حواررؤى

حركة الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين

العدد 96

السؤال الأول: متي بدأت المرحلة الحالية في الفكر الإسلامي المعاصر، وما العوامل التي أدت إليها؟

الدكتور كمال إمام: بطبيعة الحال لا يمكن أن نفصل المرحلة الحالية عن جذورها ، وإنما نستطيع أن نقول : إن القرن الحالي يمثل وحدة متكاملة في كثير من قضاياه ومشكلاته.

علي إثر انتهاء القرن التاسع عشر الذي ركز العالم الغربي فيه علي أن يصبح العالم العربي والعالم الإسلامي كله جزيرة استعمارية إذا جاز هذا التعبير ، بدأت تداعيات المشكلات الكثيرة التي كانت موجودة في القرن التاسع عشر.

أهم هذه المشكلات هي محاولة الاستعمار أن يلحق العالم الإسلامي به في جانبين رئيسيين :

الجانب الأول هو : الجانب الفكري عموما .

والجانب الثاني هو : الجانب التشريعي بوجه خاص ، في محاولة من الغرب لأن ينقل أغلب القوانين الغربية سواء القوانين الإنجليزية إلي منطقة شبه القارة الهندية أو القوانين الفرنسية إلي منطقة العالم العربي .

وقد أدي ذلك إلي صراعات مختلفة وبعض هذه الصراعات مصدره سياسي؛ لأن الدولة العثمانية كانت تدافع عن ذاتها علي الرغم من أنها كانت في حالة انحصار .

والمجتمعات العربية بدأت تتجه إلي محاولة التخلص من أمرين : الأول من الدولة العثمانية ، والذي سمي بالاتجاهات القومية ، أو التطورات القومية .

والأمر الثاني محاولة الخروج من مأزق الاستعمار في ما سمي باتجاهات التحرر من الاستعمار.

كل هذه الخلفية التي بعضها سياسي، وبعضها تشريعي أثرت في حركة النهضة المعاصرة ، التي إذا بدأنا بها في النصف الثاني من القرن العشرين سنجد المشكلات ذاتها ، ولكنها منقولة بشكل أكثر ترتيبا وتنظيمًا .

هذه المشكلات تتمثل في أمرين :

1- محاولة التحرر من الاستعمار العسكري ، وما يترتب عليه من تحرر سياسي ، واقتصادي .

2- محاولة التحرر من البنية التشريعية الغربية .

وللأسف الشديد فإن التحرر السياسي والاقتصادي كان مرتبطًا إلي حدّ كبير بمدي نجاح هذه التجارب الثورية في الخروج من التبعية التشريعية.. وهو الأمر الذي لم يحدث علي الإطلاق؛ فظلت المشكلة الرئيسية هو أن الاحتلال العسكري ينحسر ، ولكن الاحتلال الثقافي والسياسي لا يزال.

الاحتلال الثقافي يتمثل في ما نشاهده من التركيبة التشريعية ، والتركيبة التربوية والتعليمية، فهي في العالم العربي مستجلبة أو مستوردة .

الاحتلال يتمثل في أن التحرر السياسي منقوص في ظل التبعية الاقتصادية ، التي لا تحرر القرار السياسي في العالم العربي والإسلامي لدي صناع القرار .

ولا نريد أن ندخل في تفاصيل كثيرة في هذه الخريطة المؤلمة ؛ لأن التفاصيل فيها إذا ما نزلنا من إطار الكليات إلي الجزيئات الكثيرة ، فسنجد بعضها يعود إلي الشعوب ، وبعضها يعود إلي الحكام، وبعضها يعود إلي القوي الدولية، ولا يبرأ أحد من أنه يحمل علي كاهله إصرًا ووزرًا مما يحدث في العالم العربي الإسلامي.

ولكن ليست المشكلة هي مشكلة التشخيص وحده، وإنما هي مشكلة تصور إمكانية إيجاد فرز لهذه المشكلات لوضع أولويات .

وبداية المرحلة الحالية نستطيع أن نقول : إنها تبدأ في الإطار العام مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات حيث استطاعت بعض الدول الإسلامية أن تحصل علي استقلالها، فالمرحلة الحالية تبدأ مع الاستقلال للدول الإسلامية التي كانت تحت الاستعمار.

السؤال الثاني: ما أهم تيارات الفكر الإسلامي المعاصر خلال القرن العشرين، وما أهم عناصر كل تيار من تلك التيارات؟

الدكتور كمال إمام : هذا السؤال واسع ؛ لأن المساحة التي يتمدد عليها العالم الإسلامي كبيرة ، وهناك نوع من الخصوصية في كل مجتمع ، هذه الخصوصية لابد أن تكون بارزة .

ولكن نستطيع أن نقول : إنه في النصف الثاني من القرن العشرين كانت هناك ثلاثة تيارات فاعلة وحقيقية في العالم الإسلامي:

التيار الأول : تيار يمتد بجذوره إلي حركة الإخوان المسلمين ، وهي حركة شئنا أم أبينا ، قبلناها أو رفضناها ، فهي حركة لا تزال تمثل أكثر الحركات قدرة علي تحريك الواقع الاجتماعي الجماهيري في العالم العربي والإسلامي.

وعلي المستوي الفكري لم تكن مجرد حركة خاصة بالتحولات الاجتماعية في داخل المجتمع ، وإنما كان لها برنامج فكري ، وبرنامج تربوي ، وتصور سياسي تمثل فيه إنتاج فكري ، وقدمت الحركة كثيرا من الأعلام في عملية التنظير ، وعلي رأسهم مؤسس الحركة حسن البنا ، والذي له نظرية سياسية ، وله نظرية فكرية ، وله نظرية تربوية .

وتجسدت هذه النظريات بعد ذلك في أفكار مختلفة في الجانب التشريعي عند عبد القادر عودة وغيره ، وفي الجانب الحركي عند سيد قطب ونظائره، وفي الجانب السياسي عند محمد الغزالي ، وعند حسن الباقوري وعند العشماوي وغيرهم ممن حاولوا أن يمدوا حوارًا مع الثورة  .

فحركة الإخوان المسلمين هي منظومة متكاملة في اتجاهاتها المختلفة .

التيار الثاني : التيار الإصلاحي الذي نبع من محمد عبده ، والذي أثر بشكل ما في حركة الإخوان المسلمين ، لكنها انفصلت عنه انفصالاً تامًا ؛ لأن حركة محمد عبده كانت حركة فكرية إصلاحية في مجالات متعددة كالمجال التعليمي والمجال العقائدي والمجال التشريعي، في محاولة للأستاذ محمد عبده أن يجمع العلماء علي تشريع واحد ، وهذا التشريع يكون مأخوذًا من كافة المذاهب الإسلامية المختلفة .

وهي المحاولة التي وجدت أصداءً لها في مصر وفي بعض أنحاء العالم العربي ، ممثلة في رشيد رضا ودعوته إلي إيجاد هذه القوانين المستمدة من المذاهب الإسلامية المتنوعة  .

ثم حمل هذه الراية علي نحو حقيقي الشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر الذي استطاع أن يشكل لجنة تصدر عددًا من القوانين الإسلامية في هذا القرن.

التيار الثالث : نستطيع أن نقول إنه التيار المتأثر بالحركة الوهابية ، وهذا التيار تمدد في العالم الإسلامي تمددا كبيرا ، فله مكانة في شبه القارة الهندية، وله مكانة في دول الخليج العربي ، وله مكانة في الشمال الإفريقي ، وأفريقيا الغربية .

وهذا تيار فاعل ، ومهم ، ومؤثر ، وخاصة أنه في النصف الثاني من القرن العشرين بدأت المملكة العربية السعودية تظهر كدولة بترولية غنية ، واستطاعت أن تحرك هذا التيار لأن يكون فاعلا في مناطق كثيرة .

وهذا التيار له تصوره الفكري ، وله تصوره السياسي ، وله أيضا نتائجه فيما يتعلق بالتشريع .

هذه هي التيارات الثلاثة فيما أتصورها.

هناك تيارات فرعية ، لكن هذه التيارات الفرعية يمكن أن تصب في هذه التيارات الفكرية الثلاثة.

السؤال الثالث: ما هي القضايا الأساسية التي طرحتها هذه التيارات الفكرية المعاصرة؟

الدكتور كمال إمام: التيارات الفكرية المعاصرة في حقيقة الأمر طرحت ثلاثة قضايا كبري :

1- قضايا التحول الاجتماعي ، وكان أبرز هذه القضايا : قضية تحرير المرأة.

2- قضايا التحول التشريعي ، وأهم قضية فيها : ما سمي بتطبيق الشريعة الإسلامية.

3-قضايا التحول السياسي ، وأهمها قضية إقامة دولة إسلامية، أو الإسلام دين ودولة.

وكل ما عدا ذلك يعمل تحت هذه القضايا الثلاث الكبري .

أما قضية تحرير المرأة ما بين قبول ورفض ، فتجد قاسم أمين ومؤلفاته ، ورشيد رضا ، وفريد وجدي ومؤلفاته ، وهذا ليس تيارًا في مصر وحدها ، وإنما تيار في العالم العربي ككل ، والعالم الإسلامي ، فنجدها عند طارق الحداد في تونس، ونجدها مثارة في الهند، وحتي أقاليم الدولة العثمانية كبلاد البلقان فكتب أداييف في قضية حقوق المرأة في الإسلام، وفي تركيا نفسها اهتمت ابنة جودت باشا بالموضوع وكتبت فيه .

فهذه القضية كانت قضية اجتماعية علي مستوي العالم الإسلامي كله.

وكذلك قضية تطبيق الشريعة الإسلامية ، هل نأخذ بالقوانين الغربية أو نأخذ بالقوانين الشرعية.

وبدأ ما يسمي بحركة أسلمة القوانين، فالسلطة السياسية تبنت قوانين مأخوذة من الغرب ، وبدأت توجهات لتخريج هذه القوانين علي النصوص الشرعية وأسلمتها .

وهذه محاولة بدأها قدري باشا، ومخلوف المنياوي في مصر ، وبدأها محمد التونسي في منطقة المغرب العربي، وخاصة في مراكش ، وبدأها أيضا الشطي في الشام .

فلم تكن أيضا عملية خاصة بجزء من العالم العربي، كمصر مثلا التي كانت منفصلة عن الدولة العثمانية في إطارها التشريعي .

ثم تأتي قضية الخلافة ، وهي أيضا قضية كبيرة جدًا ، وطبعًا أصداء سقوط الخلافة وتداعيتها في سنة 1924م تركت آثارها علي المشكلة السياسية ، فمبدأ الإسلام دين ودولة ظهر من يرفضه من جانب تيارات كثيرة في تركيا وغيرها ، بل ويصبح رفض هذا المبدأ برنامجا سياسيا يتقدم به الانتخابيون، ويتقدم به السياسيون في دول كثيرة .

وأعتقد أن محور الصراع ما بين القوي السياسية المختلفة التي تسعي إلي الحكم هي أنها لديها خشية وحذر شديدين من التيار الذي يرفع شعار الدولة الإسلامية.

السؤال الرابع: ما مفهوم الحركة لديكم؟

الدكتور كمال إمام : إذا أردنا أن نأخذ مفهوما للحركة بالمعني الخاص لها فالحركة هي : مجموعة بشرية فكرية تسعي إلي تغير وضع ما ، سواء أكان هذا التغيير سياسيا ، أو اجتماعيا ، أو فكريا .

فلا يعد في مفهوم الحركة تلك التي تريد أن تثبت وضعا قائما، وإنما لا بد أن تتجه بمشروعها إلي عملية تغيير، هذا التغيير ربما يوجهنا إلي الماضي أو يوجهنا إلي المستقبل .

ويجب أن يكون هناك اتفاق بين الأفراد ، فلا بد من الوحدة في الأفكار الرئيسية ، ولا بأس من التنوع بعد ذلك.

لكن الحركة في الواقع لا تقبل هذا التنوع ؛ لذلك فحركة الإخوان المسلمين – مثلا- بمجرد أن يحدث التنوع يحدث الخروج ، والانشقاق إلي حركات أخري . نعم تجد في داخل الحركة تيارًا سياسيًّا ، وآخر يميل إلي التصالح ، وثالثا يميل إلي التشدد ، وهذه طبيعة كل حركة لا بد أن يوجد فيها ، لأنه إذا كانت الحركة منغلقة علي ذاتها تماما فلا بد أن يحدث عليها خروج ، وهذا ما حدث حتي في الجماعات الدينية المسيحية.

فمثلاً الحركة البروتستانتية تعتبر انشقاقًا كاملاً عن الكنيسة الكاثوليكية .

السؤال الخامس: هل للحركات الإسلامية المعاصرة جذور فكرية انطلقت منها، أم نشأت بصورة حركية صرفة؟ وهل حينئذ ولدت الحركة فكرًا؟

الدكتور كمال إمام : طبعًا هذا السؤال كبير والإجابة عليه بهذه الطريقة المرسلة إجابة غير محكمة، إن لم تكن إجابة مغلوطة في حقيقة الأمر .

لكن الذي أتصوره أن هذه الحركات الإسلامية بتياراتها المختلفة لم تنطلق من فراغ. وإنما كان هناك واقعا اجتماعيا يستدعيها. وهذا الواقع الاجتماعي الذي يستدعيها له أصول مؤثرة .

فالحركات الإسلامية المعاصرة لا تستطيع أن تنفك من تأثير محمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني، ومن تأثير الحركة الوهابية ، ومن تأثير الاحتكاك بين الشرق والغرب ، والذي فرض بعض القضايا ، وجمد بعض الحركات ، وأطلق بعض الحركات من عقالها.

هذه الجذور بعضها متمثل في طبيعة الأرض ، وأنها أرض متحركة ، ولم تكن أرضا ساكنة ، وبعضها متعلق بطبيعة الجو والأفق السياسي ، والمحيط الذي لابد أن يتطلب إما محاولة للحاق بما هو حادث ، أو بمحاولة التكرس حتي لا يتم الذوبان حفاظًا علي الهوية .

ربما تمتد جذور حركات التجديد التي وجدت في العالم العربي والإسلامي إلي ما قام به ابن تيمية ، وما قام به العز بن عبد السلام ، وفكرته في درء المفاسد وجلب المصالح، وقضية السياسة الشرعية عند ابن تيمية ، وعند ابن القيم ، والعودة إلي فكرة المصلحة في فكر المتقدمين .

كل هذا محاولة لإيجاد أصول نظرية للحركة الفكرية التي تحاول أن تواكب الواقع ، وتجد لها جذورا في النظام الشرعي الإسلامي ، فهي لا تريد أن تنطلق من فراغ ، بل لا يمكنها أن تنطلق من فراغ .

لكن هناك بعد ذلك حركات نشأت باعتبارها ردود أفعال ، فهناك حركات حينما نشأت كان لها جذور فكرية . لكن هناك حركات أخري لم تنشأ عن جذور فكرية ، وإنما نشأت باعتبارها ردود أفعال سواء لما يحدث علي المستوي الإسلامي ، أو علي المستوي العالمي، وأحيانا لا يكون لها جذور ممتدة، كحركات يقودها حرفيون فهذه لا يمكن أن يكون لها فكر، فبعض الحركات الإسلامية التي سميناها تنظيمات يقودها شخص قليل الخبرة ، قليل الثقافة ، قليل المعرفة بالمصادر ، ولا أستطيع أن أقول إن هذه الحركة لها مصادر فكرية ؛ فقائدها ليس له فكر أصلا ، ولا ثقافة. فمثل هذه التنظيمات أقرب إلي صورة النقابات التي كانت توجد قديما ، والتي كانت تجتمع حول النقيب، وهي تمثل نوعا من التجمع لحل بعض المشكلات اليومية .

فهذه التنظيمات نشأت كردود أفعال لواقع اقتصادي واجتماعي، ولا يمكن أن نقول إنها حركات لها مصادر فكرية ؛ ولذلك أين هي أدبيات هذه الحركات.

فهذه الحركات لم تولد فكر بعد ذلك ، لأنها بطبيعتها لا تستطيع ذلك ، والذين يدرسونها لن يستطيعوا أن يجدوا تنظيرًا حقيقيًّا لما قدمته من أفكار ، وما أثارته من أطروحات .

ومع هذا نحن نضعها علي الخريطة ؛ لأنها تكشف إلي حد ما أن المشروع كان فاشلاً في بعض جوانبه سواء المشروع السياسي الذي قدمه الاستقلاليون القوميون ، أو المشروع الإسلامي الذي قدمته الحركات الإسلامية ؛ لأنها لم تستطع أن تستوعب هذه الجيوب الجزئية ، وتركتها تتفتت إلي شظايا لا تحمل فكرًا، وقد يكون تأثيرها مدمر علي المجتمع ككل ، أو علي الحركات الأخرى التي قد يظن أن بينها وبينها رباط في بعض الأحيان .

السؤال السادس: إلي أي مدي تفاعل الفكر والفقه الإسلامي بالحالة الراهنة للعالم ، وما يكتنفها من تغيّرات؟

الدكتور كمال إمام : أري أن الفكر الإسلامي له دور حقيقي في المساهمة في تغير الوضع العالمي ، ويمكن تقسيم ذلك إلي مراحل:

المرحلة الأولي : بدأت في منتصف القرن التاسع عشر حينما حدث احتكاك تشريعي بين الدولة العثمانية وبين الدول الأوروبية المحيطة بها ، نتيجة للعلاقات التجارية بالعالم الأوربي ، ووجود امتيازات كثيرة جدًا لغير المسلمين .

وكان الانتصار في الدولة العثمانية في جزء كبير منه – ولا أقول في الجزء الأكبر – للاتجاه المنادي بأن نستمد القوانين من الشريعة الإسلامية ، فظهرت مجلة الأحكام العدلية ، والتي أحدثت حركة فكرية حقيقية في مجال النهوض بالفكر الإسلامي من خلال ضرورة العودة إلي كتب الفقه لفهم هذه المجلة ، التي أصبحت هي القانون المدني الذي يدرس في كليات الحقوق في بيروت ، وفي دمشق ، وفي بغداد ، بالإضافة طبعا إلي الأستانة بالدولة العثمانية ، من ثم ظهرت شروح كثيرة تعتمد علي الفقه الإسلامي الحنفي خاصة لتقديم المجلة بشكلها الجديد .

ومن المهم الانتباه إلي أثر القواعد الفقهية المذكورة في أولها ، والتي أدت إلي نهضة الجانب التنظيري في مجال الفقه الإسلامي عن طريق شروح المجلة للقواعد الفقهية .

ومن الطريف أنه قد شارك في حركة الشروح للمجلة العدلية بعض الجامعات الأجنبية، كالجامعة الأمريكية في بيروت ، حيث كان يدرس فيها مجلة الأحكام العدلية ، حتي قام بعض الأساتذة غير المسلمين بالجامعة الأمريكية ببيروت بشرحها .

كما كان للمجلة العدلية صدي في مصر ، يظهر ذلك في ما نسميه مشروعات القوانين الشرعية التي أعدها قدري باشا ، كما أثرت المجلة العدلية في كتابات أحمد إبراهيم ومحمد سلامة وأحمد أبو الفتح ، وغيرهم .

فالمجلة العدلية أدت إلي هذه النهضة الفقهية التي نشأت في أواخر القرن الـ 19 ، وأوائل القرن العشرين ، وكانت فعلا عملية فاعلة ؛ مما يعطي للفقه الإسلامي حضورًا علي الساحة التشريعية ، وعلي الساحة الفكرية ، وعلي الساحة التعليمية.

وهذا انعكس أيضا علي المغرب العربي فيما أسميناه مجلة الأحكام التونسية ، ومجلة الالتزامات والعقود التونسية ، التي شكلت لجنة في سنة 1896م لإعدادها ، وصدرت في سنة 1906م ، وطبقت من سنة 1907م ، وكان لذلك أثره علي المغرب العربي ككل ، بل وعلي كتابات بعض فقهاء القانون الفرنسي .

المرحلة الثانية : هي مرحلة النظر إلي الفقه الإسلامي نظرة تجديدية، محاولة تجديد الفقه الإسلامي في مجال القوانين، وهي التي افتتحها الإمام محمد عبده وسار فيها شوطًا كبيرًا رشيد رضا والمراغي ، وسار فيها أيضا بشكل آخر الشيخ محمود شلتوت ، وعلماء الأزهر حينما حاولوا التقريب بين المذاهب ، وإدخال الفقه الشيعي إلي الأزهر في مجال الدراسات المقارنة ، وأنشأت لجنة للتقريب بين المذاهب ، وهناك محاولة الشيخ محمد محمد المدني لإنشاء ما نسميه جسور متكاملة بين الفقه الإسلامي .

فهذه حركة كبيرة نشأ عنها فكر اجتهادي متطور ، وأفرزت في مصر محاولة لم يكتب لها النجاح ، وهي تطعيم كلية الشريعة بأمرين :

الأمر الأول : الدراسات المقارنة بين المذاهب ، مع الاعتراف بالمذاهب الشيعية .

الأمر الثاني : دراسة القوانين الوضعية ، كمقررات دراسية ، لأن من خريجي الكلية من يسلك سلك القضاء ، فلابد أن يدرسوا القوانين المطبقة ، مما أوجد جدلية وحوار بين الفقه الإسلامي والقوانين المطبقة في مصر.

ولو نجحت هذه التجربة لتغير مسار التدريس الفقهي في مصر ، لكن لأسباب كثيرة لا داعي لاستعراضها لم يكتب النجاح لهذه التجربة.

المرحلة الثالثة : هي محاولة دخول غير المتخصصين إلي عالم الشريعة الإسلامية لإيجاد ما نسميه باجتهاد فقهي جديد، وسبب ذلك تقصير كثير من الفقهاء ، وفشل المرحلة السابقة في إنتاج الفكر المنشود ، وإيجاد الكوادر الفقهية المرجوة .

فمع وجود احتكاك كبير ومع وجود متغيرات كبيرة كان للفقه الإسلامي حضوره.

لكن ظهر في بعض الأحيان ما أطلق عليه الاجتهاد المعكوس ، الذي يحاول الخروج عن الشريعة ، ويصل بالمصلحة إلي حد تغيير الشرع ، ويصل بالعقل إلي أن ينسخ القرآن والسنة ، نري شيئًا من ذلك في ما قاله محمود طه في السودان، وما قاله نصر أبو زيد في مصر ، وما قاله غيرهما في منطقة المغرب العربي.

فحركة تجديد الفقه في المرحلة الثالثة مرت بأزمة حقيقية ، ومع ذلك فهناك العديد من المظاهر الإيجابية ، كتكوين المجامع الفقهية كالمجمع التابع لمنظمة العالم الإسلامي ، والمجمع الفقهي في مكة ، وتجديد حركة مجمع البحوث الإسلامية في مصر ، والمجامع الفقهية في الباكستان ، وفي المغرب العربي.

وأعتقد أن هذه المجامع الفقهية إذا ما أتيح لها مخطط جيد ، وفقهاء متمكنون، تستطيع أن تحدث نوعًا من الاتساق بين الفقه والواقع بحيث نجد حلولا .

كما أن هناك العديد من المحاولات الفردية، كمحاولات الشيخ القرضاوي، والشيخ الغزالي ، والدكتور جمال عطية.

وكل هذه المحاولات محمودة ، لكنها شظايا ، ولا يستطيع الفرد أن يواجه كل هذه المتغيرات بمفرده ، كما أن هذا الفرد في بعض الأحيان يجابه من فقهاء آخـرين يقفون الموقف المضاد ، ويتترسوا ضده .

وأري للخروج من هذا أن يأتي الاجتهاد الجديد من مؤسسات للاجتهاد الجماعي ، تعطي لآرائها إلزامية التطبيق عن طريق سلطة الدولة ، فتلتزم بها كافة مؤسسات الدولة .

السؤال السابع: إلي أي مدي تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بالتيارات الفكرية العالمية؟

الدكتور كمال إمام : دخول التيارات الفكرية الأخرى إلي نسيج الفكر الإسلامي جاء بعضها بحكم تحولات لا دخل للفكر الإسلامي بها. وجاء بعضها نتيجة حضور الفكر الإسلامي علي الساحة .

وبعض هذه التأثيرات كان بسبب أن عددا كبيرا من الذين كانوا يناصرون التيارات المختلفة كالتيارات الماركسية ، والتيارات القومية ، وغيرها من التيارات الموجودة علي الساحة ، اقتنعوا بفشل هذه التيارات ، ودخلوا في التيار الإسلامي ، مع الاحتفاظ بتركيبتهم الثقافية المختلفة ، مما أحدث لونا من الحركة في داخل الفكر الإسلامي أو التيارات الإسلامية .

فمثلا عادل حسين نراه ينتقل من المعسكر القومي بشكل عام إلي المعسكر الإسلامي بشكل عام.

فهؤلاء لهم ثقافتهم ، ولهم تجاربهم ، وأنا أعتبر أن هذه التحولات ، وهذه التأثيرات تمثل عنصر إثراء ، وكان تأثيرًا إيجابيًّا ؛ حيث دخلت بعض العناصر المهمة الفاعلة إلي ساحة الفكر الإسلامي، مستصحبة ما لديها من رصيد سابق ، فكشفت الثغرات علي الجانبين ، وفتحت مجالات جديدة للتفكير وللنشاط ، وللحوار إلي آخره.

الجانب الآخر من هذا التأثر أفرزه الواقع، وإفرازه سلبي، فالفكر الإسلامي له حضور علي الساحة السياسية ، وفي ظل ضعف التعددية السياسية في بعض بلدان العالم العربي والإسلامي، حيث نجد محاولة الحضور الإسلامي يقابله سيطرة ضاغطة ممن لهم السلطة والحكم، فوجدت بعض التيارات نفسها علي هامش الحياة السياسية رغم كثافة وجودها ، أو رغم ما لها من دور وطني كبير. فحدث هناك نوع من التقارب بين التيار القومي والتيار الإسلامي بعد حدوث حوار بينهما.

وهذا الحوار الذي فرضه الواقع لم يسفر عن نتائج إيجابية ، ولذلك كان حوارًا سلبيًا ؛ لأنه في بعض الأحيان لم يكن يتجاوز حوار الطرشان ، وفي أحيان أخري كان حوار مصالح؛ وبالتالي لم يسفر عن نتيجة، ولا عن اقتناع حقيقي لما قدمه القوميون ، وإنما حدث هذا النوع من التقارب – علي المستوي التكتيكي – بين هذه الاتجاهات لمصلحة تقوية وجودها علي الساحة السياسية والساحة الفكرية .

وأعتقد أنه في ظل الأفكار الإسلامية الصحيحة ليس هناك مجال لأنصاف الحلول، وليس هناك مجال للتنازلات سياسية ، فنحن لا نعمل في مجال سياسي ، وإنما في مجال فكري .

أما تحول أفكارنا إلي مجال سياسي يخضعها في بعض الأحيان للعوامل الانتخابية ، فننضم لأحد الأحزاب تارة، ولغيره تارة ، … وهكذا ، فهذا لا يجوز في رأيي .

ولذلك أعتقد أن دخول التيارات الإسلامية إلي الحياة السياسية الموجودة في عالمنا العربي والإسلامي، عدا بعض الاستثناءات، كان حضورًا سلبيًّا . وعندنا تجربة الجزائر ، وباكستان ، والأردن ، وفلسطين .

والحاصل أن التأثير بين الحركات الإسلامية والحركات المحيطة سواء في الداخل أو في الخارج كان إيجابيًّا في بعض أحيانه ، كدخول بعض الرموز الكبيرة التي حركت المياه الأسنة في الحركات الإسلامية ، وأدخلتها إلي آفاق لم تكن معروفة لها ، أو لم تكن تحب أن تسبح فيها. ومن جهة أخري فإن الحوار الإسلامي القومي كان له تأثيره ، لكني أعتقد أن التأثير كان سلبيًّا، أو علي الأقل لم يصل إلي الحد الأدنى المطلوب.

السؤال الثامن: هل بدأت بعض الأفكار الإسلامية تُطرح علي الصعيد العالمي؟ وما أهم مجالات الحوار التي دخلت فيها مع الفكر الآخر؟

الدكتور كمال إمام : لا أدعي علمًا بهذا الموضوع، فأنا لست من القارئين باللغات الأجنبية ، ولست من الذين يسافرون كثيرًا إلي العالم الغربي ، حيث تتاح فرصة الاحتكاك بصورة جيدة ، لكن لدي إحساس – وليس لدي معلومات – بأن الإسلام علي الساحة العالمية ليس تيارًا فاعلاً إيجابيًّا، لكنه تيار مرفوض عالميًّا ، وبالتالي فما يدور من حوار في الساحة العالمية ليس هو استقطاب الإسلام ؛ وإنما استسلام الإسلام ، ونزعه من أهم مقوماته .

ومن جهة أخري فمن خلال خبرتي بالكتب الغربية المترجمة إلي العربية والتي تحدثت عن الإسلام والشريعة الإسلامية لم أجد كتابًا واحدًا لمؤلف غير مسلم ينظر إلي الإسلام نظرة إيجابية ، رغم كثرة هذه الكتب التي تصل إلي المئات .

مما يعني أن هذا يمثل موقف حضارة، وموقف مجتمع ، ونسق فكري علي الرغم من تباين التيارات بين ماركسي ، ومسيحي ، وملحد ، كل هذه التيارات المختلفة الفاعلة تتفق علي شيء واحد أنها لا تقبل الإسلام بالشكل الذي يجعله قوة فاعلة.

السؤال التاسع: نلاحظ تشابهًا شديدًا في المشكلات والأطروحات المعروضة علي الفكر الإسلامي في بداية القرن مع تلك المعروضة في نهايته، ما مدي صدق هذه الملاحظة وما أسبابها؟

الدكتور كمال إمام : سبق أن ذكرت أن هناك ثلاثة محاور ما زلنا نعمل من خلالها ، فهذه المشكلات هي مشكلات محورية، وربما كانت مدة مائة سنة في حياة الشعوب ليست بالمدة الكبيرة ، ولكن هذه الشعوب هل هي قادرة علي نهضة أم لا؟.

وأري أن القرن العشرين أسوأ قرن عاشه العالم العربي والإسلامي ، قد يكون هذا القرن بالنسبة لبعض الحضارات ولبعض الشعوب من القرون الممتازة ، قبل ذلك انتصر صلاح الدين علي الصليبيين ، وانتصر بيبرس علي التتار، وحولهم من مجموعة بشرية مناهضة للإسلام لمجموعة دخلت الإسلام، ففي نهاية المطاف قبل ما ينتهي القرن الذي حدثت فيه المشكلة نراها قد استوعبت تماما ، وحصلت تحولات شديدة جدًا لمصلحة العالم الإسلامي.

وهذا لم يحدث في القرن العشرين ، من ثم أري أنه الأسوأ بالنسبة للأمة العربية والإسلامية ، حيث إنها قد دخلت حجر الضب ولم تخرج منه، ونراها تسعي إلي الألفية الثالثة وهي تعلم أنها خسرت كثيرًا في الألفية الثانية.

السؤال العاشر : ما أهم التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الحادي والعشرين؟

الدكتور كمال إمام: هناك في تصوري تحديان رئيسيان :

الأول: كيف يتحول الفكر الإسلامي إلي فقه جديد يتعامل مع العصر.

الثاني: كيف يتحول إلي مناهج تعليمية فاعلة في هذا العصر.

فأنا لا يعنيني أن يتحول في القرن الواحد وعشرين إلي نظام سياسي ، ولا يعنيني أن يتحول إلي نظام عالمي ، وإنما يعنيني أن يتحول الإسلام في هذا القرن إلي بنية تشريعية فاعلة ، وإلي بنية تعليمية عاملة ، وإذا استطاع الإسلام أن يعمل في هذين المجالين بقوة – وأنا لا أعتقد أنه سيسمح له، ولابد أن يعتمد علي طاقته الذاتية في فرض نفسه علي العالم – فسوف يحدث تغير كبير .

ولننظر إلي ما حدث من التحولات في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر مثلا ، فهذا قرن النهضة ، وهذا قرن التنوير ، لأنهما يمثلان منظومة تعليمية ، ومنظومة تشريعية معينة، أما المنظومة السياسية فتأتي دائما إما منظومة قاهرة لهاتين المنظومتين ، أو منظومة تابعة لهما، فإذا كانت هاتان المنظومتان من القوة بحيث تنتج النخبة السياسية التي تؤمن بأفكارها وتعمل بها، وإلا ستتحول النخبة الحاكمة إلي منظومة قاهرة لهذين المنظومتين .

فإذا لم يحدث هذا التغيير وهو أن نتحول إلي منظومة تعليمية قادرة علي أن تنشئ أجيالاً جديدة ، ونخبة جديدة، وأن نتحول إلي منظومة تشريعية تصنع الحياة اليومية في المجتمع العربي والإسلامي فقل علي هذه الدنيا السلام.

—————————————————————————————————

(*) – ولد في مصر : 20/ 4 / 1947م

– حصل علي الدكتوراه في القانون المقارن سنة 1981 – جامعة الإسكندرية

– أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه المقارن بكلية الحقوق – جامعة الإسكندرية

– له العديد من المؤلفات الفكرية والقانونية ، منها : النظرة الإسلامية للإعلام ، أصول الفقه الإسلامي ، مقدمة لدراسة الفقه الإسلامي ، نظرية الفقه في الإسلام ، الإسلام والدولة دراسة في النظم السياسية ، تنظيم القوي دراسة في العلاقات الدولية ، منهجية التقنين ، الصياغة التشريعية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر