تولت الأمانة العامة لاتحاد الجامعات العربية, في ضيافة من جامعة الكويت, مهمة تنفيذ (مشروع كتابة تاريخ العرب والإسلام) منذ تشرين الثاني عام 1974 ولا يزال العمل قائماًً, على ضوء مؤشرات عمل كانت اللجان المتخصصة قد تدارستها وأعلنتها في ( ورقة عمل ) خاصة بالمشروع, تضمنت عدداًً من النقاط بلغة الأهمية. وليس المقال التالي سوى عرض مركز لعدد من المؤشرات التي جاء بعضها تأكيداً لما ورد في ورقة العمل المذكورة, وبعضها الاخر (إضافة) عليه.
1- البدء بتقديم تحليل موضوعي يتميز (بالشمولية) للتعرف على اهم ملامح التاريخ الإسلامي وخصائصه وسماته وعناصر تفرده ومكونات شخصيته المتميزة من أجل وضع مؤشرات عمل يلتزم بها سائر الباحثين, سواء كانوا يعملون في حقل صدر الإسلام أم العصر العباسي أم العصور المتأخر, كيلا تحبئ دراساتهم وهى تحمل تناقضاً صريحاً, وتفتتاً في الرؤية, واصطداماً في العرض والتحليل, الأمر الذى يؤول إلى إخراج بحث تاريخي لا يملك وحدته المنهجية والموضوعية ولا يحقق هدفاً إيجابياً.
وبعبارة أخرى, سيكون هذا التحليل بمثابة بحث عن الحد الأدنى المشترك الذى يجب أن يلتزم به جميع الباحثين لأنه سيكون الخيط الذى ينتظم أبحاثهم جميعاً, ويجنبها الانفراط والتناثر والاصطدام مما يؤول إلى إرباك الطلبة والدراسين الذين سيعتمدون هذا المؤلف, وإثارة البلبلة والتضارب في تصوراتهم وقناعاتهم إزاء معطيات التاريخ الإسلامي.
2- التأكيد على ملاحظة الخصائص التي ستتوصل إليها اللجنة المكلفة بالقيام بالتحليل آنف الذكر, والالتزام بمؤشراتها خلال القيام بعملية التأليف ونحن نحب هنا أن نؤكد مقدماً على أهم الخصائص وأكثرها وضوحاً وثقلا وإلزاماً:
(أ) التوازن النسبي الذى شهد تاريخنا بين قوى المادة وقيم الروح, والذى كان يؤول – رغم اهتزازه ذات اليمن وذات الشمال – إلى حماية معطيات هذا التاريخ من الانحراف النهائي صوب المادية, أو الانفصال الكلي باتجاه الروحية. وهو التوازن الذى لا يمكن تجاهله لدراسة تاريخنا وتفسيره.
(ب) التوازن النسبي بين النزعتين الأخلاقية والمنفعية في السلم والحرب.
(ج) الانفتاح, الذى لا تحكمه عقد ولا حساسيات, على العالم الواسع أخذاًً وعطاء.
(د) التوازن النسبي في تلقي المعرفة بين الوحي والعقل والتجريب.
(( إن التاريخ الإسلامي يتميز عن غيره من التواريخ بمعالم وسمات أصلية تهبه شخصية مستقلة, فهو يعبر أكثر من غيره عن حصيلة أوسع لقاء خلاق بين السماء والأرض, وعن طموح الإنسان المؤمن لإعادة سير التجربة البشرية في مجراها الطبيعي, وانطلاقها نحو هدفها المرسوم في الكون. التاريخ الذى يصور لنا الجهود الكبيرة التي بذ لها المسلمون لتشكيل مصير العالم وفق منهج متفرد يجمع في إطار واحد. الظاهر والباطن , والحضور والغياب, والطبيعة وما وراء الطبيعة, والتراب والحركة, والمادة والروح, والقدر والحرية, ويفتح أمام الإنسان الطريق لتقديم أقصى ما عنده من طاقات في بناء حضارة غير متأرجحة ولا مهزوزة, وحضارة تنساح فاعلية صناعها علي كل المساحات وسائر القطاعات: الآدب والفنون, والعلوم والفلسفة, والقانون والنفس والاجتماع, وتنبثق عن إيمان عميق بدور الإنسان في الكون, وهدفية فاعليته وتوازنها)) [1]
3- تحقيق قدر من التوازن بين دراسة الجوانب السياسية – العسكرية وبين فحص وتحليل الجوانب الحضارية, مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة أن ينظر إلى المعطيات الحضارية باعتبارها أجزاء متفرقة تنتمى إلى كل أوسع يتضمنها جميعاً ويمنحها معنى وهدفاً.
وليس من الضروري بصدد هذه النقطة أن يقف الباحثون عند سائر التفاصيل والجزئيات التي تعج بها مصادرنا القديمة وبخاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والعسكرية من تاريخنا, وليس من الضروري أن يقع الباحث أسير هذا الحشد الزاخر من النصوص, ولا بد له, إذن, من أن يتجاوز الجزئيات إلى الكليات, والوقائع الصغيرة إلى الدلالات الخطيرة, ولا يقف عند حدود النص أو الواقعة بل يتعداها إلى معناها العميق ودلالاتها الموحية, وحينذاك سيقدر على تحقيق عملية الاختزال والتركيز. إذ أن كل مجموعة من التفاصيل والجزئيات تتدرج تحت هذا المعنى أو ذاك, وتمنحنا هذه الدلالة أو تلك, في سياق الحركة التاريخية الأكبر حجماً, ومن ثم تغدو هذه الجزئيات عبارة عن مواد كمية, أو نماذج متشابهة, يمكن اعتماد عدد محدود من عيناتها للتوصل إلى الصيغة البنائية الأكبر للواقعة التاريخية, والتخلص, بالتالي, من ركام التفاصيل الذى يثير من الإرباك في ذهن القارئ, أكثر مما يحقق من سيطرة علي الحركة التاريخية وتفهم لصيرورتها.
4- تحقيق قدر من التوازن بين العرض الأكاديمي الصرف للوقائع التاريخية, سياسية وحضارية, وبين اتخاذ مواقف فلسفية لتفسير هذه الوقائع وتبين عوامل تكوينها ومؤثرات مساراتها وحصيلة مصائرها, شرط أن تندرج هذه المواقف جميعاً في رؤية نوعية متجانسة, ونلتزم الحد الأدنى المشار إلية من الأسس والمواضعات, فلا تتخذ إحداها التفسير المادي منطلقاًً لها بينما تنحو الأخرى نحو المثالية أو الحضارية أو الروحية, وإنما تسعى هذه المواقف قدر الإمكان إلى اعتماد أكثر الفلسفات انسجاماً وتناغماَ مع حركة التاريخ الإسلامي وأكثرها قدرة على تفسيره.
5- اعتماد أسلوب نقدى رصين في التعامل مع الروايات التي قدمتها مصادرنا (القديمة) وعدم التسليم المطلق بكل ما يطرحه مؤرخنا القديم, وإحالة الرواية التاريخية – قبل التسليم النهائي بها. على المجرى العام للمرحلة التاريخية لمعرفة هل يمكن أن تتجانس في سداها ولحمتها مع نسيج تلك المرحلة لحمة وسدى؟ هذا فضلا عن ضرورة اعتماد مقاييس ومواضعات النقدين الخارجي والباطني وصولا إلى قناعة كافية بصحة الرواية.
ويمكن الإفادة في مجال النقد الخارجي – إلى حد كبير – من علمي: (مصطلح الحديث) و (الجرح والتعديل) اللذين مورسا على نطاق واسع في عمليات تمحيص الأحاديث النبوية, ومن كتب التراجم الغنية الخصبة. فما من أمة في الأرض عنيت بتمحيص مصادر أخبارها وتاريخها كالأمة الإسلامية فهنالك تراجم لنصف مليون رجل أسهموا جميعاً في تقديم الأحاديث والأخبار والروايات التاريخية التي لا يمكن توثيقها والأخذ بها إلا بعد فحص أولئك الرجال الذين تناقلوها. ومن ثم فان دراسة التاريخ الإسلامي دراسة جادة تستلزم حتما دراسة هذا الموضوع الخطير لكى تقوم الدراسات التاريخية معتمدة على أوثق المصادر وأدق الأخبار ومنقحة من حشود الدسائس والسموم وسيل الروايات الموضوعة التي نفشتها القوى المضادة في جسد تاريخنا المتشابك الطويل[2].
ولا بد من الإشارة هنا إلى الملاحظة القيمية التي أبداها (محب الدين الخطيب) حول هذا الموضوع فهو يشير إلى أن تاريخ الطبري العظيم لا يمكن الانتفاع بما فيه من آلاف الأخبار إلا بالرجوع إلى تراجم روانه في كتب الجرح والتعديل. وأن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي, ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف. ولا نعرف أمة عنى مؤرخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها وشروط الانتفاع بها, كما عنى بذلك العلماء المسلمين.
وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي. أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم, ولا يتعرفون إلى رواتها ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى الطبري: رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني, ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك, فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي ألوف الأخبار . ولو أنهم تمكنوا من (علم مصطلح الحديث) وأنسوا بكتب الجرح والتعديل واهتموا برواة كل خبر. كاهتمامهم بذلك الخبر, لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي ولتمكنوا من التميز بين غث الأخبار وسمينها, ولعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار صحابها[3].
والطبري نفسه يقول في مقدمة (( فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين, مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه, من أجل أنه لم يعرف له وجهاً صحيحاً, ولا معنى في الحقيقة, فليفهم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى من بعض ناقلية إلينا, وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا)).
6- يقابل هذا ضرورة الاعتماد في بناء البحث التاريخي على الواقعة نفسها دون الوقوع في مظنة اعتماد هياكل مرسومة مسبقاً, ووجهات نظر مصنوعة سلفاً, ومحاولة تطويع الوقائع على الانسجام مع هذه الهياكل والوجهات حتى ولو أدى هذا إلى تشوية ملامح الواقعة التاريخية, أو إعادة تركيبها لكمية تنسجم والأطروحات المسبقة, مما نجده واضحاً – على سبيل المثال – في الدراسات التي تنطلق من المفهوم المادي في تفسير التاريخ, الأمر الذى أوقعها في حشد من الأخطاء والتناقضات. ونحن نجد هذا – مثلا – في موقفهم من حركة الرسول صلى الله عليه وسلم (( فبعضهم يرى أن المجتمع العربي (( في مكة والمدينة)) شهد بداية تكوين مجتمع يمتلك الرقيق, بينما يرى (بيجولفسكايا) أن القرآن الكريم يشعر بتركز مرحلة ملكية الرقيق, ويذهب مع (بلاييف) إلى أن المرحلة الإقطاعية هي من آثار اتصال العرب بالشعوب الأخرى. هذا ويرى آخرون أن المجتمع الإقطاعي بدأ بالتكون فعلا. ومنهم من يرى أن الإسلام يلائم مصالح الطبقات المستغلة الجديدة من ملاك وأرستقراطية الإقطاع مثل ((كليموفيج)), ومنهم من يراه في مصلحة أرستقراطية الرقيق فقط, في حين أن البعض ( مثل بلاييف) يرى أن الإسلام المتمثل بالقرآن لا يلائم المصالح السياسية والاجتماعية للطبقات الحاكمة, فلجا أصحابه إلى الوضع في الحديث لتبرير الاستغلال الطبقي الجديد. وفى حين أن بعضهم يقول ان الأرستقراطية وحدت القبائل العربية لتحقيق أغراضها, يقول غيرهم أن القبائل كانت تتوثب للوحدة فجاء الإسلام موحداً يعبر عن ذلك التوثب. ويضطرب الموقف من نشأة الإسلام ذاته, فبينما يدعى (( كليموفيج)) أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم) واحد من عدة أنبياء ظهروا وبشروا بالتوحيد وأرادوا توحيد القبائل. يذهب ( تولستوف) إلى نفى وجود النبي العربي ويعتبره شخصية أسطورية. وبينما يتعرف البعض بظهور الإسلام, يذهب (( كليموفيج)) إلى أن جزءاً كبيراًً منه ظهر فيما بعد, في مصلحة الإقطاعين ونسب أصله إلى فعاليات معجزة لمحمد. وتجاوز (( تولستوف)) إلى أن الإسلام نشأ عن أسطورة صنعت في فترة الخلافة لمصلحة الطبقة الحاكمة, وهى أسطورة مستمدة من اعتقادات سابقة تسمى الحنفية))[4].
7- كما أنه يتوجب, في مقابل هذا وذاك, اتخاذ موقف علمي ناقد تجاه معطيات المستشرقين – الغربين والشرقين – على مستوى المنهج والموضوع وعدم التسليم المطلق بها أو تجاوزها كلية, لأن هذه المعطيات تتضمن الجيد والرديء, والأبيض والأسود… والموقف الحاد هو الذى يعرف كيف يفيد مما تقدمه الحركة الاستشراقية دون الوقوع في أسرها على حساب الحقيقة التاريخية.
وهنا أحب أن أقف قليلا لتبيان بعض المسائل الأساسية حول هذه النقطة بالذات[5]
إن مناهج البحث الغربية (مسيحية ومادية) لا يمكنها بحال أن تقدم تفسيراً معقولا شاملا متماسكاً لتاريخنا الإسلامي, فهي إن نجحت في تفسير وتقييم التاريخ الغربي فستخفق حتماً في تفسير وتقيم التاريخ الإسلامي. ذلك أنها مناهج لا تقوم على أساس ( متوازن) ينظر إلى القيم الروحية والمادية كعوامل فعالة مشتركة في صنع التاريخ, بل علي العكس, تسعى, بدافع من ماديتها أو علمانيتها إلى ترجيح الدافع المادي وتقليص مساحة الدوافع الروحية في حركة التاريخ, بل طمسها أحياناً, وإنكارها أساساً – في أحيان ثالثة – كعوامل في تاريخ البشرية.
وهذه المناهج – من جهة أخرى – تقدم تاريخ العالم كله , وبضمنه تاريخنا نحن, من زاوية نظر غربية إقليمية, تجعل أوربا مركزاً للعالم تدور حول قطبة كل المساحات الأخرى في الأرض, وما عليها من دول وشعوب وحضارات, حيث تغدو في معظم الأحيان أشبه بالظلال الباهتة لهيكل التاريخ الأوربي العالمي التي يتميز بالكثافة والامتلاء والإشعاع. ولا بد من الإشارة هنا إلى تعليق الكاتب النمساوي (ليو بولد فايس: محمد أسد) على هذه الرؤية القاصرة فهو يقول (( لقد مال المفكرون والمؤرخون الأوربيون, منذ عهد اليونان والرومان, إلى أن يتصبروا بتاريخ العالم من وجهة نظر التاريخ الأوربي والتجارب الثقافية الغربية وحدها. أما المدنيات غير الغربية, فلا يعرف لها إلا من حيث أن لوجودها, أو لحركات خاصة فيها, تأثيراً مباشراً في مصائر الإنسان الغربي. وهكذا فإن تاريخ العالم وثقافاته العديدة, لا يعدو أن يكون, في اعين الغربين, تاريخاً موسعاً للغرب. وطبيعي أن النظر من هذه الزاوية الضيقة لا بد ان يوقع العين على مشهد مشوه غير سليم. إن الأوربي أو الأمريكي العادي بما اعتاد أن يطالع من الكتب التي تعالج أو تبحث مسائل مدنيته الخاصة بتبسيط وتوسع يضيفان عليها ألواناً حية, دون أن تلقى على سائر أجزاء العالم سوى نظرات هنا أو هناك, ليستسلم ويرضخ بسهولة ويسر إلى الوهم الخادع الذى يصور أن الخبرات الثقافية الغربية, وليست أسمى من سائر الخبرات الثقافية في العالم كله فحسب, بل لا تتناسب معها على الإطلاق وبالتالي إن طريقة الحياة الغربية هي النموذج الصحيح الوحيد الذى يمكن أن يتخذ مقياساً للحكم على سائر طرائق الحياة, لأن كل مفهوم ثقافي أو مؤسسة اجتماعية أو تقييم أدنى يتعارض مع النموذج الغربي, إنما ينتمى – حتما – إلى درجة من الوجود أدنى وأحط. ومن هنا نرى أن الغربي – تمثلا باليونان والرومان – يجب أن يعتقد أن جميع تلك المدنيات ليست – أو لم تكن – إلا تجارب متعثرة في طريق الرقى, هذا الطريق الذى تتبعه الغرب بكثير من السداد والعصمة من الخطأ. أو أنها في أفضل الأحوال – كما هي الحال في مسألة المدينات السالفة التي سبقت مدينة الغرب الحديث مباشرة – ليست أكثر من فصول متتابعة في كتاب وحيد فريد آخره – غير شك – المدينة الغربية))[6].
وما من شك في أن أشد متطلبات (إعادة كتابة التاريخ الإسلامي) إلحاحاً هي تخريج مثقفين معتزين بتاريخهم و أمتهم وحضارتهم, شاعرين في قرارة نفوسهم بالاستعلاء الثقافي والحضاري على بقية الأمم والتواريخ والحضارات, لا سيما وأن الشرق عامه والأمة العربية الإسلامية خاصة تمثل في حضارتها – كما قلنا – لقاءات معطاءة بين السماء والأرض, وتنبثق – في كثير من الأحيان – عن مصادر عليا للمعرفة والتوجيه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, وأن هذه النقطة بالذات هي ما يجب أن يؤكد عليه دائماً في عملية التأليف الجديد لكى تغرس في كيان المثقفين مشاعر الاستعلاء وإبعاد أي شعور بالنقص تجاه الحضارات الأخرى, وقطع الطريق على أية محاولة لتكريس التبعية الفكرية لدى هؤلاء.
ثم إن هذه المناهج الغربية – من جهة ثالثة – عندما تدرس تاريخنا بالذات تتحكم فيها عصبيات شتى ورواسب نفسية ومخلفات ثقافية تاريخية وأطماع سياسية واقتصادية وتحزبات دينية ومذهبية وأيديولوجية وعرقية, لكونها نشأت وتبلورت في القران الذى بلغت فيه حركة الاستعمار القديم للعالم الإسلامي المتعب , أوجها. ولنستمع إلى ليو بولد فايس (محمد أسد) مرة أخرى وهو يحلل المواقف الفكرية المتعصبة تجاه أوطان غدت في نظر ( الصليبية الثانية) أرضا مواتا يجب إحياؤها لصالح الكنيسة والدولة الغربية. إنه يقول ((أما فيما يتعلق بالإسلام فإن الاحتقار التقليدي أخذ يتسلل في شكل تحزب غير معقول إلى بحوثهم العلمية. وبقى هذا الخليج الذى حفره التاريخ بين أوربا والعالم الإسلامي (منذ الحروب الصليبية) غير معقود فوقه بجسر ثم أصبح احتقار الإسلام جزءاً أساسياً من التفكير الأوربي. والواقع أن المستشرقين الأولين في الأعصر الحديثة كانوا مبشرين نصارى يعملون في البلاد الإسلامية, وكانت الصورة المشوهة التي اصطنعوها من تعاليم الإسلام وتاريخه مدبرة على أساس يضمن التأثير في موقف الأوربيين من الوثنيين. غير أن هذا الالتواء العقلي قد استمر, مع أن علوم الاستشراق قد تحررت من نفوذ التبشير, ولم يبق لعلوم الاستشراق هذه عذر من حمية دينية جاهلية تسئ توجيهها. أما تحامل المستشرقين على الإسلام فغريزة موروثه وخاصة طبيعية تقوم على المؤثرات التي خلقتها الحروب الصليبية, بكل ما لها من ذيول, في عقول الأوربيين))[7].
ومن ثم فإن تطبيق هذه المناهج في تأليف وتدريس التاريخ الإسلامي في مؤسساتنا وجامعاتنا قد أتى ثماره المرة منذ أول جيل خرجته هذه الجامعات, وسيظل يقدم هذه الثمار إلا أن يحدث المؤرخون الأكاديميون انقلاباً جذرياً في الأسس التي يعمل بموجبها في التأليف والتدريس.
إن تطبيق منهج ( قاصر) في دراسة التاريخ الإسلامي, من شأنه أن يغفل واحداً أو أكثر من ملامحه الأساسية ومقوماته الأصلية, سيؤدى ولا شك إلى فهم ناقص وتحليل مضطرب لمعنى هذا التاريخ وطبيعة مجراه.
إن المهندس الميكانيكي لا يطلب منه رسم تصميم لعمارة شاهقة, وعالم الفيزياء لا يجازف بإقامة جسر على نهر عظيم, والمهندس المعماري بدون أدوات الرسم ومستلزماته, لا يستطيع تجسيد ما في مخيلته من مساحات وأبعاد. وهكذا فإن تطبيق المنهج المادي العلماني الغربي, بقطاعية المسيحي والديالكتيكى فى دراسة تاريخنا أحدث من الأخطاء والثغرات ما قد آن الأوان لتداركه على أيدى الرجال المخلصين الذين سيأخذون على عاتقهم مهمة تنفيذ مشروع (كتابة تاريخ العرب والإسلام) وفق منهج يقوم من الأدوات والإمكانات ما يساعد المؤرخ على عرض وقائع هذا التاريخ بأكبر قدر من الأمانة والموضوعية.
ولا ريب أن من أهم سمات هذا المنهج أنه شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع التاريخ, غير عاجزا أمام حدود الواقع الملموس الظاهر للعيان, ويتيح من الرؤية البعيدة ما يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً أصيلا لأحداث التاريخ الإسلامي وشخصياته. إن تاريخنا الإسلامي بحاجة ماسة إلى طبقة جديدة من المؤرخين يعيدون عرض هذا التاريخ وتحليله بكل حيويته وتدفقه, وامتداداته الأفقية والعمودية, وعناصره الظاهرة والباطنة, مما سيتيح – بلا شك – فهماً أعمق لهذا التاريخ وإدراكاً أشد تركيزاً لعناصر تطوره, ورؤية أكثر وضوحاًً لخطوط سيره ومنعطفاته الفاضلة. وعسى أن تحقق لجان ( مشروع كتابة تاريخ العرب والإسلام ) هذا الهدف العزيز الكبير.
8- يجب ألا يقع العاملون في هذا المشروع تحت وطأة المواضعات المعاصرة في كافة مناحي الحياة البشرية: السياسية والاقتصادية والأخلاقية والروحية والاجتماعية, لأن هذا من شأنه أن يصبغ رؤيتهم للتاريخ الإسلامي بألوان تستمد تركيبها من واقع عصرنا الراهن, الأمر الذى قد يفسد موضوعية الرؤية, وبالتالي يصد المؤرخ عن الوصول إلى كنه الوقائع التاريخية التي قد لا تمت بصلة إلى مواضعات القرن العشرين. صحيح أن على المؤرخ أن يعتمد كل ما يقدمه هذا القرن من علوم وأدوات موصلة أو مساعدة على كشف الحقيقة التاريخية, ما كان بميسور مؤرخنا القديم أن يحظ بعشر معشارها. لكن اعتماد هذه العلوم, وأكثرها ميداني أو تجريبي, للإعانة على كشف الواقعة التاريخية شيء, والتأثر بفلسفة العلم الظنية التخمينية, وما أحدثته من إسقاطات سيئة في عالمي النفس والمجتمع, في ميداني الضمير والسلوك, شيء آخر, وقد يجعل المؤرخ أسير مواضعات زمنية نسبية متغيرة تفرض عليه نمطاً من التفكير في تعامله مع حشود من الوقائع التاريخية, فلا يراها كما يوجب البحث الموضوعي أن يراها, وإنما يقوم – إذا صح التعبير – بعملية تمرير لهذه الوقائع من خلال تلك المواضعات. فما تلبث حينذاك أن تفقد لونها الأصيل وملامحها الخاصة وشخصيتها المتميزة, لكى تقتبس ألوان هذه المواضعات وملامحها وخطوطها وتضيع.
9- من المستحسن , إزاء ذلك كله, أن نشكل لجان على قدر عال من التخصص لوضع مؤشرات عمل في الاتجاهات الثلاث التالية.
(أ)- نقد الرواية الأساسية لدى المؤرخ القديم, وتصنيف الروايات حسب قوتها وضعفها.
(ب)- نقد مواقف فلاسفة التاريخ, والذين تعاملوا مع تاريخنا ودرسوا جوانب منه, وتحديد مدى قرب معطياتهم أو بعدها عن الحقيقة التاريخية.
(ج)- نقد معطيات الحركة الاستشراقية, بجناحيها المسيحي والمادي, وتحديد المساحات التي يمكن الإفادة الفعالة منها, وتلك التي يجب تجنبها, مع تبيان أبعادها اللاموضوعية.
10- تجاوز منطق التقسيم الزمنى القائم على التغير الدائم في الحكام والأسرات الحاكمة, واعتماد مقاييس التغير النوعي في الحركة التاريخية بين مرحلة ومرحلة, وعصر وعصر, وعلى سائر المستويات السياسية والعقيدية والحضارية . أي أن التقسيم الزمنى للمراحل التاريخية يجب ألا ينصب على المتغيرات الفوقية بل يمتد إلى قلب المجتمع في تمخضه وتحوله الدائم. أما على المستوى المكاني فإن الأفضل اعتماد الوحدات الحضارية (المتنوعة) ضمن إطار وحدة الحضارة الإسلامية, هذه الوحدات المتميزة التي قد تشهد أكثر من كيان سياسي وقد تمتد إلى أكثر من إقليم أو بيئة جغرافية.
11- تقديم عروض تاريخية متوازنة زمنياً بين ما كان يجرى في مرحلة ما من مراحل التاريخ الإسلامي, وما كان العالم المحيط يشهده في المرحلة نفسها من أحداث, من أجل تكوين نظرة شمولية لدى الدارس أو القارئ, تمكنه من فهم طبيعة العلاقات بين الإسلام والعالم الخارجي من خلال تحقيق قدر من السيطرة على ما كان يحدث في المرحلة التاريخية – الزمنية الواحدة.
[1] أنظر بالتفصيل بحث( اقتراحات في التدريس والمنهج التاريخي) للمؤلف ( مجلة حضارة الإسلام, عدد 9 – 10 سنة 16)
[2] المرجع السابق.
[3] المراجع الأول في تاريخنا: مجلة الأزهر, المجلد 24 ج 2 ص 210, صفر 1372ه.
[4] عبد العزيز الدوري (وزملاؤه) تفسير التاريخ, مقال التاريخ والحاضر.
[5] انظر بالتفصيل بحث ( اقتراحات في التدريس والمنهج التاريخي): حضارة الإسلام, عدد 9 -10 سنة 16.
[6] الطريق إلى مكة, ط1, ص17 – 18 ترجمة عفيفي بعلبكي.
[7] الإسلام على مفترق الطرق, ط 6 ص 60 61 ترجمة عمر عفيفي بعلبكي.