مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:
نشأ علم أصول الفقه بغية ضبط آليات النظر في النص الشرعي، وصونه من سقيم الأفهام، وباطل الأوهام، فكانت همم العلماء تشرئب إليه، حتى يلهم أذهانهم وتتقوى قرائحهم، لكي ينضبط منهجهم في الاستنباط والاستدلال، فأجمعوا أمرهم وبذلوا وسعهم لتدوين رسائلهم التي لقيت استحسانا من قبل ثلة من المجتهدين الذين استثمروها وقاسوا عليها، إما لاشتراكهم في علة التأليف والمصلحة المنطوية تحتها، أو استصحابا لحالهم، على الرغم من الاختلاف الذي قد يكون بين هذه المدونات الأصولية سواء في طريقة التأليف والتصنيف، أو في بعض الأصول التي رجح بعضهم واعتبرها دليلا يعتد به، وعارضها البعض الآخر وأنكرها، مما جعل نسخه لها في كتابه من باب إقامة الحجة على بطلانها. وغير ذلك من الاختلافات التي لحقت الدرس الأصولي التي عكست تفاعل العقل المسلم مع الوحي.
ومن المعلوم أن المادة الأصولية تُستقى من موارد شتى، ومن فنون أصيلة، بحيث يمتح منها كلها مادة ومنهاجا، ويمنح إليها كلها رونقا وهاجا، وتبعا لهذا التنوع برزت بعض الاختلافات، أحيانا يكون مرد ذلك التنازع إلى التأثر بالمذهبية المتبناة، وأحيانا أخرى يرجع إلى طريقة النهل من تلك العلوم المستقاة..، فبعض المسائل استقل علم أصول الفقه بسبر قضاياها كالقياس والإجماع..، وهناك بعض المسائل المشتركة مع علوم أخرى كمباحث القراءات، والحقيقة والمجاز، وقضايا الحديث ومصطلحه.. فأصبحت بينه وبين هذه العلوم علاقة إمداد واستمداد، مما جعل مباحثه لا تخلو من اختلاف على الرغم من كونه علم منهجي يسعى لتقليل الخلاف والاختلاف.
إشكالية البحث:
يهدف البحث إلى الإجابة عن الإشكالية الآتية: ما تأثير الاختلاف الأصولي في مبحث الأدلة الشرعية على الأحكام الفقهية؟ وللإجابة عنها اعتمدنا على استقراء ووصف الاختلاف المنطوي تحت كل دليل، بغية الوصول إلى الخلاصات والنتائج، من أجل بيان الأسباب والدوافع المؤثرة في هذا الاختلاف.
أسباب ودوافع البحث:
إن الناظر في علم أصول الفقه يظهر له تباين واختلاف في الأدلة التي يقوم عليها، وهذا من الأسباب التي جعلتني أبحث في مدى تأثير هذا الاختلاف على الأحكام الفقهية، قصد الخروج بنتائج حول الموضوع.
أهداف البحث:
يسعى هذا الموضوع إلى إبراز تأثير الاختلاف في بعض الأدلة الأصولية من حيث الحجية والاستدلال على الأحكام الفقهية، سواء من حيث منهجية البناء الاستدلالي للأحكام، أو من حيث الأحكام المتوصل إليها عن طريق الاستنباط من هذه الأدلة.
وسيتم التركيز بالأساس على الاختلاف الموجود في الأدلة الشرعية من حيث الحجية والاستدلال، من خلال تبيين أسباب ذلك والمرجعيات التي أدت إلى ذلك الاختلاف، بالإضافة إلى بيان الاختلاف الذي يوجد بين ثنايا كل دليل.
المنهج المعتمد في البحث:
للوصول إلى النتائج المتوخاة من البحث تم اعتماد المنهج الوصفي لعرض آراء وأقوال الأصوليين والفقهاء في مختلف المسائل المعروضة، كما تمت الاستعانة بمنهج الاستقراء من خلال تتبع المدونات الأصولية خصوصا في مبحث الأدلة الشرعية.
الدراسات السابقة:
تناولت مجموعة من الدراسات موضوع الاختلاف الأصولي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب ” أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء” لمصطفى سعيد الخن، و”أثر الأدلة المختلف فيها (مصادر التشريع التبعية) في الفقه الاسلامي” لمصطفى ديب البغا، وقد اهتم الكتاب الأول بالاختلاف في القواعد الأصولية وبيان انعكاساته على الفقه، بينما اهتم الكتاب الثاني بإبراز هذا الاختلاف في مصادر التشريع التبعية وتأثيره على الفقه، وقد جاءت مساهمتنا لبيان هذا الاختلاف في مصادر التشريع الأصلية (الكتاب والسنة والإجماع والقياس).
المطلب الأول: الاختلاف في الأدلة الشرعية من حيث الحجية
لاشك أن الأدلة الشرعية منها ما هو متفق عليه بين جمهور العلماء، واختلافهم فيها ليس كاختلافهم في غيرها، وهذه الأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإِجماع، والقياس. “والأصل الكتاب، والسنة مخبرة عن حكم الله، والإِجماع مستند إِليهما، والقياس مستنبط منها”([1]).
وسنفرد كل دليل ببحثه للكشف عن مكامن الاتفاق والاختلاف فيه، قصد إبراز الاختلاف في الدرس الأصولي، لاستجلاء قضاياه، واستكناه أسبابه.
1- الدليل الأول: الكتاب
اتفق المسلمون جميعا على حجية القرآن الكريم، وأنه أصل لسائر الأدلة الشرعية وأنه ينبغي الرجوع إليه لاستنباط حكم الله في القضايا والمستجدات التي تعترض الإنسان في سياقه الزماني والمكاني، وذلك لكونه وحيا من عند الله جل ثناؤه، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
([1]) أصول الفقه، محمد بن مفلح الحنبلي (المتوفى: 763هـ)، ت: د. فهد بن محمد السَّدَحَان، مكتبة العبيكان، ط: الأولى، 1420هـ – 1999م، (1/306).
اقرأ المزيد……