أبحاث

إستراتيجية النقد الإسلامي

العدد 53

تهيمن داخل الحقل المعرفى الذى تتحرك فيه الأسئلة المعاصرة المهتمة بمختلف القضايا الفكرية والاجتماعية ظاهرتان أساسيتان تعتبر إحداهما نتيجة موضوعية للأخرى:

1- غياب الأسئلة العلمية الملحة التى تمس- حقيقة- نواة العقل العربى الإسلامى، وتحركه من أجل إدراك مواقعه، واستئناف نشاطه الحضارى.

2-حضور الأسئلة الهامشية التى لا تعدو أن تكون خيوطا متشابكة وضعت لعرقلة خطوات ذلك العقل وصرفه عن الاتجاه الذى كان من المفترض أن يسير فيه منذ عصر النهضة أو قبله بكثير.  ولعل هذا يفسر لنا جزءا من التسيب الحاصل فى مجال الكلمة ( سواء فى الاذاعة أو الجريدة أو المجلة وسائر الأنشطة المنتجة لها… )
لكن مجال الفعل يعيش طاوى البطن يتضور ضعفا وهزالا.  وهذه الوضعية، يعيشها الواقع العربى وتعيشها معه جميع البدائل التى تسعى إلى الأخذ بزمام الوضع العربى. وفى مجال الأدب ونقده، تتضاعف خطورة هذه الوضعية وتزداد حدتها، قديما فى ظل رؤية مباينة تروم ولوج بنية الأدب وتفكيك عناصره وفق منظور إسلامى. بل إن هذا البديل الرؤوى- نفسه- ينحرف به أهله عن مجال الأسئلة الملحة، وتحضره الاسئلة الهامشية التى لا تقدمه بقدر ما (( تفرمله )) ولا تطوره بنفس الدرجة التى تجمده.. كيف يتم ذلك؟ ولماذا نمارس هذا ( الغياب/ الحضور ) فى وجه تلك الاسئلة ؟؟ ومن المستفيد من ذلك كله ؟؟

أسئلة كثيرة لا مجال للإجابة عنها فى هذا البحث الذى يسعى إلى وضع هندسة أو تصميم لاستراتيجية النقد الإسلامى… ولكن لن يعدم القارئ تلمس أجوبة لبعضها ضمن التحليل، سواء كانت صريحة أو ضمنية..

إن الأدب الإسلامى الحديث يشهد انتشارا كميا فى مجالاته المتعددة، غير أنه لم يعرف، بعد، نقلته النوعية، ولا ينبغى للانتشار الكمى أن يشغلنا عن تلمس السلبيات الواقعية والمحتملة على حد سواء، كما لا يمكنه أن يوهمنا بأن الحالة التى يوجد عليها ذلك الأدب تبعث فى النفس أريج الطمأنينة والارتياح…

يحكى (( بيير داكو )) أحد علماء النفس قصة مفادها أن رجلا كان يملك جهاز (( راديو )) لا يبث سوى موجة واحدة، وكان الرجل مغرما بها لا يبغى عنها حولا… وحين قدر لذلك الجهاز أن يصلح ويبث جميع الموجات، انبهر الرجل بها وأخذ يقلب زر المذياع ذات اليمين وذات الشمال منتشيا بغرائب العالم غافلا أو معرضا عن موجته الأثيرة التى كان يظن أنه لا شئ يوجد خارجها. هذه الحالة التى عايشها ذلك الرجل مع جهازه هى عين الحالة التى يقبع فيها قطاع كبير من أهل الأدب الإسلامى الحديث.. إننا قد ركنا إلى الوضعية الحاضرة التى تحددت فى الانتاج الأدبي والنقدى، وأصبحنا نستبعد- إن لم أقل نحرم- التحدث والتجدد خارجها، وعسى أن تنصب جهودنا فى الإطار الذى يصلح جهاز الموجات حتى يتاح لذلك الأدب أن يستمع إلى مختلفها، ويستفيد من معطياتها…

ودون أن نقوم ((  بأركيولوجية )) خطيرة لنواة تلك الأسئلة المشروعة التى تم إلغاؤئها أو تغييبها، فإن الأمر على عكس ذلك، أسهل بكثير، حيث نجد أول سؤال يثار حين نواجه حاضر الأدب الإسلامى بها إنما يتعلق (( المنهج)).

وتنبع ميزة هذا السؤال من كونه حلا جذريا لمجموعة من الأسئلة التى ينتظر أن تواجهنا فى رحلتنا الأدبية والنقدية، وسيوفر علينا، بذلك جهدا ووقنا كبيرين، ما دام سيدمجها فى مشكلة واحدة- من جهة- وما دام إيجاد المنهج يعتبر مفتاحا علميا عظيما من جهة ثانية.

ولا يخفى على أى دارس الاشكالات التى يخلقها المنهج من حين لآخر، بل أكاد أجزم بأن مختلف الدراسات فكرية كانت أو نفسية أو أقتصادية أو سياسية أو أدبية، سعت، عبر تاريخها الطويل، إلى تلمس المنهج فى إطار موضوعها المحدد… وفى عبارات واحدة: إذا كانت القضايا أمهات، فإن المنهج هو أم الأسئلة الطبعية والإنسانية على حد سواء…

وفى ظل بحثنا لابد من طرح السؤال التالى: ما هو المنهج الذى نقارب به العمل الإبداعى ونكشف، من خلاله، عن قوانينه وعوالمه المختلفة؟؟

قد يعتبر البعض هذا السؤال مغرقا فى التقليدية، ومتجاوزا من الناحية التاريخية، وقد يظنه البعض الآخر سابقا لأوانه، وحلما لم تحن ظروفه الموضوعية بعد…

أؤكد بادئ ذى بدء، أنه من الممكن أن يكون هذا أو ذاك، أو هما معا، ولكن متى نظر إلى القضايا المعرفية من الناحية التاريخية أو الزمنية؟؟؟ ألا تعتبر قضية التراث مسألة تقليدية فى المنظور الزمنى، فلماذا لاتزال الكتابات حوله تشهد نبوغا مكثفا؟؟؟  إن أى منهج يمتلك رؤية للعالم والمجتمع، لابد أن يتناول ابستيميا ونقديا بل حتى ايديولوجيا جميع القضايا الماضية، والدارس لتاريخ الفلسفات والتيارات الفكرية يجد مصداق ذلك دون كبير عناء…

إذن، فالزمن لا يحصر بصورته المكثفة فى مجال الدراسات النقدية، ومن ثم فقيمة الأسئلة لا تتحدد فى تاريخيتها، أى فى زمنها، وإنما تتحدد فى قيمتها المعرفية ووظيفتها النقدية فى بنية العقل العربي الإسلامى. فأصول الفقه، مثلا، لا تنبع قيمتها من زمنها الذى يرجح إلى رسالة الإمام الشافعى بل من قيمتها المنهجية وقدرتها على برمجة التفكير العقلى عند المسلمين.

وعندما طرحنا السؤال حول ماهية المنهج المتبع فى تحليل الظاهرة الأدبية، كنا نسعى إلى التأكيد على أن مسألة المنهج لاتزال بعيدة عن الطرح فى مجال الدراسات الإسلامية، ولا يزال البعض يتسلح برؤيته الإسلامية المستقلة ليعلن رفضه هذا أو لم يتقدم بدليل على الإطلاق.

ولو حاولنا تجسيد خلفيات ذلك الابتعاد والرفض، فإننا نجدها لا تخرج عن إطار الأمور التالية:

1- الجهل بالمكونات المعرفية والمنهجية للنقد الغربي الحديث بمختلف مناحيه، وهذه حقيقة لا تواضع مع جهلها، ولا افتخار مع علمها، ولا مناص من الإقرار بها، فمعظم الدارسين للنقد الأوربي فى تطوراته المعاصرة يقيسونه ويحكمون عليه من خلال معرفتهم ببعض المذاهب الأدبية التى أصبحت ضمن التراث الغربي والإنساني كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والوجودية… ولقد طالت نظرتهم النقدية لسلبيات هذه المذاهب المحيطا للمناهج المعاصرة نفسها، فكانت النتيجة ما نلمسه اليوم فى كتابات الكثيرين حول رفض الآخر على المستوى المنهجى والتقييمى، ما دامت السلطة المرجعية تتمثل فى تلك الأنواع المذهبية التى تبين للناس خطأها وانعكاسها السلبى على النفس والمجتمع.

2-  الحرص على إبراز الاستقلالية الإسلامية فى كافة شؤون الحياة، لقد جاء هذا الحرص نتيجة الردة الشاملة التى عاشتها الأمة الإسلامية والمسخ الحضارى الذى مورس فى حقها ومنا طويلا، ومادامت الردة وعملية المسخ شاملتين ومنحيتين للإسلام وأبعاده السلوكية والحضارية، فإن العودة إلى الإسلام كانت أو ينبغى أن تكون ردة شاملة عن الأبعاد السلوكية والفكرية للحضارة العربية… ولئن كانت الظاهرة الأولى جريمة على حد تعبير  (( روجيه جارودى )) فإن خير  ما نصف به الظاهرة الثانية أنها كانت على خطأ ذريع.

3-  لقد كان هذا البعد ينطلق فى أحكامه من مفاهيم لا تضبطها حدود معرفية وعلمية دقيقة، ولئن كانت الحساسية تجاه ضبط المصطلحات فى حقول النقد الإسلامى، ودون أى استطراد ممل أشير إلى أن الذين أبعدوا إمكانية التلاقح المنهجى لم يتبنوا الفروق الدقيقة بين المصطلحات التالية: النظرية والمذهب والمنهج… ولست أدعى معرفة دقيقة بالفروقات الموجودة والممكنة بين هذه المصطلحات، ولكن لابد من مواجهتها بالإسئلة المستمرة حتى تحقق وظيفتين مزدوجتين: تأطير المعطيات الغربية من جهة، وتأطير الأدب الإسلامى نفسه من جهة ثانية. ومن بين الأسئلة التى توصلنا إلى ذلك: هل المعطيات الغربية تعتبر كلها نظريات أم مذاهب أم مناهج؟؟ وهل الأدب الإسلامى نظرية أم منهج؟؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة، لابد من تكثيف الفعاليات النقدية من أجل البحث والمقاربة عسى أن يكون هناك إجماع  لا تخشى بعده التردد أو الانسحاب صوب المواقع التاريخية الأولى.

ومن المؤكد أن تلك الاجابة ستطامن من حده رفضنا للمناهج الغربية وستجعلنا أكثر تفهما للتباين الحاصل بين المنهج والمذهب. ونحن، كما نعلم، نرد المذهب، لكننا نستفيد من المنهج.

4-  هذا من جهة النقاد الإسلاميين الذين يتحملون مسؤلية الخلفيات السالفة، وهناك خلفية جديدة يتحمل النقد الغربي تبعاتها حين عمل على تكريسها فى مجال النقد الأدبي، وتتجلى فى ارتكازه على داخل النص وإقصائه لمختلف المؤثرات الخارجة عن حدوده إلى أن تحولت الممارسة النقدية إلى لعب لم يلبث أن وقع أسير التعقيد، فتضاعفت المشكلة التى كانت- ولا تزال- تقتصر على الشعر وغموضه، ولكنها اليوم، ومع هذا النوع المسيطر من  (( النقد الجديد )) تحول الغموض جهة النقد نفسه محاكيا تعقيد الإبداع وفق منطلق يرى فى الوضوح خاصية بورجوازية كما يذهب إلى ذلك (( رولان بارث )).

ومع رفض الوضوح، يسيطر الغموض النقدى، وتتفشي ظاهرة اللعب والانشغال بينية النص وشكله انشغالا كليا، وبذلك يأتى الرفض العنيف من قبل النقد الإسلامى، ولسان حاله ما قاله الكاتب (( جورج واطسون )):

( إن الشكل والبنية فى الفن العظيم لا يستحقان التعليق إلا لكون الفن العظيم أكثر من مجرد بنية وشكل )(1).

ولسان مقاله يردد: ( إن الخطأ، كل الخطأ، أن نقبل ما تواضعت عليه الجاهليات الحديثة من منطلقات ومصطلحات وأن نقبل ما وصلت إليه من مذاهب النقد من صور وأساليب ومدارس ونقيس على أساسها ما نريد )(2).

(1)

فهذه الخلفيات، وقد يكتشف القارئ بعضا منها مما لم نتمكن من رصده هنا، كانت عائقا أمام إمكانية التفاوض بين النقد الإسلامى والمناهج الأجنبية، ولئن تأخر ذلك مدة طويلة، فإن بشائر طيبة تلوح هنا وهناك تحاول المفاوضة العادلة، كما تلمس فى كتابات د. عماد الدين خليل وأحمد بسام ساعى، وغيرهما، ويسعى هذا القلم المتواضع إلى أن يجد له مكانا من أجل المصادقة على تلك المفاوضة المشروعة، وذلك عبر مجموعة من الممارسات النقدية، كان بعضها متضمنا فى كتابى (( جمالية الأدب الإسلامى ))(3). وتأتى هذه المقاربة لرواية الكيلانى: (( حكاية جاد الله )) لتنصيب فى نفس المسار..

لكن خيط النقاش يردنى إلى النقطة التى انطلقت منها سالفا: ما المنهج الذى تنوى اتباعه؟؟ هل لديك منهج إسلامى جاهزة؟؟ أم أنك تسعى إلى اكتشافه عبر ممارستك؟؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة نستحضر الأمور التالية:

يسعى كثير من النقاد الإسلاميين إلى تأسيس منهج إسلامى لتحليل الظواهر الأدبية، وكثيرا ما طلب منى الحديث عن نظرتى إلى هذا المشروع الضخم، فكنت، ولا أزال أؤكد خطورة ذلك نظرا لأن المجال الذى تشتغل حوله- إسلاميين وأجانب- يتيح لنا قطاعات كثيرة وتماثلات عديدة سواء فى الشعر أو الرواية أو غيرهما.. ولذلك لابد من الاعتراف- متواضعين- بأننا حين نسعى إلى خلق منهج إسلامى ( يلاحظ هنا التفريق بين مصطلح المنهج، واستبداله بمفهوم (( الأداة )). وهنا لا مناص من التأكيد على أننى لست من طينة (( مالامى )) القائل بأن و   (( المنهج وهم ))، إذ الوهم باد على القولة وليس على المنهج ما دامت أبسط سلوكيات الإنسان الفكرية والاجتماعية تصر على ضرورة المنهج بشتى مفاهيمه وتجلياته.

والأداة بعد ذلك، مفهوم يساعد على التمظهر باللباقة التواضعية والحرص على الاستفادة من الآخر، ويتيح لخاصية الانفتاح التحلى بمشروعيتها الفنية والمنهجية… كما يساعد على ولوج بنية كل منهج مباين للآخر وتقليب أوراقه والكشف الدائم عم إيجابياته وسلبياته. وهنا أجدنى متبنيا لخطة (( جاك دريدا )) التى بسطها فى قوله:

(.. أن نسلك مع الميتافيزيقا سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها،  ومن الداخل، أى نقطع شوطا مع الميتافيزيقا، وأن نطرح عليها أسئلة تظهر أمامها، ومن تلقاء نفسها، عجزها عن الإجابة كما وتفصح عن تناقضها… )(4).

وإذا كان دريدا ينهج هذه الخطة مع الميتافيزيقا بمفهومها الغربي، فما أحرانا أن نحاكيها فى استراتيجيتنا مع المناهج الغربية المختلفة، ولن يكفرنا أحد، ما دامت المناهج لا تملك آلهة تبجل، أو قوانين تمثل…

ومن أجل تحقيق استراتيجية نوعية فيها قسط من المغامرة واكتشاف الآخر عبر الذات الإسلامية، وسحب ملف الدعاوى المتبادلة بين النقد الإسلامى والنقد الغربي من محكمة (( النقد ))، واللجوء إلى المفاوضة العادلة مشيت فى طريق الاستفادة من التقنيات الحاضرة لدى بعض المناهج الحديثة لاكتشاف المكونات الفنية والنفسية والدلالية للعمل المدروس، وكل أمل فى أن ﴿ لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾.

(2)

ولكن اعتراضا يقفز هنا يؤكد تلفيقية هذه الاستراتيجية المزعومة منطلقا من المسلمة القائلة بأن كل عنصر من عناصر منهج ما يؤول إلى الضمور وفقدان الفعالية حين يزاج عن محيطه الطبيعى الذى اقتلع منه. ولا يمكن للمتأمل أن يساير مثل هذا التفسير الذى يخنق الظواهر الأدبية فى شرك المحاكاة للمناهج العلمية الصرفة القائمة على منطق البيولوجيا وما جاوره. والذى نستطيع قوله- هنا- هو أن الحكم على مثل تلك الاستراتيجية يفقد قيمته قبل الممارسة، ويمكن استحضاره بعد التجربة، أى بعد المقاربة النقدية، فذلك هو الكفيل بامتحان جدارة الاستراتيجية أو فشلها؟؟

(3)

لقد حرصت على تمثل البرنامج السردى ) Le Programme naratif ( كما نجد عند جماعة (( انتروفيرن )) (Groupe d,ent revenes )(5) كما حاولت الاستفادة من منظومة (( الحوارية الباختينية ))، بالإضافة إلى بعض المفاهيم المرتبطة بالمنهج البنيوى كالبنية والنسق والثنائيات، مطعما ذلك بمفهوم (( الرؤية للعلم )) عند لوسيات كولدمان الذى سبق طرحة بصورة عقدية مع الأدب الإسلامى قديما، دون التمادى داخل تلك المناهج ونسيان المفاهيم الأدبية الإسلامية التى أرشح أن تكون مظلتى فى أن تتخذ المفاهيم الإسلامية وظيفة المظلة لإيمانى العميق بأن معظم تلك المناهج قد آلت إلى فصل النقد الأدبى عن المعطيات والإحالات المرجعية المتمثلة فى العوالم الخارجة عن إطار النص الأدبى.

لقد تم، كما هو معلوم، تقسيم النص الأدبى ( وكل خطاب بعده ) إلى دال ومدلول، وعين لكل منهما شكل ومادة، فأصبح شكل الدال يتمثل فى الوحدات الصوتية أو الفونيمات، وارتبطت مادته بالأصوات. أما بالنسبة للمدلول، فقد قسم، هو الآخر إلى شكل ومادة، فكانت اللغة شكل المدلول فى حين ارتبط المضمون بمادته.

وفى ظل هذه التعريفات، ثم التأكيد على شكل الدال ومادته على شكل المدلول وغياب المجال الدلالى المرتبط بمادة المدلول والمتمثل فى غائبته، أو درس فى سياق الأشكال السابقة وبصورة خاضعة لها باعتبار أن شكل المعنى هو الذى يهم لا مضمونه.

ومن البديهى أن يعترض الأدب الإسلامى على هذا التغييب أو الخلفية التى يعاينها المستوى المضمونى فى جل المناهج الأدبية الحديثة وذلك راجع إلى كونه ينطلق من مقولة مؤداها أن الأدب نشاط إنسانى ذو وظائف متعددة لا تقل خطورة عن الوظيفة الجمالية(5) وهذا بين الدلالة فى السلسلة الطويلة والممتدة للأدب الإسلامى، انطلاقا من فعل (( اهجهم )) إلى الأدب الإسلامى الحديث مرورا بحسان وكعب وعبد الله بن رواحة رضى الله عنهم ومواقف عمر بن عبد العزيز وتجربة الشافعى وغيرهم ممن يحتاج إلى رصد شامل ودقيق… وبهذا يكون الأدب الإسلامى مجهزا نكتشف- من خلاله- بعض السلبيات التى تمارس فعلها فى المناهج النقدية، وبذلك ندخله فى قلب التبادل الثقافي الصادق القائم على التمحيص والأخذ والعطاء بدل الاجترار الفارغ من كل موقف علمى معرفى والمباعد للمساءلة للأطر النقدية التى تتحرك داخلها تلك المناهج. وأول تلك السلبيات، ما سماه (( باختين )) بالتجريد، ونقصد به الإيغال صوب التعقيد الذى تتبناه بعض الاتجاهات التى تهتم  بالشكل والبنية فى أساليبها وطرائق تحليلها ونقدها للإنتاج الأدبي، وهى سلبية يرفضها الأدب الإسلامى فى كل كتاباته..

وما دام الرفض لك يكن- تاريخيا- ليخلق بدائل جيدة، فإن الأدب الإسلامى- مدعو لأكثر من سبب- إلى أن ينأى- من جهة ثانية- عن التبسيط نأيه عن التجريد. لكى يمسك بزمام المعادلة الصعبة إمساكا مكينا.. ومثل هذا التحليل يقودنا إلى سؤال منهجى صريح:

هل يمكن اعتبار تغييب المستوى المضمونى والمرجعى من حقل المناهج النقدية الجديدة عاملا يكمن وراء ذلك التجريد والتعقيد اللفظى والمعنوى اللذين نلمسهما فى الكتابات النقدية العديدة؟؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، ألا نستطيع الجزم بأنه فى حالة ما إذا عاد للممارسة النقدية وللخطاب الإبداعى مستواهما الدلالى الشامل للعناصر الاجتماعية والأخلاقية والسياسية فسيعود لهما توهجهما ووضوحهما المتسم بالبساطة وعمقهما المخالف للغموض والتجريد؟؟

هذا السؤال عبارة عن مشروع لابد أن يتطرق أليه النقد الإسلامى بكل فعالية ومرونة واتزان حتى تأتى الأجوبة فى المستوى الذى يطمع إليه الطامحون ويتعلق به المتعلقون.

هل يعنى هذا المستوى المضمونى يسعى إلى أن يتحول إلى مادة كيميائية تزيل الصدأ عن أدوات التقنيات النقدية المعاصرة؟؟؟ ليكن كذلك فى عنفه وصلابته وفعله…

(4)

وكلما اقتربنا من النص المنتج تزداد ضرورة تجلية بعض المفاهيم النظرية المتعلقة ببعض العناصر أو التقنيات المستوحاة من هذا المنهج أو ذاك حتى نكون على بينة من مقاربتنا وحتى تخط الحدود المقترحة لذلك الاستيحاء… بالنسبة للتحليل السميوطيقى تعترف جماعة Entrevernes  بأن النص عبارة عن (( نظام داخلى تربطه علاقات فى جميع مستوياته المتعددة وتنطلق من مبدأ أساسي وهو أنه لا وجود للمعنى إلا بالاختلاف وفى الاختلاف  ((ولكى يتم تحديد هذا الاختلاف تم وضع البرنامج السردى الذى عرفوه على الشكل التالى:

(( عبارة عن تعاقب الحالات والتحولات تعاقبا تسلسليا على أساس ما بين الفاعل ( والموضوع ) من علاقة ومن ثم فهو يشتمل على تصنيفه ملفوظات الحالات والتحويلات وتحديد أنواعهما والكشف عن العلاقات الموجودة فى كل شكل من أشكالهما الطامحة إلى خلق المعنى فى الخطاب الروائى )).

ومن المؤكد أن الرواية التى نروم تحليلها هنا تتضمن تمظهرا واسعا ذلك البرنامج السردى، الأمر الذى يتيح لنا استيعابه وتمثله تمثلا تقنيا لا يباعد بين اللغة المحللة وبين المظلة التى اقترح العودة إليها بدءا وختاما… بل إن التحليل ينوى أن يتجاوز البرنامج السردى أفقه (( السميوطيقى )) ليوظف فى تجسيد الرؤية الروائية لطبيعة الصراع الاجتماعى ومختلف خلفياته الإيجابية والسلبية على حد سواء.

وخلال ذلك لا بأس من تمثل الحوارية التى تحدث عنها (( باختين )) كثيرا والتى يحددها فى التهجين والأسلبة والحوار الخالص. مع ملاحظة العلاقة بينها وبين التعدد اللسانى.

وفى ظل هذه الاستفادة المنهجية(6) المتعددة الزوايا والقنوات حددنا طريقة نجتازها جيئة وذهابا بين تينك المنهجين وبين البنيوية من حين لآخر وغيرها من الأدوات المنهجية التى تفرض جدارتها فى هذا الجانب من التحليل أو ذاك…

(5)

تتجسد مظاهر الاختلاف من حالة إلى أخرى فى البناء السردى فى معظم الفصول ويسعى الاختلاف إلى خلق المعنى الذى تتشكل مستويات الخطاب الروائى وفقه وتعمل على إنجازه غير بنيات مختلفة لكنها مرتبطة بنسق خفى كبنية الزمن أو المكان أو السرد أو اللغة أو بنية الشخصيات التى يتمظهر فيها ذلك جليا ودون كبير عناء. وسأمثل لذلك من خلال شخصية (( جاد الله )) التى أرادها الروائى بؤرة تتجمع فيها وتنفجر منها سائر الخيوط الحكائية والشخصية واللغوية على حد سواء…. وقد نجد فى تلك الشخصية صورة مطابقة للهرم الاجتماعى الذى تحدث عنه ابن خلدون ( فى صورته الفردية بطبيعة الحال:

 

 

سجان + مزور الأوراق المالية = الغنى

(جـ)

 

 

(ب)

سجان

شخصية

جاد الله

(د)

القاء القبض على

   

(أ)

خادم فى قصر الباشا

(هـ)

الانهيار

والملاحظ أن هذا الهرم ( المتنامى/ المتلاشى ) يتيح لنا إمكانية تشريح منظومة الاختلاف المرتبطة بالبرنامج السردى السالف الذكر إلى الحالات التالية:

(أ) جاد الله خادم فى قصر الباشا.

(ب) جاد الله سبحان.

(جـ) جاد الله منخرط فى شبكة إرهابية تزور الأوراق المالية ( الغنى ).

(هـ) جاد الله منهار.

هذه الملفوظات المتعلقة بالحالات المتباينة لشخصية جاد الله تجمعها فى تسلسلية متعاقبة تحولات فعلية عديدة.. يمكن تلمسها فى التحول من حالة (أ) إلى حالة (ب) ومن حالة (ب) إلى حالة (جـ) ومن حالة (جـ) إلى حالة (د) ومن حالة (د) إلى حالة (هـ). ونستطيع إيجاز هذه السلسة من التحويلات فى تعاقبية الحالات الثلاثة التالية:

الشقــاء

>>تحـــــــــول>>

السعـــــادة

>>تحـــــــــول>>

الشقــــــــاء

حــــــالة

حالة

حــــــــالة

ورغم دائرية التحويلات وانغلاقها ( يلاحظ هنا الانطلاق من الشقاء جهة الشقاء ) فإنها تعد انفصالية بمعنى أنها خرجت من إطار الانسجام بين جاد الله ( الفاعل ) والمال والسعادة ( الموضوع ) إلى حالة انفصال بينهما(7).

( جاد الله ) 8 ( المال ) باعتبار جسرا إلى السعادة المادية

>>تحول>>

( جاد الله ) 7 ( المال والسعادة )

حالــــــــــــة

حالــــــــــــــــــــة

ولا تكفى الرواية بإبراز هذه الصورة الظاهرية والسلوكية لجاد الله. بل تبرز ما يختفى وراءها من صور نفسية يتحكم فى بلورتها عنصر الاختلاف والصراع..

وبهذا يشكل الصراع إحدى البنيات الممسكة بالعلاقات الظاهرية والخفية بين الشخصيات من جهة وبين عوالمهم وبنياتهم من جهة ثانية..

وتتضخم المسافة التى يشغلها لتقنعنا بأن الروائى (( الكيلانى   مؤمن إيمان العجائز بأنه لن يقدرلأى عمل روائى النجاح إذا أبعد عنصر الصراع عن مساحة الأحداث أو أقلل من دوره، أوسطح ممارسته السلبية والايجابية وكأنى بالكيلانى يومن على ما ذهينا إليه فى كلامه الآتى: (( الصراع ذرة.. وتفاعل ونشاط وحرقة ولوعة، وعذاب أو متعة، ولذا، فإن الصراع وتصويره ضرورة قصوى فى الأدب، والأدب الإسلامى- وليد القرآن العظيم- يحتفى بهذا الصراع ويبرز له مكانا لائقا ويغوص فى أعماقه ويتطرق إلى أبعاده المختلفة ويتجلى هذا الصراع فى نماذج بشرية متحركة وقوى كونية فاعلة، وأحداث نابضة واقعية، وأحلام متوجعة موحية، وعواطف إنسانية متضاربة. ونتائج مؤثرة ))(8) ويرد على الذين يسطحون مواقف الصراع أو يلغونها من حقل إبداعهم قائلا: إن الذين يلحون على إبراز النماذج المثالية وحدها بحجة الحفاظ على سمعة الوطن وعدم التشهير وبعيوبه ومساوئه. إنما يتصرفون عن جهل وسطحية وغوغائية… وينسون أن الصدق فى التعبير، والأمانة فى الأداء، ولإلحاح على صور الصراع المحتدمة، هى البداية العميقة لتشخيص الداء واختيار الدواء )(9).

ولعل هذا ما يدفع الكيلانى إلى أن يعبث بألوان الصراع فى مختلف زوايا لوحاته الفنية داخل الرواية حتى ليحسه القارئ مع كل كلمة وداخل كل جملة سواء فى حكاية جاد الله أو غيرها(10). وسأسعى إلى كشف ذلك مع دلالته الممكنة من خلال علاقة (( جاد الله )) بسائر الشخصيات:

ملحوظة: شكل يصعب تحميله على الموقع

إن العلاقة بينه وبين سائر الشخصيات لاتمت إلى الانسجام بصلة. بل تجتمع حولها سحب التوتر لتنقلب إلى صراع ظاهرى وخفى… وعندما حاولنا تفصيل تلك العلاقة مع ما يربطها بالصراع من صلة، ظهرت على الشكل التالى :

– بينه وبين زوجته ميمونة:

– يظهر بينهما الصراع والتوتر منذ الوهلة الأولى

( ابتسمت ميمونة ذات الوجه الشاحب القمحى والعود النحيل، وقالت:

– يجب أن نحمد الله يا جاد الله. قال فى سخرية وعناد

– نحمده على ماذا؟؟ على القحط الأبدى… الكثيرون الآن يفطرون المربى والقشدة والبيض و…

– نحمده على الصحة والستر يا جاد الله.

– أنت القهر نفسه )(11).

– ( لانتضايق من جاد الله إنه كثير الكلام رأسه مصفحه.. لا يكل ولا يمل.. لو تركته يتكلم يومين كاملين لما توقف من الكلام، إنه يمزح يا سى حسنين (( دائما يقول كلاما كثيرا ولا أفهم منه إى القليل. صاح فيها جاد الله معنفا:

– أخرجى ياجاموسة!!(12) )). ( يلاحظ هنا الثنائية الموجودة بين اسم ميمونة وحالتها، بين اليمن والسعادة والخير وبين الحالة التعسة والشقاء الدائم، ولقد يحرص الكيلانى على هذه التقنية من أجل توليد صدمة المفاجأة والمفارقة كما سيتضح فى بعض الأسماء الأخرى ).

بينه وبين حسنين:

( كانت كلمات حسنين لا تثير فى جاد الله أدنى رغبة فى السماع، ولا تحرك فى نفسه أقل انفعال، وفى سخرية  علق جاد الله قائلا:

(( لا تحدثنى عن النار والجنة، فإنى رأيتهما )).

– فى المنام؟؟

(( فى الحقيقة يا حسنين )).

– هل جننت؟…

بل أنا فى منهى العقل والرزانة… أنا عندى جحيم فى بيتى جحيم خاص… وجحيم فى السجن… حيث الذل والفقر يكون الجحيم دعك من شيخك الجليل وقل له إن الجنة والنعيم هنا على أرض الله… كثيرون ينعمون بالمال والجاه والحب… تلك هى الجنة… (( أيها الملعون… لقد أفسدت الشيوعيون تفكيرك!! ))(13).

– بينه وبين الشيخ بحيرى:

قال الشيخ بحيرى: الدنيا سجن المؤمن.. وكم كانت دهشة الحاضرين حين يقول: نحن فى سجن دائم أيها الشيخ ولا نخرج منه آخر النهار إلا لننام كى نعود فى اليوم التالى. وساد الصمت.. كان الشيخ يرمقه من بعيد بنظرات ثاقبة وقال الشيخ ينبرات واضحة: (( فرق كبير بين أن نعيش فى السجن وبين أن يعيش السجن فيك )) قال جاد الله: (( لم أفهم… ))(14).

– بينه وبين محفوظ:

( إذن لابد من التخلص منه.. ممن؟؟ – محفوظ أستطيع أن اقتله فى السجن دون شبهة وبطريقتى الخاصة.. أنا أكره من يعترضنى… )(15).

(أيمكن أن يكون محفوظ هو السبب؟؟ ترى هل غدرت انتصار. وخانت العهد وانجات مرة أخرى لمحفوظ؟؟ لو أن الأمر كذلك فلن يفلت منه محفوظ هذه المرة سوف يستحقه سحقا، لسوف يقتله هذه المرة دون تردد، كم حاول فى السابق أن يقضى عليه فى السجن. دبر له دس السم فى الطعام.. لكنه نقل إلى المستشفى ليلة التنفيذ )(16)

– بينه وبن انتصار: فى هذا المستوى المشدود بالتوتر والمعاناة. يختفى الصراع لتظهر السعادة واللذة المتبادلة، ثم يطغون بعد ذلك فى سطح العلاقة دون أن تدوم هذه الحالة. إذ سرعان ما يظهر الصراع جليا لتتلاشى لحظات العربدة والارتكاس فى حمأة ( اللذة/ الدناءة ).

بالإضافة إلى ذلك، فإنه يمتد عبر طول الفضاء الروائى الشاسع، الأمر الذى لا يعطى الاقتباس دورا يذكر، وبالتالى لابد من الرجوع إلى المتن الروائى بأكمله. وفى ظل تلك الدائرة المتوترة ذات الزوايا السداسية تنشأ علاقات مختلفة بين الشخصيات ويكون فيها (( جاد الله )) جسرا يعيره الصراع إلى شتى الزوايا كيما تزداد الرؤية قتامة وتتضبب المسافات بين شخوصها. فتحقق الحبكة بذلك- أقسى درجات الشد والتحفيز والمساءلة المستمرة والترقب الملفع بالمجهول…

 

انتصار   >>

جاد الله

صراع

حسنين + الشيخ بحيرى

انسجام

محفوظ

يظهر هنا (( جاد الله )) عديم الإرادة- تمتلكه انتصار، وتفرض عليه حقدها وكراهيتها لعالم الشيخ البحيرى وحسنين لأنها تخاف من انخراطه فى عداد المريدين الذاكرين لله فى حلقة الشيخ، فتفقد- بذلك- ورقة رابحة وإطارا فعالا فى شبكة الإرهاب التى لا يعرف عنها جاد الله شيئا:

– ماذا تقصد بالقسوة يا (( جاد الله ))؟

– (( أقصد،.. أقصد .. أقصد.. لم أعد أستطيع التفكير ))..

– (( إذن لابد أن تطفئ الظمأ ))..

– (( هيا بسرعة… )).

– قالت انتصار وهى ترفع بيدها:

– بشرط…

– (( مواقف مقدما ))..

– (( ألا تذهب مرة أخرى للشيخ البحيرى ))… فغر فاه فى ذهول وهتف:

– هل عرفت؟؟

قالت وهى تتمطى وتبرز مفاتن صدرها: أرض.. تعرف ذلك.. وعلينا أن نختار.. وقد اخترنا.. ولا مجال للتراجع(17). ففى هذا المقطع الذى يحضر فى منتصف الزمن السردى يتراءى للقلرئ طريقان مختلفان، بل ولغته.. وما دامت اللغة عبارة عن تشكيل للزمان والمكان، فلقد كان لهما دور بارز فى تطعيمهما بخصائصهما المتباينة.. ومن ثم. يمكن رصد الزمان- أولا- فى مستويين اثنين بينهما أكثر من ثنائية: زمن الشيخ البحيرى وحسنين وزوجة (( جاد الله )) ميمونة. وأصبح للمكان- بدوره- وكنتيجة حتمية لذلك- مستويان اثنان نستطيع جدولتهما على الشكل التالى:

 

مكان الشخصية الأولى

 

 

مكان الشخصية الثانية

 

– القناعة ( ميمونة )

– الذكر+ الحلقة+ المسجد ( البحيرى+ حسنين )

– البيت المسلم ( عائلة حسنين )

 

– السجن ( محفوظ + جاد الله )

– عالم اللذة ( بيت انتصار )

ومع التناقض والصراع، تنكسر سيرورة الزمن المتناهى، حين يحضر الزمن الأول فى المستوى السردى الظاهرى ويغيب الزمن الثانى الذى يفسح له المجال فى حينه مع المباغتة التى تكسب السرد قدرة فنية على تغيب القارئ وشده إلى التعلق بالخيطين معا وترقب شتى النتائج المحتملة والنهايات الممكنة، وإن كان الكيلانى لا يتيه فى هذه التقنية طويلا ولا يذهب بها إلى أبعد الحدود كما نجد- مثلا- فى رواية (( الوشم )) لعبد الرحمن مجيد الربيعى، حيث يتيح الروائى الفرصة لتداخل ثلاثة أزمنة تداخلا مذهلا، لا يلبث معه القارئ العادى (( أن يلقى بالرواية عرض الحائط… وإن كان المثقف يتسلح بصبر طويل من أجل الإمساك بخيوط الأزمنة كلها- دون أن يتسلل إليه التشتت والحيرة والضياع )).

ويبدو أن الكيلانى جد واع بهذه الظاهرة، الأمر الذى يفرض عليه قسطا وافرأ من البيان والوضوح. فهو يرى بأن للأدب وظائف عديدة، من بينها.. الرفع من المستوى اللغوى والثقافي والفكرى للجماهير العربية… وما لم يحقق العمل الإبداعى هذه الوظيفة فليس جديرا أن يهلل له أو يفسح له المجال للنشر والإظهار… وفى هذا الصدد يقول:                 ( الأديب المسلم فى هذه الحالة، مطالب بأن يصل إلى عقول البشر ووجدانهم، وفق المفهوم الكلى والشامل للإسلام والعصر والبيئة، وأن يراعى فى إبداعه عملية التلقى والفهم والاقتناع ولن يتم ذلك على وجهه الصحيح إلا إذا خاطب الناس (( على قدر عقولهم )) وأيقن أن (( لكل مقام مقال )) وأن الأدب ليس مجرد إظهار البراعة فى الغموض أو التباهي بالاستغراق المبهم. أو إبهار القارئ بما يثيره فيه من حيرة وبلبة وتخبط… )(18).

ولعل هذه الرؤية هى التى تقود إبداعه فتمنعه من الإيغال صوب عوالم غامضة كما تمنعه من توظيف بعض التقنيات المفقودة فى جل أعماله الرؤائية. والحاضرة- على العكس- فى أروع الأعمال الأدبية المعاصرة…

قد تكون هذه سلبية يجب أن يفطن إليها؟؟ كما ينبغلا للأدباء أن يعملوا مع نقادهم على تجاوزها؟ وفى حالة الكيلانى، ينبغى أن يتحسس الطريق الموصلة إلى تلك التقنيات… لكننا لم نفتح بعد هذا الحوار، لم نواجه الكيلانى بمثل هذه الحوار، ولم نواجه الكيلانى بمثل هذه الأسئلة، بل اكتفينا- وبعض الاكتفاء داء- بالسؤال حول مشروعية توظيف الجنس والجريمة ورجل الدين… وغيرها من الأسئلة الكلاسيكية.. إننا نسأل عن الواجب، ولا نسأل عن الممكن، نسأل عن الشرع، وهذه إيجابية، ولا نسأل عن الفن وتلك سلبية (!!) وبين الشرع والفن مسافة ثانية أو أقل. لكننا نعمقها عبر ركام من التكرار والكلام الذى لا يجلب سوى الكلام.

لست أدرى ما مبرر هذا الاستطراد، ربما لأن صراعى وتوترى داخل حقل الأدب الإسلامى يسعى- هو الآخر-  فى هذه اللحظات، إلى الظهور مساوقا أو مومنا على الصراع الذى نتحدث عنه ويجليه المتن الروائى (!!).  ويستمر التقاطع بين الأزمنة والأمكنة، ويصل حدته مع حلول زمن (( جاد الله )) فى مكان الشخصيات الثانية (بحيرى وحسنين ). وفى المقطع الثانى بيان ذلك.( كان الشيخ البحيرى يقول:

– (( يقول أحد الصالحين: إن بين جنبى من السعادة لو علمها الملوك لقاتلونى عليها بالسيوف… إنها لذة التسامى والخلاص من مطامع الدنيا ومغرياتها- لذة الانتصار الأكبر )). وتذكر (( جاد الله )) انتصار عندما سمع الشيخ يردد كلمة ( الانتصار ) مرتين… لقد انتفض جسده.. إن خيالها يأتيه حتى فى مجلس العابدين والذاكرين… ووجهها يتلألأ وسط هالة من الذهب والفضة والبللور… أيستطيع أن ينتصر على (( انتصار )) بالمعنى الذى ردده الشيخ؟؟ كان (( جاد الله )) سابحا فى أوهامه بينما الشيخ يواصل حديثه الشيق وجاد الله لم يعد يسمع شيئا… لكأنما انسدت أذناه بأصابع شيطانية… حتى لكأنها بلحمها ودمها أمامه ترقص وتغنى… )(19). وفى الوقت الذى يحضر الزمن الأول فى المكان الثانى لا يمكن للزمن الثانى أن يتسرب إلى المكان الأول، وهنا يحقق الكيلانى بعده الرؤيوى القائم على طهارة ذلك الزمن وارتفاعه عن السقوط فى حمأة المكان الغارق فى شبقيته وعربدته… بل حتى فى لحظات الحظور تختلف المسألة اختلافا جذريا. فحين يحضر زمن البحيرى وأتباعه فى مكان السجن- مثلا- يكون حضور إدانة وتحد لا حضور تمرغ وفتنة… إنهم يغزون المكان ولا يحضرونه… يغزونه بذكرهم وعبادتهم إلى درجة ظن معها أحد السجانين أن (( السجن الحربي )) سيتحول إلى مسجد للصلاة وهذا التوحد والاختلاف للغزو والتسلل يرفع الزمن والمكان إلى دلالات تخدم المعنى وتساهم فى إنتاجه، فيبتعد عن الزمان إطاره الرياضى وينأى المكان عن شكله المورفولوجى ليصبحا عناصر فعالة فى توليد المعنى واحداث الانسجام الدلالى بينهما، وفى هذا الصدد نستحضر قولة (( باختين )) التى ينص فيها على أنه:

( فى زمانية الفن الأدبى يحدث الاندماج بين الدلائل المكانية والزمانية فى كل معقول وملموس، وهنا يتكثف الزمان ويصبح دسما مرئيا للفن )(20).

ولقد جلى الاندماج الحاصل فى حكاية (( جاد الله )) مستويين، اندماج انسجام واندماج تعارض. وفى الحالتين معا، تقذفنا الرواية فى قلب الصراع. ويتخذ هذا الأخير شكلا آخر بين مكانين متناقضين، وهما بيت (( جاد الله )) وبيت             (( حسنين )). ففى الوقت الذى يشهد فيه المكان الثانى هدوءا نفسيا واستقرار اجتماعيا يبعثان على الغبطة والاحترام كما فى المقطع التالى من الرواية:

( لقد قضى أكثر من عشرين عاما وهو يحافظ على صلاة الفجر وكان يوقظ زوجه وفريدة ومحمود إنه يتذكر كيف أن فريدة الصغير كانت تقف من الخامسة من عمرها وترتدى زيها الإسلامى وتقف كالملاك الطاهر تؤدى الصلاة… إنه أمر يثلج فؤاده. بل يراه حسنين أنه أثمن من الدنيا وما فيها، وبعد الصلاة يتناولون طعام الفطور ثم يذهب كل لحال سبيله ) (صفحة 153) تغيب هذه الأجواء فى المكان الأول ويخلفها التشرذم والفوضى، ويعشش فيها القمع واللامبالاة.

( انظر (( جاد الله )) إلى ابنته الباغة من العمر اثنى عشر عاما… كانت تجلس متسخة الثياب منتفشة الشعر، تتثاءب وعيناها نختنقتان… وهى تحملق ببلاهة فى كتاب موضوع أمامها على طبلية خشبية، ووجد نفسه على الرغم منه، يقارن بينها وبين (( فريدة )) بنت حسنين.

أثارته المقارنة، وملأت قلبه بمزيد من الغضب والحنق…

أمسك بأذنها فى غلطة والبنت تتلوى وقال :

– (( تذاكرين يابنت ميمونة؟؟ وفى آخر العام تأتى الشهادة ملئة بالكعكات الحمراء… لو رسبت مرة تانية فسأذبحك كما تذبح الفرخة… مفهوم؟؟ )(21). وفى هذا التناقض تتحقق أبعاد رؤية الكيلانى كما سيأتى ذكرها فى نهاية التحليل… ومن أجل البحث عن جذور الصراع فى فى البنيات العميقة التى تحرك النص المنتج، وفى العلائق الممكنة بينها.. فإننا نجد مجموعة من البنيات، منها ما هو حكائى ومنها ما يتعلق بقيم المعنى. ويمكن اعتبار العلاقة بينهما تمظهرا للثانية فى الأولى وتجليا داخلها.. والبينات الحكائية المتوفرة فى المتن الروائى عديدة، لكن المهيمن عليها لا يتجاوز البنية الحكائية بين جاد الله وانتصار، وبين جاد الله وحسنين.. ولعل فى طغيان هاتين الوحدتين مؤشرا واضحا على طبيعة الصراع وخلفياته.. والملاحظ إنهما يتصدعان فى شكلين متباينين، فيكون فرار انتصار مع محفوظ إيذانا بنصدع الأولى وتصبح نهاية جاد الله أول تفجير وتلاش فى البنية الحكائية الثانية، ويعتبر الفصل الأخير مجالا لهذا وذاك.

وحين يعرف السرد فى الأولى انغلاقا بقرار انتصار وتغيبها على مستوى الحديث عنها، يظل السرد فى الثانية منفتخار زاخرا بايحاءات وتوقعات كثيرة، سيما لدى التوقف الطويل بين يدى المقطع التالى من الأخير (ص249): (( فى اليوم التالى فتح حسنين باب زنزانة ( جاد الله ) ودعاه للخروج كى يجلس معه فى الدور الرابع، يشرب الشاى ويتسلى حتى يألف الوضع الجديد وينسى، لابد أن يندمج مع خلق الله ويتقبل الكارثة التى حلت به حتى تتصح الأمور… إن أمامه فرصة من جديد ولا يصح أن يستسلم لليأس… ووافق ( جاد الله ) لكن مسار هذه البنية يتحول- فجأة- ودون سابق مؤشر- إلى النقيض، إلى الشعور باليأس، وسيطرة الانهيار النفسى والعصبى الذى يتوج بالانتحار. إن هذه التقنية تدعو الدارس إلى الوقوف على طابعها السردى طويلا، فالرواى- رغم اعتماده على الرؤية التى تدرك كل أمر يتعلق بالشخصيات- فإنه يتظاهر- شأن القارئ- بجهله للمستقبل الذى يسير إليه ( جاد الله ) وللحالة التى سيؤول إليها، فيترك نهايته مضببة محاطة بتوقعات متباينة، بل أكثر من ذلك تميل تلك التوقعات جهة التوبة والعودة إلى الله والتراجع عن أخطائه، سيما إذا نظرنا إلى فى ضوء احتكاكه بجنسين الذى تعامل معه بمنطق الأخوة والصداقة، ولم يشعر- قط- بأنه مسجون متلبس بجريمة خطيرة… إلى أن تصدمنا النهاية الفاجعة لجاد الله(22) الشبيهة بنهاية البطل فى رواية ( بداية ونهاية ) لنجيب محفوظ )).

****

بعد الحديث عن ملفوظات الحالات وملفوظات التحولات والعلاقات الاتصالية أو الانفصالية الموجودة والممكنة بينها، وإبراز العلاقة التى جسدها المتن الروائى بين عناصر البرنامج السردى وبين بنية الزمان والمكان والتطلعات الحاصلة بينها… دون إغفال للمكونات النفسية والسلوكية للشخصيات كما تبدى ذلك من خلال عنصر الصراع السابح فى فضاء الرواية بأكملها… بعد كل ذلك نستطيع مواصلة التحليل مع بعض التقنيات الأسلوبية فى الرواية ومقارنتها مع بعض النصوص الغائبة للكيلانى ونصوص أخرى كلما أمكن ذلك.. ولن تهدف المقارنة إلى تجلية الجوانب الإيجابية فحسب بل سنحرص على كشف بعض السلبيات التى سنتبينها- ودون تحذلق فى الكلام-     فى ضوء المناهج الحديثة وبعض الأعمال الروائية الناضجة فنيا هنا وهناك. يمتاز أسلوب الكيلانى بخاصية أساسية وتتجلى فى التدفق العفوى الذى لا يقف دونه حائل… ينحدر التعبير والصياغة انحدارا موجبا ويتصاعد تصاعدا موحيا، يغوص فى أعماق النفس الإنسانية دون أن تفقد درجتها العفوية، شأنها فى ذلك شأن الشلال المتدفق باستمرار… وهذه الخاصية التى تلمس الظاهرة بتقنية شفافة مطعمة بالجمل المتراوحة بين القصر والطول فى أجواء مناسبة لها، تحيلنا على أجواء شعرية بعيدة عن جفاف النشر ومنطقيته وتراتيبه…

إن الكسر الجملى وتداخل الأزمنة ومبدأ التداعى، واستحضار الماضى فى تأزم الحاضر وضبابية المستقبل والحضور الشعرى المتمثل فى بعض الأبيات الشعرية الصوفية (( كل هذا يجعل النص الروائى معجونا بماء الشعر وملح الخيال… فيميل السرد جهة الشعرية، فتتكون- نتيجة هذا التداخل ( المقصود/ العفوى ) بين جنسين أدبيين متباينين حتى فى أشد الرؤى النقدية حداثة كما يلمس الدارس لباختين ))(23) لغة شعرية تتفجر إيقاعا وتوترا وخيالا… ولقد غدت هذه الخاصية ميزة تنفرد بها الرواية الحديثة وتقنية لا مناص من استثمارها إذا ما أريد النجاح للعمل الروائى، ولذلك يقول (( ادوارد الخراط )) مثلا:

( إن الرواية فى ظنى هى ألبوم الشكل الذى يمكن أن يحتوى على الشعر والموسيقى وعلى اللمحات التشكيلية )(24). ومتى حقق السرد تلك التقنية أصبح سردا موحيا مجسدا للحس الشعرى وحاملا لخصائصه وملامحه الصورية والرمزية والخيالية على حد سواء. وفيما يخص الرواية التى نحن بصدد تحليلها، فقد حققت مستويات عميقة فى مجال الحضور الشعرى المتقاطع مع السرد، وقد يطول بنا المقام لو حاولنا تتبع ذلك فى كافة الفصول، لذا نكتفى بالمقاطع التالية:

( جرت الدماء فوارة فى عروقه، الكلمة الوحيدة التى تثير حميته وتشغل كيانه… (( الوحش )) اللحن الغجرى الصاخب الذى يجعل كل عضلة فى جسده تهتز، ترقص، الوحش، الكلمة التى تحلق به فوق قمة النشوة العالية)(25). ( مسافر يبحث عن الحقيقة وفق تواميس الله، وسنن الحياة التى وضعها، أنا أحمل شمعة صغيرة، وأتجول بها فى خفايا النفس، لعلى أعرف أمرا يساعدنى فى الفهم )(26).

( الغراب خطف منه انتصار… شعر أنه تنازل عن قلبه، وكضى بلا قلب، بدت الشوارع أمام عينيه خرابا وسوادا، مثل يوم حريق القاهرة تماما منذ سنوات مضت، طردوه من الجنة كانت أيامه معها- حسبما يشعر- كالحلم الرائع الجميل… كل الأيام الجميلة تفلت من بين أصابعه، هكذا فجأة )(27) بل إن حضور النصوص الشعرية التالية:

فليتك تحلو والحياة مريرة                   وليتك ترضى، والأنام غضاب

ألا ليت ما بينى وبينك عامر                وبينى وبين العالمين خــــراب

فإن صح منك الود فالكل هين                وكل الذى فوق التراب تراب

والنص التالى الذى يتكرر مرتين داخل الرواية صفحة 58 وصفحة 200 ):

يا راجلين إلى (( منى )) بقيادى             شوقتموا يوم الرحيل فؤادى

سرتم وسار دليلكم يا وحشتى               والشوق أرقنى وصوت الحادى

فإذا وصلتم سالمين فبلغوا                  منى السلام إلى النبى الهادى

ونصوص أخرى يجدها القارئ فى صفحة 177، 242، كل ذلك يبرز هذه التقنية ويجعلها مظهرا من مظاهر التحقق والنجاح فى حكاية (( جاد الله )). ومن البديهى أن تتحقق تلك التقنية بصورة مكثفة خاصة إذا علمنا بأن نجيب الكيلانى (( يمارس حضوره فى الساحة الشعرية بفعل إسهاماته التى وصلت حدود الدواوين الأربعة ))(28). وضمن سلسلة التقنيات الأسلوبية تتضمن الرواية ما يسميه (( باختين )) بالتعدد اللسانى، وذلك أننا لا نجد فى حكاية (( جاد الله ))  لغة واحدة أو أسلوبا فرديا يعود إلى الراوى كما هو الشأن بالنسبة للشعر أو المقالة، بل إنها تشتمل على تعدد لسانى يعكس تعدد المنظورات الاجتماعية والايديولوجية نفسها، يقول (( باختين )):

( إن الرواية لا تعفى مطلقا من ضرورة الحصول على معرفة عميقة ودقيقة باللغة الأدبية، بل إنها تستلزم فضلا عن ذلك، معرفة لغت التعدد اللسانى، إن الرواية توسيع وتعميق للأفق اللسانى، إنها تنقى وتشحذ إدراكنا للفروق الاجتماعية اللسانية(29).

وفى (( حكاية جاد الله )) بعض من ذلك التعدد اللسانى الحامل للخلفيات الاجتماعية والمنظورات الفكرية، بحيث تزداد المسافة اتساعا بين ( الراوى ) وبين سائر الشخصيات، وذلك بعدما يغيب لسانه ويفسح المجال للألسن الأخرى لتعبر عن نفسها سواء عن طريق الحوار أو التداعى أو (( المونولوج )). فيحضر بذلك أسلوب (( جاد الله )) ولغة (( انتصار )) ولغة الشيخ بحيرى وحسنين، ولقد أحرز نجاحا لا بأس به فى استحضار لغاتهم وتشخيصها تشخيصا أدبيا متميزا متميزا غير أن ذلك تم بنسب متفاوتة… ففى الوقت الذى نجد تفوقا فائقا فى تشخيص لغة الشيخ (( بحيرى )) و(( حسنين )) فإننا نكاد نلمس بعض التسطح والمبالغة بالنسبة للغة (( جاد الله )) و (( انتصار )) اللذين ليس لهما من الوعى والتعليم قسط يتيح لهما إمكانية التواصل بتلك الصورة الراقية- لغويا وفكريا- التى نلمسها فى حواراتهما ومناقشاتهما. ولعل خلق تشخيصات للغاتهم فى أسلوب أدبي فصيح هو المعضلة الأسلوبية الجوهرية للجنس الروائى، كما يعترف بذلك (( باختين )) نفسه.

ويبدو أن هذه المعضلة ترجع على مستوى الأدب الإسلامى- وبالأضافة إلى ما هو عام كالمقدرة الفنية والتقنية الحكائية و الحوارية- إلى بعض الأسباب الخصوصية التالية

(أ) الموقف الواضح من توظيف لغات تنتمى إلى بيئة الأميين أو المتعلمين تعليما متواضعا.. تلك اللغات أو الأساليب المندرجة- بكل بساطة- ضمن إطار (( اللهجات ))(30).

(ب) التحرج من استحضار لغة البيوت المائعة التى تنتشر فيها مظاهر التفسخ والشبقية والإحرام ( البيت الذى تكتريه انتصار مثال على ذلك ). إن الجميع يدرك الصراع العنيف الذى قاده الفكر الإسلامى ضد الدعوات المشبوهة التى نادت بضرورة استبدال اللغة العربية باللهجات المحلية، ( دعوة سلامة موسى مثلا ). ولقد خرج الفكر الإسلامى من تلك المعارك واضح الصورة بين الخلفيات، معلنا موقفه المتفرد القاضى بضرورة الاقتصار على العربية الفصحى، ومن ثم- وكنتيجة منطقية وحتمية لهذا المنطلق- كان إبداعه خاليا من اللهجات المحلية، ساعيا إلى المحافظة على الحد الأدنى من التعبير الفصيح.

يحصل هذا مع البيئات الاجتماعية المستقيمة، أما إذا انضاف إلى ذلك عامل الانحراف والميوعة، وما يقتضيه من لهجة خاصة تتحدى كل قيم وتتبجح فى وجه كل فضيلة وتكشف عن صورتها العفنة، علمنا حقيقة إصرار الكيلانى على هيمنة اللغة العربية الفصحى… غير أنه يتمكن فى بعض الحالات، من استحضار تلك اللهجات وذلك الأسلوب المنتمى إلى خلفيات اجتماعية منحرفة حتى لا يقع فى تسطيح التجربة ورفعها إلى مستوى المثال الذى لا وجود له فى الصراع الاجتماعى.

وما من شك فى  أن هذه الوضعية تولد لدى الروائى المسلم مضاعفات توترية خطيرة، إذ تضعه (( بين )) المطرقة والسندان (( كما يقال )) بين تلبية هذا التعدد اللسانى المجسد للتعدد الاجتماعى وبين المحافظة على نقاء الأسلوب  أدبيا وأخلاقيا… وذلك راجع إلى أن المتلقى المسلم يمتلك عقلية شرعية بالأساس، تحرص على الانسجام مع مقتضيات الآداب الإسلامية فى جميع الممارسات، وهو- أى المسلم- ملحاح فى طرح السؤال حول مشروعية إسلامية كل ما من شأنه  أن يخدش ذلك الانسجام. وكلنا يحاصر من قبل محيطه الأدبى والاجتماعى بالسؤال حول مشروعية تطرق الكيلانى إلى الحديث المباشر والصارخ عن اللحظات الجنسية وإدراك الحوار المتلفظ فى تلك البيئات.

ولنا أن نتصور حجم السؤال ومضاعفاته لو حرص على إفساح المجال للتعدد اللسانى حرصا مطلقا،وجسد عبر             (( الحوارية )) جميع البيئات الاجتماعية سلبية كانت أو إيجابية… لا شك أن السؤال سيبلغ حد الشك أو الرفض لما ينتجه الكيلانى فى هذا السياق. إنه يثير أكثر من سؤال، رغم حرصه على الاعتدال، فكيف سيكون الوضع حين يتمادى فى تلك المجالات فى حرية. ورغم كل ما قيل، تظل هذه الإشكالية فى حاجة إلى المزيد من النقاش من خلال الفعاليات الأدبية وذلك فى ضوء ثلاث زوايا:

(أ) الموقف الشرعى.

(ب) الارتباط بالواقع والواقعية.

(جـ) التعدد اللسانى العاكس للتعدد الاجتماعي.

وإلى أن يتحقق ذلك نحرص على تعليق هذه المسألة كى نواصل حديثنا عن التقنيات الأسلوبية الأخرى. وكما لا يبالغ الكيلانى فى استر ساله السابق، فإنه يتعامل مع تقنية التهجين والأسلبة تعاملا محدودا حتى يكاد لا يلمس بتاتا، ولعل قلة النماذج التى يمكن أن نستحضرها هنا تكشف عن تلك المحدودية.                                                  يعرف باختين الهجنة بقوله:

( إنه مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، وهو- أيضا- التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة ( زمنية، وبفارق اجتماعى أو بهما معا داخل ساحة ذلك الملفوظ ). ويشترط فى تحقيق ذلك نوعين لسانيين: الوعى المشخص، والوعى المشخص… ونجد مثل هذه التقنية متوفرة- فى حدود معتدلة- داخل بعض فصول الرواية، نكتفى بإيراد بعضها مع توضيح ذلك المفهوم:

( سيأتى إلى الباشا باحثا عن عمل.. لا.. الباشا مات.. سأقول له ليس عندى سوى (( أسطبل الخيل )) .. فإن كان لديك خبرة كافية فلا مانع من أن أعينك فيه بمرتب جيد.. ها.. ها من يدرى قد لا توافق انتصار على ذلك.. ستكون سيدة القصر لا محالة.. أما ميمونة.. هل أطلقها.. حرام سوف تبقى.. أنا أعرفها.. لا تعرف التمرد أو المشاكل.. لا تخافى يا ميمونة. لن أقصر فى حقك أبدا.. لكن المشكلة يا ميمونة أن انتصار متزوجة من محفوظ… لابد من البحث عن حل لمحفوظ.. لم أعد أطيقه لماذا لا يموت ويريحنى؟؟ )(31).

فنحن فى هذا النص أمام ملفوظ واحد وهو صوت (( جاد الله )) لكن- وبسبب التهجين- قد وقع تداخل بينه وبين ملفوظات عدة، تنتمى إلى وعى لسانى مختلف، يعمل ذلك الملفوظ الظاهر على تشخيصها، فتصير متلفظة أو مشخصة من قبله.. والملفوظات الأخرى ترتبط- أولا- بالصوت اللغوى لابن الباشا المفترض الذى نستشفه من خلال صوت (( جاد الله )):

(( ليس عندى سوى إسطبل الخيل، فإن كان لديك خبرة كافية فلا مانع من أن أعينك فيه بمرتب جيد)).                          فهذا الملفوظ يقتضى طلبا واستجداء من قبل ابن الباشا الذى يمكن صياغته كالتالى: سيدى (( جاد الله )) هل لكم أن تتشرفوا بتعيينى خادما عندكم؟؟ وترتبط- ثانيا – بالصوت اللغوى لانتصار فى قوله:

(( قد لا توافق انتصار على ذلك )).  حيث يختفى وراء هذه الصياغة اعترض من قبل انتصار يمكن الترميز إليه  بما يلى: (( كيف يعمل أبناء الباشا الحمير؟؟ من أمرك بهذا؟؟ إننى سيدة القصر.. )) وترتبط- ثالثا- بالصوت اللغوى لميمونة فى قوله: (( لا تخافى يا ميمونة.. لن أقصر فى حقك أبدا )). فبواسطة هذه اللغة المشخصة، يمكن ادراك اللغة المشخصة وخلفياتها النفسية والحركية، لغة (( ميمونة )) وهى تأخذ بتلابيب زوجها (( جاد الله )) … وتستحلفه، وتذرف الدموع بين يديه وتقول- مثلا-:

(( إنى خائفة، خائفة من أن تطلقنى، أقسم بالله على أن تظل وفيا لى ولعيالك.. إنهم سيضيعون.. سأضيع معهم ))…   ولايد من أن نتساءل حول الهدف الواعى من وراء التهجين، والواقع أن (( باختين )) لا يحدد أهدافه بصورة مدرسية واضحة، غير أننا نستطيع الركون- من خلال كتابه- إلى أنه يهدف إلى خلق صورة للغة مرفقة الحواشى، منحوتة داخل السياق المضمن لها، موجدة لها منظورا وظلالا وأضواء، مجسدة لنفسها فى شكل مشخص تتماهى حواشيه مع الحواشى الأخرى… ويمكن للدارس أن يجد لهذه التقنية أهدافا أخرى تظل مستترة فى الدراسات المتعلقة بالجنس الروائى.. ويبدو- بعد كل هذا- أن التهجين يسعى إلى تكثيف الحوار وشده ضمن حدود متوترة ومتداخلة لا انسياب معها أو تراخ، فتغيب الحدود الفاصلة بين الحوارات بالإضافة إلى الايحاء الملموس فى كل ذلك.. إذن، فالتكثيف والتوتر والايحاء من بين الأهداف التى تتحقق من وراء التهجيين… وبموازاة هذه التقنية، توجد خاصية الأسلبة La stylisation التى لا تتوافق مع اللغة المشخصة. بل تسعى إلى فضحها وتحطيمها كما يلاحظ فى الأسلبة الساخرة… وإننا إذ نجد بعض النماذج، نؤكد على أنها لا تذهب بها إلى أبعد الحدود.. وفى ذلك مجال لطرح أكثر من سؤال وإثارة أزيد من إشكال… ( تفلسف جاد الله قائلا: (( خلق الله طاعة والمعصية والغنى والفقر، والجهل والعلم والصحة والمرض، ثم قسم الأرزاق )).

– (( صدقت ))

(( وأنا أعرف نصيبي يا حسنين: المعصية والجهل والفقر، ترى ما ذنبى أنا فى ذلك؟؟ ).. نلاحظ فى هذا المقطع تداخلا بين صوتين لغويين مختلفين الصوت: الأول الذى ينسب إلى الشيخ أو الوعظ أو الفقيه الذى يؤكد أن الكل من خلق الله، وصوت جاد الله، لكن هذا التداخل لا يسعى إلى تشخيص الصوت الأول من خلال الثانى، بل إلى مناقضته وتحطيمه… ولذلك فإن الحوار يشتعل بين جاد الله وحسنين الذى أمن على صدق كلامه فى البداية- بعد ذلك المقطع مباشرة- غير أن هذه التقنية لا تسيطر كثيرا على أسلوب الرواية لأنها تستدعى تداخلا فى الأصوات والأزمنة والرؤى والمواقف النفسية والاجتماعية، ويبدو أن الكيلانى لم يروض قلمه- بعد – على مثل هذه التقنيات الجديدة التى قد يكون له موقف منها أو قد تكون راجعة إلى عدم تمكنه من الاطلاع الواسع والمختص على الدراسات النقدية الحديثة وما طرحته من إمكانات وأساليب جديدة ومتنوعة، وهو الموزع بين الوظيفة الطبية والإبداع الأدبي.

هذه بعض التقنيات التى يمكن للدارس التوقف عندها فى (( حكاية جاد الله ))، وقبل أن نختم هذه الدراسة بما نراه كامنا وراء اللغة من أبعاد دلالية ورؤيوية كثيرة. لا بأس من التوقف- قليلا- عند بنية العنوان الذى اختاره الكيلانى لعمله الروائى… فبين العنوان وآخر كلمة فى الفصل الأخير، ومع امتداد السرد فى الزمان والمكان. يشعر المتلقى أن العنوان يمارس عليه نوعا من الصدمة أو التغريب المزدوج-… إننا حين نرحل داخل المتن، نحس أننا إزاء رواية بالمفهوم النقدى الحديث، لها بنيتها الخاصة، وتعددها اللسانى، وصراعها النفسى والاجتماعى ورؤاها التى تحرك الشخصيات المتعدد والمتباينة ويغيب العنوان المضلل الذى يوهمنا بأنها حكاية من الحكايات التى لا تمتلك منطق الرواية، وإن كان بإمكانها أن تصبح مادة لها فى أحسن الأحوال، والفرق شاسع بين الحكاية والرواية، وإن كانت جذور الثانية ترتبط فى بعض أصولها بالحكاية الشعبية ( لا يمكن أن نلغى- هنا- حرص الكيلانى على إثارة أوجه الشبه فى جانب الغرابة- بين (( جاد الله )) والحكاية القديمة المرتبطة بالأساطير ).

ولا يلبث هذا التضليل أن يعمق بتضليل آخر فى اسم (( جاد الله )).

فحول هذا الاسم، نستحضر كل صفات الخير، فهو هبة من الله، وما دام الأمر كذلك، فإنه يشتمل على اليمن والخير والصلاح، غير أنه ينتابنا شعور غريب من الجملة الأولى فى الصفحة الثانية من الفصل الأول:

(( نحمد الله على ماذا؟؟ على القحط الأبدى )).

ويتسلل إلينا الشك فى إمكانية مطابقة سلوكه لاسمه، ويزداد الشك سيطرة إلى أن يسقط كل يقين مع سقوط (( جاد الله )) على الأرض مهشم الرأس منتحر الجسم والنفس.. وأذكر أننى وقعت أسير هذا الشعور قبل حصولى على الرواية.. فلقد وصل إلى علمى أن الدكتور الكيلانى مقبل على إصدار رواية جديدة تحت نفس العنوان، وكنت متيقنا من أنها ستكون ارتيادا للواقع المعاصر للإنسان المسلم بعد رحلته الطويلة مع الرواية التاريخية ( ويمكن اعتبار تجربة السجن هى الأخرى تراثا وتاريخا ماضيا ).. لكننى فوجئت بأنه لا علاقة بين الأسم والحقيقة الشخصية، أو بالأحرى هناك علاقة تناقض واختلاف.. إننا بعلمنا المقارب للمتن الروائى- كنا حريصين على الموازة بين مجالين بينهما أكثر من تداخل وتؤطرهما علائق عديدة، ويبدو أننا استطعنا- قدر الإمكان- ولوج البنية الحكائية (( جاد الله )) وحاولنا أن نضع أيدينا على (( ثيمة )) الصراع التى جمعت سائر خيوط الشخصيات ورأينا كيف أنه يتمظهر فى كافة المستويات انطلاقا من التعدد اللسانى والبرنامج السردى إلى العنوان، مرورا بالممارسات النفسية والسلوكية المتعارضة… ولقد كان هذا الانشغال منصبا على التقنيات الأسلوبية المرتبطة بظاهر البناء… ولا يمكن الاقتصار على هذا العمل، لأنه يوشك أن يوقعنا فى الدائرة التى تتناول اللغة باعتبارها نظاما أو نسقا صوريا لها تموضها الخاص، لا تهدف إلى قول شئ آخر خارج طبيعتها بقدر ما تسعى إلى التشكيل أو إنتاج اللغة المهيمنة على فعل الكتابة-.. وقد تؤطرنا ضمن الذين يتمركزون داخل النص، ويمرسون فى حقه عزلا عن الأطر المرجعية المختلفة، كما هو الحال بالنسبة للبنيوية والشكلانية والسميائية.

وبالتالى سنحرص على الجوانب المتقاطعة بين النص والعالم الخارجى كالمجتمع والأخلاق والأيدلوجيا، نحرص على ذلك لأن الوضعية الأولى تفرز تسطحها من حين لآخر، وفى هذا نستحضر- مثلا- ما يقوله  (( محمد على الكردى )) فى شأن النقد البنيوى:

( إنه لمن الواضح أن هذا التجاهل يرجع إلى تضخم المستوى المعرفى لدى النقاد البنيويين بسبب كلفهم الشديد بالعلوم الحديثة، ونفورهم من أى تقييم على التذوق والمعايير الذاتية، ونحن لا نعيب عليهم هذا الاهتمام، ولكن لا نعتقد بأن الأدب يمكن رده على المستوى المعرفى فقط، وإلا حصرناه- كما يفعل البنيويون أنفسهم- فى مجال التصفيات اللغوية الشكلية، متناسين أن اللغة العامة هى اللغة التى تتشكل من خلال العمل الفنى، والتى تعد جزءا من رؤية الكاتب للعالم والمجتمع، ومن ثم لا يمكن عزلها عن الموقف الذى نشأت وتطورت فيه، أو عن القيم الاجتماعية والتاريخية التى يعد الكاتب جزءا لا يتجزا منها (33).

وبالتالى فإن النقد الإسلامى ليس مستعدا لكى يقع فى التقسيم الكلاسيكى بين الشكل والمضمون، أو يقصر جل اهتمامه على الصور المادية للغة.. بل إنه ينظر إلى العمل الإبداعى نظرة فيها الفن والجمال والمتعة، ولكنها لا تخلو من أبعاد اجتماعية وأخلاقية متعددة، وهذا أمر طبيعى فى ظل الغائية التى ينشدها لكل نشاط فنى… ومن هنا نكون جد مقتنعين بالسؤال التالى:

ماذا يريد أن يقوله الكيلانى من وراء روايته (( حكاية جاد الله )) ؟؟

ما الذى يسعى إلى أن يمرره عبر لغته؟؟ لم يكن الكيلانى يرصد واقعا متبانيا رصدا (( فتوغرافيا )) لا يتجاوز حدود المحاكاة.. بل كان يعربه من أجل البحث عن محركاته الداخلية فى ثنايا النفس والسلوك… كان ينقب عن أدلة ملموسة تكشف عن زيف الطروحات التى يتحذلق بها المتحذلقون، دون أن تجد مصداقيتها لدى الجماهير… بين الكليات والشعارات المتخمة بالفراغ.. وفى وسط الواقع المتردى، كان الكيلانى يرتدى زى الطبيب الحقيقى… ويحفر الأرضية الاجتماعية ليضع يده وقلمه على مكمن الزيف وعبوة الانحراف فيفجر كل ذلك عبر الكلمة المشحونة بالتوتر والآلام. هكذا- إذن- يكتب الروائى عالمه، ويشرح بنيته النفسية والاجتماعية بحثا عن الإدانة والعلاج. لقد ظل الكيلانى ابنا وفيا لمصر حتى فى تواجده خارجها، ومن ثم لا غرابة أن نجد الأحداث تتحرك فى ذلك البلد.. وتختار شخصياتها من مختلف شرائحه الاجتماعية، وأهم ما يثير فى مصر أنها لم تعش تخلفا، وإنما عاشت صدمة التخلف، والفرق بينهما بين.. فى السابق، كان التخلف هواء يتنفسه الناس، أما الآن- فى ظل الثورة- فقد أصبحوا يسمعون وعودا كثيرة، وعود الحرية والتقدم والتأميم والإصلاح… ولكن التجارب اليومية، والسوق المستمر لأبناء الوطن جهة السجون، وغطرسة المسئولين، كل ذلك أفرز وضعا مشوها جعل الناس يشعرون بخيبة أمل، وبيأس، بمعنى آخر، كانوا يشعرون بصدمة التخلف: (( فى طريق العودة، شعر ( جاد الله ) بسخونة فى رأسه برغم برودة الجو.. كان طوفان الأفكار يهدر فى داخله اختلطت الحدود فى رأسه بين كل المتناقضات، ما هذا العالم الغريب الذى من حوله؟؟ قوم يعبدون الله فى إيمان ويقين، وقوم يسرقون وينهبون ويقتلون، دون أن تهتز فيهم شعرة من خوف الله، ومسجونون يغوصون فى الإثم دون مبالاة… وضباط يشمخون بأنوفهم وكأنهم آلهة يأمرون فيطاعون، وحكام لا شريك لهم فى حكمهم لا يسألهم أحد عما يفعلون، ويتحدثون عن الحرية والحب والإخاء والمساواة، وشباب يموتون غيلة من أجل موقف أو رأى ))(34).

إن هذا الاضطراب الحاصل فى رأس جاد الله، يعتبر رغم وضوحه، صورة مصغرة للاضطراب الشامل فى شتى ميادين الحياة، ولو بحثنا عن أسبابه الحقيقية، فإنها لن تتعدى إطار المخططات والوعود الضبابية التى لم تكن تملك ذرة من صدق أو صواب، فكان التردى مال كافة المستويات، تخريب فى الاقتصاد وأجهزة الدولة، خيانات عديدة، تهريب وفوضى فى الإدارات، انحراف أخلاقى وعقائدى فى الأوساط الاجتماعية، واعتقال لكل صوت حر منتقد… ومن ثم فإن الشخصيات التى تحرك أحداث الرواية جاءت صورة صادقة لذلك الوضع المتردى، سيما حين يتم التركيز على الجانب السلوكى باعتباره المرآة الوحيدة التى تعكس بواطن المشاعر وخلفيات الأحاسيس ومكامن الشعور السلبى بالمحيط المتعفن… وفى ضوء ذلك، ندرك أبعاد  التصوير النفسى والاجتماعى لشخصيات

(( جاد الله )) و (( انتصار )) و (( محفوظ )).

فجاد الله يعانى احباطا شاملا يعود إلى فترة خدمته لدى الباشا… ومع الثورة، عشش فى كيانه، كسائر المواطنين، حلم يرنو إلى تغيير الوضعية والتخلص من وطأة الفقر والذل والحرمان… غير أن خيبته تستفحل حين يجد نفسه سجانا يمتلك راتبا يعلن استقالته قبيل بداية الأسبوع الثالث من كل شهر. ويعانى بعد ذلك احباطا فى حياته الزوجية، فلا ينمو فى فؤاده مثقال ذرة من حب لزوجته ميمونة وأولاده الضائعين، وكأن مشاعره قد تكسلت بفعل العلاقات الآلية المهيمنة داخل السجون.. ولعل ذلك يعود إلى الاحباط الأول المتجسد فى الفقر، وغالبا ما تتوتر العلاقات الزوجية والأسرية بسبب ذلك، وقد تتشرذم كما تحكى الوقائع هنا وهناك.

ومع ذلك الاحباط الذى يمارس تدميره فى جسد النفس الإنسانية، يسعى صاحبة إلى حل يطفئ به تلك النار، وفى حالة جاد الله، فإنه يرفض الحل الذى يقدمه له (( حسنين )) صديقه فى الوظيفة، والمتمثل فى العودة إلى الله واتباع الدين القويم (35)، والاستقامة فى النفس والسلوك، وفضل الانخراط فى سلك الشبكة الأرهابية التى تقودها انتصار برفقة محفوظ السجين، وبعد الانخراط، تحددت وظيفته فى أن يخفى (( ماكينة )) تزوير الأوراق المالية فى بيته من أجل أن يديرها فى الوقت المناسب… ولقد تحولت هذخ التجربة فى حياته إلى نوع من الهستريا، حيث اعتقد فيها المخلص الوحيد من ماضيه العفن المشئوم، فارتمى فى أحضانها معلنا طقوسه الغربية الخارجة عن الحدود العقل والتوازن:

(( … الحمقى لا يعرفون الحقيقة، المشكلة معروفة وعلاجها معروف، ثم انحنى على الآلة وأخذ يقبلها ويهمس فى حنان: أنت العلاج… الفقر لا علاج له سوى المال، والجوع لا يذهب إلا بالطعام، والحرمان لا يزيله إلا الشبع.. وليست هناك أقراص أو إبر أو نصائح تشفى العلة.. ))(36).

ومن الطبيعى أن يوافق هذا النهم المادى نهم جنسى، فكانت (( انتصار )) (( ماكينة )) أخرى لإرواء شبقيته فى حضرة اللذة السفلى وطقطقات الكؤوس والرؤوس… ونلاحظ- هنا – أن الروائى يغيب المجال الجنسى فى علاقة (( جاد الله )) بزوجته ميمونة، فى حين يستحضرها بوعى وشمولية فى علاقته بانتصار، وليس لهذه الظاهرة من تفسير سوى أن نؤكد أولا، بأنه يغلف اللحظة الجنسية بعوالم سلبية خارج إطارها الشرعى والطبيعى، ونؤكد ثانيا، بأن ميمونة لن تتلاءم مع جاد الله الذى يغيبها من أجل الانسجام مع انتصار رمز الشذوذ فى شكله الأنثوى، حتى يوافق (( شن طبقة )) كما يقال. وفى وقت الحوار التالى دلالة ذلك:

قالت انتصار:

– (( أتدرى لماذا أحببتك؟؟ ))  قال جاد الله فى لهفة وشوق:

– (( لماذا؟؟ ))

– (( لأنك قذر….. وثصر على عميقة: قذراتك ))(37). ولقد عاشوا فعلا أجواء القذارة والعفونة إلى آخر لحظة فى الزمن الروائى، حيث يتحول الاحباط ويعوض إلى الانتحار جاد وفرار انتصار ومحفوظ إلى المجهول بحثا عن لذة الاستقرار المفقودة، وفى هذا كنابة على استمرار التسيب والفساد فى المجتمع العربى.

وبهذا يكون الروائى قد كشف سلبيات تلك الشريحة الاجتماعية، بالإضافة إلى إدانة المحيط العام والسياسة المحركة له… ذلك المحيط الذى استطاعت انتصار، رغم ضياعها وتعفنها، أن تجسده- كعادة بائعات الهوى فى زماننا- فى كلمات نارية فيها تبرير أعرج، لكنها لا تخلو من دلالات عميقة: (( ممن كنت تظن أن تتعلم الأخلاق؟؟ من الأسطبل؟؟ قصر الباشا؟؟ الوسط الفنى؟؟ السجن؟؟ الجوع؟؟ السياق؟؟ الرعب والكذب والنفاق الذى يعم كل شئ؟؟ (38). )) ولعل هذا كله سيوصلنا إلى أن الكيلانى جد متخصص فى تعرية الواقع الاجتماعى والكشف عن سوءاته المختلفة والمختلة، وهذا اعتراف يتأكد أثناء دراستنا لجميع رواياته، وبالخصوص فى (( ليل وقضبان )) التى دفع بعض القراء الإسلاميين إلى رفضها واتهام صاحبها بالانحراف عن آداب الإسلام المبنية على الحشمة والحياء، وبالأخص، وبصورة شاملة فى روايته (( عمر يظهر فى القدس )).

الهوامش

(1) جورج واطسن: (( الفكر الأدبي المعاصر )) ترجمة: د. مصطفى محمد بدوى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 1980، صفحة 71.

(2) محمد حسن بريغش: (( فى الأدب الإسلامى المعاصر )) ، مكتبة المنار، الأردن، طبعة ثانية، 1985،              صفحة 66.

(3) المكتبة السلفية، الطبعة الأولى، 1986، الدار البيضاء، المغرب.

(4) مجلة الكرمل، عدد 17، 1985، (( جاك دريدا )): (( الاستنطاق والتفكيك ))، صفحة 57.

(5) فى كتابها: (( التحليل السيميوتيقى للنصوص )) (Analyse Semiotique des textes  ).

(6) فى مقالة (( وظيفة الأدب فى المفهوم الإسلامى )) بتوسع. عماد الدين خليل فى شرح أبعاد الوظائف المتعددة للأدب الإسلامى فليراجع فى مجلة الأمة عدد 28، ص 3، 1983.

(6) قد يظن البعض بأن الأستفادة تحيلنا على المنهج التكاملى بالصورة التى تحدث عنها طه حسين.. والحقيقة أنه لا مجال للمقارنة بينهما لأن مصطلح (( التكاملية )) أصبح أسير ظروفه التاريخية والمعرفية.. ومن أجل أن لا تقع فى إسقاط ردئ نربا بأنفسنا عن أن نسمى تلك الاستفادة بهذا الاسم… والمجال- بعد ذلك- مفتوح ومتعدد لبديل مصطلحى يتضمن حمولته الإسلامية وأبعاده المنهجية التى هى وليدة انبعاث الأدب الإسلامى فى العقود الثلاثة الأخيرة.

(7) اقتبسنا تلك الرموز كما وصفتها جماعة (Entrevernes  ) والمقصود بـ (8) معنى الاتصال و بـ (7) معنى الانفصال كما يقصد بالفاعل المنفذ الإجرائى، وبالموضوع مجال التنفيذ الذى لا يشترط فيه أن يكون شخصا أو شيئا أو دورا ويسمون لك الانتقال تحولا أو إنجازا. يراجع مجلة (( دراسات أدبية ولسانية )) عدد 2، ص 1، 1986 حيث ترجمة محمد السرغينى للفصل الأول من كتاب تلك الجماعة صفحة 30- 31.

(8) د. نجيب الكيلانى: (( آفاق الأدب الإسلامى )) مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1985 صفحة 108- 109.

(9) المرجع السابق ص 110.

(10) يستطيع القارئ ملاحظة ذلك فى جل أعماله الروائية، وبالمناسبة يمكن مراجعة ما كتبه الدكتور عماد الدين خليل عن روايته (( عمالقة الشمال )) وذلك فى كتابه (( محاولات جديدة فى النقد الإسلامى )) مؤسسة الرسالة- الطبعة الأولى سنة 1981 صفحة 220 تحت عنوان (( الإسلامية فى رواية عمالقة الشمال )).

(11) الكيلانى رواية (( حكاية جاد الله )) مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1985 صفحة 8-9.

(12) المرجع السايق. صفحة 83- 84.

(13) المرجع السابق. صفحة 52- 53.

(14) المرجع لسابق. صفحة 60.

(15) المرجع السابق. صفحة 78.

(16) المرجع السابق. صفحة 209.

(17) المرجع السابق صفحة 171- 172.

(18) د. نجيب الكيلانى: (( آفاق الأدب الإسلامى )) صفحة 69.

(19) حكاية جاد الله. صفحة 163.

(20) مجلة (( أدب ونقد )) عدد 18- ديسمبر 1985، من مقال (( علاقة الزمان بالمكان فى العمل الأدبي )). د. أمنية رشيد، صفحة 55.

(21) حكاية جاد الله. صفحة 89- 90.

(22) تتانقص نفسية جاد الله فى سلوكه السلبى المضطرب- تاريخيا ونفسيا مع شحصية (( وحشى )) فى رواية قاتل حمزة ويستمر التشابه إلى ما قبل الحلقة الأخيرة، حيث يتم الانكسار والتباعد الكلى مع إيمان (( وحشى )) بالإسلام وتوبته عن انحرافاته، وإصرار (( جاد الله )) على العفوية والتسيب حتى لحظة الانتحار.

(23) انطلاقا من حرص (( باختين )) على مبادئ التعدد اللسانى والهجنة والأسلبة والتعدد الحوارى، فإنه يرى بأن الشعر كان يسعى إلى توحيد اللغات، أى إلى أن يصبح عاملا فى مركزه وتوحيد اللغة، بخلاف الرواية التى نلمس فيها أو تتحقق فيها كل المبادئ المذكورة آنفا ومن ثم فإنه يباين بين الشعر والرواية. يراجع كتابة: ) Esthetique et theorie du Roman ) gallimard- 1978

(24) (( الرواية العربية واقع وآفاق )) دار ابن رشد، بيروت 1981. صفحة 304.

(25، 26، 27) حكاية (( جاد الله )) بالتتابع صفحة 171، 62، 230.

(28) هى (( عصر الشهداء ))، (( أغانى الغرباء )) ، (( نحو العلا )) و (( كيف ألقاك )) .. وأخيرا: (( مهاجر ))

(29) مجلة (( فصول )) مجلد 8، عدد 3، يونيو 1985. محور (( الأدب- الأيدلوجية )) الجزء الأول. مقال: (( المتكلم فى الرواية )) ترجمة: محمد برادة صفحة 117.

(30) للكيلانى رأى دقيق فى مسألة توظيف اللهجات المحلية، ذكره فى بحثه الذى شارك به فى ندوة الأدب الإسلامى بالرياض سنة 1985 ( فى صفحتى 18- 19 من البحث ). ولقد وجدت عنده، من جهة ثانية، ما يمكن أن يقربنا من مفهوم التعدد اللسانى الباختينى، كما نجد فى قولته التالية: (( يرتبط الحوار بالشخصية ارتباطا وثيقا، فمن البديهى أن يكون الحوار متطابقا مع المقدرة العقلية والثقافية للشخصية، ولا يتنافى مع طبيعتها وعواطفها ودرجة نضوجها، وعمرها الزمنى )). صفحة من البحث، ولقد وصل إلى علمى أنه طبع ضمن كتاب يحمل عنوان (( المسرح الإسلامى )) لم أتمكن من الاطلاع عليه لحد كتابة هذا الهامش.

(31) هذا النص ورد مباشرة بعد المقطع التالى: وهرول (( جاد الله إلى الداخل ( بيت انتصار ) وجلس وحده يشرب وأخذ يدندن بعض الأغنيات. ثم توقف عن الغناء فجأة وقال: ومن الضرورى توضيح ذلك حتى يفهم النص فى سياقه الطبيعى.

(32) رواية (( جاد الله )) صفحة 81.

(33) مجلة (( فصول ))، مجلد 4، عدد 1، أكتوبر 1983: (( النقد البنيوى بين الأيديولوجيا والنظرية )).  صفحة 150.

(34) حكاية جاد الله. صفحة 81.

(35) يلاحظ بعض النقاد الإسلاميين أن الكيلانى لا يقدم البديل الإسلامى تقديما شامل الرؤية واضح الدلالة، ويصدق لهذا- حسب اعتقادهم- على (( حسنين )) الذى يمثل، لدى الكيلانى، البديل الإسلامى لعالم (( جاد الله )) الدنس، حيث قصر ذلك فى السلوك الأخلاقى والتعبدي، ولم يتجاوزه إلى مجالات الأخرى التى نلمس فيها، بحق، شمولية الإسلام. والذى أراه، والله أعلم، أن الكيلانى لا يعالج فى روايته هاته محيطا ثقافيا أو فكريا ناضجا، وإنما ينغمس فى محيط الفئات الدنيا ممن لا قسط لها فى مجال التعليم والوعى إلا النزر القليل أو دونه، ولا يمكن، بالتالى، أن يأتى حديثهم حاملا لتلك المعانى الضخمة والطروحات العميقة، إذ لو حدث ذلك، فستكون التجربة مسطحة ومبالغة حسب المفهوم الذى يقدمه (( التعدد اللسانى ))، وكيفما كان الأمر، فإن فهم حسنين لشمولية الإسلام، لن يصل إلى ما نجده مثلا عند (( عمر )) فى (( عمر يظهر فى القدس ))، أو عند (( فاطمة )) فى (( عذاء جاكرتا ))،  أو لدى (( عبد القاهر )) فى روايته الأخيرة (( ليالى السهاد ))، حين نشرح تلك الشخصيات، ندرك شمولية الإسلام الذى يقتصرهما على الجانب السلوكى والروحى فى أحسن الأحوال.

(36) حكاية جاد الله، صفحة 108.

(37) حكاية جاد الله، صفحة 173.

(38) المرجع السابق، صفحة 173.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر