أبحاث

الشريعة الإسلامية وسيادة القانون

العدد 1/2

يعتبر البحث في “الشريعة الإسلامية وسيادة القانون” هو مفتاح معالجة شئون الحياة المعاصرة على ضوء الشريعة الإسلامية.. أي

مفتاح باب الشعار الذي اتخذته مجلة “المسلم المعاصر” مكملا لعنوانها في صفحتها الأولى.

فإنه إذا كانت السيادة القانونية للشريعة الإسلامية في بلد من البلاد، تشكلت على الفور جميع الأوضاع السياسية –الدولية والداخلية- والدستورية والاقتصادية والاجتماعية في قالب هذه السيادة الغالبة. وأمكن تنسيق المجتمع كله، والأفكار التي تدور فيه في إطار من الفكر الموحد الخاضع للإسلام.

وبدون ذلك تتضارب الجهود وتتشتت الأفكار، وتتدخل الأغراض المغرضة والتوجيهات المنحرفة.. فإن الشريعة الإسلامية هي ضمان الصيانة والإطار الحافظ للمجتمع الإسلامي في تقدمه ومسيرته.

ويكفي أن نذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة، ولم يقبل عرض الأنصار، إلا بعد أن بايعوه على العناصر الأساسية لخضوع المجتمع للشريعة الإسلامية، والتي أوردها عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- في حديثه عن بيعة العقبة، كما أورده أستاذي الإمام البخاري رضي الله عنه (صحيح البخاري في طبعة دار الشعب جزء 1 صفحة 11- صحيح البخاري المفسر (تأليفي) الحديث رقم 17). فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: “بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف.. فبايعناه على ذلك”.

فهذا هو العهد الأعظم للدولة الإسلامية، وميثاق تأسيسها الدستوري وعقدها الاجتماعي.

وهو –فيما نرى- يتضمن العناصر الأساسية للمشروعية الإسلامية:

1- فقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تشركوا بالله شيئا” أي يكون التوحيد أساس العدل والصحة. فإن الاعتقاد بالتوحيد يستتبع العمل بأوامره سبحانه وتعالى، ومنع نواهيه. فتصير هذه الأمور هي معيار العدل والصحة، والفيصل والفرقان بينه وبين الظلم والبطلان أو الفساد.

2- وقوله: “لا تسرقوا” إقرارا لعصمة المال.

3- وقوله: “لا تزنوا” إقرارا لعصمة العرض.

4- وقوله: “لا تقتلوا أولادكم” أي أولاد المسلمين (كنحو قوله: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) إقرارا لعصمة النفس والدم.

وهذه العصمات الثلاثة أساس لكل الحريات وحقوق الإنسان والنظم الاجتماعية على أنواعها.

5- وقوله: “لا تأتوا ببهتان” إقرارا للأمن والثقة.

6- وقوله: “لا تعصوا” إقرارا للنظامية اللازمة للجماعة.

وبذلك فهو ميثاق جامع شامل وافٍ لأساس نظام سياسي دستوري متكامل يخضع للمشروعية الإسلامية العليا.

وكان هذا الاشتراط قبل الدخول في أي علاقة أو أي إنشاء جديد..

وعندنا في مصر، لم تعد سيادة المشروعية الإسلامية حلما.. ولا أماني ولم تعد تحتاج للخطابة والتمني والتحسر ونحو ذلك..  بل تحتاج إلى العمل.. والعمل الجاد الواعي. ومن لم يفعل فقد ظلم نفسه وإثمه كبير..

فقد أتاح لنا الدستور فرصة إعلاء الشريعة الإسلامية من أوسع أبوابها.. ولم يعد يمنعنا إلا أن نفرط في جنب الله.

والمقال الذي أقدمه هو جزء من تقرير قدمته في إحدى القضايا بحكم وظيفتي (كرئيس لمفوضي الدائرة الأولى من المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة المصري). وبذلك يمكن القول بأن سيادة المشروعية الإسلامية عندنا قد وجدت مدخلا لدور التنفيذ والتطبيق الملزم بحكم الدستور والفهم القانوني الصحيح. والله ولي التوفيق.

وإنني أود لو أدلى المتخصصون في كل بلد إسلامي بوضع الشريعة عندهم وما يرونه من علاجات لإقرار السيادة الكاملة لتطبيق الشريعة الإسلامية عندهم.

وأما في مصر، فمنذ أن قامت الثورة في 23 يوليو سنة 1952 انتهى عهد الليبرالية والرأسمالية في هذه البلاد وقام بدلا من ذلك نظام مذهبي.

ونحن لم ندرس النظام المذهبي في أيام دراستنا. وكذلك فإن المدرسة القانونية الحالية ما زالت متأثرة وآخذة بالأفكار القديمة. ولم تستوعب التطور الحقيقي الذي انتاب العالم كله (حتى البلاد الليبرالية) بالتحول إلى المذهبية أو شبه المذهبية.

ومن المؤكد أننا سنفشل في مواكبة الحياة ما دمنا نتمسك بالأفكار القديمة حقيقة أن عوائق الاستيراد قد عطلت التطلع إلى التطورات الحديثة، ولكن هذا أمر لا بد من استيعابه على الأقل من القليل الذي وصلنا أخيرا.

ولما قامت الثورة في 23 يوليو 1952، تجمعت أماني البلاد في مذهب واحد هو المبادئ الستة التي أعلنتها الثورة. وهذه حالة “شبه مذهبية” لأن المذهبية (أو الأيديولوجية) لا بد أن تكون ثابتة دائمة.

ثم توجهت البلاد إلى الاشتراكية التي أعلنها الميثاق عام 1962. وكان الرئيس الراحل يقصد أن يتفادى عيوب الماركسية ويستخلص فوائد الاشتراكية. فأرسى الميثاق أصولا اشتراكية مع الاحتفاظ بقدر من الملكية الخاصة مع احترام الدين. وكان الأمر يتطلب تخطيطا للميثاق وتوضيحا لمراميه. ولكن البلاد وقعت في صراع داخلي وحاولت مراكز القوى الاستيلاء على المذهبية للصالح اليساري كما وقعت في صراع خارجي مع إسرائيل والصعوبات الاقتصادية المعروفة.

فلما انتصر التصحيح الثوري في 15 مايو 1972 شرعت البلاد فورا في وضع الدستور وعند ذلك أعربت الإرادة الشعبية بكل قوة بقيادة شيخ الأزهر وقتها –الإمام الأكبر الشيخ محمد محمد الفحام- عن التمسك بالمذهبية الإسلامية التي بلورتها دستورية صادقة وهي: “أن تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع”.

ووافق مجلس الشعب على ذلك.

وكذا المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي.

ثم عدلت لجنة الصياغة هذه المادة (وأراها أحسنت كما يلي بعده) وإنما هي على أية حال ليس لها حق ذاتي في وضع الدستور فيرجع للمعنى الحقيقي كما عبرت عنه الإرادة الشعبية، وأما الاستفتاء الشعبي فلا حجة له في تفاصيل المسائل القانونية لأن الأصل فيه أنه مجرد ثقة إجمالية بالسلطة. ولذلك فالأصل أنه لا يؤخذ إلا على مسألة واحدة فقط بنعم أو لا.

وإني أكتب كوصية للأمة من بعدي. فإني لا أعرف حالي.. فربما أموت، ولا أدرك أن أدلي لها برأي، فيفوتني هذا الفرض وثوابه.

وأقرر أنه بالرجوع إلى الدستور نجده صريحا في إعلان المشروعية وجعلها مشروعية عليا للنظام المصري. وهذا الفهم الأصيل يلقي ظله على جميع أحكام الدستور ونظام البلاد.

فإن أحكام الدستور في مجموعها تنقسم إلى أقسام بعضها أعلى من بعض.

فقمة الأحكام الدستورية: هي ما تعلق بالدولة (مادة 1 إلى 6) فإن هذه الأحكام هي الإطار الأعلى الذي يحكم كل ما جاء في سائر النصوص أيا كانت مكانتها.

ثم تليها الأحكام المتعلقة بمقومات المجتمع الأساسية والحريات والواجبات والحقوق (المواد من 7 إلى 13) والأحكام المتعلقة بسيادة القانون (من 14 إلى 72) فهي نتيجة للنوع الأول ومترتبة عليها.

ثم الأحكام المُتعلقة بتنظيم السلطات على تدرجها بينها كما هو معروف.

وفي القسم الأول المتعلق بالدولة نصت المادة (2) على أن:

“الإسلام دين الدولة.. ومبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع”.

وهذه المادة يجب أن تُفسر حرفا حرفا بكل حرص وبميزان الذهب لوقوعها في هذا القسم الأول من أحكام الدستور.

1- فمعنى “دين الدولة”: أي عقيدتها التي تفنى في سبيلها وتضحي من أجلها بكل ما عندها لأن الدين هو العقيدة الراسخة التي يذهب في سبيلها الإنسان إلى أقصى حدود التضحية والتفاني.

وهذا التعبير يقابله في الفقه الحديث أن الجماعات هي وحدات نظامية لها غايات نهائية Finalites وتتألف من جماعات متماسكة حول هذه الغايات التي تقيد أغراضا اجتماعية لها ولها سلطة تحكمها وفقا لقواعد ترمي هذه الغاية (كتاب رينا في نظرية المنظمة Theorie de I’nstiution ومقالنا في نظرية النظام بمجلة مجلس الدولة وكتاب بيرود في النظرية العامة للعلوم السياسية بصفة عامة وخاصة الجزء الأول منه).

والتنظيم المذهبي الحديث يؤدي إلى تغيير شامل في شكل النظام الاجتماعي فهو يؤدي إلى وحدة الغاية ووحدة الفكر وهذا يؤدي إلى وحدة الوسائل والتنظيمات وإلى تضامن القاعدة الشعبية.

وهذا الشكل يختلف عن تشكيل الدول الليبرالية الرأسمالية حيث تختلف الغايات بسبب إطلاق المنافسة وإطلاق الحقوق والحريات ويسود الفراغ بين الناس فلا توجد قاعدة شعبية متضامنة.

وليس فوق نص الدستور على أن “الإسلام دين الدولة” عبارة أبلغ ولا أروع من أن غاية الغايات ونهايتها في النظام المصري هو إعلاء العقيدة الإسلامية وحمايتها والتقدم بها. ولما كانت الأشخاص القانونية تختلف عن الأشخاص الطبيعية في مقوماتها، فإنه يفهم من “دين الدولة” أنه شرائعها ونظامها ومنهجها في الحياة، تماما كما اتفق على أن القانون الجنائي يطبق على هذه الأشخاص بما يوافق طبيعتها بتوقيع العقوبات المناسبة لها دون ما لا يناسبها كالحبس، أو يفهم على أن الإسلام دين الأغلبية الساحقة فيكون دين الدولة، لأن الشعب مصدر السلطات ولن يرتضي المسلمون غير الإسلام دينا. وأما غير المسلمين فقد ارتضوا أحكام الإسلام لأنها تحميهم وصار نظامهم جزءا لا يتجزأ، خاصة أن إخواننا المسيحيين لا شريعة لهم ويعتمدون على الشريعة الإسلامية في كثير من أمورهم، وقد عشنا سويا (في مصر) قرابة الألف سنة في ظل الإسلام وفي وئام لم يشاهده شعب آخر.

وعلى هذا المنوال من الفهم المذهبي الذي يسيطر على القانون الدستوري الحديث تفهم النظم الحديثة، سواء في ذلك النظم الديمقراطية أو النظم الأخرى التي تقتبس من هذه النظم الشعبية. ولو أن بعض الدول المذهبية تتخذ مذاهب غير دينية ولكن الشكل الدستوري واحد في جميع النظم المذهبية.

2- ومعنى أن مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع: أي أصول الشريعة –أي الأحكام الثابتة التي لا تتطور- هي المصدر الرئيسي وغيرها مصدر ثانوي –فلا يجوز تخطي الرئيسي والاقتباس من الثانوي. ومعنى التشريع هنا لا يقتصر على القانون المكتوب بل يشمل كل قاعدة تنظيمية سواء أثرها العرف أو وضعها القضاء كمبدأ. وهي في ذلك ليست مصدرا تاريخيا فقط بل مصدر تفسيري أيضا لعامل الانسجام العام في ترابط المعنى التشريعي.

وهذه المادة لها خلفية تاريخية لا بد من شرحها:

وهي أنه لما شرعت البلاد في وضع دستور 1971 انهالت البرقيات على مجلس الشعب ومشيخة الأزهر مطالبة بأن تكون الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع فأصدر الإمام الأكبر شيخ الأزهر –الشيخ محمد محمد الفحام- بيانا تاريخيا نشرته الصحف في 2/6/1971 وأصدر مجلس الشعب ثم المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي قرارا بأن تكون الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع.

ولكن لجنة الصياغة صاغت المادة على الوجه السالف. وهو لا يغير من معناها الأصلي طبعا –لعدم ولايتها في ذلك- ولكنه يحتاط فقط للحاجة إلى استكمال الصياغة في الفروع، ولجان تقنين الشريعة دائبة على عملها. ولا تملك لجنة الصياغة بطبيعة الحال أن تخرج على إرادة السلطة التأسيسية في قراراتها وإنما يفسر النص الذي وضعته في ضوء هذه الإرادة لأنها مصدر السلطة، ومهمة لجنة الصياغة هي التحرير فقط وليست لها إرادة ذاتية في سن الدستور –كما أن الاستفتاء الشعبي- كما بينا- هو استفتاء إجمالي على الثقة بالسلطة.

وكلمة “مبادئ الشريعة” لا مفهوم لها إلا في المصطلح الإسلامي، وإنما تعرف الشريعة الإسلامية ما يسمى بالأصول، وما يسمى بالفروع.

وإجمال ذلك –كما أورده الثقات- أن الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين: عقائد وشرائع (أو فقه). أو أصول الفقه (أي علم الأدلة الشرعية والاستنباط منها) وفروعه (أي التطبيقات العملية).

فصار مفهوم “مبادئ الشريعة” أي العقائد وأصول الفقه.

وفي ذلك يقول الإمام السعد (التفتازاني) على العقائد النسفية: “إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى عقائد وشرائع”. وإن الأحكام الشرعية منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى فرعية أو عملية. ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية.

والعلم المتعلق بالأولى يسمى علم الشرائع (أو الأحكام) وبالثانية أي العلم المتعلق بالثانية- يسمى “علم التوحيد والصفات”.

كما يقول الإمام البيضاوي في منهاج الوصول بيانا لأقسام الفقه: أنه ينقسم إلى أصول وفروع: “أصول الفقه هو معرفة دلائل الفقه (أدلته) إجمالا وكيفية الاستفادة منها، وحال المكلف (يعني بحوث الأهلية وعيوب الرضا) والفقه، وأن الفروع هي العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من (أدلتها التفصيلية.. ) أي أن الأصول تتعلق بالأدلة وغير ذلك، والفروع تتعلق بالتطبيق العملي”.

وصار من اللازم طبقا للدستور أن تستمد الأحكام من هذه المبادئ أو الأصول فيما تقنن الفروع وهو منطق وبذلك زالت التهمة عن لجنة الصياغة ورفع الإصر عنها والحمد لله رب العالمين.

وبذلك أصبح فرض عين على القضاة وعلى رجال العلم أن يعلموا الشريعة وأن يقضوا بها.

ثم إن هذه الأصول ثابتة، والفروع ذات مرونة في الغالب وتقبل التغيير بقدر. ولذلك صلح أن يربط الدستور الأحكام بالأصول دون الفروع التي ما زالت تحتاج لمطابقة محدثات الزمان.

وأفضل ما أحيل إليه في ذلك ما قاله الإمام الشاطبي في الموافقات (الجزء الثاني: مقاصد الشريعة).

وكلمة “مصدرا أساسيا” تعني أن غير الشريعة ليس مصدرا أساسيا، لأن المذهبية لا تحتمل مصدرين أساسيين لضرورة وحدة الفكر فإذا عنت الحاجة للاقتباس من نظم أخرى فإن ذلك يكون في إطار المصدر الأساسي وبما لا يعارضه. وبذلك يمكننا الاستعانة بالنظم الأجنبية دون مجافاة للشريعة أو خروج عليها.

3- أما المشروعية الاشتراكية: فإنها تعتبر جزئية ومنطوية تحت المشروعية العليا؛ وهي المشروعية الإسلامية.

فإن ما تنص عليه المادة (4) من الدستور أن “الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي القائم على الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال ويهدف إلى تذويب الفوارق بين الطبقات”. فهذا النص في الواقع يقتضي مشروعية جزئية قاصرة على الأساس الاقتصادي فقط محددا في أمرين محصورين هما: الكفاية والعدل بما يحول دون الاستغلال، وتذويب الفوارق بين الطبقات.

وهذه الأغراض جزئية بالنسبة للمشروعية الإسلامية الشاملة لنواحي الحياة الأخرى كالمسائل الدولية والاجتماعية والأدبية والثقافية والخلقية وعلاقات الأسرة والجوار (وغير ذلك كثير).

وليس صحيحا أبدا ما قيل من أن الاقتصاد هو الدافع الأول في الحياة، فالاقتصاد وسيط لغيره، وعلماء النفس اتفقوا على أن تصرفات الإنسان تصدر من غرائز أعمق، فهذا قول فاسد نشأ عن الانحراف نحو عبادة المادة. وطرح المثل والقيم.

ومن الملاحظ أن قبول الميثاق قد تقيد بالنص على أنه “إيمان بالله وشريعته” وبذلك فالإرادة الشعبية واضحة تماما في تقييد الاشتراكية -عند قبول الميثاق- بالدين والشريعة الإسلامية.

وكل ذلك لا يجدي ما لم يقم أهل العلم –والقضاء منهم- بتحقيق مبادئ الشريعة بالعلم والعمل فهذا هو معنى “العلم والإيمان” أن يكون العلم في خدمة الإيمان بأن يرسم مناهجه وطرق تخطيطه وتطبيقه فلا يظل الإيمان شعارات جوفاء لا قيمة لها.

وأن روح الفقه الحديث –كما أبديت في كتابات كثيرة- تقتضي أن يصبح الإيمان وقوة العقيدة والعمل بالروح الشعبية والشعور بآلام الناس هو سمة القانون في العصر الحديث.

وفي مصر: تتجه المحكمة العليا (الدستورية) اتجاها واضحا نحو إعلاء الشريعة الإسلامية واعتبارها نظاما عاما order public وخاصة في حكمها برفض إلغاء مواد الشفعة من القانون المدني ومواد الحبس لدين الفقه (حكمها في 21/6/1974 الدعوى رقم 1 لسنة 5، محمد حلمي إسماعيل ضد رئيس الوزراء وسامية عبد العال).

إلا أن الواقع أن فكرة النظام تختلف تمام الاختلاف عن فكرة السيادة الإيجابية التي تتيحها المذهبية، على الوجه الذي شرحناه في النظام الإسلامي.

ففكرة النظام العام order public هي فكرة وضعية positif وليدة النظم الفردية (الليبرالية الرأسمالية) ولا توجد إلا بها. لأن المشرع في هذه النظم يكون مطلق الحرية في التشريع كيف يشاء، ويكون له –كما يقولون- حق ذاتي مطلق في التشريع، نتيجة لنظرية التحديد الذاتي auto-limitation للدولة ونظمها التي سيطرت سيطرة شكلية formel في هذه النظم على النحو الذي نراه عند القائلين بذلك كأوتو ماير، وكاري ومالبرج وأوستن ونحوهم وبحيث تكون فكرة النظام العام وليدة النص وأسيرته، بعكس المذهبية، فهي تؤدي إلى تكوين مشروعية عليا legalite superieure على النحو الذي تتجه إليه الأفكار الحديثة. وهي مشروعية فوق سلطة الدولة، وفوق نصوص القانون بمعناها الشكلي.

وهذه الفروق تتبدى –بصفة خاصة- من النواحي الآتية:

أولا: أن النظام العام l’order public هو نتيجة النص –في الغالب- وأسيره. فإن جاء النص –بالمنع والتحريم والتجريم- تقرر الحظر للنظام العام بصرف النظر عن تقبل الروح الشعبية لذلك. وإن جاء بالإباحة والإطلاق، صار غير مخالف للنظام العام بصرف النظر عن وجهة النظر الشعبية أيضا. بعكس الحظر المذهبي، فإنه لا يأبه بالنص في هذه الحالة ويعلن بطلانه. ففي البلاد التي أبيح فيها الشذوذ الجنسي وزواج الأخ من أخته غير الشقيقة ومحارمه (كبنت الأخ وبنت الأخت والعمة والخالة) جاز ذلك قانونا ولو تضرر به معظم الشعب. وربما سار الفقهاء في المنع للنظام العام حينا طويلا، ثم يأتي النص رافعا الحظر فيضطر القضاء للرضوخ له كارها.

ثانيا: إن النظام العام حظر جزئي موضعي في الغالب، فما يعتبر من النظام العام مدنيا قد لا يعتبر كذلك إداريا أو جنائيا وبالعكس. بل وفي داخل أحد الفروع –كالتقنين المدني- قد يعتبر الوضع مخالفا للنظام العام في أمر –كالملكية- ولا يعتبر كذلك في أمر آخر كبعض العقود والالتزامات الشخصية وهكذا. وسببه أن طريقة التشريع الفردية تخلق نظما norms مستقلة كل منها عن بعضها. فالنظام الجنائي غير النظامي التأديبي في أهدافه ودواعيه. والنظام المدني غير النظام التجاري أو الإداري كذلك، فنظام الإفلاس غير نظام الإعسار المدني. وأما المذهبية فتخلق منهجا عاما system أو طريقة للحياة mode de vivre بسبب وحدة الفكر والتضامن الشعبي، فلا يصح أن يكون الحظر موضعيا فيها.. ويؤيده ظاهرة وحدة القانون في النظام المذهبي وتعذر فكرة الازدواج والتعدد كما قرر الكثيرون.

ثالثا: إن النظام العام l’order oublic مقيد واستثنائي بطبيعته، لأن النظام الفردي (الليبرالي والرأسمالي) يجعل الأصل في الحرية والحقوق إطلاقها، وما يرد خلافا لذلك يكون استثنائيا مقيدا، بخلاف المنع المذهبي، فإن جميع الحريات والحقوق والمراكز القانونية فيه تكون مقيدة موصوفة بالمشروعية العليا.

طريقة التنفيذ:

وطريقة إرساء المشروعية الإسلامية على الوجه السالف تنقسم إلى قسمين كبيرين:

1-أحدهما: طريق اجتماعي وذلك بإعادة بناء البيئة على أساس إسلامي بحيث تتسم بآداب الإسلام وعوائده وتقاليده. وهذا موضوع مستقل بذاته ويفتح بابا كبيرا خاصا به. وإنما المقرر أن البيئة غير المتخلقة بأخلاقيات الإسلام وعوائده وآدابه، لا تصلح لتطبيق الشريعة فيها، كالأرض البور لا تنبت ما يوضع فيها من البذور مهما كثرت. فيجب إصلاح الأرض أولا لإنبات أي قدر من البذور مهما كان قليلا. والملاحظ أن البيئة الفاسدة تسخر من القواعد الصالحة –أيا كانت- وتتحايل عليها. ولذلك فلا ثمرة إطلاقا لمحاولات الإصلاح التشريعي في البيئات الفاسدة.

2-وثانيهما: طريق تشريعي وذلك بوسيلتين:

أحداهما وسيلة وقائية: بأن تعرض مشروعات القوانين قبل إصدارها على هيئة تشريعية لإبداء الرأي في مطابقتها للشريعة. وقد شكلت لدينا -في مصر- لجنة لهذا الغرض في مجلس الشعب من السادة الأساتذة: عبد الحليم الجندي، وزكريا البري، وحسين حامد (وهو في السعودية الآن). ولكن لم يبد لها أثر فعال إلى الآن.. ولعله لم تأت مناسبة لبحث شرعي فيما صدر منذ تشكيلها.

وثانيهما وسيلة علاجية: وهي اعتبار مخالفة القانون للشريعة دفعا بعدم الدستورية يجيز الطعن أمام المحكمة الدستورية العليا، لإلغاء القانون المخالف للشريعة. فهذه هي الطريقة العملية الوحيدة التي تمهد لتقنين الشريعة بعد تبلور العمل في ضوء تصارع المصالح. أما طريقة التقنين المسبق التي تتجه إليها بعض الدول فهي –فيما أرى- طريقة غير عملية. لأن التشريع لا يقوم على التصور بل يجب أن يسبقه العمل. وفرق بين من يضع مشروعا للحفظ والتمني وبين من يضعه للتنفيذ المباشر والعمل الفوري.. فإن روح الجد والبناء تسود الأخير دون الأول.

وإني آمل أن يكون هذا المقال افتتاحا لمساهمة المفكرين المتخصصين والرسميين العاملين.

والله سبحانه وتعالى الموفق للخير وهو العلي القدير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر