لقد كان هذا هو السؤال الذي طرحه الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية رئيس التحرير في تقديمه للعدد الأول من مجلة ” المسلم المعاصر”.
ونحن نجيب عليه أيضاً، كما أجاب سيادته بكلمة ” نعم”.
نعم نحن في حاجة إلى مجلة تلتقي عليها وحولها “جهود كل العاملين في حقل البعث الإسلامي” على مختلف المستويات الشعبية والفردية والجماعية، وفي مختلف الميادين الفكرية والاجتماعية والسياسية.
مجلة تنصهر فيها الأفكار والآراء لكي تخرج للناس سليمة مبرأة من الشوائب، صالة لمواجهة التحديات المعاصرة.
مجلة تحتك على صفحاتها الاتجاهات المختلفة وتتفاعل وتتبادل الأخذ والعطاء من أجل الوصول إلى قضايا مشتركة وحدود دنيا لا يتم التوصل إليها، أو بالمعنى القانوني لقدر متيقن ومشترك من الفهم والإدراك والتعاون المتبادل.
مجلة تستطيع أن تدفع الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي، والحركة الإسلامية إلى الأمام خطوة أو خطوات في الاتجاه السليم.
مجلة لكل المسلمين ولكل الفئات ولكل المذاهب التي تتطلع إلى البعث الإسلامي.
ومجلة تلك أهدافها وأغراضها، جديرة بأن تشق الصواب، وأن تتخطى العتبات إذا ما توافر القائمين عليها الإخلاص والتجرد، بأن يكون بحثهم واجتهادهم وسعيهم لله، والعقيدة، لا لدنيا ولا لمغنم، ولا لزعامة أو قيادة أو ريادة، ولا ليقال أنهم كتاب أو أنهم مثقفون أو أنهم طلائع، بل ليعرف عنهم أنهم خدام فكرة وأصحاب رسالة.
فإذا كان ذلك منهم هو الهدف والمقصد، فان الله قد ضمن لهم التوفيق والنصر، وضمن لكاراتهم التأثير والانتشار، “والله غالب على أمره ولو كره الكافرون”
ولقد عرضت المسجلة في عددها الأول لقضايا كثيرة طرحتها للحوار، من ذلك قضايا الفكر والعقل والتراث والاجتهاد والحركة والحرية والمصطلحات.
كما عرضت لرأي البعض من موقف الإسلام من اليمين واليسار ومن الديموقراطية وغيرها من المذاهب السياسية والاجتماعية.
ولقد كانت المجلة فعلا كما ذكر رئيس التحرير محاولة للتعبير عن تيار الحركة الإسلامية المعاصرة بما يحتويه من مدارس شتى.
ولقد كنت كغيري مشوقاً إلى تلقف هذه المجلة، باعتبارها تسد فراغا قائما في حقل الفكر والإنتاج الإسلامي، وقمت بقراءتها كلها في جلسة واحدة حرصا مني على متابعة موضوعاتها، وكنت أود أن تكون كلمتي لها مجرد نقد بناء لكل ما اشتملت عليه، إلا أنني أكتفي في هذه العجالة بالتعليق على بعض ما ورد بمقال الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية رئيس التحرير من تقديمه للمجلة، باعتبار أن كلمة التحرير ترسم خط السير الذي تسير عليه هذه الجلة والأسلوب الذي تسلكه.
فقد ذكر الدكتور جمال عطية أن المجلة “تهتم بعرض تراث الفكر الإسلامي عرضا جديدا ومقارنة أفكاره ومبادئه بالأفكار والمبادئ القانونية المعاصرة وتأصيل المبادئ القانونية الإسلامية وتنظيرها”.
ولعل الصنعة قد أثرت على الدكتور رئيس التحرير فركز على المبادئ القانونية المعاصرة والمبادئ الإسلامية باعتبار أن سيادته محام كبير، ودكتور في القانون. والقانون وإن كان هو صنعتي أيضاً إلا أنه ليس سوى أحد العلوم والقضايا التي نريد أن نعرضها على الإسلام باعتباره الأعمال الذي تدور حوله كل الجهود.
ولكأن الإسلام متهم في حاجة إلى الدفاع عنه أو هو متخلف في حاجة إلى رد تهمة التخلف عنه، بأن نضفي عليه من الألفاظ الحديثة والمستحدثة والمصطلحات المعاصرة ما يجدد شبابه.
وكأن العيب في الإسلام وليس في المسلمين الذين يطلق عليها تجاوزاً لفظ المسلمين، ولكأننا يجب أن نوائم بين الإسلام والمبادئ القانونية المعاصرة وأن نخلع على الإسلام أسماء النظريات الشائعة في هذا العصر حتى يكون مقبولا من الناس.
أو لكأن المبادئ الإسلامية ليست مؤصلة وهي تحتاج إلى تأصيل، فالإسلام ليس “ديموقراطية” ولا “دكتاتورية” وليس “اشتراكية ” ولا ” رأسمالية “، ولكن الإسلام هو الإسلام في حقيقته وجوهره، في أصوله ومعناه، في طبيعته ونظريته، وهو شريعة خالدة للناس جميعا، ولو كان غير ذلك ما كان صالحا لكل زمان ومكان، ولا تحقق فيه قوله تعالى : “أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون”.
ثم أردف رئيس التحرير : “…. ولا تكتفي بالبحث في ضرورة فتح باب الاجتهاد في فروع الفقه بل تتعداه إلى بحوث الاجتهاد في أصول الفقه “، كما ذكر أيضاً “وبذلك ترجو المجلة أن تسهم في إثراء الفكر الإسلامي بالدعوة إلى الاجتهاد الواعي الأصول والمنفتح على العصر”.
وأنا أنضم إلى الدكتور محمود أبو السعود في تعليقه حول هذه العبارات وهو التعليق المنشور بالعدد الأول من مجلة ” المسلم المعاصر” مكررا تساؤله حول مدى إمكانية الاجتهاد في ” أصول الفقه ” إذ المقرر أن أصول الفقه قطعية لا “ظنية” على حد تعبير الأصوليين.
والاجتهاد لم يكن قط كلمة تقال أو فتوى تطلق أو حكما يصادر في قضية، إنما هو قبل كل شيء علم واسع يصدر عن نفس شفافة قوية ملهمة موصوفة بالتقوى والورع محيطة بأمور الدين والدنيا.
ومن رحمة الله على هذه الأمة، أن علماءها حينما لم تتوافر فيهم شرائط الاجتهاد، وأحاطت بهم أجواء من الظلام والاستبداد والاختلال والتأخر، ردوا أنفسهم وحجبوا أنفسهم عن التعرض له، ومع توالي الأيام وتعاقب الأزمان خرج الشرع الإسلامي من حياة المسلمين شيئا فشيئا، حتى أصبح تراث تراخت صلته بحياتهم ينظر إليه على أنه قديم بال.
ومن حقنا أن نتردد في هذه الدعوة، وأن نقف حيالها خائفين، لا عن عدم اقتناع بصحة الأساسي الذي تقوم عليه بالنسبة “للاجتهاد في الفقه” مع التحفظ بالنسية “الاجتهاد في أصول الفقه”. ذلك أن الصور التي عشناها ونحياها في العالم الإسلامي المعاصر تجعل من يتصدرون لهذا الباب غير أهل لذلك، فلا هم تتوافر فيهم الشرائط المطلوبة من المجتهد، ولا الظروف التي تحيط بهم تجعلهم في مأمن من أن يدلوا برأيهم في حرية وصادق… وقد أمنوا لأنفسهم شرما قد يحيط بهم نتيجة اجتهادهم.
بل لعلنا نلاحظ في بعض الدول الإسلامية، أن علمائها – مع أننا نرى أن لإسلام لا يعرف الكهنوت – قد اجتمعوا لسنوات عدة ولم يستطيعوا أن يدلوا برأي في بعض القضايا المعاصرة والموضوعات المعروضة للبحث كموضوع التأمين والادخار وشهادات الاستثمار والفائدة وتحديد النسل وخلافه… وذلك إن لم يكن عن عجز – ولا نظنه – فهو من زلفى وقربى إلى حاكم أو سلطان أو نظام حكم لا يستند إلى الشرع الإسلامي.
بل لقد عجز هؤلاء العلماء أن يصلوا إلى تحديد لبعض هذه المشاكل وحسمها في مؤتمراتهم التي عقدت لسنوات متتالية.
فهل نأمن على الفقه الإسلامي وبالذات “أصول الفقه” أن نسلمه لهؤلاء العلماء لكي يجتهدوا فيه على النحو الذي يرضي العبد ولا يرضي رب العباد ؟؟ وهل تفتح لهؤلاء الأبواب، ونمكنهم من أصول ديننا وعقيدتنا، تحت ستار فتح “باب الاجتهاد”. وهل ننسى أن بعض علماء المسلمين في مصر كانوا يحتشدون في ليلة القدر كل عام في دار المندوب السامي البريطاني وقد لبس كل منهم بدلة التشريفة لكي يقدم لمندوب الاحتلال فروض الطاعة والولاء.
وهل ننسى أن بعض علماء المسلمين في مصر كانوا يحتشدون في الربع قرن الأخير لكي يدلوا بفتاوي وآراء حول أهم قضايا الإسلام والمسلمين لمصلحة الحاكم، سواء كان ملكا أو رئيسا.
وهل ننسي أن الظروف التي تحيط بالعلماء والمتصديين للفقه الإسلامي ما زالت كما هي، وأن حرية المفكر الإسلامي وحركته ما زالت محل بحث ومراقبة ونظر.
ولقد كان حرياً بالسادة المطالبين بفتح باب الاجتهاد في أصول الفقه أن يحددوا الموضوعات التي يرون أنها ضرورية لحياتهم المعاصرة وأنها تتعارض مع الأحكام الفقهية المستقرة.
أقول قولي هذا وأنا مؤمن بأن الإسلام قد تميز عن غيره بالوضوح في الأصول العامة ومبادئ الأخلاق السامية، وأنه ترك الكثير من الأمور للرأي والاجتهاد، وذلك إعمالاً للقاعدة الشرعية: (حيثما تكون المصلحة العامة والعدل، فثم شرع الله ودينه).
وأن ذلك لم يكن سببا لضعف شريعته، بل سببا لاستمرار الحياة والخلود لهذه الشريعة وعظمة الفقه فيها.
……………………
وبعـد …
أعود إلى ما ذكره الأستاذ رئيس التحرير في تقديمه للعدد الأول من أن هذه المجلة بطابعها الحر “إنما تسعى إلى تآزر جهود كل العاملين في حقل البعث الإسلامي”.
وعملية البعث الإسلامي لا تبدأ إلا بطليعة تعرف دورها وحقيقة وظيفتها ونقطة البدء في طريقها.
طليعة مؤمنة بدعوتها، مدركة لطبيعة هذه الدعوة، مستهدفة الإسلام بمعني إسلام العبد لرب العباد، إسلام الظاهر والباطن.
طليعة تؤمن بأن حضارة الإسلام لم تكن يوما ما “عربية” أنما كانت “إسلامية ” ولم تكن “قومية” وإنما كانت دائما “عقيدة”.
طليعة تؤمن بأنه لا يمكن حل أية مشكلة إسلامية حلا إسلاميا إلا في ظل نظام إسلامي.
فهل تكون هذه المجلة لسان حال هذه الطليعة ؟؟
أرجو ذلك، والله الموفق.