كلمة التحرير

منهجية التشريع الإسلامي

العدد 48

( أولا )

(( الدفع الإِسلامى ودواعى المنهجية المتجـــددة ))

1 ـــ مراحل الدعوة :

كانت الدعوة الإِسلامية لدفعها الأول تذكيراً للأمة الغافلة بأصول للإِسلام وتثبيتا للفئات المفترنة بالمذاهب الغازية. وكانت تستغنى عن الإِفاضة فى بيان فروع الإِسلام لأن القضية المحورية فى الخطاب والجدال إنما كانت هى ثوبة الأمة من حيث المبدأ إلى الإِسلام بعد النسيان والانحطاط أو الطمأنينة بحقه فى وجه المذاهب التى راودت المفتونين من أهله.

بل كانت حاجة الاعتزاز بالإِسلام تدعو إلى الاعتصام به شرعاً وتاريخاً ومفاخرة الغرب والشرق بتراث الإِسلام, والدفاع ودرء الشبهات التى يلقيها الكائدون للإِسلام, والإِغضاء عن علل التراث حتى لا يسعد الذين ينقدونه ذريعة للنيل من أصل الدين.

أما وقد تقدمت الدعوة الإِسلامية منذئذ بمجتمع الخطاب من مرحلة التذكر والاطمئنان إلى مرحلة التدبر والعمل, وطرحت قضايا التطبيق, فقد حق على الدعاة أن يخوضوا من بعد فى بيان الإِسلام إجابة للسائلين الذين ينشدون بيان مناهج الإِسلام على صعيد الواقع بعد أن سلَّموا بحقه على صعيد الاعتقاد, وهداية للعاملين الذين يريدون تمكين أحكام الإِسلام فى شتى شعاب الحياة. ولئن كانت المرحلة ما تنفك تحمل جراثيم ما سبق وتنطوى على مجاهدات بيت الإِرادات السياسية المسلمة واللادينية ومحاولات تمحيص الزعامات والمبادرات الصادقة والمنافقة, فإن واقع المسلمين قد توجه بقدر تاريخى غلاب نحو مشارف مرحلة البيان المنهجى لا الخطابى فقط, والجهد التطبيقى لا النظرى فقط.

ثم ها نحن وقد تجاوزنا عقدة الدفاع نقبل على التراث الفقهى والتشريعى لنقرأة لأنفسنا قراءة معتبر لا معتذر يريد أن يستعمله ويعامل به, يقومه ويقدره لا أن يوقره ويفاخر به. وها نحن نرجع إلى أصول الإِسلام لنتخذها مرجعاً نستنبط منها مناهج تهدى حركتنا وتوظف الطاقات الهائلة التى فجرتها دفوع الصحوة الإِسلامية. بل نشفق أن نرى تدفقات هذه الطاقة تنفجر وتتصاعد نحو غايات فى تمكين الدين يقصر عنها رصيدنا من العلم والفقه بالدين إلا أن ينصب لها شعارات مبهمة. وتوشك هذه المفارقة بين تقدم الإِرادة الإِسلامية وتخلف العلم أن تؤدى إلى محنة : تتيه قومة الإِسلام فى مسالك ضالة أو تافهة أو تتبدد فى صراعات هو جاء وتذهب ريحها وتدور على المسلمين دورة إحباط وانحطاط وفتنة جديدة.

2 ــ ثورة الاجتهاد :

لقد ساقتنا مراحل الدعوة حتى وقفنا فجأة على فجوة خطيرة بين زادنا من فقه الدين وحاجاتنا فى تمكينه. ذلك أن قراءة الاعتبار للتراث الفقهى قد كشفت عن قصور كبير فى رصيدنا الفقهى إذا طلبناه للوفاء بواقعنا المتجدد. فعلى ما فيه من ذخائر شاهدة على رقيه البعيد بالمناظرة إلى ما كان يوازيه تاريخياً من التراث الوضعى, وعلى ما فيه من باقيات صالحات لهذا الزمان والمكان أو هاديات لما يصلح, فإنه قد كان استجابة للبيئة التى نشأ فيها نزل عليها من أصول الشرع كسباً اجتهادياً ينفعل بالبيئة أيضاً ويخاطبها مباشرة.

وقد جدَّدت منذئذ تحولاتٌ مادية وثقافية كبيرة ـــ لا تطوراً وتراكما من تقدم المسلمين, بل طفرة جرتهم إليها هجمة الحضارة الأجنبية الغربية. هكذا نشأت قطاعات واسعة من الحياة جديدة لا يشملها الفقه التقليدى ولا يغطيها. وهكذا تبدلت أسباب المصالح والمفاسد وعلاقات التعامل وظروف الوجود الحضرى بوجوه جعلت كثيراً من خيارات الفقه الاجتهادى القديم غير مناسبة ولا متكيفة مع الحاضر. وهكذا كررنا النظر إلى الماضى فى ضوء آثاره الحاضرة ومقارنته بتاريخ الآخرين فبدت لنا وجوه لنقد بعض خيارات قديمة اجتهد أهلها صادقين فأخطأوا ولم يظهر تأويل اجتهادهم إلا عبر التاريخ.

وكما اشتد الوعى بالفقر إلى الاجتهاد المتجدد استكمالا واستدراكاً للتراث أخذت المحظورات والمحذورات فى الاجتهاد تتقهقر لصالح الطلاقة الفكرية. فسد باب الاجتهاد الذى كان قدر تخلف واقع أكثر منه فتوى اجتهاد لازم, ولم يعد يُذكر إلا لينكر. وما قدر الذين سنوه قديماً من تحصين للمسلمين من فتنة الرأى الضال فى حال الجهل والفرقة بالبدع المحدثات والنحل المستجدات ـــ كل ذلك مهما كان حقه لحين من الدهر قد حال منقلباً, إذ ألفى المسلمون أنفسهم من شدة الجمود فى فتنة, وفزع كبير منهم من ضيق رصيدهم الفكرى إلى شتى المذاهب الغربية, وإذ غدا الاندفاع فى الاجتهاد ضرورة لهداية المسلمين ولطمأنينتهم ولتوحيدهم ـــ ضرورة لا يغنى فيها مجرد فتح الباب.

ولئن كان بعض المنفعلين بالإِشفاق القديم من الحرية يحاولون كفكفة الانطلاق بتغليظ شروط الاجتهاد وإرهاب المجتهدين فى آرائهم مهما سلموا بأصل إباحة الاجتهاد ـــ لئن كان ذلك كذلك فقط اجتاحت ضرورات الحاجة للاجتهاد ما هو شطط من هذا وذاك. فضوابط الاجتهاد هواء لا كوابح تعيق الحركة وهى موجهات لمن يعالج الفقه أن يتأهل لذلك وللمخاطبين أن يقوموا المجتهدين حسب كسبهم من العلم والتقوى ـــ وليست حدوداً شكلية منضبطة يظل المتعلم مقلداً حتى يبلغ حرفها ويظل المجتمع متميزاً بها بين عامة معزولة عن تكليف التفكر فى الدين وشذاذ يحتكرون أسراره. أما التربص بالمفكرين رميا لبنات فكرهم بأنها غرائب لم يقل بها أحد ـــ كأنه لا يجوز لأحد أن يضيف إلى كسب المسلمين شيئاً يلقى به ربه ـــ أو قذفاً لهم أنفسهم بفساد الطوية ـــ ذلك موقف مبنى على سنة المجتمع المسلم فى التثبت وتمحيص الغريب بمعايير الأصالة الشرعية, ولكنه منذ انحراف إلى مصادمه لحاجات التقدم نحو مثالات الإِسلام وكمالاته فى الواقع المتجدد لم يعد إلا تنطعا تتجاوزه بيسر طلائع النهضة الاجتهادية. ومسحة عابرة لما ينشر من الآراء الخارجة عن المعهود لدى الجمهور تنبىء عن تضاؤل بأس غلاة المحافظين الذين ينكرون كل جديد عندهم سواء أصدر عن ولى ما هو أولى بهم من أصول الدين الحاكمة ومقتضياته الحاضرة أو عن عدو يريد أن يتذرع بجزئيات الانحراف إلى المسروق من أصل الدين والانقطاع عن تاريخه.

فالحاجات قائمة اليوم ملحة للاجتهاد, والمجتمع المسلم منفتح لتلقى الفقه المتجدد والمتصدون لذلك يتكاثرون ـــ وإن كان أكثرهم يؤثر التقية ويورى فى اجتهاده فيقول : إنه مفكر لا فقيه أو باحث لا يجتهد أو أنه يرى رأيا لا يصدر فتوى وينبش فى التراث على شفيع لرأيه الغريب وما أثرى التراث وأجمعه لاحتمالات الرأى ومسالكه.

3 ـــ الفوضى المنهجية :

قد يستبشر المرء بكثافة المبادرات الاجتهادية وإن شئت قلت : الخواطر والأفكار والأبحاث والآراء, ولكن الذى يدعو لبعض القلق أن هذا الدخول الحيى لساحة الاجتهاد قد حجب ضرورة التواضع على قضية المدخل والمنهج. فاستقراء الصادرات عن الحركة الفكرية الإِسلامية الحديثة يكشف عن ابهام منهجى كأنه تغافلٌ عامد, وتحليل المواقف الفكرية بحثاً عن منهج ضمنى غير مصرح به تنتهى إلى اضطراب منهجى بعيد. ولربما يكون فى طبيعة كل نهضة فكرية أن تؤثر السذاجة الفطرية والطلاقة المسلكية حتى يتوافر رصيد من التجارب الفكرية تبنى منها مادة لمنهج يُنظم مساقات الفكر. ولكن يبدو لى أن آثار غياب المنهج الهادف الضابط جد خطيرة :

ففى الساحة مواقف جانحة توشك أن تضل بالفكر فى غمرة من هذا الغموض المنهجى. فمن المنتسبين إلى الفكر الإِسلامى ـــ والله أعلم بالنيات ـــ أناس غلو بكلمات منها (( المقاصد فوق النصوص )) و (( روح الدين لا حروفه )) و (( الأولويات الناسخة )) وانتهوا إلى تعطيل القطعيات من الأحكام. ومن المنتسبين إلى المسلمين أناس اتخذوا الدين شرعة وتاريخه محض تراث يلتمسون فيه العناصر (( الإِيجابية )) التى توافق أهواء النهضة كما تلوح لهم ويطرحون (( السلبيات )) ! ومن علماء الدين تلفيقيون انتقائيون يُصرفون الأحكام حتى تُصادف ضغوط الواقع ومحللون يعتسفون التأويلات حتى يبرروا ويمرروا ما يشتهى الغالبون. ومن أبناء المسلمين مفكرون ذوو عقائد لا دينية لكنهم تفننوا فى تزييف المعانى والألفاظ الدينية وتحريفها عن مواطنها للتغرير بالمسلمين واجتياحهم بالباطل من حيث لا يدركون. ووضوح المنهج حتى إن لم يكن صارماً هو الذى يفضح الإِضلال ويقوم الجنوح.

وكان للمسلمين أن يعلوا على ما يعصمهم من الضلال والفرقة من وعى شعبى ورأى عام يتجلى عن إجماع موجب ينظم وجهة الأمة وجه شتات الرأى أو سالب يحصن الأمة من دعوات الزيغ ـــ أو من سلطان عام ينظم أهليات العلم ومشاورات العلماء ويتبنى اتجاهات الإِجماع بما يحفظ أمر الدين. ولكن الجمهور والسلطان المسلم كلاهما ضئيل العلم مختلط النيات لا تعويل عليه إلا قليلاً. لذلك يلزم تأسيس المبادرات الاجتهادية جميعاً على منهج معلوم صريح والاعتصام بالمنهج المختار فى تحرير مسالك الرأى حتى يكون الناظر الناقد على بينة من مشروعية المنهج لا تربكة شعاب الرأى وفرعياته وحتى يتواضع الفقهاء والمفكرون على معالم منهج مختار يعتصمون به لضبط مخرج الرأى ولجمع شتاته ويحتكمون إليه لضم الخلاف وتمحيص الزيف وعزل خواطر الهوى المعربد والشهوة المطلقة.

4 ـــ الأصول القديمة :

قد يذهب ذاهب إلى أن لنا فى منهج أصول الفقه الأحكام والتشريع القديم عاصماً من الزلل والفرقة, فإذا سئل لم يستغن بالفقه القديم أن يفى بحاجاتنا ويصلح أمرنا ويوحد كلمتنا فرق بين الفروع التى هى كسب اجتهادى بشرى لا حظ له من الخلود إلا بقدر إصابته لعين الحق المحكم وإجابته لحاجات الواقع الراهن, والأصوال التى هى أمهات معانى الدين قطعيات محكمات لا خلاف عليها وثابتات خالدات لا تتقادم. وليس ذلك إلا خلطاً بين أصول الدين ـــ الكتاب والسنة ونصوصهما ـــ وبين أصول التفقه فى الدين ومناهج تنزيله على الواقع ـــ وذلك كسب مؤسس على قواعد خالدة دائر على محاور ثابتة ولكن يدخله الرأى غير المعصوم واعتبار الواقع غير الثابت ومن ثم يطرأ عليه احتمال الخطأ ويقع فيه الاختلاف وتجرى عليه سنة الله فى كل كسب بشرى من دورات التقادم والبلى ثم التجدد والنهضة.

أما أن أصول التفقه والتشريع ـــ ولا أقول أصول الشرع ذاته ـــ قطعية لا يرد فيها الخلاف فذلك وهم عند من لم يطلع على كتب الأصول وخلافياتها وجدلياتها أو من لم ير كيف يتقارب الأئمة شيوخاً وتلاميذا ثم يختلفون على قبول روايات الحديث إذا أرسل سندها أو عارضت السنن المشهورة مثلا أو على مناهج تفسير النصوص أو على معنى الإِجماع ومداده وحجيته أو على مشروعية القياس ومعياره أو على المصلحة تعريفها ومدادها واعتبارها أو على غير ذلك من وجوه بيان الأحكام أو القواعد الجامعة للأحكام.

أما أن علم الأصول ينطوى على مقولات خالدة فذلك أمر قد يجوز على قارىء الأصول الذى يرى مسالك الاستدلال النقلى والعقلى عليها فينسبها إلى أدلتها فى الشرع والعقل ويتوهم أنها أزالية عقلية مطلقة.

والحق أن التبصر فى مقالات الأصوليين وفى تطورها واختلافها يُومىء إلى وجهين فى التعلق. الاستنتاج من أدلة الشرع وأحكامه وهو الأصل الأعلى والاستنباط من بيئة الواقع ـــ وهو الأصل الأدنى. وليس الدين إلا محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الابتلاء الطرفى القائم فى الأرض, فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هى صميم الابتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما حتى تدار الحياة بصروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد فى كل حال. فالمحاولات تتقلب مع تقلب الظروف والابتلاءات, وصور التدين بسبب هذا العنصر قد تتقلب لتضمن ثبات جوهر التدين.

فعلم الأصول القديم منسوب إلى البيئة الثقافية التى نشأ فيها أو التى تكاملت فيها أبنيته وصياغاته الأخيرة, ولذلك تلبس بمفهومات المنطق الصورى التقليدى وبأشكاله ومصطلحاته ـــ أدوات للوضوح والاستقامة. ومن ذلك غدا علما نظريا مجرداً يصلح للتأمل ولكنه جاء عقيما منبتاً عن الواقع الخطب بالحياة ولا يكاد يؤهل الماهر فيه ظلن يولد فقها أو يمارس اجتهاداً. هكذا كان مصيره فى التاريخ لم يؤذن تمام صياغته بنهضة للفقه بل يبس الفقه وتحجر من بعده إلا فى أحوال أفلت المجتهدون فيها من المعهود الأصولى. ولا يمكن أن تغشانا الغارة الفكرية الغربية بخيرها وشرها ومناهجها المنطقية الوضعية والنسبية والتجريبية دون أن تبدل المعطيات الفكرية الأساسية التى أثمرت الفقه الأصولى القديم. فكما سخر سلفنا الثقافة اليونانية لشرح الدين وفهمه يمكن أن نسخر الثقافة العلمية الحديثة راجين أن نجتنب زللها ونوافى الحكمة فيها.

والأصول القديمة كذلك إنما خاطبت ـــ ولو دون تصريح ـــ الواقع المادى والحضرى والإِطار الاجتماعى والسياسى الراهن, وتأثر به بغير ريب. فبروز المصالح العامة مثلا أشبه بالمجتمعات الحضرية الكثيفة التى تشترك على المرافق وتلتحم بعلاقات صحية وعلمية وسلوكية, وكلما تطور المجتمع فى ذلك الاتجاه ظهر ما كان ضئيل الطروء والاعتبار من المصلحة. ودور الشورى العامة والسلطان فى نظام الأحكام أشبه بمجتمع محدود وثيق أو بمجتمع واسع الأرجاء لكنه موصول بأسباب النقل والاتصال العام. ولذلك قد يتطور النظر فى الشورى والسلطان من الاعتبار إلى الإِهمال ثم إلى الاعتبار ـــ وهكذا كان الأمر فى عهد الصحابة ثم فى عهد نضوج فقه الأصول ثم فى عهد الحاضر.

ومهما يكن فإن تراكم التجارب التاريخية فى التعبير والتفكير ينُشىء دواعى التجديد. ففى التاريخ امتحان لجدوى المفهومات الأصولية وأثرها وفى مصائره حكم هلى كونها ـــ مهما اجتهد النظر فيها استقبالا ـــ ذرائع لمقاصد الدين أو لمفاسد فى حساب الدين. فالنظر الراجع يستفيد بدليل المال ويقضى للتاريخ أو عليه, ويحكم على بعض الموافق الأصولية ـــ أن قد زادتنا فقهاً أو تبلداً. أن قد مكنت حكم الدين أو ضيعته ثم إن اللغة أيضاً عرضة للتطور وقد يجنح بها الاصطلاح نحو الضيق أو السعة وقد ينزلها على وجوه جديدة من المعنى حتى توشك أن تنقطع عن معانى اللغة عند التنزيل أو تجانب نصطلح القرآن والسنة أو تتطور وتتبدل فتعيق التفاهم عبر الأجيال. ولربما كان كثير من الخلاف فى أمر الدين مرده إلى مشكلات الاصطلاح اللغوى وتطورات معانى الكلمة وظلالها وإيحاءاتها عبر القرون. وكل نهضة جديدة قد يكون فى توقانها إلى الأصول الأولى توبة أيضاً بالكلمات إلى معانيها الأصلية, وقد يكون فى تأثرها بالاستعمال الدارج للغة وفى مقارنات اللغات والترجمة ما يدعوها إلى اصطلاح غير تقليدى.

هكذا قد يكون تبويب مسائل الأصول أو ترتيبها ـــ من حيث هو فن نظرى مصوب لأغراض فى الواقع العلمى والعملى, واصطلاحات الأصول من حيث هى وسائل تعبير يقصد بها التأهيل والتذكير بالشرع وبالتاريخ أو البيان والشرح والبلاغ للمخاطبين. وقد يكون ذلك كله موضعاً لتطور وتجديد.

إن بغض أطروحات علم الأصول أو منهج الفقه والتشريع الإِسلامى التقليدى وبغض مصطلحاته لا تشفى حاجات النهضة الفقهية ولا تناسب البيئة المادية الاجتماعية والثقافية الحاضرة ولا تبلى دواعى اتخاذ المنهج كما تقدم ذكرها. فلا مشاحة فى ثبوت القرآن وحجيته ولا فى حجية السنة بل لا تثور مشكلات ذات بال اليوم فى رواياتها ولا فى روايات اللغة ولا ينفك منهج التفقه فى أى زمان عن الاعتبار بالأمثال فى تأصيل الأحكام وبالمصالح فى تنزيلها, كما لا ينفعك منهج التشريع عن لزوم سنة المسلمين وإجماعهم وأمرهم العام. ولكن منهج تفسير النصوص وتفصيل المعانى وتصريف الأحكام, وتحقيق الوقائع وتقويمها وتنزيل الأحكام عليها, ومسالك القياس والتمثيل والاعتبار, وتحرير مقاصد الدين وذرائع الصلاح والفساد فى الطبيعة والمجتمع, وطرائق تعبئة الرأى العام بالتناصح والشورى, وصور التعبير عن الإِرادة العامة الرشيدة بالإِجماع والعرف, وأشكال سلطان الجماعة ونظامها إمارة وقضاء ـــ كل ذلك أمور متجددة.

فظروف الواقع وصروف الزمن لا تحاصر علم أصول الأحكام أبداً ولا تتجاوزه بوجه مطلق لأنه مؤسس على عناصر ثابتة من شرع الله الخالد, ولكن تلك الظروف والصروف فى جولانها تنال منه بوجه ما لأنه ينطوى على عناصر كسب بشرى ينحصر فى نسبية الظرف وينفعل بطروء الحادثات.

فمن الثابت فى أصول الشرع, ومن ذى القيمة الباقية من علم أصول الفقه ونظام الأحكام التاريخى, ومن مادة الاجتهادات الأصولية المتطورة التى صدرت بأثر البيئات التاريخية المتعاقبة من أجل الوفاء بمقتضى منهج فهم الدين فيها, ثم من مدد الثقافة العصرية ومن عطاء التجربة الاجتماعية الراهنة, ومن طبيعة الحاجات الحاضرة لفقه الدين ولتمكينه فى الواقع : من كل ذلك يلزم أن يصاغ المنهج الأصولى الجديد لتنظيم الثورة الاجتهادية حتى لا تضل أو تتشتت أو ترتبك.

( ثانيـــا )

(( نحو منهجية توحيدية اشتمالا واعتـــدالا ))

1 ـــ التوحيد :

التوحيد هو الموقف الدينى القويم الذى يجمع مفارقات الحياة ويسوى اختلالاتها والإِشراك هو التورط فى التناقض والمشاكسة. فمن توحيد الله تصبح الحياة كلها منهجاً موحداً لعبادته ويكمن الابتلاء فى أن ظروف الحياة تتجه بالإِنسان نحو الشتات فالغيب والمشهود والباطن والظاهر فى وجوه الوجود تبدو متفارقة, والعاجل والآجل والنظام والحرية تبدو متناقضة, والتجريد والتجريب والوحى والنقل والعقل فى مصادر النظر تبدو متناسخة, وكل شهوة أو هم من هموم الدنيا يطغى حتى يكاد يحتكر بال الإِنسان دون سواه وكل مفهوم أو تصور من المعقولات يزين حتى يكاد ينخسف ما سواه. تلك كلها ضروب ابتلاء للإِنسان أيشرك فتتجاذبه المتباينات أم يوجد شتات الهموم والخواطر فيستقر ويطمئن ؟!

فالمنهجية الفقهية أو التشريعية الإِسلامية منهجية توحيدية قوامها أولا الشمول والإِحاطة بأبعاد الوجود الكونى, وبالبشر أجمعين, وبالأمة قاطبة ثم بالحياة بشتى جوانبها ووجوها أولها وآخرها, ظاهرها وباطنها, ما اتصل منها بشأن السلطان والجماعة أو ما لم يعن إلا خويصة النفس.

وقوام المنهجية الإِسلامية ثانياً العدل والاستقامة والقصد والتوازن بلا إفراط أو غلو أو شطط فى الاستقطاب بين الفرد والمجتمع أو المجتمع والسلطان. وبين الإِجمال والتفصيل أو التنظير والتطبيق أو القطعية أو المرنة, وبين الظاهر والباطن أو الغيب والشهادة أو الوحى والعقل وبين الطلاقة والنظام أو الشكل والجوهر ونحو ذلك مما يبدو متباينا فى نظر الإِنسان ومما يهدد بأن يفرق حياته ويشققها.

2 ــ الشمول فى مدى الأحكام وصورها :

ما دام الأصل فى الحياة هو التوحيد فالأصل والمنهج فى الأحكام أن تغطى جوانب الحياة كافة, وتحيط التكاليف بالإِنسان حيثما كان, وتتجلى من خلال كل الصور, وتقع بشتى درجات الإِلزام, وتكتنف بكل أنواع الجزاءات. لكن هذا الأصل ما روعى حق رعايته فى تاريخ المنهج الفقهى الإِسلامى, إذ جنح النظام الفقهى نحو التركيز على خصوصية الأحكام, بينما ضيع الأصل تماماً فى النظم الوضعية فأصبح شأن القوانين هو الحياة العامة ليس إلا. ومن جانب آخر تمايزت فى النظم الوضعية التكاليف ذات الجزاءات المعنوية والغيبية وذات درجات الالتزام المرنة فسميت هذه أخلاقاً على هامش من الحياة, أما القانون القطعى الإِلزام المحدود المدى ذو الجزاءات المباشرة فقد احتاز متن نظام الحياة.

( أ ) المدونات التشريعية الرسمية والفقه الخاص :

لقد أصابت المجتمع المسلم قديماً علل فى تدينه مردها إلى ضعف الإِيمان الذى يهدى ويدفع لتحرى الحق أو إلى شدة فتنة الواقع الذى يطرح الحقيقة ويبتلى المؤمن أن يوحد الحقيقة والحق. وتجلت هذه العلل أولا فى الحياة السياسية والمفتونة عن نيات الإِيمان وضوابط الشرع, ثم تجلى ذلك فى تباعد فقه الدين عن ذلك المجال, ثم طبع ذلك منهجة التفقه فغدت أصول أنسب للفتاوى الفرعية فى شئون الإِنسان والحياة الخاصة وأقل مناسبة للأحكام العامة التى تصلح المجتمع ويبسطها السلطان. هكذا عاب دور أولى الأمر وغابت الشورى وأهملت المصلحة وعرفت مسالك الفقه تعريفاً ضيقاً لتصدر عنها أحكام فرعية قطعية لأنها تصدر فى حق فرد غالباً وتصدر عن فقيه فرد يخشى فى رأيه الزلل.

أما مجتمعات المسلمين اليوم فلا تقتصر مصيبتها على كونها أخضعت لنظام الأحكام الوضعية فكفرت ببعض الكتاب وظلمت فى علاقاتها وفسقت عن أصالتها, بل وضعت عليها الأحكام بمنهجية غربية حديثة قوامها التشريع الرسمى السلطانى لأن ذلك المنهج أنسب فى بسط الأحكام المقطوعة من جذور الثقافة الفقهية وفى فرض توجه غريب على المجتمع من قبل السلطة المتمكنة. ولأن الغرب قد تطور بمنهجية القانون من النظام الفقهى العرفى أيام جمود القديم إلى النظام التدوينى الرسمى بعد التطورات المادية التى وحدت الحياة الاجتماعية وأعلت دور السلطان وكلمته.

وكثافة التشريع السلطانى من ثم له دواع من ضرورات الواقع المادى وله دواع من القيم والنظم الكلية السياسية والحضارية. ولربما يحتاج المسلمون فى ظروف الانتقال من حال الانحطاط المشوب بالجاهلية والاغتراب إلى حال الإِصلاح والتقدم الإِسلامى أن يخططوا مسيرهم والا يكلوه للتطور الفقهى البطىء العفوى لأنه أمر تغيير واسع وناجز يناسبه التخطيط والتدوين حتى تتمكن نظم التدين وتستدرك أحوال التخلف وتستقر حركة المسلمين فتتوازن فيها أدوار التشريع الرسمى القطعى وأدوار الفقه والقضاء فى تطوير الأحكام وتتحد التشريعات والمسنونات الرسمية مع البيئة الفقهية إذ لا تصدر إلا من مادة الفقه ولا تسرى إلا والفقه يغزوها ويكيفها. ويرجى فى حال الاستقرار المتوازن أن يكون التعويل الأكبر على الفقه لأنه أشبه بنظام دينى موصول فى حيثياته ودقائقه بعقائد الأمة وأخلاقها, مؤسس على وحى الوجدان المؤمن قبل أن يؤسس على أمر السلطان, منسوب إلى المجتمع تلقاءً وعرفا قبل أن ينسب إلى السلطان ذلك المجتمع.

وليمهد الوضع لذلك المثال المتوازن لابد من أن يضطلع السلطان بدوره فى تقرير الأحكام وضعاً كما يضطلع الفقه والقضاء بدوره فى تحريرها اجتهاداً لأول عهد التوبة إلى الشريعة ولابد فى منهجية الفقه والتشريع أن يراعى التوازن الذى يمكن من أداء هذا وذاك.

( ب ) العقيدة والأخلاق والقانون :

الجنوح الآخر فى فقهنا المتأخر أنه اتجه من واقع التخصص والشرح الفنى إلى أن يستقل بفقه العمل عن فقه العقيدة.فتبدلت المصطلحات التوحيدية الشاملة مثل (( الشريعة والفقه )) إلى مصطلحات للعمليات لا للعقائديات, وجردت الأحكام العملية من أبعادها الاعتقادية ـــ من حيثياتها ومقاصدها ودوافعها الواعظة. لكن هذا الجنوح لم يبلغ ما بلغ الأمر فى النظم الوضعية التى أدت آفة العلمانية اللادينية المستشرية فيها إلى أن يتباعد أيضاً ما بين القانون والأخلاق والتدين. فما كان متصلا بالبينات, وما كان جزاؤه غيبياً, وما كان يعنى الإِنسان ولو فى خلوته وخاصته, وما كان التكليف فيه ندباً أو كراهة, وما كانت البينة فيه والعقوبة موكولة إلى ضغوط المجتمع المارنة, وما كان جزاؤه المكافأة والأجر لا العقوبة البدنية والمالية غراماً أو تعويضاً ـــ كل ذلك أخلاق.

إن المثال الإِسلامى ـــ كما تجسد أو كاد فى عهود راشدة. أن يكون كل ذلك موحداً وأن يكون نظام الأحكام وضوابط السلوك شاملا. وقد تدعو حاجات الشرح والعمل أن يكون لكل علم ذوو اختصاص يعمقون مباحثه أو أن يميز بين التكاليف التعبدية والأخلاقية والقضائية, وأن نكيف مناهج التعبير والتطبيق شيئاً ما دون أن يؤدى ذلك إلى فصل كامل ـــ يكون فيه مثلا للقانون كليات ومعاهد تعليم لا يتطرق فيها أحد لغيره, وله رجال يشكلون مهنة تحسن فيها ولا تعنى بما وراءه وله منهج أصول ومصادر ومصطلح منفصل. ذلك وضع أقرب نسباً للعلمانية وأبعد عن الشريعة وإن كنا نلاحظه فى واقعنا الإِسلامى أحياناً وخلاصة القول فى منهج الإِسلام أن تكون أحكام التكليف موحدة لا مفرقة وإن جاءت مميزة حسب صورها ووقعها وآثارها, وأن يكون المنهج الأصولى, والتناول العلمى لها موحداً أيضاً كما كان عليه الأمر فى الصدر الأول وذلك لا يحول دون تطويرها وتكييفها نظراً بل هو ضرورة نظرية لذلك ولا يربك تطبيقها بتمييز بل يضمن اتساقها وتناصرها وقوة وقعها المشترك على المجتمع مما لا يتأتى لمجتمع قد تتناقض وتتناسخ فيه ضوابط السلوك لأنها منذ انفصلت تطورت فى اتجاهات شتى. والتوحيد الذى ندعو إليه هو حكم قيمى يقتضيه الدين نقضاً للعلمانية وهو أيضاً منهج علمى يقتضيه نظام الدين نقضاً للغو التخصصى والمهنى للقانون الوضعى الحديث.

3 ـــ الشمول فى المصادر الوضعية :

إذا كانت الشريعة ـــ كتاباً وسنةً ـــ هى الأصل الأول أو أصل الأصول للأحكام لا يوازيها مصدر آخر بحكم عقيدة التوحيد, فإنها الأم التى تترتب عليها أصول أخرى ـــ نسميها أصولا لأنها كليات تصدر عنها أحكام ولكنها فروع بالإِضافة إلى الشريعة. ولربما يجوز أن نسميها أصولا وضعية لأنها مما تواضع عليه الناس مهتدين بالشريعة دون خلط مع مصطلح الوضعية الذى يطلق على من يقتصر على وضع البشر. والمبدأ فى الأصول الوضعية الإِسلامية أن تكون شاملة لكل واحد من الأمة فيها نصيب بل أن تكون إنسانية لكل بشر فيها نصيب ـــ ما دامت بالطبع محكومة بالأصل الشرعى الأم.

( أ ) الصفوية والشبعية :

لا مكان فى الإِسلام لطبقة مغلقة بنظام رسمى أو واقعى تحتكر الأحكام أو سلطة إصدارها ملزمة على الآخرين. ولئن كان الذين يعلمون فى الإِسلام لا يساوون الذين لا يعلمون, وكان العلم كسبا تتفاوت فيه حظوظ الناس حسب جدهم ووسعهم العقلى وقدرهم من الظروف المواتية, إلا أن المسلمين أمة هدفها التساوى والتكافل فى كل شىء فمن كسب ولاية شارك الناس فيها بالشورى, ومن كسب علماً وجب أن يبلغه ولا يكتمه. وقد نُمر العالم عن الذى دونه ولكن الكسب العلمى فى الإِسلام ينبغى أن يكون درجات بغير فارق طبقى, فكل مسلم عالم بشىء نوعا ودرجة وفوق كل ذى علم عليم يتفاعلون ويتبادلون. وكذلك واجب التدبر والتفكر فى الدين خطاب شامل لكل مسلم كسبه من ذلك وعليه أن يجتهد اجتهاد وأن يتفاعل مع إخوانه من دونه ومن فوقه تناصحاً.

فالعلم والاجتهاد حركة مجتمع مهما برزت أعلام يؤهلهم كسبهم لقيادة التفكير أو التعبير عن الكسب العام.

لكن الفقه التقليدى المتأخر جعل الاجتهاد درجة رقى بها حتى جاوزت الإِمكان وجعل الفقه اختصاص طبقة ـــ ولم يترك لسائر الأمة إلا التلقى. وكان ذلك شأن الفقه الوضعى, فأهله مستعدون برسوخ تعاليم الكهنوت والكنيسة المحتكرة لأن يجعلون القانون سراً يثور القانونيون إذا أراد مصلح أن يبسطه ويدونه ويوضحه. وكما اقتصرت شورى المسلمين التى قررتها الآيات على حوار محصور بين العلماء واقتصر الإِجماع الذى نسبته الأحاديث إلى الأمة على إجماع العلماء, بل المجتهدين ـــ كذلك اقتصر القانون فى الغرب على أهل مهنته فناً وعلى الطبقات المحتكمة فى الناس وضعاً وأمراً.

والنظام الأمثل اليوم أن نرد إلى المصطلحات الإِسلامية (( العلم )), (( الفقه )), (( الاجتهاد )), (( الشورى )) و (( الإِجماع )) شعبيتها وأن نعترف بالتفاوت والتناصح والتذاكر مع اعترافنا بضرورة الاتحاد بين المسلمين فى صياغة الأحكام التى يقتضيها الشرع فى واقعهم. فمنهج التفقه اشتراك بين المسلمين كل ربما عنده من علم ومنهج التشريع تشاور وإجماع وإن كان الاقتراح المبادر ممن هم أعلم بقيم المسلمين وواقعهم, ما دام الأمر مشتركا عليه واعتماده مجمعاً عليه. فلا صفوية ولا غوغائية ولا غزلة للفقهاء. ولا ارتجال فى إجراءات التشريع يجعلها عرضة للجهل والهوى والرأى الفطير.

( ب ) الأصالة والعالمية :

إن الوحى موصول بالفطرة الإِنسانية التى فطر الله الناس عليها فالمؤمنون بالوحى قد زكوا تلك الفطرة وهدوها إلى متوخاها واستعدادها الأكمل, والذين لم يؤمنوا بالإِسلام لا تنفك عنهم الفطرة مهما كانت فطيرة لم تتطور أو كان ما توحى به غتئماً لم يتبلور. وذلك يعنى أن فى كسب البشر بعض الحق يمكن أن يتحراه المسلم ويختبره بمعاييره ويلتزمه من بعد.

وإن شاء المرء وصل هذا بمفهوم (( شرع من قبلنا )) أو مفهوم (( الاستصحاب )) لما جرت به السنن الاجتماعية لكونه معروفا أو ما لاح للعقل البشرى بكونه عدلا وقسطاً. والأصالة هو أن يمتحن الوارد علينا من خارج المللة فى ذلك وأن نؤسس بفطرتنا المهدية ما نخاطب به العالم على صعيد مشترك من الإِنسانية. ولكنها طائفية مغلفة إذا انغلقنا على أنفسنا وتاريخنا الذاتى.

وكما انفتح المسلمون على الثقافة العالمية بمنهج للمعرفة شامل فسخروا علم اليونان فى شرح أحكام العقيدة ( ماذا ) وأحكام العمل ( الفقه ), يمكن أن ننفتح واثقين من أن الخير الذى نصيبه هو من فطره الله مطمئنين إلى الشر الذى نجده يمكن عزله بمعايير الأصالة الشرعية. وما ينطبق على منهج الفقه ينطبق على منهج التشريع يمكن أن نستفيد من تجارب البشرية وأعرافها فى توخى العدالة والقسط وفى وسائل بلوغ المقاصد, وما أظن إلا أن المسلمين قديماً قد فعلوا ذلك لحد ما, وإن كنا لا نسلَّم بمقالات المستشرقين فى ذلك. ومهما كان الأمر فالعالم اليوم موصول والأنماط الاجتماعية تتقايل من قريب والفقه المقارن لابد أن يدخل فى منهجنا الفقهى نؤصل مدخله ونضبطه بتكييف كمفهوم الاستصحاب أو غير ذلك.

4 ـــ الشمول فى مسالك النظر للأحكام :

التدين كما قدمنا كسب البشر فى محاولة التوحيد الدائبة بين المثال أو الحق المطلق الثابت من جانب والواقع أو الطرف النسبى المتحول من جانب آخر. وهذه النظرة التوحيدية تؤدى فى صعيد نظر المتدين إلى توحيد وموازنة بين نظره المتجرد نحو الحق وتجربته المدركة للواقع وبين الصور والأشكال المختلفة التى يوحد بهما أمره والمقاصد الجوهرية الواحدة التى يتوخاها. ويقضيه التوحيد أيضاً أن يوازن بين الإِجمال الذى يصف معالم سيرته نحو القبلة والتفريع الذى يصف خطواته على الطريق وبين القطعية التى تضمن الثبات على الطريق والمرونة التى تضمن ذلك الثبات مهما تعرجت الشعاب وتكيفت الأرضية.

( أ ) التجريد والواقع :

تتجه المعارف من مرحلة الإِدراك الساذج للحقائق والجزئيات والوقائع الناشئة عن واقع الحياة إلى أن يتناولها واحد ولا حل له إلا أن نقول : فهم النص يعتمد على معايير موضوعية يمكن لكل من يحاول معرفتها.

( 6 ) الآداب (33) :

وهى الشعر والقصة. يقول الغزالى : إن من القصص ما ينفع سماعه ومنها ما يضر وإن كان صادقا. أما الأشعار فيقول : إن أكثرها فى العشق وجمال المعشوق فهى تتثير الشهوات. وأنه يجب أن لا يستعمل من الشعر إلا ما فيه موعظة أو حكمة على سبيل الاستشهاد. ويرى أن الشعر لا يضر مع الخواص الذين يستغرق حب الله قلوبهم. والغزالى قد أجاز السماع (34).

( 7 ) العلوم الشرعية :

لقد قسم الغزالى كما ذكرنا العلوم إلى علوم شرعية وعلوم غير شرعية وقال : إن العلوم غير الشرعية مستفادة من التجربة والعقل والعلوم الشرعية مستفادة من الوحى. ثم قسم الشرعية إلى أربعة أقسام : علم الأصول وعلم الفروع والمقدمات والمتممات. والأصول هى الكتاب والسنة والإِجماع وأقوال الصحابة. والفروع : ما فهم من غير ألفاظها ( أى النصوص ) بل بمعان تنبهت لها العقول. علم أحوال القلب والمقدمات : اللغة والنحو وعلم الكتابة المتممات : علوم القرآن وعلوم الحديث وأصول الفقه (35).

يبدو لى أن قسم الفروع متداخل مع الأقسام الأخرى فما فهم من النص أو دلالة النص تدخل فى علم أصول الفقه أو فى علوم القرآن. أما علم أحوال القلوب إذا قصد منه منهج معين فيدخل فى المتممات وإذا قصد منه أنه مصدر فيدخل فى الأصول وإذا قصد منه مضمون فيكون خارج القسمة ولا أدرى لماذا لم يجعل المنطق ضمن المقدمات كالنحو وقد جعله قى كتابه ( المستصفى ) مقدمة لأصول الفقه. كما يبدو لى كذلك أن هذه القسمة تتحدث عن مصادر الشريعة ومناهجها أما المضمون فقسمته له هى : عقائد وعبادات ومعاملات ( قوانين ) الحدود وغيرها ( ونظم ) السياسية وأخلاق وآداب للسلوك. وعلم النفس وعلم أحوال القلوب.

توجيه البحث والدراسة العلمية :

أولا يوجه الغزالى الباحث فى مطلع حياته أن يتطلع على كل العلوم وغاياتها. والغزالى يعتقد أن علوم القلوب أشرف من العلوم الأخرى وأكثر نفعا (36). وما دام العمر قصيرا وما دام هنالك أشخاص آخرون يقومون بأمرها فيحسن أن يصرف الشخص جهده فى علوم القلوب. والغزالى يعتبر علم القلوب أشرف من علم الفقه ومن العلوم التجريبية والعقلية. صحيح كما يحدثنا الغزالى أن هنالك علما واجبا بالعين وعلما واجباً بالكفاية. فكل العلوم التجريبية والعقلية واجبة بالكفاية ولكن علوم الدين فيها ما هو واجب بالعين وما هو واجب بالكفاية. والواجب الشرع. فالفقيه لا يتورط بمنهجه فى التحليل النظرى الذى يتعلق بألفاظ النصوص ولا فى الوضعية الذرائعية التى تخلد إلى الواقع, لأنه يريد أن ينزل المثال على الواقع ويضبط الواقع على حكم المثال.

والأمر يقتضى الفقيه علماً واسعاً بتاريخ النصوص أو البيئة التى كانت موضوع الخطاب المباشر لنصوص الشرع ـــ وتلك ثقافة كان يتمكن منها الفقهاء من علمهم بالآثار واللغة وإن كان بعضهم لا يعنى بعد اللفظ بالسياق لا الكلامى ولا التاريخى. لكن مباشرة فقه الأحكام والتشريع يقتضى أيضاً علماً بالواقع الحديث ـــ واقع النفوس والمجتمع والمادة والكون. ولذلك ينبغى أن يحصل الفقيه ثقافة بالعلوم النفسية والاجتماعية والطبيعية بقدر يمكنه من تنزيل الأحكام بوعى. إذاّ يقتضى الأمر أن يتوافر على نظام الأحكام فقهاء بالمعنى القرآنى الشامل : فقه النصوص والقيم وفقه الظروف والواقع. فأما أن يوجد ويجمع محصلون لهذه الثقافة وتلك ويكون كل طرف مهيئاً لأن يتفهم العلم كله كما هو فى الدين : علم الشرع المنقول وعلم الطبع المعقول.

وعندنا مناهج لعلوم النقل كعلم الرواية وعلم اللغة فقهاً ونحواً وصرفاً وبلاغة وقد حدث علوم فى ضبط التاريخ وفى أبعاد اللغة التعبيرية والنفسية والاجتماعية وفى أحوال النفس البشرية وسنن المجتمعات فى معاملاتها وسياستها ـــ وكل ذلك ثقافة لازمة لتكامل منهج الأحكام.

ولربما يقترح المرء أن نميز ونوحد فى منهج الأحكام بين أصول بيان تتجلى بها الأحكام تفسيراً للنصوص واستنباطاً منها بوجه بعيد أو قريب وإجمالى أو تفصيلى, وأصول تكليف تتنزل بها الأحكام فى صور ملزمة ذات حجة عملية, وأصول مادية هى فى الحقيقة علوم لغة ونفس ومجتمع وطبيعة متصلة بالسلوك الذى تنظمه الأحكام.

( ب ) الظاهر والباطن :

الأصل كما قدمنا أن يخاطب الدين بتكاليفه الظاهر والباطن محيطا بكل أبعاد الإِنسان وسلوكه ولكن القوانين الوضعية قد تجافت عن الدين وقنعت بالظاهر تعول على العلاقات الظاهرة العامة التى يمكن الإِحاطة بتنظيمها عملياً ومتابعة سيرها بالبينات والجزاءات. ولا تبالى القوانين بالنيات والدوافع والمقاصد إلا المباشر منها الذى يمكن إثباته.

وقد قدمنا كيف بَعُدَ فقه الأعمال عن فقه العقيدة واحتكر الأول كلمة (( فقه )) وأوغل فى الشكلية واللفظية, وكيف انفصل عن قيم الأخلاق لا سيما التصوف الذى صوب همه إلى أحوال الباطن وتنظيمها, حتى حدثت أحياناً مفارقات ومناظرات بين أهل الباطن والظاهر وحتى غلا بعض الفقهاء بظاهرهم, وغلا بعض المتصوفة بباطنهم إلى قريب من التناقض, ولو لم يبلغ الأمر فى الإِسلام ما بلغ فى النظم الوضعية أو فى المسيحية التى غلا فيها الكاثوليك قديماً بالطقوس والأشكال بينما ارتد اللوثريون إلى الباطنية والنيات.

والمنهج القويم هو التوحيد والتوازن بين الظاهر والباطن, بين حرف النص الحكمى وروحه وبين انضباط المكلف مع اهر الأشكال والتزامه بنيات التدين. وهذا المنهج مؤثر فى مصطلح الفقه وفى مناهج تعليمه فضلا عن تأثيره الموضوعى فى الأحكام تعويلا على نظام العلاقات الظاهر وعلى استقامة المكلفين وتربيتهم فى ذات الوقت. وبهذا المنهج لن تكون مواقف العقيدة مرهونة بمعادلة لفظ يؤديه المؤمن بحرفه فيحسب أنه استوفى شعاب الإِيمان, ولن تكون العقود مرهونة بأشكال لفظية تضفى الصحة على ما هو باطل وتبطل ما ينعقد صحيحاً, ولن تكون النيات مصروفاً عنها النظر مطلقاً لصالح استقرار العلاقات وضبطها ولن تكون أحكام الإِثبات مرهونة بشكليات إلا ما يتبين به الحق, وهكذا ..

إن شيئاً من ظاهرة الطقوسية والشكلية والتيبس فى نظام الأحكام يحدث تلقاء من جراء التطور الفنى الذى يتجه لضبط التعبير عن الإِحكام وإحكام تنظيم العلاقات. وفى الفقه الوضعى طرأت تلك الظاهرة كثيراً فى التاريخ, لا سيما فى القوانين الإِجرائية وللإِثباتية, واستدعت انقلاباً فقهياً أحيا تلك الأشكال بالتعويل على النيات وتوخى المقاصد والوظائف. وتكاد تكون الظاهرة دورة فى تاريخ القانون. ولعل بعض ما أصاب الفقه الإِسلامى هو من مثلها إلا أن يعتصم المنهج بتوازن لا يختل ولا يستدعى الثورة الإِحيائية حينا بعد حين. لقد كانت محاولات إحياء علوم الدين دورات تجديد وتوحيد ردت العافية للدين وعبرتها فى أن يحفظ التوازن ويضبط قبل أن يستفحل الاختلال ويأتى رد الفعل اللازم كبيراً.

( جـ ) الإِجمالية والفروعية :

لا يحط النظر بفقه الدين ولا يرشد العمل به إلا عن تكامل بين النظر الإِجمالىلا الذى يلحظ المقاصد ويخط المبادىء ويرسم القبلة والنظر الفروعى الذى يبين المعالم ويضبط المضمون. وقد جاءت الشريعة شاملة لأحكام عامة ولأحكام مفصلة وظل الفقه يهتدى بالمفسر والمفصل وبالمبادىء والكليات والقواعد, حتى جنح أخيراً إلى الولع بالتشعيب والإِحصاءات التلقينية. وذلك أن الفقه أخذ يتطور عن فتاوى شخصية من شئون الأفراد وتضاءل هم ولاة الأمر العام بفقه مصالح المسلمين العامة وشئونهم الكفائية. وتكيفت المناهج والأصول لذلك الأمر فنشطت المناهج التفسيرية التى تعول على النصوص المفصلة ومأثورات السوابق والأقضية ولم تتطور مناهج الاستنباط من العموم القرآنى والسنى وفقه القواعد والمبادىء الذى بدأ مبشراً واعداً.

إن ضرورة التكامل والتوحيد فى المنهج بين الإِجمال والتفصيل تبدو حينما يرى المرء كيف أوغل التبعيضيون والفرعيون ـــ يملهم منطق تحليلى من أرسطو ومنهج وضعى تجريبى حديث ـــ حتى أحالوا الدين إلى مثل جزئيات مركومة لا تكاد ترى فيها حكمة الشرع ولئن لم تضر كثيراً فى عهود التسليم المطمئن إلا أن تحرم المتدينين من إبعاد النيات الكبيرة فإنها فى عهد الريب وزلزلة الإِيمان تجعل المسلم أكثر تعرضاً للفتنة ثم إن المنهج التقطيعى يؤدى فى الأحكام إلى نتائج خاطئة ولربما يتخذه ذو الهوى لتعطيل الدين مع التظاهر بالتزام حروفه ولربما يغتر به المتدين ويحسب أنه يُحسن صنعا ولكنه إذ لا ينظم الفروع فى نسق أوسع يفرط بينما يتنطع.

وتتجلى تلك الضرورة من الوجه الآخر إذ نرى كيف أولع البعض بنظام الإِسلام العام وبمقاصده بينما فرطوا فى التزام الفروع الضالطة وقلصوا الدين حتى ردوه إلى شعارات عامة مثل (( كرامة الإِنسان )) و (( الشورى )) و(( الحرية )) و (( العدالة )) يضاهون بها كسب الفكر الإِنسانى الوضعى ويطمسون معالم الإِسلام التى تميزه وفروعه التى تضبط تحقيق المقاصد وتضمنه فعلاً.

( د ) القطعية والمرونة :

يجنح الفقه دائماً ـــ وقد جنح الفقه الإِسلامى أيضاً ـــ نحو الغلو فى الضبط والقطعية إما بأثر من تعاقب مجهودات الشرح والتعريف والتوضيح بفعل التطور الفنى التلقائى لعلم الفقه, أو بشدة الحرص على ثبات أشكال التصرفات والمعاملات فى مجتمع أخذ يبالغ فى التورع من الفوضى والحذر من الزيغ والمحافظة والتقليد, أو بصرامة المنطق الذى يلتزم فى تحرير القضايا وتحليلها. ولكن ذلك يضيق السعة ومجال الخيار الذى يمكن من تكييف الأعمال وتطويرها وتنزيلها حسب مقتضيات التعبد وصوره التى تستدعيها أحوال المكلفين المختلفة وظروفهم المتقلبة.

إن الأثر الأخطر لظاهرة الجنوح نحو الضبط فى الفقه الإِسلامى أنها أصابت منهج الأصول قبل أن تصيب الفروع فالأصب لا يلد فقها إلا إذا كان ينطوى على خصوية وسعة وهكذا كانت الأصول التى تأخذ عن الكتاب والسنة تأسيسا على معان فيهما تبعد بالمسلم عن الولع الزائد بكثرة السؤال وطلب التفاصيل. ولكنه فرط الالتزام بالمنطق النظرى فى مجال موصول بالحياة وظروفها التى لا تثبت ولا تتناهى ولا تنحصر أو هو فرط الحذر من فتح ذرائع الهوى والخلاف لا سيما أن نظام الأحكام الإِسلامى قد افتقد الأداة الاجتماعية الضابطة لخلاف الرأى ـــ الشورى والإِجماع وأمر السلطان ـــ هكذا نجد تطور منهج القياس من سعة إلى تعريفات ضيقة منضبطة تلد جدلاً كثيفاً ولا تلد فقهاً, ونجد الحملة على الاستحسان ـــ وهو نظر القاضى والفقيه فى المسألة التطبيقية المحدودة ببصيرة يزكيها طول العهد بحكمة الشريعة ونظامها دون أن يكون منطق الاستنباط فيها ظاهراً وجهه والتعبير عنه, ونجد الحملة على المصلحة التى كثفت عليها شرائط القطعية والعموم حتى تعطل استعمالها من كونها من أخطر أصول الفقه فى الشئون العامة وكان يمكن لمفهومها أن يتطور كثيراً لا سيما فى مثل عهدنا الراهن ـــ عهد اشتجار أسباب الحياة العامة ومصالحها الكلية وعهد تطور مناهج العلم الاجتماعى الذى يحيط بوحوه المصلحة.

إن الله تعبد عباده المؤمنين أحيانا بالتكاليف القطعية وأحياناً بالتوجيهات الواسعة أو المتشابهة ليبتليهم بكل الوجوه وكما قدر الله أن يكون ثبات الأحكام قطعياً أو ظنياً فقد قدر أن يكون مدلوها كذلك وفى ذلك ابتلاء لكل فرد أن يكيف تدينه ويجتهد فى ذلك حسب وسعه وذوقه وحاله.

فالتوازن بين الأحكام والقطع بغير تنطع والمرونة والسعة بغير استبهام أو تسيب هو المنهج الأوفق الذى إن لم يرع ويراقب قد يختل حسب دورات تطور الفقه فيميل إلى تطرف ليرتد إلى تطرف مقابل وهى ظاهرة يعرفها مؤرخو النظم القانونية جميعاً.

والموازنة بالطبع ليست على نظام جامد بالنسبة إلى مختلف ضروب الأحكام فقد يناسب القطع الأكثر فى أحكام المعاملات والشعائر وقد تناسب المرونة الأكثر فى أحكام الأخلاق.

5 ـــ الوحدة والتوازن بين النظام والحرية :

إن منهج الوحدة يتجلى فى الخلق وفى الأمر كله. فسنن الله اللازمة فى الطبيعة تتسق مع سنن الله التكليفية فى الشريعة ولذلك كانت فطرة الإِنسان ـــ وجداناً عاطفياً وتفكراً عقلياً مناسبة للوحى فكل ذلك من الله. وخطاب الله للفرد المعين تكليفاً وحساباً فردياً يتسق مع خطاب الله للجماعة ويتحد تدين المؤمن من حيث هو فذ مع حركة المؤمنين من حيث هم جماعة فى معادلة متوازنة. إما بغير الإِيمان فالعقل أوهام وأهواء قد تناطح الوحى, والإِنسان كيان شاذ قد يشاكس الطبيعة, والفرد عزلة وشح قد يخاصم سائر الآخرين فى الجماعة. ومن منهج الوحدة يتأسس منهج الفقه والتشريع الإِسلامى متوازناً ـــ بل موحداً فيه دور الوحى والعقل والذوق والتجريب, ودور الفرد الحر والجماعة المنتظمة بتقاليدها المستقرة.

( أ ) النقل والعقل :

لما كان العقل من فطرة الله, وكانت البيئة الطبيعية من خلق الله, وتنزل الشرع من الله, فلا معنى لنصب العقل المتأمل فى النظرة أو المنفعل ببيئته الكونية فى وجه الوحى. وقد أعد الله الإِنسان بعقل مناسب لخلق الله وأمره الكونى والتكليفى, وتنزل الوحى ليخاطب العقل ابتداء وليتفاعل المؤمن بعقله مع النصوص فهماً وتطبيقاً. ولا مجال بالطبع لخطاب غير العاقل أصلا فلا شرع ولا تكليف إلا بعقل, ثم يصبح لكل ملف إلا بعقل, ثم يصبح لكل مكلف أن يتفاعل بعقبه مع الوحى المنقول فإذا وقف بوظيفة العقل عند أدنى مراتبها : التلقى والحفظ ـــ كان أقرب إلى أن يكون منهجه نقليا سماعياً كله, وإذا أجتهد عقله ليتفهم المعنى كان مقتصداً, وإذا اجتهد تفكراً وتدبراً كان فقيها مجتهداً. وخير المناهج هو : ما أحاط بكل العلم المنقول عن الوحى أو المأثور عمن سلف إعمال فكرهم فى النصوص, وما تفاعل مع ذلك بكل علم معقول يلوح له من النظر أو من التجريب. فذلك منهج تلاوة للنصوص تتصاعد من اللسان إلى الجنان والوجدان وإلى واقع العمل. ولما كان العقل ـــ بقصور إدراك الإِنسان وتلبسه بالشبهات والأهواء ـــ يعتريه النقص فلابد من أن يتحد مع النص الموحى. لكن النص لا يعطى شيئاً لغير العاقل ولا يعطى إلا قليلا لمن لم يجتهد ولم يقو أداته العقلية النظرية والتجريبية, ومن يأخذ سطحاً ظاهراً من المعنى وتفوته أبعاد ينالها المجتهدون كل حسب أدائه ووعائه.

ولقد نهض الفقه الإِسلامى لأول الأمر إذ استقبل المسلمون الوحى بأقصى وسعهم من التدبر ونظموا مناهج للتفقه يستعين بها المتدبر. ثم خلف خلف يرضى بظاهر النصوص وسطحها فى فقه الفروع ويكره استعمال الوظائف العقلية العليا. هكذا ضيق مكان الرأى, وضبطت الأصول بما يكبت جولان الخاطر فيها, وقيدت نظم الأحكام بما يخطر الاجتهاد. وفى ذلك ما يعود إلى الإِستغناء بالثروة الموروثة عن الكسب الجديد, وفيه أثر الانحطاط الحضارى الذى قلص أبعاد الحياة أو جمدها ونفى دواعى تسليط العقل على الجديد الطارىء.

إن التمييز القديم بين أهل الرأى وأهل الحديث فى مناهج الأصول لم يكن فى واقع الأمر يمثل تبايناً كبيراً. فقد كان من سموا أهل حديث يعتمدون أصولا للرأى فيها مجال واسع لولا أن بيئتهم الحضرية لم تدعهم إلى ذلك كما دعت بيئة أهل العراق أهلها. ولكن التباين يتجلى بين الأصول الفقهية التى كانت تتخذ فعلا فى عهد الأئمة, وتلك التى عرفت منهجياً فى علم أصول الفقه لما نضج تطوره وتدوينه, والأصول الفقهية التى يتخذها المتأخرون فعلا حيث احتجت نص الوحى وأصبح النص الحاكم هو متن مصنفات الشراح.

إننا نشهد فى العصر الحاضر حالات حياء من القاضى والفقيه من أن يبدو جريئاً على استعمال الرأى أو العقل وميله لأن يبدو ملتزماً بنص القانون, وهى سمة حتى فى الفقه الحديث لا سيما عند القضاة وإن كانوا بالفعل يستعملون رأيهم كثيراً. ولا يضر ذلك ما دام التشريع الرسمى الذى يصدر عن مداولات الرأى السياسى الحر قد تولى كبر مهمة تطوير القانون. أما فى حاضر المسلمين فما يزال الغالب تحكيم ظاهر النص. وقد اشتط قوم أرادوا أن يستدركوا غياب العقل فى فقه الإِسلام فأعملوا عقولا لم تترشد بالاطلاع المحيط بالنصوص ولم تنفعل بهدى الشريعة أو تشرب روحها, وعمدوا إلى النصوص التى تصادم أهواءهم وأهواء الذين أضلوهم بغير علم فأولوها تأويلا بعيداً ـــ إما محاصرة لها فى واقع التنزيل وادعاء قيام فوارق بين العصر والأصل تمنع القياس عليها وتعديتها, أو تفريغاً من المضمون بإحالتها إلى مقاصد بعيدة مبهمة اتخذوها علة للأحكام وحكمة تتواخى بأى وسيلة ولو كان فة ذلك إلغاء الأصل النصى.

والحاجة اليوم داعية إلى منهج أصولى يوحد الوحى والتأمل والتجربة أو النقل والعقل ويطور أدوات ومسالك فى التدبر والاجتهاد تسخر العقل لعبادة الله ببيان حكمه وتهديه دون أن تسد طريقه.

( ب ) الاتباع والابتداع :

لا يتصور للأحكام إلا قوامه السنن المستقرة, فالأحكام تقاليد وأعرف تضمن استمرار الحياة واتصالها, واتباع الشرع شرط ثبات على هدى الدين, ولكن تراث الفقه والأحكام الإِسلامية يتضمن أيضاً ما اكتنف الشرع من آراء المسلمين وسننهم الاجتهادية, وهذا عنصر لا حظ له من العصمة المطلقة. لكن الأمة لا تجمع على ضلالة زلو كان إجماعها يتجلى عبر التاريخ ـــ وبناء الخلف على السلف ضرورة لتجسيد وحدة الأمة عبر قرونها المتعاقبة سوى أن هذا الاعتبار الاتباعى للسلف وللتراث مبدأ يوازيه الولاء لأصل الشرع. ولا ينبغى لعصر من المسلمين أن يخلو من الاقتداء بالمرسلين فى سننهم المجددة للدين المجيبة لأصوله النافذة لتراث التدين المصوبة للكسب التاريخى الدينى المتجاوزة لركام التراث ـــ عوداً إلى ينابيع الهدى الأصيلة حيث تستنبط المعايير لمحاسبة التاريخ الدينى وتقويمه والاعتبار به بناء على الرشد فيه واتعاظا بسوى ذلك. وقد جاء المرسلون أحياناً ينسخون ما مضى لا لأنه كان بطلا بل لأنه كان الحق منسوباً إلى ظرفه وغدا الحق فيما سواه مع حولان الظروف. أما تجديد النظر فى تراث الإِسلام فذلك أمر معروف وأما النسخ فقد أحكمت الشريعة بختم الرسالة ولكنها جاءت بنظام أحكام يقبل فى بعض جوانبه تصريف الأحكام حسب الأحوال. وذلك كله هو الاجتهاد الذى تنقطع دواعيه ما دام التاريخ يتقدم ويطور الله الابتلاءات المقدرة بتغيير الظروف والأحوال, والذى لا ينبغى أن يضيع لأنه لازم من لوازم التكليف بعبادة الله بأعمال العقل مثل أعمال الجارحة وأفضل العبادة العلم والتدبر, وأخطر المسئولية ما خوطب به العقل ولأنه ضرورة لواجبات الشريعة فى التبين والتناصح والتشاور, ولأنه مما أمر الله به ورسوله بالنصوص المباشرة الكثيرة المعروفة.

لكن الاجتهاد ـــ كما قدمنا إنما هو حركة فى محور الشرع الثابت, بل هو تقدم على منهج السلف لا ينقطع عنهم ولا يلغى سالفتهم ولا يقفز فوقهم إلى الأصول بل يتصل بهم ويستعين بتراثهم كما يستعين بالشورى ويتقوى الإِجماع. ولقد كان الذين نهلوا من التراث هم أكثر الناس جرأة على تجاوز التقليد إلى الاجتهاد والاتباع إلى الابداع ولا أقول الابتداع ـــ على المصطلح الذى يطلق ذلك على أحداث أمر طريف منقطع عن الأصل.

إن توازن الاتباع والإِبداع والسلف والخلف والتقليد والاجتهاد أمر يمكن أن تكلفه المناهج القويمة ولكنه رهن ـــ من وراء مناهج العلم وأطواره ـــ بأطوار الحياة ومصير الحضارة. يعز الاجتهاد عند الانحطاط ويظهر الاستغناء بالقديم الحذر من الجديد الذى لا يُطْمَأن إليه ما دام الواقع يقبل على ما هو أرذل وأحط دركاً, ويتلاشى التقليد مهما تنطع المحافظون إذا تحركت حياة المسلمين صعداً واتساعاً لأن مفاعلات التقدم والتحرر ودواعيه تعم العلم والعمل. ولا نقول بحتمية الواقع التاريخى, فقد يقاوم المسلمون بإرادتهم الحرة التحديات التى تتجه بهم إلى الانحطاط وقد يعكسوا أقدار الانحطاط المادى بمشيئة تدفع الإِيمان المنبعث والعقل المتيقظ والمجاهد النشطة بحول الله وقوته وتوفيقه الذى يزيد المهتدى هدى ويسره لليسرى.

فإذا توطدت الصحوة الإِسلامية التى تغشى العالم الإِسلامى اليوم فإنها مؤدية قطعاً إلى الاجتهاد. ولربما يرجح المرء جانب الطلاقة والحرية من أجل استدراك فائتات الجمود المتطاول ومكبلات العقل المسلم ولربما يحدث هنا وهناك شطط من ارتداد فعل الحرية بعد طول الانكبات. ولكن لابد فى آخرة الأمر من عقد الموازنة الحكيمة بين التقليد والاجتهاد, حتى لا تفوتنا جدوى الاستقرار والاستمرار التاريخى والاعتصام بالأصالة والولاء لتاريخ الأمة فى سياق الولاء لله ورسوله, وحتى ندرك جدوى الحرية والتقدم ونتم واجبنا الدينى فيما يلينا من ابتلاء عصرى ونلقى الله بأجر جزيل عن سنة نختص بتأسيسها ونسنها لمن يخلفنا فى المستقبل.

( جـ ) المذهبية والحرية :

لا قوام لنظام الأحكام إلا بعموم حجتها والتزامها وشيوعها فى المجتمع معايير المعاملة. وقد جبل الإِنسان على التقليد والالتزام بالسنن العرفية توفيراً لطاقته من أن يضطر إلى اجتهاد فردى فى كل شأن يبتلى به وتنظيماً لحركة المجتمع حتى يتعارف الناس ويطمئنوا إلى جريان الحياة على الأعراف المقررة ـــ وتلك فطرة إنسانية تجعل الفرد اجتماعياً يُؤْلف ولا يشذ ويندرج فى الجماعة التى تناسبه بالرأى أو بالنمط السلوكى.

ولما كان المسلمون قديما لا يتحاكمون إلى السلطان نظامى يقرر عليهم السنن الحكمية الجامعة ـــ لأنهم لم يثقوا فى بعض سلاطينهم ليكلوا إليهم أمراً خطيراً يتصل بالأحكام, أو لأنهم آثروا العفوية فى سريان الأعراف الحكمية والمرونة فى تعميمها على الأقاليم والبيئات أو لأن السلطان فرط فى دوره الواجب من ذلك ـــ لأى سبب كان من غدت المذاهب تعم قطاعات الأمة بقوة الثقة فى الأئمة الذين أسسوها واجتهاد التلاميذ والدعاة الذين نشروها وكان فى ذلك توحيد للمسلمين وتنظيم مستقر لحياتهم.

لكن الذى ذكرنا من التقليد والجمود أدى إلى غلو فى الالتزام المذهب حتى أصبح الأمر عصبية تكتب حرية الفرد المسلم وتحجب مسئوليته حجاباً طائفياً يقطعه عما وراء المذهب من أصول الشرع ومن سائر إخوانه المنعلقين فى المذاهب الأخرى. أما وقد هبت رياح الصحوة تعلى قيمة الحرية, وتركز الوعى بالتكليف الدينى لكل مسلم أن يكثف مبادراته ويكسب كسبه الخاص ويشارك به فى حركة الإِسلام, وقد اتسع الوعى بأبعاد التراث بشتى مذاهبه وبمقارنتها فى ضوء الأصول الشرعية والحاجات العصرية, وقد زاد حرص المسلمين على تجاوز الطائفية بينما زاد فى العالم الحديث الاتصال والتفاعل بين الأقطار من جراء كثافة وسائل النقل والاتصال الحديثة ـــ من ذلك المذهبية إلة منهج يكفل الاستقرار والتعارف دون عصبية أو طائفية ويحقق المرونة والحرية دون فوضى أو اضطراب فى وحدة المسلمين.

وقد لا يكون التوحيد المتوازن بين النظام والحرية فى نظام الفقه والأحكام قد استقرت أركانه اليوم فما زال المسلمون فى حال انتال من حال إلى حال تضطرب فى واقعهم أحوال عصبية وأحوال تحرر وأحوال تفلت, ولكن الظرف موات لتجديد أصولى يعبر عن الموازنة المرجوة.

(( خاتمـــة ))

إن منهج الأحكام الإِسلامية ـــ فقها هو طرائق البيان وتشريعاً هو صور التكليف وعلوما هى مادة الصياغة ـــ لابد أن يتجدد اليوم مؤسسا على نصوص الشريعة التى تدل على المناهج فى كل ذلك, ثم مهتديا بالتراث الأصولى الإِسلامى يلقى عليه تاريخ حيثياته وآثاره النظرية والطرفية نوراً يهدى إلى تقدير حكيم لمدى قيمته وعبرته الباقية, ثم مستأنساً بالعلوم المنهجية الإِنسانية التى توضح مسالك التعقل المجرد وأدوات التعلم التجريبى الاجتماعى والطبيعى وخاصة بمناهج الفقه والتشريع الوضعى على ضوء من مقارنة أصول هذه العلوم ومسلماتها وأهدافها وآثارها إلى قيم الإِسلام وسننه. ولابد من نظر متجدد فى المصطلح الأصولى, والمفهومات والقواعد الفقهية, وطرائق الاستدلال تفسيراً واستنباطاً, ووسائل التنزيل على الواقع نيات وأخلاقاً وقوانين.

وقد استقل منهج التصوف, وعن منهج الحكمة الطبيعية ولكنها جميعاً عولت على قاعدة واحدة من الشرع الموحى والمنطلق العقلى والتجربة النفسية والحياتية ـــ مهما ركز كل علم على جانب دون جانب ويمكن اليوم انطلاقاً تؤسس منهجية علمية شاملة لكل علوم التدين شرعية منقولة أو طبيعية معقولة وأن نكيف تلك المنهجية بعض تكييف لأغراض العلوم المختلفة دون أن نخرج من القاعدة الواحدة.

إن التوحيد الذى يتمثل فى الشمول والاعتدال هو مفتاح الحياة الدينية وهو من ثم مفتاح العلم الدينى, فلابد من تجلى المبدأ التوحيدى فى وحدة منهج العلوم قاطبة ثم فى وحدة عناصر المنهجية المختصة بكل علم, وكما كان الشرك نقيض التوحيد فإن سمات المنهج العلمى الإِشراكى تتميز عن المنهج الإِسلامى التوحيدى بتجزئتها للحق والحقيقة وغلوها فى اعتبار ظاو اعتبار مقابل وتناقضها وانقطاع نسقها النظرى والتاريخى.

لكن الكلام فى ذلك لا يحيط به الكلام عن منهج الفقه والتشريع وحده ولا المتكلم الذى تعقد به أهليته دون مدى الشمول للعلوم والمعارف إلا أن يتناصر على ذلك علماء المنهجية الإِسلامية جميعاً بتوفيق الله.

(*) الخرطوم : 20 جمادى الأولى 1407 هـ الموافق 20 يناير 1987 القيت فى مؤتمر قضايا المنهجية فى العلوم السلوكية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر