أبحاث

صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك (1)

العدد 15

المقدمة:
“يا هادي.. يا الله.. إن الطريق لصعب، ونحن عبادك ليس لدينا هادٍ سواك”
سير إدوين أرنولد
جواهر الإيمان:
لقد كان هناك كم هائل من الكتابات في الخمس والعشرين سنة الماضية بالنسبة للأوجه الاقتصادية الواسعة للنظام الإسلامي. وقد سارت الدفعة الرئيسية لتلك الكتابات في ثلاثة اتجاهات:

(أ) المقارنات التي تضع أمامنا تلخيصا واسعا للنظام الاقتصادي الإسلامي إزاء الرأسمالية والاشتراكية.
ويبتدئ القسم (5) بإلقاء نظرة على الرؤية الإسلامية بالنسبة للمعاملات الاقتصادية للأفراد (القسم الفرعي 5-1)، ثم يستكشف في الأقسام الفرعية الباقية علاقة هامة بين الاستهلاك في الحياة الدنيا والثواب في الآخرة في إطار دالة المنفعة الإسلامية. ويدعم القسم (5) ما ورد في القسم (4) ويقدم الكثير من الاستشهادات بالقرآن والحديث التي تم تصنيفها تحت عشرة عناوين رئيسية ووضعها في ملحق.
2- القضايا المنهجية

(ب) انتقادات النظم والفلسفات الاقتصادية غير الإسلامية.

(ج) بعض الشروح حول إحدى المسائل الاقتصادية، مثل الربا (الربا والفائدة)، وما يتصل بذلك.

إن الأستاذ محمد المبارك، المفكر المرموق والمراقب المرهف الملاحظة في مجال الفكر الإسلامي، قد عبر حديثا عن الرأي بأن ما كتب بالنسبة للنقطتين (أ) و (ب) يعتبر كافيا، وأنه قد حان الوقت للتعمق في النظام الاقتصادي الإسلامي ذاته، وفهم خصائصه تماما ومنحه صياغة حديثة (المبارك، ص9، 10). وإنني أؤيد هذا الرأي، وآمل أن يكون هذا البحث خطوة في ذلك الاتجاه.

إن المكونات الرئيسية لهذا البحث تتمثل في إحدى المسائل المنهجية، وفي موضوعين جوهريين في علم الاقتصاد.

والمسألة المنهجية هي “هل من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي؟” وسوف نجد أن الجواب سيكون بالإيجاب عند توضيحنا في القسم (2) المجالات التي يتوافق فيها الإسلام مع الاقتصاد. وحتى إذا ما افترضنا أن علم الاقتصاد واقعي، فإن لديه عناصر معيارية هامة (في الأقسام الفرعية 2-2، 3-1، 3-2) وبطريقة مماثلة، فإن الإسلام -الذي نستطيع أن نفترض أنه معياري- لديه أيضا عناصره الواقعية (القسم الفرعي 2-3) وقد تم تقديم اقتراح في القسم الفرعي (2-4) يدل على أن تصنيف الأقوال إلى واقعي أو معياري إنما يكون أحيانا دليلا على قصور معرفتنا، بل ومعتقداتنا الدينية. وقد قدمنا الرؤية الإسلامية بالنسبة للعلاقة بين المعرفة الواقعية والتعليمات الإسلامية في القسم (2-5).

وقدمنا في القسم (4) إعادة اكتشاف وتلخيص الدالة الإسلامية للمصلحة الاجتماعية التي تكونت منذ حوالي 800 عام. وقد بسطت في القسم الفرعي (4-6) بعض المعاني المتضمنة لتلك الدالة بالنسبة للعلاقة بين الفقه الإسلامي وعلم الاقتصاد الإسلامي.

(2-1) هل من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي؟

إن علم الاقتصاد، كما أكدنا كثيرا، هو علم واقعي. في حين أن الإسلام باعتباره دينا، يعد معياريا في المرتبة الأولى… وقد يصل أحدنا إلى الاستنتاج: أنه ليس من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي ذي معنى أكثر من إمكانية قيام علم رياضيات إسلامي أو علم فيزياء ذرية إسلامية.

إنني سوف أقدم مناقشتي في هذا الجزء وغيره موضحا إمكانية قيام علم اقتصاد إسلامي متميز ذي معنى، وأن ذلك ليس من الممكن فحسب، بل إنه من الضروري، وباختصار، فإن وجهة نظري هي أن الاقتصاد لا يخلو من الأحكام التقييمية تبعا لاعتقادنا السائد، وليس من الممكن أبدا أن يصبح كذلك (القسم 2-1). وإن الإسلام أيضا لا يخلو من التأكيدات الواقعية التي تتحدث عن الحقيقة الإسلامية (القسم 2-3). وإننا إذا نستطيع الاستعاضة عن الأحكام التقييمية الغير إسلامية ببديلتها الإسلامية ثم نضيف التأكيدات الإسلامية إلى حصيلة العلماء الاقتصاديين من التأكيدات الواقعية، ثم نستخلص النتائج.

ولكن تلك المهمة في الواقع تعد أكثر سهولة من الناحية النظرية عنها من الناحية العملية، فهي ليست بأقل من بناء نظرية جديدة تقريبا. ولكنه يجب علينا باعتبارنا مسلمين أن نأخذ ذلك على عاتقنا لو أننا أردنا الإسهام في حل المشاكل الإسلامية الحقيقية بواسطة حلول نابعة من الإسلام، وإذا كنا نرغب في إبطال صفتنا “كناقلين تلقائيين” للعلوم الاجتماعية الموجودة حاليا.

وسوف أتناول بالمناقشة أيضا في القسم (2-3) حقيقة أن ما نعتبره حكما تقييميا كلاسيكيا أكثر من كونه بيانا واقعيا هو شيء لا يدل إلا على قصور معرفتنا ومعتقداتنا الدينية في معظم الأحيان.

(2-2) الأحكام التقييمية في النظرية الاقتصادية:

إن علم الاقتصاد كما ذكرنا، هو علم واقعي، وقد اتسم بتلك الصفة بعد أن تخلص من جميع ظلال الأحكام التقييمية التي كانت تنسب إليه في بعض الأحيان. ولكننا الآن نؤمن على نحو متزايد أن مجال الاقتصاد ينتابه الكثير من تلك “الظلال الكامنة”. وهكذا فإن القيم المتضمنة به هي:

(أ) اختيار النواحي التي يجب السعي إليها: عندما نقوم بتكريس الجزء الأعظم من مواردنا لنظرية معينة، فإن ما سيبقى لدينا من الموارد بالنسبة للنظريات الأخرى سوف يكون أقل. و “ينطبق ذلك على تدريب العلماء الجدد، والزمن الذي تتم فيه الدراسة، وعدد السطور في الكتب والمنشورات الدورية… وإنه حتى تكريس الزمن المتساوي لا يخلو من القيم”.

(ب) الاختيار بين المتغيرات والافتراضات: تختلف الحقيقة الاقتصادية كثيرا تبعا للزمان والمكان، أي أنها تتأثر بالكثير من المتغيرات. وإن أي تحليل تجريبي بحت للحقائق إذا كان معتمدا على استخدام الحركة التراجعية المضاعفة وما يماثلها بدون وجود نظرية، لن يثبت سوى الترابط، ولكنه لن يستطيع فصل العلة عن المعلول، وهكذا فإننا لن نستطيع التوصل من خلال الأساليب التجريبية إلى أي استنتاجات شاملة بالنسبة للعلة والمعلول وسير الظواهر الطبيعية لو لم تكن لدينا إرشادات نظرية قوية.

ويستلزم مثل ذلك الإرشاد النظري معاينة المتغيرات التي تبدو وثيقة الصلة بالظاهرة التي نقوم بدراستها. وعادة ما تكون تلك المتغيرات كثيرة في عددها وغالبا ما تكون ذات طبيعة غير اقتصادية. وسوف نقوم بتصنيف تلك المتغيرات من خلال أسلوب غامض للتفكير والتخمين في ثلاثة أنواع:

–       غير وثيقة الصلة بالظاهرة.

–       خارجة عن الظاهرة، أي أنها تؤثر عليها بدون أن تتأثر بها.

–   متغيرات باطنية النمو تتفاعل بعضها مع البعض وتتأثر المتغيرات الخارجية وتلك هي المتغيرات التي تعتبر هامة بالنسبة للشرح والتنبؤ.

وهكذا، فإن اختيار المتغيرات وتصنيفها والمشكلات اللاحقة التي تواجهها ونضع لها حلا نظريا أو تجريبيا ليس من الممكن إلا أن يتأثر بثقافة ومعتقدات الباحث، كما يتأثر بمخاوفه المتعلقة بالإنسانية والمجتمع.

(ج) اختيار الأساليب: يكشف أي أسلوب للبحث في المجالات النظرية أو التجريبية عن تصور معين للكون، ويشجع على تأكيد أشياء معينة.

فإن الأساليب الكمية مثلا توجه الأهمية للأشياء المعرفة جيدا، والقابلة للقياس بسهولة وبدون تكلفة. وسوف تحوز مثل تلك الأساليب في العلوم الاجتماعية على نجاح أكبر “لو كان الباحثون راغبون فقط في تحديد اختيارهم بأسلوب معقول ومدروس بترو، وقائم على أساس ميزان محدد الأوجه وسهل القياس” وتحظى المشاكل والمفاهيم التي يمكن معاينتها في نطاق ذلك الإطار بأقصى الاهتمام المهني على حساب المشاكل والمفاهيم الأخرى. ويمكننا استخدام طرق بديلة للبحث قد تكون مرغوبا فيها في مجالات معينة.

(د) اختيار الغايات والوسائل: إن بعض المفاهيم الهامة في الاقتصاد تصبح ذات معنى فقط بعد تحديد هدف أو غاية معينة. لقد لاحظ بنيامين وارد مثلا، أن الأحكام التقييمية تكون حاسمة بالنسبة لفكرة الفعالية عندما نضطر لتقييم المتغيرات إما بأنها مداخل أو إيرادات. وإنه (إذا كانت هناك بعض أنواع من العمل مرضية بالفعل فإن المرء قد يرغب في تصنيفها (كإيرادات) جنبا إلى جنب مع الإيرادات التي توصف بأنها تقليدية بدرجة أكبر…. ويقام ذلك التصنيف على أساس الحكم بالنسبة لما هو موضع تقدير في المجتمع وما هو ليس كذلك”.

ويعتبر مفهوم الناتج القومي الإجمالي مقياسا للإنتاج، ومقياسا للعمل والرخاء، ذلك لأنه يقوم على أساس أحكام تقييمية معينة.

الاستنتاج: وهكذا، فإنه يوجد العديد من النواحي في النظرية الاقتصادية تقوم فيها الأحكام التقييمية بدورٍ حاسم، وفي مثل تلك النواحي نستطيع أن نسهم نحن المسلمين بطريقة مميزة نابعة من إسلامنا.

ونحن لسنا في حاجة إلى للقول بأن العديد من مجالات الاقتصاد هي واقعية بالفعل وليس من الممكن تغييرها سواء كان ذلك الإطار الإسلامي أو غيره من الأطر (مثل الشروط من الدرجة الأولى والثانية للحصول على كمية معينة من الإنتاج بأقل تكلفة، عند معرفتنا عوامل الأسعار ودالة الإنتاج).

(2-3) بعض التعبيرات الاقتصادية الواقعية في القرآن:

إن الإسلام لا يخلو من العبارات الاقتصادية الواقعية بالرغم من أنه يعتبر معياريا في المرتبة الأولى. وتصور لنا الآيات التالية من القرآن هذه الفكرة. وتشير تلك الآيات إلى نزعات طبيعية معينة في الإنسان في “حالته البدائية”. ويقدم لنا الدين تأثيرات كابحة وملطفة.

(أ) “ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبير بصير” 42-67.

تصف تلك الآيات أحد آثار ازدياد الرخاء المادي على السلوك.

(ب) “إن الإنسان خلق هلوعا. إذا مسه الشر جزوعا. وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين…” 70-19-22. إن الإنسان يرفض المشاركة حتى إذا كان يتمتع برخاء متزايد.

(ج) “زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب” 3- 14.

“وإنه لحب الخير لشديد” 100 – 8.

لقد صور الإنسان بأنه شديد الولع والنهم للثروة.

(د) “وكان الإنسان عجولا” 17 – 11. وتؤكد العديد من الآيات الأخرى الفكرة العامة أن معدل إسقاط الإنسان للزمن من اعتباره هي فوق الصفر.

(هـ) “وإنه لحب الخير لشديد” 100 – 8. إن كلمة الخير تعني كل شيء مفيد ونافع، وهكذا فهي تتضمن الثورة ولكنها لا تقتصر عليها إطلاقا ويصور الإنسان بأنه يتحمس دائما لمصلحته الخاصة.

ومن الممكن أن نذكر العديد من الآيات القرآنية الأخرى، ونستطيع أن نستشهد بالحديث أيضا، ولكن ما قدمناه من الأمثلة يكفي لنقل فكرة أن العبارات الاقتصادية الواقعة ليست قليلة في الإسلام.

(2-4) العبارات المعيارية التي تعتبر واقعية تقريبا والعكس بالعكس:

يوجد اختلاف بين العبارات الواقعية والعبارات المعيارية. وبالنظر إلى التصور المسبق الشائع بأن الوصايا الدينية تكون عادة معيارية، فإنني أجد من الهام بالنسبة للعالم الاقتصادي المسلم أن يدرك أن مثل ذلك التمييز يكون مضللا في بعض الأحيان بشكل خطير ومن الضروري أن نقدم مثلا.

إننا سوف نرمز للتعبيرات المعيارية في هذا المثل بالحرف من وللتعبيرات الواقعية بالحرف و… وإن التعبيرات الواقعية فقط هي التي من الممكن أن تكون على صواب أو خطأ.

لقد روي أن أحد السياسيين من شمال أفريقيا قد أعلن بطريقة فظة ما يلي:

و1- “أن الصوم في رمضان يخفض المجهود ومن ثم الإنتاج”.

م1- “إن الحصول على قدر أكبر من إلا نتاج يعد هدفا قوميا حيويا”.

م2- “لذلك، فإن الصوم يكون ضد المصلحة القومية في مثل تلك البلدان الفقيرة”.

ولنستكمل الصورة ببعض العبارات الأخرى:

م3- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام.

و2-…. لعلكم تتقون…” 2- 183.

(لاحظ أن هذه الآية القرآنية تعدم جزئيا و جزئيا”.

ونظرا إلى الاعتقاد الشائع بأن (و1) يرجح صحتها، فإنه من الواضح أن هؤلاء الذين يقبلون (م1) (ولعل م2 أيضا) ولا يزالون عازمين على الصوم (م3) إنما يعبرون عن حكم تقييمي بأن طاعة الله أهم من بعض الخسارة في الإنتاج. ولكنهم يجدون أن عليهم أن يكونوا دائما في موقف دفاعي ومن المرجح أنهم لن يشعروا بالراحة أو السعادة.

و3- لقد ذكر السكرتير العام للأمم المتحدة في مذكرة عن منع الجريمة وكبحها (19 سبتمبر 1973) أن “الكثير من البلدان تواجه مشكلة الرشوة والفساد الأخلاقي، التي تمثل تكلفة اقتصادية خطيرة الأبعاد” (الفقرة 68). ومن المرجح بصفة عامة أن تلك البلدة (بشمال أفريقيا) ليست باستثناء.

و4- بالنظر إلى (م3) و (و2) يستطيع الإنسان أن يفكر بطريقة منطقية بأن الصيام يؤدي إلى خشية الله، التي تؤدي بدورها إلى تحسين المعايير الأخلاقية وتقليل الفساد والإهمال، وهكذا فإنه يؤدي في النهاية إلى زيادة الإنتاج.

لنفترض الآن أننا قد طبقنا بحثا منظما للتحقق من (و1) و (و4) ووجدنا أن كليهما حقيقي- (و1) حقيقة في رمضان و (و4) حقيقة في الشهور الأخرى، وقدرنا آثارهما الكمية على الدخل القومي كل على حدة. ولنفترض أيضا أن الجميع يقبلون م1:

إذا اتضح أن للصيام تأثيرا سلبيا على الإنتاج، حيئنذ فإن أية من العبارات السابق ذكرها لن تتغير طبيعتها من م إلى و، أو العكس بالعكس.

ولكن لو اتضح أن للصوم تأثيرا إيجابيا على الإنتاج، فإنه سوف تحدث حينئذ الكثير من التغيرات الأساسية:

و1 سوف يخف وقعها كثيرا بواسطة و4.

م2 سوف تصبح واقعية وخاطئة.

م3 سوف تصبح ما أطلق عليه عبارة “مختلطة” معيارية ولديها عنصر واقعي قوي، أو العكس بالعكس.

فلنقرأ الآية القرآنية بأكملها: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” “وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” 2- 182- 84

(إن التوكيد من إضافتنا).

(2-5) استنتاجات حول المنهج:

إن ما نصنفه غالبا كعبارة معيارية مع التلميح في بعض الأحيان إلى أن المعنى المضاد قد يكون صحيحا بنفس الدرجة يعتبر دليلا على معلوماتنا أو على نقص هذه المعلومات. ويعتبر ذلك صحيحا بصفة خاصة بالنسبة لجميع “الأوامر” و “النواهي” التي نجدها في الإسلام، فهي “عبارات مختلطة” تبدو معيارية “ظاهريا” ولكنها مفعمة بنتائج واقعية. إن أعمال العبادة كثيرا ما تبدو أنها معيارية.. ولكنها أيضا تعد أمثلة رئيسية للعبارات المختلطة (تستطيع أن تقرأ الآيات 22- 37 حول التضحيات وأيضا الآية 2- 177.

إن السلوك الاقتصادي للإنسان وما عداه يتأثر من بين أشياء أخرى بنظرته للحياة، ومعتقداته ومعاييره الأخلاقية، ولذلك فإن كل ما يؤثر على تلك المتغيرات يجب بالضرورة أن تترتب عليه نتائج اقتصادية بعيدة المدى.

لقد أكد بعض العلماء الاقتصاديين بشدة، وأبرز من نشير إليه منهم ب. أ. سامولسون، وجهة النظر الإيجابية التي تعطي أهمية عظيمة للتمييز بين العبارات المعيارية والواقعية. وإن أي إغفال لذلك التمييز يكون من الممكن تبريره فقط في الحالات النادرة التي نعمد فيها إلى إنفاق الوقت والمال للتحقق من العبارة قبل أن نقبلها.

ومع ذلك، فإن الوضع في الحياة الواقعية يختلف تماما. فإننا في الممارسة العملية دائما نقبل العبارة الواقعية وندعو الآخرين لقبولها بدون أن تكون لدينا أقل نية أو وقت أو مال للتحقق منها. لقد صرح ذلك السياسي من شمال أفريقيا بتلك العبارة وهو يعلم تماما أن أي شخص لن يقدم على محاولة دحضها بالرغم من أنها واقعية وقابلة للدحض. وأستطيع أن أطرح السؤال ما هو الفارق العملي بين مثل تلك العبارة وبين عبارة معيارية ليس من الممكن دحضها؟.

إنه من الملائم هنا أن نتذكر كيف يعلمنا الإسلام أن نتدبر وصاياه.

أولا: إنه ليس هناك ادعاء بأن ما هو محرم يعد شيئا سيئا تماما وما هو مفروض يعد شيئا حسنا تماما. ولكن الأمر، مثلما عبر عنه الشاطبي، هو أن كل وصية إسلامية يكون لديها في نفس الوقت تأثيرات مرغوب وغير مرغوب فيها، وأن الإسلام يضع قواعده على أساس التأثيرات الغالبة. وللحصول على مثل واضح بالنسبة لتلك الفكرة، نستطيع أن نقرأ الآيات القرآنية 2- 219 و 5- 90 المتعلقة بشرب الخمر، والميسر 9.

ثانيا: لو كانت للإنسان معرفة ملائمة بالنسبة للنتائج المباشرة وغير المباشرة لأفعاله واتجاهاته… على كل من المدى القصير والطويل… ولو كان لتلك النتائج نفس الأبعاد لما كان هناك معنى لانشغال الدين بالأمور الاجتماعية. ولكن معرفة الإنسان في ذاتها لا تكفي… 10 إن الله العليم الحكيم، نظرا لاهتمامه بصالح الإنسان، قد زوده بعلامات وإرشادات حتى يوفر عليه الخسارة الفادحة إذا سقط ضحية لقصور معرفته أو أوهامه وانفعالاته.. وإن الغرض من ذلك الإرشاد الإلهي هو توجيه الإنسان إلى الوجهة السليمة في مساعيه الاجتماعية، أو الفكرية. ولكنه لا يعني إحباط أو استبدال مثل تلك المساعي التي تشكل جزءا هاما من رسالة الإنسان في الحياة.

لقد زودنا الله بنوع من الخريطة المصغرة التي يقيم الإنسان أعماله على أساسها. ولو كانت للإنسان معرفة كاملة خالية من النزعات، لتوصل إلى استنتاجات مماثلة لوصايا وإرشاد الله.

لقد تم تأييد ذلك الأسلوب الفكري بواسطة عدد كبير جدا من الآيات القرآنية حتى إننا لنعجز عن تقديمها هنا. أنظر على سبيل المثال في الآيات 2- 184 عن الصيام، 2-219-22 و 4-25-28 عن الزواج، 2-219 عن شرب الخمر والميسر، 2، 102 عن السحر، و 2-10-13، 4-83، 22-47، 23-1، 28-43-47، 28-50-51، 30-41 عن العديد من الأفكار العامة.

 

الأفكار العامة

(3-1) الأسس الفلسفية لعلم الاقتصاد الكلاسيكي المحدث:

إن عنوان ذلك القسم يكون بلا معنى لو أقر الإنسان بدون تحفظ بالرأي السائد… بين العلماء الاقتصاديين، وهو أن النظرة الاقتصادية الرئيسية تعد محايدة بالنسبة للقيم، ولذلك فإنها يمكن تطبيقها في أي مجتمع، وأنها مبدئيا تستطيع أن تخدم معظم الغايات السياسية” إنني لا أؤمن بصحة هذا الرأي تماما، وآمل أن تبرهن مناقشات هذا البحث على ذلك.

ويمكننا أن نلخص رؤية العلماء الاقتصاديين المنفصلة عن الدين تلك التي صاغوا أفكارهم بالنسبة للكون في نطاقها فيما يلي:

إن الإنسان كائن (ليس حيواني) من نتاج الطبيعة، وإن وجوده ليس في حاجة لأن يكون له أي معنى أبعد من ذلك إنه موجود بكل بساطة وهذا هو الأمر.

إن الإنسانية هي الحقيقة النهائية، وإن أهمية الحياة وأهدافها النهائية، لو كانت هناك أي منها، يجب السعي إليها في نطاق الحياة ذاتها وليس فيما وراءها إن كمال الجنس البشري من الممكن التوصل إليه بدون العون الإلهي.

ويمكننا تلخيص التصور التقليدي التحرري للإنسان في أربعة مبادئ: المتعة، والعقلانية، والفردانية، والحرية.

وتتمثل المتعة في مبدأ جيرمي بنثام للمتعة- والألم، وهو: إن الإنسان يقع تحت سيطرة عاملين رئيسيين، هما الألم والمتعة، وتعتبر المتعة هي الغاية العليا في الحياة. إن الإنسان كسول بطبيعته، أي أنه يكره بذل الجهد ويعتبره شيئا مؤلما بالنسبة له.

“وتعني العقلانية التكيف وفقا للوسائل- والغايات، واللجوء إلى الاختيار المتأني بين الأشياء البديلة سعيا وراء إشباع حاجات الإنسان”.

“إن المذهب الذري هو تأكيد ضرورة الانفصال والاستقلال الذاتي لكل فرد عن غيره من الأفراد، وتكون النتيجة هي إقرار القيم عن طريق العمليات الداخلية للكائن الحي الإنساني” (وارد، ص 24-25)، ولكنني أفضل تسمية ذلك المذهب بالفردانية بدلا من المذهب الذري.

أما “الحرية” فهي تعني تأكيد حرية الإنسان التامة في شكلها الأولي، وأن التقييد الرئيسي لتلك الحرية ينبع من أساليب تأهيل الفرد للعيش في المجتمع مع الآخرين، الذين يكونون أحرارا بدرجة متكافئة. “وهكذا، فإن كل فرد يعتبر إنكارا لحرية الآخرين” (الصدر، ص 12).

ولا تزال تلك الأفكار قوية حتى في الوقت الحاضر، وقد تم تصوير ما تعنيه عمليا بالنسبة للمستهلك في الاقتباسين التاليين.

لقد كتب ب. شيلز في 1974 أن الاتجاه الذي يؤمن بمذهب المتعة يعني من بين أشياء أخرى ما يلي:

أن أحد التزامات الحكومة يتمثل في محاولة تدعيم مذهب المتعة واسعة النطاق بين الشعب:….. أي أنه يجب إشباع جميع أو معظم الحاجات المادية لأعضاء المجتمع القومي، ويجب توسيع ذلك الإشباع باستمرار بهدف تحقيق زيادة مستمرة في سد الاحتياجات من المنتجات المتوفرة حتى يتم إشباع هذه الاحتياجات. (ص2 وما يليها).

وبوضع ذلك الإطار أمامنا، فإنه لا يكون من الصعب وضع تعريف للأشياء التي تؤدي إلى تكوين “الحياة الملائمة”. لقد حاول س. ف. سنجر، المتخصص المرموق، في 1971 أن يعرف خاصية الحياة فقال: إننا من الممكن أن نضع تعريفا غير دقيق (لخاصية الحياة) في مجتمعنا (الولايات المتحدة الأمريكية) الذي تعد الرفاهية المادية واحدة من الأشياء الهامة فيه وتسهم في السعادة التي ينشدها الناس، وذلك التعريف هو: “الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المال الفائض بعد قضاء الضروريات الرئيسية، وامتلاك الوقت والفرص اللازمة لإنفاقه بطريقة ممتعة” (ص 400).

3-2 الافتراضات الكلاسيكية المحدثة بالنسبة لسلوك المستهلك:

يفترض العلماء الاقتصاديون أن الدافع الرئيسي القوي للفرد المستهلك هو الرغبة في الاستهلاك الشخصي والحصول على الراحة. ويفترض أيضا أن تلك الرغبة لا يمكن إشباعها، وأن المستهلك يحاول إشباعها إلى أقصى حد ممكن بما يتناسب مع العقل.

وإنه أيضا ليس من العصب أن نرى الصلة بين افتراضات العلماء الاقتصاديين بالنسبة لدالة المنفعة للمستهلك وبين مبادئ الفرادنية والحرية (إن دالة المنفعة تلخص الأساليب التي يتأثر بمقتضاها إشباع حاجات الفرد عن طريق استهلاكه للبضائع المختلفة).

وهكذا إنه يتم تجميع كل العوامل الغير اقتصادية التي تؤثر على سلوك المستهلك وإعطاؤها اسم يتسم بالمهارة بحيث لا يستطيع أي شخص التدخل فيه وهو: الأذواق. وتعتبر الأذواق بالنسبة لصلتها مع دالة المنفعة كمتغيرات خارجية، وهكذا تستطيع التأثير في سلوك المستهلك بدون أن تتأثر بسلوك المستهلكين الآخرين. ولا تتضمن الأذواق الخصائص الديمغرافية وغيرها من الصفات الشخصية للمستهلك فحسب، ولكنها تتضمن أيضا معتقداته وقيمه الأخلاقية، وتلك هي أكثر الأشياء أهمية لنا. ومن الممكن أن تتمثل تلك القيم في أي شيء، ولكنها لا يجب أن تكون شاذة للغاية إلى حد التعارض مع الافتراضات الآنف ذكرها، أو الافتراض النهائي، الذي يمثل الأنانية الذاتية: أي استقلال المنفعة الفردية عن منفعة الآخرين.

ولكننا يجب أن لا نغفل ذكر أن عددا كبيرا جدا من العلماء الاقتصاديين قد قدموا اعتراضاتهم بالنسبة لافتراض استقلال المنافع.. ومع ذلك استمروا في استخدامه في تحليلاتهم. وقد نجح الكثير منهم في إيجاد معاني متضمنة لتحقيقه ولكن ذلك كان فقط ينطبق على حالات معينة (مثلا، ج. س. دوسنبري، الدخل، والادخار ونظرية سلوك المستهلك)، (1949).

لقد كان العذر الشائع لإهمال تحليل تلك المسألة بطريقة تتسم بالإخلاص هو أن التخلي عن هذا الافتراض سوف تكون له متضمنات بعيدة المدى ومن الصعب معالجتها، ولكننا يجب أن نضيف أن ذلك ليس بعذر مقنع بالنظر إلى حقيقة أن العلماء الاقتصاديين يجدون أحيانا أنه من الجدير بهم أن يسعوا وراء قضايا معقدة تتسم بالتفاهة.

 

(3-3) المعتقدان الإسلاميان وثيقا الصلة بالسلوك الاقتصادي:

يوجد الكثير جدا من المعتقدات الإسلامية وثيقة الصلة بالسلوك الاقتصادي حتى إننا لنعجز عن ذكرها جميعا هنا. والآن، فإنني سوف أبرهن على قوة الصلة بين اثنين من تلك المعتقدات: أن الله هو المالك، وأن الحياة اختبار.

(3-3-1 الله هو المالك:

إن فهم فكرة الملكية في الإسلام يشكل واحدا من أسس السلوك بالنسبة لكل من المستهلك والشركة.

عندما يولد الإنسان فإنه –إذا استخدمنا التشبيه- يدعى إلى مائدة الكون الواسع الذي أعده الله للإنسان. ولا تتضمن تلك المائدة الأشياء المادية على وجه الأرض وفي الكون فحسب، ولكنها تتضمن أيضا القوانين الطبيعية (قوانين الله)، وجسم الإنسان ذاته، ومشاعره، وقدراته العقلية…الخ. إن جميع تلك الأشياء هي خلق الله وملكيته بمفرده.

إن الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يدعي عن حق أنه “يخصه” هو إرادته التي وهبها الله له “الحرية”.

إن ما يحصل عليه الإنسان أو يكتسبه في الحياة الدنيا، سواء بطريقة فردية أو جماعية، يعد نتيجة لاستخدام إرادته في انتهاج الطريق الصحيح، وترك قوانين الله تقوم بالعمل في نطاق ملك الله. وحتى عندما يحصل الإنسان على شيء من عرق جبينه، فإنه في الحقيقة يوجه إرادته لاستخدام جسده ومشاعره، التي تعتبر خلق الله وملكيته، وفي تلك العملية يستخدم الإنسان الطعام ويتنفس الهواء الذي يعد من ممتلكات الله، وإن أي شيء يمتلكه الإنسان في المفهوم التقليدي القانوني، يعد شيئا قد سمح له بأن “يحوز عليه” بالرغم من كونه ملكية شرعية لله.

“له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى” 20-6

“الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين” 1-1-4

وسوف يشعر الإنسان بالإجلال والشكر، سواء كان هو المنتج أو المستهلك، عندما ترسخ فكرة أن الله هو المالك في قلبه، لأن الله قد وضع جزءا من ثروته في عهده. وحينئذ سوف يميل الإنسان على الاعتراف بحق الله في وضع الحدود الملائمة بالنسبة له للتمتع بالثروة واستخدامها، وأيضا الاعتراف بحق الله في تعيين أشخاص آخرين أو تعيين المجتمع ليكون المطالب الشرعي بنصيب في تلك الثروة.

“آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجرا كبيرا” 57- 6

“…..وآتوهم من مال الله الذي آتاكم”                                                     24- 33

(3-3-2) الغرض الأوحد للحياة: اختيار الإنسان:

“تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا…”

إن الحياة تعد بمثابة اختبار ولكننا لا نمر به جميعا بطريقة متساوية، ومما يتفق مع العدل، فإننا أيضا لا نحاسب بطريقة متساوية في يوم الحساب. ويقول الله “….. فضلنا بعضهم على بعض” 17-21، وذلك في كثير من النواحي: في المقدرة العقلية والبدنية، وفي البيئة المادية والاجتماعية، وفي القوة والمعرفة والثروة…الخ. و تكون بعض هذه الأشياء متوارثة وبعضها مكتسب بالجهد، وبعضها يجيء تبعا للظروف، ولكن كل فرد سوف يكون مسئولا أمام الله بالنسبة لجميع الأشياء التي فضل فيها على الآخرين وفي يوم الحساب سوف يحاسب كل فرد:

….. عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به. (حديث موثوق بصحته).

“وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم” 6- 165.

ونستنتج حينئذ، متفقين في ذلك مع الدكتور أحمد النجار، إن أي شيء يستخدمه الإنسان (كمستهلك أو منتج) لا يخلو من الالتزامات الأخلاقية حتى إذا كان خاليا من الالتزامات الاقتصادية. وإن ما يجب أن يقدمه مقابل ذلك هو الشكر للخالق المالك، أي أننا يجب أن نكون منتبهين لله في استخدامنا لتلك الأشياء، ونشارك في ثمراتها أصحاب الحق الشرعيين الآخرين.

4- إعادة اكتشاف دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية:

إن دالة المصلحة الاجتماعية التي يتمنى الاقتصاديون المحدثون التوصل إليها قد صيغت قبل حوالي 800 سنة صياغة أصلية من قبل مفكرين وفقهيين مسلمين هما الإمام أبو حامد الغزالي (المتوفى سنة 505 هـ)، والإمام أبو إسحاق الشاطبي (المتوفى سنة 790 هـ). فالإمام الغزالي هو الذي قدم الصياغة الأصلية ثم وسعها الشاطبي وشرحها وطورها إلى حد بعيد. وهناك عدد من الخلاصات الممتازة لأفكار هذين الإمامين في كتابات عدد من الفقهاء المعاصرين كالأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة، والأستاذ مصطفى أحمد الزرقاء الذي سأعتمد على تلخيصه في هذا البحث.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر