أبحاث

الرؤية الإسلامية للنشاط الاقتصادي والتنمية (2)

العدد 23

البنيان الاجتماعي الإسلامي:

قبل أن نتقدم لذكر النصوص الخاصة بالنشاط الاقتصادي، يجب أن نلقي الضوء على السمات الرئيسية للبنيان الاجتماعي الإسلامي الذي يتم فيه قيام النشاط الاقتصادي.

إن الإيمان يمثل البعد الرئيسي لحياة المسلم، وإن وجود الثقة المتبادلة والطمأنينة التي نتج عنها يعدان ضروريين لجميع النشاطات الاجتماعية والاقتصادية الخلاقة والمعنية بصفة متبادلة، وغن تلك تفسد متطلبات حتمية لنمو الإنسان ونضجه، ولقد بذل النبي عليه السلام جهدا هائلا ليطبع تلك الأشياء بالخالق، ونبيه، والحياة الآخرة، والإيمان بأن الله في رحمته النهائية سوف يرفعه إلى حياة أسمى، وأن الحياة لا تنتهي مع زوال الجسد، وأن الإنسان الذي يتبع الحياة الأخلاقية سوف يدخل بعدا جديدا من أبعاد الحياة يتحرر فيه من الخوف، والحسد، والندم، والمعاناة في تلك الحياة الطيبة التي لن تعاني من توقف. ولكن من أجل الحصول على مثل تلك الحياة فإن كل شخص عليه أن يشارك طوعا في الجهد الأخلاقي العظيم الذي يمثل مطلبا أساسيا لها. إن الإنسان الذي يطبع جميع ما أمر به الله هو فقط الذي سوف يسمو فوق الوجود المادي (22/ 40). وفي الإسلام يعد النشاط الاقتصادي جزءا من صورة واسعة للغاية يسود فيها موضوعان رئيسيان يتعلقان بكرامة الفرد وقيمته الأساسية ويتضمنان التزاما عالميا باهتمام الفرد بمصالح الآخرين مثلما يهتم بمصلحته، والالتزام العالمي بإقامة العدل. لقد أعلن القرآن أن الله قد كرم بني آدم (17/ 70) وسخر لهم ما في السموات والأرض (31/ 20) وان كل طفل منذ لحظة مولده يصبح من حقه الحصول على الرعاية والاهتمام، ويعد الواجب الخاص باهتمام ذوي القربى بعضهم بالبعض شيئا عظيما. وإن السائل والمحروم لهم حق في أموال الأغنياء (51/ 19). ولقد اعتاد النبي عليه السلام القول أنه كان مثل أب لأعضاء الأمة، ولقد روى أيضا أنه قال “فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه”. (البخاري).

ولقد كان عليه الصلاة والسلام هو الذي منع المجاهدين من التقدم للجهاد ووجههم للبقاء مع أهليهم لخدمتهم إذ كانوا عاجزين وليس ثمة شخص يرعاهم، وفي تلك الأمة التي أضفى عليها الوحدة كان الأفراد لا يعانون من القلق بالنسبة لمستقبلهم أو مستقبل أحبائهم، ولقد كان كل فرد يدين بالتزام شخصي بأن يحمي مصالح الآخرين، وأن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه، وبالنسبة لرخاء مثل ذلك المجتمع وسعادته، فإن الله، والنبي عليه السلام والأمة كانوا هم الضامنين. ومن أجل ضمان تحقيق نشاط اقتصادي عادل، فإنه يجب إعادة إحياء تلك الروح المقدرة لكرامة الإنسان عن طريق الجهد الحذر، وطبقا لتعاليم الإسلام، فإن اختبار الإيمان الحقيقي المخلص يتمثل في معاملات الشخص مع إخوانه، ومن أجل تأكيد الأهمية الكبيرة لواجبات المسلم في هذا الصدد، ولتأكيد أن كل شخص يجب أن يتذكر  جلال الأشخاص الآخرين عند تعامله معهم فإن النبي عليه السلام (وذلك طبقا لرواية عبد الله بن عمرو) عندما كان يطوف بالكعبة المقدسة وكأنه يتحدث إليها قد قال:

“ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به خيرا”. (ابن ماجة 3932)

والمبدأ الثاني الخاص بالالتزام بالعدالة في جميع الأحوال يظهر في الآيات القرآنية التالية: “لا تظلمون ولا تظلمون” (2/ 279) ولقد أمر الله النبي أن يعلن: (وأمرت لأعدل بينكم) (43/ 15) وكل مؤمن أيضا يدين بالالتزام بان يتصرف بالعدل وأن يعاون الآخرين على أن يتصرفوا بالعدل، ليس أن يكونوا عادلين فحسب، بل ويتسموا أيضا بسماحة النفس، ولقد روى أن النبي قد قال:

“رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”. والمؤمن طبقا للقرآن بعضهم أولياء لبعض (5/ 55). والمبادئ الرئيسية لكرامة الإنسان، واعتباره جزءا من الأخوة العالمية، والتزامه التام بإقامة العدل، ودفاعه عن العدالة تتخطى المعضلة الخاصة بمشاكل العلاقات المتداخلة للقوى والعدالة في التراث العربي.

ولقد قال ثونسيردز أنه “وفقا للطبيعة البشرية” فإن الناس عندما يتسمون بالقوة دائما ما يسيطرون، وإن العدالة تسود فقط بين الأشخاص المتساوين في القوة، وأن الأقوياء ينتزعون كل ما يستطيعون انتزاعه، أما الضعفاء فهم يستسلمون لما يتعين عليهم أن يستسلموا له.

وكار ماركس بعد أن لمس وجود بعض الظلم في كثير من النواحي في المجتمع الذي تسم في نفس الوقت بالرخاء، قد أبدى الملاحظة أن “العدالة مع البرجوازية تساوي الإجحاف”.

لقد بقيت العدالة دائمة بمثابة مشكلة في أي زمان وفي أي مكان سن فيه الناس القوانين ووجدت القوة السبيل للتحالف مع العدالة. وطبقا للقرآن فإن القوة في جميع الأوقات يجب أن تكون خاضعة للعدالة، التي لا يستطيع احد أن يضع أو يصف مقياسها سوى الله. وأن المسلمين في عهدهم مع الله (49/ 10) يجب أن يخضعوا لأحكام الشريعة ولا يشعروا بالكبت او التهديد (4/ 65). وفي إطار فرض العدالة وتنفيذ فكرة المساواة بين المؤمنين، فإن الشريعة سوف تبعد جانبا جميع القوى التي تعوق عمل تلك المبادئ، ولقد كان ذلك المبدأ هو الذي حث أبو بكر أول الخلفاء أن يقول بمناسبة تولية السلطة:

“القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له”.

ولقد كان تراثا معترفا به لأمد طويل في المجتمع المسلم أنه عندما يتقدم الخليفة إلى محكمة القضاء كخصم لم تكن تقدم إليه التحية العسكرية والمجاملات المعتادة حتى من رجال حاشيته إلى حين عودته.

إن الشريعة في عملية تحقيق العدالة تتقدم لعلاج موقف الصراع، أولا عن طريق إنكار ميزة القوة بتأكيد السطوة المطلقة لفكرة المساواة، فإن كل شخص يظهر ويمثل أمام العدالة يتم تجريده بصفة مؤقتة من ميزة الميلاد، والمركز والقوة، وعندما لا يكون في الإمكان تجريد الشخص القوي من مصادر قوته، حينئذ يتم وضع جميع قوة الأمة وثقلها في ناحية الضعيف والمظلوم (4/ 75)، وعندما كان القضاة يجدون بعض لعدم الملاءمة في فض إرادة الشريعة فإنه كان يتم استكمال سلطتهم بسلطة محاكم نظار المظالم التي كانت تنظر بصفة رئيسية في القضايا التي تتضمن دعوى من المحكومين بظلم الحكام لهم، ولكن ذلك لم يكن هو الإجراء الوحيد فإن الشريعة تنص على تقديم الالتزامات على الحقوق. إن هؤلاء الذين يمتلكون الثروة، والقوة أو النفوذ يجب قبل كل شيء أن يقيموا العدل، ويفوا بالتزاماتهم بمقتضى عهدهم مع الله بصرف النظر عن سلوك الآخرين (5/ 105 و5/ 8) ثم يطالبون بحقوقهم طبقا للقانون، وإن هؤلاء الذين يحوزون على أشياء أكثر يجب أن تكون مسؤوليتهم أكبر، ومن الناحية الأخرى فإن الضعفاء والمظلومين لهم حقوق أساسية في المجتمع يجب أن يتم الإيفاء بها في جميع الأحوال (51/ 19 و4/ 75).

وبالرغم من ذلك فإن ثمة إجراءا وقائيا آخر يكمن في حقيقة، أن الالتزام بالطاعة يجب أن يقوم على الشرط بأن يكون الأمر غير متعارض مع الشريعة، إنه يجب أن تتم طاعة من في السلطة (4/ 59)، ولكنهم أولا يجب أن يتصرفوا بالعدل (4/ 58). وجميع المنازعات مع السلطة العامة أو غيرها من الممكن تحويلها إلى السلطات القضائية (4/ 59).

ويستطيع الناس فقط في جو من الثقة المتبادلة، والإيمان بكرامة الإنسان وسيادة العدالة بصفة مطلقة طبقا للشريعة، أن يحققوا المجتمع الذي يسود فيه العدل ويتسم بالرخاء.

المبادئ القرآنية للنشاط الاقتصادي:

المشاركة في النشاط الاقتصادي

إن المشاركة في النشاط الاقتصادي الخلاق طبقا للقرآن تعد شيئا إلزاميا على كل مسلم (62/ 10) وينتظر أيضا من المسلمين أن يعملوا بجدية (73/ 20)، لقد كان اليهود ينشدون إتمام نعم الله في الحياة الدنيا، وذهب المسيحيون إلى العكس ودعوا إلى التنسك، أما الإسلام فقد أكد في عبارات واضحة أولوية الآخرة وأسبقيتها المطلقة على الحياة الدنيا (4/ 77)، وتوقع من المسلمين الاستفادة من طيبات الحياة (24/ 60) و(7/ 31) وشكر الله على نعمائه (16/ 114 و29/ 17 و2/ 172) لأن الله يزيد من نعمائه للشاكرين (14/ 7). ويعتبر الشخص شيئا في استغلال طيبات الحياة لو أنه بعثر ثروته (17/ 26 – 27) ولذلك فإن التبذير يعد محرما (28/ 72) على عكس الاعتدال الذي يزيد من جمال وبهجة الحياة (24/ 31). وإن أهمية هذا المبدأ تصبح واضحة عندما ندرك أن أشد الانتقاد الذي توجهه الماركسية المعاصرة إلى الرأسمالية يتركز في تبديدها، أي عدم منفعية عدد كبير من المنتجات، إلى جانب توزيعها واستخدامها الغير عادل، إذ يوجد شخص يحيا حياة مولعة بالتفاخر أما الآخر فهو يعيش في حالة من الفقر والحرمان الشديد، ويمكن توجيه نفس النقد بصفة أساسية إلى النظام الاشتراكي أيضا لأن الشخص حالما يكسب أجره يستطيع أن يفعل به ما يشاء، وتبديد الأجواء التي تكتسب بالكد على المشروبات الروحية يعد مشكلة خاصة بالمجتمع الروسي ومن الناحية الأخرى، فإن المساواة تعد مبدأ ذا أهمية رئيسية في حكم المجتمع المسلم. فمثلا حين كان المجتمع يعيش تحت أحوال قاسية جدا في بير أبي طالب كان الناس يقتسمون كل شيء، ولكن الموقف قد تحسن إلى حد كبير بعد الهجرة وكان يسمح لصحابة النبي ببيوت منفصلة بمعداتها، ولكنه أيضا في المدينة عندما كان أحد أصحاب النبي عليه السلام يريد زخرفة منزلة من الخارج بأسلوب لم يكن كل شخص يقدر على تحقيقه فإن النبي عليه السلام كان يؤنبه، ويباركه عندما يتخلى عن تلك الزخرفة.

وطبقا للقرآن فإنه من حق كل فرد أن يشارك في ثمرات ما يكسبه (4/ 32)، ولا يسمح لشخص أن يحتفظ لنفسه بجميع ما يكسبه (104/ 2 – 2) بل إنه طالب باستخدامه في النواحي التي وصفها الله (28/ 78) ويمنع من استخدامه بهدف التباهي المسرف (28/ 79) الذي يقوم على أساس الافتراض بأن ما اكتسبه قد تحقق على أساس معرفته (أو مهارته) ومن ثم فإنه يستطيع أن يفعل به ما يشاء (28/ 83). ولقد اختار القرآن أن يذكر قارون بصفة خاصة كمثل للرجل الثري الذي تصرف على نحو استدعى العقاب الإلهي نتيجة لإساءته استخدام ثروته، ويزخر القرآن بذكر العقوبات التي تم تطبيقها عن الأثرياء نتيجة لتكديسهم الثروة وعدم استخدامهم لها بأسلوب ينقذهم في الآخرة (28/ 77 و104/ 2).

الواجب الخاص بإنتاج أكثر مما يحتاجه الفرد:

إن النشاط الاقتصادي لا يقتصر على كسب أو إنتاج القدر الذي يكفي للإيفاء بالاحتياجات الشخصية للفرد فقط، بل ينتظر من المسلمين أن ينتجوا أكثر من ذلك لأنهم لا يستطيعون المشاركة في عملية توفير الأمن للآخرين (أي الزكاة) لو لم يقوموا بإنتاج يفوق ما يستهلكونه هم أنفسهم، ولعل أفضل الأساليب لاستخدام الثروة التي تم اكتسابها بوسائل عادلة يتمثل في تكريسها لتدبير جميع الوسائل التي تمكن المسلم من الإيفاء بالعهد بينه وبين الله. فالمسلم يدين بعهد مؤداه أنه سوف يقدم حياته وجميع ممتلكاته الدنيوية للجهاد من أجل إقامة النظام الإسلامي (9/ 111) وليصبح ذلك مستحيلا إذا قام الأفراد بإنتاج ما يكفي فقط للإيفاء باحتياجاتهم الشخصية (8/ 72). ولكن ذلك بالطبع لا يعني أن هؤلاء الذين ليس لديهم ثروة لن يجدوا تعويضا لدي الله (9/ 91 – 93). فهم يستطيعون تحسين خاصية الحياة الاجتماعية حتى بدون أن يكون لديهم موارد اقتصادية فائضة.

إن واجب الإنتاج يجوز على متضمنات أخرى أبعد من ذلك يجب أن يعطي لها الاعتبار الملائم، فبالنسبة لإنتاج البضائع يجب أن يعطي المسلمون الأولوية لتلك الأشياء التي تعد حسنة ومفيدة وتعاون على تحسين الحياة، أما البضائع التي يتباهى بها الناس أو التي تعني باحتياجات اصطناعية، فإنه يجب ألا تكون لها إلا أولوية اجتماعية ضعيفة للغاية، أما بالنسبة للبضائع التي يعد استخدامها غير قانوني أو محرما، فإنه يجب ألا تنتج على الإطلاق، كما يجب أن يتم الإنتاج بالوسائل المعترف بها ولا يجب تحت أية ظروف أن يتم بأساليب غير مباحة، لأنه في مثل تلك الأحوال حتى إذا كان ثمة مظهر للكسب السريع مثلما في حالة الربا، فإنه في الواقع توجد خسارة لا تظهر بصفة مباشرة (3/ 30).

إن أهمية هذه المجموعة من المبادئ تصبح واضحة عندما ندرك أن أحد الأخطاء الرئيسية للنظام الاقتصادي المبكر في العالم الأول كان يتمثل في المغالاة في إنتاج البضائع الاقتصادي المبكر في العالم الأول كان يتمثل في المغالاة في إنتاج البضائع التي لا تؤدي إلى شيء سوى إثارة الشهية عن طريق خلق صورة ذهنية مؤقتة، في حين أنها تفعل القليل في الإضافة إلى الخاصية الحقيقية للحياة. وإن وسائل الإعلام بجميع أنواعها تستمر يوميا في تقديم الإعلانات عن السجائر، والخمور، والملابس وعدد لا يحصى من السلع الاستهلاكية التي تخلق لها الأسواق بطريقة اصطناعية، ويتم خلق وفرض نوع من الحضارة المترفة من أجل عرض تلك السلع، وفي النهاية فإنه لن تصل جميع السلع الاستهلاكية لكل شخص، وسوف يتم تبديد العديد منها. وفي تلك العملية سوف تظل الكثير جدا من الأولويات الاجتماعية دون اعتبار، والشخص الذي ينشا في مجتمع كهذا سوف يتسم باللا مبالاة الأخلاقية والخواء الروحي.

إن القرآن يحرم المعاملات التجارية القائمة على الرهان 5 ( .. ) إذ في الرهان يحوز الكاسب على كسب لا يستحقه ويعاني الخسارة من خسارة لا يستحقها، ولو لم يعم اشتراك الطرفين في جميع العمليات الهادفة لتحقيق إنتاج اكبر، فإن مثل تلك المعاملات التجارية تكون إساءة لاستخدام الثروة سواء كانت في صورة بضائع أو في صورة نقود تمكن الشخص من الحصول على البضائع والخدمات المتاحة، ومثل تلك المعاملات تؤدي إلى الحسد، والضغينة والعداء (5/ 90) وتدمر الكرامة والعمل المثمر، ومن خلالها يحصل الناس على بضائع وخدمات أكثر بدون المشاركة في أي ممارسة تؤدي إلى زيادة إجمالي البضائع المتوفرة في المجتمع. وفي ضوء هذا المبدأ فإن النبي عليه السلام قد حرم عددا كبيرا من المعاملات التجارية التي تتضمن المغامرة بشكل واضح أو خفي. مثلا فإن إقامة المعاملات بالنسبة للفواكه الغير ناضجة على الأشجار إلى أن تنضج الثمرات ويحين أوان اقتطافها تعد محرمة، لأن الفاكهة منذ فترة ظهورها لأول مرة على الأشجار إلى إتمام نضجها، تكون معرضة للفقدان التام أو الجزئي. وفي بعض الأحيان قد لا تكون هناك أية خسارة، ولذلك فإن من الواضح أن أحد الأطراف قد يعاني من خسارة لا يستحقها بمقارنته مع الآخر في مثل تلك المعاملات التي تتم في مراحل مبكرة. وقد أصر النبي عليه السلام أيضا على بيع وشراء البضائع التي تجلب إلى الدن يجب أن يتم داخل الأسواق فقط؛ لأن من الممكن بالنسبة للناس لاذين يقومون بالمعاملات التجارية خارج السوق أن يدفعوا أو يحصلوا على أسعار أعلى أو أدنى من القيمة في السوق. وتوجد العديد من الأمثلة على ذلك، ويقدم كتاب البيوع في صحيح مسلم الكثير من الأمثلة.

وقد حرم القرآن الربا بوضوح (3/ 130) نظرا لآثاره الضارة بالنسبة للمجتمع الإنساني. فهو يمثل وضعا اجتماعيا يسود فيه القلق بصفة رئيسية (2/ 275) وفي نهاية الأمر فإن الربا يؤكد الدخل غير المكتسب ويحول الأعمال التجارية إلى مساومات استغلالية (2/ 275)، ويؤدي بصفة عامة إلى تحقيق أسلوب للإنتاج لا تؤدي فيه الأعمال التجارية إلى تحقيق فائدة الطرفين، بل إنها تصبح بمثابة استيلاء على ملكية شخص بطريقة غير عادلة ومتسمة بالظلم (4/ 17).

ويصر القرآن على أن المسلمين يجب ألا يحتجزوا الثروة بل يجب أن ينفقوها دائما ولكن بأسلوب يتسم بالحكمة (3/ 34) والاعتدال (17/ 29) واضعين في اعتبارهم السبل المتاحة لاستخدام الثروة (9/ 35)، ولكن المتضمنات التامة لهذا الأمر لا تظهر للوهلة الأولى، بل إنها تحتاج لبعض الشرح المطول والمشاركة في النشاط الاقتصادي الإنتاجي أمر واجب بالنسبة لكل رجل وامرأة. وقد روى أن النبي عليه السلام قال أن الشخص الذي لا يقوم بأي عمل لا يكون محبوبا لدي الله. إن المدخرات تثمل الفائض الذي يبقى فوق ما يتم استهلاكه في عملية الإنتاج، ويجب طبقا للشريعة أن يتم احتجاز جزء من هذا الفائض لمصلحة هؤلاء الذين لا يستطيعون بأنفسهم الإيفاء باحتياجاتهم أو احتياجات من يعولونهم بسبب العجز المؤقت أو الدائم. وهذا الجزء الذي يتم تكريسه وجمعه بمقتضى أمر القانون الإلهي يعرف باسم الزكاة. وفيما يتعلق ببقية المدخرات، فإنه ثمة حاجة إلى تكريسها مرة أخرى لعملية الإنتاج في شكل راس مال من أجل زيادة الإنتاج في المجتمع. فالإسلام ينشد أقصى استغلال لراس المال والاستفادة التامة من القوى البشرية، والذين يكنزون المال بتخزينه في شكل الذهب والفضة ينتظرهم عقاب شديد (9/ 34).

إن الذهب والفضة في حد ذاتها يعدان في أفضل الأحوال رموزا مقبولة عالميا لطلب الخدمات أو شراء البضائع. وهما في حد ذاتها لا يتضمنان أية قيمة جوهرية لتقديم إشباع مباشر للاحتياجات الإنسانية؛ وطالما تكون جميع المدخرات المودعة في الحسابات الشخصية متاحة بصفة عامة للمجتمع بصفتها رأس مال، فإن مشكلة الافتقار المزمن لرأس المال قد لا تظهر دائما. مثلا إذا كان الشخص “أ” يعمل ويدخر من أجره مائة روبية ويوجعها في البنك، فإن البنك باعتباره وكيلا له يقوم باستثمار ذلك المبلغ في شركة محاصة مع شخص آخر، ولنقل “ب”. ومن الفائض الذي يتم تكوينه فإن البنك و”ب” يردان المال الأصلي ويأخذ البنك جزءا من الفوائد التي تتكون في شركة المحاصة مع “ب”، ويقوم “ب” بإيداع ولنقل خمسين روبية باعتبارها مدخراته من الأرباح التي تجمعت لديه. والآن إذا دخل البنك في شركة محاصة أخرى مع “ج” مستغلا مبلغ الـ 150 روبية المودعة بواسطة “أ” و”ب” فإنه سوف يحقق أرباحا أكثر، ويؤدي ذلك إلى تكوين مدخرات أكثر بواسطة “ج”، وبذلك الأسلوب، فإن مجموع البضائع والخدمات المتوفرة في المجتمع سوف يزداد دون تدمير مقدرة (أ) و (ب) للحصول على بعض البضائع والخدمات التي تعد من حقهم بمقتضى مدخراتهم؛ والأرباح بالطبع يتم تقديرها سنويا كما يتم تقدير الزكاة على أساس المدخرات السنوية. ولعل النموذج السابق ذكره مبسط للغاية، ولكن فائدته العملية تصبح واضحة عندما نضع في اعتبارنا الأوامر الإلهية الأخرى الخاصة بالنشاط الاقتصادي للإنسان. ولقد ذكرنا بعضها، وسوف نذكر البعض الآخر فيما بعد.

إن الافتقار إلى رأس المال يستطيع إعاقة النشاط الاقتصادي بشكل كبير، ويخاف الناس الدخول في شركات محاصة مع أشخاص ليس لديهم الخبرة الكافية، ولكن البنوك أو الهيئات المماثلة باعتبارها متخصصة في ذلك المجال نستطيع تمثيل المودع، والدخول في شركات محاصة مع إعطاء الاعتبار الملائم لجميع العوامل وثيقة الصلة. وحينئذ سوف تكون المعاملات التجارية مختلفة عن تلك التي تتضمن الربا، أو المعاملات التجارية المصرفية المعتادة التي يحصل فيها المقرض على الفائدة بنسبة مقررة مسبقا بصرف النظر عن الربح الذي قد يتحقق أو قد لا يتحقق للمقرض. وفي الحالة الأولى فإن المال يبقى للمستثمر، ولكنه في الحالة الأخيرة يصبح للمقرض.

أما في شركات المحاصة فإن كلا الطرفين يقامران بالربح أو الخسارة ولكن في الحالة الأخيرة فإن المقرض لا يشارك في الربح أو الخسارة بل أنه يحصل على معدل ثابت من الفائدة. وثمة نقاط أخرى للتمييز أيضا. ففي النظام المصرفي الرأسمالي يستطيع الأثرياء فقط الاقتراض لأنهم وحدهم الذين يستطيعون تقديم الضمانات الآمنة، المطلوبة، فإن ثروة المقترض تعد عاملا هاما للغاية بالنسبة للمقرض، في حين أن الإسلام يحرم تداول الثروة بين الأغنياء، (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (59/ 7)، وتضمن الدولة سداد القروض، ويتم استغلال رأس المال بأسلوب مختلف تماما عن ذلك الأسلوب السائد في الغرب أو في العالم الاشتراكي.

وفي الوقت الحاضر في ذلك العالم الذي تسود فيه المشروعات الحرة فإن الدولة ليس لديها وسيلة فعالة لكبح قروض البنك التي تؤدي إلى تكوين اتحادات المنتجين الاقتصادية إلا بمقتضى تقرير معدلات البنك والحد الأدنى للسيولة، لأن دافع الربح لا يخضع للتحريم الذي ينطبق على تداول الثروة بين الأثرياء فقطن ومن الناحية الأخرى، فإن ملكية الدولة لجميع رأس المال تخلق مشاكل خاصة تؤدي إلى تدهور الإنتاجية، كما تؤدي إلى البيروقراطية، وفقدان الحرية والرغبة في إقامة المشروعات وفقدان مهارات متعهدي الأعمال الخلاقة وحماسهم بصفة تامة، وطبقا للقرآن فإن جميع المعاملات التجارية يجب أن تكون عن طريق العقد الحر بين الأطراف (4/ 29). ولذلك المبدأ – مرة أخرى – نتائج بعيدة للغاية. وإن أي شخص يعرف عمليات السوق الحرة التي تسود فيها المنافسة يعرف جيدا ما هي الوسائل المموهة الكريهة التي يلجأ إليها الأطراف أو الشركات القوية ماليا لمكافحة المنافسة. وكثيرا ما تجد المعاملات التجارية نفسها في مواقف تتضمن إعاقة واحد منها للآخر أو ما يقرب من ذلك، فإن القوانين المسنونة لحماية المنافسة أو لتحقيق العقود العادلة إما أنها تتضمن الكثير من الغموض أو أنها غير ذي فعالية في الكثير من الأحوال، وقد كانت النتيجة أن الكثيرين أصبحوا يؤمنون بأن المنافسة الحرة في العالم الأول، ونوع الضغط الذي يسود في مثل تلك المعاملات المالية يقوم على أساس أن يجد أحد الأطراف نفسه في موقف صعب نتيجة للافتقار على السيولة. أما القرآن فيقضي بأن الشخص الذي يجد نفسه في مثل ذلك الموقف ولا يستطيع الإيفاء بمسؤولياته يجب منحه الوقت وانتظاره حتى تتحسن أحواله (2/ 280). والآن فإن الافتقار إلى السيولة قد يترتب أيضا على المغالاة في التجارة والمضاربة. والقرآن في العديد من آياته يعمل بصورة إيجابية على إعاقة المغالاة في التجارة، ولكنه يحرم المضاربة بشكل تام. وإن تحليل المواقف الواقعية سوف يظهر لنا أن معظم مواقف المغالاة في التجارة تتضمن في الحقيقة معاملات تجارية تقوم على أساس المضاربة. وسوف يكون من الممكن حماية النصوص القرآنية فقط عندما لا يكون ثمة تعد لحدود الوصايا القرآنية.

وفي جميع مثل تلك الحالات، فإن اتجاه القانون الإسلامي هو انه لن يسمح لأي شخص أن يضر الآخرين أو أن يصاب هو بالضرر (2/ 279). والهيئات وثيقة الصلة سواء كانت قضائية أو شبه قضائية تستطيع دائما أن تتقصى المعاملات التجارية لاستعادة التوازن في حالة تحقيق بعض المكاسب بأسلوب غير ملائم، أو في حالة المعاناة من خسارات غير مستحقة. وليس ثمة شخص في النظام الإسلامي يقوم بالعمل على أساس المبدأ “فليحذر المتشري”، وليس ثمة وسيلة قانونية تحمي مثل تلك المعاملات، لأن كل مسلم، وخاصة البائع يكون ملزما برعاية مصلحة المشتري، مراعيا أنه لن يتم خداعه ولن يعاني من خسارة غير مستحقة (83/ 1 – 3) وإلى جانب الالتزام بعدم ارتكاب الظلم، يوجد الالتزام الايجابي بإقامة العدل (5/ 8)، ويتخلل ذلك جميع نواحي الحياة في المجتمع المسلم. ويعتبر كل شخص مؤمن ملزما بان يقيم العدل مع أي شخص يتعامل معه، وطبقا لذلك، فإن المعاملات التجارية الاقتصادية يجب أن تتم بشرط أن يستفيد منها كل من الطرفين المتعاقدين. ويلتزم كل مسلم بان يفي الكيل والميزان (6/ 152) لما يبيعه. ولقد قال النبي عليه السلام: “من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه”. (مسلم سلام: 6)

وفي مناسبة أخرى، قال عمر بن الخطاب لمحمد بن مسلمة – حينما رفض أن يمرر ماء للضحاك من أرضه مع أنها لا تضره -: لم يمنع أخاك ما ينفعه. وهو لا يضرك، فقال محمد بن مسلمة: لا والله، فقال عمر، والله ليمرن ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك. (الموطأ – الأقضية/ 33)

وقد حرم على المسلمين أيضا أن يبخسوا الناس أشياءهم (7/ 85)، ويعني ذلك في اللغة الحديثة أنه يحرم عليهم المشاركة في عملية التضخم، فمن الممكن أن يصبح الأشخاص أطرافا في ما يسمى بالتضخم الذي يحدث في أوقات السلم بصفة تدريجية نتيجة لرغبتهم في تحقيق بعض الكسب الإضافي، أما الحكومة فتصبح طرفا في تدمير مدخرات الناس عن طريق إصدارها نقودا أكثر. ولا تخفي تلك الآثار التدميرية لكل من العمليتين عن أي شخص ملم بالاضطرابات الاقتصادية في السبعينات، ولنتذكر أن التضخم كان واحدا من الأشياء التي أدت إلى تعجيل سقوط كل من الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية التركية.

هذا وهناك كثير من العوامل التي تؤدي إلى تحقيق الربح، وكل من الوصية الأخلاقية الخاصة بالمساواة، وأمر النبي أنه يجب في جميع المعاملات التجارية أن يستفيد كلا الطرفين، وكذلك المبادئ الأخرى التي أشرنا إليها بالفعل ويدين بعلاقة مباشرة بالنسبة لمسألة حصة الربح التي يسمح بها للمسلم. وقد اعتاد العلماء الاقتصاديون في العالم الأول حتى عهد قريب القول بان حصة الربح توازي ما يرغب أي شخص في الحصول عليه دون احتساب التكلفة، ودائما ما كان يتم تبرير القول بأن السوق التي تسود فيها المنافسة هي التي تقرر ذلك الحد، ونحن نعلم الآن أنه ليس ثمة أسواق تسود بها المنافسة الحرة طبقا لتصور العلماء الاقتصاديين الأكاديميين، إذ توجد الكثير من العوامل التي تمنع السوق من تحقيق التوازن العادل. ولقد روى أن النبي عليه السلام قد حرم اكتساب الربح. عن الأشياء التي ثمة حاجة شديدة إليها، مثل الحبوب الغذائية ولكنه رفض تحديد الأسعار بالرغم من المطالبة بذلك، وبالنسبة للأشياء الاخرى فإنه طالب المؤمنين بتحقيق الأرباح المعقولة حتى يتم تأكيد الكسب التام لجميع الأطراف المتعاقدة في كل معاملة تجارية. والبنيان الاجتماعي الإسلامي الذي يؤكد على تدعيم الثقة الاجتماعية سوف يستطيع توفير المجال المطلوب للعمل الناجح لتلك المبادئ.

وتقوم المبادئ القرآنية بالعمل في النماذج العديدة للنظم الاقتصادية. من أجل منع الاستغلال. وفي إطار الحدود التي أقرتها الشريعة، فإن تلك المبادئ تهدف إلى تأكيد كل شخص يحصل على الربح الذي يتلاءم مع إسهامه سواء كان ذلك الإسهام يتمثل في الجهد، أو العمل او المهارة والإبداع التي يقدمها متعهد الأعمال. وأن الشخص الذي يساهم أكثر سوف يحصل على كسب أكثر (53/ 32)، وسوف يبقى بعض التفاوت الاجتماعي (16/ 71 و34/ 32) ولكنه لن يضر المجتمع لأنه سوف تكون ثمة مراقبة حازمة بالنسبة لاستخدام الثروة، وغن هؤلاء الذين لديهم ثروة أكبر سوف تكون لديهم مسؤوليات أكبر، ويدرك القرآن وجود الفوارق بين شخص وآخر من ناحية الذكاء، والصحة، والقوة والفضيلة وهو يدرك أيضا حقيقة أن بعض الناس يعملون بجد أكثر من البعض الآخر، وأن بعض الناس يعملون بذكاء وثبات أكثر من البعض الآخر من أجل تحقيق أهداف أفضل، وأن البعض يعملون فقط من اجل الحصول على طيبات الحياة في حين أن البعض الآخر يستخدمون حياتهم الدنيوية كوسيلة لتحقيق الحياة الحقيقية في الآخر، وأن البعض يدخرون مكاسبهم والبعض الآخر يبعثرونها. والقرآن بإدراكه جميع تلك الفروق، قد أكد المبدأ الخاص بالجزاء العادل بإعلانه:

“وأن ليس للإنسان إلا ما سعى” (53/ 39). مثلما أعلن في قوله تعالى:

(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا. كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا. أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) (17/ 18 إلى 21).

ويذكر القرآن في سورة الزخرف:

(أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون). (43/ 32) وباختصار، فإن القرآن قد وضع لنا أن مبادئ الجزاء العادل تتطلب تقدير الجزاء بالنسبة لكل من الإثم والفضيلة ومن ثم يحصل كل شخص على جزاء عمله، وإن أي فلسفة تدعو على المساواة ولكنها تدمر أو حتى تفشل في إدراك الفوارق الكيفية بين الشخص النبيل والشخص وضيع المولد، والشخص الذي يعمل بكد والشخص المسرف تكون غير مقبولة في الإسلام على الإطلاق. وإن مؤيدي شعار المساواة بين الناس لينشدون استخدامه كوسيلة لمواجهة الظلم والطغيان من القلة ضد الأغلبية، ولكن الإجابة التي يقدمها الإسلام لا تدمر الفروق الجذرية بين الصواب والخطأ، وبين المفيد والغير مفيد، وبين الصالح والسيء، وبين المثمر والعقيم، إذ لا يحاول الإسلام تحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق فرض المساواة بين الناس بواسطة القوة الماحقة وبدون استحقاق، وهو لا يقبل ذلك الافتراض الفلسفي الذي تقوم على أساسه النظريات الخاصة بهؤلاء الذين يشرحون ظاهرة الحضارة الإنسانية في عبارات اقتصادية بحتة. إن نقل الملكية القانونية لوسائل الإنتاج إلى الحكومة بدلا من الأفراد لا يؤدي في حد ذاته إلى تحقيق المساواة المنشودة، وحتى بالنسبة للمزارع أو المصانع التي تمتكلها الحكومة، إذ يكون هناك مدير يلقي الأوامر ويقوم بالظلم مثله مثل المالك الذي حل محله. ويتم كبت حرية الإنسان وكرامته إلى حد كبير في النظام الجديد مثلما كان في النظام القديم، بل لعل الحرية تكون قد فقدت تماما بشكل لا يمكن إصلاحه لأن السيد الجديد يعد عضوا في بيروقراطية واسعة ويعد في نهاية الأمر أكثر قوة بل وتشمله القوة أكثر ممن يدعي بالرأسمالية الذي حل هو محله. إن الإسلام يحمي الفرد، ليس على أساس الكراهية أو حرب الطبقات، ولكن بأسلوب أكثر ثقة، وحكمة وأكثر إنسانية.

قد يكون من المفيد هنا أن نشير باختصار إلى موقف الإسلام بالنسبة للملكية الخاصة. ولقد أشرنا بالفعل إلى حقيقة أن المخاطب الأول في القرآن هو الفرد الذي يدعي لتحقيق الخلاص والإيفاء النهائي بمتطلبات حياته طبقا لشروط عهده مع الله بصرف النظر عن سلوك الأعضاء الآخرين في المجتمع، وأن أسلوب للحصول على القبول الإلهي يكمن بصفة رئيسية في المجال الاجتماعي عن طريق الإيفاء بالتزاماته الاجتماعية، وأن الفردية في الإسلام تتناقض مع الجماعية والنسبية الأخلاقية في الفكر الاشتراكي، وفي هذا الإطار يتم إلقاء الضوء على الصفات المميزة لمفهوم الملكية الخاصة في المجتمع الإسلامي: ففي الإسلام ليس ثمة شخص يكون لديه الحق المطلق بالنسبة لملكيته واستخدامها كما يشاء بمعنى أنه يمكنه استخدامها من أجل غرض معين مقبول في القرآن باعتباره شيئا مشروعا، والملكية في ذاتها ليست مصدرا للمتاعب، ولكن إساءة استخدام الملكية هي التي تؤدي إلى البؤس والقلق. ولقد ذكر قارون في القرآن باعتباره مثالا تقليديا للشخص الذي أساء استخدام ثروته، وقد كان إثمه يكمن في: 1 – تأكيده أنه يستطيع استخدام ثروته كما يشاء نظرا لأنه هو الذي اكتسبها. 2 – تباهيه المفرط بثروته، وقد كان النبي عليه السلام يقظا تماما بالنسبة لكبح استعراض الثورة بأسلوب متباه ومفرط، فكم نبه المجتمع إلى أن الثروة وسيلة من بين وسائل أخرى لنيل المقام الرفيع في الحياة الآخرة، وأن جميع الأشياء قد خلقت من أجل أن يستخدمها الإنسان في رحلته الروحانية.

وقد أعلن القرآن بوضوح أن الله قد خلق طيبات الحياة من أجل استخدام البشرية.

يقول الله:

(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (7/ 32) وينصح المؤمنين أن يجاهدوا لكسب رزقهم: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون).

وفي حين أن المؤمنين مدعوون للكسب المشروع كما يستطيعون، فإنهم في نفس الوقت يدينون بالتزام أن ينفقوا ما اكتسبوا في سبيل الله، أي من أجل الغايات الجديدة بالثناء، والتي وافق عليها أو سمح بها القرآن والنبي عليه السلام. أما الذين يكدسون الثروة فإنهم قد وعدوا بأشد العقاب، فقد أعلن القرآن:

(ويل لكل همزة لمزة. الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده. كلا لينبذن في الحطمة) (104/ 2 – 6).

ولهذا السبب فإنا نلاحظ أن الكثيرين من صحابة رسول الله عليه السلام لم يتركوا ثروة تستحق الذكر بالرغم من الكميات الكبيرة في التي كانت من حقهم باعتبارهم دخلا أو غنيمة حرب. ومن المعروف تماما أنه في فترة حكم عمر بن عبد العزيز كان ثمة نقص ليس في المحسنين ولكن في المحتاجين.

وحياة رسول الله عليه السلام بأكملها نموذج يحتذى، ولقد كانت الفترة المكية في حياته عليه السلام إرشادا للمؤمنين مثلها مثل فترة المدينة. وفي الحقيقة فإن الدولة التي أقيمت في المدينة كانت تتكون من مجتمع مرت نواته بتدريب شاق في التضحية بالذات في الفترة المكية، ففي خلال الفترة المكية كانت موارد المجتمع المسلم محدودة وكان كل مؤمن يجد صعوبة كبيرة في معاونة اخواته، وخلال فترة التقييد في كنف أبي طالب فإنه كان يتم تجميع واقتسام جميع الموارد الغذائية وغيرها من الأشياء. ومن الناحية الأخرى، فعند تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، ازداد دخل المجتمع ودخل بيت المال بشكل مضاعف، فكانت النتيجة هي تخفيف العبء عن الأفراد.

أما وسيلة الإسلام لتحقيق العدالة الاجتماعية فتتمثل في تأكيده أخوة المؤمنين، والقضاء على الطغيان دون القضاء على الفوارق الشرعية. وفي إطار تلك الأخوة يصبح كل شخص ملتزما بالعمل لإعالة نفسه ومعاونة الآخرين، أن الطموح من أجل الرقي، والارتفاع، والتقدم والخلاص بعد العامل الرئيسي للجهد الشخصي، ومن ثم فإنه قد عمل على وضع تلك الحوافز والطموح في إطار بناء، فهو لا يمنع الشخص من التمتع بالثمرات العادلة الشرعية لعمله ولكنه يصر على أن ما يتم كسبه يجب إنفاقه بالأسلوب الذي أقره الله أو بأسلوب مقبول لديه، وهو يؤكد السلطة الإيجابية للقضية ليعطي مضمونا للبنيان الاجتماعي، ذلك البنيان الذي يحاول القانون الذي لا يتسم بمثل تلك الإيجابية حمايته.

ومما يعد جزءا من العدالة القرآنية أنها لا تسمح بتركيز رأس المال أو الثروة. فهي ترفض تكديس الثروة ولقد توعد الذين يكدسون الذهب والفضة بعقاب شديد، وتوجه نظرنا إلى الأمثلة المجيدة للصحابة الذين تركوا لنا أثرا مشرفا نهتدي به. ولقد سجل الطبري على سبل المثال، أن ثالث الخلفاء “عثمان” قد أعلن للناس الذين اجتمعوا حوله لخلفه أنه لا يمتلك شيئا سوى جملين، وأنه ليس لديه أي من الماعز أو النوق، بالرغم من أنه عندما تولى الخلافة كان واحدا من الذين يمتلكون أكبر عدد من الجمال والماعز، وفي ذلك اليوم أصبح لا يمتلك شيئا سوى جملين لأداء الحج وسألهم إذا كانوا يقبلون ذلك – فكانت إجابتهم تدل على رضائهم.

ولقد كان من سوء الحظ بالنسبة لتعاليم القانون الإسلامي بعد القرن الثالث، أن حق الحصول على الملكية أصبح يحظى بتأكيد يفوق التأكيد على الالتزام الشخصي بإنفاق الثروة طبقا للأولويات التي حددها الله، بالرغم من أن القرآن قد وضع تأكيدا كبيرا على الإنفاق، والبنيان القانوني للإسلام لا يستطيع العمل بشكل فعال إذا كان مستقلا عن البنيان الأخلاقي، وإذا أصبح القانون متحررا من المسؤولية الأخلاقية أو أصبح مدنيا فإنه سوف يفقد واحدا من العوامل الأساسي الخاصة بفعاليته.

وباختصار، فإن نظرة القرآن بالنسبة لمسألة الملكية الخاصة يمكن تلخيصها كما يلي:

من الممكن أن يحوز الإنسان على الملكية، ومن الملزم بالنسبة للمؤمنين أن يعملوا بجد، وأن يكونوا الثروة، ويحصلوا على ثمرات عملهم، ولكن الواجب الخاص بالكسب يتضمن التزاما آخر، وهو الكسب عن طريق الوسائل المشروعة والتي تتفق مع الفضيلة، والإنفاق في سبيل الله لجزء من الثروة التي تم اكتسابها عن طريق وسائل غير مشروعة وآثمة لن يغسل الذنوب الخاصة بجميع الرذائل التي ارتكبها الإنسان، ومما يتساوى في أهميته مع ذلك أن المسلمين يجب عليهم أن لا يكدسوا ما يكتسبونه بالطريق الشرعي، بل يجب أن ينفقوه بحكمة واعتدال في النواحي التي أقرها الله. وسوف يكون متاحا للهيئات الحاكمة أن تنظم أسلوب الإنفاق في سبيل الله، الذي كان أول مثل له هو إنشاء بيت المال. وفي الأحوال المعتادة فإن الدولة تستطيع أن تضع العبء على الفرد بشكل غير مباشر تماما وتترك له الحرية في الإيفاء بالتزاماته طوعا. ولكنه في حالة ظهور بعض الطوارئ القومية والجهاد وما يماثل ذلك فإن كل فرد يجب أن يتحمل عبئا أكبر كثرا مما يتحمل في الأوقات المعتادة.

ونستطيع الآن أن نفحص بعض النواحي الخاصة بالمبدأ الذي ذكرناه آخرا.

دور الدولة:

إن توفير الفرص للجميع واحد من الواجبات الأساسية للدولة وإن أساس المجتمع المسلم الناجح يتمثل في إدراك الأفراد بصفة عامة للالتزامات الكبيرة التي تقع على عاتقهم طبقا لقدراتهم، إن واجب السلوك طبقا للفضيلة بعد واجب كل شخص، أما الهيئات الحاكمة فتتمثل مهمتها في معاونة الفرد وكفالة الحياة التي تمكنه من التصرف طبقا للمبادئ الأخلاقية. وتقوم الهيئات الحاكمة بتسهيل ذلك الأمر بمقتضى قيامتها بما يلي:

1 – المهام الإدارية والخدمات التي لا يستطيع الأفراد القيام بها، والتي يفوضون الدولة للقيام بها بمقتضى الاتفاق العام، مثل مهام الحفاظ على القانون، والنظام، والمحاكم، والأسواق، والطرقات وعدد من المهام الأخرى التي تقوم بها الحكومة بصفة عامة.

2 – تلك المهام التي تستطيع الهيئات الحاكمة القيام بها بشكل أكثر فعالية طبقا للظروف، مثل تنظيم الدفاع، وجمع الزكاة الخ.

وإن ما يميز الإسلام عن النظم الأخرى بالنسبة لمدى المهام الحكومية ومدى سلطة الهيئات الحاكمة هو أن هيئات الدولة في النظام الاجتماعي الإسلامي لا تقوم بتقرير الأولويات الاجتماعية ولا تحل محل الفرد في مجال الحياة الاجتماعية الاقتصادية، التي تعد بصفة رئيسية المجال للجهود الشخصية المنظمة وفقا لمبادئ الفضيلة، ولكن الهيئات الحاكمة تعمل فقط على معاونة أعضاء المجتمع في أداء واجباتهم. ونادرا ما تأخذ السلطات العامة الإيفاء بالالتزامات الاجتماعية على عاتقها بشكل تام أو جزئي.

وتعمل الهيئات الحاكمة في الإسلام أيضا تحت قيود دستورية مميزة، وباختلافها عن الدول المدنية الحديثة، فإنها لا تستطيع اختصار القانون الإلهي أو أولوياته سواء كان ذلك بصفة جزئية، أو كلية، وهي لا تقرر الأولويات الاجتماعية ولا تستطيع في إطار ممارساتها لسلطتها التنظيمية في المجال الاقتصادي أن تتخذ أية مسؤولية ابعد من تقديم العون والمساعدة بالنسبة لعملية إخراج الأفراد من حالة العجز إلى الحالة التي يستطيعون فيها رعاية احتياجاتهم، ويتصرفون باعتبارهم أشخاص يدينون بالفضيلة، ويحظى ذلك المبدأ الأخير الذي ذكرناه بتطبيق واسع، فهو يتضمن الواجب الصريح بالتدخل عندما تكون ثمة عقود غير عادلة بين الأفراد، أو عندما لا يتم تنفيذ تلك العقود، غير أن هناك تحديدا لسلطة الهيئات الحاكمة في حالة إبدائها النية لتخطي تلك الحدود، وذلك يعني في المفهوم الحديث: أنه من ناحية ما يمكن تدخل الدولة للحصول على أجر للعامل يتلاءم مع إنتاجه، ولكنه من الناحية الأخرى يمنع الهيئات الحاكمة من تكديس الثروة القومية لأهداف تحوز على أولوية ضعيفة بالمقارنة مع تلك التي تحوز على أولوية مرتفعة طبقا للقرآن والسنة كما أوضح القرآن والسنة والنتيجة المنطقية لذلك المبدأ هي أن الهيئات الحاكمة تدين بواجب حماية الإنسان، وكرامته، واحترامه وملكيته طبقا لأوامر الشريعة، وفي عبارة أخرى إنها تدين بواجب المشاركة بطريقة فعلية، في جميع النشاطات لإقامة العدل في المجتمع مع ترك مجال للإحسان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر