أبحاث

مشكلة الاستقراء والعلية بين المسلمين والغربيين: دراسة مقارنة

العدد 57

المقدمة

تعالج هذه الورقة موضوعاً هاماً من موضوعات فلسفة العلم عند مفكري الإسلام وهو الموضوع المتعلق بالتقويم المنطقي للاستقراء من حيث مبدؤه وأساسه في المنهج العلمي، وكذلك ما يتعلق في هذا الجانب من علاقة الاستقراء بالعلية وما تمخض عن ذلك من اكتشافهم لجملة معان أساسية تسجل لهم السبق في مجال فلسفة العلم على علماء أوروبا المعاصرين ومنها:

1.     احتمالية النتائج التي يؤدي إليها الاستقراء، وكونها لا تفيد القطع، ولا تتجاوز نطاق الاحتمال إلى اليقين.

2.     الجمع بين الاستقراء والقياس في وشيجة واحدة.

3.     التخلي عن فكرة الارتباط الضروري بين السبب والنتيجة.

وقد عمدنا إلى تحليل هذه الرؤية العلمية لنصوصها الأصلية عند علماء المسلمين وعلماء أوربا المحدثين والمعاصرين لنقف على مدى السبق الذي حققه مفكرو الإسلام في تأسيس الطريقة العلمية المعاصرة.

وقد حررنا منهج المقارنة ليأتي غير مشوب بشبهة التحيز أو محاولة الربط المتعسف بين منهج علماء الإسلام والنظريات أو الاتجاهات العلمية المعاصرة.

لذلك فقد قسمنا البحث إلى مبحثين أساسيين:

1.     يتناول الأول منها مسألة التقويم المنطقي للاستقراء عند علماء ومفكري الإسلام، مع نظرة مقارنة لعلماء أوروبا المحدثين والمعاصرين.

2.     انصب البحث الثاني على معالجة قضية الاستقراء والعلية باعتبارها محور الحديث المتداول الآن على الساحة العلمية، ومدى ارتباطها بالتفسير المعاصر لظواهر العلم الطبيعي المتعلق (ببنية الذرة، ونظريتي الكوانتم والنسبية وغيرها.).

تمهيد:

يمثل مبدأ الاستقراء Inductionالاتجاه التقليدي في البحث العلمي، وهو المبدأ الذي نصل بواسطته إلى حكم عام ينطبق على جميع الجزئيات أو الحالات المشابهة لما عرفناه، بناء على ملاحظة عدة جزئيات أو عينة من الحالات.

والاستقراء بهذا المعنى من المبادئ التي كان يقبلها العالم – تقليدياً – مستخدماً إياه في البحث العلمي، بدون أن يتوقف عنده لتحليله أو مناقشته.

وهذا المبدأ عند من يشتغل بمنهج البحث العلمي، يعبر عن الطريقة التي كان ينبغي أن تتبع في البحث العلمي، وفي الانتهاء إلى أحكام عامة بناء على ملاحظة عدة حالات جزئية.

أما عند من يشتغل بفلسفة العلم ومناهجه، فهو الذي يتوقف عند هذا المبدأ بغرض تحليله والكشف عن الأساس الذي نعتمد عليه في قولنا إياه، وفيما إذا كان ذلك الأساس علمياً أو فلسفياً أو منطقياً. ولقد كشف ذلك التحليل من وجهة نظر فلسفة العلم المعاصرة عن وجود ثلاث مشكلات على الأقل تتعلق بمعنى الاستقراء في العلم وهي:

1.     مشكلة الطرق الاستقرائية.

2.     مشكلة أساس الاستقراء.

3.     مشكلة مبدأ الاستقراء.

وقد استوعب أصوليو الإسلام وعلماؤه هذه المشكلات الثلاث بتفهم كامل لأبعادها الحقيقية.

1)    فعلى صعيد مشكلة الطرق الاستقرائية، أفاض علماء أصول الفقه في توضيحها وتحديدها تحديداً علمياً دقيقاً عندما تعرضوا لقضية تعليل الأحكام الشرعية، وشروط العلة ومسالكها، فخرجوا بمنهج استقرائي يعالج هذه الطرق الاستقرائية، وسبقوا بذلك علماء أوربا من أمثال بيكون ومل وغيرهم.

2)    أما فيما يتعلق بمشكلتي أساس الاستقراء ومبدا الاستقراء المعلقان، بما يقال عن الاستقراء بوصفه مبدأ أو من حيث الأساس الذي يقوم عليه، وليس في كيفية استخدامه أو تطبيقه، فهاتان مشكلتان تتعلقان في الدرجة الأولى بفلسفة العلوم لا بمنهج البحث فقط.

حيث تتعلق المشكلة الأولى (مشكلة أساس الاستقراء) بكيفية الانتقال من الحكم على ما هو جزئي إلى الحكم على الكلي المتداخل معه.

أو بمعنى آخر: على أي أساس جاء هذا الانتقال والتوقع؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يتوقع أن تكون – للحالات – التي لم يلاحظها مشابهة للحالات التي لاحظها؟ هل مجرد اتصاف عينة من الجزئيات بصفة معينة يبرر لنا الحكم على جميع الجزئيات المشابهة بالصفة نفسها؟ يمكن القول بأن أساس هذا الانتقال من الحكم على البعض إلى الحكم على الكل قائم على عدة فروض في ذهن العالم هي التي تبرر له هذا الانتقال في الحكم أهمها:

1.     التشابه أو التماثل Analogyمن جزئيات النوع الواحد، فعناصر كل نوع متشابهة في خصائصها، وهذا ما يتضح عن التركيب الذري لكل عنصر من العناصر.

2.     اطراد ظواهر الطبيعة بشكل منتظم، يميل بنا إلى القول بأن هذا الانتظام قائم ومستمر في الطبيعة.

3.     كثرة الحالات والأمثلة التي تبدأ منها عملية التعميم. فكلما زاد عدد الحالات أو الجزئيات التي تقع في الملاحظة، كنا أكثر ميلاً إلى أن نجعل الحكم الذي حكمنا به عليها، منسحباً إلى جميع الحالات الأخرى التي سوف نصادفها مستقبلاً.

وقد تنبه الإسلاميون إلى دور هذه الفروض في تبرير التعميم الاستقرائي والتنبؤ العلمي. ولم يقف الأمر بهم عند هذا الحد فقد توصلوا مثل العلماء الأوروبيين المعاصرين إلى أن الانتقال من الحكم على البعض إلى الحكم على الكل، لا يزال محتاجاً منا إلى برهان أو دليل منطقي، وما هو الدليل على أن الاطراد في الظواهر منتظم ومستمر؟

توصل جابر بن حيان إلى أن الاستقراء لا يؤدي إلا إلى نتائج احتمالية فقط وبالتالي فكل التعميمات التي تتوصل إليها بواسطته في العلم، أي القضايا العلمية والقوانين العلمية، هي في نظرة احتمالية (لا تفيد القطع) ولا تتجاوز نطاق الاحتمال إلى اليقين وهو عين ما ذهب إليه لودفيج فتجنشتن أحد فلاسفة العلم المعاصرين على نحو ما سوف نلمسه في ثنايا هذه الورقة.

4.     أما فيما يتعلق بمشكلة مبدأ الاستقراء، وهي المشكلة التي تتعلق بالاستقراء نفسه لا بنتائجه، وبمدى قبوله، كمبدأ صالح للتفكير العلمي فقد وقف منه المسلمون موقفاً علمياً معاصراً يتلخص في الجمع بين الاستقراء والقياس على أساس أنهما عمليتان متكاملتان تتمم الواحدة منهما الأخرى1. كما جمعوا أيضاً بين الاستقراء والمنهج الرياضي الاستدلالي أي بين الاستقراء وبين الاستدلال الرياضي. وذلك ما يتمثل في المنهج الفرضي والعلمي المعاصر. على اعتبار أن الاستقراء بمعناه التقليدي لم يعد كافياً وحده لإقامة النظريات أو التوصل إلى النتائج العلمية2.

أما فيما يتعلق بمشكلة السببية كتبرير علمي لمشروعية المنهج التجريبي فقد يتوصل الإسلاميون إلى المفهوم المعاصر لهذه المشكلة قبل العلماء الأوربيين من أمثال بوير وفتجنشتن ورسل، متخطين بذلك الفهم القاصر لبيكون ومل. فقد تخلوا عن فكرة السببية كمبدأ صالح لإقامة تعميمات العلم، وانتهوا إلى ما انتهى إليه الفلاسفة المعاصرين أمثال رسل إلى القول بأن كلمة سبب لا ترد أبداً في العلوم المعاصرة مثل علم الفلك كما أن علم الفيزياء لم يعد يبحث في الأسباب أو العلل أبداً أو يقف عند فكرة الضرورة في اطراد الظواهر.

وهذه الورقة هي محاولة لإبراز هذه الجوانب السابق إ
لقاء الضوء عليها. وقد عمدنا إلى اختيار جابر بن حيان كنموذج صادق على استخدام وتوظيف هذه الجوانب العلمية في منهجه المتكامل المعبر عن طبيعة المنهج العلمي المعاصر بكامل مواصفاته العلمية، ولما في منهجه من أصالة تعبر عن تكامل النظرة العلمية لمنهج العلم، إلى الحد الذي يتيح لنا القول بأن منهجه هذا لو كتب بلغة العصر لأصبح لسان حال فلسفة العلم المعاصرة..

المبحث الأول

التقويم المنطقي للاستقراء

يعتبر الاستقراء حلقة الوصل بين الوقائع التي نعرفها ونتعامل معها، والظواهر التي نجهلها، وبمقدار ما يمارس الباحث ذلك المبدأ ضمن حقائق معينة يستطيع أن يتكهن بما يمكن أن يأتي به المستقبل المجهول على غرار تلك الحقائق المدروسة بالطريقة الاستقرائية. وعن هذا الترتيب الذهني بالذات ينشأ بناء النظريات وصياغة القوانين، وهذا هو منهج العلم حين يقف متنبئاً عن سلوك الظواهر المجهولة، ولهذا فإن الاستقراء وحده هو الذي يستطيع أن يحقق أي استدلال بالانتقال مما قد امتحناه إلى ما لم نمتحنه، وكل البراهين التي تدلل على المستقبل أو إجزاء الماضي أو الحاضر التي لم تمتحن على أساس التجربة، نسلم بمبدأ الاستقراء3.

إن الإيمان بمبدأ الاستقراء كتبرير للتكهن بالاستدلال على سلوك الظواهر المجهولة يأخذ بنظر الاعتبار مبدا الاطراد في الظاهرة المدروسة، وهو المبدأ الذي يقوم على افتراض «إن المستقبل سوف يشبه الحاضر والماضي إذا اتفقت نفس الظروف المحيطة بظاهرة ما في المستقبل مع تلك الظروف المحيطة بحدوثها في الحاضر والماضي»4.

وعلى هذا الأساس نشأت مشكلة التعميم في الاستقراء، إذاً ما هو التبرير الذي يقوم عليه الاستدلال بواسطة الاستقراء بالحكم على ظواهر المستقبل استناداً إلى الحاضر والماضي، وما هو الدليل على أن سلوك الظاهرة الحالي سوف يواصل مسيره في المستقبل5.

ولقد انعكست هذه المشكلة على تقويم النتيجة الاستقرائية، وكانت وما زالت من المشكلات التي تشغل أذهان أئمة المناهج حول تبرير الاستقراء وما يترتب على هذا التبرير من نتائج علمية.

أولاً: حل أرسطو لمشكلة التعميم.

اعتبر أرسطو أن الاستقراء الناقص ظنياً غير موصل إلى اليقين، إلا أن المشكلة لم تشغل أرسطو فقد استطاع حلها عن طريق اعتبار التجربة أحد مصادر المعرفة والإيمان بقيمتها المنطقية6 ولهذا آلف بينها وبين ذلك الاستقراء الناقص الذي يكون مجرد تعبير عددي عن الأمثلة والأنواع والخروج منها جميعاً بقياس منطقي كامل تتوصل بواسطته إلى العلم بالقضية الكلية، ولهذا المعنى يشير ابن سينا إلى أن «الكائن بالتجربة فكأنه مخلوط من قياس واستقراء، وهو أكبر من الاستقراء، وليس إفادته من الأوليات الصرفة بل بمكتسبات بالحس، وليس كالاستقراء. فإن الاستقراء لا يوقع من جهة التقاط الجزئيات علماً يقيناً وإن كان قد يكون منبهاً، وإما التجربة فتوقع»7.

ومن هنا فإن مشكلة التعميم في منطق أرسطو حلت بواسطة ذلك الائتلاف بين التجربة والاستقراء الناقص والذي يطلق على مجموعهما اسم التجربة بالمعنى الذي صرح به الشيخ الرئيس.

ويتبين من هذا أن مشروعية الاستقراء لم تناقش على صعيد منطق أرسطو ما دامت المشكلة التي يستنبطها الاستقراء قد وجدت طريقها إلى الحل وهذا تأكيد لما أوضحناه سابقاً بأن منهج الاستقراء عند أرسطو يخالف الاستقراء في منهج البحث العلمي لدى الإسلاميين، ففي هذا المنهج بالذات نوقشت جميع المشكلات التي تعترض تطبيق ذلك المنهج وتقديم الحلول العلمية بخصوص الصعوبات الناجمة عن ذلك التطبيق في الظواهر المختلفة.

ثانياً: حل المسلمين لنفس المشكلة:

يمثل الفرض عند علماء المسلمين صيغة علمية محتملة، وأن هذا الاحتمال يقوى ويزداد كلما أيدته المشاهد العلمية، إلا أنه لا يصل بحال إلى مستوى القطع واليقين فالباحث هنا يستنفذ كافة الوسائل للوصول بالفرض إلى أعلى درجة من الاحتمال، بحيث يطمئن إلى أن فرضه العلمي اكتسب قيمة علمية.. وانستمع إلى الحسن بن الهيثم وهو يحدثنا عن عموم الموقف في الفكر الإسلامي فيقول: «لعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي يثلج به الصدر، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحققة التي يزول معها الخلاف وتتم بها مواد الشبهات، وما نحن مع جميع ذلك براء مما هو في صيغة الإنسان من كدر البشرية، ولكنا نجتهد بقدر ما هو لنا من القوة الإنسانية ومن الله نستمد العون»8.

ليس هنا – إذن – يقين مطلق في الفروض العلمية، بل هو اطمئنان نفسي للفرض بسبب اكتسابه درجة كبيرة من الاحتمال نتيجة مطابقته للواقع ضمن معيار التثبت التجريبي، وعندها تبدأ مرحلة التكهن استناداً إلى ما يمتلك الباحث من رصيد علمي للظاهرة المدروسة وهكذا «فالعالم في المقام الأول إنسان يقوم بالمشاهدة، ويحاول بعد ذلك أن يصف بشكل عام ما شاهده وما يتوقع مشاهدته في المستقبل ثم يتقدم ببعض التكهنات بالاستناد إلى نظرياته ويتحرى صحتها بمقابلتها مرة أخرى مع الواقع»9.

وهكذا يحقق منهج البحث العلمي لدى المسلمين عامة ما يصبو إليه المنهج الحديث، وما ذلك إلا بفضل التدبر المتعمق لمتطلبات البحث العلمي لديهم فناقشوا مشروعية الاستقراء بنزاهة علمية الأمر الذي توصلوا من خلاله إلى التقويم الحقيقي لذلك المنهج.

1.    معالجة جابر بن حيان لمبدأ الاستقراء:

يؤكد جابر بن حيان أن تعلق المعارف الثانوية بالأولى ينشأ من اعتبارين، الأول هو طريق الاستدلال، والثاني هو الاستنباط. ولكل من هذين المنهجين في المعرفة الإنسانية أسس وخواص يؤديان لكل واحد منهما، وجابر هنا بصدد مناقشة مبدأ الاستقراء، فمن الطبيعي أن يتناول طريق الاستدلال الذي يؤدي غليه ذلك المبدأ التجريبي، ويثير جابر هنا مشكلة التعميم في هذا المبدأ وكيفية الحكم من المعلوم على المجهول. وهنا يستعير جابر مصطلح علماء الأصول من المتكلمين للتعبير عن محمول تلك المشكلة العامية، فيسمى المعلوم «الشاهد» ويطلق على المجهول «الغائب» ولهذا يقول «إن هذا التعلق يكون من الشاهد بالغائب على ثلاثة أوجه، وهي المجانسة، ومجرى العادة، والآثار»10.

وهكذا يرى جابر أن طبيعة التعميم في الاستقراء تكون من طرق ثلاث:

الأول طريق المجانسة أو التماثل بين الظواهر الحزبية، وطريق مجرى العادة أي الاطراد في الطبيعة والثالث هو الدليل النقلي.

إن ظاهرة التعميم في المجال الأول تتناول دراسة جزء الشئ للتدليل على الحكم الكلي، وإن هذا الجزء الذي يكون مادة الدراسة، هو ما يطلق عليه جابر اسم «الأنموذج» فيستدل على الكل من خلال معرفة خواص «الأنموذج» الذي يدل الكل عليه على اعتبار أن «الكل هو مجموع الأجزاء» ولهذا يرى «إن المجانسة – الأنموذج – كالرجل يرى صاحبه بعضاً من الشئ ليدل به على أن الكل من ذلك الشئ مشابه لهذا البعض»11.

وهنا يعمم الحكم من الجزء إلى الكل بسبب علاقة التماثل والمجانسة، إلا أن دلالة الحكم المعمم هي ليست دلالة ثابتة صحيحة12، ولقد أدرك جابر بوضوح أن الحكم المعمم من الجزء إلى الكل لا يستبطن اليقين أو الصدق المطلق، ولقد ناقش جابر دالة هذا الباب بنظرة عملية معمقة ذلك أن المتكلمين من الأصوليين ذهبوا إلى يقينية هذه الدلالة «أعني أنهم أثبتوا من أجل هذا الشئ الذي هو الأنموذج مثلاً وهو من جنسه شيئاً آخر هو أكثر منه»13.

وهذا الاستدلال عند المتكلمين صحيح – كما يقول جابر – بشرط أن الدليل يتناول الأشياء، فليس هناك ما يدل على وجوب الاضطرار في التعميم، ففي الكون كليات لا أجزاء لها، وهذه لا تخضع هذا الحكم وعليه فغير «مأمون أن يكون هذا الشئ الذي استدللتم به على وجود غيره من جنسه هو كل ما في هذا الوجود من هذا الشئ»14 وبذلك فإن المتكلمين أمام أمرين، فإما أن يبينوا أن جميع الأشياء خاضعة لمفهوم الجزء والكل، وعندها يكون اتدلالهم صحيحاً، «وإذا لم يقدروا على بيان ذلك لم يكن صحيحاً اضطرارياً لكن ممكنا، يجوز أن يكون وأن لا يكون ليس فيه علم ثابت يقين»15.

ونخلص من ذلك إلى أن رأي جابر في الاستدلال بدلالة الشاهد على الغائب أو الحكم على المجهول من المعلوم هو استدلال احتمالي ظني، وأن القول بيقينية هذا الباب لا تقبل إلا إذا تمت البرهنة على أن ذلك المجهول خاضع بنفس مواصفات المعلوم الذي يندرج ضمن مفهوم اجزاء أو أبعاض الشئ، وهذا أمر غير ممكن من الناحية العملية، وبذلك نقبل الحكم المتعلق بهذا اللون من الاستدلال احتمالياً ليس أكثر. وهكذا أدرك جابر بوضوح مدلول صياغة النظرية كما يراها العلم الحديث اليوم، ذلك أن الجسر الموصل بين الوقائع التجريبية والبناء النظري بقوانينها هو الاستقراء فهو الذي «ينقلنا من وقائع نعرفها إلى وقائع نجهلها، هي التي نسميها النظريات»16.

ولهذا فإن طبيعة النظرية صياغة علمية تتعلق بوقائع مجهولة يتم التكهن بسلوكها عن طريق وقائع معلومة، وبذلك اكتسبت النظرية دلالة الاحتمال في إطار هذا التعلق بين الواقع المعلوم والغائب المجهول، ولهذا لم يتحمل الاستقراء أكثر من هذا الحكم، وهذا ما نادى به جابر في القرن الثاني الهجري.

أما الدليل الثاني الذي يناقش به جابر مشكلة التعميم فهو دليل التعلق المأخوذ من «جرى العادة»، وهذا هو مبدأ الاطراد، ويمثل هذا المبدأ دوراً مهماً في مشكلة الاستقراء، وقد احتل موضع الصدارة لدى جميع الباحثين من علماء المناهج على الصعيدين القديم والحديث، ويصرح جابر هنا بان ((استعمال الناس له وتقلبهم فيه ولاستدلالهم به والعمل في أمورهم عليه أكثر من استعمالهم للتعلقين الآخرين))17 والمقصود بالتعلقين الآخرين هنا هما دليل ((المجانسة)) الذي قدمنا القول فيه، والدليل الثالث، وهو دليل ((الآثار))، ذلك أن توقع الاقتران بين ظاهرتين نتيجة لاطرادها عن طريق المشاهدة يوحي للإنسان العادي بالحكم على تلازم ذلك الاقتران كلما حدثا في المستقبل، ولهذا السبب بالذات، أكد جابر أن هذا الدليل ألصق من الدليلين السابقين بذهن الإنسان، حيث يوجد في نفسه ميلاً إلى الأخذ بهذا الدليل بشكل كبير، ولهذا أكد الدكتور زكي نجيب محمود بأن جابر هنا أشار إلى نقطة جديرة بالاهتمام وذلك بتأكيده على وجود ميل في ((النفس إلى توقع تكرار الحادثة التي حدثت، فكأنما الاستدلال الاستقرائي مبني على استعداد فطري في طبية الإنسان، وأنك لترى هذا المبدأ نفسه عند جون ستيوارت مل18)).

لإلا أنه مع وجود هذا الميل نحو توقع الاقتران بين الظواهر نتيجة لاطرادها، فلا يوجد في هذا الدليل ((علم يقيني واجب اضطراري برهاني أصلاً، بل علم إقناعي يبلغ إلى أن يكون أحرى وأولى وأجدر لا غير))19 وأن السبب الحقيقي في اعتبار هذا المبدأ قائم على الاحتمال والظن لاختصاصه ((بالقياس واستقراء النظائر واستشهادها للأمر المطلوب))20 فمن استقراء النظائر وهي بمثابة حالات جزئية يستعرضها الباحث، يعمم الحكم الكلي للظاهرة المدروسة التي دلت عليها تلك النظائر، وليس في هذا التعميم الذي اعتمد تلك الظواهر الجزئية مجالاً للقطع أو اليقين، ولهذا قابل ابن حيان بين هذا المبدأ والعلم البرهاني، والأخير لا يكون إلا يقينياً لأنه يمثل حالة ((الاستنباط الذي تولد به النتيجة من مقدماتها توليداُ يجعلها صريحة بعد أن كانت مضمرة في تلك المقدمات فإذا كانت المقدمات صحيحة لزم بالضرورة أن تكون النتيجة صحيحة كذلك))21.

الاستقراء والاحتمال:

أما الاستقراء فإنه ظني احتمالي، ويزداد هذا الاحتمال قوة كلما زادت الحالات الجزئية المستقرأة، ويقل بقلتها، وبذلك يشير جابر إلى أن ((قوته وضعفه بحسب كثرة النظائر والأمثال المتشابهة))22.

ويستشهد جابر هنا بمثالين للتدليل على قوله، يتناول في المثال الأول الحالة التي يكون الاحتمال فيها ضعيفاً نتيجة لاعتماده على دليل واحد لتعميم الحكم، وهو التعميم القائل بأن امرأة ستلد غلاماً، والدليل الذي اعتمده صاحب هذا التعميم بأن تلك المرأة ((ولدت غلاماً في العام الأول، ولم تكن تلك المرأة ولدت إلا ولداً واحداً فقط))23. أما المثال الثاني فهو الذي يتناول التعميم في اعلى درجة من الاحتمال نتيجة لاعتماده على سلسلة طويلة من الأدلة والقرائن، بحيث تكون كافية لاكتساب التعميم تلك الدرجة العالية من الاحتمال وهو مثال صاحب التعميم الذي يقول بأن ((ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها ويكون بعقبها، فسألناه: من أين لك علم ذلك: فأجاب بأن قال: من قبل إنى لم أجد ليلة إلا وانكشفت عن يوم، فظاهر ألا يكون إلا ما وجدت))24 وهكذا اكتسب التعميم أكبر درجة من الاحتمال كافية لأن تؤدي إلى اطمئنان بسلامة التعميم، إلا أن هذا الاحتمال وإن بلغ هذه الدرجة من الوثوق لا يدلل على العلم الضروري اليقيني، لأن نتيجة الاحتمال هنا أساسها الظن بإطراد الظواهر المتشابهة وليس القطع، ولهذا يقول((ليس في هذا الباب علم يقيني واجب، وإنما وقع منه تعلق واستشهاد بالشاهد على الغائب ليقي النفس من الظن والحسبان، فإن الأمور ينبغي أن تجري على نظام ومشابهة ومماثلة))25 وهذا يعني أن تكرار الحدوث نتيجة لاطراد الظاهرة هو الذي ينمي درجة الاحتمال26 في النفس الإنسانية وجابر في هذا التدليل يشير إلى آخر ما قرره المنهج المعاصر بشأن التعميم الاستقرائي عندما يعالج مشكلة التعميم وعلاقتها بالاحتمال، فمهمة الدليل الاستقرائي في هذا المنهج هي تنمية الاحتمال بدرجة تحقق الإقناع والاطمئنان لطبيعة الحكم المعمم.

ولهذا يقول رسل بصدد اقتران ظاهرتين ((وقصارى ما يمكن أن نأمل الوصول إليه هو أنه كلما كثرت المرات التي يحدثان فيها معاً ازداد رجحان حدوثهما معاً في مرة أخرى. وكلما بلغت مرات حدوثهما معاً حداً كافياً زاد رجحان حدوثهما معاً في المرة الأخرى، حتى نصل إلى درجة اليقين تقريباً، وهذا الاحتمال أو الرجحان لا يصل إلى درجة اليقين المطلق…. وبذلك فالاحتمال أو الرجحان هو كل ما ينبغي أن نسعى في طلبه))27.

ويلعب الاحتمال اليوم دوراً كبيراً في المعرفة العلمية، بحيث أصبح من النظريات ذات التفصيلات المتشعبة الكثيرة: ويواصل جابر مناقشة دليل الاطراد من جانب آخر ليستوفي آخر ما يمكن أن يثار حول هذا الموضوع، فيرى أن نمو الاحتمال في النفس الإنسانية نتيجة لاطراد الظواهر يحسبه البعض علماً يقينياً لم يرق إليه الشك فإنه ((لو حدث في يوم ما من السنة حادث لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث، تأكد عندهم ذلك أنه سيحدث مثله في السنة الثالثة. وإن حدث في السنة الثالثة أيضاً، حتى إذا حدث ذلك مثلاً عشر مرات في عشر سنين لم يشكو البتة في حدوثه في كل سنة تكون من بعد))28.

ويرى جابر أن هذا المعنى من الاطمئنان إلى ضرورة الاطراد قد ينطلى حتى على علماء تشهد الأبحاث لقيمتهم العلمية كما وقع الأمر لجالينوس (130 – 200 م)،.. فإن جالينوس مع تمكنه من العلم وتدربه في النظر قد أخذ مقدمات من هذا الباب على أنها أوائل، وتمثل بها حتى أنه قال في كتابه البرهان: ((إن من المقدمات الأولى في العقل أنه إذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع))29 وينبرى ابن حيان لمناقشة هذه المقدمة التي لا يرى لصحتها أساساً، إلا إذا اعتمدت قضية أولية عقلية سابقة فالحكم على يقينية التعاقب والاطراد يستبطن خطأ إذا اعتمدنا على هذا التعاقب لإصدار الحكم اليقيني. وهنا تنبه جابر إلى أن التثبت من الاستقراء لا يتم بواسطة استدلال استقرائي، لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الدور الذي لا ينتهي إلى نتيجة علمية، فمقدمة جالينوس إذاً خاطئة إلا إذا اعتمد أولية عقلية تقول بأزلية الزمان، وإذا ((لم يصح ذلك فإنه لا يؤثر ان يكون صيف ((يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع))30 وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح ((لأحد أن يدعى بحق أنه ليس في الغالب الأمثل ما شاهد أو في الماضي والمستقبل الأمثل ما في الآن، إذا كان مقصراً جزئياً متناهى المدة والإحساس))31.

وفي هذا النص بالذات تصوير دقيق لدور الاستقراء في التثبت العلمي، لأن تناهي المدة (الزمن) والإحساس (أي الأجزاء) هي من صفات الأشياء التي يتعامل معها الاستقراء، لهذا لا يمكن للاستقراء العلمي أن ينال جميع هذه الأشياء بالتحديد والحصر، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن القطع بيقينية الاستقراء، لأن ذلك يعني رفض وجود الظواهر التي لم يشملها، وهذا أمر غير ممكن من الناحية الموضوعية، فهناك مثلاً كثير من الناس يشاهدون التمساح وحركة فكه الأعلى عند المضغ، ولم يشاهدوا جذب المفناطيس للحديد، فهل يعني هذا نفي وجود هذه الظواهر لأنهم لم يروها. لا سيما وأن ((حال جميع الناس في التقصير عن إدراك أشياء كثيرة في الغائب مخالفاً للشاهد))32.

وهنا يؤكد جابر بأن أشياء كثيرة موجودة تخالف توقعاتنا عنها، لكن ذلك لا يشكل مبرراً لنفيها، ولهذا اكتسب التعميم الاستقرائي لديه الظنية والاحتمال، وكذلك من جانب آخر لا يمكن رفض هذا التعميم المحتمل بمجرد وجود ظاهرة تخالف في وقوعها توقعاتنا عنها، إلا بعد قيام البرهان على تحديد وجودها أو عدمه، ولهذا يقول ((فليس لأحد أن يدفع و يمنع وجود مالم يشاهد مثله بل إنما ينبغي له أن يتوقف عن ذلك حتى يشهد البرهان بوجوده او عدمه))33.

والتوقف هنا بعدم البت القاطع بطبيعة تفسير الظاهرة التي لم تشاهد هو الحد الذي يحققه الدليل الاستقرائي في البحث العلمي لديه وهو الحد الذي لا يتجاوز الظن والاحتمال.

إن هذه النتيجة التي انتهي إليها جابر بن حيان بعد مناقشته مشروعية الاستقراء تشكل سبقاً لرجال المنهج العلمي في العصور الحديثة الذين أوشكوا اليوم منذ ديفيد هيوم – أن يكونوا على إجماع في هذا، حتى لقد أصبح من أبرز الخصائص التي يميز العلم اليوم أنه احتمالي النتائج ما دام قائماً على أسس استقرائية: وأن رجال المنطق اليوم يصطلحون على تسمية هذه المشكلة كلها ((بمشكلة الاستقراء))34.

بقي علينا أن نشير إلى الطريق الثالث من طرق الاستقراء، لديه، وهو طريق الاستدلال بالآثار، والحقيقة أن القسم الخاص بمناقشة هذا الدليل مفقود في رسائله – كما أفاد بول كراوس محقق الرسائل – إلا أنه توجد بعض الشذرات بين اقواله نستخلص منها ما يمكن أن يستدل بها على مقصوده من هذا الدليل فقد عالجنا في نص سابق موقف جابر من دور التجربة في البحث العلمي))35 حيث أكد أن التجربة هي التي ترشده إلى التثبت من الحكم وليس السمع أو القراءة أو النقل.وهنا يصرح جابر بأن الدليل النقلي من الأدلة التي لا يعتد بها، لكن هذا الدليل يؤخذ به إذا وافقته النتائج التي يتوصل إليها من خلال تلك التجارب، ولهذايقول ((وما استخرجناه نحن، قايسناه على أقوال هؤلاء القوم))36.

ولهذا يقبل الدليل النقلي أو شهادة الغير إذا كان مطابقاً لما يتوصل إليه من نتائج في أبحاثه التجريبية، ولهذا يكون القصد من الاستدلال بالآثار ((هو الدليل النقلي أو شهادة الغير أو السماع أو الرواية، أما شهادة الغير فهي شهادة ظنية قد تقبل وقد لا تقبل، وكذلك أنكر من قبل على جالينوس استناده على اقوال الأجداد والآباء، وعلى أقوال المنجمين من مثل أن السماء أو الكواكب على وتيرة واحدة، مطردة إطراداُ عاماً))37.

وجابر في هذا الدليل متأثر بمنهج علماء الحديث الذين وضعوا قواعد الجرح والتعديل لتمييز أنواع الأحاديث تبعاً لوثاقة سلسلة الرواة38. ومهما يكن من أمر فإن نتائج هذا الدليل في الاستدلال العلمي تتصادق مع ما ذهب إليه جابر في تقويمه لطبيعة الاستقراء، الذي ينتهي إلى تعميم احتمالي لا أكثر، وبهذا يؤكد رسل بأن ((الاحتمال أو الرجحان هو كل ما ينبغي أن نسعى في طلبه)) وهذا يعني أن جابراً قد تنبه إلى ما توصل إليه العلم اليوم في حقيقة البحث العلمي.

وبعد أن أقام جابر بن حيان الاستقراء على أسس الاحتمال والظن أصبح هذا المفهوم لدى علماء المناهج من المسلمين معياراً في الحكم على طبيعة القانون العلمي الذي يعتمد الاستقراء أساساً في صياغته، وتبدو هذه النزعة بوضوح لدى علماء وفلاسفة المسلمين أمثال ابن الهيثم وابن سينا انطلاقاً من تقويهم لحقيقة الاستقراء. يقول الشيخ الرئيس ((والجزئي إذ علم وجود حكم عليه بالإيجاب أو السلب كان ذلك ظناً بالقوة، بالكلي الذي فوقه إن كان المعلوم حكماً في بعض الجزئيات، وذلك بالاستقراء الناقص))39. وهكذا لا يؤدي الاستقراء الناقص إلا مفهوم ((الظن بالقوة)) وأن تعبير الشيخ الرئيس عن دور الاستقراء بأنه ظن بالقوة ينطوي على المفهوم الحقيقي لمعنى التكهين أو الاحتمال الذي يحمله الباحث عن طبيعة الظاهرة، وأن هذا التكهن لا يمكن أن يرتفع إلى مستوى اليقين لأن ((الاستقراء لا يوقع من جهة التقاط الجزئيات علماً كلياً يقينياً))40 وعليه فإن البناء النظري المترتب على تقصي الظواهر الجزئية لا يحكم عليه بالعلم اليقيني41، لأن التحقق العلمي لا ينصب إلا على ظاهرة منفردة حسية أما صياغة النظرية فإنه مفهوم عقلي اعتمد على تلك الظواهر الجزئية في مجال التعميم، وبذلك أصبح دور الاستقراء لدى الشيخ الرئيس في ذلك البناء منبهاً فقط على صياغة ذلك التعميم42.

وشبيه لهذا المعنى ما أكده الفيلسوف رسل بقوله ((فنحن نعرف المبادئ العامة في حالات التقائنا بالتجارب الجزئية التي تمثل تلك المبادئ ما بينها من ارتباط.. ولذلك فإننا إذ نسلم بأن كل معرفة تبعثها وتسببها التجربة نرى مع ذلك أن بعض المعارف ((أولى)) بمعنى أن التجربة التي تحملنا على التفكير فيها لا تكفي على صحتها، ولكن التجربة تقتصر على توجيه اهتمامنا اليها، حتى لنرى صدى تلك المعرفة من دون أن نحتاج إلى برهان نستمده من التجربة))43.

ومن هنا فإن هذا التعميم غير خاضع إلى ما تخضع إليه الظواهر الجزئية في مجال التحقيق وبهذا التحديد بين الظواهر الجزئية والعناء النظري المعمم على أساسها يكون ابن سينا قد أدرك بوضوح واقع البناء العلمي للنظرية. يقول جون كيمني ((مفتاح التحقق من النظريات هو أننا لا نتحقق منه البتة، ذلك لأن ما نتحقق منه هو المرتبات المنطقية للنظرية، فالتحقق هو عملية التأكد من أن نا قد تكهنا به هو في الواقع كذلك ولما كنا لا نستطيع سوى مشاهدة حقائق منفردة فإن علينا أن نتحقق من المترتبات لنظرية ما وليس النظرية العامة بالذات))44.

وإذا كان الاستقراء عبارة عن ((عملية تشكيل النظريات بالاستناد إلى قرائن المشاهدة45 فهذا ما أورده الشيخ الرئيس في معرض مناقشته لتبرير الاستقراء باعتبار التعميم الناتج عن الدليل الاستقرائي لا يكسب سوى مفهوم التكهن أو الرجحان، ولهذا ((تنتمي دراسة الاستدلال الاستقرائي إلى نظرية الاحتمالات. إن كل ما تستطيع الوقائع الملاحظة أن تفعله هو أن تجعل النظرية محتملة أو مرجحة ولكنها لا تجعلها ذات يقين مطلق))46.

ونخلص من ذلك إلى أن واقع الاستقراء في البحث العلمي لدى الإسلاميين لا يتجاوز حدود الاحتمال أو التكهن وأن لهذا المفهوم الدور الأساسي في بناء العلم وصياغة النظريات، ومن هذا المنطلق بالذات أسهم العلماء الإسلاميون في إثراء المعرفة العلمية ولم يحقق العلم اليوم ما حققه من نتائج في هذا المجال، إلا لأنه أخذ بالمفهوم الدقيق لقيمة الاستقراء وهو المفهوم الذي نادى به علماء وفلاسفة الإسلام من قبل، وعليه فقد أصبح الاحتمال اليوم ((يلعب دوراً كبيراً في المعرفة العلمية واطراح لاحتمال معناه القضاء على العلم))47.

وبهذا المعنى من التحليل والتفسير لطبيعة الدليل الاستقرائي يكون الإسلاميون قد استوعبوا طبيعة المشكلة إلى حد كبير وعالجوها بما يتناسب ومعطيات عصرهم.

ثالثاً: موقف الأوروبيين من مشكلة التعميم في الاستقراء:

أول من أثار المشكلة من الفلاسفة الأوربيين، الفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيوم (1711 – 1776 م) حيث أنكر اليقين المطلق للنتيجة الاستقرائية أو القضية التجريبية العامة، أو بمعنى آخر شك هيوم في قيمة القضية الاستقرائية من الناحية الموضوعية وفسر الاستدلال الاستقرائي بوصفه عادة ذهنية بحتة48.

أما ثاني من أثار هذه المشكلة وحاول أن يقدم لها إجابة منطقية فهو الفيلسوف الانجليزي «جون ستيوارت مل» (1806 – 1873 م) الذي آمن بأن الاستقراء يؤدي إلى نتائج يقينية49 على عكس ما أثبتته النظريات العلمية المعاصرة فيما بعد والتي تتفق والاتجاه الأول الذي أرساه علماء المسلمين ومن بعدهم ديفيد هيوم.

وفي ذلك يقول الدكتور محمود زيدان «وصف هيوم النتيجة العامة للاستقراء بأنها احتمالية.. وترك للقرن التاسع عشر أن يفهم تصور الاحتمال فهماً أدق، وأن يبحث المنهج الاستقرائي من جديد على ضوء ذلك التصور للاحتمال»50.

ديفيد هيوم David Hume

ينطلق هيوم في موقفه من الاستدلال الاستقرائي بوصفه عادة ذهنية استناداً إلى نزعته التجريبية وموقفه من قضايا الواقع الموضوعي، فلقد ميز هيوم بين نوعين من القضايا، القضايا الرياضية والمنطقية من جهة، والقضايا الموضوعية من جهة أخرى، حيث اعتبر القسم الأول من القضايا صادقة «صدقاً مطلقاً لا استثناء فيه، هو أن نقيضها مستحيل، أو أنه لا يتصور نقائض تلك القضايا، والمثلث والمربع، أو العدد والمساواة، والضرب والطرح، والإضافة، فإننا نجد أن القضايا السابقة تلزم لزوماً ضرورياً عن تلك الطائفة من التعريفات، ولا يمكن تكذيبها. القول بأن القضية المنطقية أو الرياضية ضرورية هو القول بأنها مستنبطة استنباطاً صحيحاً من مقدماتها»51.

أما النوع الثاني من القضايا فهي القضايا المتعلقة بالوقائع وهذه القضايا يتوقف صدقها على التحقق التجريبي لها «ومعيار هيوم لتمييز القضية التجريبية من النوع السابق ذكره من القضايا هو أنه يمكننا تصور نقيضها، أي أن نقيضها ليس مستحيلاً أو أن صدقها وعدم صدقها يستويان في الإمكان»52.

ولقد تسائل عن المبرر الذي يؤدي إلى الاعتقاد بأن الحاضر والماضي يشبهان المستقبل بالنسبة لمثل هذا النوع من القضايا المتعلقة بالواقع وما هو المبرر الذي يؤدي بنا إلى القول بأن «الشمس سوف تشرق غداً» ويجيب هيوم بأن المبرر للاعتقاد وبهذه القضية هو تكرر الشروق لمدة طويلة مما كون عادة عقلية تتوقع تكرر الحادثة في الغد قياساً على الماضي، وليس هناك من دليل منطقي لهذا التبرير «وإنما هو تبرير سيكولوجي يمكن اكتشافه بتحليل موسع لنفس علاقة العلة والمعلول التي كانت تشكل الأساس لاستدلالاتنا الخاصة بأمور الواقع»53

وهكذا يشكل الاطراد نزوعاً نفسياً لدى الإنسان العادي يتوقع تكرار الحدوث في المستقبل على غرار الماضي والحاضر، وليس هناك من برهان قبلي يمكن تقديمه لتبرير مبدأ الاطراد «إذ لا تعرف كيف تكون مقدمات ذلك البرهان، ولا يمكننا إثبات المبدأ بالخبرة الحسية، إذ أن أي محاولة للإثبات هي بمثابة وقوع في الدور، أي تسلم بما يزيد إثباته»54.

وإلى هنا لم يكن هيوم قد جاء بشئ جديد عما وجدناه عند جابر بن حيان55 فإن ظاهرة الميل النفسي لتوقع حدوث الظاهرة نتيجة لتكرار وقوعها أمراً أفاد ابن حيان في معرض مناقشته لدليل الإطراد، وأما ما قرره هيوم من أن مبدأ الاطراد «إذ لا تعرف كيف تكون مقدمات ذلك البرهان، ولا يمكننا إثبات المبدأ بالخبرة الحسية (التجربة) فهي مسألة أثارها جابر ايضاً من أن الاستقراء لا يمكن التثبت منه بواسطة استدلال استقرائي، وهي النقطة التي أخذها على جالينوس – كما مر بنا في البحث – قبل قليل»

لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بالنسبة لهيوم، فانطلاقاً من نزعته التجريبية التي ترى عدم قبول أي قضية غير مستمدة من التجربة الأمر الذي يؤدى لصاحب النزعة التجريبية في حيرة أمام ظاهرة الاستقراء «فإما أن يكون تجريبياً كاملاً، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية أو القضايا المستمدة من التجربة، وعندئذ لا يستطيع القيام باستقراء ويتعين عليه أن يرفض أية قضية عن المستقبل، واما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذ يكون قد قبل مبدأ غير تحليلي لا يمكن استخلاصه من التجربة، وبذلك يكون قد تخلى عن التجريبية، وهكذا تنتهي التجريبية الكاملة إلى القول أن معرفة المستقبل مستحيلة»56

ومن هنا فإن هيوم لا يرى حتى إثبات الاحتمال للنتيجة الاستقرائية لأن تعامله مع الوقائع يكون على أساس المفهوم التجريبي، يجعل حساب الإحتمال عاجزاً عن تنمية احتمال التعميم على أساس الاستقراء57.

وبذلك انتهت التجريبية التي نادى بها هيوم إلى عدم إمكان المعرفة وإنكار التنبؤ بالمستقبل، نتيجة لإقصاء العقل من دور القدرة على التعميم.

ولهذا لم تسفر المحاولة التي أثارها هيوم عن حل لمشكلة الاستقراء فنقده للمشكلة «أدى إلى الانتقال من التجريبية إلى اللا إرادية، وهو ينادي فيما يتعلق بالمستقبل بفلسفة للجهل تقول أن كل ما أعرفه هو انني لا أعرف شيئاً عن المستقبل»58.

ومن المعلوم أن الاستقراء هو أداة المعرفة العلمية للتنبؤ والتكهن بظواهر المستقبل، وبذلك تكون التجريبية التي مثلها هيوم قد أفرغت تلك المعرفة من أدائها، ولهذا خرجت بالشك.

جون ستيوارت مل John Steuart Mill

أما الاتجاه الثاني في هذه المدرسة فهو الاتجاه الذي مثله جون ستيوارت مل، الذي آمن بأن الاستقراء يؤدي إلى نتائج يقينية، ولقد انطلق مل في نظرته إلى الاستقراء من إيمانه بمبدأ الاطراد في الطبيعة، وهو المبدأ الذي فسره وفي تصوره للعلية لاعتقاده أن «لكل حادثة علة وأن الوقائع يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً علياً، وأن العلية تحكم ظواهر العالم الطبيعي»59 وعلى الرغم من أن مل كان لا يرى لمبدأ الاطراد ضرورة منطقية، إذ من الممكن أن يتصور كذب القضية القائلة «لا اطراد في الطبيعة»60 إلا أنها لا تكون مناقضة لذاتها «وليس هنالك من سبيل للإتيان باستنباط تكون نتيجته أن الحوادث مطردة، لأننا لا نعلم كيف تكون صورة مقدمات ذلك الاستنباط. يقول مل: لإنه بالرغم من أننا لم نصل إلى الاطراد باستدلال إلا أننا نعتقد بصحته»61.

ولهذا راح مل يلتمس أساساً متيناً لتبرير هذا المبدأ فانتهى إلى أن الاستقراء هو أساس هذا المبدأ «ولا يرى مل في ذلك دوراً، ذلك لأننا لا نقدم برهاناً على الاطراد وإنما نبرره فقط. ومعنى أن الاطراد قائم على الاستقراء أن تبرره الخبرة الإنسانية أي ملاحظاتنا اليومية تؤكده وتدعمه»62.

وهكذا أراد مل أن نخلص لنزعتهالتجريبية فانتهى إلى تبرير يعتمد الخبرة الإنسانية العادية عن ظاهرة التتابع والاطراد بين الحوادث وهذا المعنى لا يخرج عن المعنى الذي أثاره جابر بن حيان من أن الميل النفسي هو الذي يؤدي بالإنسان إلى الإيمان بضرورة الاطراد، وهو أمر لا يقوم أي برهان على دعمه أو تأييده إلا أن مل اعتمده للتدليل على اعتقاد بمبدأ الإطراد.

ونستطيع بموازنة يسيرة أن نتبين الفارق الكبير بين النتائج التي انتهت إليها المدرسة التجريبية في مناقشتها لمشروعية الاستقراء، وبين النتائج التي حققها المفكرون الإسلاميون في هذا الموضوع، فلقد تنبه الإسلاميون إلى دور الاستقراء في البحث وحدوده العلمية، وبذلك استطاعوا مناقشة مشكلاته والخروج منها بنتائج إيجابية.

والنقطة التي ارتكز إليها الإسلاميون في تبرير مشروعية الاستقراء هي إيمانهم بقدرة العقل على التعميم عن طريق الدليل الاستقرائي.. ولم يقصروا نتائج بحثهم على معطيات التجربة فقط، كما هو الحال عند الفلاسفة التجريبيين، ولهذا آمنوا بمبادئ منطقية خارج حدود التجربة، ولقد سجلوا سبقاً علمياً في هذا المجال على مستوى الطريقة العلمية، ولهذا علق «رسل» على طبيعة التعارض بين العقليين والمدرسة التجريبية حول طبيعة المعرفة بقوله «وقد أصبح في الإمكان في الوقت الحاضر أن نحكم بشئ من المشقة على صدق أو كذب هاتين المدرستين المتعارضتين فيجب أن نسلم للأسباب التي ذكرناها آنفاً بأننا على معرفة بمبادئ منطقية لا يمكن البرهنة على صحتها بالتجربة ذلك لأن كل برهان يفترض صحتها حقا، وقد كانت هذه النقطة أهم نقطة في المناظرة، وكان العقليون على صواب فيها»63.

الاتجاه اللاحتمي في العلم المعاصر:

لم يكد يبزغ فجر القرن التاسع عشر حتى ظهر ما يسمى «بأزمة ميكانيكا نيوتن» ومن ثم بدأت الثقة تضعف في مبدأ الحتمية العام، أو ما يسمى بمبدأ الحتمية الآلي أو الميكانيكي Mechanical determinismفالعالم أو الكون لم يعد مع بداية القرن العشرين – بسيطاً على نحو من الأنحاء التي كان يظن أنه عليها من قبل إذ بدأ – منذ ظهور ميكانيكا الكم Quantum mechanice  تفسير جديد لظواهر العالم والكون، مختلف عن التفسير الآلي القديم اختلافاً جذرياً64.

واتجه العلماء إلى القول باللاحتمية (الاحتمال) ورفض كل تحديد مسبق لما في العالم من ظواهر، حين تم الكشف والتوصل إلى ظواهر لا تقبل التفسير في ضوء القوانين الحتمية الثانية وذلك بناء على التطور العلمي في مجالات:

1.    بحوث الغازات:

حيث ثبت أن حركة جزئيات الغازات تتطلب في رصد حركتها طبقاً لقوانين نيوتن كتابة عدد لا حصر له من المعادلات تستغرق كتابتها ملايين السنين.

لذلك اتجه الفيزيائيون المعاصرون إلى ضرورة حساب سلوك مجموعات جزئيات الغاز بحسب قانون الاحتمال65

2.    بحوث بنية الذرة (الالكترونات):

كشفت هذه البحوث عن جزئيات صغيرة جداً في المادة ذات سرعات بالغة بحيث لا تنطبق عليها قوانين الحركة النيوتونية التقليدية، وهذه الأجسام الصغيرة جداً هي الالكترونات Electrons.

وسلوك هذه الالكترونات في الحركة لا يمكن أن تخضع لتحديدات الميكانيكية الكلاسيكية التي تصيغ قوانين حركة الأجسام في قوانين تقوم في مضمونها على محددات أساسية هي اتجاه الحركة وسرعة الجسم وعجلة السرعة.. إلخ ومن ثم يمكن تحديد موقع أي جسم في لحظة زمانية معينة.

والالكترون في حركته لا يمكن أن يخضع بأي حال من الأحوال لهذه المحددات الأساسية السابقة فقد يكون له موضع positionأو قد تكون له سرعة velocityلكن لا يمكن أن يكون له موضع وسرعة معاً بأي معنى دقيق من هذه المعاني يقول برتراند رسل «إن حركة الالكترونات تقوض الفيزياء التقليدية التي تعتمد على حتمية فكرتي الموضع والسرعة. فأنت لا ترى الالكترون إلا حين ينبعث منه الضوء، وهو لا ينبعث منه الضوء إلا إذا كانت حركته على شكل قفزات Jumpsسريعة. ولذا فإن عليك، لكي ترى أين هو الالكترون، أو أين موضعه، أن تجعله يقفز إلى موضع آخر وبالتالي يكون قد ترك المكان الذي حاولنا أن ننسبه إليه. وهكذا يكون من المحال التوصل إلى تحديد مطلق بالنسبة لمكان أو موضع الالكترون»66.

تلك الأمثلة وغيرها كثير، تقوم كشاهد على رفض المعاصرين لمبدأ الحتمية في الفيزياء الحديثة والمعاصرة. والاتجاه إلى الاحتمال والترجيح الاستقرائي بدلاً من التحديد والتحتيم في علم اللامتناهيات في الصغر، الأمر الذي جعل هايزنبرج67 ينتهي إلى القول بأن الفيزياء النووية لا تخضع لمبدأ الحتمية في تفسيرها وخاصة فيما يتعلق بحركة وسرعة الجزئيات اللامتناهيات في الصغر في الذرات ومن ثم فقد اقترح مبدأ آخر يصلح للاستخدام بالنسبة لظواهر هذا العالم الفيزيائي المتقدم وهو مبدأ اللاحتمية Indeterminismبدلاً من مبدأ الحتمية Determinism.

نخلص مما سبق إلى: إن الاستقراء عومل في الفكر الإسلامي على أساس إمكانية العقل ودوره في بناء النظرية العلمية، بعد ممارسة الدليل الاستقرائي، فأعطى لهذا الدليل الصيغة الحقيقية ضمن ذلك البناء النظري باعتباره ترجيحاً لتفسير الظواهر لا أكثر، ولقد أشار العلم اليوم بأن هذا التفسير يشكل حلاً حاسماً لمشكلة الاستقراء فالواقع «أن تفسير الأحكام التنبؤية بأنها ترجيحات تحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الاستقراء ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد، أو حتى أفضل ترجيح متوفر لدينا، وهذا برهان يمكن الإتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية»68.

وبذلك تدبر المسلمون طبيعة المشكلة، وعالجوها ضمن مفهومهم عن ظاهرة الاطراد والتعاقب، وهذا المفهوم يقوم على فكرة أعمق في المسألة، وهي فكرة العلية «لأنه إذا كانت مشكلة الاطراد تختص بمسألة الضمان للانتقال من الحالات الجزئية إلى وضع القانون العام، فإن مشكلة العلية تختص بمسألة المبدأ الذي تقوم عليه فكرة المنهج التجريبي»69.

ومن هنا فإن فكرة العلية تعتبر مشكلة ثانية تدرس على صعيد بحث مشكلة الاستقراء، ذلك أن تصور مبدأ العلية هو الأساس الذي تبرر بواسطته نظرية الباحث في الاطراد. وهكذا يبدو مدى التداخل بين حقيقة المشكلتين وما زالت هاتان المشكلتان تحتلان موضع الصدارة في مناقشة مشكلة الاستقراء، ولها في الأبحاث العلمية والفلسفية اليوم مذاهب ونظريات، سنلقي الضوء على بعض تفصيلاتها.

(المبحث الثاني)

(الاستقراء والعلية)

تقوم مشروعية التبرير العلمي للمنهج التجريبي على أساس فكرة العلية Causalityبين الظواهر المستقرأة. وذلك لأن مهمة العلم في هذا المجال اكتشاف حالة الاطراد بين تلك الظواهر70، ومسألة الاطراد هذه تتحدد طبيعتها في ضوء التصور الفكري لمفهوم العلية.

ولقد تدبر المسلمون واقع العلية بين الظواهر وتفهموها بقدر أدى إلى إعطاء نتائج علمية مثمرة في ميدان البحث العلمي، وفسروا القوانين المختلفة وفقاً لهذا التصور. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموقف والنتائج التي انتهى إليها موقفهم التجريبي بصورة خاصة وهذا ما يحدد تصورهم الواقعي عن علاقة الاستقراء بالعلية.

الضرورة العقلية للعلية:

تدرس العلية عادة على مستويين يمثل الأول المفهوم العقلي لها وتصور العقليين لطبيعة العلية، بحيث آمن جميع العقليين بمبدأ العلية وأنها ذات ضرورة منطقية لا يمكن أن تختلف النتيجة عن أسبابها ضمن هذا التصور، أما المستوى الثاني فيتمثل في فهم التجريبيين للعلية، فهي عندهم على مستوى الاستقراء ذات ضرورة تجريبية أو نفسية ولكنها ليست منطقية، كما فهمها الاتجاه الأول، الذي يرى وجود رابطة ضرورية يتبع بها المشروط الشرط، ويقارن الدكتور زكي نجيب محمود بين المفهومين بقوله «إن الضرورة التي يتبع بها المشروط الشرط تؤلف ما يمكن أن نسميه بالسببية الميتافيزيقية، وهي التي تجد فيها أن الترابط الضروري بين السبب والنتيجة يمكن معرفته معرفة أولية عن طريق تحليل التصورات، أي أن معرفته لا تتوقف على التجربة التي لا تكشف إلا عن العلاقات العرضية وحدها. أما التصور التجريبي للسببية فهو عكس هذا التصور الميتافيزيقي فبدلاً من الرابطة الضرورية بين السبب والنتيجة تجد أن العلاقة بينهما حادثة أو عرضية تماماً. وإذا كان التصور الميتافيزيقي يميل نحو الوحدة وراء الكثرة فإن التصور التجريبي يتجه نحو الكثرة فالأول يهتم بهوية السببية والثاني يهتم بالتتابع البسيط»71.

والحقيقة أن الاهتمام الأول بهوية السببية ودراسة علاقة العلة بالمعلول، يعود إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي فصل القول في طبيعة العلل وأنواعها وضرورتها وهذا أكد على أربعة أنواع من العلل وأنواعها وضرورتها وهذا أكد على أربعة أنواع من العلل هي العلة المادية والعلة الصورية والعلة الغائبة72.

ولقد امتد تأثير أرسطو في مفهومه هذا عن العلة إلى كثير من فلاسفة العصور الوسطى حتى فجر العلم الحديث والفلسفة الحديثة73.

وليس المهم في بحثنا هذا هو التحدث عن العلية في مجالها الأول – إذ أننا سنفرد لها بحثاً خاصاً بإذن الله – أقصد الفهم لهذا المبدأ، بقدر ما يعنينا دراسة الجانب الآخر، وهو مفهوم العلية على مستوى الاستقراء وتدبر الإسلاميون بطبيعة هذا المفهوم، والنتائج التي حققوها ضمن حدود هذا المنهج.

وأول مشكلات الاستقراء هي مشكلة التعميم نتيجة لاستقراء جملة حالات جزئية في ظاهرة معينة بغية تفسير سلوكها المتكرر في المستقبل، وذلك بتأمين حالة الاطراد في الظاهرة. والحقيقة أن مهمة العلم – كما يقول برتراند رسل- هي ((أن يكشف حالات الاطراد))74، ثم يصادر بعد ذلك إلى صياغة القانون الذي يعبر عن سلوك الظاهرة بعد تحديد حالات الاطراد وتأمينها من الناحية التجريبية وأن مفهوم العلية هو الإسم الذي أطلق للتعبير عن ظاهرة الاطراد75 التي تخضع لها الظاهرة نتيجة للتابع المستمر، ولهذا يقال في مثل هذا التتابع إن الحادثة السابقة هي السبب، والحادثة التالية هي النتيجة))76 وفهم التتابع بهذا التتابع بهذا الشكل ينطلق من الإيمان بالمبدأ القائل بأن لكل حادثة سبباً.

نظرة المسلمين للعلية:

لقد نظر الإسلاميون للعلية في هذا التتابع بأساليب مختلفة حسب طبيعة الموضوعات التي عالجوها، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن علماء ومفكري الإسلام عاملوا العلية في هذا الجانب باعتبارها العلاقة بين الأشياء لا العلية بمعناها العقلي – أي كمبدأ – ومن هنا أدرك ((بعض مفكري الإسلام اختلاف مبدأ السببية عن القواعد أو المبادئ المنطقية الضرورية))77.

وبذلك ميز الإسلاميون بين العلية باعتبارها مبدأً عقلياً ذا ضرورة منطقية وبين العلية بمفهومها التجريبي الذي يعبر عن العلاقات السببية بين الأشياء، وأن لهذه العلاقة طبيعتها وخصائصها وحقائقها حسب طبيعة الظاهرة المدروسة ويعتبر الإسلاميون هذه العلاقة بشكل خاص وعبروا عن مفهومها بطريقة تنسجم والواقع الموضوعي لهذه العلاقة فليس هناط ضرورة منطقية تخضع هذه العلاقة، يقول الفارابي ((قد يظن بالأفعال والآثار الطبيعية أنها ضرورية كالإحراق في النار والترطيب في الماء، والتبريد في الثلج، وليس الأمر كذلك، لكنها ممكنة على الأكثر لأجل أن الفعل إنما يحصل باجتماع معينين، أحدهما يهيئ الفاعل للتأثير، والآخر يهيئ المنفعل للقبول فمهما لم يجتمع هذان المعنيان لم يحصل فعلاً ولا أثر البتة، كما أن النار وإن كانت محرقة فإنها متى لم تجد قابلاً متهيئاً للاحتراق، وكذلك الأمر في سائر ما أشبهها. وكلما كان التهيؤ في الفاعل والقابل جميعاً أتم، كان الفعل أكمل، ولولا ما يعرض من التمتع في المنفعل لكانت الأفعال والآثار الطبيعية ضرورية))78.

وهكذا عبر النص عن طبيعة العلاقات بين الأشياء، وان هذه العلاقة لا تعبر بأي حال عن ضرورة الاطراد في وقوعها، ونص الفارابي هذا بمثابة اعتراض على من يذهب إلى أن جميع الأفعال ضرورية، وأن اطرادها يتميز بضرورة منطقية حتمية، وبذلك ميز الفارابي بين تلك الظواهر التي تمتاز بضرورة الاطراد، وهي الظواهر التي يكون فيها الفاعل والقابل بصورة متكاملة وفي هذه الحال فقط يكون الاطراد ضرورياً، أما بغير هذا الشرط – أي شرط تكامل الفاعل والقابل – فلا يمكن تصور تلك الضرورة، ولهذا أشار إخوان الصفا أيضاً إلى تفاوت العلماء في كيفية اطراد العلة في معلولاتها79.

ولمدرسة الإمام الصادق الدور الأول في نقد مفهوم العلية، وتقرير طبيعة الاطراد منها، ولهذا أعلنت أنه ليس كون الأشياء باضطراد من الطبيعة.

موقف جابر من ظاهرة الاطراد في الطبيعة:

ليس هناك إذن ضرورة منطقية تخضع لها الطبيعة في سلوك ظواهرها، فمن الممكن أن تزول أحياناً لأعراض تعرض لها))80 وبذلك لا ضمان لمسألة إطراد العلة في معلولاتها في هذا الجانب. ثم جاء دور جابر بن حيان فتناول ظاهرة الاطراد بدراسة علمية شاملة حيث خصص لبحثه الدليل الثاني من أدلته في الاستقراء وهو دليل ((جرى العادة)) ومن الواضح أن هذا الدليل يبحث عن طبيعة التتابع بين الأشياء ولقد أرجع ابن حيان توقع اطراد التتابع لدى الإنسان العادي إلى إحساس وميل سيكولوجي خالص81 وعليه فإن الاعتقاد المترتب على ضرورة التتابع مرده إلى ميل أة ترجيح نفس، وليس هناك ما يبرهن على هذه الضرورة سوى ذلك الميل، وهذا بطبيعته لا يشكل حجة أو دليلاً على الاعتقاد والإيمان بضرورة التتابع ولهذا ((فليس لأحد أن يدعى بحق أنه ليس في الغالب الأمثل ما شاهد في الماضي والمستقبل الأمثل من الآن))82.

وبذلك يؤكد جابر عدم اتخاذ الظاهرة الراهنة دليلاً لاطراد المستقبل على غرارها، ولقد انطلق جابر بن حيان في فهمه هذا لطبيعة الاطراد من تدبره لواقع العلاقات السببية بين الأشياء والظواهر المستقرأة، ذلك لأن التتابع الراهن لم يمس الحالات التي لم تلاحظ في الماضي أو في المستقبل، وعليه فإن الحكم على تلك الحالات مجرد ترجيح، لذا يعطي جابر تفسيراً محدداً للقانون العلمي، فإنه مهما كان متيناً في تفسيره فهذا لايعني مطابقة تامة لجميع الظواهر بما فيها ظواهر الماضي والمستقبل، فمن المحتمل وقوع ظاهرة أو ظهور حالة لا يستطيع القانون العلمي أن يقدم لها تعليلاً متكاملاً يتجاوز حدود الواقع إلى ظواهر المستقبل، وهذا التفسير لواقع القانون مستند لدى جابر إلى أصل نظرته إلى الدليل الاستقرائي وعلاقته بالظواهر أو العلاقات التي تحكمها، ذلك لأن الاستقراء العلمي لا يمس سوى (النظائر) الجزئية ليتخذ منها منطلقاً للتفسير الكلي83 وأن هذا التفسير عبارة عن وصف ظاهرة معينة، وليس هناك من إطار حتمي يوجه هذا التفسير لعدم الإحاطة التامة بتفاصيل أسبابها وعللها، وبذلك يؤكد الفارابي أن هذا النوع من الظواهر لا يمكن إخضاعها لتفسير حتمي صارم وذلك لعدم معرفة أسبابها بصورة دقيقة84.

اقد فهم هذا المعنى لدى الإسلاميين على مستوى القوانين الفلكية والقوانين الطبيعية والميكانيكية، وهو معنى الاطراد في وقوع الحوادث وبذلك يكون فهم الإسلاميين بطبيعة العلية على هذا النحو يمثل نقداً لمفهوم العلية لدى أرسطو الذي ربط أشياء الطبيعة وفق نظام علي لا يمكن أن تتجاوزه85 بل إن فهم جابر بن حيان بالذات لطبيعة العلية وتفسيرها وفق مفهومه عن الاطراد من الظواهر وكونها ميلاً أو ترجيحاً نفسياً ليس غير، يشكل سبقاً للفيلسوف دافيد هيوم في نقده للعلية – وهذا ما نراه فيما يأتي – كذلك يكون جابر قد سبق الإمام الغزالي في نقده لهيوم العلية الذي أرجع الاعتقاد بهذا المفهوم إلى ظاهرة ((جرى العادة)) بين الأشياء لا أكثر86 وهو المعنى الذي لمسناه عند جابر قبل قليل.

ومهما يكن من أمر فإن الإسلاميين قد آمنوا بأن هذا الصنف من القوانين لا يخضع لمبدأ العلية الصارم وليس هناك مبرر علمي يحتم سريان التفسير العلي لسلوك هذا الصنف من الظواهر الطبيعية.

القوانين العلية:

ومن كل ذلك تبيين أن الإسلاميين استبعدوا التفسير السببي من جميع القوانين، فلقد أدركوا من جانب آخر أن قسماً كبيراً من هذه القوانين لا يمكن تفسيره خارج مفهوم الترابط العلي، أي أن هذا النوع من القوانين تسوده، ظاهرة الانتظام والجريان في مستوى واحد، وهذا ما عبروا عنه بمفهوم الاطراد أو التتابع المستمر بين الأسباب ونتائجها، ولقد تجلى هذا القسم من القوانين في حقول علم الطب والعلم الطبيعي، وضمن هذا القسم من القوانين تتجلى ظاهرتان تفسر من خلالها طبيعة هذه القوانين:

1.    الظاهرة الأولى، وتسمى بمبدأ الانتظام، وهو المبدأ الذي يذهب إلى تفسير هذه القوانين وفق نظام وعلاقات مترابطة، وليس هناك من شذوذ أو أعراض يمكن أن تخضع لها هذه القوانين، وأن مبدأ الانتظام هذا ارتبط بمبدأ السببية الذي يربط حوادث وظواهر العالم الخارجي في هذا الحقل من القوانين.

2.    الظاهرة الثانية، وتسمى بمبدأ السبية: وهو المبدأ الذي يعتمده الباحث العلمي في تفسير ضعيف القانون، بحيث لا يمكن الركون إلى حقيقة ذلك التفسير إلا بعد تأكيد ظاهرة، النتيجة السببية في جميع العلاقات التي ترتبط بها هذه القوانين ولهذا يقول ابن سينا بأن ((لكل تغير حال وثباته سبباً وأن الأسباب كما هي))87.

وإن التفسير الذي يعتمد مبدأ السببية لهذا النوع من القوانين يسهم وبشكل كبير في إثراء المعرفة العلمية ونموها، وإن طرح التفسير السببي هنا إقصاء للمعرفة واستبعاد لإسهامها في المنفعة، يقول الرازي ((إنا لما رأينا لهذه الجواهر أفاعيل كثيرة نافعة لا يبلغ عقولنا معرفة سببها الفاعل ولا يحيط به، لم نر أن نطرح كل شئ، لا تدركه وتبلغه عقولنا، لأن في ذلك سقوط حل المنافع عنا88 وهذا إدراك كامل لدور التفسير السببي والترابط العلي في تقدم المعرفة العلمية، ولقد استند الإسلاميون في التفسير السببي لهذه الظواهر إلى ظاهرة الاطراد التي يخضع لها الحدثان بشرط أن يكون هذا الاطراد خاضعاً لمعيار التثبت والتجربة89 على خط طويل فالترابط بين النتيجة وسببها لا يحصل بالاتفاق والعرض، وإنما يجب أن يتم ذلك من خلال التكرار الطويل لحدوث الظاهرة، ويضرب ابن سينا مثلاً لهذا المعنى بقوله ((مثل أن يرى الرائي أو يحس الحاس أشياء من نوع واحد يتبعها حدوث فعل وانفعال، فإذا تكرر ذلك كثيراً جداً حكم العقل أن هذا ذاتي لهذا الشئ، وليس اتفاقاً عنه فإن الاتفاق لا يدوم. وهذا مثل حكمنا أن حجر مغناطيس يجذب الحديد، وأن السقمونيا تسهل الصفراء))90.

ولهذا تكون النتائج تابعة لأسبابها ضمن مفهوم التتابع المستمر، وعليه ربط الإسلاميون التفسير السببي بهذا النوع  من الاطراد وصاغوا قوانينهم وفقاً لهذا التصور عن الترابط العلي بين الحدثين، وفي ضوء هذا المعنى بالذات يترسم الحسن بن الهيثم منهجه العلمي مشيراً إلى هذا النوع من القوانين بقوله ((ونبدأ في البحث باستقراء ما يخص الموجودات وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات ونلتقطباستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا تتغير وظاهره لا يشتبه من كيفية الإحساس91. ويقول بن الهيثم بأن هذا الاطراد ((ظاهر لا يشتبه)) إشارة واضحة إلى استبعاد حالة الشذوذ التي يكون عليها هذا الاطراد، وهذا المعنى هو الذي يؤكده المنهج العلمي اليوم ذلك أن ((مهمة العلم أن يكشف حالات الاطراد مثل قوانين الحركة وقانون الجذب التي ليس لها شذوذ إلى الحد الذي تمتد إليه تجاربنا وقد كان نجاح العلم في هذا نجاحاً بارزاً، وإننا لنسلم بأن حالات الاطراد هذه بقيت صحيحة حتى الآن))92 والمعنى ذاته أكده جول لاشيليه (1832 – 1918م) في بحثه عن الاستقراء الذي قدمه عام 1871م والذي انتهى من خلاله إلى أن الاستقراء يقوم على أساس مبدأ مزدوج هو: مبدأ العلل التفاعلية ومبدأ العلل الغائبة، والأول يقول إن الظواهر تكون سلاسل فيها وجود السابق يعلى وجود اللاحق، والثاني يقول إن هذه السلاسل تكون بدورها نظماً فيها فكرة الكل تعين (وتحدد) وجود الأجزاء))93.

لقد اتخذ الدليل الاستقرائي في البحوث الطبية والطبيعية المختلفة ظاهرة التعليل مقياساً في التوصل إلى صياغة الحكم. ولهذا يرى الباحث أن جمع موضوعات الفلسفة الطبيعية التي خصصها الإسلاميون لدراسة الأجسام من حيث حركتها وسكونها قامت على دراسة أنواع القوى التي تؤثر في طبيعة الحركة والسكون، وكان تحديد القوانين العلمية يتم بموجب تلك العلاقة بين القوة المؤثرة وسلوك الأجسام94. ولقد تجلت ظاهرة تطبيق العلية في الاستقراء لدى ابن الهيثم في بحوثه الطبيعية95. واتخذت البحوث الطبية الطريقة نفسها في التوصل إلى الأحكام والقوانين الطبية المختلفة96.

مشكلة أساس الاستقراء:

وهكذا يكون الإسلاميون قد آمنوا بضرورة التفسير العلي على مستوى الاستقراء في هذا الحقل من القوانين وهنا تعترض في الدليل الاستقرائي عقبة علمية في التدليل على العلة الحقيقية التي تعتمد في التفسير العلي، ذلك أن مجرد تعاقب الحدثين لا يدلل على ضرورة ارتباط العلة بالمعلوم بصورة ضرورية، فإن عملية التدليل على العلة تتجاوز مسألة الارتباط إلى طبيعة الارتباط ونوعيته، وفي سبيل ذلك لا بد من فحص نوع العلاقة في حالات متعددة في حالة ظهورها أو عدمه ومقدار الترابط بين العلة والمعلول، وبذلك فإن تفسير الاستقراء علياً يستلزم امتلاك الدليل الاستقرائي للتفسير السببي لأن التفسير السببي للاستقراء هنا هو الذي يسمح بالتعميم، وأما بدون ذلك فلا يمكن القيام بأي تعميم في تلك القوانين التي تفسر تفسيراً علياً عن طريق الدليل الاستقرائي.

يضاف إلى ذلك التأكيد على معرفة السبب الحقيقي الذي يفسر الظاهرة أي البرهنة على الرابطة الضرورية بين السبب والنتيجة فقولنا إن الماء يغلي بسبب ارتفاع درجة حرارته يعني أن درجة الحرارة هنا هي العلة الحقيقية لغليان الماء، وبدون التأكيد على هذا اللون من الارتباط لا يمكن تشخيص السبب الحقيقي لحدوث الظاهرة فإذا كان التفسير العلي لا يمتلك حالة الضرورة بين الحدثين فمن الممكن افتراض أي سبب آخر غير درجة الحرارة في مثال غليان الماء. وهنا تجب البرهنة على أن السبب الحقيقي يستمر اقترانه بظاهرة حدثت في المستقبل وهذا يعني وجوب التأكيد على الاطراد المستمر بين الحدثين دون حدوث حالة شاذة لذلك الاطراد ويمكن أن نستنتج مما تقدم أن مشكلة أساس الاستقراء مشكلة التفسير العلي للدليل الاستقرائي تستبطن ثلاث مسائل:

الأولى: امتلاك الدليل الاستقرائي للتفسير السببي.

الثانية: التدليل على طبيعة السبب الحقيقي والارتباط الضروري بين الحدثين.

الثالثة: البرهنة على الاطراد المستمر بين الحدثين كلما حدثا في المستقبل.

وبذلك فإن تحقيق هذه المسائل بجموعها هي التي تسمح للباحث في صياغة القانون الذي يعتمد الدليل الاستقرائي، وعليه فلا بد من ضمان علمي يبرهن على امتلاك الدليل الاستقرائي لهذه الأسس.

والحقيقة أن أول من جابه المشكلة على صعيد الفكر الإسلامي هم الأصوليون من الفقهاء، فلقد أدرك هؤلاء أنه لا يمكن القيام بأي تعميم على صعيد الأحكام الفقهية المستقرأة إلا بعد استخلاص العلة الحقيقية لطبيعة الظاهرة الفقهية، ولهذا مثل البحث في العلة لديهم مركز الثقل في منهج القياس الأصولي واستطاعوا أن يخرجوا بجملة قواعد تؤمن لهم التدليل على حقيقة العلة.

قواعد وشروط العلة عند الأصوليين:

وضع الأصوليون قواعد وشروطاً عدة لمعنى العلة، وسوف نأتي على قسم من هذه الشروط بما يتوافق مع طبيعة الموضوع الذي نعالجه عن علاقة العلة بالاستقراء.

فلقد عالج الأصوليون شروط العلة باعتبارها تمثل المنهج العقلي لديهم، وتنحصر الشروط المنطقية للعلة عندهم في أربعة أوصاف نستعرضها كما يلي:

الشرط الأول: ((أن تكون مؤثرة في الحكم، فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة، هكذا قال جماعة من أهل الأصول، ومرادهم بالتأثسر المناسبة.

قال القاضي في التقريب، معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب كل ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون سواها، وقيل معناها إنها جالية للحكم ومقتضية له))97.

وهذا يعني أن العلة الحقيقية هي العلة التي توجب الحكم، إذا لا يمكن معرفة الحكم دون أن نشخص وبطريقة تغلب على الظن أن الموجب الحقيقي له هو تلك العلة ((وإذا كان الشئ المهم في نظر ((مل)) هو اكتشاف العلاقة السببية وانتظامها بين الحالات والظواهر))98 وذلك يعني أن الأصوليين قد تنبهوا إلى ضرورة العلاقة العلية رغم اختلافهم مع ((مل)) في طبيعة تلك العلة، إذ أن ((مل)) لا يشترط في العلة أن تكون مؤثرة ((وإنما يكفي في إحداث المعلول أي فرض في أي ظروف فرض، ولإذا كان الأصوليون يبتعدون عن ((مل)) في تعريف العلة فإن بيكون كان أقرب إلى مذهبهم، إذ العلة عنده ليست مقدماً فحسب ولكن هي مقوم الشئ99.

الشرط الثاني: أن تكون العلة وصفاً منضبطاً، بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا لحكمة مجردة لخفائها، فلا يظهر إلحاق غيرها بها))100

من حيث كون القياس الفقهي يقوم على التعليل لإعطاء الحكم، وهذا يتأتى عن طريق تدبر العلة ليصبح شمول القضية الجديدة بالحكم السابق، ولهذا اشترط الأصوليون أن تكون العلة واضحة ((وإلا لم يكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى أو مساوية له في الخفاء))101 وهكذا يكون وضوح العلة في الأصل هو المبرر الذي يعتمده الأصولي في نقل الحكم إلى الفرع، وإلا تعذر شمول الفرع بحكم الأصل نتيجة لخفاء العلة وعدم تحديدها، إن هذا التدبر العلمي لمفهوم العلة – كما يقول الأستاذ الدكتور النشار – رحمه الله – لا نجد له مثيلاً في المنطق الحديث102.

الشرط الثالث: ((أن تكون مطردة)) أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقص والكسر، فإن عارضها نقص أو كسر لطلت))103 فالعلة هنا تدور مع الحكم وجوداً، فكلما وجدت العلة وجد الحكم، وهذا شرط رئيسي في البحث العلمي، فقد تناوله ابن سينا في شرط التجربة التشخيصي العلة الحقيقية عن طريق اطرادها. وهذا المعنى ذاته هو الذي مهد له فرنسيس بيكون في منهجه الجديد بقائمة الحضور Table of presenceوحتى لأولى القوائم الثلاث التي يحتويها منهجه في الأورجانون الجديد وتتمثل هذه القائمة في إحصاء الأجسام الساخنة بغية اكتشاف طبيعة الحرارة التي افترضها من خلال منهجه104 ثم جاء بعده جون ستيوارت مل فجعله من أول القواعد التي تبناها في طرحه لتحقيق الفروض، وهي طريقة الاتفاق
أو التلازم في الوقوع Method of pgreennt105ومفادها أنه: إذا كان لحالتين أو أكثر لظاهرة قيد البحث ظرف واحد مشترك فقط، فإن الظرف الذي تتفق فيه جميع الحالات هو العلة (أو المعلول) للظاهرة المعطاة106.

الشرط الرابع: ((أن ينتقي الحكم بانتقاء العلة، والمراد انتفاء العلم أو الظن به، إذ لا يلزم من عدم الدليل عدم المعلوم))107

وهذا يعني أن العلة الحقيقية للحكم هي العلة التي يدور فيها الحكم، فكلما اختفت تلك العلة اختفى حكمها، وهذا يميزها عن علل أخرى عرضية قد يوجد الحكم بوجودها إلا أنها لا تدور معه عدماً، وبذلك يمتنع تعليل الحكم بأكثر من علة ولهذا قالوا ((لايلزم من عدم الدليل عدم المدلول)) وسنجد أن هذا الدليل يأخذ به ابن سينا أيضاً ويطبقه في شروط التجربة لديه وهو يشبه ما أثبته بيكون في قائمة الغياب في منهجه العلمي، حيث أخذه بعد ذلك ((مل)) وجعله الشرط الثاني من شروط تحقيق الغرض وهو طريقة الاختلاف أو التلازم في التخلف108 Melhod of differenceوتنص على أنه إذا وجدت حالة تحدث فيها الظاهرة قيد البحث وحالة لم تحدث فيها، واتفقت الحالتان في كل شئ إلا في شئ واحد فقط حدث في الحالة السابقة كان الظرف الذي تختلف فيه الحالتان وجده دون سواه علة أو معلولاً لهذه الظاهرة أو جزءاً من علتها109.

وهذه هي شروط العلة لدى الأصوليين تبين لنا منها طبيعة وعمق المنهج الذي مارسه الأصوليون، ولقد أتموا هذا المنهج في الجانب الآخر من بحثهم عن طريق التعرف على العلة، وهو البحث الذي خصصوه لمسالكها، وفي هذا الموضوع بالذات تتجلى أهمية الأصوليين ومانتهم في منهج البحث العلمي.

مسالك العلة:

أولاً: السبر والتقسيم: وهو في اللغة الاختيار،ومنه الميل الذي نختبر به الجرح فإنه يقال له المسبار، وسمي هذا به لأن الناظر يقسم الصفات وتختبر كل واحدة منها هل تصلح للعلية أم لا وفي الاصطلاح هو قسمان: أحدهما يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر، والثاني أن لا يكون كذلك، وهذا هو المنتشر، فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن المقيس وإبطال ما لا يصلح منها بدليله))110.

وكثيراً ما يرتبط معنى السبر بالتجربة111 ولقد قصد الأصوليون من ذلك حصر الأوصاف التي يمكن أن تكون علية للحكم ثم يحذف بعضها لقيام الدليل على عدم صلاحيته112 فالعملية هنا ليست أكثر من عملية تصنيف وترتيب ثم حذف للأوصاف التي لا تشكل دليلاً على العلة الحقيقية للحكم، وبالتالي تخلص إلى التعرف على العلة بواسطة هذه العملية وهذا ما أجمع عليه قسم كبير من الأصوليين بأن هذه القاعدة تشمل مرحلتين، الأولى في الحصر ويمثلها التقسيم والثاني الإبطال ويمثلها السبر113.

وعلى ذلك فقد أخذ الأصوليون بمفهوم السبر والتقسيم باعتباره طريقة لجمع الشواهد والأوصاف المتعلقة بالحكم ومن ثم استخلاص العلة الحقيقية عن طريق إسقاط كافة الأوصاف التي لا تتعلق بتلك العلة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه القاعدة تبناها فرنسيس بيكون في منهجه ي طريقة الحذف Method of Eleminationالذي مارسها خلال قوائمه الثلاث. حيث تمثل قائمة الحذف وهي القائمة الثانية في منهج بيكون القائمة التي دون فيها الأجسام التي لا تظهر فيها الحرارة وتسمى أيضاً بقائمة الغياب114.

وقد جاء بعده جون ستيوارت مل فأشار إلى نفس الطريقة في بحثه وأسماها طريقة البواقي Resedue، وهي الطريقة التي بها تعرف علة شئ ما في حادثة تعددت فيها العلل115.

والحقيقة لأن هذا المسلك أخذ طريقه في البحوث العلمية لدى المسلمين وطبقوه في موضوعات مختلفة، فقد تناوله جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأشاروا إليه بالتصريح من خلال منهجهم العلمي.

ثانياً: الطرد والدوران: الطرد هو مقارنة الوصف للحكم في الوجود دون العدم116 وأما الدوران فهو مقارنة الوصف للحكم وجوداً وعدماً117 ففي الدوران يوجد الحكم في جميع صور وجود الوصف وينعدم بإنعدامه ولهذا أطلقوا عليه الطرد والعكس118 ويضرب الأصوليون مثلاً للدوران بالتحريم للخمر مع السكر فإن حرمة الخمر ناتجة عن كونه مسكراً فإذا ارتفع عنه الإسكار انتقى الترحيم، وهكذا دار التحريم مع الإسكار وجوداً وعدماً119.

ولقد ربط الأصوليون بين الدوران والتجربة بشكل وثيق ولذلك اعتبروا ((الدورانات عين التجربة وقد تكثر التجربة فتفيد القطع، وقد لا تصل إلى ذلك ويقول رضا النيسابوري الدورانات الدالة على علية المدار كثيرة جداً تفوق الإحصاء وذلك لأن جملة كثيرة من قواعد علم الطب إنما تثبت بالتجربة وهي الدوران بعينه120.

إلا أن الأصوليين لختلفوا في قيمة الدوران العلمية فمنهم من ذهب إلى أنه يفيد اليقين، ومال آخرون إلى القول بأنه يفيد الظن121 ومهما يكن من أمر فإن هذا المسلك لا يختلف عن طريقة الجمع بين الاتفاق والاختلاف التي نادى بها جون ستيوارت مل فيما بعد ومؤدها أنه ((إذا وجدت حالتان أو أكثر تحدثفيهما الظاهرة ويتفقان في أن لهما ظرفاً واحداً مشتركاً ووجدت حالتان أو أكثر لم تحدث فيهما هذه الظاهرة وليس لهما شئ مشترك إلا غياب ذلك الظرف فإن الظرف الذي تختلف فيه مجموعتان في الحالات هو المعلول أو العلة أو جزء ضروري من علة الظاهرة))122.

هذا هو المنهج الذي أعاد وجوده الأصوليون، وبنظرة فاحصة لقواعده نتبين القيمة العلمية ويبرز الإبداع والتفوق الذي أحرزه الإسلاميون في مجال البحث العلمي.

وبناء على ما تقدم يمكن توضيح المستويات التي عالج من خلالها علماء وفلاسفة الإسلام الدليل الاستقرائي وعلاقته بالعلية بالنقاط التالية:

1.    أدرك بعض مفكري الإسلام أنه لا يمكن إخضاع كافة القوانين للتفسير العلي، ولهذا كانت قوانينهم في هذا الحقل وصفية دون التأكيد على محتواها العلمي.

2.    آمن الإسلاميون بضرورة التفسير العلي للقوانين العلمية في حقول علم الطبيعة والطب. وبذلك اعتبر مفهوم الاطراد الذي لا يقبل الشذوذ في هذه الظواهر الأساس الذي تفسر من خلاله.

3.    واستناداً إلى ضرورة التفسير السببي لهذا الصنف من القوانين، فمن الضروري اعتماد الدليل الواضح الذي يشخص العلة الحقيقية التي تلازم الظاهرة في كل حدوث لها، ومن هنا وضعوا الشروط والقواعد المنطقية التي تؤمن لهم النجاح في هذا المجال.

وهكذا يكون الإسلاميون قد تدبروا طبيعة المشكلة ووضعوا الشروط والقواعد المنطقية التي تؤمن لهم النجاح في هذا المجال.

موقف علماء المناهج الغربيين من المشكلة:

والمشكلة نفسها واجهها الفكر الأوربي على صعيد المنهج العلمي والطريقة العلمية.

ولقد نوقشت مفاهيم العلية وصلتها بالدليل الاستقرائي بعد أن بدأ ديفيد هيوم مناقشته لمشكلة العلية وتسجيل ملاحظاته عليها، ولم يكن يهدف هيوم من هذه المناقشة كما يقول الدكتور زيدان123 هو مناقشة الدليل الاستقرائي وصلته بها، وإنما انصبت المناقشة في رأيه – على تصحيح النظرة إلى طبيعة العلية وتفسيرها وفق تصوره التجريبي عن القضايا، وبعدها أخذ فهم هيوم للعلية يتردد على ألسنة الفلاسفة وعلماء المناهج بحيث التزم هؤلاء بوضع ((نظرية في العلية توفق بين آراء هيوم ومعطيات العلم الحديث))124.

ونريد الآن أن نعرف إلى أي حد استطاع هيوم أن يوفق في تفسير الطبيعة العلية والنتائج المترتبة على ذلك التفسير.

لقد عرفنا سابقاً أن العلية اكتسبت لدى العقليين الضرورة المنطقية، وهذا يعني أنها مبدأ قبلي خاضع للتجربة في حين فهمها الاتجاه التجريبي بكونها ذات ضرورة تجريبية أو نفسية لا أكثر، وهذا ما سعى ديفيد هيوم إلى تأكيده من خلال مناقشته للفكرة، ولهذا ((لم ينكر هيوم مبدأ العلية ولم يشك أبداً في أن لكل حادثة علة ولكنه رفض نظريات الفلاسفة السابقين عليه في العلية. لقد رفض أن العلية مبدأ فطري أو تصور قبلي في العقل الإنساني وأعلن أن مبدأ العلية مبدأ تجريبي يستمد قوته من الخبرة الإنسانية. وحيث أنه مبدأ تجريبي فإن الشك فيه ممكن: أي أن مبدأ العلية ليس شبيهاُ بالمبادئ المنطقية أو الرياضية التي يتضمن الشك فيها تناقض الفكر مع ذاته))125.

ومن هنا فسر هيوم العلية وفق تصوره التجريبي، وعليه فإن العلم بالعلة ناتج عن الرابطة السببية المستمدة من الخبرة الحسية بين الأشياء126 ولا يمكن للإنسان مهما أوتي من قدرات عقلية أن يستدل على الرابطة السببية مالم تكن تلك الرابطة قد اقترنت بخبراته الماضية، ولهذا فإنه يضرب لذلك مثلاً بقوله ((فآدم – على افتراض كمال قدراته العقلية – ما كان يستدل من سيولة الماء وشفافيته أنه يختنق به لو غرق فيه، أو يستدل من الضوء والدفء اللذان ينبعثان من النار، أنه يحترق لو وثب فيها ذلك أنه محال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشئ ما ببعضها الآخر، ودون أن تكون هذه وتلك اقترنتا في خبراته الماضية اقتراناً يبرر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك))127.

وهكذا فسر هيوم مفهوم العلية بسبب العادة أو توالي الخبرات الماضية ولهذا يجد الإنسان العادي في إنكاره لهذا المبدأ أو الشك فيه اضطرابه في سلوكه العملي))128.

والذي يبدو من مناقشة هيوم للعلية أنه لم يكن واضحاً في تمييزه بين العلية كمبدأ وبين الرابطة السببية كعلاقات بين الأشياء، فهو عندما نتكلم عن العلية كمبدأ وأنه لا يشك بهذا المبدأ ويؤمن بأن لكل حالة سبباً نراه يسبغ على هذا المبدأ الأمثلة المستقاة من العلاقات السببية بين الأشياء، ليقرر بأنه مبدأ تجريبي مستمد من التجربة والخبرة الحسية، والحقيقة أن هناك فرقاً بين الإيمان بالمبدأ القائل بأن لكل حادثة سبباً وبين الرابطة السببية القائمة بين الأشياء كعلاقات129 فليس من الحق أن يستدل على مبدأ العلية بكونه مبدأً يجريبياً من خلال العلاقات السببية بين الأشياء.

وهنا يكون العقليون أكثر دقة من هيوم في التعبير عن هذين المفهومين ((فالفلاسفة الأرسطيون العقليون يرون أن معرفة الإنسان بأن تمدد الحديد سبباً أو لتبخر الماء سبباً هي معرفة عقلية بطبيعتها وليست مستمدة من الحس والتجربة. وأما معرفة الإنسان بأن سبب التمدد في الحديد هو الحرارة وأن درجة معينة من الحرارة هي سبب التبخر فليست معرفة عقلية ولا يحاول هؤلاء الأرسطيون أن يسبغوا عليها طابعاً عقلياً قبلياُ بل هي مستمدة من الخبرة الحسية))130.

ومع عدم التمييز الجدي في موقف هيوم بين مبدأ العلية ومبدأ السببية بين الأشياء، فإن السياق هنا لم يكن في تاريخ الفكر الفلسفي لمناقشة مفهوم العلية، فبموازنة يسيرة بين موقف هيوم من العلية وموقف جابر بن حيان تبين أن هيوم لم يأت بشئ جديد في نقده لهذا المفهوم على المستوى التجريبي، بما جاء به جابر، بل أن جابراً كان واضحاً تماماً في تمييزه بين مبدأ العلية الذي يكتسب الضرورة المنطقية باعتباره فيلسوفاً عقلياً131 وبين العلاقات (السببية بين الأشياء التي انتهى من تحليله لها على أن الإيمان بها جاء نتيجة للعادة أو ترجيحاً نفسياً لا أكثر)، كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل.

وعلى ذلك فإن موقف هيوم من العلية نتيجة انزعته التجريبية من عموم القضايا يؤدي إلى إقصاء النتيجة الاستقرائية132 وبالتالي استبعاد إمكان التنبؤ بالمستقبل، وهكذا فإن الإيمان بفكرة هيوم عن القضايا التجريبية ويضمنها فكرة الاطراد التي رتب على أساسها مفهومه عن العلية، يؤدي إلى نتيجة الاستقراء وبالتالي فإن ((أي توقع بالنسبة للمستقبل)) غير معقول133.

وبذلك افتقد الاستقراء الأساس الذي يعتمده في التعميم، ولهذا المعنى بالذات تنبه الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت مل (1806-1873) فوجد نفسه مضطراً للدفاع عن مبدأ العلية وأنه مبدأ ضروري أن تخضع له كل الظواهر الطبيعية، وإل يصبح الاستدلال الاستقرائي بغير أساس: أساسه أن الطبيعة لابد وأن في اطراد علي، وأن القانون العلمي إنما هو تفسير علي للظواهر134.

ولهذا آمن مل بمبدأ انتظام الطبيعة وأنه مبدأ بديهي او ضروري، لذا تكون غاية الاستقراء هي في اكتشاف العلاقات السببية بين الظواهر، وأن هذا الا نتظام هو المبدأ الأساسي والبديهية العامة للاستقراء.

والشئ الوحيد المهم في نظر مل هو اكتشاف العلاقات السببية بين الظواهر، ولابد لهذه العلاقات من قواعد وأسس تتبلور من خلالها تلك العلاقات لمعرفة الترابط الحقيقي بين العلة ومعلولها لتأكيد اطرادها، لأن الاطراد في نظر مل يستدعي التلازم بين الحدثية مهما تكرر وقوعها في المستقبل، وعن طريق هذا التلازم الضروري بين الحدثية يتمكن الباحث من تعميم الحكم عن طريق الدليل الاستقرائي.

ولهذا لابد من فحص تلك العلاقة وتأمين اطرادها في المستقبل لكي تكون عملية الاستقراء ظاهرة مشروعة وهكذا يكون مل قد واجه المسألة الثالثة من مسائل التفسير العلي للاستقراء وهي المسألة التي تنص على ضرورة البرهنة على الاطراد المستمر بين الحدثين كلما حدثا في المستقبل، وتأمين القواعد تتكفل إقامة ذلك البرهان، فتوصل إلى الوضع قواعده الخمسة المعروفة وهذه القواعد هي طريقة الاتفاق والاختلاف وطريقة الجمع بينهما، وطريقة التلازم في الوقوع وفي التخلف وأخيراً طريقة البواقي – كما أوضحنا.

ورغم أن مل قد سجل في طرقه هذه سبقاً في تاريخ فلسفة العلم على صعيد الفكر الأوربي الحديث135، فقد تنبه إلى هذه الطرق علماء الأصول من المسلمين من قبل وأفاضوا الحديث عن هذه القواعد وخصائصها بالقدر الذي يبرهن على حقيقة العلة وتشخيصها، ولقد تبين لنا الأثر الواضح لهذه القواعد على الطرق التي نادى بها مل فيما بعد.

ومع أن مل قد أخلص في الدفاع عن فكرة الاطراد الضروري بين الظواهر وتأكيده للرابطة السببية بين الحدثين، فإن ذلك لم يثبت أمام الأبحاث العلمية المتوالية التي زعزعت الثقة بقانون السببية، حتى لقد انبرى الكثير من العلماء وخاصة في حقل الفيزياءللدعوة إلى إقصائه وحذفه من مصطلحاتهم136 إلا أنه مع كل ذلك فإنه مشكلة السببية ما زالت إلى الآن يلفها طابع التعقيد ولم تحسم نهائياً في قاموس العلم.

موقف العلم المعاصر من قضية السببية:

رفض كثير من الفلاسفة والعلماء المعاصرين معنى الضرورة في مبدأ السببية.

1.    حلل فتجنشتين مبدأ السببية ويسميه قانون السببية منتهياً إلى أنه ليست هناك ضرورة في هذا المبدأ، سواء كانت ضرورة عقلية أو تجريبية، تبرر ارتباط ما نسميه بالسبب بما يسمى بالمسبب لمجرد أن أحدهما يسبق الآخر أو يتلوه.

وهكذا يخلى فتجنشتين فكرة السببية من معنى الضرورة التجريبي وكذلك العقلي بعد أن أخلاها كانط من قبل من معنى الضرورة التجريبي. واقتصر على الضرورة العقلية المعرفية فيها فقط.

ولقد أقام فتجنشتين رفضه لمعنى الضرورة في السببية على أساس من نظريته في الذرية المنطقية. فهو كان يرى أن جميع الوقائع الذرية مستقلة بعضها عن بعض137 ومعنى ذلك أن وجود الواقعة الذرية قد لا يستلزم وجود واقعة ذرية أخرى، ولا العكس. وهو يعبر عن هذا المعنى بقوله ((إننا لا نستطيع من وجود أو عدم واقعة ذرية ما أ نستنتج وجود أو عدم وجود واقعة ذرية أخرى))138 فكون القلم أزرق اللون مثلاً لا يستلزك مونه على يمين الكتاب أو عدم كونه على المنضدة منتهياً إلى القول بأن ((ضرورة حدوث شئ ما لأن شيئاً آخر قد حدث لا وجود لها فالضرورة لا تكون إلا ضرورة منطقية))139.

2.    كما رفض رسل فكرة الضرورة في السببية مستشهداً على ذلك بموقف العلم المعاصر منها بقوله ((أن العلوم المتطورة والمتفرقة مثل علم الفلك لا ترد فيها أبداً كلمة سبب))140.

وهو يؤكد هذا المعنى نفسه مرة أخرى بقوله ((يبدو لي أن، جعل العلوم الفيزيائية تتخلى عن البحث عن الأسباب أوالعلل، هو أنه لا يوجد في الواقع مثل هذه الأشياء141 وقد دلل برتراند رسل عن أن خضوع العلم للسببية خضوعاً مطلقاً، مستحيل من الناحية النظرية، وذلك لسببين على الأقل:

          أ‌-          إن وجود تتابع بين السبب والنتيجة يقتضي القول بوجود فترة زمنية بينهما تسمح مهما بلغ قصرها – بإمكان وقوع حادث أو وجود شئ يحول دون حدوث النتيجة142 ولذا فالقضية القائلة بأن («أ» يجب أن تتبعها «ب» دائماً) قضية كاذبة، ومن ثم فإن قانون السببية ليس قانوناً كلياً ولا هو قانون ضروري.

       ب‌-       إن القول بأن حادثة أو مجموعة حوادث، هي السبب في ظاهرة ما على سبيل اليقين، قول غير صحيح أو دقيق، لأن وقائع العالم الخارجي وحادثاته ليست على هذه الدرجة من الانفصام أو التبسيط حتى يشار إلى إحداها أو نقتطعها من نسيج الواقع ونقول بأنها سبب في حادثة أخرى أو نتيجة لها. هذا فضلاً عن أن ذلك القول يستلزم منا أن نجري ملاحظاتنا على الكون كله لكي نتأكد من أن شيئاً لم نلاحظه من قبل قد يكون عائقاً لحدوث النتيجة المتوقعة143.

3.    تبين للعلماء والباحثين، مع تقدم العلوم التجريبية بعامة والفيزياء بخاصة، عدم ضرورة تصور كل قانون أو حقيقة علمية، بوضعه أو بوضعها مما يقوم على علاقات سببية أن يكون متضمناً إياها. فليس من الضروري أن تكون كل القوانين أو الحقائق العلمية قائمة على مبدأ السببية.

وهم يتشهدون على صحة ذلك بوجود قوانين وحقائق وتعميمات عملية لا تخضع للتفسير السببي و لا تقوم على أساس مثل: القول بأن «كل الحيوانات الثديية من الفقاريات»، ومثل (سرعة الضوء 000،186 ميلاً في الثانية أو 000،300 كيلومتراً في الثانية)، ومثل (أن الحرارة تنتقل من الجسم الأكثر حرارة إلى الأقل حرارة (القانون الثاني للديناميكا الحرارية The Second Law Of thermo dynamica) الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح الباحثون يفصلون بين تصور السببية، وبين البحث العلمي الاستقرائي، طالما أنه أصبح في مستطلع العلماء الوصول إلى تعميمات تجريبية دون استناد إلى مبدأ السببية.

4.    وهكذا يصبح مبدأ السببية لدى أغلب الفلاسفة والعلماء المعاصرين، مبدأ خالياً من الضرورة، ولذا فهو لا يعبر إلا عن مجرد احتمال إطراد الظواهر والأشياء على النحو الذي وقع في خبرتنا مئات المرات. لأن اطراد طبيعي مهما بلغ من الكثرة، فهو لا يتجاوز مرحلة الاحتمال إلى مستوى اليقين.

وإذا كان العلم المعاصر قد انتهى إلى هذه النتيجة الإجمالية بعد جولة ليست بالقصيرة في ميدان العلوم المختلفة فما أقرب هذا المعنى إلى فهم المسلمين إزاء القانون العلمي وتمييزهم بين نوعين من هذه القوانين استناداً لإلى تفسيرهم حقيقة الدليل الاستقرائي وصلته بمفهوم العلية.

(مصــــــــادر البــحث)

1.    المصادر العربية:

1)ابن خلدون: المقدمة تحقيق د. علي عبدالواحد وافي، طبع دار الشعب، بدون تاريخ.

2)ابن سينا: البرهان من كتاب الشفاء، تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي، القاهرة 1954م.

3)ابن سينا: المنطق من كتاب الشفاء، تحقيق سعد زايد، القاهرة سنة 1964.

4)ابن سينا: القانون في الطب، طبعة بولاق (بدون تاريخ).

5)أرسطو: علم الطبيعة، بارتلمى سانتلير، ترجمة أحمد لطفي السيد، مصر 1935.

6)أرسطو: منطق أرسطو، تحقيق الدكتور عبدالرحمن بدوي، القاهرة 1949.

7)برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الأول، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، مراجعة الدكتور أحمد الأمين ط2 القاهرة 1967.

8)برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث، ترجمة الدكتور محمد فتحي الشنيطي، مصر 1977.

9)برتراند رسل: مشاكل الفلسفة، ترجمة محمد عماد الدين إسماعيل، وعطية محمود هنا، القاهرة 1947.

10)    جابر بن حيان: مختار رسائل جابر بن حيان، نشره يول كراوس، القاهرة 1945م.

11)    جلال محمد عبدالحميد موسى (الدمتور): منهج البحث العلمي عند العرب، بيروت 1972.

12)    جون كيمنى: الفيلسوف والعلم، ترجمة أمين الشريف، بيروت 1965.

13)    الحسن بن الهيثم: المناظر، طبع الكويت 1987م

14)    الرازي (أبو بكر): المرشد أو الوصول، تحقيق ألبير زكي اسكندر مصر 1961م.

15)    رسائل إخوان الصفا: بيروت 1957م.

16)    زكي نجيب محمود (الدكتور): جابر بن حيان، القاهرة 1975.

17)    زكي نجيب محمود (الدكتور): الجبر الذاتي، ترجمة الدكتور إمام عبدالفتاح إمام، مصر 19743م.

18)    زكي نجيب محمود (الدكتور): نحو فلسفة علمية، مص 1958.

19)    زكي نجيب محمود (الدكتور): ديفيد هيوم، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، طبع القاهرة (بدون تاريخ).

20)    سليمان دنيا (الدكتور): الحقيقة في نظر الغزالي، مصر، ط3، 1971م.

21)    الشوكاني (علي بن محمد): إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، مصر 1356هـ.

22)    عبدالرحمن بدوي (الدكتور): مناهج البحث العلمي، القاهرة 1963م.

23)    عبدالفتاح الديدي: النفسانية المنطقية عند جون ستيوارت مل، مصر 1969م.

24)    عزمي إسلام: اود فيج فيجنشتين سلسلة نوابغ الفكر، طبع القاهرة 1967م.

25)    علي سامي النشار (الدكتور): مناهج البحث عند مفكري الإسلام، القاهرة 1967م.

26)    الغزالي، أبوحامد: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، مصر 1955م.

27)    الفارابي (أبونصر): كتاب المجموع، القاهرة 1325هـ

28)    الكندي: رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق د. محمد عبدالهادي أبوريدة، القاهرة 1950م.

29)    لودفيج فيجنشتين: رسالة منطقية، ترجمة د. عزمي إسلام، طبع القاهرة 1968م.

30)    محمد باقر الصدر: والأسس المنطقية للاستقراء، بيروت 1972م.

31)    محمد باقر الصدر: فلسفتنا، بيروت 1969م.

32)    محمد الخضري (الشيخ): وصول الفقه، مصر، ط4 1962م.

33)    محمد فرحات عمر: طبيعة القانون العلمي، مصر 1966م.

34)    محمد علي الجندي (الدكتور): تطبيق المنهج الرياضي في البحث العلمي عند علماء المسلمين، طبع دار الوفاء 1990م.

35)    محمد كامل حسين (الدكتور): طب الرازي، مصر 1961م.

36)    محمود فهمي زيدان (الدكتور): الاستقراء والمنهج العلمي، بيروت 1966م.

37)    محمود قاسم (الدكتور): المنطق الحديث، ومناهج البحث، مصر، 1966م.

38)    مصطفى نظيف: الحسن بن الهيثم، بحوثه، وكشوفه البصرية، القاهرة 1942م.

39)    هانز رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، القاهرة 1968م.

40)    ياسين خليل (الدكتور): منطق المعرفة العلمية: بيروت، 1971م.

المصادر الأجنبية:

1.   Bacon F. Novum organum, Great Books (U.S.A. 1952)

2.   Mill J.S.: Assystem of logic (London, 1963)

3.   Ross D.,. Aristotle (London 1963)

4.   Ross The works of Aristotle (fondon 1946)

5.   Russell B.,.: Analysis of mind (fondon 1945)

6.   Ross D:Mystiecism and logic (fondon 1954)

7.   Russe Scientific onntlook (fondon 1961)

8.   Rydnit: Quantum Mechancs (Moscow Pbl)

هــوامـــــــــش

1)       أنظر بحثنا عن ((المناهج بين النظرتين الأحادية والتعددية)) (من منظور إسلامي)، الذي ألقيناه في ندوة المنهجية في الفكر الإسلامي بجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية (بالجزائر) تحت إشراف المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

2)       أنظر: د. محمد علي الجندي: تطبيق المنهج الرياضي في البحث العلمي لدى علماء المسلمين، طبع دار الوفاء 1990م.

3)       برتراند رسل: مشاكل الفلسفة، ترجمة محمد عماد الدين إسماعيل، عطية محمود هنا، القاهرة 1947م، ص6.

4)       د. محمود فهمي زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي ص 108.

5)       زكي نجيب محمود: نحو فلسفة علمية، مصر 1958 ص 207.

6)       منطق أرسطو 2/464.

7)       ابن سينا: البرهان من كتاب الشفاء، ص 161.

8)       ابن الهيثم (المناظر) المقالة الأولى.

9)       جون كيمنى: الفيلسوف والعلم، ترجمة د. ابن الشريف، بيروت 1965م.

10)جابر بن حيان: مختار الرسائل، كتاب التصريف ص 414.

11)المصدر السابق: نفس الموضع.

12)المصدر السابق: ص 415.

13)المصدر السابق: نفس الموضع.

14)جابر بن حيان: مختار الرسائل ص 417.

15)المصدر السابق ص 417.

16)جورج كيمنى: الفيلسوف والعلم ص 171.

17)جابر بن حيان: مختار الرسائل، ص 419.

18)د. زكي نجيب محمود: جابر بن حيان ص 774.

19)جابر بن حيان: مختار الرسائل ص 419.

20)المصدر السابق، نفس الموضع.

21)د. زكي نجيب محمود: المصدر السابق ص 75.

22)جابر بن حيان: المصدر السابق ص 418.

23)المصدر السابق: ص 419.

24)المصدر السابق نفس الصفحة.

25)جابر بن حيان: المصدر السابق، الموضع نفسه.

26)هذا المعنى هو الذي أفاده الأصوليون من أن القطع في القياس يكون نتيجة لسلسلة طويلة من الجزئيات التي تشكل بمجموعها دليلاً يفيد العلم الكافي، على العكس مما هو عليه القياس المستفاد من آحاد الأدلة التي لا تنهض لقلتها بالدليل القاطع على الحكم التام، ولهذا نشأت فكرة ترجيح سلسلة من الجزئيات على سلسلة أخرى لاشتمال الأولى على اطمئنان نفسي يفيد القطع. يقول الإمام الشافعي بصدد هذا النوع من القياس ((يلزم أن تكون قواعده قطعية وأن قطعيته لا تستفاد من آحاد الأدلة، وإنما تستفاد من استقراء جملة أدلة تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للاقتراف، ومن أحله حتى أقاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب)) أنظر: الشيخ محمد الخضري: أصول الفقه ص 17.

27)برتراند رسل: مشاكل الفلسفة ص 75.

28)جابر بن حيان: المصدر السابق ص 420.

29)المصدر السابق: نفس الموضع

30)نفس المصدر: نفس الموضع

31)نفس المصدر: نفس الموضع

32)المرجع السابق: نفس الموضع.

33)جابر بن حيان: المصدر السابق ص 423.

34)زكي نجيب محمود، جابر بن حيان، ص 83.

35)جابر بن حيان: كتاب الخواص، ص 232.

36)جابر بن حيان: نفس المصدر ص 233.

37)د. علي سامي النشار، منهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 307.

38)مقدمة ابن خلدون: 3/1000.

39)ابن سينا: البرهان من كتاب الشفاء، ص 14.

40)المصدر السابق: ص 161.

41)ابن سينا: المنطق، تحقيق سعيد زايد، القاهرة، 1964م، ص 565 وما بعدها.

42)ابن سينا: البرهان، ص 161.

43)مشاكل الفلسفة، ص 83 وما بعدها.

44)جون كيمني: الفيلسوف والعلم، ص 149.

45)المصدر السابق، ص 170.

46)رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة1968 ص 204

47)د. عبدالرحمن بدوي: مدخل جديد إلى الفلسفة، بيروت 1975م، ص 77.

48)رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ص 83، وأيضاً: د. محمود زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، الطبعة الرابعة 1980م، ص 115.

49)المصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، ص 74.

50)د. محمود زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، ص115.

51)د. محمود زيدان: المصدر السابق، ص 110،111.

52)المصدر السابق، ص 111.

53)الصدر: الأسس المنطقية، ص 96.

54)د. محمود زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، ص 112.

55)د. زكي نجيب محمود، ديفيد هيوم، مصر، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ص72 وما بعدها.

56)رايشنباخ، المصدر السابق، ص87.

57)الصدر، مرجع سابق، ص93.

58)رايشنباخ، المصدر السابق، ص87.

59)د. محمود زيدان، المصدر السابق، ص75، ويلاحظ أيضاً عبدالفتاح الديدي، النفسانية المنطقية عند جون ستيوارت مل، طبع مصر 1969م، ص74 وما بعدها.

60)وبالتعبير المنطقي أن القضية الضرورية أو البديهية هي القضية التي لا يمكن تصور نقيضها، ولما كان من الممكن تصور نقيض القضية القائلة بإطراد الطبيعة فلا تلزم من ذلك ضرورتها المنطقية.

61)د. محمود زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، ص76.

62)رسل، مشاكل الفلسفة، ص83.

63)Rydnil V.,: Quantum Mechanics. Moscow Peace Pubhishers p.14.

64)Op cit: p.17.

65)Russell B.,:Scientific outlook (London 1961) p 96 .

66)فيرنر هيزينرج Werner Heisenbergعالم فيزيائي ألماني ولد عام 1901م ويعتبر مؤسس مذهب (ميكانيكا الكم) لاحظ: د. عربي إسلام: مقدمة لفلسفة العلوم طبع القاهرة 1977م. هامش ص199.

67)رايشنباخ، المصدر السابق، ص212.

68)د. جلال موسى: منهج البحث العلمي، ص50.

69)رسل، برتراند: مشاكل الفلسفة، ترجمة محمد عماد الدين بن إسماعيل، وعطية محمود هنا، طبع القاهرة 1947م.

70)زكي نجيب محمود، الجبر الذاتي، ترجمة د. إمام عبدالفتاح إمام، طبع مصر 1973م، ص257.

71)The works of Aristotle the: Translated into Englisk by D.Ross London 1963, Vol 1, p.94.

72)Ross D.,: Aristotle, London 1964, p.72.

a.       يلاحظ أيضاً: أرسطو، علم الطبيعة، تأليف بارتملى سانتهلير، ترجمة أحمد لطفي السيد، مصر 1935، ص131.

73)رسل: مشاكل الفلسفة، 1974.

74)د. زكي نجيب محمود، المصدر السابق، ص198.

75)المصدر السابق: ص 199.

76)د. ياسين خليل: منطق المعرفة العلمية،طبع بيروت 1971، ص63.

77)الفارابي، كتاب المجموع، مصر1325هـ، ص80.

78)رسائل إخوان الصفا: الرسالة الثانية والأربعون، 3/439.

79)نفس المصدر، نفس الصفحة.

80)جابر بن حيان: مختار الرسائل، كتاب التصريف، ص419.

81)المصدر السابق ص422.

82)المصدر السابق: ص419.

83)الفارابي، المصدر السابق، ص79.

84)أرسطو: في السماء والآثار العلوية، تحقيق عبدالرحمن بدوي، القاهرة 1961، 358.

85)الغزالي: تهافت الفلاسفة، مصر 1955، تحقيق د. سليمان دنيا ص225، ويلاحظ أيضاً د. سليمان دنيا الحقيقة في نظر الغزالي ط مصر 1971 ص254. ولقد فصل الدكتور سليمان دنيا النظرية السببية للإمام الغزالي في هذا الكتاب من مجموع آثاره الفكرية لكتاب التهافت ومعارج القدس والاقتصاد في الاعتقاد. حيث أوضح أن الغزالي بقد فيها العلية بدافع ديني وليس علمياً.

86)ابن سينا، القانون 2/5.

87)د. محمد كامل حسين: طب الرازي، طبع مصر 1961، ص139، وهذا المفهوم عن دور التفسير السببي في الظواهر وخاصة مفاهيم علم الطبيعة، هو المعنى الذي أكده فيما بعد ماكس بلانك (1858-1945م) وخاصة في حقل الفيزياء فقد أوضح ((أن مبدأ اللاجبرية يحد من مطامح البحث العلمي، لكن يجب أن تعترف مع ذلك أن هذا المبدأ ليس من المستحيل أن نتصوره من الناحية المنطقية)) انظر، بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، ص93.

88)جابر بن حيان، المصدر السابق، كتاب القديم، ص546، وما بعدها.

89)ابن سينا، البرهان ص161 وما بعدها.

90)مصطفى نظيف: الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية ج1 المقدمة.

91)برتراند رسل: المصدر السابق، ص74.

92)بدوي، المصدر السابق، ص102.

93)الكندي، رسائل الكندي الفلسفية في العلة الفاعلة للمد والجزر 2/118.

94)راجع نظيف، الحسن بن الهيثم بحوثه وكشوفه البصرية (الجزء الأول/المقدمة).

95)راجع الرازي، المرشد، ص74، وأيضاً ابن سينا، القانون 1/2.

96)الشوكاني، محمد بن علي بن محمد: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الطبعة الأولى، ص 1356هـ، ص207.

97)د. ياسين خليل: منطق المعرفة العلمية، ص67.

98)التشلر: مناهج البحث عن مفكري الإسلام، ص110.

99)الشوكاني: المصدر السابق، ص207.

100)          المصدر السابق: الموضع نفسه.

101)          والتشار: المصدر السابق، ص111.

102)          الشوكاني: المصدر السابق، ص207.

103)          د. توفيق الطويل: أسس الفلسفة، ص165

a.       Bacon F.: Novum Organum, Great Books, U.S.A 1952 P.141-142.

104)          د. توفيق الطويل، جون ستيوارت مل، مصر، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ص145.

105)          Mill J.S., A System of logic, London 1973, p.388.

106)          الشوكاني: المصدر السابق، ص208.

107)          د. توفيق الطويل، المصدر السابق، ص146.

108)          Mill J.,: Ibid, p.391.

109)          الشوكاني: المصدر السابق، ص213.

110)          ابن منظور: لسان العرب 4/340.

111)          الشيخ محمد الخضرى أصول الفقه ص358.

112)          د. النشار: المصدر السابق الموضع نفسه.

113)          Bacon F.,: Ibid, p.141.

114)          د. جلال موسى: منهج البحث العلمي عند العرب، بيروت 1972، ص110.

115)          د. النشار، المصدر السابق، ص117.

116)          المصدر السابق: نفس الموضع.

117)          التهانوي: كشاف اصطلاح الفنون 2/469.

118)          المصدر السابق: نفس الموضع.

119)          د. النشار: المصدر السابق، ص120،121.

120)          الشوكاني: المصدر السابق، ص221.

121)          Mill J.S.,: Ibid p.392.

122)          د. محمود زيدان: الاستقراء والمنهج العلمي، بيروت 1966.

123)          المصدر السابق، ص102.

124)          المصدر السابق: ص82.

125)          محمد فرحات عمر: طبيعة القانون العلمي، مصر 1969، ص27.

126)          د. زكي نجيب محمود، ديفيد هيوم، ص70.

127)          د. محمود زيدان: المصدر السابق، ص104.

128)          محمد باقر الصدر، فلسفتنا، بيروت 1969م ص77 وما بعدها.

129)          الصدر: الأسس المنطقية للاستقراء، بيروت 1972، ص110-111.

130)          د. زكي نجيب محمود: جابر بن حيان، ص87.

131)          رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث، ترقيم د. محمد فتحي الشنيطي، طبع مصر 1977، ص271.

132)          رسل: المصدر السابق، ص263.

133)          د. زيدان، المصدر السابق، ص83.

134)          جون كيمني، الفيلسوف والعلم، ص172.

135)          د. زكي نجيب محمود: الجبر الذاتي، ص199.

136)          د. عزمي إسلام: لودفيج فنجنشتين، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، طبع القاهرة 1967م.

137)          لودفينج فتجنشتين، رسالة منطقية، ترجمة د. عزمي إسلام، طبع القاهرة 1968، ص62.

138)          المصدر السابق: نفس الموضع.

139)          Russell B.,: Mystieism and logic (London 1959) p.180.

140)          Ibid: p.180.

141)          Ibid: p.181.

142)          Russell B.,: Analysis of Mind (London 1949) cl v.p.217.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر