مقدمة :
تختاز الدعوة الإسلامية اليوم مرحلة هامة من مراحل حياتها، مرحلة انتقالية وقف فيها الركب عن السير إلى حين ليستأنف الشوط بعد انتهاز هذه الفرصة المراجعة الماضي والتزود للمستقبل المشرق المأمول.ودعوتنا في حقيقتها ذات شقين، أو قل إنها تحمل تبعتين رئيسيتين تنفرد الدعوات عادة بحمل احداهما أو أجزاء من إحداهما.
أقصد الناحية العلمية التي توضح الإسلام وتشرحه، والناحية الحركية التي تنقل إلى الناس هذا الإسلام وتسعى إلى نجاحه علمياً.
ونظرة إلى الشيوعية في مصر مثلاً.
وضعت البذور الأولى للفلسفة الشيوعية على يد هيجل وفيورباخ وغيرهما من الفلاسفة، ثم جاء كارل ماركس فألف كتابه “رأس المال” ووضع الأسس الاقتصادية للنظرية، ثم تتابع أقطاب الشيوعية بعد ذلك في الكتابة عنها وتوضيح أصولها النظرية ومعالمها العملية من أمثال لينين.ثم أقيمت باسمها دولة هي روسيا السوفيتية، فحملت بقية العبء وسخرت إمكانياتها العلمية والعملية في شتى أنحائها لخدمة المبدأ، حتى أصبح واضح الأصول والتطبيق، ثم كثرت التجارب الشيوعية في بلدان أوربا وآسيا، وأتاح ذلك فرصة أخرى لخدمة المبدأ من الناحية العلمية بعد أن وضع على محك التطبيق في أكثر من دولة.وأصبحت ترى إلى جانب ذلك كتابا وفلاسفة في غير الدول الشيوعية يخدمون المبدأ كذلك من الناحية العلمية، فلما قامت الحركة الشيوعية في مصر لم يكن أمام القائمين بها في الناحية العلمية سوى جهد الترجمة إلى اللغة العربية وتقريب المبدأ وتطبيقاته من البيئة المصرية بظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وانصرف جل نشاطهم إلى الناحية الحركية، أي نقل هذه الأفكار والمبادئ إلى الناس والسعي إلى تفتح وعيهم عليها والعمل على إنزالها ميدان التطبيق في مجتمعنا المصري.
وأنتقل إلى الدعوة الإسلامية.
هي تشترك مع كل الدعوات في الناحية الحركية التي بدونها لا تكون دعوة عملية بل تكون مجرد جمعية علمية أو دار للتأليف والنشر، وفواجب الدعوة إلى الإسلام بالمعنى الواسع لكلمة الدعوة أي الدعاية له، والسعي إلى إقناع الناس به وجمع الأنصار حوله وتربية المؤمنين به على تعاليمه وتنظيمهم تنظيما حركيا للعمل الله في مختلف الميادين، ثم إقامة كيان اجتماعي وكيان سياسي للدعوة إلى آخر هذه الألوان من النشاط الحركي، هذه هي الناحية التي تشترك فيها بطبيعة كونها دعوة مع غيرها من الدعوات والحركات الإصلاحية.
وبقي الشق الأول، وهو الخدمة العلمية للدعوة الإسلامية.
ويتبادر إلى الذهن أن تلك هي مهمة الأزهر ورجاله؛ لأنهم هم أقرب الناس إلى فهم الإسلام وأقدرهم على الكتابة عنه، ولكن الحقيقة، رغم وجود بعض علماء الأزهر المتحررين من منهاج التأليف القديم والمطلعين على العلوم الحديثة والمتصلين بالمجتمع وشئونه ومطالبه، أقول: رغم وجود قلة من هؤلاء إلا أن المنهج الذي يسلكه الأزهر في دراسة الإسلام وعلومه واعتماده على فقه الأولين وعنايته بمشاكل الماضي التي لم يعد لها وجود في مجتمعنا الحديث، من مثل: أسماء الله وصفاته وخلق القرآن وغير ذلك، هذا المنهج الذي لا يعتمد أساسا على أصول الإسلام، ولا بهدف في شحته إلى معالجة موضوعات العصر الحديث بروح الإسلام، ومن خلال تعاليم، هذا المنهج له أثره في إبعاد علماء الأزهر في تفكير دم ومؤلفاتهم من القيام بالخدمة العلمية المطلوبة للدعوة الإسلامية ([i]).
ثم إن تمام اطلاع الأزهر يسين عملي العلوم الحديثة وعدم اتصالهم بمشاكل المجتمع وحاجاته يجعل من المتعسر، بل من غير المتصور، أن يقوموا بهذا العباد؛ إذ كيف يتسنى لرجل الأزهر الذي لم يدرس علوم الاقتصاد أو القانون الدولي من أن يكتب عن التنظيم الواجب من وجهة نظر الإسلام للنواحي الاقتصادية والدولية في عصرنا هذا؟! ولعل من الإنصاف أن نذكر هنا أن بعض الفضلاء من علماء الأزهر من أمثال الشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ حسن مأمون وغيرهم يمتازون عن غيرهم بسيمة الأفق والتجديد في البحت وتصفية الإسلام من شوائب القرون الماضية بالرجوع إلى مصدره الأصيل كتاب الله وسنة رسوله.
ولكن نظرة واحدة إلى مؤلفاتهم كتاب السياسة الشرعية” خلاف، أو “القصاص” لشلتوت، أو “الحدود” حسن مأمون ترينا أنهم مازالوا بعيا۔ ين عن الإيفاء بالمطلوب.
وتتجه الأنظار مباشرة صوب الجامعات الحديثة وخريجيها عل فيهم الأمل المنشود في القيام بعباء الخامسة العلمية للإسلام.
والحق إنه طريق محفوف بالمخاطر.
صحيح أن الدراسة الجامعية في أقرب الطرق حاليا لفهم الحياة الحديثة ودراسة المجتمع الحالي وإدراك مختلف جوانب حضارة القرن العشرين، وصحيح أن من حمل رسالة النهضة العلمية للإسلام يستدعيه ذلك أن يلم ببرنامج من التقافة الإسلامية العامة في الناحية التي يتخصص فيها بالذات، سواء من العلوم الإسلامية أو الحديثة حتى يستطيع أن يخرج للفكر الإسلامي إنتاجاً جديداً متصلاً بأصول الإسلام الأولى وتراثه العلمي الضخم.
أقول هذا وذاك صحيح.
ولكن الخطورة هي أننا نريد أن نكتب ونؤلف للإسلام من وحي الإسلام ومن صميم روحه، نريد أن تخرج علما إسلاميا حقيقيا هو ما كان يأمر به النبي وصحابته لو وجدوا في عصرنا هذا، لا أن نخرج الحضارة الحديثة وعلومها مطلية بقشور إسلامية.
وهذا يستدعي تذوقا للإسلام وروحه، وفقها نفسيا وإحساسا وجدانيا، وفهما عقليا لمقاييسه وقيمه في صغير الأمور وكبيرها.
نريد عالما إسلاميا يتذوق الإسلام أولا
([i]) مقال الأزهر في معترك الحياة، للشيخ مناع القطان، عدد الباحث ۳۱ اكتوبر سنة 1950.