دراسة وصفية تحليلية لكتاب “نحو تفعيل مقاصد الشريعة الإسلامية” للدكتور جمال الدين عطية
العدد 163
يعتبر الدكتور جمال الدين عطية من أهم الكتاب المعاصرين الذين حاولوا تجديد الدراسات الفقهية والأصولية من خلال ربط النص بالواقع، وتحيين الشريعة وجعلها حاضرة ومجيبة عن كل المستجدات والقضايا المعاصرة، ومن خلال انتهاج رؤية منهجية ونقدية تحاول ربط ما هو نظري بما هو تطبيقي.
وقد استفاد الدكتور جمال الدين من تكوينه القانوني ودراسته ومعرفته الشرعية ليزاوج بين فقه الخطاب الشرعي والدراية بالواقع المعاصر، وهذا ما أضفى على كتاباته بعدًا تجديديًا في الطرح والمنهج والتصور، فمثلت بالفعل إضافة نوعية للإنتاج الفكري الإسلامي.
وقد نبَّه الدكتور جمال الدين عطية لقضية مهمة هي افتقار الدراسات القانونية لمباحث المقاصد حتى صارت جامدة، وافتقار الدراسات الشرعية لمباحث القانون وآلياته المعاصرة.
وأكد على أهمية علم المقاصد باعتباره علمًا يربط بين الحكم وعلته وحكمته وغاياته، مما يجعله يتغير حسب الزمان والمكان والحال، مراعاة لمقصد الشارع والمكلف.
فعلم المقاصد هو روح الدين لأنه يخلصنا من التفسيرات السطحية والجامدة للنصوص، ويجعلنا نجدد الفهم والتنـزيل للأحكام تبعا لهذه الحكم والعلل والغايات التشريعية وراء تشريع الحكم.
وهذا التقديم يقودنا لطرح الإشكالات الآتية:
ما هي ملامح التجديد في كتاب ” نحو تفعيل مقاصد الشريعة”؟ وماذا أضاف هذا الكتاب إلى علم المقاصد؟ وما هو المنهج المعتمد في هذا الكتاب؟ وما هي أهم قضايا التجديد في علم المقاصد من خلال هذا الكتاب؟ وكيف عالجها جمال الدين عطية؟
1- دراسة لمحتوى الكتاب:
يتكون هذا الكتاب من ثلاثة فصول:
– الفصل الأول: عنونه المؤلف بقضايا محورية، وقسمه هو الآخر إلى أربعة مباحث: تحدث في المبحث الأول عن وسائل إثبات المقاصد محددًا إياها بالعقل والفطرة والتجربة، وعرض في المبحث الثاني لترتيب المقاصد فيما بينها. في حين عالج في المبحث الثالث لمسألة ترتيب وسائل كل مقصد. وختم الفصل بمناقشة مسألة نسبية تحديد الوسائل وتسكينها في المراتب بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
– الفصل الثاني: حاول فيه بناء تصور جديد للمقاصد. وقسمه إلى ثلاثة مباحث: عرض في المبحث الأول لمسألة حصر المقاصد الضرورية في خمسة. وفي المبحث الثاني تحدث عن أنواع المقاصد ومراتبها. وفي المبحث الثالث تطرق للمجالات الأربعة للمقاصد وهي الفرد والأسرة والأمة والإنسانية.
– الفصل الثالث: عنونه بتفعيل المقاصد، حيث تحدث في المبحث الأول عن الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد. وفي الثاني تحدث عن الاجتهاد المقاصدي. وفي الثالث عرض لمسألة التنظير الفقهي. وفي الرابع تطرق للعقلية المقاصدية للفرد ممثلة في المجال الفكري، والعقلية المقاصدية للمجتمع في مجال السياسة الشرعية.
وختم الفصل الثالث بمبحث خامس تحدث فيه عن مستقبل علم المقاصد.
2- دلالة عنوان الكتاب:
بالنسبة لقراءة عنوان الكتاب “نحو تفعيل مقاصد الشريعة” فله عدة إيحاءات دلالية، فالمتأمل فيه يستشف منه أنه رغبة أكيدة في تطبيق المقاصد وإخراجها من حيز التنظير الضيق والمجرد إلى مجال أوسع وأرحب هو مجال التنفيذ والتنـزيل على أرض الواقع.
ولتحقيق هذا المقصد والهدف لابد من اعتماد عدة مسالك منهجية ووسائل إجرائية وآليات تطبيقية من خلال تقديم مقترحات عملية واقعية.
3- المنهج المعتمد في الكتاب:
لقد اعتمد الكاتب – في بنائه لتصوره الجديد حول علم المقاصد- على المنهج الاستقرائي، فقد استهل بعرضه للقضايا المحورية والمنهجية والإشكالات والأمثلة الجزئية للوصول إلى بناء تصور كامل وقضية كلية هي نظريته عن تجديد علم المقاصد وطرق تفعيلها في الواقع.
كما اعتمد المنهج الوصفي التحليلي في عرضه لآراء العلماء ومناقشتها بإسهاب، كما اعتمد التعليل والاستدلال للدفاع عن آرائه والمقارنة من خلال بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين أقوال العلماء في كل مسألة والترجيح بينها ليصل في النهاية إلى التركيب وإعادة بناء التصور وتسطير مجموعة من الاستنتاجات والخلاصات.
4- قضايا التجديد في علم المقاصد:
بيّن الدكتور جمال الدين عطية في البداية طرق ووسائل إثبات المقاصد، وحددها في العقل والفطرة والتجربة مستدلا بأقوال العلماء.
وقد أثار المؤلف مسألة مهمة هي طريقة ترتيب المقاصد الخمسة. والعلاقة بينها، هل هي معللة ومرتبة ترتيبا منهجيا وعقليا، أم أنها مرتبة بطريقة عشوائية غير مبررة.
وبعد عرضه للنقول والاستشهادات وأقوال العلماء، وصل لنتيجة مفادها أن هذا الترتيب بين المقاصد الخمسة غير مبرر أو معلل من طرف من يقدم أو يؤخر أو يضيف إليها مقصدًا آخر.
وفي نفس الصدد يؤكد جمال الدين عطية: “والنتيجة التي نخرج بها من هذا الموضوع هي أن ترتيب الكليات الخمس فيما بينها مختلف عليه بين العلماء. أن الغالبية من العلماء لم يبرروا الترتيب الذي اتبعوه. أن المبررات التي قيل بها لتقديم أو تأخير بعض الأصول، وكذلك الاعتراضات على تقديمها أو تأخيرها بعضها مقبول وبعضها يصعب قبوله، وفي بعض الأحيان يتحير الإنسان بين الحجج المتعارضة”(1).
واعتبر المؤلف أن ترتيب أبي حامد الغزالي هو المعتمد حيث وضح أن: “مقصود الشرع من الخلق خمسة وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم،ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”(2).
وقد أثار النقاش في قضية جديدة لم تتناولها الدراسات المقاصدية القديمة أو المعاصرة، وهي قضية التجديد في مراتب المقاصد وعدم حصرها في ثلاثة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وإنما جعلها خمس مراتب.
وقد استدل على ذلك بكلام السيوطي: “قال بعضهم المراتب خمس: ضرورة وحاجة ومنفعة وزينة وفضول. فالضرورة بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحراج. والحاجة كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يهلك غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح الحراج ويبيح الفطر في الصوم. والمنفعة كالذي يشتهي خبز البر ولحم الغنم والطعام الدسم. والزينة كالمشتهي الحلوى أو السكر أو الثوب المنسوج من حرير وكتان. والفضول كالتوسع بأكل الحرام والشبهة”(3).
وفي دراسته النقدية لبعض الأمثلة اعترض على إدراج بعض الأمثلة في غير مرتبة المقاصد التي تخصها، وكمثال على ذلك اعترض على إدخال العبادات الإلزامية أو الفرائض في مرتبة الحاجيات، والأولى إدراجها في مرتبة الضروريات إلى جانب الإيمان لأنها من أركان الإسلام، والعمل والإيمان متلازمان في التصور الإسلامي.
كما اعترض على قضية إدخال الطهارة في مرتبة التحسينيات، وهي أساسية في صحة العبادة.
كما اعترض أيضًا على وضع النهي عن قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد في مرتبة التحسينيات، وقال موضحًا: “إنه من مرتبة الضروريات شأن النصوص الحاصلة بحرمة النفس البشرية وعقاب من يعتدي عليها”(4).
واعترض أيضًا على مسألة جعل نشر العلم وتثقيف العقول في مرتبة التحسينيات، وهي من وسائل حفظ العقل الضرورية.
وقد وضح بأن مسألة ترتيب الكليات إلى ضروري وحاجي وتحسيني هو الإطار الثابت للكليات، وداخل هذا الإطار يجري تسكين الكليات، ولكن هذا التسكين غير ثابت، فهو يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وهذا معنى النسبية في التطبيق.
وفي بنائه للتصور الجديد للمقاصد حاول في البداية مناقشة مسألة حصر المقاصد الضرورية في خمسة وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، مقترحا ضرورة توسيع هذه المقاصد بإضافة العدل والمساواة والحرية والكرامة والتكافل والإخاء والحقوق السياسية والاجتماعية إلى المقاصد العليا للشريعة.
وقد اعتبر بأن مسألة حصر المقاصد في خمسة إنما هو اجتهاد من أبي حامد الغزالي، استمده من عقوبات القصاص والحدود التي شرعت لحماية هذه المقاصد، وأن الأولى توسيعها لتشمل باقي المقاصد المعاصرة.
ويستدل بكلام محمد الغزالي ويوسف القرضاوي وأحمد الخمليشي وأحمد الريسوني وإسماعيل الحسني ليعضد رأيه(5).
وفي مناقشته لقضية أنواع المقاصد ومراتبها حاول الدكتور جمال الدين عطية إزالة الالتباس وفض الاشتباكات الناتجة عن كثرة التقسيمات وتداخلها، وبيان اختلاف المصطلحات ومضامينها.
وقد وضح أن المقاصد قسمين: مقاصد الخلق ومقاصد الشرع، فقسَّم مقاصد الخلق إلى المقاصد الأصلية والتبعية ومقاصد المكلفين.
أما مقاصد الشرع فتنقسم إلى المقاصد العالية العامة وتنقسم بدورها إلى المقاصد الكلية والمقاصد الخاصة بأقسام الشريعة، والمقاصد الجزئية التي تختص بعلل وحكم الأحكام الفرعية.
وقد توسع في بيان المقاصد من خمسة إلى أربعة وعشرين مقصدًا معاصرا موزعة على أربعة مجالات: مجال الفرد- مجال الأسرة- مجال الأمة- مجال الإنسانية.
فبالنسبة لمجال الفرد فيضم المقاصد الخمسة حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وبخصوص مجال الأسرة فتضم عدة مقاصد كتنظيم العلاقة بين الجنسين، وحفظ النسل وتحقيق السكن والمودة والرحمة، وحفظ النسب، وحفظ التدين في الأسرة، وتنظيم الجانب المؤسسي للأسرة، وتنظيم الجانب المالي للأسرة.
أما مجال الأمة فيضم هذه المقاصد: التنظيم المؤسسي للأمة، وحفظ الأمن وإقامة العدل، وحفظ الدين والأخلاق، والتعاون والتكافل والتضامن، ونشر العلم وحفظ عقل الأمة، وعمارة الأرض وحفظ ثروة الأمة.
ومجال الإنسانية بدوره يضم عدة مقاصد كالتعارف والتعاون والتكافل، وتحقيق الخلافة العامة للإنسان في الأرض، وتحقيق السلام العالمي القائم على العدل، والحماية الدولية لحقوق الإنسان، ونشر دعوة الإسلام.
ولتفعيل المقاصد وتنـزيلها على أرض الواقع حاول أستاذنا جمال الدين عطية في البداية توضيح الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد وبيان فوائد علم المقاصد عند العلماء.
فعلم المقاصد مهم لبيان كمال الشريعة وفتح باب الاجتهاد، وردع المشككين، والترجيح، ومنع التحيل، وفتح الذرائع وسدها، والجمع بين الكليات العامة والأدلة التفصيلية، والتوسع والتجديد في الوسائل، والتقريب بين المذاهب وتدبير الاختلاف.
وتحدث الدكتور جمال الدين عطية عن طرق وأساليب تفعيل مقاصد الشريعة من خلال الاجتهاد المقاصدي الذي يهدف إلى إيجاد الأحكام الشرعية للمستجدات المعاصرة، والتنظير الفقهي باعتباره منهج لتكوين نسق فقهي كامل يستوعب كافة الفروع الحالية والمستقبلية.
وقد وضح الفرق بين النظرية العامة للشريعة التي تشمل قواعد مشتركة بين عدة أبواب فقهية من أقسام مختلفة أو عدة أبواب من قسم واحد، وبين النظرية الخاصة التي تختص بالأحكام الفرعية التي تخص كل باب فقهي.
وكمنهجية لتفعيل المقاصد وضح ضرورة بناء العقلية المقاصدية لدى الفرد في المجال الفكري، ولدى المجتمع في مجال السياسة الشرعية.
وأخيرًا ختم الكاتب هذا المؤلف برؤية استشرافية لآفاق ومستقبل علم المقاصد، متسائلاً: هل يبقى علم المقاصد علمًا مستقلاً؟ أم يعتمد هذا العلم لتطوير الدراسات الفقهية والأصولية؟ أم يبقى علمًا وسيطًا بين الفقه والأصول؟
فوضح أن المسلك الأجدى والمنهج السديد والأنفع هو محاولة الجمع بين علم المقاصد وعلم الأصول والفقه، أي عدم تجميد الأصول من روح المقاصد، وعدم إبعاد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حاليًا.
وختامًا نؤكد بأن دراسة الدكتور جمال الدين عطية تعتبر إضافة وتجديدًا في علم المقاصد من ناحية الطرح والمعالجة والرؤية، وهي استمرار لجهود العلماء السابقين أهرام ومؤسسي هذا العلم كالإمام الشاطبي، والعز بن عبد السلام، وأبو حامد الغزالي، والطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي.
* * *
الهوامش
1) نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال الدين عطية، درا الفكر – دمشق، سورية، 1424هـ- 2003م، ص: 471.
2) المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، ط: 1، دار الكتب العلمية – بيروت، 2008، ص: 2752.
3) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، جلال الدين السيوطي، دار الفكر، د.ت، ص: 613.
4) نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال الدين عطية، ص: 734.
5) انظر نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال الدين عطية، ص: 98-995.