قواعد في فقه الموازنات: دراسة تطبيقية على نماذج مختارة من فتاوى مالكية الغرب الإسلامي
Fiqh of Priorities: An Applied Study on Selected Examples of Maliki Fatwas in The Islamic West
مقدمة:
الحمد لله المنعم بالخير على عباده، المدبر شؤونهم بحكمته وأقداره، المسبغ عليهم بنعمه وأفضاله، والصلاة والسلام على من اصطفاه من الخلق، ورفع قدره بالحق محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه وبعد؛
إن كل من يستقرئ نصوص الشريعة، ويتدبر سياقاتها المتنوعة، يوقن أنها ما جاءت إلا لمصلحة العباد، فكل ما في الشريعة لا يخرج عن أن يكون من المصالح التي حقها الجلب، أو المفاسد التي تُدرأ وتُمنع، وليس فيها ما يخرج عن ذلك، فما أمر به الشرع ورغب فيه هو مصلحة، وفاعلها محمود، وما نهى عنه أو ذمه فهو مفسدة، ومقترفها مذموم، يشهد لذلك الكثير من نصوص الكتاب والسنة منها قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾([1])، وقوله أيضاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾([2])، وقوله U: ﴿وَلا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾([3])، وقوله r: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان)([4]).
وإذا تقرر أن مبنى الشريعة على مصالح العباد؛ فإن هذه المصالح ليست نوعاً واحداً، ولا هي على مرتبة واحدة، بل هي أنواع كثيرة، وهي تبعاً لكثرتها على مراتب، وهي تتفاوت بحسب قوتها وعمومها ومآلاتها ولزومها وحدودها وغيرها من الاعتبارات، ويحصل أن يعارض بعضها بعضاً، وعند ذلك نحتاج إلى الموازنة بينها، وترجيح بعضها على بعض، وهذا مسلك شائك لا يقدر عليه إلا الحذاق الأذكياء الذين ارتووا من علوم الشريعة كلها معقولها ومنقولها.
والمفاسد كما المصالح ليست على درجة واحدة، فمنها المفاسد العامة والخاصة، والكبرى والصغرى، والقطعية والظنية، والحقيقية والمتوهمة، واللازمة والمتعدية وغيرها، والنظر فيها بالموازنة والترجيح يكون بحسب ما تقتضيه مصلحة المكلفين، ومعلوم أن فعل أهون المفسدتين مصلحة، وإلا لَحِق المكلف بارتكاب أعظمها ضرر في نفسه أو ماله أو عرضه… فإذا أمكن دفعه بفعل مفسدة أخف جاز، وهذا من صميم فقه الشريعة المحمدية الخاتمة.
والصورة الثالثة وهي اجتماع المصلحة والمفسدة في الفعل الواحد، وفي الوقت الواحد، وقد بينت وجه العمل فيها عند الحديث عن القاعدة الخامسة وهي: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح” فلتراجع في موضعها.
وهنا تبرز حاجة الفقيه إلى نوع خاص من الفقه، وهو فقه الموازنات، فهو سلاحه في دفع التعارض خاصة حينما تتعارض المصالح مع بعضها البعض، ويتعذر الجمع بينها، فهو يصير إلى الترجيح، وفي هذا المقام وضع العلماء جملة من القواعد الضابطة التي تسدد عمل الفقيه، وتضبط عمله الاجتهادي الترجيحي، ومن هذه القواعد: “إذا تزاحمت مصلحتان قدم أهمهما”([5]). وفي سياق الموازنة على الفقيه أن يُمعن النظر في تلك المصالح لمعرفة حجمها وأثرها وقوتها ومقدار أهميتها، ثم يشرع في الترجيح بينها، فيقدم ما يقبل التقديم، ويؤخر ما من شأنه التأخير، وهو في ذلك كله متجرد للحق، وقاف عند حدود الشرع.