أبحاث

كيف يجب أن يعلم التاريخ في البلدان الإسلامية

العدد 12

يعتبر التاريخ من أنسب المواد الدراسية التي تعين على تحقيق التماسك الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة. وهذا ما أدركته جامعة الدول العربية منذ تأسيسها في عام 1945م. فدعت إحدى لجانها المتخصصة، وهي
اللجنة الثقافية (التي صارت تعرف اليوم باسم “المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم”.) إلى مؤتمر ثقافي عربي عام عقد في بيت مري بلبنان فيما بين 2 – 11/9/1947 “ليبحث في مواد اللغة العربية والجغرافية والتاريخ والتربية الوطنية”: ماذا يمكن أن يكون مناهجها موحداً بين الأقطار العربية؟ وماذا يمكن أن يكون مختلفاً باختلاف بيئة كل قطر؟ وما هي الأسس القومية التي تبنى عليها مناهج هذه الموضوعات كما دلت عليها البحوث الحديثة في التربية.
وكما ترمي إليها الأقطار العربية في تكوين جيل صالح يعتز بتراثه ويسهم في جد ونشاط في بناء المدنية؟. وبقدر ما يتعلق الأمر بالتاريخ، فقد اتخذ هذا المؤتمر التوصيات الآتية:
أولاً: أن يكون محور دراسة التاريخ في المرحلة الابتدائية تاريخ القطر الخاص الذي يعيش فيه التلميذ، مع العناية بدراسة الصلات بين هذا القطر وبين البلاد العربية قبل الإسلام وبعده. ويتم هذا الغرض بدراسة القصص المشوقة وتراجم أبطال التاريخ القومي وتراجم أبطال العرب ممن تجاوز أثرهم حدود بلادهم. وينبغي الإشارة في ثنايا قصص الأبطال إلى الحياة الاجتماعية في مختلف العصور، مع الموازنة بين الحياة الماضية والحياة الحاضرة التي تقع تحت حس التلميذ والعناية بالحياة المعيشية لطبقات الشعب. على أنه في السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية يجوز أن يدرس التاريخ على صورة منظمة، مع مراعاة تيسيره ليلائم عقلية الأطفال ومدى خبراتهم.
ثانياً: أن يكون محور دراسة التاريخ العربي في التعليم الثانوي النواحي الاجتماعية والوصفية، مع بيان أثر الشخصيات الفذة والأحداث والوقائع اللازمة لتصوير الحقائق وتبيينها في الأذهان، وتقصي مظاهر التطور والنضج التام.
ثالثاً: أن يشمل القدر المشترك من التاريخ العربي الذي يدرس في المدارس الثانوية في جميع البلاد ما يأتي:
(أ) تاريخ العرب قبل الإسلام.
(ب) تاريخ العرب منذ ظهور الإسلام إلى الفتح العثماني.
(ج) النهضة العربية الحديثة.
أما الجزء الواقع بين الفتح العثماني والنهضة العربية الحديثة فيدخل ضمن المنهج الخاص الذي تضعه الهيئات المشرفة على التعليم في كل دولة عربية، ويترك توزيع هذا المنهج على الفرق (يراد بذلك على الصفوف أو الفصول) للهيئات المشرفة على التعليم في كل دولة منها.
رابعاً: أن يعنى في المرحلة الثانوية من التاريخ العلمي بالقدر اللازم لمساعدة الناشئ على فهم مكانة بلاده والدول العربية بين دول العالم، ومشاكل المدينة الحديثة.
–أيضاً- أن آدم عليه السلام كان إنساناً ناطقاً وعاقلاً ذكياً تعلم أسماء الأشياء، وأنه أنشأ أول المجتمعات البشرية على الأرض وكانت على عبادة التوحيد، وأن الله تعالى قد حذروه ونسله من عداوة الشيطان إلى يوم يبعثون، وإن الله تعالى قد اختاره خليفة له في الأرض لإعمارها، وأن هذه الخلافة أصبحت في نسله أيضاً، فالإنسان مأمور بإعمار هذا الكون لخير نفسه ومجتمعه.

خامساً: أنه ينبغي أن يدرس التاريخ دراسة علمية، ويناقش مناقشة قائمة على منطق إنساني عادل.

سادساً: أنه يستحسن أن يكون طريقة تدريس التاريخ: التدرج من القديم إلى الحديث، ولا مانع من التحلل من ذلك عند الاقتضاء.

سابعاً: أن يدرس تاريخ العرب على حساب الدول والعصور المتتابعة وفقاً للطريقة التقليدية.

ثامناً: أن يدرس تاريخ الشعوب العربية بعد سقوط بغداد على أساس تاريخ الدولة الخاصة، مع الإشارة إلى تاريخ الدول العربية الأخرى وبيان ما بينها من علاقات.

تاسعاً: أن يدرس تاريخ الحضارة العربية متصلاً بالتاريخ العربي العام، بمعنى أنه بعد الانتهاء من العرض العام لكل عصر يدرس الطالب حضارة هذا العصر.

عاشراً: أنه ينبغي الاستفادة من دراسة التاريخ العربي في تقوية الروح العربية الحقة الاهتمام بالنواحي الآتية:

1- بيان أثر أمم الشرق الأدنى، وفضلها في بناء صرح المدنية القديمة ومقدار تأثر اليونان بحضارات الشرق القديم في الشام وفلسطين ومصر وغيرها.

2- تتبع الصلات السلالية والتجارية والثقافية بين أمم الشرق الأدنى، تلك الصلات التي وجدت قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فدعمها وزاد في أواصرها.

3- إبراز الأحداث العظيمة والمواقف الحاسمة لنواحي البطولة في العصور العربية الزاهرة ودراسة الأسباب والنتائج في تفصيل يتضح منه أثر الحياة الشعبية والروح العربية في ارتقاء الدولة أو الدول العربية وهبوطها.

حادي عشر: أن من الوسائل التي تساعد على تنمية الروح العربية وتحقيق الأغراض المقصودة في تدريس التاريخ بالبلاد العربية ما يأتي:

1-   تأسيس الجمعيات التاريخية لتبادل الآراء والكشوف والبحوث.

2-   تنظيم رحلات الأساتذة والطلبة.

3-   عقد مؤتمرات دورية للدراسات التاريخية من وقت لآخر في عواصم البلاد العربية.

4- الاهتمام بالحفائر الأثرية (يراد بذلك الآثرية) وإنشاء المتاحف (يراد بذلك المتحفات) التاريخية والاستعانة بالفنون الجميلة لتوضيح التاريخ العربي، مثل الروايات التاريخية واللوحات الفنية والأفلام.

5-   العناية بالتقاليد المحلية والأزياء الخاصة والأغاني الشعبية مع تهذيبها وما يتفق مع المدنية الحديثة والروح العربية.

6- العمل على تخليد ذكرى عظماء الشرق العربي وأحداثه التاريخية بطرق مختلفة كإقامة التماثيل (كذا)، وإطلاق أسمائهم على الشوارع والميادين، وتسمية كراسي الأستاذية في الجامعات بأسماء النابغين منهم في مجال البحث العلمي، إلى غير ذلك من الوسائل التي تبرز المثل العليا التي ينبغي أن يتجه نحوها شباب العرب فيعتزوا بميراثهم الاجتماعي، ويشعروا نحو هؤلاء العظماء بالجميل فيعملوا على المحافظة على هذا التراث، بل وعلى الاستزادة منه.

وفي عام 1957 عقد المؤتمر الثقافي العربي الثالث في بغداد في المدة من 18 إلى 28 تشرين الثاني (نوفمبر) وذلك: للنظر في مناهج تدريس التاريخ والجغرافية في مرحلة التعليم الثانوي بالبلاد العربية. وكان هذا المؤتمر أوسع مدى وأشمل وأكثر إحاطة وقرر أشياء كثيرة تتعلق بالأهداف والمناهج وأساليب التدريس لم ينبه لها المؤتمر الأول. بل إن عقد هذا المؤتمر كان ضرورة لأن معظم الدول العربية لم تنفذ توصيات المؤتمر الأول. ومن التوصيات التي اتخذها المؤتمر ما يلي:

أولاً: أهداف تدريس التاريخ والجغرافيا:

1- لما كان للعرب تاريخ واحد ووطن متكامل، وجب أن يدرس تاريخ هذا الوطن وجغرافيته في جميع البلاد العربية دراسة ذات اتجاه واحد وبالمقدار الذي تتحقق به المواطنة الصالحة.

2- أن تدرس نشأة الأمة العربية والعوامل التي تحدد أهدافها المشتركة وما يرتبط به من صلات، مع إبراز ما للبلاد العربية من وضع خاص بالنسبة للعالم أجمع في النواحي الحضارية والاقتصادية والإستراتيجية والسياسية.

3- أن يدرس التاريخ القديم والوسيط للأمة العربية إلى جانب دراسة النهضة الحديثة في أنحاء العالم العربي، وما يرتبط بهذه النهضة من تحرير وتجدد واتحاد في الأماني والأهداف والجهود، بحيث يبرز الكيان الحضاري للأمة العربية، وتتضح عوامل الوحدة والاستمرار فيه خلال العصور.

4- أن تؤدي الدراسة إلى إظهار ما للأمة العربية من أمجاد وقيم روحية وثقافية وحضارية ذات أثر كبير في تقدم الإنسانية وتطور مدينة العالم، وإبراز أثر الشخصيات العربية الفذة في شتى ميادين الحضارة الإنسانية.

5-   أن يهتم بالإضافة إلى هذا بما يخص كل بلد عربي من القضايا التاريخية والعوامل الجغرافية والظروف المحلية.

6- أن يدرس التاريخ العالمي الذي له ارتباط بتاريخ الأمة العربية، وكذلك المشكلات المعاصرة التي تهم البلاد العربية، مع التعليل والتفسير، بحيث تبرز السياسات والأهداف ويوضح المغزى الحقيقي للحوادث وتبطل دعاوى الاستعمار.

7- أن تدرس المسألة الفلسطينية مع العناية بإظهار خطر الاستعمار والصهيونية العالمية، وتبصير التلاميذ بهما وبأثرهما في عرقلة التقدم في الأقطار العربية في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

8- أن تدرس جغرافية العالم العربي بحيث تتضح خصائص البيئات المختلفة مع إبراز تكامل أجزاء الوطن العربي في النواحي الطبيعية والاقتصادية والبشرية، والتنبيه إلى خطر استغلال مصادر الثروة في هذه الأقطار لمصالح المستعمر.

9- إلى أن يتم تنفيذ توصية رقم (40) يرجى أن تزيد البلاد التي لم تنفذها بعد في مدة في التعليم الثانوي سنة، أو تضيف من الساعات ما يكفي لدراسة المناهج المقترحة في التاريخ والجغرافيا، كما يخص وقت في القسم العلمي لدراسة تطور العلوم مع إبراز فضل العرب عليها.

10-  أن توحد مناهج التاريخ والجغرافيا في جميع الدول العربية. وتحقيقاً لذلك درس المؤتمر المناهج المشتركة الخاصة باتفاق الوحدة الثقافية العربية بين مصر وسوريا والأردن في هاتين المادتين وأوصى باتخاذهما أساساً لتعليمها في بقية البلاد العربية.

ثانياً: طرق تدريس التاريخ والجغرافيا:

11-  أن يعني المدرس باستخدام طرق النشاط كالمناقشة والتعيينات والمشكلات على حسب طبيعة الموضوع ومستوى نضج التلاميذ. مع العناية بالناحية العلمية التي تقوم على إيجابية التلاميذ وفاعليتهم، وجمع الصور والنقود وعمل الخرائط والنماذج، وتنفيذ المشروعات، وتمثيل الروايات التاريخية… إلخ. وفي الجمعيات التاريخية والجغرافية مجال واسع لمثل هذا النشاط.

12- أن يعني في تدريس التاريخ والجغرافيا بما يجعل دراستهما واقعية بالرحلات التي تستخدم فيها الخرائط الطبغرافية ويكتب عنها التقارير وكالرجوع إلى المصادر التاريخية الأصلية. ويحسن إعداد كتاب يجمع ما يخص كل عصر أو موضوع عن هذه المادة الأصلية، وكاستخدام أطلس تاريخي مزود بالحقائق والجغرافية اللازمة.

13- أن ترتبط الموضوعات التاريخية والجغرافية بعضها ببعض بحيث تظهر أثر كل منهما في الأخرى. كما يربط كل من التاريخ والجغرافية بالمواد الأخرى وعلى الأخص: الأدب والفن، ربطاً يحقق التناسق والتكامل بين نواحي النشاط التعليمية في المدرسة ويساعد على بلوغ أهدافها.

14- أن تقوم الإدارات التي تشرف على إنتاج الوسائل السمعية والبصرية في كل قطر عربي بإخراج مجموعة من الأفلام ولوحات الفانوس السحري وشرائط الأفلام التي توضح الظواهر التاريخية والجغرافية للقطر، وأن يشجع تبادل هذه الوسائل بين الأقطار العربية.

15- أن تشجع دراسة التلاميذ لبيئاتهم المحلية دراسة تاريخية وجغرافية. وأن تكون نتائج هذه الدراسة موضوعات للبحث والمناقشة والتسجيل في المجالات المدرسية، كما يمكن أن تتخذ أساساً لروايات تمثل وأفلام تصور.

16- أن يعتمد في تقويم التلاميذ على تقدير المدرس لنشاط التلميذ داخل الفصل وخارجه خلال العام الدراسي، فلا يقتصر الأمر على الامتحانات التحريرية التقليدية.

17- أن يتحرر المدرس في التقيد بترتيب أجزاء للمنهج الدراسي بحيث يسوغ له التقديم والتأخير والربط إذا استدعت ظروفه ذلك، وكان لخير الدراسة.

ثالثاً: الكتب المدرسية للتاريخ والجغرافيا:

18- أن توضع الكتب المدرسية في التاريخ والجغرافيا في هدي الأهداف العامة والخاصة المتقدمة بحيث تؤدي إلى التربية الوطنية الصحيحة وغرس فكرة القومية العربية وتحقيق الإيمان بمهمة الأمة العربية وبيان دورها في الحضارة الإنسانية في الماضي والحاضر.

19- أن تتطور مادة الكتاب المدرسي حسب تطور البحث العلمي، ويعتمد في تأليفها على أوثق المصادر، وأحدث البحوث مع الرجوع إلى المصادر الأصلية كلما أمكن ذلك، وأن تزود الكتب بأحدث الإحصاءات وتسجل آخر التطورات الاقتصادية والاجتماعية.

20-  أن يسير التأليف حسب تسلسل يلائم طاقة التلميذ ويؤدي بالحقائق العلمية إلى حقيقة كبرى واضحة أو مغزى عام يخرج به التلميذ. وأن يتجنب حشد الحوادث والحقائق الفردية في غير ما ضرورة وأن يبتعد عن الإكثار من أسماء الأعلام والتطويل في التراجم والإنسان، وأن يقلل على قدر الإمكان من التواريخ وأرقام الارتفاعات وأطوال الأنهار والسواحل.

21- أن توحد المصطلحات التاريخية والجغرافية بقدر الإمكان في الكتب المدرسية في كل الأقطار العربية، وأن يتبع فيها ما قررته المجامع اللغوية العلمية العربية ومؤتمرات العلماء، وأن تضبط بالشكل حتى لا يحفظها التلميذ محرفة وأن تقترن بالأسماء الأجنبية برسمها اللاتيني إلى جانب الرسم العربي، وأن تشفع الأعلام العربية بتراجم مختصرة لها، وأن يقترن التاريخ الهجري بالتاريخ الميلادي حتى تسهل المقارنة.

22- أن تزود الكتب المدرسية بوسائل الإيضاح اللازمة كالصور والرسوم والخطوط البيانية والخرائط والصور الكاريكاتورية، وأن تشتمل الكتب على تمارين ومسائل في آخر كل فصل أو في آخر الكتاب بحيث لا يقتصر المدرس على ذلك، بل يضيف إليها تمارين ووسائل من عنده. وأن يراعي توحيد الصور التاريخية لأبطال العرب وعظمائهم. فلا تختلف صور الشخص الواحد في الكتب المختلفة.

23- أن تزيد العناية بشكل الكتاب ليكون مشوقاً للتلاميذ مغرياً لهم بالقراءة.

24- أن يمنع التلاميذ من الالتجاء إلى كتب الملخصات والمختصرات التي تغمر الأسواق وتقضي على الكتاب المدرسي وعلى كل غرض حقيقي لدراسة التاريخ والجغرافية. وأن توضع كتب مساعدة للقراءة والاطلاع.

25- أن يوضع كتاب مفصل في تاريخ الأمة العربية وآخر في جغرافية الوطن العربي يكون مرجعاً لمؤلفي الكتب المدرسية في البلاد العربية بحيث توحد الاتجاهات والتفسيرات.

26- أن يشترك في تأليف الكتب المدرسية المختصون في هذه العلوم والمدرسون.

رابعاً: إعداد مدرسي التاريخ والجغرافية:

27- أن يتوافر في مدرس التاريخ والجغرافية بالإضافة إلى ما يجب أن يتوافر في كل مدرس من شروط اللياقة أن يكون مواطناً عربياً يعرف حقيقة بلاده وقوميته ويعتز بانتسابه إليها، ويسهم إسهاماً إيجابياً في معالجة مشكلاتها فهو مدرس ورائد اجتماعي وقومي.

28- أن يكون ذا ميل واستعداد خاص للمواد الاجتماعية، ملماً إلماماً عميقاً بتاريخ الأمة العربية وجغرافية الوطن العربي، قادراً على خلق الجو التاريخي بما يضيفه على ما يعالجه من الموضوعات من الحياة والاتصال بين الماضي والحاضر وإبراز أثرها في حياة المجتمع العربي.

