بطبيعة هذين النوعين ومصدرهما وقدرة كلٍ منهما على تحقيق الغاية المنوطة بفكرة القانون في إطلاقها.

فإذا كانت غاية القوانين وزع الأمة أو الحكومة عن النـزوع إلى أهوائها فمستبعد جداً ومستغرب وزعها بما تستقل في سنه وتبديله متى شاءت… فيلزم أن يكون لسن القوانين حدود يوقف عندها وبعبارة أخرى يلزم أن يوجد قوانين أساسية لا يتخطاها نظام القوانين ولا يسوغ لهم تبديلها حتى تنتهي القوانين الموضوعة فيها ويستفيد قوة الوزع منها، وتلك القوانين الأساسية أكملها ما كانت سماوية لما أن تغييرها ليس في وسع النشر فهي أحرى أن تكون تخوم الاستناد وتتخذ آخر مفزع لإصلاح الفساد الناشئ من أنفسهم ومنهم نظام القوانين(21) .

وفي سمات التشريع الإلهي بالإضافة إلى الثبات وخلوه من الأهواء، احترام المكلفين له لقداسته، ومنع التلاعب به والزيغ والأهواء، وضمان العدالة وعدم التحيز, وقد استشهد “مصطفى صبري” بكتاب لمؤلف غير مسلم – يدعى صاوا باشا الرومي بعنوان “نظرية الحقوق في الإسلام”(22). والذي اهتم بتوضيح “النظرية الحقوقية الإسلامية” من خلال القوانين التي أرستها الشريعة الإسلامية وطبقها المسلمون في تجارتهم وصناعتهم وأعمالهم المختلفة في الشرق والغرب. كما أشار الكتاب – أيضاً – إلى تميز فلسفة الفقه الإسلامي وتاريخية نشأة الفقه في الإسلام، وتأثير الشريعة الإسلامية في تكوين العادات التجارية في القرون الوسطى، وتميز الشريعة على القانون الروماني.

ثانياً: محمد عبده

انشغل “محمد عبده” – في ضوء ما سبق – بإصلاح العقل المسلم، وإصلاح معارفه الأساسية، ووسائط فهم النص “الفقهاء” وأدواتهم تلك التي أصابها “الجمود والتقليد” و”التهافت” في ضوء اللقاء بالواقع المشهود. وقد أعطي “محمد عبده” مكانة قصوى “للعقـل” في عملية الإصلاح التي تعتمد في الأساس علي إصلاح المعارف، والوسائط، والآليات، واعتبره (أي العقل) المركز في مشروعه الإصلاحي القائم علي التوحيد والذي يسعي لتحقيق النهضة والتقدم المنشود؛ لذا فقد حرص علي بناء نسق “معرفي/عقدي” يتولى فيه “العقل” مهمتين أساسيتين: الأولي: نقد الوضع القائم وما فيه من “جمود وتقليد” ونقضه، والثانية: إعادة تشكيل هذا النسق “المعرفي/ العقدي” في ضوء فهم الدين بالرجوع إلي مصادره الأولي مباشرة وكما فعل السلف. كما يهدف “محمد عبده” في مشروعه الإصلاحي إلى “بناء منظومة عصرية يمكن أن تسهم بدور رئيس في التغلب علي ضروب “الاغتراب” التي كانت مهيمنة في ذلك الوقت وتفصل بين الإنسان وعالمه”(23). ومن الوظائف الأساسية لهذا النسق “المعرفي/ العقدي” إعادة الإنسان المسلم إلي عقيدته ومصادر فكره وتجديد الارتباط الوجداني بينهما هذا من ناحية، ومن ناحية أخري إعادة الإنسان المسلم إلي واقعه المشهود وذلك في ضوء التجديد العقلي والوجداني لهذا النسق المذكور.ومن ناحية ثالثة إعادة الاعتبار والثقة للمنهج الإسلامي باعتباره منهج حياة كما أنه منهج للآخرة, واستعادة حيويته المفقودة.

ومن الناحية الموضوعاتية فيما يتعلق بميادين الإصلاح الأساسية، فإن “محمد عبده” يوضحها لنا في ثلاثة مناح أساسية: “الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلي ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني. وأنه علي هذا الوجه يُعد طريقاً للعلم، باعثاً علي البحث في أسرار الكون، داعياً إلي احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمراً واحداً… أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، وهناك أمر ثالث… الناس جميعاً في عمى عنه وبُعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة علي الشعب وما للشعب من حق العدالة علي الحكومة”(24).

توخى محمد عبده في مشروعه الإصلاحي -في ضوء هذه التحديدات السابقة – تحقيق ثلاثة أهداف متكاملة:(25)

1- محاربة التقليد المذهبي والفكري بجميع صوره وأشكاله.

2- فهم الدين علي طريقة سلف الأمة، أي الرجوع مباشرة إلي القرآن والسنة، وليس إلي كتب الذين عمقوا الفوارق المذهبية وتوغلوا في الفروع.

3- الاعتداد بدور العقل في بناء المعرفة وقيادة المجتمع الإنساني، لأن الدين لم يجئ إلا لهداية هذا العقل نفسه، باعتبار الدين من موازين العقل البشري التي أراد الله بها أن يرد من غلواء العقل في تقدير سلطانه وإنكار منابع المعرفة الأخرى.

1- الإصلاح التربوي والتعليمي:

تشير الدراسات والبحوث إلي دور التربية والنظام التعليمي في تغيير المجتمعات، بل هي رائدة هذا التغيير وقائدته باعتبار أن الفرد المستهدف منها هو أساس تقدم ونهضة أي مجتمع. كما أن أي مجتمع هو انعكاس لنظامه التربوي. وهذا ما أدركه “محمد عبده” حينما أراد البحث عن السبب في تخلف المسلمين والذي رآه في تخلف نظام تعليمهم الديني”… وإذا استقرأنا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب هذا الخذلان لا نجد إلا سبباً واحداً، وهو القصور في التعليم الديني، إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد وإما بالسلوك إليه من غير طرقه القويمة كما في البعض الآخر”(26). والتعليم الديني كما وصفه “محمد عبده” لم يعد يهتم بالبناء العلمي والتربوي والعقدي للطالب (الدارس) بل أصبح له مجرد وسيلة لكسب العيش، بالإضافة علي المضامين السطحية للمعارف المقدمة فيه، واعتماده علي الحفظ والاستظهار دون الفهم، وفضلاً عن ذلك فإن القصور الواضح في التعليم الديني أدى إلى نشأة أنماط أخرى من التعليم أكثر ضرراً علي المنظومة القيمية الإسلامية في تربية النشء، وفي مقابل التعليم الديني تأسست المدارس الحكومية التي استوردت العلوم التي نشأت في الغرب أي في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة بما لا يتوافق مع بيئة وطباع الأئمة لاسيما في نموذجها المعرفي الإسلامي، ويصف “محمد عبده” هذه العلوم في البيئة الإسلامية “كخلط غريب لا يزيد طبائعها (أي الأمة) إلا فساداً”(27). كما نبه إلي نمط آخر من التعليم تزيد مخاطره عن النوع السابق وهو التعليم الأجنبي بمدارسه الغربية والتبشيرية، ويقول في ذلك: “…لا ترى بقعة من البقاع إلا فيها مدرسة للأمريكانيين، أو اليسوعيين، أوالغرارية، أو الفرير، أو لجمعية أخري من الجمعيات الدينية الأوروبية. والمسلمون لا يستنكفون من إرسال أولادهم إلي تلك المدارس طمعاً في تعليمهم بعض العلوم المظنون نفعها في معيشتهم أو تحصيلهم بعض اللغات الأوروبية التي يحسبونها ضرورية لسعادتهم في مستقبل حياتهم”(28).

والناظر إلي ما أورده “محمد عبده” في وصفه لحالة التعليم في العالم الإسلامي آنذاك يجد أنه كان صاحب نظرة عميقة ومستقبلية في آن واحد. فلاحقاً أثبتت الشواهد أن التعليم الديني يعيش فعلاً أزمة لا زالت حتى الآن(29). ورغم الكتابات الكثيفة والاقتراحات  المتعددة(30) إلا أنها لم تستطع أن تحل ما وقع فيه التعليم الديني من مشكلات “الجمود والتقليد” و”التراجع” ومن ثم ظل التعليم الديني يعيش أزمة لم تنته.

ومن ناحية أخري يعيش العالم الإسلامي حالة الازدواجية المعرفية بين هذا النمط من التعليم (الديني) والتعليم الرسمي الحكومي (المدني) الذي يهمل العلوم والمعارف الدينية، وتزداد الفجوة بينهما كلما بعدت السنون وهو ما أوجد شقاً معرفياً في الشخصية المسلمة لم يلتئم بعد. أما التعليم الأجنبي والتبشيري فقد التفتت إليه كثير من الأقلام والأفكار آنذاك نظراً لمخاطره علي العقيدة والفكرة الإسلامية بما يحمله من أفكار وقيم غربية تختلف مع الأفكار والقيم الإسلامية(31). بالإضافة إلي الأبعاد الاجتماعية والثقافية للتعليم الأجنبي في المجتمع المسلم. وقد استخدم التغريب التعليم كأداة للتأثير في الهوية الإسلامية.

يعد التعليم أحد أدوات التغريب في العالم الإسلامي باعتباره كما ذكر “جب” في (وجهة الإسلام) “أهم العوامل التي تعمل علي تغريب العالم الإسلامي وتقوم به جهات متعددة وعلي مستويات مختلفة من المدرسة والكلية والجامعة…وقد رأينا مراحل دخول هذا التعليم (الأجنبي) في بلاد الإسلام المختلفة ورأينا الأثر الذي أحدثه في عقول الزعماء العلمانيين وقليل من الزعماء الدينيين في العالم الإسلامي”(32).

أما عن وجهة نظر “محمد عبده” الإصلاحية للنظام التعليمي والتربوي الديني، فتؤكد علي النظرة الشاملة والإصلاح الكلي لجوانب العملية التعليمية: الأهداف، الخطط، الوسائل، المناهج، المقررات، المعلمين، السياسات. حيث انتقد النظرة الجزئية التي تهتم بالجانب الشكلي دون الاهتمام بجوهر التعليم نفسه وعناصره الأساسية وأهدافه “وإن مجرد إصلاح الجداول بإدراج بعض الكتب الفقهية في فنون المدارس الإسلامية مع بقاء التعليم علي طرقه المعهودة في المساجد وفي دروس بعض العلماء… فإن ذلك يكون أشبه بالباطلة في عدم ترتيب الأثر المطلوب عليها“(33).

كان محمد عبده يؤمن إيماناً عميقاً بأن إصلاح التعليم الديني هو العامل الأول لتحقيق نهضة المسلمين واللحاق بأوروبا في علمها “إن إصلاحه – أي الأزهر- خير صلاح لحال المسلمين الدينية الدنيوية… ولو صلح حال الأزهر، لهب المسلمون إلي طلب العلوم الصحيحة، كما هبوا لذلك في أول نشأتهم”(34).

ويمكن أن نلخص رسالة الأزهر كما تراءت حينئذ لمحمد عبده في أن يكون جامعة بالمعني الصحيح، يتلقي فيها الطلاب الثقافة الصحيحة التي تعدهم لأن يكونوا رجالاً عاملين، فيكون هناك قضاة ذو نـزاهة، وأساتذة باحثون وعلماء متخصصون ومرشدون مخلصون، يعملون علي بث الآراء الدينية السليمة، والمعاني الأخلاقية الرفيعة ومكافحة الخرافات، والقضاء علي البدع والأباطيل(35).

وفي ضوء هذه الرؤية الإصلاحية دعا محمد عبده إلي تقنين الدراسة ومراحلها ومدتها وذلك تقليلاً للهدر في الجهد والوقت والتكلفة، ثم ربط التعليم بالتربية والأخلاق, والنظر بالعمل والتطبيق وهذا أدعي إلي أن تتضمن المناهج الجديدة ” فن تقوى به العقيدة، ويستحكم سلطانها علي العقول، ثم إلي تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن، فيكون التذكار مستحفظاً لما يصل إليه منه، ثم إلي فن الفقه الباطني وهو ما تُعرف به أحوال النفس وأخلاقها…ثم إلي تربية تحفظ ذلك، ثم يكون التعليم علي هذه الفنون المذكورة والتربية علي وفق قواعدها مستندين إلي الشرع الحنيف… فالمقصد بالذات علمان، وهما أصلان ومجموعهما ركن من الإصلاح، والركن الآخر في التربية بما يهديان إليه حتى تصير العلوم ملكة راسخة تصدر عنها الأفعال بلا تعمل، ثم يتبعها فن آخر يقوي علي الغرض منهما، وهو فن التاريخ الديني”(36).

كما دعا محمد عبده – أيضاً –إلي تقسيم العلوم إلي علوم مقاصد، وعلوم رسائل، فأطيلت مدة الدراسة في “علوم المقاصد”: كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصوله والأخلاق، أما علوم الوسائل “كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث وضم إليها الجبر والحساب، وهذه العلوم بقسميها هي التي يلزم طلاب شهادة العالمية بأداء الامتحان فيها”(37).

دعا – أيضاً – محمد عبده إلي نظام تعليمي للدراسة في الأزهر تنقسم فيه من حيث النوع مناهجه ومقرراته بما يتناسب مع الهدف من التعليم منه، فهناك العمال (الصناع والزراع والتجار ومن يتبعهم) وهناك طبقة الساسة والتي تدبر أمور الدولة، وهناك طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية فأشار إلى التعليم المناسب لكل من هذه الطبقات و”تحديد ما يلزم لكل واحدة”(38). ثم دعا– أيضاً– إلى تقسيم السلم التعليمي إلي ثلاث مراحل، الأولى: التعليم الابتدائي، والثانية: المتوسط، والثالثة العالي. واجتياز هذه المراحل يكون عن طريق نظام التقويم”الامتحان” وهو ما لم يكن معروفاً في الأزهر آنذاك.

وفي ميدان “تأهيل المعلمين” رأى “محمد عبده” ضرورة إعادة إعدادهم بما يتناسب مع وظيفتهم ومكانتهم التي أعطيت لهم كفقهاء, وكذلك وضع قواعد وسياسات قبول لهم “فلابد أن يُنظر في انتخابهم من المستعدين للفهم وقبول الإصلاح بقدر الإمكان”(39). ثم طرح محمد عبده مجموعة من المعايير التي يجب أن تتوافر في مدارس إعداد المعلم آنذاك مدرسة “دار العلوم”، ومنها:إلغاء بعض الكتب الفقهية العقيمة التي تدخل في المقررات والمناهج، تغيير طرق التدريس لاسيما ما يتعلق بتفسير القرآن والأحاديث، أن يكون المسئول الأول فيها عالماً بالدين، إعطاء الإجازات العلمية للتدريس في الأزهر، اعتبار المحور الأخلاقي في التقويم، إدخال التربية العملية في نظامها الأساسي.

2- الإصلاح العقــدي:

الدين – كما تقدم – هو مدار النهضة عند محمد عبده والركيزة الأساسية في مشروعه الإصلاحي، ولكن من أي جانب رأى محمد عبده “الدين” في حياة المسلمين؟ نظر محمد عبده إلي الخلل الموجود في حياة المسلمين وأكد أنه بسبب الخلل الموجود في “فهم الدين”. أهم ما اعتنى به في الإصلاح العقدي هو إصلاح “علم التوحيد”، فالتوحيد هو المركزية الأساسية للفعل الإنساني، كما أن “العقل” هو المركزية الأساسية للتوحيد.

حاول محمد عبده معالجة الخلل الذي يعاني منه “علم التوحيد” الذي اختلطت به شوائب كثيرة جعلته يحيد عن تحقيق أهدافه، وأعاقت التصور العقدي للمسلمين، لاسيما تلك الحوادث التي حدثت في صدر الإسلام، والحروب التي انفصمت بها عرى الخلافة، والتفرق المذهبي والسياسي، وانتشار فكر “الغلو” و”التكفير” و”اختراع” الروايات، ودخول أمم في الإسلام حاولت خلط ما لديها من عقائد وأفكار بالإسلام. ومن المخاطر التي اكتنفت هذا العلم –كما أشار إليها محمد عبده أيضاً – هو اختلاط السياسي الأيديولوجي بالديني العقدي “وكانت الآراء في الخلفاء والخلافة تسير مع الآراء في العقائد كأنها مبنى من مباني الاعتقاد الإسلامي… فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق حتى علي أصل من أصول النظر”(40).

ويصور – محمد عبده – المشهد العقدي الإسلامي والخلل الذي أوجده الساسة فيه بقوله: “… ثم انتشرت الفوضى العقلية بين المسلمين تحت حماية الجهلة من ساستهم، فجاء قوم ظنوا في أنفسهم ما لم يعترف به العلم لهم، فوضعوا ما لم يعد للإسلام قِبلٌ باحتماله، غير أنهم وجدوا من نقص المعارف أنصاراً، ومن البعد عن ينابيع الدين أعواناً، فشردوا بالعقول عن مواطنها، وتحكموا في التضليل والتكفير، وغلوا في ذلك حتى قلدوا بعض من سبق في دعوى العداوة بين العلم والدين”(41).

ولم يجد “محمد عبده” مخرجاً من هذا التيه العقدي، الذي لعبت فيه “السياسة” وجهل المسلمين و”نقص المعارف” دوراً أساسياً، لم يجد إلا مخرج “العقل” وإحياء “النـزعة العقلية” في القرآن، حيث “رفع القرآن من شأن العقل وما وضعه من المكانة بحيث ينتهي إليه أمر السعادة والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع”(42). وسعى إلى تأسيس الاعتقاد وتجديده علي أساس من العقل، فقرر أن النظر العقلي من أول الواجبات علي المكلف، والواجب علي كل ذي عقل أن يذهب النظر في الحقائق، ويسيرها علي وجه أدق بحسب طاقته ويقيم البراهين القطعية علي النفي والإثبات. “خصوصاً ودعوة الدين إلي الفكر في المخلوقات لم تكن محدودة بحدود ولا مشروطة بشرط، للعلم بأن كل نظر صحيح فهو مؤد إلي الاعتقاد بالله علي ما وصفه بلا غلو في التجريد ولا دنو في التحديد “(43).

وقد كتب “محمد عبده” بياناً مهماً حاول فيه إصلاح “علم التوحيد” من ناحية، وتأسيس “علم الكلام” علي قواعد عقلية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية من ناحية أخرى، فكتب “رسالة التوحيد” مشتملة علي تحديد مجموعة من المفاهيم الأساسية: “التوحيد” في مقدمتها وتمثلاته في “القضاء والقدر” و”أفعال الله” و”أفعال الإنسان” و”الحرية” و”الصفات” و”الممكن والواجب” و”النبوة”…إلخ، مما التصق بأصول وفروع هذا العلم. وقد كان المشترك في تناول كافة هذه الموضوعات الكلامية العقدية هو “العقـل” الذي أعاده “محمد عبده” إلي الحياة العقدية والاجتماعية للمسلمين مرة أخري تحت قاعدة “وجوب النظر العقلي” وجوباً “قرآنياً” و”شرعياً”.

حاول محمد عبده أن يعيد المسلمين إلي مفهوم “التوحيد” القائم علي “العقل” والمنـزه عن الخلافات السياسية والصراعات المذهبية، والمنـزه عن الحوادث والعلل التي ألمت به، فرأى تفعيل دور العقل والعقلانية في دعوة “التوحيد” وفي الاعتقاد بوجود الله ومعرفته. إلا أن “التوحيد” عند محمد عبده لم يكن ذا بعد وجداني فقط، ولكن نظر إليه – في بعده الكلي والشامل أي الاجتماعي والسياسي والثقافي باعتباره توحيد ووحدة وحرية، “… والذي علينا اعتقاده أن الدين الإسلامي دين توحيد في العقائد لا دين تفريق في القواعد, العقل من أشد أعوانه والنقل من أقوي أركانه”(44).

ويحدد محمد عبده في “رسالة التوحيد” الغاية من “علم التوحيد” وهي “القيام بفرض مجمع عليه، وهو معرفة الله تعالي بصفاته، الواجب ثبوتها له، مع تنـزيهه عما يستحيل اتصافه به، والتصديق برسله علي وجه اليقين الذي تطمئن به النفس اعتماداً علي الدليل، لا استرسالاً مع التقليد حسبما أرشدنا إليه الكتاب، فقد أمر بالنظر واستعمال العقل فيما بين أيدينا من ظواهر الكون، وما يمكن النفوذ إليه من دقائقه، تحصيلاً لليقين بما هدانا إليه، ونهانا عن التقليد بما حكى عن أحوال الأمم في الأخذ بما عليه آباؤهم، وتبشيع ما كانوا عليه من ذلك واستتباعه لهدم معتقداتهم وإمحاء وجودهم الملي”(45). ويشير فهمي جدعان إلي أربع معان للتوحيد عند محمد عبده “فهو طاقة محررة من الطراز الأول… وتطهير العقول من الأوهام الفاسدة والعقائد الخرافية والارتفاع بالإنسان إلي أسمى مراتب الكرامة، ثانياً: رد الحرية إلي الإنسان وإطلاق إرادته من القيود التي كانت تكبلها سواء تمثلت في الرؤساء الدينين والكهنة أو في القوى الخفية… والتوحيد يعني ثالثاً: حرباً علي التقليد واختلاعاً لأصوله الراسخة في المدارك ونسفاً لما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم. والتوحيد يعني رابعاً: رد الكثرة إلى الوحدة، والتنابذ والفرقة والتخالف إلي الاتحاد والألفة والتجمع… بمقتضي التوحيد يتم للإنسان أمران عظيمان طالما حُرم منهما هما استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر”(46).

كما تعرض “محمد عبده” في رسالة التوحيد إلي مناقشة: قضية “الحرية” أي حرية الإنسان في أفعاله وكانت رداً على اتهامات توجه إلى الإسلام فيما يتصل بعقيدة “القضاء والقدر” والتي رأي فيها أن الغرب وبعض المسلمين أخطئوا في فهمها بأنها تدعوهم إلى القعود عن العمل والكسل وهم “الجبرية”. فيصحح أولاً مفهوم “القضاء والقدر” بأنه علي النقيض تماماً من هذا الفهم “السكوني” و”التراجعي” عن العمل بقوله: “الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفة الجراءة والإقدام، وخلق الشجاعة والبسالة… هذا الاعتقاد يطبع النفس علي الثبات، واحتمال المكاره، ومقارعة الأهوال، ويحليها بحلى الجود والسخاء، ويدعوها إلي الخروج من كل ما يعز عليها، بل يحملها علي بذل الأرواح، والتخلي عن نضرة الحياة، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة”(47). ويؤكد محمد عبده في جانب آخر علي حرية الإنسان في خلق أفعاله وأن هذه الحرية ليست شركاً بالله، لأن الشرك اعتقاد بشريك لله في الكون والخلق، ويقرر نظرته لهذه المسألة في أمرين هما “ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية: الأول، أن العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته، والثاني، أن قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأن من آثارها ما يحول بين العبد وبين إنفاذ ما يريده، وأن لا شيء سوي الله يمكن له أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه”(48).

3- الاجتهاد, التفسير القرآني نموذجاً:

شن محمد عبده حرباً علي التقليد، وليس التقليد عنده يختص بتقليد العلماء المتقدمين وترديد آرائهم المذهبية علي غير دليل وحسب، وإنما يمتد التقليد عنده إلي تقليد المسلمين للغربيين في المسائل التي ينقلونها إلي مجتمعاتهم من غير أن تكون ملائمة لهذه المجتمعات، بما فيها القوانين الوضعية المنافية للشريعة أو لروح التقاليد الشرقية، والعادات والمظاهر الغريبة عن هذه المجتمعات. فكل تقليد مضر بالمجتمع؛ لأن التقليد الأول للسلف يجمد حياته الفكرية، والتقليد الثاني للأوروبيين يفتح منافذ الهيمنة الأجنبية والتأثير الحضاري الدخيل(49).

ومحمد عبده إذ ينعى علي التقليد، ينعى عليه لذاته من حيث هو كمبدأ، ثم علي وجه أخص ينعى علي صورته التي كان عليها في زمنه، وهي التي تتمثل في تبعية حرفية لها شبه قداسة وسلطة… تبعية لمذاهب واتجاهات ولدتها أو مالت بها عن خط الاستقامة عهود الضعف الفكري والسياسي والاقتصادي في الجماعة الإسلامية… وتبعية لكتب قامت علي كثرة الافتراض النظري في تفصيل الآراء، وبعّدت بذلك الحياة عن سيرها الواقعي، وغمضت في أسلوبها، وهدفت إلي توكيد الخصومة المذهبية الجامحة(50).

مثَّل الاج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر