أبحاث

أ.د. جمال الدين عطية – رجل عاش للإسلام

العدد 163

الدكتور جمال الدين عطية [1346 – 1438هـ 1928 –2017م] رجل عاش للإسلام، ووهبه كل ملكاته وطاقاته…

·  انخرط – لسنوات – في مطلع شبابه – بالحركة الإسلامية الأم، والتي سعت إلى أن يكون الإسلام المنهاج الشامل لكل ميادين الحياة.. فلما أدرك غلبة السياسة – وهى من الفروع – على فكر الحركة وممارستها، انتقل ليركز على الأصول… وعلى الفكر الإسلامي – كصناعة ثقيلة – ليمثل – مع نظرائه من مجتهدي العصر ومجدديه – ركناً مهماً من أركان تجديد الدين لتتجدد به دنيا المسلمين.. وليستنير به الذين يسعون إلى استئناف الأمة مسيرتها الحضارية، متجاوزة المأزق الحضاري الذي دفعت إليه… مأزق التخلف الموروث، والتغريب الذي يحرس هذا التخلف الموروث، ساعيًا إلى إلحاق الأمة بالمركز الحضارى الغربي، لتأبيد احتلال الأرض ونهب الثروات..

فكان الدكتور جمال الدين عطية واحدًا من علماء الأمة المرابطين على ثغور التجديد، القائم على ساقي الأصالة وفقه الواقع المعيش، وعقد القرآن بينهما.

·          وكما حملت مجلة [المنار] – التى أنشاها ورأس تحريرها العلامة الشيخ محمد رشيد رضا [1228 – 1354هـ 1865 – 1935م] – فِكر مدرسة الإحياء والتجديد إلى العالم الإسلامي على امتداد أربعين عاما ، فبلورت ونشرت معالم الإحياء والتجديد…. كذلك مثلت مجلة [المسلم المعاصر] – التى أسسها ورعاها ورأس تحريرها الدكتور جمال الدين عطية – ديوان الاجتهاد والتجديد لدى النخبة والصفوة المعاصرة ، على امتداد أكثر من أربعين عاما.

وكما أثمرت [المنار] الفروع التي واصلت طريقها… فلقد أثمرت [المسلم المعاصر] الفروع التي ستواصل رسالتها إلى ما شاء الله…

·          وعندما ضيق الاستبداد على فكر اليقظة الإسلامية… وظن جلاوذته أنهم يستطيعون وضع هذه اليقظة في زنازين السجون والمعتقلات.. كان الدكتور جمال الدين عطية في طليعة الذين حملوا فكر هذه اليقظة، ونشروه في الآفاق، وزرعوه فى الأرض الطيبة ، لتتحول الكلمة الطيبة إلى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها…

·          وعندما حسبت الحضارة الغربية – برأسماليتها المتوحشة – أنها قد أخضعت العالم لرق الربا مع رق الإمبريالية… كان الدكتور جمال الدين عطية الرائد الذي سعى لإقامة أول بنك إسلامي – لا ربوي في عقر دار الحضارة الربوية…

وإذا كنا نشهد الآن تمدد الإسلام في الغرب…. وتعلق الكثيرون – حتى من الغربيين – به كبديل منقذ… فعلينا أن نذكر مكان الدكتور جمال الدين عطية وإنجازه في هذا الميدان… وأن نذكر إخلاصه لهذه المقاصد ، الذي قاده إلى نقد انحرافات البنوك الإسلامية في عدد من المواقع والتطبيقات…

·          وعندما تداعى نفر من صفوة علماء الأمة لإقامة [المعهد العالمي للفكر الإسلامي] – منبراً لإحياء المنهجية الإسلامية فى الفكر والفقه والعلوم الاجتماعية والإنسانية.. وفي إسلامية المعرفة، وفلسفة تطبيقات العلوم التجريبية – كان الدكتور جمال الدين عطية واحدًا من هذه الكوكبة… ولقد أعطى سنوات عديدة من عمره، وصفحات كثيرة من ثمرات قلمه لمقاصد هذا المعهد… وفي المجلس العلمي للمعهد – الذى رأسه شيخنا محمد الغزالي [1335 – 1416هـ 1917 – 1996م] كان الدكتور جمال محور النشاط العلمي والفكري لهذا المجلس…

وفي مكتب المعهد بالقاهرة – الذي مثل مركز نشاط المعهد – برزت مواهب الدكتور جمال الدين عطية في “التنظيم” لتنافس مواهبه في “التنظير”.. فأقام شبكة من العلاقات مع العلماء والمفكرين غير مسبوقة في تاريخ المعهد – بل وفريدة في ميادين العمل الإسلامي – واستثمر هذه الخبرات والإمكانات العلمية في العمل الفكري الإسلامي…

·          وعندما نبتت نابتة سوء ، من أسرى التغريب والاستلاب الحضاري ، تزعم عجز الفقه الإسلامي عن الوفاء بحكم الواقع الإسلامي المعيش…. وتريد إحلال قانون “بونابرت” [1769 – 1821] محل الفقه الذى حكم تاريخنا، وميز حضارتنا، وجعلها العالم الأول على ظهر هذه الأرض لأكثر من عشرة قرون… منح الدكتور جمال الدين عطية سنوات عديدة من عمره وجهده لصياغة – “القواعد الفقهية الإسلامية” ليقول للدنيا: عار على من يمتلك هذه الكنوز أن يفرط فيها، وأن يستبدل الغث بالثمين، وأن يتعامل مع النفائس تعامل السفهاء…

·          وإذا كانت الحضارة الغربية – الوضعية.. المادية.. العلمانية – قد فصلت بين “العقل” و”القلب”.. بين “العبقرية” و”الأخلاق” ، فشهدت خبراء لا قلوب لهم… وكرادلة لا عقول لهم… فإن الدكتور جمال الدين عطية كان تجسيدًا لتميز حضارتنا الإسلامية الجامعة للهدايات الأربع: العقل.. والنقل.. والتجربة.. والوجدان -… ولذلك كان توهجه العلمى والفكري قرين دماثة الخلق التي شهدها ونعم بها وتعلم منها كل الذين عايشوه وعملوا معه واقتربوا منه…

·          ولأن الحياة التي نحياها – في دنيانا هذه – مليئة بالأشواك والعقبات – وأحيانا بالنكبات والمنغصات – كان على العلماء أن يقدموا الأسوة في الجلد على مواجهة الصدمات والمنغصات… وأشهد أن الدكتور جمال الدين عطية – الذى لقى الكثير من هذا – قد كان النموذج، الذي يستعين بالعمل الفكري العميق على الصبر والسلوان.. والذى يستمد من المدد الإلهي الطاقات التي تعينه على تجاوز العقبات… حتى لكأن شعاره أمام الصدمات والنكبات: [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ].

·          وإذا كان الموت – في الرؤية الإسلامية – هو “تحول” وليس “فناء”.. تحول من الدار الفانية إلى الدار الباقية – التى هي خير وأبقي – فإن أعلام العلماء ، وخاصة الذين تميز عطاؤهم بالإخلاص لله Iولرسوله r… ولدين الإسلام… وللأمة الإسلامية… إن هؤلاء العلماء يجمع الله لهم – بهذا “القول” عن الدنيا بين النعيم الذى أعده لهم… وبين الجزاء الدائم على العطاء الذي لا يزال مستمرًا لهم في هذه الحياة الدنيا:

1.       العلم النافع الذى خلّفوه – والذى أتمنى أن يجمع في [الأعمال الفكرية الكاملة] للدكتور جمال الدين عطية – وفي استمرار [المسلم المعاصر] منبرًا للاجتهاد والتجديد…

2.       والولد الصالح الذي يدعو له…

3.       والذكر الحسن – الذي هو عمر ثان – يضاف إلى أعمار هؤلاء العلماء…

·          رحم الله الاستاذ الدكتور جمال الدين عطية – الصديق الصدوق… والمحب العزيز -… وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين… وعوضنا فيه خيرا – إن شاء الله.

* * *

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر