أبحاث

أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية (1)

العدد 11

مقدمة:
على الرغم من التوسع الملحوظ في التعليم بمختلف دول العالم (على تباين ظروفها الاقتصادية والسكانية والثقافية والسياسية)، والتطور المستمر في طرائقه، والتقدم في توفير وسائله واحتياجاته، وتكدس المؤلفات التي تعالج مختلف قضاياه، فإن العالم يعيش اليوم أزمة تعليمية رهيبة،
تفوق في حدتها أزمة الطعام وأزمة الطاقة والأزمات السياسية والعسكرية، وإن بدت في مظهرها أقل خطرا واستجلابا للانتباه.
وأزمة التعليم المعاصر تختلف في شكلها وحدتها من دولة إلى أخرى، إلا أن آثارها تنعكس بوضوح على كل الشعوب، مهما تباينت ظروفها من فقر أو غنى، ومن عراقة أو حداثة، ومهما كانت تلك الشعوب تتمتع بنظم تعليمية ثابتة أو تكافح من أجل تأسيس نظمها التعليمية كفاحا قد يضطرها أحيانا إلى أن تتحمل أكثر مما تطيق.
وانتشار التحلل الأخلاقي وسط انفجار حقيقي في المعرفة، وتوسع ملحوظ في عملية التعليم لم يسبق لهما مثيل في تاريخ البشرية، إن دل على شيء فإنما يدل على فشل العملية التعليمية ذاتها، ويتمثل هذا الفشل في اضطرابات الطلاب وثوراتهم وميلهم للعنف، والفوضى، والسلوك غير المنضبط، وانخراطهم في العديد من الحركات الاحتجاجية السلبية المنحرفة مثل: الخنافس، والهيبز، وجماعات إدمان المخدرات والخمور، وحركات تسيب المرأة، وغيرها. هذا بالإضافة إلى العديد من حالات الضيق، والضياع، والكبت، والحيرة، والأنانية، والقسوة، وغير ذلك من الأمراض النفسية والعقلية التي قد تصل بالمرء إلى حد الجنون أو القتل العمد أو الانتحار.
ولا غرابة في ذلك فقد أصبح الحصول على المؤهل هو الغاية المرجوة من الدراسة، وأتى الامتحان في المقام الأول قبل التعليم، وصار الغش فيه أمرا شائعا له كل المبررات عند الطالب، وفقد الأستاذ كل صفات القدوة الحسنة وافتقد دوره القيادي الرائد، وبذلك ضاعت الصفات الأساسية لكل من المعلم والمتعلم، فخرج حاملو الشهادات إلى الحياة بغير تعليم حقيقي، وبغير تربية صحيحة، وقد أدى ذلك إلى فساد المجتمعات فسادا هائلا، فقد أصبح الربا أساس الاقتصاد الحديث، والميسر أحد المجالات الأساسية للبحوث الإحصائية، والتجارة عملا مساويا للفساد والاستغلال وانعدام الأخلاق، والسياسة مناورات لا أخلاقية واستماتة في الوصول إلى السلطة، واختلط العدل بالمصلحة الشخصية، وقيست صلات الناس بالمنافع المادية، وتحولت الحرية إلى الفوضى واللاأخلاقية والتسيب والتعدي على حقوق الناس، وحل التوافق مع المجتمع محل القيم الأخلاقية، فاختلت موازين الناس، وأدى كل ذلك إلى تحلل المجتمعات وتفككها وإضعافها إلى درجة أصبحت معها كلمتا الحق والباطل لا معنى لهما في عالم تحكمه المادة فقط، عالم أصبح النجاح فيه هو معيار الحق، والقوة تصنعه، والغاية تبرر الوسيلة، والالتزام بمبدأ ما جمود وعقم، عالم تحكمه الأطماع والمخاوف ويفتقر إلى صاحب الرأي السديد‍‍‍.

وأزمة التعليم المعاصر يراها البعض في تزايد مجموع أعداد الأميين البالغين في العالم، وذلك بسبب الانفجار السكاني من جهة، وما صحبه من مشاكل اقتصادية حالت دون مسايرة التوسع في التعليم للنمو السكاني المستمر من جهة أخرى (خاصة في الدول النامية)، إلا أن الأزمة تنعكس بوضوح أكثر في الزيادة المطردة لنوازع الشر في الإنسان، وميله إلى العنف، وفي فساد مجتمعاته وخلوها من الثقافة، وفي تحلله الأخلاقي، وفشله في حمل رسالته في هذه الحياة، وهذه سمات أصبحت تميز عصرنا بصفة عامة، وتميز الإنسان المتعلم والمجتمعات التي تدعي أنها متحضرة بصفة خاصة.

ويعود ذلك كله إلى أن التعليم المعاصر قد أصبح خلوا من الأخلاق والقيم، وخلوا من الروح والتربية الروحية، وتعليم هذه فلسفته لا يساعد المتعلم إلا على النمو بقدراته المادية فقط، وإن تم له ذلك فإنه يتم على حساب ملكاته الروحية والنفسية، والتزامه الأخلاقي، وذلك يخرجه عن الفطرة الإنسانية السليمة المتزنة بين مادة وروح، جسد ونفس، عقل وقلب…، وإنسان هذه حالته يشكل خطرا حقيقيا على نفسه وعلى الحياة كلها من حواليه، ويكفي في ذلك الإشارة إلى مخزون القنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينية، وغيرها من وسائل الدمار الرهيبة التي يكدسها الإنسان اليوم بكميات متزايدة، تكفي لتدميره وتدمير كل منجزاته على هذا الكوكب، وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لموجات الاضطراب النفسي التي يعيشها الإنسان المعاصر تحت تهديد هذا المخزون المتزايد من وسائل الدمار المختلفة.

ومن هنا يتضح أن أزمة التعليم لا تتحدد في تزايد عدد الأميين البالغين في العالم فقط، بل تتمثل أخطارها في تزايد تحلل الإنسان بصفة عامة، والإنسان المتعلم بصفة خاصة، ويكفي في ذلك نظرة خاطفة إلى تاريخ عالمنا واسترجاع الجرائم التي اقترفها الإنسان المتعلم في حق أخيه الإنسان، وها تبرز أشباح 55 مليون قتيل سقطوا في الحرب العالمية الثانية، وذكرى سبع سنوات من البؤس والرعب والخوف والفناء والشقاء عاشها العالم كله في ظلها، ومدى الدمار والمآسي التي خلفتها مما ترمز له قنبلتا هيروشيما ونجازاكي الذريتان، وما ترويه مأساة فلسطين، وحروب جنوب شرقي آسيا، ومآسي كل من جنوب أفريقيا وناميبيا وروديسيا، وسحق شعبي المجر وتشيكوسلوفاكيا في سنتي 1956، 1967م على التوالي، والمجازر البشرية في جنوب الفلبين، والأزمة القبرصية، والحكم الرهيب في مصر منذ مطلع الخمسينيات والمجازر البشرية في كل من بنجلادش والصومال وزنجبار وإريتريا وتشاد وأنجولا والسودان واليمن الجنوبية وسوريا والعراق ولبنان وأيرلندا وتشيلي والبرازيل….الخ.

ويكفي أن يحضر الإنسان أحد الاجتماعات الدولية ليرى سلوك ممثلي حكومات العالم، ويحكم على المستوى الذي تدنى إليه الإنسان المتعلم، ويكفيه أن يتفحص حياة القادة المعاصرين. أنظر على سبيل المثال فضائح البيت الأبيض التي تم كشفها في عدد من المؤلفات التي صدرت أخيرا مثل أسطورة كنيدي المعنونة The Dark Side of Camelott لمؤلفها نلسون تومبسون، وقصة عزل رتشاد نكسون المعنونة Breach of Faitth لمؤلفها ت. هـ. وايت.

كذلك تكفي لمحة خاطفة عما يدور في عالم الاستخبارات الدولية وعصاباتها أو التجوال في عدد من الأقطار التي يحكمها اليوم عتاة دكتاتوريون، وما أكثرهم، أو تفحص ملفات أي بيت من بيوت الأعمال التجارية الناجحة، فحيثما وجه الإنسان ناظريه يرى الشر، والفساد، والعنف والظلم، والخيانة، والخداع، والمراوغة، والزيف، والتسيب، والانتهازية، والرشوة، والمحسوبية، وانعدام كل صورة من صور الفضيلة قد أصبح أمرا سائدا، وغير ذلك هو الأمر الشاذ..!!!

وفي موجة المد اللا أخلاقي هذه لا يمكن للإنسان أن يستثنى حتى الملوك ورؤساء الدول وإلى فضائح عدد من الملوك والرؤساء المعاصرين والذين كشفت المخابرات الأمريكية أنهم كانوا يتقاضون رشاوى منها (نذكر على سبيل المثال فضائح الرؤساء الأمريكيين: كنيدي، وجونسون، ونيكسون)، ولا من يسمون بالنبلاء ورؤساء الوزارات والوزراء (نشير على سبيل المثال إلى كل من الأمير برنارد زوج ملكة هولندا ورئيس وزراء اليابان السابق تاناكا ووزيري الدفاع السابقين في إيطاليا لونجي جوي، وماريو تاناسي وتورطهما في عملية الرشوة الشهيرة بفضيحة لوكهيد ونورثروب) وكذلك نشير إلى فضائح بروفيومو وجون ستونهاوس المخزية في بريطانيا ولا ممثلي الأمة في مجالس النواب والشيوخ (أنظر على سبيل المثال فضيحة جون هاذي الأخيرة)، وغير ذلك كثير مما يعتبر صورة مقززة للمستوى المتدني الذي هبط إليه المتعلمون في هذا العصر، فضلا عن أناس لهم دور سياسي قيادي بارز في دول تمثل قمة الحضارة المادية المعاصرة.

وهذه الحالات التي أشرنا إليها هي مجرد نماذج مما وصل إلى علم الناس من محيط الفساد المغرق الذي يجرف عالمنا المعاصر، إلا أنها كافية لإثارة عدد من الأسئلة المحيرة منها:

لماذا التعليم إذن وماذا يمكن أن يقدم للإنسانية؟ وهل نحن نضيع وقتنا وجهودنا وأموالنا في عملية خاسرة؟ هل التعليم وسيلة لغاية أم أنه غاية في حد ذاته؟ وإذا كان كذلك فما هي الغاية من التعليم؟ ما هو الهدف من تعلم العلوم والتقنية؟ هل المقصود من تعلمها زيادة تعقيد الحياة وتلوث البيئة وتكديس مخزون القنابل النووية وغيرها من أسلحة الدمار؟ هل نحن قد أهملنا الروح ولذا فنحن نعاني في غيابها؟ هذه الأسئلة في حد ذاتها تجسد أزمة التعليم المعاصر وتستنهض إيجاد حلول عاجلة لها.

أولا: تحليل أزمة التعليم المعاصر:

يتفق التربويون على أن التعليم المعاصر يمر بأزمة عالمية عاتية، إلا أنهم يختلفون في تشخصيها، وفي تحليل أسبابها، وبالتالي في اقتراحاتهم لحلها، فمنهم من يدور بالأزمة في إطارها المادي فقط فيشخصها على أنها تتمثل في تزايد مجموع أعداد الأميين البالغين في العالم بصورة مطردة، وذلك نتيجة للانفجار السكاني والأزمات الاقتصادية المصاحبة له والتي تحول دون مسايرة التوسع في التعليم للتزايد في كثافة السكان خاصة في الدول النامية. وعلى ذلك فالأسباب الرئيسية للأزمة في نظر تلك المجموعات من المتخصصين تتلخص في الانفجار السكاني، وتزايد عدد الطلاب الراغبين في الدراسة، وندرة الموارد المالية مع ارتفاع مستمر في التكاليف، مما أعجز التعليم عن تلبية رغبات طالبيه، وأدى إلى تزايد عدد الأميين البالغين.

وترى مجموعة أخرى من المتخصصين أن الأزمة أساسا أزمة اجتماعية حيث أن العالم يعيش اليوم في عصر التحولات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والتقنية المتسارعة، مما يجعله في حالة انتقالية باستمرار، ومن طبيعة المجتمعات التي تمر بمراحل انتقالية أنها تعاني من فقدان قدر هائل من قيمتها التقليدية وهذا يؤدي إلى خلط في المفاهيم وبالتالي إلى كثير من الأزمات الاجتماعية كما هو الحال في الدول المتقدمة تكنولوجيا واقتصاديا، وفي ذلك كتب ونجو (1974م) مشيرا إلى أزمة التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية “أن صلب المثل والمعتقدات التي كانت تشكل تكاملا ثقافيا في الماضي قد بدأت في التحلل، وعلى ذلك فالغليان الملحوظ بوضوح في التعليم الأمريكي إنما يعكس اختلاطا في المفاهيم”. واختلاط المفاهيم في النواحي الثقافية والاجتماعية لا بد أن ينعكس في تباين واضح بين النظم التربوية ومجتمعاتها مما يؤدي إلى فشلها وعدم صلاحية خريجيها.

وهناك مجموعة ثالثة من المتخصصين ترى: أن الأزمة أساسا هي أزمة تربوية تتلخص في: أن نظم التعليم المعاصر قد أصبحت نظما تقليدية بالية لا بد من إعادة النظر فيها وفي طرق أدائها، بل ينادي البعض بتغييرها تغييرا جذريا، أو حتى بإلغائها، ثم إن استيراد تلك النظم من قبل الدول النامية يشكل خطرا جسيما على مجتمعاتها –لا لأنها ستنقل بعيوبها المتراكمة فحسب- بل لأنها لا تتمشى مع حاجيات البلاد المستوردة لها ولا مع مشاكلها وإمكاناتها، وبالتالي تؤدي إلى أن المتخرجين ونوعيتهم وأعدادهم وتخصصاتهم لا يتناسب مع احتياجات المجتمع وتطلعاته فيتفشى في تلك المجتمعات النامية، نوع من البطالة الخاصة التي لا تقتصر مساوئها على الجوانب المادية، بل تتخطاها إلى الجوانب النفسية والاجتماعية مما يهدد المجتمع كله بالانهيار.

وترى مجموعة رابعة أن الأزمة ترجع إلى فقدان القدوة الحسنة وإلى تسلط الجهلة وأشباه المتعلمين على النظم التربوية.

ومجموعة خامسة ترى: أن الأزمة أساسا أزمة نفسية سببها فقدان الفهم الصحيح لطبيعة النفس البشرية، وبالتالي فشل المربين في التعرف على طلابهم ونفور الطلاب من أساتذتهم في عصر تميز بأنه عصر زعامة الأحداث، مما أفقد المعاهد التعليمية قدرا هائلا من الطاعة والنظام (وهما شرطان أساسيان في بناء أي نظام تربوي)، وأدى إلى انتشار الفوضى والتسيب وعدم الانضباط في معظم المعاهد التعليمية مما أفقدها دورها التربوي.

ومنهم من يرى: أن الأزمة في فقدان نظم التعليم المعاصر للتربية الأخلاقية، وبالتالي: يحدد العلاج في إعادة الاهتمام بهذا الجانب الهام من جوانب العملية التربوية.

ومنهم من يرد ذلك كله إلى: بعد المجتمعات المعاصرة عن الدين، وعليه فإنهم يرون أن حل الأزمة يكمن في الاهتمام بالتعليم الديني.

ومنهم من يتساءل: إن كانت كل هذه الأسباب مجتمعة، أو منفردة من وراء أزمة التعليم المعاصر أم أن هناك أسبابا أخرى لم يمكن التوصل إليها بعد؟ وفيما يلي مناقشة موجزة لوجهات النظر المختلفة في تحليل أزمة التعليم المعاصر:

(أ) الأسباب الاقتصادية- الاجتماعية اللازمة:

يشخص كثير من التربويين أزمة التعليم المعاصر على أنها أزمة مادية بحتة تتلخص في الانفجار السكاني الذي يواجه العالم (2833 مليون نسمة في أواخر السبعينات) والإقبال الشديد على دور العلم، وارتفاع تكاليف التعليم، وتزايد احتياجاته المادية بطريقة مستمرة، والأزمات الاقتصادية التي تعصف بكثير من بلدان العالم مما يعوق عملية التوسع في التعليم ويحول بينها وبين القدرة على مواجهة تلك الأعداد المتزايدة من الراغبين في التعليم، خاصة في دول العالم الثالث.

هذه العقبات أدت إلى تزايد مستمر في مجموع أعداد الأميين البالغين في العالم والذين وصل عددهم إلى 783 مليون نسمة في سنة 1970م، من مجموع عدد سكان العالم (المقدر بـ 2287 مليون نسمة في نفس العام) أي بنسبة 34.2%، وعلى الرغم من تناقص النسبة المئوية للأميين البالغين (من 44.3% في سنة 1950 إلى 39.3% في سنة 1960 إلى 34.2% في سنة 1970). إلا أن الانفجار السكاني سيؤدي إلى وجود 820 مليون نسمة من الأميين البالغين على الأقل في سنة 1980، هذا بفرض استمرار المعدل الحالي للتوسع في التعليم (إدجار فور ومن معه 1974)، وفي ذلك يذكر كومبز (1968) أن عدد الأميين البالغين بالدول الأعضاء في منظمة اليونسكو قد تعدى في نوفمبر سنة (1966) 460 مليون نسمة أي ما يقارب 60% من مجموع تعدادها المنتج، ويضيف: “والتربويون يحذرون بقلق بالغ من أن ظروف الأزمة تزحف على النظم التعليمية في العالم أجمع، وتكاد تطبق على كثير من الدول في قبضتها”.

ويجمع كثير من المتخصصين على أن التعليم المعاصر يعاني نقصا ملحوظا في كل شيء إلا في عدد التلاميذ المقبلين على دور العلم، وهذا النقص الملحوظ هو نقص في المال، وفي المدرسين، وفي المباني، وفي الوسائل التعليمية، وفي الإداريين الأكفاء، وفي النظم التعليمية الصحيحة، وفي العديد من الأمور غيرها، مما أدى إلى شل العملية التعليمية في كثير من الأقطار. فندرة الموارد المادية وارتفاع التكاليف، في وقت يتزايد فيه عدد السكان ويتزايد طموح الناس إلى التعليم: قد جعل من المستحيل على كثير من الدول النامية أن تواجه تطلعات أبنائها.

وفي ذلك كتب كومبز (1968) “إن الأمر العصيب الخاص بالمدخلات المالية واتجاهات الأسعار قد أدى إلى صورة مزعجة للمستقبل، خاصة فيما يتعلق بالدول النامية… ولن يمكن التغلب على هذه الأزمة إلا بتقليص النفقات الهائلة على التسليح في كل مكان واستخدام ذلك من أجل السلام، وبتسريع معدلات النمو الاقتصادي، وبالتطوير الهائل لقدرات النظم التعليمية والتزايد الملحوظ في المساعدات الخارجية للدول النامية…الخ”. ولكنه يضيف: أن ظواهر الأمور في الوقت الحاضر تجعل تحقيقها حلما بعيدا.

هذا وجه من أوجه الأزمة، أما الوجه الآخر فيتلخص في جمود النظم التعليمية وعدم قدرتها على التغيير بالسرعة الكافية في مجتمعات تميزت بمعدل هائل في التغير خلال هذا القرن بصفة عامة، وخلال نصفه الأخير بصفة خاصة، مما أدى إلى تباين واضح بين تلك النظم ومجتمعاتها، وبالتالي: إلى عدم صلاحية خريجيها وفشلهم في الحياة.

هذا البطء الملحوظ في قدرة نظم التعليم المعاصر على الاستجابة للتغيرات السريعة في المجتمعات المحيطة بها، وبالتالي: في إعادة مواءمة بنائها الداخلي مع تلك المجتمعات، هو أمر ذاتي في طبيعة النظم التعليمية، وعلى ذلك فقد حدث في مختلف دول العالم (حتى في المجتمعات التي لا يمثل نقص الموارد المالية فيها مشكلة أمام التعليم).

أضف إلى ذلك: أن تغير المجتمعات المعاصرة بسرعة كبيرة لم يمكنها من الاستفادة القصوى بالمتعلمين في النمو الاقتصادي القومي، فمن جهة: هناك فصل واضح بين معاهد التعليم والمجتمعات المحيطة بها، ومن جهة أخرى: فإنه في الوقت الذي يتزايد فيه الإقبال على التعليم، لا يقبل الطلاب بالضرورة على التخصصات التي يحتاجها المجتمع في تطوره، والتي يمكن أن تدعم نجاحهم في المستقبل، وقد أدى ذلك إلى تصدع واضح بين المتعلمين ومجتمعاتهم، وهذا التصدع هو أحد جذور الأزمة التعليمية المعاصرة. وفي ذلك كتب كومبز (1968): “إذا كان يراد للأزمة أن تحل فلا بد من حدوث توافق هائل بين التعليم والمجتمع، يلتقي فيه الطرفان في منتصف الطريق” وأضاف: “وإذا لم يكن ذلك: سيحدث في المستقبل القريب. فإن التباين بين التعليم والمجتمع سيؤدي إلى تصدع إطار النظم التعليمية، وربما إطار مجتمعاتها في بعض الحالات”.

ويرى بعض المتخصصين: أن الأزمة في إطارها الاقتصادي- الاجتماعي: يمكن التغلب عليها بتحليل العملية التعليمية تحليلا يظهر التفاعل بين النظم (بجوانبها الرسمية وغير الرسمية) وبين المجتمع، حيث تكون المدخلات من المجتمع هي الأهداف، والأولويات، والطلاب، والمدرسون والإدارة، والبناء التعليمي، والجداول الزمنية، ومحتوى المقررات، والتسهيلات المتاحة، ووسائل التعليم، والتقنية المتقدمة، والتحكم في النوعية، والبحث العلمي، والتكاليف (كومبز، 1968).

وبمثل هذه العمليات التحليلية يعتقد: أنه من الممكن التغلب على أزمة التعليم المعاصر، وتحسين نوعية الخريجين، وإعدادهم إعدادا جيدا لخدمة أنفسهم وخدمة مجتمعاتهم، وهذا ناتج من الاعتقاد السائد: بأن تنظيم عملية التعليم يمكن أن يؤدي إلى تحسين المعلومات الأساسية، والمهارات الذهنية، واليدوية، والقدرة على الحكم بمنطق، والانتقاد البناء، والتمسك بالقيم، والارتفاع بمستوى الاتجاهات والحوافز، والقدرة على الإبداع والتجديد، والحب للمعرفة، والتقدير للثقافة، والإحساس بالمسئولية الاجتماعية، والفهم لمشاكل العالم الجديد، ولكن هناك العديد من العقبات التي تقف أمام تحليل العملية التعليمية كنظام منها:

–       ندرة الإحصائيات.

–       الانفجار السكاني خاصة في البلاد النامية.

–       تسارع معدل الإقبال على التعليم في مختلف دول العالم.

–   الهوة الآخذة في الاتساع بين تطلعات الناس للتعليم وطاقة النظم التعليمية من جهة، وبين المجتمع ورغبات المتعلمين من جهة أخرى، وتعدد الإستراتيجيات لتضييق تلك الهوة.

–       النقص الواضح في المدرسين المؤهلين.

–       معدلات النمو غير المتزنة والتي تعيق التطور القومي.

–       العجز المالي في كثير من الدول خاصة النامية منها.

–   صعوبة قياس مدى نجاح العملية التعليمية، حيث أن الأرقام عن أعداد الخريجين والمتخلفين –ولو أنها مؤشرات مفيدة- إلا أنها في حد ذاتها لا يمكن أن تكون أساسا كافيا لتقييم العملية التعليمية.

–       تزايد أعداد المتخلفين بسبب الفشل أو الانسحاب أو الحرمان من القبول نتيجة للسياسات المختلفة المتبعة في ذلك.

–   عدم تناسب التعليم مع حاجة النمو الاقتصادي من القوى البشرية، والتباين الواضح بين احتياجات تلك القوى البشرية وطلبات السوق وما يتبع ذلك من تفاقم مشكلة بطالة المتعلمين.

–       تسارع معدلات التغير في المجتمع المعاصر، وتأثير ذلك على العملية التعليمية.

–       صعوبة الاختيار في تحديد الأولويات وفي مواجهة التوسع في أهداف التعليم.

–   مشكلات النوعية والمحتوى والقدرة على تقييمها: نوعية الطلاب والمدرسين والإداريين وغيرهم، ومحتوى المناهج في ضوء هذا النقيض من المعلومات الجديدة ومحاولة إدخالها في المناهج الدراسية.

–   تضارب الآراء حول ضرورة استخدام التقنية الجديدة في التعليم، وحول كل من عمليات التعليم وبحوث التعليم، والتجديد والإبداع في تلك المجالات.

وفي محاولة لمواجهة تلك العقبات فقد اقترح كومبز (1968): ما سماه بالإستراتيجية الايجابية وهي: إستراتيجية وصفت بأنها تركز على علاقات الأشياء، وتؤكد بشدة على التجديد والإبداع، وعلى تحديث كل من الإدارات التعليمية والمدرسين وعملية التعليم، كما تنادي الميزانية التعليمية، وتؤكد على التعليم غير الرسمي، وعلى التعاون الدولي، وعلى اعتبار أزمة التعليم العالمية قضية كل إنسان.

ويعتقد أنه عبر صورة من صور التعاون الدولي يمكن أن تتبادل الأمم النفع في مجال التعليم، وهنا لا يمكن إغفال أهمية الأفراد في تبني تلك القضية، وأهمية الدعم الخارجي من الدول ذات الفائض المادي والبشري، وكذلك دور الجامعات في تطوير كل من المدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد العليا، وفي تخطيط وتنفيذ النظم التعليمية، وفي تطوير بحوث التعليم، ودعم الحوار بين الجامعات، وأخذ المبادرة في قيادة عملية التجديد والإبداع في التعليم على مختلف المستويات، وفي الدعوة إلى التعاون في استخدام التسهيلات المتاحة بين معاهد التعليم العالي والبحث العلمي، وفي الحد من هجرة المواهب من البلاد النامية، وفي تشجيع التعاون بين العلماء في مختلف أنحاء العالم.

هذا التحليل الجيد لم يدر إلا في نطاق الأبعاد المادية للأزمة فقط، وهذا –وإن كان انعكاسا صادقا للنظرة المادية التي تسود عصرنا- إلا أنه قاصر عن تحليل الأزمة تحليلا شاملا، وعن اقتراح حلول موضوعية لها.

ولسنا نقلل من خطورة الأبعاد المادية للأزمة، إلا أن التركيز عليها وحدها قد يخرجها من إطارها الصحيح، وذلك لأن التحليل المادي يهتم بإقامة المعهد العلمي أكثر من اهتمامه ببناء الشخصية الإنسانية، علما بأن بناء الشخصية هو قضية التعليم الأولى، وعليه فيجب أن يهتم بالروح قبل الجسد، وبما يعلم للطلاب قبل البناء الذي سوف يتعلمون فيه، وبالتغيير الذي يمكن أن يحدثه في الإنسان قبل الدرجة العلمية التي يمنحها له، وهذه أمور خارجة عن الأطر المادية تماما، فقدرة الإنسان على التحكم في نفسه، وضبط تصرفاته، واعتقاده في قيم أخلاقية معينة والتزامه بها، وإيمانه بمثل عليا يحيا لها، ويموت في سبيلها، هي العوامل الرئيسية التي تحدد سلوكه، وبالتالي تحدد فلسفة التربية التي يقوم بها أو يتعرض لها، والتحليلات المادية للعملية التعليمية لا يمكن أن تأخذ تلك العوامل في الحسبان، ومن هنا تأتي هزيلة ناقصة، لأنها تركز على الاحتياجات المادية فقط وتغفل الغايات الكبرى التي من أجلها يجب استخدام تلك الحاجات، وتؤكد كل التأكيد على تحصيل المعرفة، ولكنها تنسى أن المعرفة لا يمكن فصلها عن الخير، وأن الحقائق لا يمكن عزلها عن القيم.

وهنا أيضا يخطئ كثير من التربويين باعتقادهم أن المخترعات والأساليب الحديثة مثل العقول الالكترونية، وبحوث العمليات واستخداماتها في تحليل الأنظمة التعليمية قد توفر الشروط اللازمة لإقامة التربية على أسس علمية سليمة تستفيد من التقدم التقني الذي حققه الإنسان في مختلف المجالات. لأن انضباط هذه الأجهزة انضباط ذاتي ومتجدد، وبذلك يمكن أن يقوم بضبط العملية التربوية وتطويرها. وينسى المنادون بذلك أن العامل الرئيسي فيما تفرزه أجهزة الضبط الآلي تلك، وغيرها من وسائل التقنية المتقدمة هو الإنسان، فإن صلح فكره وأهدافه وفلسفته في الحياة صلح ما يصدر عنه لتلك الأجهزة، وبالتالي صلح ما يستخرجه منها، وإن فسد فسدت معه تلك الأجهزة وبياناتها.

كذلك فإن المبالغة في الاعتماد على أجهزة الضبط الآلي قد يسلب من الإنسان كثيرا من حريته الشخصية وقدراته الذاتية، ومهاراته، ويجعل من تلك الأجهزة نوعا من القيود التي تحد من انطلاقه في التفكير والإبداع، في وقت يعتبر تحرير الشخصية الفردية وتحرير المجتمعات، بل تحرير الإنسانية جمعاء وكذلك تنمية الملكات الشخصية والقدرة على الإبداع من بين الأهداف الرئيسية للعملية التربوية. ولذلك يقف ضد فكرة برمجة التربية وضبطها آليا كثير من المنادين بحق الإنسان في الرعاية العاطفية والمشاعر الإنسانية التي لا يمكن أن تتوفر للآلة مهما تعقدت، وعلى ذلك فمن التربويين اليوم من يدعو إلى التعليم المبرمج المنضبط آليا، وإلى إقامة سلطة مسئولة قادرة على فرض أنظمة تربوية عقلانية محضة. ومنهم من يدعو إلى دعم الإطار الإنساني للعملية التربوية، الذي يحافظ على حق كل فرد في المبادرة والابتكار الشخصي، والتجديد والإبداع والتنوع، وهو اتجاه لا يرضى للتربية أن تسير في طريق العقلانية المحضة وأن تؤكد عبودية الإنسان للآلة وهي التي من أهم واجباتها تنمية الابتكار والأصالة. وليس معنى ذلك عزل التربية عن أجهزة التقنية الحديثة وإنما الاستفادة بها إلى الحد الذي لا يسلب الإنسان إنسانيته.

(ب) الأسباب التربوية للأزمة:

يرى بعض المتخصصين أن النظم التربوية المعاصرة قد أصبحت على قدر من البلى والتحجر يدعو إلى إلغائها من أساسها، وإحلالها بنظم تربوية جديدة، ويتطرف البعض في ذلك فينادي بإلغاء النظام المدرسي تماما في محاولة لربط التعليم بالحياة مباشرة (إينيش في ادجار فور ومن معه، 1974)، وإن كان هذا رأيا مبالغا فيه، إلا أن النموذج التعليمي التقليدي (والذي لا يزال سائدا في كثير من الأقطار)، قد عفا عليه الزمن، ولم يعد يصلح حتى للطبقات البرجوازية التي أنشئ من أجلها إبان القرون الوسطى، فهو ملئ بالعيوب الملحوظة التي من أبرزها أنه يفتقر إلى فلسفة تربوية صحيحة، وأنه عاجز عن مسايرة التطور السريع في المجتمع، وأن نظم القبول فيه لا تقوم على المساواة وتكافؤ الفرص، وأنه يعتمد أساسا على التعليم النظري وعلى الحفظ، ويفضل التعبير الكتابي (المرتكز على التكرار والتقليد) على التعبير الشفهي العفوي وعلى البحث المبدع، كما أنه يفصل بين المواد الإنسانية (التي يعتبرها غير علمية) وبين المواد العلمية (التي يعتبرها مجردة من الصبغة الإنسانية)، ويميز بين التعليم العالي والتعليم التقني، ويفضل الفكر النظري على العملي التطبيقي تفضيلا موروثا من الماضي حيث كانت تحتقر الأرستقراطية العمل اليدوي، ويعتمد الامتحان التحريري وسيلة رئيسية في تقييم الطلاب.

ومن المؤسف أن الاستعمار الأوربي قد عمل على نقل نماذجه التعليمية التقليدية وترويجها في البلاد التي استعمرها، وأغلب هذه النظم قد نقلت بطريقة مشوهة، فلم يكن التعليم في ظل أي حكم استعماري يهدف إلى تكوين رجال قادرين على خدمة أوطانهم، بل كان يرمي إلى تلقين القيم السائدة في الدولة المسيطرة، وإلى إعداد الشباب ليكون في خدمة الاستعمار، وهذا الأمر يتضح بجلاء في نظام التربية الإنجليزية في الهند والتي كانت تهدف إلى تكوين فئة من الأفراد يمكن اعتبارهم هنودا من حيث اللون والدم، وإنجليزا من حيث الأذواق والآراء والأفكار والتقاليد (لورد ماكولي في فور ومن معه 1974)، ولقد تكررت الصورة في غالبية الدول العربية والإسلامية، بل في جميع الدول التي اصطلت بنار الاستعمار وعانت من تسلطه وقهره، فأكثر النظم التربوية السائدة في كل من أمريكا وأفريقيا وآسيا تعكس التراث الذي خلفته الدول الاستعمارية السابقة، أو الدول الأجنبية المسيطرة (اقتصاديا أو فكريا أو حضاريا)، سواء أكانت تلك الأنظمة متمشية مع الاحتياجات الحاضرة لتلك الأقطار أم لا.

وحتى الدول التي أسست نظمها التعليمية بعد رحيل الاستعمار بنتها على قواعد مستوردة، متناسية في ذلك أن فلسفة التربية يجب أن تنبع من تراث الأمة وفكرها وعقيدتها، وإن أي نظم تربوية مستوردة مصيرها أن تلفظ كما يلفظ الجسم عضوا غريبا يغرس فيه، وبالفعل فإن غالبية الدول التي استوردت نظمها التعليمية من الخارج ظلت معاهدها في حالة من عدم الاستقرار الذي عاق العملية التعليمية عن بلوغ أهدافها المرجوة.

ويؤخذ على النظم التربوية المعاصرة على تباين أشكالها المآخذ التالية:

1- عدم وجود فلسفة تربوية صحيحة:

يتفق رجال التربية على أنه لا بد للمعلم من فلسفة في الحياة تمكنه من القيام بمهمته التربوية على الوجه الأمثل، كما أنه لا بد للتعليم من فلسفة واضحة تنبعث من تراث الإنسانية وقيمها ومثلها العليا وتطلعاتها، فلسفة تنعكس في أهداف العملية التربوية وفي مناهجها وأساليبها ومختلف طرائقها ومعاييرها. وفي كل أمر من أمورها..، وعلى الرغم من ذلك فإن المتتبع لأمور التربية يجد أنها –بصفة عامة- قد أصبحت علمانية، لا دينية، خالية من أي ارتباط بعقيدة، أو خلق أو قيم، وأن معلمي اليوم في جملتهم لا يملكون فلسفة تربوية محددة، ولا فلسفة واضحة لحياتهم… والقلة النادرة التي لها فلسفة منهم قد تبنت الفلسفات المادية المنكرة في أغلب الأحيان.. وهي فلسفات ناقصة لأنها تدور في إطار المادة فقط.. وتنكر كل ما وراءها.

وقد تعاون أصحاب الفلسفات المنحرفة والمفتقرون إلى فلسفة محددة لحياتهم.. على إقصاء فلسفة الحياة الصحيحة عن ميدان التربية.. فدارت العملية التعليمية في دوامة من الفكر المادي المجرد من الروح أفقدها أنبل عطائها، وأقدس أدوارها، وأسمى غاياتها.. وهذا يشكل حجر الزاوية في أزمة التعليم المعاصر.

فالعداء الذي نشب بين المفكرين والكنيسة في العالم المسيحي، والذي انتهى بهزيمة الكنيسة وانصراف غالبية الناس عنها، قد أدى إلى بروز العديد من الفلسفات الوضعية التي تركت بصماتها بوضوح على التعليم، حيث نشأت فلسفات تربوية مربتطة بأفكارها وتحمل أسمائها. هذه الفلسفات قد دفعت بالإنسان إلى حلقة مفرغة من الجدل العقيم الذي لم يستطع أن يخرج منه بإجابات شافية على تساؤلاته الملحة: من هو؟ ومن أين أتى؟ ومن أتى به إلى هذا الوجود؟ وما هي رسالته فيه؟ وما مصيره من بعده؟

وهذه قضايا تشغل بال الإنسان مهما كانت ثقافته. وإذا لم يجد التفسير المنطقي المقبول لها عاش حياته الدنيا في حيرة بالغة، واضطراب فكري، وقلق نفسي، وتباين مع الفطرة السليمة. فيشقى شقاء ما بعده شقاء. ويشقى كل من حوله. خاصة طلابه إذا كان معلما.

هذه الحيرة النفسية التي يعانيها إنسان اليوم المفتقر إلى فهم رسالته في الحياة تنعكس بوضوح في الكثير من كتابات التربويين المعاصرين ومنها ما كتبت ميليت (في فلتشر، 1962): “هل علاقة الإنسان بالحياة قد فهمت فهما واضحا؟ وهل الحياة للمتعة مع إحساس بالتقدم المادي والعضوي فقط؟ أم يجب أن يخشاها الإنسان ويخافها فينسحب من المشاركة فيها؟ هل يجب أن تحتمل الحياة في هدوء يتسم بالفضيلة والأخلاق في مواجهة كل الأحداث؟ أم يجب أن تقبل على أنها سر فوق طاقة أي إنسان أن يفهمه؟

هذه صورة من صور الارتباك والحيرة التي يعيشها إنسان اليوم مهما بلغت ثقافته. وهما ارتباك وحيرة ينعكسان في كل زاوية من زوايا حياتنا، خاصة في مجال التربية والتعليم، وذلك لأن ارتباط الحضارة المعاصرة بفكرة محددة عن الحياة قصرتها على المتعة والسعي وراء المعرفة والتقدم الماديين قد ترك الإنسان في خواء روحي أفقده اتزانه الفطري. وإنسان هذا شأنه لا يمكن أن يكون لديه عطاء تربوي أو أن تكون له فلسفة صالحة للتعليم.

2- جمودها وعجزها عن مسايرة التطورات الاجتماعية المتسارعة:

من الملاحظ أن المعدلات الذاتية لتطور النظم التربوية بطيئة جدا مما يعيق تقبلها للتغييرات السريعة في المجتمعات المعاصرة، حتى ولو لم يكن هناك عوائق مادية، وهذا يوجد قدرا من التباين بين النظم التربوية ومجتمعاتها.

وعلى سبيل المثال فإن تقنية التعليم قد خطت بخطى بطيئة جدا، بينما حققت جوانب النشاطات الإنسانية الأخرى قفزات مرموقة في تقنيتها وإنتاجيتها، فالتعليم –وهو الوسيلة الرئيسية لنقل المعلومات من جيل إلى جيل- قد عجز (بصفة عامة) عن استخدام نتائج البحوث العديدة التي يقدمها للمجتمع في تطوير ذاته، وفي نقل هذا القدر الهائل من المعارف والطرائق والأجهزة إلى داخل قاعة الدرس، وربما كان ذلك لأن التربية نم أعقد عمليات النشاط الإنساني.

فالوظيفة الاجتماعية للتربية معقدة غاية التعقيد، وذلك لأن التربية من جهة خاضعة للمجتمع بتقاليده وقيوده وقيمه وإمكاناته، وإن لم يكن كل ذلك منطلقا من منطلق إنساني نبيل، كان أثره بليغا على العملية التربوية ومن جهة أخرى فإن التربية من أهم العناصر الفعالة في تطوير المجتمع وهي في نفس الوقت تعتبر أهم أداة للمحافظة على القيم السائدة فيه، وعلى توازن القوى العاملة له وعلى ذلك: فهي تعتبر المسئول الأول عن تقدمه أو انتكاسه والفيصل في ذلك هو فلسفة المجتمع وعقائده وقيمه، وفلسفة العملية التربوية ذاتها. فإن كان للمجتمع فلسفة واضحة للحياة وتصور سليم لدور الإنسان فيها: انعكس ذلك في فلسفة تربوية سليمة لا تهزها بلبلات الأفكار الهدامة، ولا مناورات المفاهيم المنحرفة، ولا هزات التغيرات السريعة التي تعكس عدم الاستقرار في المجتمعات. والتي من صورها تباين المذاهب الاجتماعية للتربية تباينا ملحوظا، فمنها ما ينادي بجعلها كيانا قائما بذاته ومن أجل ذاته (المذهب المثالي) ومنها ما يرى أن التربية يمكنها –بل يجب عليها- أن تغير المجتمع (المذهب الإرادي) وما يرى أن نمط التربية ومستقبلها خاضعان بصورة حتمية لعوامل البيئة التي تتواجد فيها (مذهب الحتمية الآلية)، وما يعتقد بأن التربية المعاصرة هي أصل الفساد المتفشي في المجتمع، بل هي التي تنشره وتدعو إليه وتحافظ على بقائه (المذهب الهدمي).

3- اتباعها نظم قبول متباينة وغير سليمة:

فبعض الدول تأخذ بمبدأ التشدد في الانتقاء بينما البعض الآخر يأخذ بمبدأ الباب المفتوح، وكثير من الدول تعاني مشكلة كبرى في الفترة الانتقالية من نظام مفتوح جدا إلى نظام أكثر تشددا، ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في دول العالم الثالث التي أخذت في البداية بمبدأ الباب المفتوح ثم اضطرت إلى وضع القيود التي ما فتئت تتزايد تدريجيا بسبب قلة الإمكانات أو بسبب مقتضيات الحالة الاقتصادية، وكذلك في الدول التي تعامل الوافدين بمعيار يختلف عما تعامل به أبناءها. ويتضح ذلك أكثر ما يتضح في القبول للجامعات حيث لا يختار الطلاب على أساس من ميولهم واستعداداتهم الشخصية وإنما على أساس نتائجهم في امتحان الثانوية العامة، وهو مقياس قد يخطئ تقدير القدرات الشخصية للطلاب.

4- اقتصار نظم التعليم المعاصر على نقل المعلومات وفقدانها دورها التربوي:

إن نظم التعليم المعاصر على تباين أشكالها توصف في جملتها بأنها نظم علمانية لا دينية، غير مرتبطة بأية قيم أخلاقية وبذلك قصرت دورها على نقل المعلومات أو التدريب على بعض المهارات وحتى ذلك لا ينقل كاملا لأنه إذا لم يصاحب بتربية أخلاقية وروحية لا يمكن أن يسمى تعليما، بل هو وسيلة لتوصيل قدر من المعارف ونقل الحرف تجعل من المعهد العلمي مركزا للتدريب المهني لا للتربية. ويشكل ذلك أحد الأسباب الرئيسية لأزمة التعليم المعاصر.

5- اقتصار هدف الطلاب من التعليم على الحصول على الشهادة:

إن فقدان العملية التعليمية لدورها التربوي جعل الهدف من التعليم هو الحصول على الشهادة، ومن هنا فقدت العملية التربوية دورها الرئيسي، فاستبدل شحذ القدرة على التفكير بالاهتمام بالحفظ، وأصبحت عملية التقييم لقدرات الطلاب في حقيقتها عملية تقييم لذاكرتهم وقدراتهم على أداء الامتحان وقد انتهى ذلك بنظم التعليم المعاصرة كلها إلى أنها تدور حول غاية واحدة هي التعليم من أجل الامتحان.

ومن المؤسف له أن غالبية الطلاب وأعضاء هيئة التدريس المعاصرين لا يختلفون على هذا التعريف الخاطئ للعملية التعليمية، فمعظم الطلاب لا يهمهم من التعليم إلا الحصول على الشهادة المرجوة التي تؤهلهم للوظيفة المأمولة وللوضع الاجتماعي المرموق، وعلى ذلك فإنهم ينفرون من التعليم الذي لا يرجون من ورائه اعترافا رسميا وفي ذلك كتب كنيث أندروود (في فلتشر 1962م): “لما كان تعليم الطالب –سواء في المرحلة الجامعية الأولى أو في الدراسات العليا، أو الدراسات المهنية- لا يزيد على تكديس للمعلومات، وتجميع لبعض المهارات بدلا من أن تكون اكتشافا يقوم به الطالب لقدراته على الحكم بمنطق، وعلى الاستفسار المفيد، وحسن الاختيار بين البدائل، فإن التعليم بشكله سيزداد ضحالة وسيقوم بشل المعرفة على المدى الطويل إن لم يقتلها”.

وفي ذلك أيضا يقول مارتن (في نبليت 1969م): “إن التأكيد على النجاح مقاسا بهذه الأطر الكمية، والدرجات الجامعية –هي وسائل أصبحت غايات- قد أدى إلى فشل العملية التعليمية فشلا ذريعا… إن اهتمام أعضاء هيئة التدريس بالنوعية، وبتحديد مستويات ذلك في معاهد التعليم العالي قد تطور إلى قلب المهنة على رأسها، حيث أصبحت المقاييس تخدم ذاتها، كما تطور إلى انحراف في القيم ساوى بين التربية والتدريس، وجعل من عملية الحصول على الشهادة شيئا أهم من تربية القدرات المهنية، فأصبح طلب العلم مساويا للذهاب إلى المدرسة، واكتساب المهارات مساويا لتعلم المهنة، والسلطة مساوية للتسلط” ثم يضيف: “إن المعاهد العليا قد أصبحت أدوات دستورها الثابت: أن التعليم للشهادة، مما جعل التعليم اليومي في غالبيته مجرد نقل للمعلومات إلى مجموعة من الصغار الجهلة”.

6- فشل نظام المناهج المحددة في تربية النشء:

تتبع نظم التعليم المعاصر على تباينها مناهج محددة مبنية على عدد كبير من المقررات التي تفتقر إلى شيء من الترابط والتنسيق، ولقد عبر تقرير المجلس الأمريكي لتدريس العلوم الجيولوجية الصادر سنة 1971م عن ذلك بقوله: “إن حماس الرغبة الشابة يتحطم، ولهيبها يطفئه أكثر من 2400 ساعة (1800 – 3000) من المقررات المجزأة، التي تصب وترج وتضغط في ذهن الطالب العادي الذي يتعرض لها في سلبية وذهول طوال أربع سنوات من التعليم الجامعي. وآثار هذا التفتيت المستمر، والتجزئة، والفصل بين المعلومات طوال فترة التعليم الجامعي يمتد من الحياة الطلابية المكبوتة إلى ما بعدها”.

والمقررات المفككة وغير المترابطة هذه والتي تتبناها المناهج الجامدة لنظم التعليم المعاصر لا تهتم بإنماء الملكات الفردية أو القدرات الذهنية، ولا تعني بالتعرف على الذات أو إحياء الضمير الشخصي ولا تعمل على جلاء البصيرة، وإذكاء الروح أو الالتزام بالقيم الأخلاقية، لأنها في الواقع لا تعني بأكثر من قدر من المعلومات التي قد لا تفهم ولا تستوعب، وتعليقا على ذلك يقول أحد التربويين المعاصرين “أنه لمن الأجدى للطالب أن يكون قادرا على توجيه سؤال جديد من أن يكون قادرا على الإجابة على عدد من الأسئلة القديمة”. فالطالب لا يمكنه أن يتقن معرفة أي حقل من الحقول إلا إذا اكتشفها بنفسه، فتسليمها إليه ميتة ككم مهمل هو في الحقيقة عملية ضئيلة القدر جدا.

وبديهي أن إنتاج العمليات التعليمية المبنية على مثل تلك المناهج لا بد أن يكون جيلا من أشباه المتعلمين الذين يفتقرون إلى التكامل الذهني، وإلى القدرة على اكتشاف الذات، وجيل هذا شأنه هو حقيقة جيل من غير المثقفين، وغير الصالحين لخدمة أنفسهم أو مجتمعاتهم، وهذا واضح في الشكوى المستمرة من تدني مستويات الخريجين بصفة عامة.

وربما يرد على ذلك بعض الحالات الفردية التي تتمكن بمواهبها الخاصة من الوصول إلى قدر كبير من المعرفة والثقافة، ولكن مثل هذه المواهب الفردية ليست بالتأكيد من نتاج تلك العملية التربوية العميقة، بل يمكن أن يقال: إنها قد أفلتت من فسادها بأعجوبة.

7- فشل نظام الامتحانات كأسلوب للتقييم:

أثبتت التجربة التعليمية أن الاعتماد على أسلوب الامتحانات “خاصة التحريرية منها” لا يمكن أن يكون تقييما صحيحا لقدرات الطلاب ومواهبهم، وإنما يجب أن يتم ذلك بمخالطة وثيقة بين الأستاذ وطلابه تمتد إلى فترة زمنية غير قصيرة حتى يتمكن الأستاذ من التعرف على ملكات كل طالب فينميها، ونواحي قصوره فيعالجها، وبذلك تتكامل العملية التربوية. وعلى الرغم من ذلك فإن نظم التعليم المعاصر –على تباين أشكالها- تأخذ أسلوب الامتحان (خاصة التحريري) كوسيلة رئيسية لتقييم الطلاب، وقد أدى ذلك إلى كثير من المشاكل النفسية والانهيارات العصبية والمبالغة في تقدير قيمة الامتحان واللجوء إلى الغش مما أفقد العملية التعليمية الشيء الكثير وضاءل من رسالتها، وربما كانت الامتحانات ومضاعفاتها من أسباب تذمر الطلاب، وقيامهم بالحركة المناهضة التي اتسمت بالفوضى والعنف أحيانا وباللامبالاة والفتور في الإقبال على التعليم أحيانا أخرى. وكلها علامات على رفض الأنظمة التربوية المعاصرة وعدم التجاوب معها.

8- الفصل بين المواد الإنسانية والعلمية:

تقوم النظم التعليمية المعاصرة –على اختلاف صورها- بفصل المواد الإنسانية (والتي تعتبرها غير علمية) عن المواد العلمية (التي تعتبرها مجردة من الصيغة الإنسانية) وقد لعب ذلك الفصل بين المعارف الإنسانية دورا خطيرا في أزمة التعليم المعاصر، إن لم يكن في مختلف الأزمات التي يعيشها إنسان اليوم.

فالعلوم انطلقت في أوروبا من منطلق غير إيماني، لا يعترف بغير المادة ولا يسلم إلا بالمدرك المحسوس، والذي يمكن أن يتأكد بتجارب قابلة للتكرار والإعادة، ونظرا للتقدم الملحوظ والانتصارات الباهرة التي حققتها دراسات العلوم البحتة التطبيقية: انتصر المنهج التجريبي على غيره من المناهج الفكرية حتى في الفكر التربوي، لدرجة تباينت معها الآراء حول قصر التعليم على دراسات العلوم والتقنية وإهمال الدراسات الإنسانية والاجتماعية أو محاولة الجمع بينهما، وقد أدى ذلك إلى انحسار ملحوظ في الإقبال على الدراسات الإنسانية، ثم إلى انحطاط في مناهجها وأساليبها، وذلك نتيجة لمحاولتها محاكاة دراسات العلوم والتقنية باتباعها منهجا تجريبيا حورت به من طبيعتها لتقترب من الدراسات المهنية ففقدت بذلك كثيرا من آفاقها، ويتضح ذلك فيما كتبه ميليت (في فلتشر 1962م): “إن ما يسمى بكليات الآداب عندنا تتحول بالتدريج لتصبح مدارس مهنية، ومعاهدنا العليا للآداب والعلوم لا تقل في توجيه اهتماماتها ونشاطاتها توجيها مهنيا عن نظائرها المهنية البحتة”.

هذه العملية أفقدت الدراسات الإنسانية جوانبها الغيبية، كما أفقدت الدراسات المهنية جوانبها الإنسانية، فإن قصر اهتمامات الدراسات المهنية على نقل الخبرات التقنية والمهارات فقط لا يمكن أن يصنع مهنة صالحة، وذلك لأن المهنة تحتاج إلى جانب المهارة لقيم أخلاقها تمنع صاحبها من استخدامها إلا لصالح الآخرين، فالطالب الذي ينتظم في دراسة مهنية معينة لا يمكن أن يكون صالحا لممارستها حتى يتعلم القيم التي تجعل من مهنته عملا إنسانيا، وحتى يؤمن بها ويلتزم بتطبيقها.

ولكن هل المعاهد المهنية والتقنية الحالية تعمل على تنمية تلك القيم الإنسانية؟ وهل يكتفي في أمر الالتزام بالقيم بقسم يردد بصورة شكلية محضة؟ أم من الواجب أن يكون التعليم (حتى في الإعداد لمهنة ما) شاملا للتربية الأخلاقية والتدريب على الالتزام بقيمها؟ هذا الفصل بين الدراسات العملية وتجريدها من الصبغة الإنسانية من جهة، وعزل الدراسات الإنسانية عن الجوانب الروحية والغيبية من جهة أخرى، ودورانها في الإطار المادي للوجود فقط يمثل ركنا من أركان أزمة التعليم المعاصر والتي لا يمكن الخروج منها إلا باستكمال الدراسات العلمية للجوانب الإنسانية فيها، وانطلاق الدراسات الإنسانية من حدود الأطر المادية التي فرضت عليها، فإنسان اليوم لا يمكنه أن يواجه تحديات العصر إذا استمر في فصل العلوم والتقنية عن جوانبها الإنسانية وتحويل المعارف الإنسانية إلى مهن تمتهن، وفي محاولة قياس القيم بمعايير العلوم التجريبية.

9- التميز بين التعليم العام والتعليم التقني:

تقوم النظم التعليمية المعاصرة على الفصل بين التعليم العام والتعليم التقني بصفة عامة، (ويعتقد أن ذلك من آثار القرون الوسطى حيث كان التعليم العام للسادة والتعليم التقني للعوام من الشعب) وقد أدى ذلك إلى التمييز بين الناس بغير حق وضاعف من حدة التكتلات الطبقية في المجتمع الواحد وضاعف من أحقادها، كما أنه حرم بعض الأفراد من متابعة الدراسة حسب ميولهم واستعداداتهم ودفع بالبعض الآخر إلى مجالات لا رغبة لهم فيها، مما أدى إلى زيادة نسبة الفاشلين وحرمان المجتمع من مهارات كان من الممكن أن تنبع لو وجهت التوجيه الصحيح.

10- الخلاف على مهمة الجامعات هل هي للتعليم أم للتدريب المهني أم للبحث العلمي:

اقتصرت جامعات ما قبل القرن التاسع عشر في أوروبا على التراث الفكري والعلمي الذي انتقل إليها عن العرب عبر جامعات الأندلس، وفي انشغالها بعملية نقل ذلك التراث وفهمه. لم تدرك أن تعرف الإنسان على نفسه وعلى العالم من حواليه يمكن أن يؤدي إلى قدر من المعرفة يستفاد به في تطبيقات عملية. وعلى ذلك فإن البحث العلمي في صورته الراهنة قد ظهر في أوروبا في فترة متأخرة، ومنذ ظهوره تغير منهج الجامعات من حفظ التراث الموروث إلى تبني الأسلوب العلمي المبني على الملاحظة والاستنتاج، أو على التجربة والملاحظة والاستنتاج، وكان ذلك سببا في تحول جامعات القرن العشرين بصفة عامة إلى البحث العلمي، واعتباره رسالة الجامعة الأولى إلا أن المبالغة في ذلك قد أضرت برسالة البحث العلمي ذاته وبرسالة الجامعة، فقد جعلت البحث العلمي مجرد وسيلة من وسائل الاسترزاق واثبات الوجود لدرجة: أن الشعار المطروح بين أساتذة الجامعات اليوم وهو: “أنشر وأهلك”، كما أدت قدر من الإهمال للعملية التعليمية ذاتها، علما بأن المفروض في الجامعة: أن تهتم بالعملية التربوية وألا تهمل البحث العلمي، فإثراء كل من هاتين العمليتين للأخرى أمر لا يمكن إغفاله، وفي ذلك كتب مارتن (في نبليت 1969م): “لا بد من تحول العملية التعليمية اليوم إلى المشاركة في الاكتشاف، ونقل المعلومات والأفكار ونتائج البحوث، وعندما يحدث ذلك فقط: يمكن لنا أن نتغلب على الإحساس بالانسحاق تحت أثقال كتل المادة التي يجب على الطالب أن يقرأها ويتعلمها”.

11- انقطاع النظم التعليمية المعاصرة عن الحياة وعن المجتمعات:

يعزي فشل النظم التعليمية المعاصرة إلى انقطاعها عن الحياة وعن المجتمع ومشاكله، وانشغالها بقضايا تجريدية نظرية، ونسيان وظيفتها الأساسية وهي إعداد الطفل ليصبح إنسانا ينهض بمسئولياته في الحياة، وبالتالي فعليها أن نرسم ملامح ذلك الإنسان منذ طفولته.

ولكن انقطاع الصلة بين المواد التعليمية وبعضها من جهة، وبين المعهد العلمي والمجتمع، من جهة أخرى جعل المعارف التي تنقل للمتعلمين معارف مفككة الأوصال غير مترابطة، ومقطوعة الصلة بالبيئة. ومن الأمثلة على ذلك: تناسي النظم التعليمية المعاصرة، أن فهم أسرار الكون ومعرفة علاقة الإنسان به يعد من الأهداف الرئيسية للتربية، ومن هنا نجد الاهتمام بشئون الكون وبوضع الإنسان فيه: يطمس في أغلب الأحيان أو يضغط على هيئة نزعة نفعية ضيقة الأفق، لا تروي غليل العقول الفتية، ولا تساؤلات المجتمع وحيرة الإنسان في تطلعه إلى معرفة مصيره.

وكذلك فإن البرامج الدراسية المعاصرة لا تنشغل بقضايا مجتمعاتها الرئيسية كالحروب الطاحنة، والصراعات الاجتماعية، وقضايا التفرقة العنصرية وغيرها من صور الظلم والقهر الاجتماعي، وأزمات الجوع، وأخطار تلوث البيئة وانحراف الشباب، وانفلات المرأة ومشاكل الأقليات إلى غير ذلك من الأمور التي تجتاح مجتمعاتنا.

ومن المبررات التي تقدم لعدم انشغال النظم التعليمية المعاصرة بتلك القضايا الاجتماعية الرئيسية وأمثالها: التعلل بندرة المعلومات أو نقص المعدات، إلا أن ذلك الفشل يرجع في أغلب الأحيان إلى عدم الالتزام بقيم أخلاقية واضحة، إلا أن ذلك الفشل يرجع في أغلب الأحيان إلى عدم الالتزام بقيم أخلاقية واضحة، وإلى تخوف المعلمين من مواجهة القضايا المعقدة، وتهربهم منها بحجة أن هذه القضايا الرئيسية لها من الشمول ما يربطها بميادين علمية متعددة. وهذا لا يمكن من إدراجها في بنية المناهج الدراسية الحالية القائمة على الفصل بين المعارف، وتصنيفها وتبويبها في أطر ضيقة، أخذت تزداد ضيقا مع ازدياد التخصص العلمي.

وفوق ذلك كله فإن النزعة النفعية المرتبطة بقيم أخلاقية، جعلت كلا من المعلم والمتعلم يفرط في البعد الرئيسي للتربية: وهو البعد الإنساني –الديني الأخلاقي- باعتباره الوسيلة المثلى للمعرفة التي يمكن للإنسان أن يصلح بها أموره في جميع الميادين النظرية والعلمية والتطبيقية.

12- افتقادها إلى النظرة الإنسانية الشاملة:

تفتقر النظم التعليمية السائدة -في جملتها- إلى النظرة الإنسانية الشاملة، وذلك لأنها (في أفضل صورها) تهدف إلى تخريج “المواطن الصالح” وليس “الإنسان الصالح”، ومن هنا فهي تقصر أهدافها في أطر قومية أو عنصرية أو أيديولوجية ضيقة محدودة، وتنسى التأكيد على معنى الأخوة الإنسانية، والمصير الواحد للبشرية، وأننا نحيا هذه الحياة الدنيا على كوكب واحد، ما يصيبه في أصغر أجزائه: يتردد صداه في مختلف أرجائه، خاصة وأننا نعيش عصرا تخطت الطائرات فيه سرعة الصوت، وانتقلت الأحداث فيه من أقصى الأرض إلى أقصاها في لحظات، عبر الأقمار الصناعية، وأصبحت تتهدد أرضنا فيه: أخطار تلوث البيئة، وقرب نضوب الموارد الطبيعية، وتناقص خصوبة التربة الزراعية، وعدم كفاية المواد الغذائية، وشبح الإشعاع، وتكدس مخزون الأسلحة الذرية، وتهديد الصواريخ عابرة القارات، والمزودة بالرؤوس النووية وغير النووية، ودوريات الغواصات، وحاملات الطائرات المشحونة بالقنابل الذرية، وغيرها من وسائل الدمار وقصر أهداف العملية التربوية في مثل تلك الأطر القومية أو العنصرية أو الأيديولوجية، يطبع المتعلمين بطابع التعصب، وضيق الأفق، فتتملكهم النعرات القومية والجاهلية، وينعكس ذلك على تصرفات الساسة والقادة والإداريين. وليست الحروب العالمية الساخنة والباردة، وانقسام العالم إلى معسكرات متطاحنة، إلا من نتاج هذه النظم التربوية العنصرية، والمخرج من ذلك كله هو التأكيد على الأخوة الإنسانية، فإن التغيرات الكبرى التي تحدث اليوم أصبحت تهدد وحدة الجنس البشري كله، وانقسامه إلى أسياد (يملكون وسائل التدمير الشامل) وعبيد (لا يملكون من وسائل التقدم التكنولوجي ما يمكنهم من ردع السادة ومن ثم فليس أمامهم من خيار إلا الرضوخ لهم)، وما يترتب على ذلك من صراع فتاك، وكوارث مهلكة لأن وسائل التدمير الشامل المتوفرة اليوم قد تقع في أيدي فئات من الناس لا تخضع للقانون ولا للنظام ولا للقيم ولا للأخلاق. والتهديد الأكبر لإنسان اليوم. هو أن يفقد هويته كإنسان، وذلك بضياع خصائصه الإنسانية، وهي كارثة ستصيب السيد والمسود في آن واحد، فالضرر الذي يلحق الإنسان في إنسانيته يحلق جميع الناس، ولا يمكن أن تحدد عواقبه.

13- أنها في كثير من دول العالم نظم مستوردة غربية على مجتمعاتهم:

سبق أن أشرنا إلى أن النظم التعليمية السائدة في كثير من دول العالم هي نظم بالية، أسست في أوروبا منذ القرون الوسطى، ولا تزال آثار الفكر المتخلف لتلك العصور بارزة في كثير من جوانبها، على الرغم من محاولات تطويرها المتكررة، ولقد انتقلت تلك النظم إلى كثير من الدول: إما عن طريق فرضها بواسطة الاستعمار، أو عن طريق الفتنة بما حققته الدول الكبرى من نجاح في المجالات الصناعية والتقنية. وكان في استيراد تلك النظم التعليمية إلى البلاد النامية أبلغ الأثر في تدهور التعليم فيها وذلك لأنها ليست نابعة من احتياجاتها، ولا تتلاءم مع قدراتها، فضلا عن أنها كثيرا ما تناقض فكرها وعقيدتها وتراثها. وهي فوق ذلك كله نظم غريبة عن الأستاذ الذي يقوم بتطبيقها، وعن الطالب الذي يتعرض لها، وأفضل النظم التعليمية: لا يمكن أن تكون لها قيمة فعلية إذا لم يكن القائمون بتدريسها مقتنعين بها، ومؤمنين بفلسفتها، فقوة النظام التعليمي تكمن في قدرته على تحديد أهدافه، وتحقيق تلك الأهداف بطرقه ووسائله الخاصة، وهذا لا يمنع من دراسة كل النظم التعليمية المتوفرة دراسة ناقدة والاستفادة بأفضل ما فيها حسب الحاجة المحلية. وعلى سبيل المثال: فإن تبني عدد كبير من الدول لنظام التعليم الأمريكي بتفاصيله في السنوات الأخيرة هو قرار متسرع في استيراد نظام تعليمي غريب على مجتمعاتها، وعلى قدر من التباين مع ثقافتها واحتياجاتها وفلسفتها في الحياة. وإن أخطار ذلك القرار قد لا تتضح اليوم، ولكن آثاره سوف تظهر بكل تأكيد في القريب العاجل.

(ج) فقدان القدوة الحسنة كأحد أسباب الأزمة:

من البديهي أن المجتمعات الإنسانية عامة، والمعاهد التربوية بصفة خاصة لا بد أن تقاد بالصفوة المختارة، المتميزة بالحكمة والعلم والبصيرة والصلاح والاستقامة، والتي يمكن أن تشكل القدوة الحسنة، وإلا فإنها ستقاد بواسطة الجهلة المتسلطين، الذين يسيئون الحكم، ومن ثم يقودون مجتمعاتهم إلى الضياع. وذلك لأن التعليم بواسطة القدوة الحسنة –سواء في معاهد العلم أو في المجتمعات الإنسانية- من أنجح الوسائل التربوية على الإطلاق.

ولكن المتأمل في الوجوه الحاكمة اليوم: يفاجأ بأن المجتمعات الإنسانية –في غالبيتها- تحكم بواسطة أقل الناس حكمة، وعلما، وصلاحا، وهؤلاء غالبا هم إفراز نظم تعليمية مفتقرة إلى فلسفة شاملة عن الإنسان والكون والحياة، دارت بهم في الإطار المادي للوجود فقط فأخرجتهم عن إنسانيتهم. وجعلتهم كيانات أنانية قاسية لا يهمها إلا الوصول إلى السلطة والمحافظة على كرسيها من تحتهم، ثم إن هؤلاء –بحكم مراكزهم- تصبح لهم اليد العليا في تحديد وسائل وغايات العملية التعليمية فيضيعونها كما ضيعتهم، ومن ثم يشكلون أحد العوامل الرئيسية للأزمة التي نحن بصددها.

وفساد القمة هذا: ينعكس على النظم التعليمية ذاتها. فكما فقدت المجتمعات قدوتها الحسنة، تفقدها معاهد العلم، التي كثيرا ما يتحكم فيها ضابط الانقلابات العسكرية، أو الإداريون البيروقراطيون، أو السياسيون الطامحون، أو رجال الأعمال المستغلون… وهنا تخسر المراكز التربوية دورها القيادي فتفسد المجتمعات وتفسد بها… لأنها لا مناص لها من اتباع المجتمع الفاسد، وقياداته المنحرفة.

وليس أدل على ذلك من أن المثاليتين اللتين تتصارعان اليوم على زعامة العالم، هما الرأسمالية والشيوعية، وكلاهما خالٍ من القيم الدينية والأخلاقية. ومن ثم انحطت أساليب الصراع بينهما إلى أدنى المستويات. وأصبحتا تشكلان خطرا داهما على العالم بأسره، وعلى الإنسانية كلها.

وقد ساعد على فقدان القدوة الحسنة: تلك القيود التي تفرض على المثقفين من قبل الحكومات (الظاهرة والمستترة)، والتي –وإن تفاوتت من بلد إلى آخر- قد أصبحت من سمات هذا العصر البارزة، وكذلك الآثار السيئة الناتجة عن التكتلات السياسية والعقيدية والمذهبية غير الرشيدة، وتكتلات الأقليات الأنانية (الظاهرة والخفية) والتي كثيرا ما تؤدي إلى إقصاء الصفوة القيادية، وإحلالها بالمتسلقين والانتهازيين والوصوليين، والذين يشكلون الخطر الداهم على العملية التربوية، فليس أخطر من معلم لا يصلح أن يكون قدوة حسنة لطلابه. وتتمثل تلك المشكلة في تكتل اليهود بالجامعات والمعاهد والكليات والأقسام التي يرأسها أفراد من بني ملتهم في أوروبا وأمريكا، وتكتل غيرهم من الأقليات في كثير من دول العالم.

كما تتضح بجلاء –وبصورة أسوأ- في دول العالم الثالث (خاصة الدول التي تكافح اليوم في سبيل مؤسساتها التعليمية) وذلك لأن تلك الدول انطلاقا من عصبية قومية متبصرة: تضع نفرا من أبنائها حديثي التخرج، قليلي الخبرة والتجربة والثقافة في قمة العملية التعليمية) كمخططي سياسة التعليم، ومديري المدارس، ورؤساء الأقسام في الجامعات، وحتى مدراء الجامعات (وهذا فيه منافاة واضحة لأبسط القواعد الأكاديمية والأخلاق والتقاليد الجامعية).

ومثل هؤلاء المبتدئين غير الأكفاء لا يملكون إلا أن يتنقلوا من خطأ إلى خطأ أفدح ومن حفرة إلى هوة أعمق، وإن الضرر الذين يوقعون لا يقتصر على ذوات أنفسهم، ولا على زملائهم وطلابهم، ولا على معاهدهم العلمية ومجتمعاتهم الحالية فقط، بل سيمتد إلى أجيال قادمة، فعجزهم العلمي والإداري، وافتقارهم إلى الحكمة والخبرة، وبعد النظر، وصواب الحكم، وعمق التفكير، وجلاء البصيرة، والموضوعية والمنطق والرشد والعلم، وما ينتج عن ذلك من تسيب وتحلل وتصدع لا يمكن إزالة آثاره بسهولة.

ويكفي في ذلك سؤال يبرز: كيف لمحاضر صغير مسئول عن جامعة بأسرها أو عن كلية بأكملها أو عن قسم من الأقسام أن يرقى إلى مرتبة أكاديمية أعلى (أستاذ مساعد أو أستاذ)؟ وهل يملك الدوافع والوقت للعمل لها؟ وإذا كان: فهل سيعمل من أجل الحصول عليها أم أن الأمور سترتب له حفظا لماء الوجه؟ وهل يمكن لقادة تربويين هذا شأنهم أن يقودوا العملية التعليمية في طريقها الصحيح؟

هذه الصورة القائمة للنظم التعليمية المعاصرة، والمسيطرة عليها من قبل الوصوليين والنفعيين من جهة، أو أشباه المتعلمين من جهة أخرى: قد أدى إلى فقدان القدوة الحسنة وهي إحدى وسائل التربية الرئيسية، وانعدامها في إطار العملية التربوية وفي المجتمع الإنساني على إطلاقه من أصغر دوائره وهي الأسرة، إلى أكبرها وهي الدنيا –مرورا بالمدرسة والجامعة والمجتمع والدولة- قد وصل بالناس إلى هذه الصورة المحزنة من التحلل والتسيب والضياع الذي يشكل الأسباب الرئيسية لأزمة التعليم المعاصر.

(د) فقدان الفهم الصحيح لطبيعة النفس البشرية كأساس للأزمة:

وصلت الضرورات الأساسية للمعاهد التعليمية إلى مستوى رفيع (خاصة في الدول الغنية)، ويشمل ذلك المدرسين المدربين، والإداريين المتخصصين، والمناهج المخططة، والكتب المدرسية المكتوبة بعناية، والمكتبات الجيدة، والمختبرات الجاهزة تجهيزا ممتازا، والورش، والنوادي الرياضية، ووسائل الإيضاح المختلفة، والدراسات الخلقية المنظمة… الخ وعلى الرغم من ذلك كله فقد شاع الملل واللامبالاة وعدم الرغبة في التعليم بين الطلاب، كما أخذ القلق والثورة والميل إلى العنف ومعاداة السلطة وغير ذلك من السلوك غير المنضبط يتزايد بينهم بصورة مستمرة، وهذا يتضح في العديد من حركات الرفض السلبية، والضياع، والكبت، وزيغ البصر، والعنف، والأمراض العقلية والنفسية التي تجتاح المجتمعات المعاصرة. ويعتقد أن ذلك تعبير نفسي عن معارضة الطلاب للنظم التعليمية وانعكاس لعيوبها المختلفة، وعلى ذلك ترى مجموعة من التربويين: أن الحل يكمن في تحسين فهم الأسس النفسية للعملية التربوية وهذا مجال قد غطى حديثا بقدر يستحق الإعجاب من الأبحاث التي تناولت مفاهيم التعليم، وطرقه، وأسس ذلك النفسية: السلوك التعليمي ونماذجه، إستراتيجيات التعليم وأدواتها النفسية (مثل الحوافز والاحتياجات، تكوين المفاهيم والتعميمات، والتفكير المشترك وحل المشاكل، السلوك المبدع ودراسة الاتجاهات والخطط لاكتسابه، عمليات الاتصال بين الناس، دراسة السلوك المعقد، الشخصية ومفهوم الذات، أنماط التطور الفردي ونظرياته، وتطور الشخصية والنظرة الاجتماعية…الخ (والتحليل النفسي للظروف الاجتماعية للتعلم، مثل علاقة الأستاذ بالطالب، والطالب بزميله والنماذج والأنماط لذلك وتأثيرها على التحصيل، وجو قاعة الدرس ونظام المدرسة الاجتماعي وتأثيره على سلوك الطالب، وقياس وتقييم التغييرات السلوكية، ودور كل من المعلم والطالب في العملية التعليمية وطرق وعمليات تقييمها. وقد اقترحت حلول عدة للأزمة التعليمية المعاصرة على أساس من هذه التحليلات النفسية إلا أن نتائج تطبيقها على الطلاب كانت عصيان أكثر، وثورة أشد، وزيادة في عدم الاستقرار. وسبب ذلك ببساطة: أن المنهج العلمي (المبني على أساس من الملاحظة والاستنتاج أو التجربة والملاحظة والاستنتاج) والذي استخدم بنجاح في دراسة العالم المادي وظواهره الطبيعية قد فشل في دراسة الإنسان ومجتمعاته، وهذا مرده إلى: أن العالم المادي تحكمه رموز ومعادلات محددة. فالتعامل مع جوانب النشاط الإنساني التي يمكن أن تقاس كما، وتلخص في أسس ومفاهيم مجردة غير محدودة بزمان أو مكان معينين، قد أدى إلى المبالغة في الإيمان بحتمية البناء المادي وقدرته على حل مشاكل المجتمعات الإنسانية، وإهمال عوامل الارتباط الشخصي والأهداف الجماعية والتي لا يمكن تحليلها بنفس الدقة العلمية. فكل إنسان هو في الحقيقة كيان قائم بنفسه، ومن هنا كان تطبيق الأطر السلوكية المستقاة من بعض الحالات الفردية على الإنسان عامة أحد الأسباب لتدهور الإنسانية في زماننا، فلتعدد المتغيرات في الإنسان الواحد وصعوبة تنبيت أي منها في كل الحالات، يجعل التعميم خطيرا وخاطئا، ويؤكد على أن التباين بين بني البشر لا يمكن ضبطه إلا بعقيدة سليمة تحكم الإنسان من الداخل وتوقظ ضميره، وتنظم سلوكه، كما لا يستطيع أي قانون وضعي أن ينظمه.

هذا بالإضافة إلى أن التحليل النفسي الذي يفتقر إلى فهم حقيقة الإنسان ووضعه في الكون ورسالته فيه لا بد أن يأتي تحليلا ناقصا. لأنه سيقتصر على قليل من الخصائص الجسدية التي لا تعكس إلا قدرا ضئيلا من طبيعة الإنسان، ومن ثم تأتي جزئية متباينة وغير سليمة، وهذا لا يعنيك أننا نقلل من قيمة علم النفس التربوي ومنجزاته كوسيلة رائعة من وسائل العمليات التعليمية ولكنا نحذر من تعميم استنتاجه واستخدامها خارج الإطار الطبيعي لوضع الإنسان في الكون، ولكن كيف يمكن فهم وضع الإنسان في الكون؟ هذا هو السؤال.

(هـ) فقدان التربية الأخلاقية كأساس للأزمة:

يوصف التعليم المعاصر بأنه خلو من الأخلاق والقيم، وفي ذلك تعارض واضح مع فطرة الإنسان الواقعة “أنه مخلوق أخلاقي”، ودعوة  إلى انتشار التحلل وفقدان القيم مع انتشار التعليم.

ففي هذه الأيام نجد القيم الأخلاقية اللازمة لحياة كريمة للإنسان قد أصبحت مفقودة بالكامل تقريبا، كذلك فإن القيم الاجتماعية والتي يجب أن تحكم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وبالمجتمع الذي يحيا فيه قد أخرجت عن إطارها الأخلاقي لتبقي ألفاظا تنطقها الشفاه، يساء فهمها وتسخيرها لخدمة الأنانية الإنسانية والطمع الشخصي، ويعبر عن ذلك شتراوس (في فلتشر 1962م) بقوله: “لقد حلت المسئولية محل الشعور بالواجب والضمير والفضيلة. فقد أصبحت الأمانة هي أفضل الوسائل إلى حياة مريحة وإلى الحفاظ على الذات، وعلى ذلك فقد أخذت الفضيلة تتضاءل في معناها حتى كادت هذه الكلمة أن تضيع من قاموس الناس. ولم تعد هناك حاجة لتحول أصيل من الحالة اللاأخلاقية، التي لا تهتم إلا بالأمور المادية في هذا العالم إلى الاهتمام بالروح، بل كان الاهتمام كله بعملية الانتقال المحسوبة للمصلحة الذاتية من حالة عدم الاستنارة إلى الاستنارة”، وما يسمى بالاستنارة في الجري وراء المصلحة الذاتية، هو نوع من المهارة غير المنضبطة بالأخلاقيات حولت الإنسان إلى كيان أكثر أنانية، وتركيزا على الذات، وأكثر طمعا وجشعا، كيان يركز على المردود المادي للحياة، ويتجاهل القيم الأخلاقية، كيان فقد كل إحساس بأبسط الفضائل، وأصبح يحيا حياة وحشية في ظل إطار زائف من المدنية.

وفي ذلك أيضا كتب أندروود (في فلتشر 1962م) “أن فيليب جاكوبس” في دراسة عنوانها (تغير القيم في الكليات) يرسم صورة بشعة لفقدان الغيرة الأخلاقية والتقيد بها في العلاقات العامة بين الطلاب “ويضيف” أن توقعاته الشخصية توحي بظهور أخلاقيات الواجب الأدبي التي تؤكد على طيبة القلب، وتدعو إلى أن يعيش المرء بمبادئه الشخصية، وتهمل الحسابات المنطقية لنتائج تصرفاته ولا تحد التصرف الشخصي إلا بقيود المجتمع، والفشل المأساوي للإنسان في تحقيق ما يصلح من شأنه، وقد أدى ذلك إلى فقدان الثقة وانعدام القيم المحددة في مجتمع هو بذاته ملئ بالشكوك، مما جعل الطلاب يعيشون في أزمة من فقدان الثقة بالنفس ومحاولة البحث عن هوية لهم.

وفي نفس الموضوع كتب ميليت (في فلتشر 1962) “أن الغش في الامتحانات بين طلبة الكليات قد أصبح عارا قوميا. والدليل على عدم استهجان الطلاب له هو الشعار المطروح: -“إذا تمكنت من الغش فلا تتردد”- والذي أصبح شيئا معروفا لكل من الإداريين وأعضاء هيئة التدريس في الكليات والجامعات منذ سنوات عديدة. ولا يمكنني أن أعدد كل حسنات وسيئات نظام التعليم الحالي في إطاره الثقافي. فإن أكثر ما أستطيع أن أفعله هو أن أحدد بعض الاعتبارات التي لها دلالة هامة –على ما أعتقد- في اهتمامنا الحالي بالأمانة والاستقامة في الحياة الشخصية لأمتنا، “ويضيف”: في الماضي سارت الفضيلة والأخلاق يدا بيد مع التعليم، أما اليوم فقد أسقطت الفضيلة والأخلاق، وانحصر التعليم تقريبا في استيعاب تراث الإنسان الثقافي والقيام بمسح مدى ومجال معرفته”.

وقد انعكست آثار ذلك في انعدام الإنسانية بين الناس على مختلف المستويات (الفردية والاجتماعية والقومية والدولية) والذي أصبح سمة من مهمات عصرنا خاصة فيما يسمى بالدول المتطورة وبين ما يفترض فيهم أنهم متعلمون.

ولو أن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان أمر قد سجله التاريخ، إلا أن قسوته الحالية قد فاقت كل الحدود، وذلك لأنها مدعمة برصيد هائل من العلوم البحتة والتطبيقية وبقدرات تقنية مدمرة. وفي ذلك كتب كد (في فلتشر 1962م) “إن عدونا الحقيقي هو الضعف في نفوسنا، في نفس الإنسان المعاصر الذي يتمتع بمهارات هائلة وبغفلة عظيمة، وربما عبر هذا الضعف فينا عن كراهية عميقة في نفوسنا للحياة نظرا للانفجارات التي يمكن تخيلها وزحف الرعب الإشعاعي علينا والذي يتزايد مخزونه كل يوم منتظرا من يضغط على الزر”.

هذا واحد من النواتج الحزينة لتبني نظم التعليم المعاصر فكرة الاستمرار بالعملية التعليمية (وبالتالي المجتمعات) دون تقيد بالمبادئ الأخلاقية، مما أدى إلى تفاقم مشكلة التحلل الأخلاقي يوما بعد يوم، وهذا التحلل الأخلاقي الذي أخذ يجتاح العالم ويتغلغل في المجتمعات على تباين مستوياتها، واختلاف طبقاتها، وتعدد مجالات نشاطها، هذا التحلل الأخلاقي يقف من وراء أزمة التعليم المعاصر في العالم إن لم يكن من وراء الأزمات الاقتصادية والسياسية والعسكرية وأزمات الغذاء والطاقة وغيرها من الأزمات العالمية.

ومن هنا فإن الصيحة الآن هي من أجل تعليم أخلاقي لأن التعليم لا يمكن أن يكون كاملا دون أخلاق، ولكن التساؤل الذي يطرح هنا هو أي أخلاق؟ هل هي أخلاق المصلحة، والقيم المادية التي ابتدعها الإنسان لتتلاءم مع أنانيته الشخصية وتطلعاته المادية العاجلة؟ أم هي الوفاء لقيم مشتركة أساسها الخير العام، والعقلية المتفتحة المتسامحة، وجمال الهيئة والنطق، وغيرها من القيم الأخلاقية التي تطلق الإنسان من عقال أنانيته وأطماعه الشخصية، وتجعله يرى الأمور في إطارها الصحيح؟ لكن هل يستطيع الإنسان بكل قصوره وعجزه وقدراته المحدودة أن يؤسس لنفسه مثل هذه القيم السامية؟ أم أنه محتاج في كل ذلك إلى إرشاد رباني؟ وإذا كان هذا الإرشاد الرباني موجودا بين أيدي الناس فما هو السر في انصراف الناس عنه، ومجافاتهم لنهجه حتى وصلت المجتمعات والأفراد إلى هذا القدر من التحلل الأخلاقي؟

يعتقد عدد من التربويين أن التحلل الأخلاقي في زماننا يرجع إلى سيطرة العلوم التجريبية والتقنية على العملية التعليمية بصفة عامة فمنذ مطلع هذا القرن تربعت العلوم التجريبية على عرش المعارف الإنسانية وذلك لأنها قد أدت إلى شيء من النجاح المادي، والقوة، والانتصار على الأمراض، وكشف جزء من المجهول مما أدى إلى الافتتان بمنطقها ومنهجها الذي يطالب بالعقلية المتفتحة التي لها قدرة على التصور وطاقة على التساؤل، وعلى اختبار الأفكار بالتجربة فإن لم تصمد لذلك سقطت، ومن هنا صار العلم التجريبي لا يتقبل المطلق من الأمور، ولا المعتقدات القديمة ولا الأفكار الثابتة التي لا تتغير. وفي هذا الوقت كان يسيطر على الكنيسة في أوروبا ورجال ليست لهم خلفية علمية أو فهم بمنطق المنهج التجريبي فاصطدموا برجال العلم التجريبي في معركة مريرة من الكراهية والحقد انتهت بانتصار العلم التجريبي وانهيار الكنيسة ومعها الارتباطات الأخلاقية.

ولم يكن الخطأ خطأ رجال العلم التجريبي وحدهم، بل كانت مساهمة رجال الكنيسة في ذلك أكبر فقد انشغلوا بالصراع على السلطة ضد بعضهم البعض أكثر من انشغالهم بالدعوة إلى الله، وبالتأكيد على أن الإنسان كائن أخلاقي بالفطرة، أما رجال التعليم التجريبي فكانوا يعتقدون في التقدم والتغيير المستمر بينما كان رجال الكنيسة جامدين لا يتغيرون، ولما كان العلم التجريبي قد أسس على نظرية المنفعة المادية (البراجماتية أو الفلسفة العملية التي تقوم على اختيار صحة المفاهيم بواسطة نتائج تطبيقاتها العملية فقط)، ومن ثم حصر نفسه في إطار المادة مهملا ومتناسيا جانب الروح وعالم الغيب، فإن منطقه قد اقتصر على الجانب المادي الذي لا يسمح بأي قدر من الأحكام الأخلاقية سواء كان ذلك في تحديد واجب الإنسان الشخصي تجاه نفسه أو تجاه مجتمعه.

وعلى ذلك فقد ادعى بعض المشتغلين بالعلوم أن المنطق العلمي يتطلب موضوعية لا تسمح بالأحكام الأخلاقية في مجال الواجب الشخصي والأهداف العامة، وهذه الموضوعية بدلا من أن تعني حالة خاصة تسود فترة البحث في مرحلة محددة، أصبحت عند كثير من العلماء والطلاب تعني فلسفة ثابتة أو حالة ذهنية، تلغي الأخلاقية والتقيد بها في القضايا العامة. فالعلماء قد دعوا إلى تصفية الحياة الثقافية من كل تحيز مقصود، وأية رائحة للدفاع عن الثقافة، وأي اعتبار للأخلاق، وذلك لأن المنطق العلمي كما يدعون يتوجه إلى ثقافة تتخطى القيم اسمها الحقيقي، وأن ولاء المشتغل بالعلوم يجب أن يكون بالدرجة الأولى إلى مجتمع علمي هو بالنسبة له شيء فوق القوميات، وقد أدى ذلك إلى أن الإنسان قد عبد العلم التجريبي تقريبا، متجاهلا أن العلوم التجريبية لا يمكن أن تضيء كل جوانب الحياة الإنسانية ولا أن تقود سلوك الإنسان، وذلك لأن وسائل العلم التجريبي هي حواس الإنسان وعقله التي ثبت أنها محدودة، وأن الإنسان في تحليله العلمي محدود بنسبية مكانه (على كوكب الأرض)، وزمانه (عمره).

هذه الحدود تؤكد على أن العلوم التجريبية لا يمكنها أن تدور في دائرة عالم الشهادة الذي يمكن للإنسان أن يحس ما فيه، وأن يعقله بعقله وذلك أيضا في حدود إمكانيات حسه ونسبية زمانه ومكانه.

ويتمثل قصور العلم التجريبي بفشله في مواجهة التحديات الأخلاقية، فإن الادعاء الخاطئ “بأنه لا توجد حدود أخلاقية تقف في سبيل البحث العلمي” قد أفسد رسالة العلم النبيلة وأدى إلى قدر هائل من شقاء الإنسان ومعاناته، ومن جهة أخرى فإن العلوم التجريبية لم تستطع أن تقف في وجه صور الظلم الاجتماعي المختلفة أو القوى الدكتاتورية المتسلطة في مختلف جنبات الأرض وذلك بدعوى أن الانتصار للحق وكبح جماح القوى السياسية هو في الحقيقة التزام أخلاقي لا يمكن أن يقنن بواسطة المنهج العلمي التجريبي الذي جرد نفسه من أية قيم أخلاقية، ولا يمكن للإنسان أن يجابه التحدي الأخلاقي في عصرنا الحاضر إذا استمر في البحث عن مبررات تجريبية للقيم، فخلال القرن الحالي ساد الاعتقاد الخاطئ: أنه لا سبيل لتقنين القيم الأخلاقية علميا بمعنى أن العلوم التجريبية ومنهجها لا تستطيع التمييز بين الخير والشر، وعلى ذلك فإن المجتمعات المعاصرة قد تركت نهبا لموجة من التحلل الأخلاقي الذي افتقر فيه كل من الفرد والمجتمع إلى قيم عليا تحكمها، وفي محاولة للتوفيق لجأ بعض رجال الكنيسة إلى تحويل الضرورات الأخلاقية إلى ضرورات ثقافية، فاختلط التعصب الديني مع التعصب لأوضاع اجتماعية معينة، وبدت القوانين الأخلاقيات كعقبات أمام عملية التغيير الاجتماعي، ونشب الصراع بين المجتمع وقيمه، وفي هذا الصراع سقطت القوانين الأخلاقية وهجرت الأديان من قبل المنادين بضرورة التغيير الاجتماعي. وفي ذلك كتب كنيث أندروود (في فلتشر 1962): “أن الصيحة في العالم اليوم من أجل قيادة عامة عظيمة، مدركة للأهداف القومية، تصدر بإلحاح شديد عن يأسنا من إصلاح هذا الضعف الذي يتخلل المجتمع الأمريكي نتيجة لسيادة نسبية المعارف، فطبيعة تلك النظرية تؤكد أننا لم نعد واثقين من قدرتنا على الاتصال بالقيم المجردة وبالصدق المجرد عن طريق عقولنا وضمائرنا، وبالتالي فنحن لا نستطيع أن نقرر: ما هو الصواب لنفعله وسط التعقيدات والتغيرات السريعة في حياتنا المعاصرة، هذه النسبية في علاقات الأشياء قد هزت ثقة الناس في أن معتقداتهم الشخصية يمكن أن تهبهم بصيرة يسترشدون بها في حل المشاكل المتجسدة في مجتمعاتنا، وحتى العلماء أصبحوا يستشعرون أن حقائقهم العلمية قد طورت بدقة ليست صالحة لإصدار حكم أخلاقي”. وهذا يوضح بجلاء حاجة الإنسان إلى علم أكبر من علمه في حل مشاكله ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا عن طريق رسالة سماوية تأتي من خالق الكون والإنسان الذي هو أدرى بمن خلق.

كذلك فقد أدى تفتيت المعارف الإنسانية إلى انفصام واضح بين العلوم والفلسفة لدرجة أنه قد أصبح مقبولا اليوم أن لا يكون الفيلسوف بالضرورة عالما ولا العالم فيلسوفا، ولم يبق يربط العلم بالفلسفة إلا تعبير “دكتوراه الفلسفة” كتذكار للصلة الطيبة بين هذين المجالين من مجالات المعرفة الإنسانية في الماضي، كذلك فقد أصبح من محض المصادفة أن يكون العالم التجريبي (مهما كان مبدعا في تخصصه) متصفا بشيء من الحكمة، ولكن على الرغم من ذلك هيئ الناس نفسيا للسجود للعلم والركوع لاستنتاجاته على الرغم من تغيرها مع الزمن. وبافتقاد العلم للحكمة شاع بين المشتغلين فيه ادعاء بالشرك والإنكار والحيرة والخوف والمناداة بالشعار الخاطئ: بأن العلم لا يتقيد بالأخلاق ولا بالقيم بل يقف منهما موقفا متعادلا، وهذا مناقض لفطرة الأشياء: حيث أن العلماء التجريبيين هم أولى الناس بخشية الله. لأنهم أكثر الناس اطلاعا على إعجازه في خلقه… فالعالم التجريبي يشتغل بالبحث ليتعرف على طبائع الأشياء وخصائص المادة وأنماطها وسلوك المخلوقات وحوافزهم …الخ في محاولة لتفهم صنع الله في نفسه وفيما حوله، وليكتشف نظاما رائعا في إبداعه حيثما وجه ناظريه في هذا الكون. ولكن على النقيض من ذلك فقد فقد البحث العلمي أهم عناصره وهي: التجرد والتأمل والعالمية بالرغبة في الوصول إلى الحقيقة وأصبح يتكيف بالمكاسب المادية أكثر من تكيفه. وفي ذلك يقول جونز (في فلتشر 1962): “أن التقدم في أبحاث الطب عادة ما يرتبط بالا تجاربه، وفي مجال الرياضيات يلاحظ المرء بدهشة أن ابتداء نظريات الاحتمالات التي تعتمد عليها الحسابات المعاصرة قد وجدت في مجال المراهنات. فالبحث وضيع في أصله تماما كما أن اكتشافات باستير قد حفزتها أرباح تجار الخمور الفرنسيين. وأنا لا أنكر روعة النتائج على المدى الطويل ولا أقول أن كل البحوث العلمية تبدأ وضيعة ولكني ألاحظ فقط أن الأبحاث عادة ما تتكيف بالأهداف التي تحقق أكبر عائد ممكن أكثر من تكيفها بالتأمل، وربما كان من أوضع الحوافز في البحث العلمي نظرية (أنشر أو أهلك) التي أصبحت سائدة في جامعات المفروض فيها أنها موهوبة للفكر المجرد”.

(و) فقدان التربية الدينية وتخلي المجتمعات المعاصرة عن الدين كأساس للأزمة:

يعتقد بعض التربويين أن من الأسباب الرئيسية لأزمة التعليم المعاصر فقدانه للتربية الدينية، وتخلي المجتمعات المعاصرة –بصفة عامة- عن الدين، وليس ثابتا إن كان تباعد النظم التعليمية أو أن العكس هو الصحيح، إلا أن السمة الغالبة على التعليم المعاصر هي أنه تعليم لا ديني (علماني)، لا يؤمن إلا بالمدرك المحسوس فقط، وينكر أو يهمل كل ما هو غيبي، ولذلك فقد دار بالعملية التربوية، وبمعالجاته للعمليات البشرية الأخرى، بل بالمعارف الإنسانية (التي يقوم على نقلها من جيل إلى جيل) في حدود الأطر المادية للأشياء فقط. وهذه –على خطورتها- لا تشكل إلا جزءا يسيرا من الحقيقة الكلية، ومن هنا أتت المعارف المتداولة في معاهد العلم قاصرة منقوصة وأتت العملية التعليمية عاجزة عن القيام بدورها التربوي، وذلك لأن دورانها في الأطر المادية الضيقة جعلها تقصر اهتمامها على هذه الحياة الفانية، وتنسى أو تتناسى أن من ورائها حياة أخرى خالدة، وأرغمها على الجري وراء المكاسب المادية، وتجاهل الحقيقة الواقعة: أن المادة في حياة الناس وسيلة وليست غاية، وأن هذه الوسيلة لا يمكن لها وحدها أن تحقق للإنسان أي قدر من السعادة‍‍ ودفعها إلى وضع أطر لضبط السلوك الإنساني ولكنه تغافل عن أن الإنسان مخلوق عاقل ذو إرادة، وأن إرادته إذا لم يحكمها من الداخل ضمير حي، فلا سبيل لكل القوانين الوضعية التي تنظم سلوكها. وأن هذا الضمير إذا لم يؤمن بأن الإنسان محصية عليه أنفاسه وحركاته وسكناته، وأنه محاسب على كل عمل يعمله، وكل كلمة يتفوه بها، وكل علم يتعلمه، وكل مال يكسبه أو ينفقه: لا يمكن أن يكون ضميرا حيا يقيم من الإنسان على نفسه رقيبا، وأن هذا الضمير ينمو مع الإنسان، فإذا لم يتعهد من الصغر بوسائل إحيائه فإنه يموت، وإذا مات: مات صاحبه، ولو عاش لعشرات السنين من بعده، ووسائل إحيائه وإحياء الإنسان عامة تتلخص في التربية الصالحة القائمة على الإيمان بالله وحسن عبادته، ومعرفة الحق والتواصي به، وممارسة العمل الصالح والتعاون عليه، والتعود على الخلق القويم والالتزام بقيمه. وأن التربية الصالحة تحتاج إلى العلم الكامل الذي يدعمه الإيمان، وإلى الإيمان الشامل الذي يصدقه العمل، وإلى العمل الصالح الدءوب المنظم الذي يحيطه الخلق القويم.. وأن غرس ذلك كله في نفوس الناشئة يحتاج إلى القدوة الحسنة الملتزمة، والتي بدونها لا يمكن أن تتم التربية…

ولما كانت النظم التعليمية المعاصرة –في غالبيتها- تفتقر إلى كل ذلك: فإنها لم تعد تربية بالمعنى المحدد للكلمة، بل أضحت وسيلة لنقل المعلومات والتدريب على قدر من المهارات. وهذا هو السر في أن الأنانية والمبالغة في الإحساس بالذات، والتردد والخوف من الارتباط بأية قيم أخلاقية أو دينية قد أصبح من سمات المعاهد التعليمية المعاصرة، وهذا هو سر أزمة التعليم التي نواجهها، إن لم يكن السبب المباشر لكل الأزمات التي يعيشها إنسان اليوم. فمن البديهي أن التعليم يجب أن يضئ حياة الإنسان، وذلك بتعريفه بنفسه، وبحقيقة وضعه في هذا الكون والغاية من وجوده فيه، وعلاقته به وبكل من فيه، وبتفاصيل رسالته وكيف يستطيع القيام بها أثناء حياته، ثم مصيره من بعد تلك الحياة، كما يجب أن ينظم التعليم حياة الإنسان بتعويده على قبول القيم الأخلاقية الفردية والجماعية –لا في إطار أسرته والمجتمع الذي يحيا فيه فحسب، بل على اتساع الإنسانية كلها، والناس على تعدد ألوانهم وأشكالهم وأفكارهم ومعتقداتهم ومواطنهم- وذلك لتمكينه من مواجهة مصاعب الحياة، ومشاكل الوجود الإنساني ذاته، والتصرف على أسس الخير والصلاح فيه، وهذه أمور لا يمكن للعقل البشري وحده أن يحيط بها، أو أن يقنن لها، بل هو محتاج في كل ذلك إلى علم أكبر من علمه، وإدراك أشمل من إدراكه، وقدرة فوق قدرات عقله وحسه. وهنا تبرز حاجة الإنسان إلى رسالة السماء، ويتضح مدى الضرر الذي أصاب المجتمعات الإنسانية بصفة عامة، ومراكز التربية بصفة خاصة نتيجة لتخليها عن الدين، وتحللها من الارتباط بنهجه وقيمه وأخلاقياته.

وهنا أيضا يكمن السر في بروز الدعوة إلى العودة للتربية الدينية من جديد على الرغم من انقسام رجال التعليم بين مؤيد ومعارض، فمنهم من تؤرقه موجة التحلل الديني والأخلاقي التي تجتاح عالم اليوم، والأخطار الرهيبة التي تتهدده من وراء ذلك، وحالات البؤس واليأس والشقاء والضياع التي تطبق على مختلف مجتمعاته، فيؤمن –عن تجربة- بعجز التعليم اللاديني عن القيام بالدور اللازم لبناء الإنسان، وهؤلاء كثيرون نختار منهم شتراوس الذي كتب (في فلتشر 1962م) ما ترجمته: “….يبدو أن المحن التي نعيشها اليوم ترجع إلى تحلل التعليم الديني عند الناس، وإلى فساد التعليم الأدبي عند المسئولين عن الناس” ويضيف: “أليس اهتمامنا بالتعليم الحر للبالغين، وعقد آمالنا على مثل تلك الدراسات الإنسانية قد سببه الصراع الناتج عن تحلل التعليم الديني؟ وهل تلك الدراسات النظرية قد قصدت لتلعب الدور الذي قامت به الدراسات الدينية في الماضي؟ وهل تستطيع تلك الدراسات أن تقوم بمثل هذا الدور”؟

ومن التربويين من يرى أن التعليم في أوروبا كان في بادئ الأمر بيد الكنيسة وتحت هيمنتها، ولم يستطع هذا “التعليم الكنسي” أن يحقق للإنسانية سعادتها المنشودة، ولا للعلم حريته وانطلاقه، بل وقف حجر عثرة في سبيل أي تقدم، وسجن العقل البشري وأعاق إبداعه، وقاوم البحث العلمي التجريبي واضطهد علماؤه، وساند حكم الطغاة والجبابرة والمفسدين في الأرض، واستغل الناس واستخف بعقولهم، وأصدر صكوك الغفران، ونصر الباطل على الحق، وأعان الظالم على المظلوم، وأهدر الأرواح، وسفك الدماء وأشعل الحروب. وبإيجاز شديد فشل هذا “التعليم الكنسي” في تخريج الإنسان المثقف الذي يفهم حقيقة دوره في الحياة، فانتقلت مسئولية التعليم من الكنيسة إلى الحاكم، وكان ذلك بداية التعليم العلماني اللاديني والذي تبدل القساوسة والكهان فيه بالسلطات السياسية والعسكرية والصناعية والاقتصادية. والتي تمثل القوى المتحكمة فعلا في التعليم المعاصر.

وهنا يبرز تساؤلان هامان هما:

– إذا كان التعليم الكنسي قد فشل في الاستمرار بالعملية التعليمية داخل إطارها الصحيح فهل يعني ذلك فشل التعليم الديني؟

– وما هو المقصود بالتعليم الديني؟

هل فشل التعليم الديني في رسالته؟

يعرف الدين عادة بأنه مجموعة من العقائد والعبادات التي يؤمن بها ويمارسها نفر من الناس، لهم فلسفتهم الخاصة في الحياة والتي غالبا ما تنطلق من نظرة عقائدهم إلى الإنسان والكون والحياة.

أما الدين بمعناه القرآني فهو النظام السماوي الشامل لحياة البشر كافة (عقيدة وأخلاقا وعبادات ومعاملات) أفرادا ومجتمعات، وشعوبا وأمما وعوالم، في مختلف العصور، وعلى مر الزمن: “إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب” (آل عمران، آية 19).

وهذا شمول يعجز البشر قاطبة عن الإحاطة به، لأن نظام الحياة الشامل، الصالح لكل زمان ومكان، لا يمكن أن يكون إلا من صنع الخالق العظيم، الذي لا تحده حدود الزمان والمكان، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي وسع كل شيء علما….!! وعلى ذلك، فلا يمكن لنظام من نظم العقائد والعبادات، أو المذهبية والمثاليات أن يسمى دينا إلا إذا كان من صنع الخالق سبحانه وتعالى، خاليا من أي عبث إنساني مهما تضاءل. كذلك لا يجوز للناس أن يدينوا لنظام من وضع البشر… حتى لو اختلط برسالة من رسالات السماء، لأن العمل البشري بطبيعته مقتسم بالقصور والنقص والتناقض والبعد عن الكمال –مهما تسامى، ومهما تضافرت من أجله الجهود- وعلى ذلك فإنه إذا اختلط برسالة سماوية أخرجها عن إطارها القدسي، وهبط بها إلى مستوى الأعمال البشرية، فلم تعد تصلح دينا، ومن ثم لا يجوز إطلاق اسم الدين عليها.

“ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” (آل عمران، آية 85)

وهذا الدين السماوي الذي يعرفه القرآن الكريم لنا باسم “الإسلام” قد أرسل به عدد من الرسل، ابتداء بآدم عليه السلام الذي علمه ربه، “وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم” (البقرة، آية 31، 32)، وانتهاء بمحمد عليه الصلاة والسلام الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وجعله خاتما للأنبياء والمرسلين.

فمنذ اللحظة التي خلق فيها آدم عليه السلام علمه الله سبحانه وتعالى أن الإسلام هو النظام الرباني الشامل للحياة، وعلى آدم من شهد من بنيه وأحفاده هذا الدين القيم، فعاشوا به فترة من الزمن، ثم انحرفت سلالتهم عنه وخرجت عليه، وساءت بهم الأحوال حتى أصبحت الحاجة ملحة إلى رسالة السماء، فأتت برحمة الله نورا وهداية من ذات المصدر الرباني، وعلى نفس النهج الإسلامي، وتكررت الصورة، وتكرر الأنبياء والمرسلون يحملون نفس الرسالة إلى البشرية في مختلف الأماكن والعصور، “إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا” (المائدة آية 44) حتى تكاملت في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم التي دعا إليه الناس كافة.

ولقد قاوم الضعف البشري تلك الرسالة السماوية بالوقوف في وجهها ورفضها تارة، وبقبولها ثم الانصراف عنها بعد أن يرفع حاملها إلى ربه تارة أخرى، وبإفسادها العمل البشري الذي يدخلونه عليها حتى يخرجوها من إطارها الرباني تارة ثالثة، وبذلك تتحول رسالة السماء إلى اجتهاد بشري صرف، فتفقد نورها الرباني، وكمالها وشمولها وقدسيتها، وبالتالي تفشل في حكم الناس وتربيتهم، وفي تنظيم شئونهم والفصل في أمورهم، فيكون ذلك مدعاة لخروجهم عليها والكفر بكل معطياتها وبالتالي خروج الناس من عبودية الله الواحد القهار إلى عبودية نفر منهم، وتتردى بهم الأوضاع حتى تصبح الحاجة ماسة إلى رسالة أخرى، فيمن الله سبحانه وتعالى على البشرية برسول يحمل نفس الرسالة، ويدعو الناس إلى الإسلام من جديد.

ولقد ظل الحال كذلك: الإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية حتى قيض الله تعالى لها خاتم الرسل والنبيين، الذي تكامل الإسلام في رسالته. رسالة السماء إلى الأرض، وتعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ تلك الرسالة فقد حفظت: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (الحجر، آية 9). انطلاقا من ذلك فإن ما يسمى باسم “الأديان السماوية اليوم –فيما عدا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم- ما هي إلا مذهبيات وضعية اختلط فيها الإسلام الصافي (كما نزلت به الرسالات السماوية السابقة) بكثير من الفكري البشري، والفلسفات الوضعية، فانحرفت عن النهج الرباني وفقدت هداه، ومالت عن الصراط المستقيم وتفرقت خطاها عنه!!! ولا غرابة في ذلك، فأصول كتبها السماوية قد فقدت، ولم يبق بين أيدي الناس منها إلا صور ممسوحة، مشوهة لها، ومحرفة عنها، وبلغات تختلف كلية عن اللغة الأصلية التي نزلت بها، فانصرف عنها الناس، وبانصرافهم عنها تخلوا عن فكرة الدين بصفة عامة، ولكن لما كان الإنسان مخلوقا متدينا بالفطرة: فقد لجأ نفر من المفكرين إلى تأسيس عدد من المذهبيات الوضعية التي قامت كلها على أساس من الفكر البشري الخالي من الدين، أو المتجاهل له، مثل الشيوعية، والرأسمالية، والاشتراكية، والنازية، والفاشستية وغيرها. مما أشقى الناس وأتعسهم، وأوصلهم إلى ما هم فيه من حيرة وضياع وضلال!!!.

ومن سوء حظ الإنسانية في هذا العصر أن العالم الإسلامي كان قد تعرض إلى شيء من التمزق في القرنين الأخيرين بصفة عامة ولقد أدى ذلك التمزق إلى الهزيمة العسكرية ووقوع معظم العالم الإسلامي في قبضة دول استعمارية لا دينية، حاولت طمس معالم الإسلام، وإبعاد المسلمين عن دينهم الصحيح وذلك بالهجوم المباشر وغير المباشر، ثم بمحاولات حصر فكرهم في زاوية محددة من زوايا الدين (مثل العبادات فقط أو التصوف)، أو بالدس عليهم تحت شعارات مشركة مزيفة، تدعي لنفسها صلة بالإسلام (مثل القاديانية والبهائية وغيرهما)، أو بالتشكيك عن طريق الفلسفات المادية والوضعية المنحرفة (كالعمل على نشر الشيوعية أو الوجودية بين الناس)، ثم بتأسيس نظم التعليم والاقتصاد والسياسة والتشريع والاجتماع على أساس من المفاهيم اللادينية المنكرة، وبخلق عداوات مفتعلة بين نظم الحكم التي نصبتها القوى المستعمرة وبين المنادين بتطبيق الإسلام نظاما شاملا للحياة، وتحكيمه في كل أمر من أمورهم، مما ساعد على إقصاء الإسلام في دوله عن كل شيء إلا عن قلوب الناس.

أما المعتقدات التي اختلطت فيها رسالة السماء مع الفلسفات الوضعية والتزيد البشري الذي أخرجهما عن إطارها الصحيح فمنها ما صاغه كل من أتباع موسى وعيسى عليهما السلام تحت اسم اليهودية والمسيحية على التوالي، والأولى تقوقعت في عقيدة مغلقة قائمة على العنصرية البغيضة، والكراهية لكل الناس والحقد عليهم جميعا، واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، واعتبار ذلك تعبدا وقربى إلى الله، واندفعت بذلك كله لتجعل من اغتصاب أرض فلسطين بالقوة، وتشتيت أهله باستخدام كل الوسائل الهمجية واللا إنسانية، قضية دينية، ومشكلة أراقت في سبيلها بحار الدماء وأزهقت مئات الآلاف من الأرواح، وكانت ولا تزال تهدد العالم كله بالحرب والدمار. أما الثانية فقد قصرت دورها على الرهبانية والكهنوت، والأغاني والموسيقى، والترانيم والمواعظ، ونسيت قضايا الناس الملحة، فهجرها معظم أتباعها، وتبنوا مذهبيات وضعية (مثل الشيوعية، الاشتراكية، الرأسمالية….الخ) بعيدة كل البعد عن فلسفة المسيحية ومثاليتها، مما ساعد على تجاهلها واستمرار ابتعاد الناس عنها.

أما معتقدات جنوب شرق آسيا المتعددة (مثل الهندوكية، والكونفوشيوسية، والبوذية، والشنتووية، والطاوية، والزرادشتية وغيرها) فقد انعزلت في أطر جاهلية بعيدة عن واقع الحياة، ولسنا نعلم إن كانت ديانات جنوب شرقي آسيا (كلها أو بعضها) في الأصل ديانات سماوية انحرفت عن خطها الرباني أم أنها اجتهادات فرضية محضة مبنية على ما تجمع لدى واضعيها من حكمة وأخلاق إلا أنها قد أثبتت فشلها في إدارة أمور أتباعها فانعزلت عن حياتهم التي أقاموها على أسس من الفلسفات والنظم الوضعية… ومن هنا بدأ الناس في الانصراف عنها، والانفضاض من حولها.

كذلك لا يزال في كثير من الأماكن المنعزلة بعض العقائد الوثنية البدائية الجاهلة. وهذه تتناقص بتقدم مجتمعاتها. واتصالها بالعالم المتحضر.

هذا التحليل يلخص موقف العالم من الدين في النقاط التالية:

(1) فرضت على معظم دول العالم الإسلامي قيادات علمانية لا دينية، تحكم بغير الإسلام، وتعادي المنادين به نظاما شاملا للحياة، وتضطهد كل المطالبين بتطبيقه وتحكيمه.

(2) تخلي أهل الكتاب من المسيحيين واليهود عن رسالاتهم السماوية (التي هي في حقيقتها الإسلام) واتبعوا خليطا من الفكر البشري الموضوع وبعض الحق المنزل إليهم. مما أدى إلى انصراف الناس عن الدين، وتبني نظم وضعية مغايرة لفكره، مناهضة لفلسفته وعقائده. وبالتالي انصراف الناس عن الدين عامة.

(3) تقوقع أصحاب معتقدات جنوب شرقي آسيا في أطر جاهلية بعيدة عن واقع الحياة، وبالتالي بقوا بعيدين عن مجتمعاتهم، وبدأت أفكارهم في الانقراض.

(4)   تفشت الدينية في مختلف المجتمعات المعاصرة إما عن جهل، أو فساد أو انقياد للشهوات.

ومن ذلك يتضح أن فشل التعليم الكنسي في الاستمرار بالعملية التعليمية لتحقيق أهدافها النبيلة لا يمكن أن ينسحب على التعليم الديني. فالدين عند الله الإسلام، والتربية الإسلامية قد أثبتت –بالتجربة- أنها أكمل النظم التربوية قاطبة، لأنها تتبع منهج الله الذي خلق الإنسان والكون والحياة، وهو سبحانه أدرى بمخلوقاته، وبطبائعهم وإمكانياتهم، وبالتالي أفضل الوسائل لتربيتهم. وقد تمكن المسلمون إلى عهد قريب من تأسيس نظم تعليمية إسلامية ناجحة استطاعت أن تربي أجيالا من الرجال أصحاب العقيدة السليمة، والإيمان الصادق، والأخلاق الحميدة، والسلوك النبيل، والعلم والمعرفة الحقة. وقد استطاع هؤلاء الرجال استيعاب كل المعارف السابقة عليهم وإعادة صياغتها من وجهة النظر الإسلامية، والإضافة إليها إضافات هائلة أصيلة في مختلف مجالات العلوم والفنون والآداب والقانون وعلوم الاجتماع والفلسفة، مما يعتبر المنطلق الحقيقي للنهضة العلمية والتقنية المعاصرة، والأساس الذي بني عليه الغرب حضارته المادية الحالية. كما استطاع نتاج التربية الإسلامية من الرجال والنساء تأسيس مجتمعات إنسانية (على مختلف المستويات من الأسرة إلى الدولة) قائمة على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وعلى العمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. وتمكنت التربية الإسلامية من تخريج رجال استطاعوا أن يقودوا العالم في مختلف مجالات الحياة، وأن يضربوا للناس المثل الحية في: كيف تكون القدوة الحسنة، وكيف يكون الإنسان الرباني جديرا بخلافة الله في الأرض.

وإذا أردنا أن نعيد للمجتمع الإنساني الحائر اليوم هداه، فإن علينا أن ندعو البشر كافة والمسلمين خاصة أن يعودوا إلى دين الله “إلى الإسلام” كما تكامل في القرآن الكريم وفي رسالة خاتم النبيين. فالقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم محفوظا بنفس النص واللغة التي أوحي بهما. دون أدنى تحريف أو تبديل أو تغيير. وإذا طلب الناس الهداية، فلا يمكن أن يجدوها في سواه. وذلك لأن الإنسان مهما اجتهد فليس في مقدوره أن يضع لنفسه نظاما للحياة، يتسم بالشمول والعدل والكمال كما وضعه الله سبحانه وتعالى.

ما هو المقصود بالتعليم الديني؟

هل المقصود بذلك أن يضاف إلى المنهج اللاديني المتبع في أغلب المعاهد التعليمية المعاصرة قليل من دروس الدين وتاريخه وفلسفته بزيادة أو نقصان تتباين من معهد إلى آخر ومن دولة إلى أخرى؟ قطعا لا، فما قيمة ذلك بجوار هذا الحشد الهائل من المعارف المنطلقة من تصور مادي بحت، منكر أو متجاهل لكل ما هو فوق المادة، في عصر فتن الناس فيه بالمعرفة الإنسانية -خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية- فتنة كبيرة؟

هذا التناقض بين المعارف الإنسانية التي صيغت صياغة مادية منكرة لا تؤمن بغير المحسوس المدرك وبين الدين، هو أحد الأسباب الرئيسية لتدهور التعليم في العالم بصفة عامة وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة.

وإذا أردنا للتعليم أن ينهض من هذه المحنة التي يعيشها فعلينا أن نعيد صياغة المعارف الإنسانية كلها من تصور إسلامي صحيح وبذلك نضفي على التعليم بعدا نفتقر إليه اليوم ونزيل هذا التناقض القائم بين دروس الدين وبين المعارف التي تعلم من تصور غير إيماني، وهذا في نظرنا هو ما يمكن أن يسمى بالتعليم الديني، أما أن يعلم الطفل شيئا من الدين وفي نفس الوقت تمتلئ كتبه بمفاهيم منكرة لذلك، أو متجاهلة له، فإنه سيعيش في حالة من التمزق الفكري قد تؤدي به في النهاية إلى الكفر بكل شيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: جميع الحقوق محفوظة لمجلة المسلم المعاصر