لا تخفى حاجة الأمة الإسلامية الملحة للنهوض الحضاري للخروج من تخلفها المزمن؛ فتحتاج إلى صياغة أنموذجها الخاص، الذي يعيدها إلى فاعليتها وخيريتها في العالمين، ومصدرها في استقاء هذا الأنموذج “القرآن الكريم”؛ سبيل عزها وهديها الوحيد إلى الحالة الحضارية السوية، من خلال إمدادها بالرؤية السديدة في المبادئ والمنطلقات، وتقويم الوسائل والآليات، ورسم المقاصد والمناهج، وهو الكتاب الذي من مقاصده العليا، ومن مفاهيمه المركزية “العمران”، المعبر عن رؤيته لوظيفة الإنسان في الأرض: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود:٦١]؛ إذ هو عمران الأرض بحياة الإنْسان، وعمران حياة الإنسان بالخير والصلاح، والارتقاء بأسباب الحياة ومقوماتها بإنجازات عمرانية مادية ومعنوية([1]). وأكبر هذه المقومات وعوامل الارتقاء بالحياة مقوم المال والثروات، وما يسمى بــ “الاقتصاد”، الذي تعتمد عليه حياة الناس وتنتظم به مصالحهم.
وقد أولاه القرآن الكريم عنايته الكبيرة؛ إذ شمله بتشريعه التام والكامل المكتمل؛ فوضع له قيمًا هاديةً، ومبادئ عامةً حاكمةً وموجهةً له إلى الحالة التي هي الأقوم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ یَهۡدِی لِلَّتِی هِیَ أَقۡوَمُ﴾ [الإسراء:٩]، فهل في القرآن اقتصاد؟ وما مفهومه فيه؟ وبأي مبادئ أطَّر القرآن الكريم ممارسة الإنسان في هذا الجانب من العمران؟
يأتي هذا البحث لمعالجة هذا المحور الرئيس في الحياة الإنسانية، من خلال الإجابة على هذه الأسئلة؛ بالتأصيل له في القرآن الكريم؛ وذلك من حيث مفهومه فيه، وما وضعه له من المبادئ والقيم الحاكمة له، مع التحليل والاستنباط، وذلك في مطلبين.
* * *
المطلب الأول
مفهوم الاقتصاد
يعد استجلاءُ المفاهيم خطوةً منهجيةً أساسيةً في البنية المعرفية لأي موضوع، ولذا نحتاج تعريف مصطلحنا “اقتصاد” لغةً وقرآناً، وصولاً إلى تعريفه في الفكر الإسلامي.
أولاً: في اللغة:
الاقتصاد من أصل “قصد”، ومعناه الاعتدال والتوسط، لا إفراط ولا تفريط، ومنه الاقتصاد في الإنفاق والاعتدال فيه، والاقتصاد في المعيشة وعدم الإسراف ولا التقتير. ويأتي بمعاني الاستقامة، وإتيان الشيء والاتجاه إليه، والاعتماد والأَمُّ، والنية والغاية([2])، نقول: مقاصد الشيء أي غاياته وأهدافه المراد تحقيقها.
ثانياً: في القرآن:
يستخدم القرْآن الكريم لفظ “قصد” ومشتقه “اقتصد” ست مرات في ست مواضع([3])؛ اسماً في خمسة منها، وفعلاً ………..
—————————————————————————————————————————-
([1]) يراجع فتحي حسن ملكاوي، منظومة القيم العليا؛ التوحيد التزكية العمران، فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١٣م، ط١، ص ١٢٧.
([2]) يراجع ابن منظور، لسان العرب، ج٣، بيروت: دار صادر، د.ت. ص٣٥٣-٣٥٤. وأحمد ابن فارس، مقاييس اللغة، ج ٥، تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط (١٣٩٩هـ/١٩٧٩م)، ص٩٥. ويراجع فخر الدين الرازي، التفسير الكبير ومفاتيح الغيب، ج ١٢، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط١، (١٤٠١هـ/ ١٩٨١م)، ص ٥٠.
([3]) يراجع محمد فُؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الجيل، بيروت، ط١، (١٤٠٧هـ/١٩٨٧م)، ص 545.