29- أن يرجع في اختيار مدرس التاريخ والجغرافية إلى أحوالهم أثناء دراستهم في المدارس الثانوية والمعاهد العالية ونواحي اهتمامهم ودرجة تحصيلهم في هاتين المادتين، ومدى ميلهم إلى الخدمة الاجتماعية.

30- أن يراعى في الإعداد العلمي لمدرسي التاريخ والجغرافيا:

(أ) أن يكون على مستوى جامعي فيه التعمق في مادة التخصص، بالإضافة إلى المواد المساعدة من سياسة واجتماع واقتصاد.

(ب) أن يشتمل هذا الإعداد على دراسة تحليلية عميقة للحضارة العربية والجغرافية العربية حتى يلم الطالب بخصائص المجتمع العربي إلماماً يمكنه من تقوية الروح القومية عند تلاميذه.

(ج) أن تجمع الدراسة بين التاريخ والجغرافية بحيث يدرس المتخصص في أيهما قدراً كافياً من الأخرى.

31- أن يراعى في الإعداد المهني تزويد الطالب بقدرٍ كاف من أصول التربية وعلم النفس وطرق التدريس الحديثة. وأن يقوم الطالب بدور إيجابي في فترة الإعداد ويعني بالتربية العملية، وأن يزود بالمهارات اللازمة لعمل وسائل الإيضاح السمعية والبصرية واستخدامها.

32- أن تعمل وزارة التربية على تيسير ما يحتاج إليه المدرسون من الأبحاث والدراسات التاريخية والجغرافية المستحدثة.

33- أن تقام حلقات ومؤتمرات لمدرسي المواد الاجتماعية في القطر الواحد وبين جميع الأقطار يتبادلون فيها وجهات النظر في المادتين وطريقة تدريسها. وأن تقام مثل هذه المؤتمرات بين خبراء البلاد العربية لتحقيق التعاون في التأليف العلمي.

34- أن تنظم وزارات التربية برامج لتأهيل غير المؤهلين من مدرسي التاريخ والجغرافيا عن طريق الإجازات المدرسية، أو الدراسات المسائية أو البعثات الداخلية والخارجية، وكذلك تنظيم برامج تجديدية في وضع مناهج موادهم وتعديلها حتى يشعروا بأنهم يقومون بدور إيجابي في عملية التربية.

35- أن تؤسس جمعيات تاريخية وجغرافية تضم مدرسي هاتين المادتين وتنظم نشاطها الثقافي والمهني كما تيسر لهم الحصول على المراجع التاريخية والجغرافية تساعدهم على إصدار مجلات ينشرون فيها أبحاثهم الخاصة بالبيئات المختلفة في الوطن العربي وتاريخها.

36- أن تنظم الدول العربية رحلات ثقافية لمدرسي التاريخ والجغرافيا للوقوف على المصادر الأصلية للموضوعات التاريخية والجغرافية.

37- لما كان من المرغوب فيه أن يختار المعلم من أفضل العناصر، وأن تشجيعه على الإخلاص في عمله والاندماج فيه، فإن المؤتمر يناشد الدول العربية أن تنظر إلى مهنة التعليم على أنها إنتاجية لها الأثر الأول في إنهاض الأمة العربية اقتصادياً واجتماعياً، فلا تضن عليها بما يرفع مستواها.

ومن استقراء ما تقدم من توصيات يتبين لنا: أن للتاريخ دوراً بالغ الخطورة في بناء الوحدة الفكرية بين أبناء الأمة الواحدة، وحيث أن المربين العرب الذين شاركوا في عمل تلك التوصيات كانوا يرومون من وراء ذلك كله إلى تنشئة جيل عربي يعتز بتاريخ أمته ويسهم في بناء حضارتها من جديد؛ لذلك فقد دعوا إلى ضرورة توجيه دراسة التاريخ، بل والجغرافية أيضاً: الوجهة العربية:

بيد أن تلك التوصيات قد تضمنت أموراً في مجال تدريس التاريخ جديرة بالمناقشة، يمكن تلخيصها كالآتي:

1-   تدريس التاريخ الحضاري مع التاريخ السياسي.

2-   الاهتمام بتاريخ الجماعات أكثر من تاريخ الأفراد.

3-   العناية بالوقائع المؤثرة في حياة الشعوب بدلاً من الحوادث الفردية العابرة.

4-   التأكيد على مبدأ التطور في التاريخ.

5-   ربط التاريخ العربي بالتاريخ العالمي لما في ذلك من إغناء للتجربة العربية.

6-   التأكيد على وحدة التاريخ العربي خلال العصور.

7-   العناية بالقضية الفلسطينية وبيان أخطار الصهيونية والاستعمار.

8-   توحيد مناهج التاريخ في البلدان العربية.

9-   استخدام الأساليب التربوية الحديثة في تدريس التاريخ وفي تأليف مواده الدراسية.

10- العناية بإعداد مدرسي التاريخ.

فلقد أصبح من الثابت الآن: أن النواحي الحضارية تستهوي تلاميذ المدارس أكثر من النواحي السياسية، ذلك لأن الأولى أكثر اتصالاً بخيرات التلاميذ من الثانية التي تتضمن في المادة مفاهيم كالديمقراطية والدكتاتورية والثيوقراطية والدولة والحكومة التي يصعب على التلاميذ استيعابها بسهولة.

كما أن الاتجاه الحديث في تدريس التاريخ يقوم على الاهتمام بأحوال الجماعات البشرية وإبراز دور الرجال العظام من بناة الحضارة في ذلك بقصد إكساب التلاميذ الحس الاجتماعي أو الاتجاهات الاجتماعية الإيجابية.

والتاريخ يقوم أساساً على دراسة الحوادث الكبرى التي أثرت في أحوال الأمم والشعوب. ولكنه بالإضافة إلى ذلك هو دراسة في أحوال الأمم ونشأة المدنيات وانحطاطها.

ثم إن التاريخ يتبع في حركته حلقة مستمرة تتجدد دون انقطاع. وهذا هو مبدأ التطور في التاريخ. إن هذا يعني أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن مع بعض التنوع “فإن ما تتعرض له الأمة الإسلامية اليوم من ضروب العدوان من الخارج والداخل معاً، ليس إلا تكراراً لمؤامرات أعداء الإسلام في الماضي، ولكنه بأساليب تساير أوضاع العصر”.

ولا شك أن تاريخ أية أمة هو جزء من التاريخ العالمي العام وبخاصة في هذا العصر الذي تقاربت فيه المسافات بين الأمم نتيجة للنمو الهائل في ميدان العلوم التطبيقية. وليس بوسع أي بلد أن يعزل نفسه عن بقية بلدان العالم. فالاستعمار الذي سيطر على معظم أرجاء العالم الإسلامي لا يمكن أن يفهم على حقيقته من غير أن يربط بحوادث عالمية كبرى كحركة الكشوف الجغرافية الأوربية في العصر الحديث، وقيام الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر، ثم قيام الثورة الفرنسية عام 1789 وعصر القوميات في أوربا في القرن التاسع عشر الميلادي. وبالمثل أيضاً، فلا يمكن أن نفهم انهيار الدولة العثمانية إلا إذا تتبعنا دراسة هذه المشكلة من خلال دراستنا للاستعمار الغربي أو مطامع الدول الأوربية الكبرى في الدولة العثمانية وانتشار الحركات القومية في الولايات البلقانية وفي بعض بلدان المشرق العربي ومؤامرات اليهودية العالمية وبخاصة ضد السلطان عبد الحميد الثاني الذي رأى في التنازل عن شبر واحد من فلسطين إلى اليهود خيانة عظمى في حق الإسلام والمسلمين.

أما وحدة التاريخ العربي خلال العصور فهذه ربما أمكن معالجتها من خلال دراسة التاريخ الاسلامي؛ لأن تاريخ العرب هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة الإسلامية. لذلك يجب أن يعلم تاريخ العرب سواء في البلاد العربية أو في بقية أنحاء العالم الإسلامي، من منظور التاريخ الإسلامي. إذ بغير هذا المنظور أو ما لم نضع تاريخ العرب في موقعه الحقيقي من التاريخ الإسلامي فإننا نجترئ على الحقيقة والتاريخ عندما نحاول أن نتعرف على تاريخ عدد كبير من قادة المسلمين في ميادين السلم والحرب ممن ليسوا من أرومة عربية. فكيف نتناول بالدراسة أعلام التضحية والفداء في الإسلام أمثال طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس ومحمد الثاني الملقب بالفاتح وكلهم ليسوا من أصول عربية؟ وماذا نقول عن مشاهير المفكرين المسلمين من غير العرب أمثال الإمام البخاري وحجة الإسلام الغزالي والطبري المؤرخ، وكذلك الدينوري والبلاذري والبيروني وابن خلكان وابن خردذابة والأصطخري الجغرافي والإمام الفقيه أبي حنيفة وسيبويه اللغوي، والرازي الطبيب وعالم الرياضيات الخوارزمي والفارابي الفيلسوف وغيرهم كثير؟

والحق: فإن للتاريخ الإسلامي آفاقاً رحبة تتجاوز حدود الدم والتراب، وأن الروابط التي يقيمها الإسلام بين شتى شعوب الأرض وأجناسها على أساس العقيدة لا تُعَدّ لها في صدق عزيمتها ومتانتها رابطة أخرى في الدنيا. لذلك: فلا عزة لأي قومية بغير الإسلام. وهذه حقيقة يعرفها كل مسلم مؤمن. يعلق المستشرق برنارد لويس على هذه الحقيقة قائلاً:

“ففي المجتمع الاسلامي كل مسلم أخ لكل مسلم آخر (على الأقل نظرياً) مهما كانت لغته وأصله وسلالته بلاده. فهو أقرب له من مواطنه الذي قد يترك لغته وينحدر من نفس سلالته ولكنه لا يدين بنفس عقيدته. حتى إن المسلم المؤمن يرفض أي صلة بأسلافه القدامى في العهود الجاهلية؛ لأنه لا يحس أن بينه وبينهم أي رابطة من هوية عقائدية أو صلة روحية. وإهمال المسلمين لعلم الآثار وعدم اهتمامهم به في الشرق الأوسط المسلم لا يعني أن المسلمين جهلة برابرة لا يستطيعون فهم أهمية هذه الأشياء. كلا فعلى العكس من ذلك. إنهم قوم حضارة سامية وإحساس مرهف بالتاريخ وبمكانتهم فيه، إلا أن تاريخ المسلمين يبدأ بظهور الإسلام وسلفهم الصالح هم أوائل المسلمين عند قبلة الإسلام في قلب جزيرة العرب. فقدماء المصريين من المشركين والبابليين وغيرهم من الشعوب القديمة هم غرباء أجانب عنهم، على الرغم من الصلة العرضية في الدم والقرب”.

وفكرة توحيد مناهج التاريخ في البلاد العربية يمثل اتجاهاً سليماً. ولكن يجب أن يتم هذا أيضاً في هدي الأهداف العامة لرسالة الإسلام. فالمسلمون رحماء فيما بينهم أشداء على الكفار. لذلك فإن ما تحتويه مناهج التاريخ في أي بلد إسلامي يجب أن يخضع لمثل –بضم الميم والثاء- الإسلام وقواعده، فلا يحاول أن يضع في مناهج تاريخه ما يؤلم مشاعر البلد الإسلامي الآخر. وطبيعي فإن الاستعمار الذي خضعت لسيطرته الغاشمة بلدان إسلامية عديدة وحاول أن يباعد بين أهلها ربما لا تزال رواسبه عالقة في مناهج هذه البلدان حتى بعد زوال قبضته عنها، فمن ذلك مثلاً أن يشار إلى الدولة العثمانية المسلمة أحياناً باسم الإمبراطورية العثمانية وإلى عاصمتها بالقسطنطينية (وهي كلمة مسيحية) بدلاً من إستانبول أو إسلامبول بمعنى دار الإسلام، ثم هل كان السلطان العثماني إمبراطورًا؟ لقد كان خليفة المسلمين، وقد يتحدثون أحياناً عن خضوع البلاد العربية، على سبيل التمثيل للاستعمار العثماني فتأمل. وكأنهم قد نسوا موقف الدولة العثمانية في عهد قوتها في صد عدوان المسيحيين عن أرجاء شاسعة من العالم الإسلامي، بل نسوا أن تاريخ الدولة العثمانية هو جزء من تاريخهم الإسلامي. ولربما اتهموا العثمانيين بالجدب الحضاري وأنهم أمة حربية لا يعرفون من الحياة غير القتال ولست أدري لماذا غاب عن ذاكرتهم المساجد الرائعة التي أنشأها العثمانيون في بلادهم وفي بلاد إسلامية أخرى وهي تشهد بحق على ما بلغه الفن العماري من فخامة وجمال، ناهيك عن القصور البديعة والمنشآت الحكومية والمدارس والجسور التي لا يزال بعضها قائماً إلى الآن.

والآن، فما هو التصور الإسلامي للتاريخ؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن للتاريخ في الإسلام معنى. (فهو تعبير عن إرادة الله تعالى وكشف لجلال رحمته وعظيم تدبيره وكمال قدرته). وهذا الكون مخلوق وهو يجري إلى أجل مسمى وفق سنن ربانية محكمة. وأن لكل ما يقع من الحوادث في هذا العالم إنما يخضع لسنن إلهية ثابتة. لقوله تعالى: “سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا”، وهذه السنن كثيرة ومتعددة فمنها:

1- سوء عاقبة المكذبين: فإن ما جرى للمكذبين بآيات الله في الماضي كأقوام نوح ولوط وعاد وثمود وآل فرعون وأصحاب الرس سيجري مثله للمكذبين في الحاضر والمستقبل؛ لقوله تعالى: “قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين”. وفي هذه الآية الكريمة توجيه للناس أيضاً بأن يتعظوا بدروس التاريخ من واقع حياة الأمم الغابرة.

2- بشكر الله وحمده تدوم النعم، وبالمعاصي تزول؛ لقوله تعالى: “ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم”.

3- الناس مسئولون عن رقيهم وانحطاطهم: فالرقي مشروط بالعمل البنّاء والتمسك بالأخلاق الفاضلة كإلزام الناس بالنظام والطاعة. أما إذا قل الجهد المبذول فعندئذ تنحط الأخلاق. فالتغير ينبع من تغيير داخلي في سلوك الناس؛ لقوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

4- مداولة الأيام بين الناس: إن مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء وبالعكس: إنما هو امتحان لبني البشر ليتميز بموجبه الصابرون في المحن والشاكرون الله في الرخاء، من الذين تطغيهم الشهوات ويفقدون اتزانهم؛ لقول الله تعالى: “إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين”.

5- استحقاق النصر للمؤمنين: فالله سبحانه ناصر عباده المؤمنين إن هم توكلوا عليه وأحسنوا تدبير أمورهم وأعدوا للشيء عدته كما يجب. فالأمة التي تتمسك بشرع الله وتأخذ أسباب الرقي الحقيقية ينصرها الله ويوفقها ولا يخذلها؛ لأن الله سبحانه قد عهد على نفسه ذلك. قال تبارك وتعالى: “وكان حقاً علينا نصر المؤمنين”.

6- زوال الأمم بالترف والفساد: فإذا ما تجبرت أمة ما وعلت في الأرض علواً وأصابها البطر والكبرياء هيأ الله لها أسباب انهيارها واندثارها؛ لقوله تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا”.

7- هلاك الأمم باضطراب إقامة العدل: فالله تعالى قد أمر بالعدل وحرم الظلم على نفسه فإن اختلت الموازين بين الناس، وصار الأقوياء يتلاعبون بحدود الله على هواهم أخزاهم الله وأهلكهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وإني، والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

ولكي يحقق التاريخ أغراضه بوصفه مصدراً عظيماً في التربية الخلقية والتماسك الاجتماعي والرقي الحضاري فمن الواجب أن يتبع في تعليمه الأمور الآتية:

1- أن يوجه تعليم التاريخ في البلدان الإسلامية الوجهة الإسلامية. إن هذا يعني أن تكون المفاهيم التاريخية التي يراد تعليمها لأبناء المسلمين منسجمة تماماً مع التصور الإسلامي للتاريخ. وينبغي أن يبدأ تاريخ البشرية بقصة أبي البشر آدم عليه السلام كما جاءت في القرآن الكريم ومن دون أن تتأثر بالإسرائيليات. ومن المفاهيم التي ينبغي أن يتعلمها التلميذ هنا هي أن الإنسان مخلوق كريم وليس حيواناً عاقلاً أو ناطقاً، كما يدعي أصحاب الفلسفات المناهضة للدين والطبيعية والبراجماسية والإنسانية والوجودية وغيرها.

يجب أن يعي التلميذ هذه الحقيقة التاريخية وهي أن الملائكة لا تسجد للحيوان، بل سجدت لآدم عليه السلام وآدم مخلوق كريم. عندئذ يعرف التلميذ أن سائر الناس قد انحدروا من أب ولم ينحدروا من مخلوقات تطورت عن مخلوقات أخرى كما يزعم أصحاب مدرسة النشوء والارتقاء القدامى منهم والمحدثون. وهكذا يستطيع أن يعد التلميذ مفهوم الكرامة الإنسانية في الآية الكريمة “أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً”.

وهكذا أيضاً يفهم التلميذ الأساس غير الديني الذي تقوم عليه النظم الجبارية (الديكتاتورية) من نازية وفاشية وشيوعية عندما تزهق أرواح الناس ظلماً وعدواناً دون مراعاة لكرامة الإنسان، هذا الإنسان الذي فضله الله تعالى على كثير من مخلوقاته وصانته الشريعة الاسلامية حياً وميتاً. وسيعرف التلميذ من قصة البشرية

2- أن يربط تدريس التاريخ بالدين. فالتاريخ العلماني فاسد ومشحون بالمغالطات التاريخية والأوهام. بل إن هذا التاريخ العلماني الذي يدرس اليوم في البلدان الغربية ربما كان أحد أسباب انهيار الأخلاق في المجتمعات الغربية. ذلك لأن الغرب يؤكد في حياته مبدأ القوة المادية وهذا التوكيد هو الذي أدى إلى قيام النظم الجبارية في بلدانه. التاريخ العلماني كئيب يفتقر إلى الرؤى الروحية التي هي أساس التربية الأخلاقية أو الوجدانية السليمة. لذلك يجب أن يؤكد المدرس المسلم في تدريسه للتاريخ على المثالية الاجتماعية لما فيها من سمو في الوجدان والخيال. وهذه المثالية الاجتماعية يستمدها المدرس من القرآن الكريم ومن السنة النبوية المطهرة وآثار السلف الصالح.

3- أن يؤكد في تدريس التاريخ على أن المجتمع الإسلامي المثالي إنما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. ذلك هو مجتمعنا الأمثل في السلوك الاجتماعي القويم من طاعة لأوامر الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وتضحية وبسالة في سبيل الإسلام وتعاون وإخاء بين المسلمين وصبر حقيقي على الشدائد والملمات. إننا قد نتقدم مادياً فنحقق أسباب الرخاء المادي والرفاهة في الصحة والنقل وصنع الطعام وما شابه. ولكننا مهما عملنا لنحسن من أوضاعنا الأخلاقية فإن المثال الأعلى الذي نتطلع إليه في السلوك الإنساني ليس في المستقبل بل في مجتمع الإسلام الأول، مجتمع النبوة.

إن هذا يتطلب أن ننتقل بالتلميذ ليعيش بخياله ومشاعره في ذلك الماضي الحي لحظات فتمتلئ نفسه بجوانب العظمة والحياة الصالحة ويشعر بالمتعة والسعادة. وهكذا تنمو في نفس التلميذ انفعالات الخير والمحبة والتسامح والسلام.

لذلك يصبح تعليم القصص التاريخية أو الأدب التاريخية الإسلامي أمراً بالغ الأهمية تربوياً. وطبيعي فإن بعض هذه القصص ينبغي أن تستخدم كمواد تعليمية داخل المدارس. بل إن تدريس القصص في المرحلة الابتدائية والصف الأول في المدارس المتوسطة يتمشى مع خصائص النمو العقلي الوجداني للأطفال.

أما موضوعات هذه القصص فهي من حياة الأنبياء عليهم السلام والصحابة الكرام وقادة الجهاد في سبيل الله رضوان الله عليهم أجمعين، وأعلام الفكر الإنساني حيث يقدر التلاميذ المعاني أو القيم المتضمنة في الجهد المبذول في الاختراعات والاكتشافات، والتفاني في خدمة الصالح العام، والعمل المتقن والتواضع الذي هو من صفات العلماء، وأعلى مراتب التواضع خشية الله تعالى.

4- العناية في تدريس التاريخ بالصلات والروابط التاريخية بين أجزاء الأمة الإسلامية. هنا يؤكد على النواحي الحضارية والقضايا الاجتماعية أكثر من العناية بالأمور السياسية. ولعل من المداخل اللطيفة في هذا المجال مدخل الفن الإسلامي، حيث يمكن أن يشاهد التلاميذ ما خلفوه المسلمون من ميراث فني ضخم في المساجد والقصور والقلاع والحمامات والمدارس والمنشآت الأخرى.

واستخدام الأفلام السينمية التي تنقل إلى حجرة الصف، وبخاصة بالألوان نماذج حية من جوانب الفن الحضاري الإسلامي.

بل إن هذه الوسائل التعليمية ستكون معبرة أكثر حين يرى التلاميذ اكتظاظ المساجد بالمصلين وتنوع لباس هذه الألوف المؤلفة من إخوانهم في العقيدة. إنه منظر يؤثر في نفوسهم ويجعلهم يعتزون بأمتهم، ويلتصقون أكثر بتراثهم الحضاري الحي. إن هذا يتطلب أن يُفرد في منهج كل بلد إسلامي عن تاريخ الأمة الإسلامية بقدر ما يفرد لتاريخ ذلك البلد إن لم يزد عنه. الولاء لأمة الإسلام ينبغي أن يسمو على الولاء للوطن الصغير. وبهذه الصورة نستطيع أن نجعل التلاميذ يتذوقون حقيقة الوحدة الإسلامية عبر دراستهم للتاريخ.

5- يجب أن يبصر التلاميذ بأنهم ينتمون إلى أمة عظيمة أعزها الله بالإسلام وبتطبيق شريعته. وأن للأمة الإسلامية أعداء في الداخل والخارج في الماضي والحاضر. وينبغي أن يكون التلميذ على بينة من طبيعة مؤامرات أعداء الإسلام وأساليب مقاومتها. إن هذا يعني تطهير مناهج التاريخ في البلدان الإسلامية من الشبهات التي أثارها المستشرقون، ويستمرون على أثارتها ضد نبي الله صلى الله عليه وسلم وأعلام تاريخنا. فما كتبه القس الفرنسي ماسنيون عن الإسلام يجب ألا يجد سبيله إلى مناهج تاريخنا أبداً. وما وضعه غيره من مفتريات عن تاريخ الإسلام ليس مكانه المدرسة. إن هذا يتطلب من معلم التاريخ الحذر دائماً من ناحية، وأن يعمل على انتقاء صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين تثير في نفوس التلاميذ التقدير والإعجاب من ناحية أخرى.

6- يجب أن يختار لتدريس التاريخ الإسلامي مدرس له إحساس إسلامي سليم وثقافة تاريخية ودينية عميقة حتى يستطيع أن يكون قوة مؤثرة في تلاميذه. ذلك أن القدوة الحسنة أولى متطلبات النجاح في العملية التربوية. إن الحس الإسلامي الصادق، ثم معرفة جيدة في قضايا المجتمع الإسلامي في ماضيه وحاضره، مع ثقافة عميقة في الدين الإسلامي والعلوم السلوكية وبخاصة في التربية وعلم النفس هي من مقومات الكفاية المهنية لمدرسي التاريخ.

7- يجب أن تتضمن مناهج التاريخ في البلدان الإسلامية الحوادث الكبرى التي أثرت في تاريخ البشرية. فمن ذلك مثلاً قيام الحضارات القديمة والعدوان الصليبي على المشرق الإسلامي والأندلسيين والانقلاب الصناعي في أوربا، والاستعمار الغربي، والثورة الفرنسية، والحركات القومية في أوربا وغيرها من بلدان العالم، والانفجار السكاني، والانفجار المعرفي، هذا بالإضافة إلى ضرورة ربط التاريخ الإسلامي بتاريخ الأمم العابرة كالبابليين والآشوريين، وأيضاً الفينقيين والفراعنة، والإغريق، والرومان، والفرس القدماء حتى يتبين للطلاب فساد النظم الاجتماعية والدينية في تلك الحضارات القديمة وأن هذه النظم كانت أساس انهيارها.

إذ إن عدم تعريف التلاميذ بأحوال تلك الأمم يجعل معرفتهم التاريخية ضيقة محدودة لا تعينهم على وضع الحقائق التاريخية في مكانها الصحيح من التاريخ العام للجنس البشري.

8- من المفيد حقاً أن يدرب التلاميذ على كتابة موضوعات تاريخية تتناول القضايا الاجتماعية والفنية والحربية. فمن ذلك على سبيل التمثيل، دراسة في الجهاد الإسلامي وفي غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أطفال المسلمين في المجتمع النبوي، أو الزيارة الإسلامية، أو الأعياد الإسلامية، أو التبادل التجاري بين البلدان الإسلامية في عهد العباسيين، أو المستشفيات في الإسلام والغرض من ذلك هو أن يدرب الصغار من خلال كتاباتهم لهذه الموضوعات على التعرف على مصادر التاريخ الإسلامي وكيفية استعمالها.

ومن خلال مهارات البحث العلمي في التاريخ التي سيحصل عليها التلاميذ يتذوقون ذلك الإنتاج الغزير لعلماء التاريخ المسلمين وأنواع المعرفة التاريخية التي برع فيها المسلمون في عهود ازدهار الحضارة الإسلامية.

إن ذلك سينمي في الطلاب أيضاً المحاكاة العقلية للحقائق التاريخية، أو التطبيق العملي للطريقة التاريخية. بالطبع فإن هذه البحوث تدخل في تقويم الطلاب في مادة التاريخ. ولعل من المفيد أيضاً أن يحتفظ بالبحوث الجيدة في داخل مكتبة التاريخ بالمدرسة ويرسل البعض منها بعد استنساخه إلى الأقاليم أو البلدان الإسلامية الأخرى التي تشترك فيما بينها بلغة واحدة.

كما ينبغي أن يدرب التلاميذ على عمل النماذج المصغرة لجوانب من الحضارة الإسلامية كنموذج للمدرسة المستنصرية أو مرصد الشماسية أو جامع الأزهر أو جامعة الزيتونة أو جامعة القرويين أو المقرنصات، أو الأعمدة، أو القباب أو دار الحكمة، أو البيمارستان العضدي، أو صيدلية إسلامية، أو السفن الحربية أو النقود الإسلامية أو الخط العربي (وربما قامت البنات بعمل نماذج لأزياء العالم الإسلامي)، وبخاصة تلك التي تكون على درجة رفيعة من الإتقان الفني في حجرة (معرض التاريخ) بالمدرسة. أما عمل التماثيل لأعلام الإسلام أو صور لهم من الخيال فهذه لا تجوز شرعاً وهي تفسد خيال التلاميذ ويجب ألا يشجع عليها هؤلاء.

9- إن زيارة التلاميذ بإشراف أساتذتهم إلى المناطق التاريخية والمواقع الأثرية والمتاحف يعين كثيراً على استيعاب الحقائق التاريخية ويجعلها أكثر واقعية. لذلك فمن المرغوب فيه أن يشجع التلاميذ على القيام بمثل هذه الزيارات وفق خطة منظمة سواء في داخل البلد أو إلى البلدان الإسلامية الشقيقة الأخرى. ذلك أن مثل هذه الزيارات –بالإضافة إلى قيمتها العلمية- فإنها تعزز من الوشائج التي تربط بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

10- لكي يسهم كتاب التاريخ المدرسي في إنجاح عملية تعليم التاريخ في البلدان الإسلامية، فلا بد أن تتضافر له جميع المقومات اللازمة لإخراجه. إن هذا يتضمن قبل أي شيء آخر دقة الحقائق العلمية في كتب التاريخ المدرسية ومطابقتها للاتجاهات الإسلامية التي نسعى إلى غرسها بالخرائط في تلاميذنا.

كذلك يجب أن تزين كتب التاريخ المدرسية بالخرائط التاريخية والمواقع التاريخية والآثارية والرسوم التوضيحية والأشكال التي تعين بمجموعها على تبسيط المفاهيم الفكرية في شئون الاقتصاد والسياسة والحكم وجعلها مقبولة مستساغة لأذهان التلاميذ. ومن الضروري أيضاً أن تكون جميع المعينات التعليمية في كتاب التاريخ المدرسي دقيقة من الناحية العلمية وواضحة ومفهومة كما أن لغة الكتاب المدرسي يجب أن تكون في مستوى إدراك التلاميذ. ولعل من المفيد حقاً: أن تتعاون الدول الإسلامية فيما بينها في إنتاج كتاب التاريخ المدرسي، بل الكتب المدرسية بصورة عامة؛ لأن هذا من شأنه أن يخفض من النفقات العامة في التعليم وفي هذا فائدة للمسلمين كافة، لا سيما وأن عدداً من البلدان الإسلامية يشترك في لغة واحدة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر