أبحاث

أبو الحسن الأشعري ومنهجه الوسطي

العدد 44

يعتبر أو الحسن الأشعري إمام أهل السنة بغير منازع, ورائد الحركة المعتدلة أو ما يمكن تسميته بالوسيطة في الفكر الإِسلامي العقائدي, وقد جاء في وقت كان الإِسلام في أشد الحاجة إليه, فقد كان عصره مفعم بتيارات الصراع والمناظرة بين مختلف المذاهب الإِسلامية, فقد كانت فرق الخوارج الذين أثاروا الفتنة في كل مكان, وقادوا كثيراً من الثورات الدموية, ووصموا بالكفر مرتكبي الكبائر, في أوج أزدهارهم.

وكان المعتزلة, رغم ريادتهم للفكر العقلي وقولهم بحرية الإِرادة الإِنسانية ودعواتهم إلىٰ تحمل الإِنسان المسئولية, وعليه القيام بتبعاتها خاصة وأنه بالعقل صاحب الأمتياز بين الخليقة, قد زجوا بالعقل في كل المشكلات, وخاصة تلك المتصلة بصفات الله تعالىٰ وأسمائه, والتي لا يجوز تحكيم العقل فيها بذلك التبجح الذي سار عليه المعتزلة في حل مشكلاتهم العقائدية وتفسير أصولهم الفكرية, حتىٰ بلغ بهم الأمر أن فرضوا مفاهيم إنسانية كالصلاح والأصلاح, ووضعوا واجبات علىٰ الذات الإلهية, تتنافىٰ مع القدرة المطلقة والسلطان اللائق بالذات الإِلهية.

هذا في وقت كان هناك التيار السلفي يقف علىٰ الضد من ذلك, يسلَّم بالنصوص ويحملها علىٰ ظاهرها دون تأويل, مما أوقعه في القول بالتشبيه أو لزم عن تسليمه مثل هذا التشبيه, بل وذهب منهم إلىٰ التجسيم فيما يتصل بصفات الله تعالىٰ عند فهمهم الكثير من الآيات المتشابهة.

فكان للأشعري مع كل هؤلاء مساجلات ومناظرات تفخر بها صفحات التاريخ الفكري للعالم الإِسلامي, وبعد أن كان المسلم يقف في حيرة من أمره, لا يدري إلىٰ أي فئة ينحاز وفي أي إتجاه بلقي بمرساة قاربه, بعد أن تلاطم به الموج وسط كثير من الأنواء والعواطف الفكرية, وجد أخيراً مرفأ مطمئناً يستقر علىٰ شاطيء العقل والنقل, وبعد أن نقشع عن ميادين الصراع غبار المعارك, بدت في الأفق الإِسلامي إتجاهات الإِمام الإِشعري ولمساته الخاصة في تعرضه لمشكلات الفكر الإِسلامي, والحلول التي قدمها لعلاج أدوائها في سبيل الوصول إلىٰ خاتمة المطاف لتهدئة مواطن الصراع, ووضع حد للمجادلات التي ظاقلقت العالم الإِسلامي ردحاً طويلاً من الزمان, وأشاعت في الأفق جواً من التوتر المشدود.

وكان العلاج الفكري الذي قدمه الأشعري, يتبدىٰ واضحاً, في تلك الروح الوسيطة السائدة في معالجته لمراكز النزاع الحساسة في قضايا الفكر الإِسلامي, فقد هاله أن تتشعب بالمسلمين الخلافات والخصومات وأن يتفرقوا شيعاً وأحزاباً, كل فرقة تعادي أختها, فكان لابد من العلاج, وكان هذا الأسلوب الوسط, الذي أنتهجه الأشعري ليرأب به الصدع, ويجمع الشمل.

ولذلك فليس بغريب علىٰ الأشعري وقد أراد الحقائق لذاتها, وأمن بأن عليه إدراك هذه الحقائق علىٰ الوجه الأكمل, أن نراه وقد تألب علىٰ عوامل بيئته الإِعتزالية التي أنشأته وتغذىٰ بلبان أفكارها, وصار له مذهب خاص يتميز به, ولمسة خاصة يضع بها البلسم الشافي علىٰ النقط الحساسة في الصراع, لتلتئم وتشفىٰ, ويتوقف ما تنفثة من حمم ولهب, ولذلك فليس بغريب أن الغلبة في بلاد الإِسلام لا تزال إلىٰ اليوم لمذهب الأشاعرة كما يذكر ذلك الشيخ مصطفىٰ عبد الرزاق في كتابه «التمهيد» بكل فخر.

مرحلة التحول :

ولد علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري بالبصرة عام 260 هــ, وينتهي نسبه إلىٰ أبي موسىٰ الأشعري صاحب رسول الله ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ وأحد الحكمين عن علي كرم الله وجهه في مهزلة التحكيم المعروفة بين علي ومعاوية.

فالأشعري بذلك ينتمي إلىٰ أسرة عربية خالصة لها مكانتها الدينية ومركزها الإِجتماعي الخطير بين العرب.

إلتحق الأشعري بعد نشأته بالمعتزلة مبكراً, ودرس مذهب الإِعتزال علي الجبائي رئيس المعتزلة في البصرة في ذلك الوقت, و استمر في الدراسة حتىٰ بلغ في الإِعتزال مبلغاً خطيراً, كان له أكبر الأثر في تقدير استاذه له وإنابته عنه في كثير من المناقشات والمناظرات التي كان يدعىٰ إليها.

وقد ألف الأشعري في هذه الفترة من حياته كتباً كثيرة في نصرة هذا المذهب والدعاية له, وظل كذلك حتىٰ بلغ الأربعين من عمره, ثم حدث أن اعتزل الناس وغاب في بيته خمسة عشر يوماً كاملة خرج بعدها إلىٰ المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة, ورقىٰ كرسياً, ثم نادىٰ في الناس قائلاً : إنه قد ترك مذهب الإِعتزال وتاب مما كان عليه وأنه معتز إظهار معايب المعتزلة وفضائحهم وأن ينخلع من عقائده السابقة كما يخلع من ثوبه هذا, ثم خله ثواباً كان عليه ورمىٰ به إلىٰ الناس.

ويعلل الأشعري نفسه أسباب تحول ـــ كما وردت في «تبين كذب المفتري» لأبن عساكر, و «طبقات الشافعية» للسبكي إنما يعود إلىٰ رؤيته للنبي ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ ثلاث مرات في نومه آمراَ له بنصرة المذاهب المروية عنه, فإنها الحق, وواعداً له في المرة الأخيرة بتأييد الله له, وكان مستنده في صدق هذه الرؤية أحاديث صحيحة وردت عن النبي في أن من رآه في النوم فقد رآه حقاً, لذلك رأىٰ أن من واجبه أن يذعن للأمر وأن يترك ما هو عليه بالعودة إلىٰ الكتاب والسنة وما فيها من المذاهب الحقة.

ونعتقد أن الرؤيا هي السبب القريب والمباشر لهذا التحول, أما الأسباب البعيدة والعميقة فترجع إلىٰ المشاكل النفسية والروحية التي شعر بها في نفسه, فإن مذهب المعتزلة وبالأخص علىٰ الصورة التي كان يحكيها لأستاذ الجبائي, والتي كانت تحمل في طياتها كثيراً من المشاكل التي لا تجد لها حلاً مرضياً, والدليل علىٰ ذلك تلك المشكلة الفكرية المعروفة بمشكلة الأخوة الثلاثة. فقد سأل أبو الحسن أستاذه الجبائي ذات يوم عن ثلاثة, مؤمن وكافر وصبي, قائلاً : ما عاقبتهم ؟

فأجاب : قائلاً : المؤمن من أهل الدرجات, والكافر من أهل الهلكات, والصبي من أهل النجاة, فرد الأشعري عليه سائلاً : هل يستطيع الصبي أن يكون من أهل الدرجات ؟ فقال : لا

فقال الأشعري : ولم ؟ فرد الجبائي : لأنه يقال له إن المؤمن إنما نال هذه الدرجات بالطاعة وليس لك مثلها. فرد الأشعري قائلاً : فإن قال الصبي لم أقصر ولكني مت قبل أن أتمكن من عملها, فأجاب الجبائي إن الله يقول له كنت أعلم انك لو بقيت لعصيت, فكانت مصلحتك في الموت صغيراً, فرد عليه الأشعري : فإذا قال الكافر, ولماذا يارب لم تراع مصلحتي أنا الآخر, فأموت صغيراً, وأنت تعلم انني حين أكبر سأكون كافراً !! فلم يحر الشيخ جواباً. ( طبقات الشافعية ج 2).

وفي الحقيقة نعتبر أن هذه المشكلة أو المفارقة قد كشفت حقيقة المعتزلة للأشعري بعد أن دان بمذهبهم قرابة ثلاثين سنة, وقد أنتسب إليهم أول الأمر, لأن علىٰ الجبائي كان زوجاً لأمه علىٰ ما تحكي بعض الروايات وقد تأثر به الأشعري في مستهل حياته, خاصة أنه رئيس فرقة من المعتولة, وصاحب باع كبير في هذا المذهب, ولكن الأشعري رأى أن طريقة المعتزلة عامة في إعتمادهم علىٰ العقل بشكل أساسي في العقائد وأصول الدين وخاصة بالصورة التي أتبعوها في فهم العقائد وأن تلك الأصول ستؤدي بالإِسلام إلىٰ الجمود والانهيار, مع ما في ذلك من تفرقة كلمة الأمة وغرس بذور الشقاق بينها, وأنه من الخير لهذا أن يلتقي العقليون والنصيون منها علىٰ مذهب وسط يوحد القلوب ويعيد الوحدة إلىٰ الصفوف مع إحترام النص والعقل معاً.

فكان هذا المناهج الذي أرتضاه الأشعري جامعاً بين الشتيتين, والآخذ من كلام الأمريين بطرف, فسنجده في معظم المسائل الكلامية والعقائدية مزاوجاً بين كلاً من العقل والنقل, مزاوجة لا تجعل لأحدهما الغلبة والأنفراد دون الآخر, وسنجده قد وفق في ذلك إلىٰ حد كبير, خاصة وأنه قد توفرت له وسائل التوفيق وتزود في حياته العلمية بكل أدوات المعرفة, فقد كان علىٰ علم واسع بالقرآن الكريم وآياته وعلىٰ معرفة كبيرة بأحاديث الرسول الصحيحة, وفق كل ذلك علىٰ درجة كبيرة من الخبرة والتمرس بالعقليات والجدليات التي أحسنها طويلاً علىٰ يد أكبر أساتذة الإعتزال في عصره.

وقد جاءت بعد ذلك فترة حياة الأشعري بعد تحوله خصبِة وذات ثراء, ليس فقط بالنسبة لمؤلفاته الغزيرة والتي بلغت أكثر من مائة كتاب, رد في بعضها علىٰ أصحاب التناسخ والدهرية والمجوس والمشبهة والخوارج وبقية الفرق الإِسلامية, وخص المعتزلة بالنصيب الأوفر من نشاطه, حيث ألف عدة كتب في الرد علىٰ علي الجبائي والبلض والأسكافي وأبي الهزيل العلاف وأبي هاشم والوراق وغيرهم, بل أكثر من ذلك حيث كتب كتباً للرد علىٰ نفسه يوم أن كان معتزلياً.

ليس لهذا السبب فحسب كانت حياته خصِبه, بل لسبب آخر, وهو أن دروسه في المسجد الجامع بالبصرة, كانت تعج بطلاب العلم من كل فج, ولعل مما زاد في إقبالهم عليه ما كان يتمتع به من نفس طيبة وروح مرحة ودعابة لطيفة كانت تبدد الملل وتجدد نشاط الأرواح وتأخذ بمجامع القلوب علىٰ ما يذكر ابن خلكان. وكان بالإِضافة إلىٰ كل ذلك يجيب علىٰ كل مسألة أو إستيضاح يرد إليه من سائر البلاد الإِسلامية.

ولم يكن الأشعري أستاذاً في علم الكلام وعلوم العقائد فحسب, بل كان مؤرخاً للفريق وللمذاهب الإِسلامية بلغ درجة كبيرة من الموضوعية والنزاهة والحياد, ولا أدل علىٰ ذلك من كتابه «مقالات الإِسلاميين» الذي حكىٰ فيه مذاهب خصومه بأمانة وإخلاص منقطعة النظير بشهادة كل الباحثين, وبرهن به بالإِضافة إلىٰ ذلك علىٰ سعة أفقه وغزارة مادته. هذا علاوة علىٰ تأليفه كتاب في «القياس» وآخر في «الاجتهاد» وفي «خبر الواحد» ومؤلفات عدة في الرد علىٰ ابن الراوندي في إنكار التواتر, وقد كانت فتنة ابن الروندي قد استشرت بين النفوس الضعيفة, وكانت في أشد الحاجة إلىٰ من يفند تهافتها ويقضي عليها بشكل علمي وفلسفي, اضطلع به الأشعري, كما ألف في تفسير القرآن وفي الأخبار.

نقد الأشعري لمناهج الحنابلة :وفي تصحيح العقائد, وتقديم منهج سليم لفهمها, يبدأ الأشعري بنقد الحنابلة الذين طعنوا في من أراد تأييد الدين بعلم الكلام مستدلين علىٰ ذلك بأن الأبحاث الكلامية بدعة وضلالة, لم يؤثر عن النبي وأصحابه شيء في ذلك. فيدلل الأشعري علىٰ خطأهم بأنه ليس صحيحاً إن كل بحث حول أمر لم يبحثه الرسول يعتبر بدعة أو ضلالة. ولو كان الأمر كذلك للزم أن يكون الصحابة كلهم والتابعون علىٰ كثير من الضلال لأنهم قد بحثوا في أشياء لها تعلق بالدين من جهة التشريع لم يرد فيها نص عن الرسول, حيث بحثوا لفظ البائن والحرام في الطلاق مثلاً, كما بحثوا مسائل العول والجدات في علم الفرائض, والدليل علىٰ عدم ورود نص فيها وقوع الخلاف بين الصحابة في الحكم عليها, ولو كان هناك نص ما وقع الإِختلاف.

وكل ما فعله مالك والثوري وغيرهم من التابعين في المسائل التي لم يرد فيها النصوص من الشريعة, أنهم قاسوا ما يجهلون علىٰ ما يعرفون من الأصول ليستنبطوا أحكامها وقد تم لهم ما أرادوا, وإذا كان ذلك كذلك, فلماذا يحرمون عليه أن يدرس المسائل التي تتعلق بأصول الدين أيضا كي يراها إلىٰ الأصول المتفق عليها من العقل والحس والبديهة.

ثم يبرر الأشعري عدم إشتغال النبي ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ وأصحابه بهذه الأبحاث, لأنه لم تحدث في عهده وقائع معينة أو شبه مخصوصة مما أثاره خصوم الدين في عهده, فلم يتحدث فيها مفصلة وأكتفىٰ بأصولها, الموجودة في الكتاب والسنة وترك للعلماء فضل إستنباط الردود المفصلة علىٰ المشاكل المعينة عند حصولها.

ويبرهن علىٰ صحة هذا الأشعري بقوله أنه عندما قال الحبر اليهودي لرسول الله :«ما أنزل الله علىٰ بشر من شيء» ملوحاً بذلك إلىٰ إنكار تبوة محمد وإتهامه بالكذب, قال القرآن في الرد عليه : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسىٰ} وهذا يعني أن القرآن قد ألزم الحبر بما يعترف بصحته, وهذا أصل من أصول الأشعري في إلزام الخصوم بما يسلمون به.

وحين جاء المشركون إلىٰ النبي ــ صّلى الله عليــه وسلم ــ قائلين حين نزل عليهم قوله تعالىٰ : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } إذن يا محمد فعيسىٰ وعزيز والملائكة في النار لأنهم معبودون ؟ قال النبي الكريم في إجابتهم لا لأن الله تعالىٰ قد قال :{ إن الذين سبقت لهم منا الحسنىٰ أولئك عنها مبعدون}. وهذا يعني أن النبي لم يسكت عن إستدراك مغالطة الخصم والرد عليه وضرورة ملاحظة الآيات كلها قبل الإِعتراض, وهذا أصل من أصول الأشعري.

كما يدلل الأشعري علىٰ جواز الإِستدلال والبرهنة علىٰ حدوث العالم, بذلك الإِستدلال الذي قام به إبراهيم عليه السلام حين رأى القمر والشمس آفلين, وأدرك عقلياً أن الإِله لا يجوز عليه الأفول والتغير الذين هما من سمات الحوادث.

كما يبرهن الأشعري علىٰ وجهة نظره في صحة علم الكلام وإستدلالاته ـــ وهو قد وضع كتاباً في إستحسان الخوض في العلم الكلام ـــ بذلك الدليل الإِلهي الذي يثبت الوحدانية لله تعالىٰ في قوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ويرد الأشعري أغلب براهين المتكلمين من التمانع والتغالب إلىٰ هذه الآية وما يشبهها من الآيات, ويسوق لذلك كثير من الآيات الكريمة التي استخدم فيها الإِستدلال لدحض الخصوم من الملاحــــــــــدة والكفــــــــــرة والمشركين. ولذلك كله فالقرآن والسنة في نظر أبو الحسن الأشعري لم يمهلا العقل, ولم يحرما النظر والاستنباط وإذن فإستعمال العقل في فهم الشرع وتأييده ليس ضلالة كما يفهم هؤلاء الحنابلة.

نقد الأشعري للمعتزلة :

ولكن نقد الأشعري للحنابلة, لا يعني أنه يوافق المعتزلة في إستخدامهم للعقل إلىٰ آخر مداه, وإقحامه في غير شأنه, فإن ذلك في نظره قد أدىٰ عند المعتزلة إلىٰ نفي الصفات عن الله تعالىٰ, حتي وقعوا في التعطيل, فليس لله في نظرهم علم ولا قدرة, مع أن ذلك مخالف للبداهة من جهة, ويؤدي إلىٰ نفي كونه عالماً قادراً من ناحية أخرىٰ, لأن كونه عالماً قادراً معلل في العقل بأن له علماً وقدرة فإذا أنتفيا كما يقول المعتزلة إنتفىٰ كونه عالماً قادراً, لأن إنتفاء الأصل والعلة يؤدي إلىٰ إنتفاء المعلول قطعاً, وقد أداهم ذلك إلىٰ وضع الله في صورة مجردة لا يستطيع العقل أن يتصور وجودها.

كما أن المعتزلة قالوا أيضاً إن الله لا يريد الشر مع أنه موجود في العالم, بل وغالب فيه, ومعنىٰ ذلك أن الله لا يريد أغلب ما يقع في ملكه من أفعال, وهذا يستلزم أن يكون موصوفاً إما بالضعف, فلا يستطيع أن يحول بين الشر وبين الوجود والغلبة, وإما بالغفلة فهو لا يدري ما يقع في ملكه. (اللمع : ص 34).

وإذا كان الناس باسم العقل عند المعتزلة هم الخالقون لأعمالهم خيراً كانت تلك الأعمال أم شراً, فمعنىٰ ذلك أن الله تعالىٰ قد شاركه في أخص صفاته وهي الخلق؛ ملايين الشركاء من البشر الذين يعتبرون في هذه الصفة أقدر منه, لأنه لا يخلق إلا الخير, وهم يخلقون النوعين, ولذلك كان مذهب المعتزلة في رأي الأشعري شراً من مذهب المجوس الذين جعلوا له شريكاً واحداً هو الشيطان, ولم يجعلوه أوسع إختصاصاً من الخالق لأنه لا يخلق إلا الشر في رأيهم, ومن ناحية أخرىٰ فإن الله في رأي المعتزلة لا يملك الخيار حتىٰ في دائرة الخير من أعماله المخصصة له منهم, بل واجبه أن يفعل الصلاح والأصلاح حتماً, ومن واجبه أن يضع الطائعين في الجنة وأن يقذف بالعصاة إلىٰ النار من غير إستثناء, كما أن من واجبه أن يلطف بعباده, فينصب الآيات الدالة علىٰ وجوده, ويجب عليه أيضاً وإلا يكن إلهاً أن يعوض الناس عن آلامهم, فأي إله هذا الذي لا يملك صفة ولا خياراً, بل يعيش محدوداً في نطاق خاص من الأعمال قد حددته له عقول المعتزلة ومنهجهم.

وبناء علىٰ منهاج المعتزلة العقلي فقد حكموا علىٰ أن كلام الله تعالىٰ ــ القرآن الكريم ــ حادثاً لفظاً ومعنىٰ, وهم بهذا قد ذهبوا بجلال القرآن وعظمته في نفوس المؤمنين به, كما أنهم أنكروا الرؤية باسم العقل, فسلبوا بذلك المؤمن أسمىٰ ما يطمع فيه في الآخرة وهو رؤية خالقه الذي عبده علىٰ غيبة منه, إنتظاراً لهذه السعادة الأبدية التي يمنحها الله لعباده المخلصين في الآخرة.

ولم يكتفوا بكل ذلك ويلتزموا الأدب مع حديث رسول الله وما ورد في الكتاب العزيز الذي جاء به, بل أولوا الآيات, وأنكروا السنة وهي صريحة وصحيحة, ففتحوا بذلك باباً للشكاك والطاعنين بعد أن أنكروا أحد أصلى الدين وهي السنة المطهرة, كما أنكروا الشفاعة, وأنكر بعضهم دوام الجنة والنار, كما أجمعوا علىٰ إنكار عذاب القبر والحوض, تبعاً لتحللهم من الإِلتزام بالسنة وتأويلهم ما ورد في القرآن عن ذلك, مع هدمهم القياس في الأمور الفرعية وإبطالهم حجية الإِجماع مما يؤدي إلىٰ إبطال قاعدة من قواعد التشريع الأساسية.

وفوق كل ذلك فقد كفّر المعتزلة بعضهم بعضاً, ولم ينجح المذهب العقلي أو مذهب الإِعتزال في إصلاح النفوس وتطهير القلوب وحمل الناس علىٰ العمل الصالح, ولا أدل علىٰ ذلك من سلوك المعتزلة أنفسهم, فإن كثيراً منهم كانوا فسقة, لا يتورعون حتىٰ عن التظاهر بفسقهم, وهذا منطقي, لأن الجدل العقلي إذا أدىٰ إلىٰ نضوج العقل من ناحية, فإنه يميت العاطفة من ناحية أخرىٰ, أما السلوك الطيب في الحياة فأثر من آثار القلوب العامرة بالعواطف النبيلة, ولذلك فمتابعة العقل كما فعل المعتزلة يعتبر خطأ وخطر, بل ربما كان أشد خطورة من إلتزام الحرفية والوقوف عند النص وإحترام مصادر الدين الأساسية.

ومن هنا يبرز منهاج الأشعري في المزاوجة بين النص والعقل, ذلك المنهاج الوسطي الذي هو محاولة إدراك وفهم النص في ضوء العقل أو السير وراء العقل في حدود من الشرع, لأن العقل إذا ترك وشأنه إتبع هواه, ولكنه بالشرع يتبع هداه, وفرق بين الهوىٰ المضل وبين الهدىٰ الذي يعصم من الزلل والعثار.

مذهب الأشعري في ضوء هذا المناهج :

يبرهن الأشعري علىٰ وجود الله تعالىٰ بفكرة حدوث العالم, حيث يقول بأنه من غير المعقول أن يتحول القطن إلىٰ ثوب منسوج من تلقاء نفسه, والمدر إلىٰآخر ثم إلىٰ بيت شامخ من غبر بان ولا صانع, فليس من المعقول أن ينتقل الإِنسان في أدوار حياته المختلفة بذاته, وما يقال بالنسبة للإِنسان يقال أيضاً بالنسبه لغيره من الكائنات, وإذان فالعالم بأسره في حاجة إلىٰ من يدبره ويسير به إلىٰ الغاية من وجوده, خاصة أن العالم بما فيه من الأجسام لا يخلوا من الإِنتقال والتغير, وما كان كذلك فهو محدث, فالعالم بجميع أجزائه محدث, ويستتبع ذلك إلىٰ جانب إحتياجه إلىٰ ناقل ومدبر إلىٰ موجد يوجده من العدم, وهذا المدبر والموجود هو الله تعالىٰ.

كما يدلل الأشعري علىٰ قدم الله تعالىٰ, بأن العالم الحادث, لابد من محدث, والله هو المحدث له, يجب أن يكون قديماً وإلا إحتاج إلىٰ محدث, ويتسلسل هذا الأمر, كما يجب أن يكون غير مشابه للحوادث, لأنه لو كان مشبهاً لها لكان حكمه في الحدوث حكمها, فهو ليس بجسم.

كما أن القول بالحدوث كوصف للعالم في رأي الأشعري, يستتبع أن يوصف الله بالحياة والقدرة, لأن العجز والموتىٰ لا يخلقون شيئاً, والعلم لأن هذا العالم يدل علىٰ الحكمة والإِبداع والخلق يقتضي العلم والحكمة كما هي متبدية في كل مظاهره وغاياته, بل يقتضي كونه مريداً, لأن الخلق من عدم يتطلب إختياراً من الفاعل, لأنه لابد قبل نعلق قدرته بالحادث أن يختار وأن يحدد الوجه الذي يكون عليه الخلق من بين الوجوه الممكنة للإِيجاد, بل ويستلزم فكرة الحدوث أيضاً أن يكون الله سميعاً وبصيراً ومتكلماً, لأنه لو لم يكون موصوفاً بشيء من هذه الصفات لكان موصوفاً بأضدادها, مما يدل علىٰ حدوث من جازت عليه, والحدوث ينافي القدم الثابت للذات. ولذلك ففكرة الحدوث قد إستلزمت في رأيه القول بأن الله موجود وقديم وغير مشابه للحوادث وبسيط غير مركب وباق إلىٰ الأبد أيضاً, لأن ما ثبت قدمه إستحال عدمه, كما استلزمت أيضاً القول بأنه حي قادر مريد وليس ذلك فحسب, بل كونه سميعاً وبصيراً ومتكلماً (اللمع / ص 23, 24).

ولم ينس الأشعري أن يستغل فكرة النظام والغائية المتمثلة في الكون في إثبات أن الله واحد بمعنىٰ عدم التعدد, وما يترتب علىٰ ذلك من إستحالات ومفارقات إن فرض العكس. (اللمع : 4 , 5).

وفيما يخص صفات الله تعالىٰ, فيرىٰ الأشعري أن السالب منها لا يقتضي أمراً وجودياً زائداً علىٰ ذاته تعالىٰ, فمعنىٰ قولنا واحد, أنه لا شريك له, ومعنىٰ قولنا قديم ـنه لا أول له وهكذا. ولكن الإِيجابية في رأيه كوصف عالم وقادر مثلاً تتطلب في رأيه خلافاً للمعتزلة أن يكون الباري موصوفاً بالعلم والقدرة, وهكذا علىٰ معنىٰ أنها صفات وجودية زائدة علىٰ ذاته :

فمعنىٰ العالم عنده بداهة من له علم فإن « من لم يعلم لزيد علماً لم يعلمه عالماً» وإذا كان وصف عالم مثلاً معللاً في المشاهد بأن له علماً, فيجب أن يكون الأمر في الغائب كذلك, لأن هذا تعليل عقلي, والتعليل العقلي لا يختلف شاهداً وغائباً.

ويقول مدللاً أيضاً إذا كان الله عالماً كم تسلم المعتزلة, فإما أن يكون عالماً بنفسه أو بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه ولا جائز عقلاً أن يكون عالماً بنفسه وإلا صار العلم عالماً والعالم علماً والذات بمعنىٰ الصفات, وإذن فهو عالم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه, بل أمراً زائداً علىٰ ذاته, وما يثبت في العالم يجب أن يثبت في سائر الصفات لجريان هذا الدليل فيها. وما يثبت للعلم والقدرة يثبت للإِرادة, ويبرهن الأشعري علىٰ ذلك بأدلة من العقل ويتبعها بنصوص من القرآن تؤيد وجهة نظره.

ولكن إذا كانت هذه الصفات وجودية وقديمة, وهي متغايرة في ذاتها ومغايرة للذات, علىٰ ما يذهب الأشعري, فمعنىٰ ذلك القول بتعدد القدماء, وهو باطل لمنافاته صفة الوحدانية الثابتة لله تعالىٰ نصاً وعقلاً, وهذا هو الإِعتراض الذي يثيره واصل بن عطاء رأس المعتزلة. فبقول الأشعري مجيباً : إن تعدد القدماء في ذاته لا ينافي الوحدة الواجبة لله بالشرع والعقل, وإنما ما ينافيها هو تعدد القدماء المتغايرة ولا تغاير هنا بين الله وصفاته, ولا بين الصفات بعضها مع بعض «فإن معنىٰ الغيرية جوز مفارقته أحد الشيئين للآخر علىٰ وجه من الوجوه» (اللمع : ص 17). ولما كان الله أزلياً بل وأبدياً وصفاته كذلك فإنه لا يتصور إنفصال بين الذات والصفه ضرورة إتصافها بها في جميع الأوقات كما لا يتصور إنفصال بين الصفات بعضها مع بعض ضرورة إجتماعها معاً أزلاً وأبداً في ذات الله تعالىٰ وهي أزلية أبدية. ولذلك كانت هذه الصفات لا يصح وصفها بأنها هي هو إلا لعدنا إلىٰ رأي المعتزلة, ولا أنها غيره وإلا لسلمنا بإعتراضهم.

أما فيما يخص العدل الإلهي, فيرىٰ الأشعري أن الله تعالىٰ هو الفاعل لجميع الأشياء بما فيها أفعال الإِنسان كلها خيراً كانت أم شراً, وضرورة كانت أم اختياراً, ولكنه يخلق الشر شراً لغيره لا له, ولا يصير بهذا الخلق شريراً بل الشرير هو ذلك الذي خلق الشر له وقام به. كما يرىٰ الأشعري أن الله له أن يفعل ما يشاء وهو عادل في كل أفعاله, بل «لا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين» لأنه المالك القاهر الذي مبملوك ولا فوقه مبيح ولا آمر». ولا يقبح منه ذلك لو فعله لأن الشيء إنما يقبح منا لأننا نتجاوز به ما رسم لنا ونأتي مالا حق لنا في إتيانه. وليس هناك من رسم له الرسوم وحد له الحدود حتىٰ نحكم بقبح أعماله إذا تجاوزها, وقبح الأشياء وحسنها راجع إليه .. ومعنىٰ هذا في مذهب الأشعري أن الحُسن والقبح في الأشياء ليس ذاتياً كما تقول المعتزلة, بل شرعياً يعود إلىٰ وصف الله بالحسن أو القبح, فمهمة لبشرع هي الإِثبات لا الإِخبار ويجوز أن تتغير صفات الأشياء حسناً وقبحاً تبعاً لمشيئة الله تعالىٰ.

ومن هنا يرىٰ الأشعري أن أفعل الصلاح والأصلح وكذلك اللطف والعوض عن الالآم ليس بواجب علىٰ الله, وهذا لا يستدعي أن يكون الله بخيلاً, لأن البخل إنما يجب بمنع مستحق إستحق علىٰ من بخل والله لا يجب عليه شيء, بل هو في جميع نعمه روحية كانت أو مادية جواد متفضل, وللمتفضل أن يفعل وله ألا يفعل. فقدرة الله مطلقة تخلق كل شيء وتفعل أي شيء وتمتنع عن أي شيء من غير أن يكون  هناك حق لأي كائن في أي نقد أو لوم, فهو الله المالك القاهر المنزه عن التحديد بالقيود والخضوع للرغبات. ولنا أن نسأل إذا كان الله يعلم كل شيء ما كان وما سيكون ويريد كل شيء حتىٰ أفعال المخلوقين, ويخلق كل شيء, وليس للإِنسان في فعله خلق ولا إيجاد, فما نصيبه في هذا الفعل حتىٰ يترتب عليه مسئوليته ؟

يجيب الأشعري علىٰ ذلك, بأن علم الله المطلق بما كان وما هو كائن وما سيكون, علم كشفي, ولا دخل له فيما يحدث للإِنسان وأفعاله, وإرادة الله المطلقة هي بناء علىٰ علمه السابق, فلا حبر يقع من جهتها علىٰ المخلوقين وأفعالهم. ثم يفرق الأشعري فيما يتصل بأفعال الإِنسان بين الحركات والأفعال الإِضطرارية والأخرىٰ الإِختيارية الإِرادية. أما الأولىٰ فلا دخل لإِرادة الإِنسان فيها. وأما الثانية فهي التي يتحمل نتائجها الإِنسان, لأنه يشعر بصدورها عنه لقدرته وإستطاعته عليها.

ولكن الأشعري ـــ من أجل الكشف عن علاقة القدرة الإِلهية المطلقة بالقدرة الإِنسانية المحدودة ـــ يري أن هذه القدرة أو الإِستطاعة لا يمكن أن توجد في الإِنسان سابقة علىٰ فعله ـــ لأن قدرة الإنسان عرض والعرض لا يبقىٰ زمانين ـــ وجودها في الإِنسان مقارن لوجود الفعل. وهذه القدرة وإن كانت غير خالقة, فهي قدرة كاسية : بمعنى أن العبد حين يريد الفعل, فإنه يخلي نفسه لإِكتساب الفعل, وفي نفس الوقت يفيض الله عليه قدرة حادثة تكون مهمتها كسب الفعل, لا خلق الفعل المخلوق بقدرة الله تعالىٰ خلال قدرة الله. وقدرة الإِنسان هنا شرط أساسي لابد منه لبروز هذه الأفعال علىٰ يد العباد, ومعنىٰ هذا أن الأشعري قد وضع كسب الإنسان لأفعاله مكان خلقه لها كنصب مصحح للثواب والعقاب في رأيه.

ويتضح لنا من هذا أن الإِرادة وحدها في مذهب الأشعري هي حجر الزاوية في مفهوم «الكسب» وهي مناط المسئولية, لأن العبد إذا أراد الفعل وخلىٰ نفسه له تعلقت إرادة الله به خلقاً فيمنحه القدرة الحادثة لتقبله, فيتم الفعل بذلك من العبد كسباً, فتكون قدرة الله لخلق الفعل, وقدرة العبد كسب الفعل, وهذا يعني في مذهبه أيضاً أن القدرة الحادثة شيء لابد منه ليتم صدور الفعل علىٰ يد العبد, والأشعري هنا يشبه الفيلسوف الألماني كانط الذي حصر الخير في «الإِرادة الخيرة» التي تريد الخير, والشر في «الإِرادة الحرة» التي تلرغب في الشر من الأعمال.

أما المشكلة خلق القرآن, أو صفة القدم والحدوث التي تنسب لكلام الله, فقد ذهب كثير من المظاهريين والحشويين إلىٰ أن كلام الله تعالىٰ ـــ القرآن ـــ قديم بألفاظه وحروفه, حتىٰ الأوراق التي كتبت عليها, وذهب علىٰ الضد من ذلك المعتزلة إلىٰ أن كلام الله تعالىٰ حادث خلقه الله تعالىٰ وأحدثه بعد أن لم يكن.

ولكن الأشعري بمنهجه الوسطي يثبت أن كلام الله قديم مخالفاً بذلك المعتزلة الذين يقولون إنه حادث, ويقدم في ذلك أدلة كثيرة تقلية وعقلية في كتابيه «الإِبانة» و «اللمع». والكلام القديم الذي يعينه هو الكلام النفس القائم بذات الله تعالىٰ, وليس ذلك بحروف ولا أصوات, وهو واحد لا يتغير بتغير الإِعتبارات ولا يختلف باختلاف الألفاظ, وهذا الكلام النفس هو القديم الأزلي القائم بذاته تعالىٰ وهو كلام الله حقيقة, أما هذه الحروف والكلمات التي تقرأ بالألسن وتسمع بالآذان أو ما يطلق عليه اسم القرآن بطريق المجاز أو الحقيقة المشتركة فهو حادث ومع ذلك فهو معجز لفصاحته وبلاغته ونظمه.

وبهذا وافق المعتزلة في قولهم إن كلام الله حادث, علىٰ ذلك المسموع والمقروء والمكتوب من القرآن دون حقيقته لأنهم لا يعنون بهذا سوىٰ ما تركب من الأصوات والحروف التي تتألف منها الكلمات, ولا يثبتون كلاماً معنوياً نفسياً, فمحل الخلاف الأساسي بينهما هو إثباته هذا الكلام النفسي القديم.

أما بخصوص رؤية الله تعالىٰ يوم القيامة, فيثبتها الأشعري لأنه يرىٰ أن ذلك ليس مستحيل عقلاً, فما دام الشيء لا يري بسبب أنه جسم أو جوهر أو عرض, وإنما يرى بسبب أنه موجود فقط, ومادام الله موجوداً ورؤيته لا تؤدي إلىٰ أثبات نقص أو محال عليه, وما دام الله قد أخبر عن وقوع هذه الرؤية للمؤمنين من عباده يوم القيامة فيجب الإِيمان بذلك وإعتقاده خلافاً للجهمية والمعتزلة.

كما يبرهن الأشعري علىٰ البعث ويتبع في ذلك منهحه في الرؤية, فيبرهن أولاً علىٰ جوازه ثم علىٰ وقوعه, فالله قد خلق الخلق أولاً علىٰ غير مثال سبق, وهذا ما يسلم به المسلمون جميعاً, بل أصحاب كل الديانات السماوية, وإذا كان قد خلقه أولاً إبتداء, فمن الممكن عقلاً أن يخلقه بعد عدمه خلقا آخ, لأن الخلق في الإِعادة كالخلق في الإِبتداء. ويسوق الأشعري كثير من الآيات التي توضح هذا الأمر, بعد أن يبرهن علىٰ ذلك عقلياً ويقول بأنه إذا كانت الإِعادة ممكنة عقلياً والله تعالىٰ يقول : } وهو الذي يبـدأ الخلق ثم يعيده{ و } يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات{, فمن الواجب التصديق بها لأن النص إذا ورد في أمر ممكن وجب حمله علىٰ الحقيقة ولا يجوز العدول به إلىٰ المجاز إلا لقرينة مانعة من إرادة المعنىٰ الأصلي.

ومن كل هذا يتضح لنا مدىٰ إلتزام الإِمام الأشعري بمنهجه الوسطي في فهم الدين وعقائده, فقد رأى أن إلتزام حرفية النص وتحريم إستعمال العقل في تأييد ما ورد به من حقائق أمر خاطيء لا يقول به الإ كسول أو جاهل, ثم رأى من ناحية أخرى أن الجري وراء العقل غير محوط بسياج من الشرع وبخاصة في الآراء التي تتصل بالعقيدة وأصل التوحيد أمر خاطيء أيضاً, بل يعتبر أشد خطأ وأكثر خطراً, ولذلك من الخير للحق في ذاته وللجماعة التي تعمل علىٰ إكتشافه أن تتخذ في ذلك منهجاً وسطاً يزوج بين العقل والنص حتي نتجنب الأخطاء التي تنتج عنه الإِعتماد علىٰ أحدهما.

المرجع : أبو الحسن الأشعري : ـــ مقالات الإِسلاميين ـــ اللمع ـــ الإِبانة.

حمودة غرابة : ـــ أبو الحسن الأشعري.

علي سامي النشار : نشأة الفكر الفلسفي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر