أراد مدرس اللغة الفرنسية القادم من القاهرة أن يستأجر سكنا في حلوان، كان معه العنوان لكنه كان بحاجه لمن يساعده في الوصول اليه. ولأننى كنت من تلاميذ المدرسة الثانوية ومن أبناء المدينة،
فإننى تطوعت للقيام بالمهمة، وحين وصلنا إلى المكان تبين أن مستأجرًا آخر سبقه الى الشقة واتفق على ذلك مع صاحب البيت. وحين أحس المدرس أن الصفقة لم تتم، حينئذ قال ضاحكا، طالما أننى لن استأجرها فقد أجد العزاء في رصيد عيوبها. وحينئذ ذكر أنها في الطابق الرابع والبناية بلا مصاعد، ثم أن واجهتها قبلية الأمر الذي يعنى أن الحرارة فيها مرتفعة في الصيف بوجه أخص، وظل المدرس يشرح بصوت خفيض عيوب الشقة، حتى أقنع نفسه بأنها لا تناسبه، وأن الخير فيما اختاره الله الذي أراد له ألا يستأجرها.
لا أذكر ماذا حدث بعد ذلك ولا كيف حل المدرس القاهري مشكلته، إلا أن ما أذكره جيدا أن اسمه كان جمال الدين عطية محمد، وأن ذلك كان في بداية خمسينيات القرن الماضى. أذكر أيضا أن اسمه ظهر أمام عيناي من مرة أخرى بعد فترة وجيزة، حين لمحته في نشرة صغيرة كانت تتوفر في بيتنا بين الحين والآخر، وتصدرها مجموعة باسم لجنة الشباب المسلم. وأثار انتباهي فيها أن النشرة التى كانت بحجم الكف وتوزع بالمجان كانت مهتمة بتوعية الشباب وتنويرهم والارتقاء بثقافتهم، الأمر الذى جذبني إليها، فأدمنت قراءتها واحتفظت بما توفر من أعدادها. وقد عثرت على إحدى تلك الأعداد حين كنت أقلب أوراقي القديمة فى الآونة الاخيرة.
لا أجد فى ذاكرتي مكانًا للأستاذ جمال عطية في السنوات التالية، إلا أنني فوجئت به في الكويت حين نـزحت اليها في السبعينات بعد أن حل علىّ غضب الرئيس السادات وانعكس ذلك على عملى فى جريدة الأهرام، وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين قد سبقني إليها وعيّن رئيسًا لتحرير مجله العربي. ولأنني كنت أتردد على المكتبات ودور النشر هناك فقد استوقفتنى فى أحد الشوارع الرئيسية لافتة باسم “دار البحوث العلمية”، وعلمت أن مديرها هو محيى الدين عطية الذى وجدته مثقفا رفيع القدر وشاعرًا مجيدًا. وبعدما تعارفنا وعلمت أنه الشقيق الأصغر للأستاذ جمال الدين عطية، الذى عرفت إنه أصبح أحد المحامين المعروفين، وأنه يحمل لقب دكتور بعد ما أعد أطروحة في القانون الدولى أجازتها أحدى الجامعات السويسرية.
تصادف أن كان في الكويت آنذاك الأستاذ عبد الحليم أبو شقه الذي كان أحد أركان المجموعة التى كانت تصدر مطبوعة لجنة الشباب المسلم، ثم نـزح بدوره الى الكويت وصار ناشرًا لدار القلم. وخلال السنوات الست التى أمضيتها هناك أتيح لي أن أتعرف وأتعلم أكثر من الدكتور جمال الدين عطية والأستاذ أبو شُقة رحمهما الله، إذ اكتشفت فيهما ثقافتهما الإسلامية الواسعة، وحرصهما الدؤوب على الدعوة الى التجديد والاجتهاد. كان الرجلان من مدرسة الإخوان، لكنهما استقلا وتمايزا واختطا مسارًا آخر اعتنى بالبعد الثقافي والحضاري، دون الحركي أو التنظيمي، وهذا المسار هو الذي دفع الدكتور جمال الدين عطية إلى تأسيس مجلة المسلم المعاصر (عام 1974) التى أراد لها – مع نظرائه – أن تكون منبر الدعوة الى التجديد والاجتهاد الجرئ في الفكر الإسلامي، ولا تزال المجلة تؤدي تلك المهمة منذ ذلك الحين وحتى الآن.
في الكويت لاحظت أن الدكتور جمال، ذلك الرجل الهادئ صاحب الصوت المنخفض والأدب الجم، تحول إلى طاقة حركة مدهشة، إذ إلى جانب عمله بالمحاماة فإنني وجدته قد صار أستاذا بالجامعة الليبية ثم رئيسًا لقسم القانون في كلية الشريعة بقطر، ثم مؤسسًا لأول بنك إسلامي في أوروبا (كان مقره في لوكسمبورج) وناشراً لمجلة المسلم المعاصر وأمينًا عامًا للموسوعة الفقهية بالكويت وأمينًا لمعلمة زايد للقواعد الفقهية التى قامت أبو ظبي بتمويلها… إلخ.
فى ظاهر الأمر يبدو الدكتور جمال كأنه شغل نفسه بسبع صنائع كما يقال، إلا أن الأمر ليس كذلك، لأن من يقترب منه ويلاحظ تحركاته يكتشف أنه صاحب طاقة عمل هائلة مكّنته من أن يقوم بعديد من الأنشطة الإسلامية فى وقت واحد. إذ لم يكتفي بالبحث والتنظير وإنما خاض معترك الواقع وحاول في المجال المصرفي مثلاً أن يقدم نموذجًا عمليًا يختبر فيه القواعد الشرعية، قبل أن تنتشر موجة البنوك الإسلامية في العالم العربي والإسلامي.
إلى جانب تعدد طاقاته وإمكاناته فإن من يتتبع مسيرته العلمية يلاحظ اهتمامًا خاصًا من جانبه بموضوع مقاصد الشريعة وأصول الفقه، وهى من المفاتيح الأساسية التى تضبط التفكير الإسلامي الرشيد فضلاً عن دفع حركة الاجتهاد وتصويبها.
لقد رأيته معلمًا في خمسينيات القرن الماضى، وظل معلماً طول الوقت مرة بأدائه ومرات بفكره الثاقب. بدأ بتعليم اللغة الفرنسية التى تمكن منها واختارها في الثانوية لغة ثانية بدلا من الإنجليزية، وانتهى فقيهًا ومعلمًا لم يترك بابًا من أبواب الشريعة إلا وطرقه – رحمه الله وأجزل مثوبته.
* * *