أبحاث

الدعوة الإسلامية بين الوجوب والتطوع

Islamic da'wa between Obligation and Vountariness - العدد 69- 70

بين يدي البحث

ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ  من المبادئ إلا بالدعوة . فهي الدعامة القوية التي تعتمد عليها حياة كل دين ومذهب وهي ملاك أمرها ووسيلة دعمها – ولا يثبت دين أو مذهب أو مبدأ بغير الدعوة التي تشيد البنيان وتثبت الأركان – وتمتد بما تدعو له على مدي العصور والأزمان – كما أن الدعوة هي التي تضمن للأديان والمذاهب والأفكار البقاء والاستمرار والانتشار .

وقد عرف أن الحق لا يمكن أن يقوم بنفسه وينتشر بذاته ولابد له من دعوة تكفل له الذيوع والانتشار وترسخ الاعتقاد فيه والاستمساك به وهداية الناس إليه .

ومن هنا كانت الدعوة للإسلام ضرورة من ضرورات بقاء هذا الدين وانتشار ، وشرح تعاليمه وأحكامه وحث الناس إلي الخير عن طريق الإيمان به والاعتقاد بما جاء فيه – ومن هنا أيضاً كان الأمر الإلهي لأمة محمد صلي الله عليه وسلم بضرورة إعداد جماعة من الناس الإعداد الجيد ليحملوا مسئولية حماية هذا الدين وتبليغه للعالمين – وتصحيح فكر المنحرفين والرد على ما يثار حوله من أقوال أو عادي المرجفين – قال سبحانه : { ولتكن منكم أمة ( أي جماعة ) يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } (1) ثم دعا إلي ضرورة التخصص في مجال الدعوة وتفرغ عدد من المسلمين للقيام بهذا العمل العظيم حتي يرجع إليهم حين يختلف الناس في قضية من قضايا هذا الدين فيقدموا الرأي الصائب المبني على قواعد وأسس علمية مدروسة تفرغوا هم لها ، وعرفوا ما ظهر منها وما خفي ، واستطاعوا أن يستخلصوا منها مدلول الشريعة والمفهوم الصحيح الذي ترمي إليها الأيات أو يمكن استخلاصه من أقوال وأفعال الرسول صلي الله عليه وسلم فقال سبحانه : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إلهم لعلهم يحذرون } (2) .

وقد تكفل الله تبارك وتعالي بحفظ كتابه من التحريف أو التغيير والتبديل ليبقي مع سنة النبي صلي الله عليه وسلم الصحيحة المرجعين الأساسيين للاعتماد عليهم في فهم أحكام الدين وتعاليمه .

ولا حتمال انحراف بعض الناس عن جادة الصواب وابتعادهم عن طريق الحق ، وإمكان ظهور من يفكر في تشويه صورة الإسلام أو ظهور من يؤول أحكامه ويحرف نصوصه ، أو ينتحل فيه ما ليس منه – تكفل المولي سبحانه باصطفاء عدد من الدعاة العدول الذين لا يزيغون عن الحق ، ويحملون مسئولية نفي التأويل وإثبات التحريف ، وكشف ما ينتحله أصحاب البدع والخرافات – ولذي يقول الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم : ” يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين ، وانتحال الجاهلين ، كما ينفي الكير خبث الحديد  ” .

وإذا كان الله قد فرض على أمة محمد صلي الله عليه وسلم ضرورة تخصيص جماعة منهم لحمل الدعوة وتولي مسئولياتها ، والعمل على حمايتها ونشرها ورد الشبهات عنها ، فإن هذا يتطلب جهداً كبيراً وتخطيطاً جيداً وتمويلاً كافياً ، لأن دعاة الإسلام هم ورثة النبي في تبليغ الرسالة وتوصيلها للعالمين .

وإذا كان يتحتم على أمة المسلمين ضرورة إعداد الدعاة المؤهلين لنشر الإسلام وتعليم المسلمين أحكام الدين ، والنظر في كل ما يجد للمسلمين ، ويحتاج إلي اجتهاد لاختيار ما يصلح للناس أمور دينهم ودنياهم ، وليقوم بعضهم بواجب دعوة غير المسلمين إلي الإسلام ، وشرح مبادئه واحكامه والغوص في دقائقه وتفاصيله ، فإن هذا لا يعني قصر الدعوة على هذه الجماعة الذين يطلق عليهم اسم ( العلماء ) حراس الدين ، وإنما – وكما سنري – سنجد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو أساس الدعوة للإسلام واجب على كل مسلم قادر على شرح ما يعرفه من أمور الدين بخاصة ، الحلال والحرام ، على ألا يتخطي حدود معرفته ، وألا يتعرض لما لا يعرفه من دقائق وتفصيلات الأحكام .

وسنتعرض إن شاء الله لكل هذه الأمور حتي نعرف بالضبط : على أن تجب الدعوة وجوباً عينياً ؟ وعلى من تجب وجوباً كفائياً ؟ وهل دعوة غير العلماء هي من باب التطوع أو من باب الوجوب ؟ .

كما سنتعرف إن شاء الله على مسئولية المجتمعات والأفراد تجاه الدعوة ، والأمور التي يجب عليهم للقيام بها ، والحدود التي يجب أن يتوقفوا عندها .

ونبدأ باسم الله وعونه بتعريف الدعوة حتي يتبين لنا حقيقة هذه الدعوة وأهميتها وضرورتها في كل عصر وحين ، والله الموفق والمعين .

أ – تعريف الدعوة

الدعوة من الدعاء إلي الشئ بمعني الحث على قصده – والدعوة إلي الإسلام تعني المحاولة العلمية أو القولية لإمالة الناس إليه – جاء في المصباح المنير دعوت الله ، ادعو دعاء ، ابتهلت إليه بالسؤال ، ورغبت فيما عنده من الخير ، ودعوت زيداً ونديته وطلبت إقباله ، ودعا المؤذن الناس إلي الصلاة فهو داعي الله ، والجمع دعاة وداعون ، والنبي داعي الخلق إلي التوحيد (3) .

وجاء في أساس البالغة : ( دعوت فلانا ناديته ، والنبي داعي الله ، وهم دعاة الحق ودعاة الباطل ودعاة الضلالة ) .

نستطيع أن نتبين من التعريف اللغوي لكلمة دعوة أنها تفيد لغوياً المحاولات القولية والفعلية من أجل تحقيق هدف أو عمل ، ولا شك أن الأقوال لها ثقلها وصعوبتها ؛ لأن فيها المناداة والطلب والإلحاح ، وفيها الجهد والعمل .

وقد لوحظ اختلاف العلماء في تعريفهم للدعوة وذلك تبعاً لاختلافهم في تحديد معني الدعوة من جهة ، وتفاوت نظرتهم إليها من جهة أخري فكلمة الدعوة من الألفاظ المشتركة التي تطلق علي الإسلام كدين ، وعلي عملية نشره بين الناس ، غلا أننا نستطيع أن نعرف المراد منها من سياق الكلام فمثلا إذا قيل هذا من رجال الدعوة إلي الله ، كان معني الدعوة هنا محاولات النشر والتبليغ ، وإن قيل اتبعوا دعوة الله كان المراد بها الإسلام ، ومن هنا فإن التعريف الاصطلاحي للدعوة التي هي بمعني النشر والبلاغ يغاير تماماً الدعوة التي يراد بها الدين لأن التعريف الأول يعرفها كعلم من العلوم مثله مثل سائر العلوم الإنسانية له موضوعه وخصائصه وأهدافه .

أما التعريف الثاني أي الذي يعني الدين فهو يقصد الإسلام بجميع تعاليمه وأحكامه ، وإن كان هناك بعضا من العلماء قد عرف الدعوة بتعريف يمزج بين مفهوم الدين ومفهوم الدعوة إليه كما فعل الشيخ محمد الراوي في كتابه الدعوة الإسلامية دعوة عالمية حيث قال : ( هي الضوابط الكاملة للسلوك الإنساني وتقرير الحقوق والواجبات ) (4) ، ومن العلماء منقصر التعريف للدعوة على بعض جوانبها كما فعل الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه الدعوة إلي الإصلاح وكذلك الشيخ على محفوظ في كتابه [ هداية المرشدين ] ، وعدد أخر من العلماء ، ولا يزال هناك من يعرف الدعوة الإسلامية بتعريفات جديدة يري أنها أدق وأشمل ، ويري أنها تجمع بين مراحل الدعوة التبليغية والتكوينية والتنفيذية مستخلصاً المعني الاصطلاحي للدعوة من معناها اللغوي السابق – وهو الحث على الشئ والسوق إليه – فيري الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني (5) أن التعريف الأدق للدعوة في نظره : [ هو تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة ] (6) ، ويري الدكتور البيانوني – أن لفظ الدعوة إذا أطلق ينصرف عرفاً إلي الدعوة إلي الإسلام ، لأنه هو المعني الذي تواردت عليه معظم الأيات القرأنية والأحاديث النبوية ومن هنا يعرف علم الدعوة الذي أصبح علماً على علم معين بأنه : ” تبليغ الإسلام للناس . . .” إلي أخر ما مر أنفاً .

ب – هل الدعوة هي مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

إذا كان هناك من العلماء من ينظر إلي الدعوة على أنها هي مجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذا من وجهه نظري فهم خاطئ لحقيقة الدعوة ، لأن الدعوة إلي الإسلام لو كانت موجهة إلي المؤمنين فقط . أو مقصورة على دعوة اتباع هذا الدين وحده لكان ذلك صحيحاً ولأ مكن أن نقرر من أول وهلة وجوب الدعوة وجوباً عينياً على كل مسلم . كل على حسب قدرته وإمكاناته وعدم سقوط الوجوب عن أحد من الناس إلا في حالات الضرورة القصوي . كمرض أو جنون أو صغر السن لا يدرك الصغير معها شيئاً من تعاليم الإسلام وأحكامه .

والذي يجب أن نعرفه جيدا حتي نتمكن من تحديد موقف الناس من وجوب الدعوة عليهم أو عدم وجوبها ، أن الدعوة للإسلام نوعان : –

  • النوع الأول : – دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلي الإسلام ، وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدي ودين الحق .
  • النوع الثاني :- دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلي الخير ، وتأمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناههم عن المنكر .

ويحتاج هذا التقسيم إلي شئ من التفصيل : –

أما النوع الأول وهو دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلي الإسلام ؛ فهذا هو واجب الأمة ككل . ومسئولية حكام المسلمين ، والقادرين على القيام بهذا العمل من الدعاة المؤهلين المدربين على العمل في مثل هذه المجالات ، الدارسين لأصول وأساليب الدعوة الصحيحة لغير المسلمين ، المستعدين للرد على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات ، الذين يعرفون أولويات العمل الإسلامي في مثل هذه المناطق ، ويعرفون فن المناظرة والمحاورة ، المسلحين بمعرفة أساليب التيارات المعادية الإسلام المستوعبين لأصول الفلسفات المادية والمذاهب الهدامة وأساليب ووسائل الرد عليها .

وقد قلنا : إن هذا النوع من الدعوة هو واجب الأمة ككل وأنه فرض عين على الحكام والقادرين من الأفراد ، وفرض كفاية على باقي الناس (9) ، بمقتضي جعلها خير أمة أخرجت للناس مع تقييد هذه الخيرية ( أي كونها خير أمة ) بكونها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وبحكم وصف المؤمنين الذين أذن لهم في القتال بالأوصاف الواردة في قوله تعالي : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } (10) .

والذي جعلنا نفرق بين الدعوة للإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونجعل الأخير مجرد جزء من الأول في قوله تعالي : { ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } (11) .

فالأية فصلت بين قوله يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف بواو العطف التي تقتضي المغايرة فلو كانت الدعوة إلي الإسلام هي بذاتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ماجئ بواو العطف ولوجدنا الأية الكريمة تقول : { تدعون إلي الخير فتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } .

وهذا التقسيم الذي ذكرناه سيفيدنا كثيراً في معرفة نوع الوجوب بالنسبة للدعوة إلي الله ، والتي نري أنها واجبة وجوباً عينياً بالنسبة لدعوة المسلمين بعضهم بعضا بوجه عام وإن اختلفت درجة هذا الوجوب بين الناس حسب قدراتهم وإمكاناتهم ، وربما حدثت قضايا بعينها يكون الوجوب العيني فيها لعامة الناس . وقضايا أخري يكفي فيها الوجوب لكفائي ، بل يتحتم أحياناً في بعض الحالات قصر الوجوب العيني على أفراد بعينهم .

أما النوع الثاني : من أنواع الدعوة : فهو دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلي الخير كما قلنا ، وتأمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر ، وقد اختلف العلماء في حكم هذا النوع من الدعوة . وهل هي واجبة وجوباً عينياً أم وجوباً كفائياً ؟ .

العلماء جميعاً اتفقوا على كونها واجبة لأن النص القرأني يفيد هذا الوجوب حيث يأمرهم بذلك فيقول : { ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } .

ومن هنا انعقد الإجماع على هذا الوجوب اسدلالاً بهذه الأية وأيات أخري كثيرة . بالإضافة إلي ما ثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من دعوة الناس إلي ضرورة هذا التبليغ ، ففي القرأن الكريم ، بالإضافة إلي هذه الأية التي ذكرناها وردت أيات كثيرة تأمرهم مثل قوله سبحانه : { ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } (12) .

وكقوله تعالي : { فادع واستقم كما أمرت } (13) – وقوله تعالي : { وادع إلي ربك ولا تكونن من المشركين } (14) وغير ذلك كثير مما يؤكد الفرضية ؛ لأنه جاء بلفظ الأمر ولا يوجد ما يصرف هذا الأمر عن ظاهره وهو إفادة وجوب المأمورية بالإضافة إلي أن هذه الأيات لا تحتمل إلا معني واحداً ، ولذلك فهي قطعية الدلالة .

من أدلة السنة التي دلت على وجوب العوة إلي الله تعالي وفرضيتها على الناس قول النبي صلي الله عليه وسلم : [ ليبلغ الشاهد منكم الغائب ] (15) وقوله صلي الله عليه وسلم : [ جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم ] (916 وقوله صلي الله عليه وسلم : [ والذي نفسي بيده لتأمون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ] (17) – وهذه الأحاديث تدل على الوجوب لأنها جاءت بصيغة الأمر .

أما اختلاف العلماء في نوع تبليغ الدعوة وهل هو فرض عين أم فرض كفاية فإنما جاء من اختلاف تفسيرهم لقوله تعالي : { ولتكن منكم أمة يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } الخ .

الذين يرون أن الدعوة واجبة وجوباً كفائياً . أي أنه إذا قامت بها جماعة سقطت عن الأخرين يفسرون لفظة (من ) في الأية على أنها للتبعيض ، أي وليكن منكم جماعة ، أما الذين يرون أنها واجبة على كل المسلمين وجوباً عينياً فهم يرون أن  ( من ) هنا بيانية وليست تبعضية وان المعني هو ( ولتكونوا أمة يدعون إلي الخير . . . الخ ) ، ومن ثم فالدعون مهمة للأمة بكل أفرادها على سبيل الوجوب .

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب محتم على المجتمع ، ويشبهونه بفريضة الحج التي يجب على كل أفراد الأمة لا تسقط عن أحد منهم إلا بعدم الا ستطاعة بل يقولون : إنها أكد من فريضة الحج ، التي تؤدي بطريقة واحدة وأسلوب واحد لا يختلف فيها مسلم عن أخر .

أما الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر فيمكنه أن يفعل شيئاً ما من الأمر والنهي قد لا يقوم به غيره . وأن هناك استطاعة دائمة وإن كانت متفاوتة على قدر كل واحد وإمكاناته المادية أو الجسمية أو الفكرية فكل واحد يؤدي . ولو كان هناك من هو أقدر منه على التأدية . أو على استعداد للتأدية أو هو متفرغ لها .

وذلك حفاظاً للأمة وحرزاً لها من الفساد والتحلل ، كما أن الحاجة إلي الدعوة إلي الله تعالي شديدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين . ولو أهمل أمره لا ضمحل الدين ، وفشا الضلال ، وعم الفساد ، وهلك العباد .

وقد وصف الله سبحانه أمة محمد صلي الله عليه وسلم بأنها خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، فقال سبحانه : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } (18) ويتحدث المولي سبحانه عن المؤمنين وكيف أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله فيقول : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } [ التوبة : 71 ] .

ولعلنا نلاحظ كيف قدم القرأن صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للمؤمنين على إقامة الصلاة ، والمتتبع لايات القرأن الكريم يجد كثيراً من الأيات القرأنية تصف المؤمنين بأنهم : الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر كما في سورة التوبة : { التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } [ التوبة – 112 ] .

والفريق الذي يري أن تبليغ الدعوة فرض كفاية وهي فرض عين على المستطيع فقط كالحج والزكاة يستدلون على ذلك بقوله سبحانه : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (19) .

ويقولون إن الأية تدل على أن التبليغ واجب على طائفة من كل فرقة ابتداء لأن معناها : لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً للقتال ، بل على طائفة منهم البقاء للتفقه في الدين وإنذار القوم بما تفقهوا (20) .

ويقولون أيضاً لو وجبت الدعوة على الجميع للزمت الشيخ الفاني والمريض والمرأة ، وهم لا يقدرون عليها ، ومن القواعد المقررة في الشريعة أنه { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذا يدل على أنها واجبة (21) على العلماء وحدهم .

ونقول : إن ما دمنا قد فرقنا بين دعوة المسلمين ودعوة غير المسلمين . فإنه لا محل لهذا الاعتراض ، وأن دعوة غير المسلمين إن كان يتحتم فيها ضرورة وجود العلماء المتميزين القادرين على تبليغ الإسلام بجميع دقائقه وتفاصيله ، فإن ذلك غير مطلوب بالنسبة لدعوة المسلمين التي تتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوجيه الناس بعضهم بعضا إلي عمل الخير والابتعاد عن الشر ، وكل الناس بلا استثناء يمكنهم القيام بهذا الأمر حتي الأطفال الصغار الذين يعرفون قليلاً من الدين كما يدخل تحت الحلال والحرام إمكانهم أن يفعلوا ذلك حتي مع أهليهم وذويهم ثم ألا يستطيع الشيخ الفاني أن يعلم أولاده أحكام الإسلام ، ويوجههم إلي طريق الهدي والرشاد حتي ولو لم يتحرك من فراشه ؟ ألا تستطيع المرأة أن تعلم أولادها وجيرانها وأبناء جيرانها فتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر ؟ ألا يستطيع الطفل أو الطفلة الصغيرين أن ينبها والديهما إلي أن ما يقولون به منكر يتعارض مع ما عرفوه أو تعلموه من أحكام الإسلام ؟ ألا يستطيعان دفع الوالدين أو أحدهما إلي زيارة الأقارب أو التعامل معهم إن كان بينهم خصام أو تذكيرهم بضرورة عيادة مريض أو كسوة عريان أو إطعام جائع .

أليست هذه دعوة ؟

إن الدعوة للإسلام ليست مجرد كلام يقال ؟ أو خطبة تلقي في المسجد أو في مكان عام إنها أعم من ذلك وأوسع من ذلك ، لكن كثيراً من الناس لا يعرفون ؟ .

شبه واعترضات

  • هناك من يرون قصر الدعوة على العلماء وحدهم بحجة أن العلماء يتميزون بالعلم والإخلاص ومحبة الدعوة ، وأن أمرهم بأشياء ونهيهم عن أشياء يستلزم سبق العلم بما يدعي الناس إليه وبالوسيلة المناسبة للدعوة ، ويقولون إن الجهل في هذا المقام ربما يضر أكثر مما ينفع لأن الجاهل لا يفرق بين المعروف والمكنر .

ونقول لهم : لو كان الإسلام شيئاً واحداً أو محدوداً بقضايا معينة لكان لكم الحق فيما تقولون ، فالدعوة للإسلام لا تتعلق بقضايا محددة معينة لا يمكن الابتعاد عنها ، أو التعرض لغيرها وإنما الإسلام ( هو الحياة بكل دقائقها وتفاصيلها ) .  . وكل المسلمين بلا استثناء لا بد لهم أن يعرفوا بعض قضايا الدين . أو على الأقل الحلال والحرام من هذا الدين ، الأمر الذي يمكن أن ينفي عنهم كلمة الجهل بالدعوة لأن العلم قد يتعلق بجزئية بسيطة في الدين فمن تعلمها صار عالماً بها ، ووجب عليه حينئذ أن يبلغها ، كل ما في الأمر أنه لابد لكل إنسان أن يتعرض لما لا يعرفه من أمور الدين ، أو للقضايا التي تحتاج إلي المتخصصين ممن لهم قدرة على فهم أحكام الإسلام واستنباط الأدلة ومعرفة مصادرها ولذا فإنه لا محل للقول بأن الجهل في هذا المقام ربما يضر أكثر مما يفيد لأن الجاهل لا يفرق بين المعروف والمنكر كما يقولون ، وحتي ولو فرض أن بعض المسلمين من غير العلماء قد يدعو إلي المنكر وهو لا يدري ولا يعرف الوسيلة المناسبة للدعوة فيغلظ في موضع اللين ، ويلين في موضع الشدة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً فإنه بالإمكان تعليم هؤلاء وتدريبهم على استعمال الأساليب والوسائل المناسبة للدعوة ومنع غير المؤهلين من التصدي للدعوة الرسمية أو التعرض لقضايا أكبر من إمكانتهم وقدراتهم – بالإضافة إلي أن ما يطلق عليهم اسم العلماء ليسوا جميعاً أبناء مدرسة واحدة ولا فكر واحد ، وأحياناً تكون تخصصاتهم مختلفة ؛ لهذا فإن بعضهم ينبغ في قضايا معينة . وقد لا يجيد شرح أو عرض قضايا أخري يجيدها من هم أقل منه علماً أو سناً أو ممن لا يطلق عليهم وصف _( علماء ) .

ومن هنا نكرر مرة أخري أن من علم أي جزئية ولو بسيطة في الدين يصير بها عالماً ووجب عليه تبليغها ، الأمر الذي يجعلنا نقرر بأن الدعوة للمسلمين واجبة على كل مسلم قادر عليها وجوباً عينياً على قدر طاقته واستطاعته ، مع ضرورة الالتزام بالأسلوب الإسلامي الصحيح المتمثل في قول المولي سبحانه : { ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } .

  • الشبهة الثانية :

هناك من يقولون إن أمر الدعوة شاق وأنه فوق الطاقة ، والله يقول : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } فيكون في هذا مندوحة لترك واجب تبليغ الدعوة .

ونحن نرد عليهم بأن هذه علة واهية ولا يصح الاحتجاج بهذا ، لأن أي عمل من الأعمال يتطلب جهدا ومشقة ويبذل الإنسان النفس والنفيس في سبيل الحصول على مال أو جاه أو سلطان ، فلم لا يبذل جهداً في الدعوة التي هي أفضل عند الله من كل شئ ؟ .

ثم أي جهد ومشقة ينالان المسلمين الأن وهم يدعون المسلمين ويوجهونهم فقط إلي عمل الطاعات والابتعاد عن المنكرات ؟ لقد كان تبليغ الدعوة في عصر النبي وفي عصور غيره من الأنبياء السابقين أشق من كل ما نري . ومع ذلك تحمله المسلمون وصحابة النبي واتباع الأنبياء السابقين ولقوا في سبيله العنت والأذي والموت وكان شعارهم جميعاً :

ولست ابالي حين أقتل مسلماً

على أي جنب كان في الله مصرعي

كيف يكون هذا عذرا للمسلمين في الوقت الذي يشاهدون فيه المبشرين بالمسيحية رجالاً ونساء يتركون بلادهم الغنية المتقدمة إلي أواسط إفريقيا في الأحراش والأدغال من اجل نشر الباطل .

كيف لا يكافح المسلمون وهم أصحاب حق وحملة الرسالة الصحيحة ؟ .

  • الشبهة الثالثة :

وبعض المعارضين لوجوب الدعوة يقولون لا تكليف بتبليغ الدعوة ، وليست الدعوة واجبة على أحد ، إنما هي مجرد عمل تطوعي لا يأثم المسلم بتركه ويستدلون على قولهم هذا بقول الله سبحانه : { يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } (22) والحقيقة أنهم فهموا هذه الأية فهما ً خاطئاً ، فمعني الأية أنكم إذا فعلتم ما وجب عليكم بالتزام الحق والدعوة إليه فلا يضركم تقصير غيركم بعد ذلك ، وذلك مثل قوله تعالي :

{ ولا تزال وازر ة وزر أخري } (23) وقد عرف أن الله أوجب علينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعليه فلا يكون المرء مهتديا مع تركه لهذه الفريضة ، فإذا قام بها ولم يمتثل المخاطب فلا جناح عليه بعد ذلك لأنه أدي ما عليه وما عليه هو مجرد القول لا القبول ، ولذلك يقول ابن تيمية (24) إن الأية تدل على وجوب تبليغ الدعوة ، لأن الاهتداء يتم بأداء الواجب ، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال ، وهذه شبهة قديمة العهد عرضت للناس في الصدر الأول ، فقد روي الإمام أحمد والترمذي وغيرهم من حديث قيس بن حازم قال : فقام أبو بكر خطيبا فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الأية : { يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ، وأنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : [ إذا رأي الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ] (25) .

وقد شدد الله بالإنكار على كل قوم أغفلوا الفريضة وأهل كل دين أهملوها – فقال جل ثناؤه { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسي ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون } (26) وواضح هنا أن سبب لعن بني إسرائيل أنهم كانوا لا ينهي بعضهم بعضا عن منكر مهما اشتد قبحه وعظم ضرره ، والنهي عن المنكر حفاظ الدين وسياج الأداب والكمالات ، وإذا أهمل تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ، وإذا تعود العامة على رؤية المنكرات بأعينهم والاستماع إليها بأذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم ، وتجرأ الكثيرون بعد ذلك على ارتكابها ، وقد كان ذلك شأن بني إسرائيل الذين اعتادوا على المنكر وأصروا عليه فلعنهم الله أي حرمهم من لطفه وعنايته ، وطردهم من باب رأفته ورحمته ، وذكر الله ذلك للمؤمنين ليكون عبرة لهم حتي لا يفعلوا فعلهم ، فيكونوا مثلهم ويحل بهم من لعنة الله وغضبة ما حل بهم ، وقد روي أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن كان الرجل يلقي الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : لعن الذين كفروا إلي قاله فاسقون ] تم قال صلي الله عليه وسلم : [ كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه (27) على الحق أطراً ولتقصرنه (28) على الحق قصراً – أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم ] ومعني هذا أنه لا يسقط وجوب الدعوة وتكليف الأمة بالقيام بها استنادا على هذا الفهم الخاطئ لمعني قول المولي سبحانه : { يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وقد ذكرنا قبل ذلك الأدلة الصريحة الواضحة التي يؤكد فرضية القيام بهذا الواجب ومجئ كثير من النصوص القرأنية ومن أحاديث النبي صلي الله عليه وسلم بصيغة الأمر الموجهة إلي كل أفراد الأمة ، وليس هناك من الدواعي الشرعية ما يصرفها عن الوجوب إلي غيرها .

  • الشبهة الرابعة :

وهناك من يقول : إن الباطل قد انتشر والفساد قد عم وأنه لا حيلة ولا قدرة لهم على إصلاح هذا الفساد وبخاصة إذا كان ما شاع بين الناس من فساد وانحراف بسبب حماية ولاة الأمر أو الذين يفترض فيهم مقاومة هذا الفساد ، أو بسبب منع الحكام للدعاة من أداء واجبهم في إنكار المنكرات أو تقيد عملهم مما يعطل استجابة المدعوين أو يقلل من من النتائج المرجوة منها ، ولو حاولنا أن نقيس هذا العصر بعصور الأنبياء والمرسلين وعصور أخري عم فيها الفساد وانتشرت المنكرات لوجدنا أن عصرنا وأفضل من عصورهم وإمكانية الدعوة ووسائلها تتوفر عندنا ولم تكن كذلك عندهم ، وتوقع استجابة المدعوين الأن أكثر من هذه العصور التي خلت ، ومن هذه الأزمان التي أوذي الدعاة فيها أذي كبيراً ومع ذلك كانت النتائج عظيمة باهرة .

والمفروض في الدعاة أن يقوموا بواجب التبليغ وأن يبينوا للناس حقيقة هذا الدين ثم يتركوا نتيجة أعمالهم لله سبحانه : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } (29) وقد ظل نوح عليه السلام يدعو إلي ربه ألف سنة إلا خمسين عاما وما أمن به إلا قليل ومع ذلك لم يتوقف عن الدعوة واستمر يدعو حتي قال الله له : { وأوحي إلي نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد أمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } (30) وظل محمد صلي الله عليه وسلم يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة ذاق فيها من العنت والقسوة الكثير ، وكان عدد الذين هاجروا إلي المدينة بعد دعوة استمرت ثلاثة عشر عاماً ثمانين وبضعة نفر . ومع ذلك تغير الوضع كثيراً بعد أن أصبح للمسلمين دولة بعد أن كانوا مستضعفين في مكة ، وصاروا مجتمعا بعد أن كانوا مجرد جماعة ، وتولوا هم بأنفسهم مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على تعاليم وشرائع الإسلام .

فالتهوين من أمر الدعوة في هذا العصر وادعاء أنه لا جدوي منها بعد أن عم الفساد وامتلأت الحياة بالأ وزار والأثار هو سبيل الفساد والإفساد ، وسبيل هلاك الإنسان والمجتمعات ، وهو مخالف للدين الحنيف الذي أمر بالدعوة حتي قيام الساعة ، ومخالف لما يثبته للواقع والتاريخ ، ولن يخلو العالم من احتياجه إلي الدعوتين دعوة الإسلام والدعوة إلي الإسلام ، أي معرفة مبادئ الإسلام ومحتوياته من العقيدة والشريعة والعبادات والمعاملات والنظم الخ ، ومعرفة كيفية الدعوة إلي هذه المبادئ والعقائد والنظم والشرائع التي أسسها الإسلام وجاءت على ألسنة الدعاة من الرسل .

فالأولي : [ دعوة الإسلام ] هي شرح وبيان وتفصيل للإسلام نفسه .

والثانية : [ دعوة إلي الإسلام ] هي دعوة الناس إلي هذه المبادئ الإسلامية .

وإذا قارنا بين أحوال العالم قبل دعوة الإسلام وبين أحواله الأن في عالمنا الذي نعيش فيه وجدنا تقارباً كبيراً بين حالنا وحالهم .

فإذا كان قد عرف عن العالم قبل الدعوة الإسلامية شيوع الفساد والانحلال والاضطرابات والتقليد الأعمي والتباغض والتحاسد والاختلاف في النزاعات الدينية وفساد الذمم والأخلاق ، فإن ذلك كله موجود الأن في مجتمعنا المعاصر ، مما يؤكد شدة حاجة الناس إلي الدعوة إلي الله لأن العالم اليوم ينقسم إلي أربعة أقسام : شيوعيين ملحدين ، وأهل كتاب ، ووثنيين ، ومسلمين ، وكلهم بلا استثناء يحتاجون إلي دعاة علماء يبينون لهم حقائق معتقداتهم ، وحاجتهم الماسة إلي معرفة دين الإسلام ، وضرورة الإيمان به ، وإن كان المسلمون في أشد الحاجة إلي الدعوة في العصر حتي يمكنهم بعد ذلك التأثير في الأخرين عن طريق الدعوة بالقول أو بالقدوة ؛ لأن أكثر المسلمين وللأسف قد انحرف عن طريق الإسلام وابتعد عن التخلق بأخلاقه والتعلم بتعاليمه وأصبح غالبية المسلمين جهلاء بالإسلام لا يعرفون منه إلا اسمه ولا يفهمون منه إلا بعض أشكاله وصوره ، فهم بين عبدة لأضرحة أو عبدة لأشخاص ، موزعين بين طوائف شتي ، وحالهم – للأسف – جهل وضلالة وضعف وتأجر ، أما مثقفوهم فإن علموا شيئاً فعن غير الإسلام ، وإن ابتغوا شيئاً فهو ما يأتي به أعداء الإسلام من الصهاينة أو الصليبين .

ولا شك أن أحوال الناس تختلف بعد الدعوات الإصلاحية عما كانت عليه قبلها ، كما أنه لا يشك أحد في ضعف العرب وشيوع المنكرات فيهم قبل الإسلام وتحولهم عن عبادة الأوثان وغيرها من المنكرات بعد دعوتهم إلي دين الله ، وترك ما فيه من ضلال فصاروا بعد ذلك أمة قوية تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتؤمن بالله .

ثم ألم نسمع عن تحول كثير من الناس عن عقائدهم او أفكارهم بسبب نجاح الآخرين في إقناعهم وإستمالتهم ؟ أم يتحول كثير من الناس عن دياناتهم التي كانوا عليها إلي ديانات أخري ؟ وانسلخ كثير من الناس من مذاهبهم التي نشأوا عليها إلي مذاهب أخري كانوا يرفضونها أو يتعاونون مع أهلها ؟ إن دولاً بأسرها كانت تدين بالمسيحية إنتقل أهلها إلي الشيوعية بسبب غزو الإلحاد الشيوعي لها ؟ بل إن بعضاً من المسلمين تركوا دينهم واعتنقوا المسيحية في آسيا وأفريقيا بسبب نجاح التبشير والمبشرين في دعوتهم وإخراجهم من ملتهم – ولا حول ولا قوة إلا بالله – .

ومرة أخري نقول : لو ترك الإنسان علي ما هو عليه من الشر والفساد لعم هذا الفساد والشر حتى يتحول العالم إلي غابات محترقة .

كل ما في الأمر أن هناك أموراً لا بد للدعاة أن يلاحظوها حتى تنجح دعوتهم وتتحقق أهدافهم فما هي هذه الأمور ؟ .

عرفنا أن دعوة المسلمين للمسلمين ، هي امرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وأن المسلمين جميعاً مطالبون بها كل علي قدر طاقته واستطاعته بهذا الأمر وهذا النهي ، وأنه ما دام الإنسان قادرا علي ذلك فعليه أن ينكر المنكر علي الأقل ، وخاصه وإن ظهر فعله وكان قادراً علي منه هذا المنكر حتى لو لم يكن مأذونا بذلك ، ولا يسقط احتساب المحتسب أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا عن المجنون والصبي والكافر والعاجز ، ولا يسقط عن الفاجر أو المرأة والرقيق ، وإذا كان العلماء قد شرطوا التكليف فلا يعني هذا عدم جواز فعله للصبي المراهق الذي بلغ حد التمييز – لأن الشروط السابقة هي شروط الواجب لا شروط الصحة لكن ما دام هناك إمكان لفعل فللقادر عليه إنكار المنكر ، وإن لم يكن مكلفا بذلك لأنه ينال به ثواباً ، وليس لأحد أن يمنعه من الاحتساب علي أساس أنه غير مكلف ، لأن إنكار المنكر قربة . وهو من أهلها كالصلاة والإمامة ، وسائر القربات ، وليس حكمه حكم الولايات حتي يشترط فيه التكليف ، ولذلك أجيز عمله للعبد وآحاد الرعية .

ومع أن الاحتساب وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كما عرفناه وأن إنكار المنكر جائز لكل الناس حتى الصبي المميز إلا أن هذا الاحتساب له شروط لا بد من توفرها حتى يسمح للمسلم بهذا الاحتساب . وربما كان عدم معرفة كثير من المسلمين لهذه الشروط هو السبب في ظهور ظاهرة تشدد بعض الشباب في الدين في هذا العصر ، حيث إنهم يأخذون بظاهر نص الحديث الذي يدعو المسلمين إلي إزالة المنكر اعني النص الذي يقول (من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفسروه علي أن الاقتصار علي اللسان أو القلب لا يجوز لغير القادرين علي التغيير باليد ، لأن هذا هو أضعف الإيمان ، وهم يرون أن إيمانهم ليس ضعيفاً باعتبارهم من الشباب المؤمن القادر علي التغيير باليد .

ولا شك أن هذا التفكير يتناقض تماماً مع ما اتفق عليه علماء الأمة أنه لا يجوز التغيير باليد إلا لمن يملكه ، ويشترط ألا يؤدي إلي مفسدة أو منكر أكبر .

والغريب أن كثيرين من هؤلاء الشباب يدعون أنهم استخلصوا هذه الأحكام من كتاب الفتاوي لابن تيمية ، وقد أولوا كثيراً من النصوص في هذا الكتاب لتتفق مع فكرهم وفهموا نصوصاً أخري علي ظاهرها ، وأخري علي غير ما سيقت له مع أن للإمام ابن تيمية الذي تؤمن بفكره معظم الجماعات الإسلامية وخاصة المتشددين منهم كلاماً جميلاً في مضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي القضية التي يدور حولها الخلاف ويستند عليها فكر بعض هذه الجماعات ممن لم يتيسر لهم فهم كثير من النصوص التي ذكرها الإمام ابن تيمية الرجل المفتري عليه ، والذي اضطر كثير من الناس أن يلصقوا به تهمة التشدد ، وهو منها براء ، بل استطاع بعض ذوي الميول والأهواء من اتباع بعض هذه الجماعات الإسلامية أن يغيروا بعض ما قاله الرجل ليستلخصوا من ذلك آراء وأفكاراً نسبوها إلي الرجل المظلوم بعد أن “فبركوها” وأولوا بعضها علي غير ما تحمله النصوص فهذا الإمام المظلوم المفتري عليه في عصره وعصرنا يحتاج إلي بعض المنصفين لتوضيح حقيقة فكره للناس ، وإنصافه منهم بعد أن شوه الآخرون صورته .

ففي كتاب (مجموع الفتاوي) ، وفي الجزء الخاص بالجهاد – وهو الكتاب الذي اعتمد عليه المتشددون من المنتمين إلي الجماعات الإسلامية – نجد ابن تيمية يقول في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بعد أن ذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما يندرج تحت هذا الأمر : (إنه لا بد فيه من الرفق) ، ويستدل بحديث النبي صلي الله عليه وسلم (ما كان الرفق في شئ إلا زانه ، ولا كان العنف في شئ إلا شانه) وقوله صلي الله عليه وسلم أيضاً (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطي عليه ما لا يعطي علي العنف) ولهذا قيل : (ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر) ويوضح ابن تيمية بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان من أعظم الواجبات والمستحبات فإن الواجبات والمستحبات لا بد أن تكون فيها راجحة علي المفسدة ، ويعلل ذلك بأنه بهذه المصلحة بعث الرسل ونزلت الكتب ، “والله لا يحب الفساد” ويقول فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعطم من مصلحته ، لم تكن مما أمر الله به ، حتى وإن كان ترك واجب أو فعل محرم – ويقول ” “إن المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم” .

ويري الإمام ابن تيمية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن تتوافر فيه ثلاثة أشياء : (العلم – الرفق – والصبر) – العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه ، والصبر بعده . واستدل علي ذلك بما ذكره القاضي أبو يعلي في “المعتمد” حيث قال : “لا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به فقيها فيما ينهي عنه ، رفيقاً فيما يأمر به رفيقاً فيما ينهي عنه ، حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهي عنه” (31) .

ويقول ابن تيمية (32) أيضاً : يجب أن يفرق بين ما يفعله الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهي غيره عنه وتحريمه عليه ، فإذا كان من المحرمات ما لو نهي عنه حصل ما هو أشد تحريماً منه ، لم ينه عنه ولم يبحه أيضاً ، ثم يقول :

(ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو انكر منه) ويقول : (ولهذا حرم الخروج علي ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك للواجبات أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب) ثم يقول : ( وإن كان قوم علي بدعة او فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ، ولم يمكن منعهم منه ، ولم يحصل للنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنها) .

ويقول (32) : (فالمنهي عنه إذا زاد شره بالنهي وكان في النهي مصلحة راجحة وكان حسناً – وأما إذا زاد شره بالنهي وكان في النهي مصلحة راجحة كان حسناً – وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة فإن أدي ذلك إلي شر أعظم منه لم يشرع مثل أن يكون الآمر لا صبر له فيؤذي فيجزع جزعاً شديداً يصير به مذنباً وينتقص به إيماناً ودينه ، فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك ، بخلاف ما إذا صبر واتقي الله وجاهد ، ولم يتعد حدود الله ، بل استعمل القوي والصبر ، فإن هذا تكون عاقبته حميدة ، وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته ، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة كما قال تعالي : (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) .

وإذا كان مجرد إنكار المنكر حتى باللسان يجوز تركه إن أدي ذلك إلي منكر آخر أو أصاب الإنسان بسببه ضرر كبير لا يستطيع تحمله ، فإن تغيير المنكر بإليد عند عدم القدرة ، أو وقوع الضرر المؤكد له أو لغيره يصبح ممنوعاً ولذا يقول الإمام ابن تيمية (فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقي لهم أصغاء إلي البر ، بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوي والعجب ، سقط التغيير باللسان في هذه الحالة وبقي بالقلب) (32) .

وقد أخذ ذلك من قوله صلي الله عليه وسلم “إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوي متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك” ، وهكذا يفسر هذا الحديث الشهير الذي رواه مسلم في صحيحه وهو قوله صلي الله عليه وسلم : ” من رأي منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان” .

ولذلك يذكر ابن تيمية دائماً علي ضرورة ألا يعتدي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر علي أهل المعاصي بزيادة علي المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم ، أو عقوباتهم ، بل يقال لم اعتدي عليهم : عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت ثم يضيف ابن تيمية : “فإن كثيراً من الآمرين الناهين ، قد يتعدي حدود الله إما بجهل او بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه ، وسواء في ذلك الإنكار علي الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين لأنه يري – كما قلنا ضرورة أن يقوم بالأمر والنهي علي الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل الصحيح ، فإن ذلك داخل في قوله سبحانه وتعالي : “عليكم أنفسكم” وفي قوله : “إذا اهتديتم” (35) .

لقت ثبت أن إنكار المنكرات عن طريق الإتلاف مثل تحريق المكان الذي يباع فيه الخمر أو أخذ جزء من مال مانع الزكاة ، أو أي عقوبات بدنية كالقتل والقطع وجلد السارق وقتل الكفار ، وأخذ أموالهم ، لا يكون إلا لولي الأمر ، ولم يثبت أبداً أن عوام الناس في أي عصر من العصور قد فعلوا ذلك ، وما كان شيئ منه يحدث إلا بناء علي قرار أو امر الحاكم أو من يفوضه من القضاة والمحتسبين ، فالنبي صلي الله عليه وسلم هو الذي أمر بهدم مسجد الضرار ، وهو الذي أمر عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين وكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر ، وذلك في يوم خيبر ، وإن كان قد وافق من استأذنه لإراقة ما فيها وعدم تكسيرها للانتفاع بها بعد غسلها ، كذلك فإن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب هم اللذان أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر يوم أن كان كل واحد منهم يتولي الحكم ، كذلك فإن عثمان رضي الله عنه هو الذي أمر بحرق المصاحف المخالفة لمصحفه الذي اتفق عليه الصحابة ، وهكذا كان إتلاف المنكرات حقاً لولي الأمر وحده أو من يصرح له بذلك وجواز إتلاف المغشوشات فيما يباع ويشتري في المطعومات أو الصناعات كما فعل بعض الخلفاء ، فإن كثيراً من الفقهاء يرون إن إتلاف ذلك ليس واجباً علي الإطلاق ، وإنما يمكن أن يستفاد به لمصلحة المسلمين بدلاً من إتلافه لأن مصادرته أو التصدق به تحصل به العقوبة التي يراد توقيعها علي من غش ، وفيها أيضاً زجر له عن أن يعود إلي ذلك مرة أخري ويكو انتفاع الناس أو الفقراء بذلك أنفع من إتلافه (36) .

ولا شك أن هناك من المنكرات التي يترتب على منع وقوعها عن طريقعامة الناس مشاكل كثيرة وعواقب وخيمة ، فلا نتصور أبداً ترك إقامة الحدود التي فيها إتلاف كقطع يد السارق وعقوبة المحارب لكل إنسان ، وإذا كان للمحتسب أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم ، فإن لهذا المحتسب حدوداً يجب ألا يتخطاها أو يتعداها، وإذا كان المحتسب المفوض من السلطان والمعين في وظيفة الاحتساب يعطي حق معاقبة المخالفين بالضرب أو الحبس ، من حقوق الإمامة أو الخروج على الأذان المشروع ، فإن القتل وقطع إليد وغير ذلك إنما هو خاص بولي الأمر فقط (37) .

ولو نظرنا إلي مراتب الحسبة (38) لوجدنا أن لها خمس مراتب أولي هذه المراتب التعريف ، والثاني الوعظ بالكلام اللطيف ، والثالث السب والتعنيف وذلك من غير فحش كأن يقول لفاعل المنكر يا جاهل يا أحمق ، ألا تخاف الله أو شيئاً مثل ذلك ، والرابعة المنع بالقهر مثل كسر الملاهي وإراقة الخمر واسترداد ثوب مغصوب أو نحو ذلك ، أما المرتبة والخامسة فهي التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب لمن يفعل المنكر حتي يتوقف عما يفعله من منكرات ، وذلك كالذي تعود على اغتياب الناس أو قذفهم .

وإذا كنا قد أثبتنا أن كل الناس يجوز لهم إنكار المنكر بإليد وأن الفقهاء قد شرطوا أن يكون هذا الإنكار لمن تملك ذلك ، كالرجل في بيته – أو الوزير في وزارته كل من يرعي رعية هو مسئول عنها ، ولا يصح أن يفهم أحد أنه إن ثبت أن لأحاد الرعية أي غير المأذونين من الإمام أو الوالي أن يحتسبوا على ما يرونه من منكر ومنع هذا المنكر حال وقوعه أن لهم أن يفعلوا ذلك في كل الأحوال ودون أية شروط ، وإن لهم إيقاع العقوبة بالمخالفين فإن ذلك مشروط بشرط عدم وقوع منكر أخر ، أو قيام فتنة أو غير ذلك مما يؤدي إلي منكر أكبر .

وذلك أن جمهور العلماء لا يشترط ضرورة إذن الإمام أو الوالي لكل من ينكر منكراً أياً كان هذا المنكر ، وإنما يشترطون ذلك فقط لمن تتوفر فيهم شروط معنية ويمنحونهم سلطة منع المنكر بالقوة باعتبارهم ممثلين لولي الأمر .

ولذلك فإن المرتبة الأولي من الحسبة وكذا الثانية وهما التعريف والوعظ لا يحتاجان إلي إذن الإمام ولا موافقته ، لأن الفاعل للمنكر لا يدري أن ما يفعله منكر فوجب تعريفه بلطف ، ومن غير استثارة أو عنف ، حتي يقبل منه ويستمع إليه – كذلك فإن النصح أيضاً يقبله كل إنسان ما دام صاحبه يؤديه بأدب فيلتزم فيه قواعد هذا النصح الذي يجب ألا يؤدي إلي إحراج المنصوح أو إشعاره بالجهل وعدم الفهم .

ولذلك بقول الإمام الشافعي : من وعظ أخاه سراً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه .

وما دام منكر المنكر يعرف فاعله بلطف وينصحه وبذكره بالله ، فيخوفه من عذابه وأليم عقابه ويرغبه في ثوابه ، فلا بأس في ذلك ولا حرج عليه ، بل هو مطالب بذلك باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب على كل مسلم ومسلمة ، أما مراتب الحسبة الثلاث الباقية فقد توقف العلماء عندها ، وكانت لهم شروط يجب أن تتوفر فيمن يستعملها .

فبعضهم يري أن السب والتعنيف يمكن أن يقوم به أحاد الناس على أساس أنه كلام صدق والصدق مطلوب من المسلم ، كما أن أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر كما ورد في الحديث (39) .

ويقول من يري ذلك : إذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلي إذنه .

وأما المرتبتان الرابعة والخامسة وهما المنع بالقوة بطريق المباشرة ككسر الملاهي وإراقة الخمر كالتخويف والتهديد بالضرب أو مباشر الضرب ، فإن جمهور العلماء على منع فعله لأحاد الناس ، ويكون هذا من حق ولي الأمر وحده ، لأنه قد يؤدى إلي جمع أعوان من الجانبين ، ويجر ذلك إلي قتال ، ولو حاولنا أن نعرف أسباب منع جمهور العلماء لاستعمال المراتب الثلاث الأخيرة التي هي السب والمنع بالقوة والتهديد بالضرب أو مباشرته لعرفنا أنه لو سمح لكل الناس باستعمال هذه المراتب لأدي إلي فتنة عظيمة وفساد كبير فمن يتخيل أن الولد يستطيع أن يفعل شيئاً من ذلك مع والده ؟ أو أن عبداً يفعله مع مولاه أو زوجة مع زوجها أو تلميذاً مع أستاذه ، أو تفعله الرعية مع الوالي ؟ فإن جاز أن نقول إنه بإمكان هؤلاء أن يستعملوا المرتبتين الأولين ، وهما التعريف بالحسني والوعظ بالكلام اللطيف ، فكيف نتخيل أن يسب الولد والده أو يزجره أو يعنفه نتخيل أن يسب الولد أو التلميذ أستاذه أو يجرؤ واحد أيا كان أن يفعل ذلك مع الوالي ؟ ناهيك عن منعه بالقوة أو مباشرة الضرب له ، أو حتي كسر الملاهي وإراقة خمر يشربه ، وإذا قيل إن نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وردت في الكتاب والسنة من غير تخصيص ، نقول إن هناك أدلة أخري من الكتاب والسنة يمكن أن تكون دليلاً على تخصيص ذلك وعدم الأخذ بعموم تلك النصوص .

ومن ذلك أن الله تعالي أمر الأبناء بالبر بالأباء وعدم تعنيفهم أو التعرض لهم بأي أذي حتي ولو بالتأفيف فقال سبحانه : { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً } فكيف يتفق هذا مع الاحتساب عليهما بالسب أو التعنيف أو التهديد أو مباشرة الضرب ؟ هذا بالإضافة إلي ما ورد في السنة من عدم السماح للولد بجلد أبيه في الزنا ولا مباشرة قتل أبيه الكافر : مع الاحترام الواجب .

كذلك هل يتفق استعمال هذه المراتب الثلاث للزوجة على زوجها أو نحوها وقد ورد في الحديث الصحيح أنه لو جاز السجود المخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ؟ وإذا كان قد ورد في الأخبار التي ثبت بعضها بالإجماع أنه لا يجوز للولد أن يؤذي أباه بعقوبة هي حق قضي به القاضي على جناية سابقة ، فلا يجوز له من باب أولي إيذاؤه بعقوبة عن جناية مستقبلة متوقعة (40) .

كذلك فإذا كان استعمال المراتب الثلاث للاحتساب مع الوالد أو مع الزوج لا يصح حتي لا تسقط الهيبة – فكيف يجوز ذلك للرعية مع السلطان ؟ .

وقد ثبت النهي عن الإنكار على السلطان جهرة ؛ لأنه يؤدي إلي خرق هيبته ، فقد روي الحاكم في المستدرك من حديث عياض بن غنم الأشعري : ( من كانت عنده نصيحة لذي سلطان ، فلا يكلمه بها علانية ، وليأخذه بيده ، فليخل به ، فإن قلبها ، وإلا كان أدي الذي عليه والذي له ) وهو حديث صحيح الإسناد .

وقد روي الترمذي رواية أخري من حديث أبي بكرة : ( من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله في الأرض ) وهو حديث صححه الترمذي وحسنه (41) .

ولا يتصور أبداً سكوت حاكم على كسر أنية خمر في بيته ، أو الهجوم على خزانته وأخذ الأموال التي اغتصبها ، وردها إلي أصحابها عن طريق القوة ، أو تمزيق ثيابه الحرير على أساس أن هذه منكرات يجب إزالتها بإليد ، فلا شك أن مثل هذه الأعمال تؤدي إلي خرق هيبته ، وإسقاط حشمته ، وذلك ولا شك محظور ، وقد رأينا كيف ورد النهي عن ذلك كما ورد النهي عن السكوت على المنكر .

وقد قلنا قبل ذلك يجب التوقف عن إزالة المنكر التي تؤدي إلي منكر أكبر ، وقد روي أن الحسن سئل عن الولد : كيف يحتسب على والده ؟ فقال : يعظه ما لم يغضب ، فإن غضب سكت عنه (42) .

ولا شك أن الحاكم لن يكتفي بمجرد الغضب حين يمنع بالقوة عن ارتكاب المنكر ، بل قد يؤدي ذلك إلي قتل من يأمره بذلك ، بل قد يصل الأمر إلي أذي غيره بسبب تجرئه عليه أمام الأخرين ، ومحاولة إسقاط هيبته أمام رعيته .

وهذا لا يتعارض أبداً مع قوله صلي الله عليه وسلم : ” أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ” فنص الحديث هنا يوضح أن الاحتساب على الحاكم هو مجرد قول أو كلمة ، وليس منع منكر بالقوة أو بأسلوب خشن فيه سب أو شتم أو إهانة ، وقد ذكرنا قبل ذلك ما قاله الإمام الشافعي : ( ومن وعظ أخاه سراً فقد زانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه ) هذا مع الأخ فكيف بالحاكم ؟ .

ومعني هذا أن المطلوب من المسلم بالنسبة للحاكم هو مجرد النصح والوعظ ، وبشروطه التي عرفناها من كلام الشافعي السابق ومن الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه وذكرناه قبل قليل . ولعل هذا ما ترشح له لفظة ” عند ” وهي ظرف مكان ، أي أن كلمة الحق المطلوبة تقال عند السلطان بينه وبينه ، حتي يبقي على هيبة السلطان ومكانته أمام الأخرين .

ويقول الإمام الغزالي في كتابه : ” إحياء عليوم الدين ” (43) : ( واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معني العجز ، وكذلك إن لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلي معنيين : عدم إفادة إنكار امتناعاً ، والأخر خوف مكروه ، ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال ) .

ثم يفصل الإمام الغزالي هذه الأحوال الأربعة ، ويذكر الحالة الأولي هي اجتماع أمرين أولهما : علم الإنسان بأن كلامه في إنكار المنكر لن ينفع ولن يأتي بثمرة ، وثانيهما : أنه إن تكلم ضرب ، ويقول إنه في هذه الحالة يجب أن يتوقف عن إنكار المنكر ؛ لأنه لا تجب عليه الحسبة في مثل هذه الأحوال بل ربما تحرم في بعض المواضع . ويري الإمام الغزالي أنه يلزمه فقط : ألا يحضر مواضع المنكرات ، ويعتزل (44) في بيته حتي لا يشاهدها . ولا يخرج إلا للضرورة ، على أن لا ينتظر في بلده لا يهاجر منها إلا إذا كان يستدرج إلي الفساد ، أو يساعد الحكام في الظلم والمنكرات ، حينذاك تلزمه الهجرة إن قدر عليها .

أما الحالة الثانية : فهي تأكد المسلم من زوال المنكر بقوله وفعله ، وعدم أصابته بمكروه ، وفي هذه الحالة يجب عليه الإنكار ، ويأثم إن سكت .

أما الحالة الثالثة : فهي تأكده من أن إنكاره لن يفيد لكنه لن يصاب بأذي ، وفي هذه الحالة يري الإمام الغزالي أن الحسبة لا تجب عليه لعدم فائدتها ، وإنما تستحب فقط لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين .

وإن كنت أري أنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينكر ما دام لا يخاف المكروه ، باعتبار أن الدعوة واجبة على كل قادر عليها ، وأنه مطالب بذلك دون انتظار النتيجة التي تؤدي إليها قوله ، وعلى أساس أننا قد أثبتنا قبل ذلك وجوب الدعوة على كل قادر عليها على قدر طاقته واستطاعته ، وبالشروط التي قررها العلماء .

أما الحالة الرابعة : فهي عكس الحالة الثالثة ، وهو أن يعلم أن إنكاره يؤدئ إلي إصابته بمكروه ، إلا أن المنكر يزال بفعله ، ذلك كأن يريق الخمر ، أو يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ويعلم أن من فعل معه ذلك سيرجع إليه ليضربه أو يؤذيه .

والإمام الغزالي يري أن الاحتساب في مثل هذه الحالة ليس بواجب وليس بحرام ، وإنما هو محتسب فقط ، ما دام يؤدي إلي منع هذا المنكر .

الإمام الغزالي يري أن فعل ذلك مستحب لأنه يري أن منع المنكر أهم بكثير من إصابة المسلم بأذي في نفسه ، على أساس أنه غالبا ما يصيب الدعاة الأذي ، ولعل ذلك يتضح من قول الله تعالي على لسان لقمان كما يحكي القرأن : { يابني اقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } (45) بالإضافة إلي أن امتناع المسلم عن إنكار المنكر لمجرد الخوف من الأذي قد يؤدي إلي إحجام الناس جميعاً عن إنكار المنكرات . وهو حين يضحي بنفسه لا شك أنه يخدم أمة بأسرها قد يؤدي ترك المنكر فيها إلي انتشاره وإضلال كثير من الناس . وإذا جاز للإنسان أن يضحي بنفسه في الحسبة ، ولا يمكن اعتبار ذلك إلقاء بنفسه إلي التهلكة التي نهي الله عنها في قوله : { ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة } (46) ، فقد يؤدي إنكار المسلم للمنكر ، وجرأته في ذلك إلي كسر قلوب أصحاب هذه المنكرات ، والحد من شوكتهم تماماً ، كما يقاتل المسلم إلي أن يقتل وهو يعلم أنه بذلك يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جرأته ، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة بالموت ، وحبهم الشهادة في سبيل الله (47) .

وما دام المسلم قد تأكد أن لحسبته تأثيراً في رفع المنكر ، أو في كسر جاه الفاسق ، أو في تقوية قلوب أهل الدين ، فلا بأس أن يضحي بنفسه إن أراد مصلحة الإسلام والمسلمين ، ما لم يتأكد أن ذلك سيؤدي إلي الإضرار بأحد غيره من أهله أو إخوانه أو أقاربه أو أي إنسان أخر يتأكد لديه وقوع الضرر عليه بسبب ما يرتكبه هو من إنكار للمنكر .

والإمام الغزالي يؤكد أنه إن كان الفاسق متغلباً ، وعنده سيف ( رأي سلاح ) (48) وبيده قدح ، وعلم أنه لو أنكر عليه الشرب ضرب رقبته ، يقول الغزالي : ( فهذا مما لا أري للحسبة فيه وجها ، وهو عين الهلاك فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ، ويفديه بنفسه ، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر ، فلا وجه له ، بل ينبغي أن يكون حراماً ) (49) .

ويؤكد الغزالي أن استحباب الإنكار إذا قدر فقط على إبطال المنكر ، أو ظهر لفعله فائدة ، ويعود فيكرر ويقول : ( وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه ، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه ، فلا تجوز له الحسبة بل تحرم ) (50) .

ويمكن أن يستدل من هذا على أن أولئكم الذين ينكرون المنكرات ، فيزيلونها بأيديهم ، كحرق الملاهي أو محلات الفيديو أو منع إقامة الحفلات الموسيقية والغنائية أو غير ذلك مما سمعنا أو قرأنا عنه في هذه الأيام ليس لمن يفعله الحق في ذلك ، لأنه قد تأكد لهم ولغيرهم أن هذا لا يؤدي إلي منع المنكر أو إزالته ، وإنما يؤدي إلي العكس تماماً ، حيث يقع الضرر على عائلات وأسر ، وجماعات وفرق ، يصابون بأذي شديد ، وتؤدي أفعالهم هذه إلي حرمانهم حتي من مجرد النصح والتذكير ، لأن الدولة تري أن الاعتداء الذي يقع على هذه الأماكن إنما هو اعتداء على هيبتها وكرامتها ، وأنه إن ترك يؤدي إلي زوال هذه الهيبة ، وهيمنتها على النظام ، ولذلك يكون العقاب شديداً ، بل قد يصل الأمر إلي حد تلفيق التهم لكثيرين من الأبرياء ، وتضاف تهم أخري لمن يرتكبون مثل هذه الأعمال ، التي تبين أنها لم تؤدي إلا إلي أضعاف قوة المجتمع المسلم ، واستغلال السلطة وأعداء النظام الإسلامي لهذه الأعمال لإثبات عدم إمكانية تطبيق النظام الإسلامي الذي لا يتعامل إلا بالعنف والإرهاب .

وإذا كنا قد قلنا بإنه لا يصح لمنكر المنكر أن ينكر على الحاكم ما يفعله من منكرات بمجرد القول فكيف ، لمن يريد إهانة الحاكم وإسقاط هيبته ؟ ؟ ولذلك ، فإن الذين يتصورون أنه باغتيالهم لبعض حراس البنوك أنهم بذلك يزيلون المنكر ، فإنهم ولا شك مخطئون ، فهذه البنوك ليست ملكاً لأفراد ، ولا علاقة لحراسها بما تفعله هذه البنوك ، وإنما الاعتداء عليها أو على غيرها من أماكن المنكرات يمثل اعتداء على النظام الذي يحمي هذه المنكرات ، والذي يحتاج إلي وسائل أخري وأساليب مختلفة لإزالة هذه المنكرات ، ليس منها ولا شك هذا الأسلوب الذي ثبت أنه يضر ولا يفيد ويتسع ضرره على الأمة ككل ، وعلى الصحوة الإسلامية وأصحابها وهم كثيرون بصفة عامة .

ولا يعني السكوت عن المنكر عند التأكد من توقع الأذي الاعتراف بهذا المنكر أو إقراره ، وإنما هو مجرد سكوت مؤقت ، وهو ما يعرف ( بالمداراة ) .

وعليه أن ينكر المنكر بقلبه ، وعليه أن يراقب الله في تحديد موقفه ، ويستفتي قلبه ، ليزن أحد المحظورين بالأخر ، هل المصلحة في الإنكار أم في عدم الإنكار ؟ ويرجع ما يراه بنظر الدين لا بموجب الهوي والطبع ، فإن رجح السكوت بموجب الدين سمي سكوته ” مداراة ” وإن رجحة بموجب الهوي سمي سكوته ” مداهنة ” وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق . ولذا فحق على كل متدين أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه هل هو الدين أم الهوي ؟ .

وأعود مرة أخري لأكرر بأن على المسلم أن يمتنع على الفور عن عمل ما يؤدي إلي الإضرار بأولاده وأقاربه ، لأنه إن جاز له أن يسامح في حقوق نفسه ، وقبول الأذي لشخصه فليس له أن يسامح في حق غيره ، لأنه في هذه الحالة يصبح دفع منكر يفضي إلي منكر أخر ، ولا يصح أن يؤذي غيره ، ولا أن يفعل شيئاً يؤدي إلي الإضرار بهم إلا برضاهم . وإيذاء المسلمين محظور ، كما ان السكوت على المنكر محظور ، وإن كان بعض العلماء (51) يري أنه إن لم ينالهم أذي في مال أو نفس وإنما ينالهم مجرد سب أو شتم ففي هذا نظر  ، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ، ودرجات الكلام المحظور في نكاتيه في القلب ، وقدحه في العرض ، أي إن كان  السب أو الشتم فيه فحش كبير ، وقدح في عرض المسلم أو جرح لكبريائه و كرامته ، فعليه أيضاً أن يتوقف حتي لا يؤذي غيره .

نخلص من هذا إلي أنه وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو دعوة المسلمين للمسلمين ، واجباً على كل مسلم ، فإنه لا مناص من ضرورة الالتزام بالأسلوب الذي حدده المولي سبحانه في قوله : { ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } وبخاصة حين يختلط الصالحون بغيرهم والمسلمون بغيرهم ؛ لأن استخدام القوة يؤدي إلي خطر كبير على الدعوة والدعاة معاً للأسباب التالية :

  • ستتعرض فئات المجتمع جميعها دون تفرقة بينها لألوان البطش والإرهاب ، وسيذهب البرئ مع غيره ، والصالح مع الطالح ، وسيعامل كل أصحاب الاتجاه الإسلامي بنفس المعاملة التي تعامل بها الدولة من يقاوموت المنكرات فيه بأسلوب القوة والعنف .
  • ستغيب الدعوة بالحكمة والموعظة والكلمة ، ولن يكون هناك وسيلة للتفاهم سوي القوة .
  • سيترك الدعاة أماكن التأثير في المجتمع ، وسيبعدون أو يبتعدون ، ويحاربون بدعوي الخوف منهم ومن أفكارهم التي قد يتصورها كثير من الناس على غير حقيقتها متأثرين بما تذيعه وسائل الإعلام الحكومية عنهم واتهامهم بما ليس فيهم .
  • ستنفرد الأفكار المعادية بتربية المجتمع وتوجيهه ، وتضطر الدولة إلي ترك أصحاب الفكر العلماني ، وإن لم تقتنع به ، ليساعدها في منع هذا التيار الديني وستخشي بعض الأنظمة على نفسها من هيمنة أفكار ستؤدي بالتالي إلي تغيير النظام ، ولن تقبل دولة تعتمد على نظام معين ترك من يحاول إسقاط هذا النظام وإبعادهم عن السلطة والحكم .
  • سيواجه الإسلام بالدعاية المضادة ، وسيقال بأن رجاله لا يفهمون سوي لغة القوة والبطش .
  • ستخسر الدعوة من رجالها من يصعب تعويضه ، وسد العجز الناشئ عن فقده .
  • سيحول هذا الأمر دون لحاق كثير من الناس بركب الدعوة ؛ لأن الناس أبناء سيفهمون بسبب طيش وتصرفات بعض أبناء المسلمين أن الدعوة ليس لها هدف عميق صبور طموح يعمل – بإذن الله – على إيصال المجتمع إلي قبول الإسلام ، وسيتصور الناس ، بأنه لا توجد خطة واعية ناشطة للوقوف في وجه الفتن التي ستبقي تلاحق أبناءه وجيرانه وأتباعه ، وليس مطلوباً أن يعرف الناس أن المسلم لا يريد سوي الموت في سبيل الله ، وإنما على المسلم أن يضع في اعتباره وحسبانه مقارنة قوته بقوة أعدائه ، وإلا فإنه يحول العمل للإسلام إلي ضرب من الانتحار .

الفرق بين الجماعة والمجتمع :

هناك خلط كبير بين طبيعة الجماعة بالمفهوم السائد لها الأن في مجال الدعوة وطبيعة المجتمع ، والذين يطالبون الجماعة بما يطالب به المجتمع إنما يفعلون ذلك لأنهم يفرقون بين الجماعة والمجتمع ، ويظنون بأن الجماعة مجتمع .

ولا شك الجماعة هي مجرد أفراد من الناس التقوا على فكر معين ، وولاء معين وخطة معينة ، ولهم تنظيم وقيادة .

وهؤلاء الأفراد يتناثرون بين فئات المجتمع لا يشكلون أكثرية عددية ولا يملكون القوة الفاعلة في أجهزة المجتمع ومؤسساته .

أما المجتمع فهو قطاع عريض من الناس يحكمهم نظام ويخضعون لسلطان ، وهذا القطاع له مؤسساته وأجهزته ، وهو يسيطر على هذه المؤسسات والأجهزة ، ويضع لها السياسات ، ويقوم هذا القطاع العريض يعمل على صياغة الأفراد وفق قيمه وتطلعاته .

ونستطيع أن نتصور أن المسلمين في مكة قبل الهجرة ، بحسب وضعهم في المجتمع المكي يمثلون حالة الجماعة . أما في المدينة المنورة بعد الهجرة وبعد أن تأسست الدولة ، وسيطرت هذه الدولة على أفراد المجتمع ، ووضعت لهم من المؤسسات والأجهزة والسياسات ما يمكنها من إدارة هذا المجتمع وتوجيهه يمثلون حالة المجتمع . ويمكن لنا تخيل الفرق الكبير بين جماعة المسلمين في مكة والمجتمع الإسلامي في المدينة بعد الهجرة . وإذا فهمنا الفرق جيداً نستطيع أن نتبين الفرق بين مواجهة مجتمع لمجتمع أخر ، وبين مواجهة جماعة لمجتمع فالجماعة لا يمكن أبداً ولا تستطيع أن تواجه المجتمع ، وذلك لأن المجتمع نسيج كامل ، وأجهزة فعالة ناشطة لا تتوقف عن العطاء والتنمية والتكاثر ، ففي المجتمع تبقي المؤسسات التعليمية تعمل ، وتبقي المؤسسات الاقتصادية تنتج ، وتظل الدوائر التربوية تربي ، ويحمي النظام عادة قوة منظمة قوية ، وعندها من الإمكانات البشرية والمادية والمساعدات الدولية ما لا يمكن أن يوجد عند جماعة لا تملك شيئاً من ذلك ، حتي وإن ملكت سلاحاً ؛ لأنه سيكون سلاحاً محدوداً لا يمكن له أن يجابه سلاح أو قوة المجتمع الممثل في الدولة التي تحكم وتملك وتتحكم . بالإضافة إلي أن الجماعة – أي جماعة – إن كانت وسيلتها هي استعمال العنف والتغيير عن طريق القوة فستكون مرصودة رصداً كاملا من السلطة الحاكمة التي ستعمل بشتي الطرق والوسائل ليس للعمل على مجرد إضعافها ، وإنما للقضاء عليها ، واصطياد افرادها ، بسبب المواجهة ورصد القوة الحقيقية لها عن طريق هذه المواجهة .

كما أن الجماعة إذا دخلت محنة القتال ، فإن دوائرها التربوية والاقتصادية والعلمية وسائر وسائلها إن كانت عندها هذه الدوائر ستتوقف عن العمل ، وفي النهاية فإنها ستضمر وستنزوي ، وإلي جانب ذلك فإن المجتمع لا يهتز بخسارته فرداً من أفرادها ، أما الجماعة فستتأثر كثيراً بفقد فرد من أفرادها ، وبخاصة إذا كان أميراً أو زعيماً .

ولم يثبت أبداً في تاريخ أي دولة من الدول ، ولا في أي دين من الأديان أن انتصرت جماعة على مجتمع عن طريق القتال أو العنف ، وإنما انتصرت الجماعات الإصلاحية حين استعملت وسائل التربية والتعليم ، والتغيير بالنصح والإرشاد ، أو بالمساعدة والإغراء المادي أو غير ذلك من الوسائل السلمية التي تؤدي – غالباً بل دائما – إلي النتائج المرجوة ، وإن كانت على المدي البعيد .

لم يفكر النبي صلي الله عليه وسلم لحظة واحدة في محاربة المشركين في مكة ، أو استعمال أي أسلوب عنيف مع أهلها قبل الهجرة إلي المدينة ، يوم أن كان يشكل مع أصحابه مجرد جماعة في مجتمع قوي متماسك يملك من المال والسلاح ما لا تملكه جماعة المسلمين . لم يفكر النبي في اغتيال زعماء مكة وقادتها . بل لم يتعرض للأصنام والأوثان التي كان يتوجه إليها في صلاته ، ويطوف حولها والأصنام تحيط بها من كل جانب .

وعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على دعوة النبي ، وإسلام عدد لا بأس به من أهل مكة ، وبيعة عدد أخر من الأنصار في العقبة ، فإنه رفض أن يوافق الأنصار حين أستأذنوه في أن يميلوا على أهل مني بأسيافهم ، وذلك بعد أن علموا أن البيعة هي على حرب الأحمر والأسود من الناس (52) ، وظنوا ذلك يجب فوراً ، حتي بينه لهم النبي – صلي الله عليه وسلم – ومنعهم منه حتي يأتي أوانه .

لم ياذن النبي في ذلك لأن الهدف من الدعوة ، لم يكن مجرد الانتقام من رءوس الشرك ، وإلا لأمر النبي أتباعه بقتلهم ، ولو كان الهدف من الدعوة أن يص المؤمنون إلي مرتبة الشهادة بأي حال ، لقاموا بذلك في بداية أمرهم عند البيعة وهم في طور الجماعة . وهذا عمل لا ينسجم مع الأهداف والمصالح الكبيرة التي راعاها هذا الدين .

حتى في المدينة المنورة ، وبعد أن أصبحت مجتمعاً استعاض الرسول صلي الله عليه وسلم عن حرب التصفية الجسدية بحرب الدعوة والجدل والإحسان للخصوم ، لأن أهل المدينة لم يدخلوا في الإسلام مرة واحدة بل بقيت طوائف النفاق تعيث فساداً وتتآمر علي المسلمين ، ومع ذلك سكت النبي صلي الله عليه وسلم علي المنافقين مع أنهم أخطر علي الإسلام والدولة الإسلامية من المشركين واليهود علي حد سواء .

يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوي علي ضرورة ترك إزالة المنكر إن أدي إلي منكر (53) .

(ومن هذا الباب : إقرار النبي صلي الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي ، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان ، فإزالة منكرة بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك ، بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه) .

ومما لاشك فيه أن الواقع الذي يعيشه المسلمون له تأثير كبير علي فكرهم وممارساتهم له تأثير كبير علي فكرهم وممارساتهم ولا يصح أن يصل ضغط هذا الواقع إلي درجة يفقد المسلم معها قدرته علي تصور الخط المنهجي ، فيندفع المتحمسون إلي المواجهة والانتقام ولو علي حساب الدعوة ، يقول الشهيد سيد قطب (في ظلال القرآن) (54) (إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً ، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة ، عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة . بل إن هذه تكون القاعدة ، وذلك لأن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحماية التكاليف ، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار ، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال – قلة احتمال الضيق والأذي والهزيمة – فتدفعهم قلة الاحتمال إلي طلب الحركة والدفع والإنتصار بأي شكل ، ودون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار ، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا ، فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً ، علي حيث يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق والأذي بعض الوقت ويعدون للأمر عدته) انتهي .

وعليه ، فإن الحل الصحيح هو أن يعرف دعاة الحق أن ضغط الواقع ينبغي ألا يسوقهم إلي الحل الخطأ ، ومهما طال انتظار الحل الصحيح ، فإن هذا هو الصواب ، فطول الزمن لا يفقد الحق أحقيته ، وقصر الزمن لا يعطي الخطأ صفة الصواب .

وأخيراً ، فإن من يريدون إقامة شرع الله ، وتطبيق النظام الإسلامي الصحيح يجب أن يركزوا علي تكوين القاعدة ، وإقامة المجتمع الإسلامي الذي يمكن أن يقف في وجه مجتمع يحارب الإسلام أو يمنع وصوله إلي الناس . والدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، هي الوسيلة إلي تكوين مجتمع الإسلام وقاعدته .

 

 

الهوامش

  1. آل عمران : 104 .
  2. التوبة : 122 .
  3. انظر مادة دعا .
  4. ص 12 .
  5. هو أحد العلماء السوريين الذين يعملون في حقل الدعوة ويعمل حالياً بجامعة الإمام محمد بن سعود بكلية الدعوة بالمدينة المنورة .
  6. المدخل إلي علم الدعوة ص 67 .
  7. المرجع السابق ص 68 .
  8. الدكتور أحمد غلوش في كتابه الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها ص 10 .
  9. بمعني أنه لو أداها البعض سقطت عن الآخرين .
  10. سورة الحج الاية 41 .
  11. سورة آل عمران الآية 104 .
  12. سورة النحل الآية 125 .
  13. سوري الشوري الآية 15 .
  14. القصص الآية 87 .
  15. صحيح البخاري جـ 1 ص 37 كتاب العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب .
  16. نبيل الأوطار جـ 7 ص 239 .
  17. رواه البراز من حديث عمر بن الخطاب والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة وللترمذي من حديث حذيفه نحوه .
  18. آل عمران 104 .
  19. التوبة 122 .
  20. أحمد غلوش الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها ص 237 .
  21. المرجع السابق ص 237 .
  22. أي يتوهمون منها أن الإنسان ما دام قد فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه فلا شئ عليه حتى وإن رأي غيرها يخالف ذلك ولا حرج عليه إن لم ينهه – وليس كذلك . راجع أحكام القرآن للجصاص جـ 2 ص 31 .
  23. سورة الزمر 7 .
  24. الحسبة ص 275 .
  25. أحكام القرآن للجصاص جـ 2 ص 31 .
  26. المائدة : 78 ، 79 .
  27. تأطرنه : بكسر الطاء وضم الراء أي تردنه .
  28. تقصرنه بضم الصاد والراء أي تمنعنه من مجاوزته .
  29. الكهف 29 .
  30. هود 36 .
  31. راجع مجموع الفتاوي مجلد 28 ص 136 إلي 137 .
  32. راجع مجموع الفتاوي مجلد 14 ص 472 ومجلد 28 ص 126 إلي 128 .
  33. راجع مجموع الفتاوي مجلد 14 ص 473 .
  34. راجع مجموع الفتاوي مجلد 14 ص 479 – 480 .
  35. مجموع فتاوي ابن تيمية مجلد 14 ص 481 – 482 .
  36. راجع مجموع فتاوي ابن تيمية المجلد 28 ص 110 – 115 .
  37. ابن تيمية ص 67 ، 68 ، 69 .
  38. المعروف أن الحسبة هي أيضاً (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وإن كان الاحتساب لا يكون إلا حين يظهر المنكر ويترك المعروف . فالدعوة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً أعم من الحسبة حيث إن الأمر والنهي يكون في كل الحالات سواء كان المعروف موجوداً أو غير موجود والمنكر قائماً أو لم يظهر فعله بعد ، ولذلك عرف العلماء الحسبة بأنها : (قول بمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا أظهر فعله) . راجع الحسبة لابن تيمية ، والأحكام السلطانية للماوردي وغيرهم من كتب الحسبة والدعوة .
  39. حديث ( أفضل للجهاد كلمة حق عند إمام جائر) رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري .
  40. راجع إحياء علوم الدين ص 1208 أو ص 20 من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – جـ 7 .
  41. إحياء علوم الدين جـ 7 ص 25 .
  42. إحياء علوم الدين جـ 7 ص 26 .
  43. المرجع السابق .
  44. لا يقصد من اعتزاله التوقف عن العمل ، وإنما يقصد عدم مشاركة أصحاب المنكرات ما لم يتسيب ذلك في الإضرار به إن كان كسبه متوقفاً علي الاتصال بهم والعمل تحت أمرتهم .
  45. لقمان 17 .
  46. سورة البقرة 195 .
  47. ويختلف هذا بإختلاف الأشخاص فلا شك أن تضحية عالم كبير بنفسه في سبيل منع المنكر أو عدم انتشاره قد يصل إلي حد الوجوب وبخاصة إذا تأكد أن عدم إنكاره قد يحل حراماً أو يحرم حلالاً فلا يصح مثلاً أن يسكت المفتي أو من كانت له مكانة خاصة عند الناس أن يوافق علي إباحة الفطر في رمضان مثلاً أو يحرم الزواج بأكثر من واحدة كما حدث في بعض البلاد الإسلامية .
  48. يقاس علي ذلك أصحاب السلطة وما يملكونها من قوة يقفون بها في وجه من يحاول إزالة المنكرات التي يفعلونها أو يقرونها .
  49. إحياء علوم الدين جـ 7 ص 27 .
  50. المرجع السابق .
  51. راجع إحياء علوم الدين جـ 7 ص 32 .
  52. راجع قصة البيعة في إمتاع الأسماع ص 36 ، وسيرة ابن هشام وغيرها من كتب السنة والسيرة .
  53. جـ 28 ص 131 .
  54. جـ 2 ص 712 .

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر