المبحث الأول: قيمة النقود
القيمة الداخلية للنقود:
كانت النقود في العصر الأول للإسلام هي الدينار والدرهم، وقدرت قيمة الدينار على أساس أنه يساوي عشرين قيراطا من الذهب الخالص، والقيراط خمس شعيرات، أي أن الدينار كان يساوي مائة حبة شعير من الذهب الخالص. أما الدراهم فكانت مختلفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فبعضها كان عشرين قيراطا من الفضة الخالصة (مثل الدينار)، وبعضها كان اثني عشر قيراطا (ثلاثة أخماس الدينار) وبعضها كان عشرة قراريط (نصف الدينار) فوقع التنازع في الإيفاء والاستيفاء في زمن عمر رضي الله عنه، فأخذ من كل نوع من الأنواع الثلاثة درهما وخلطهم وقسمهم إلى ثلاثة دراهم متساوية فخرج كل درهم أربعة عشر قيراطا. وبقى العمل عليه في كل شيء، أي أن الدرهم كان يساوي سبعة أعشار الدينار، مع ملاحظة أن الذهب والفضة لم تختلف قوتهما الشرائية في ذلك الوقت.
ثم ظهرت في العصور التالية أنواع أخرى من النقود، كان منها النقود المغشوشة أي التي خلط فيها الذهب والفضة بغيرهما من المعادن، والنقود ناقصة الوزن. وحاصل مذهب مالك في هذه النقود أنها إن راجت رواج الكاملة، بحيث لا يحطها الغش أو النقص عن قيمة الكاملة، ولا عن إطلاق اسم الدراهم والدنانير عليها فهي في حكم الخالصة الكاملة، وإن لم ترج رواج الكاملة حسب في المغشوش خالصة على تقدير التصفية واعتبر في النقص التكميل، فإذا كانت العشرون بنقصها إنما تروج رواج تسعة عشر تكون قيمتها تسعة عشر، ويغتفر اليسير. وحاصل مذهب الأحناف فيها أنه إذا كان الغالب عليها الفضة فهي في حكم الفضة، وإلا فهي سلعة، وحد الغلبة أن يزيد على النصف.
ثم ظهر نوع آخر من النقود، وهو الفلوس، ويقصد بها تلك العملة المتخذة من المعادن غير الذهب أو الفضة، ويلحق بها النقود الورقية، وخلاصة رأي الفقهاء فيها: إنها إن راجت رواج الأثمان فهي ثمن، وإلا فهي سلعة.
ومما تقدم يتضح أن قيمة الدينار والدرهم معتبرة بما يساويانه وزنا من الذهب والفضة، كما يتضح أيضا أن قيمة الأنواع الأخرى كانت تتحدد على أساس الرواج، أي قبول الناس لها، وتواضعهم على تحديد قيمتها (مع ملاحظة خلاف الأحناف في النقود المغشوشة والناقصة)، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن قيمة هذه النقود تحدد على أساس نسبة التبادل بينها وبين السلع الأخرى، فإذا كانت العشرون درهما المغشوشة أو الناقصة تروج رواج تسعة عشر فقط كانت قيمتها تسعة عشر. ولكن هناك من الفقهاء من يرى: أن النقود الورقية (ومثلها الفلوس) لا يكون لها ذلك الأثر الذي للنقود الأصلية (الدينار والدرهم) إلا باعتبار ما تعادله من النقد الخالص أي الذهب والفضة، وهذا يعني أن قيمة النقود المقيدة تحدد على أساس نسبة التعادل بينها وبين الذهب والفضة. وجدير بالذكر -هنا- أن الدينار بعد أن كان مساويا لعدة دراهم في العهد الأول، صار في النصف الثاني من العهد الأموي يساوي اثني عشر درهما، وفي العصر العباسي صار يساوي خمسة عشر أو أكثر. أي أن القوة الشرائية للذهب والفضة قد اختلفت على مر العصور، فتناقصت القوة الشرائية للفضة، ومن ثم لا تصلح معيارا تقاس به قيمة غيرها من النقود، وإنما “يجب الاقتصار على معيار الذهب فقط لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات”.
وأيا ما كان الأمر فإنه يمكن القول: بأن القيمة الداخلية للنقود -في الفكر الإسلامي- تحدد- إما على أساس نسبة التعادل بينها وبين الذهب، وإما على أساس رواجها، أي نسبة التبادل بينها وبين السلع الأخرى.
القيمة الخارجية للنقود:
“ذكر القدوري في شرحه: إذا استقرض دراهم بخارية، والتقيا (المدين والدائن) في بلدة لا يقدر فيها على البخارية، فإن كان (النقد البخاري) ينفق (أي يروج) في ذلك البلد فإن شاء صاحب الحق أجله قدر المسافة ذاهبا وجائيا. وإن كان لا ينفق فيها وجبت القيمة. والدراهم البخارية فلوس، فلذا أوجب القيمة”… ولا شك أن القيمة مقصود بها قيمة الفلوس البخارية إما من الذهب، وإما من نقود البلد الآخر أي سعر الصرف لعملات البلاد المختلفة، والنسبة الأخيرة هي الراجحة، ولا سيما إذا ما كانت هناك قيود على التعامل بالذهب، أو الخروج به خارج البلاد.
على أن الفكر الإسلامي يراعى في تحديد القيمة الخارجية للنقود مكان العقد وزمانه، فكما يذكر ابن عابدين: لو ابتاع عينا من رجل بأصفهان بكذا من الدنانير فلم ينقد الثمن حتى وجد المشتري ببخارى يجب عليه الثمن بعيار أصفهان فيعتبر مكان العقد، وتظهر ثمرة ذلك إن كانت مالية (قيمة) الدينار مختلفة في البلدين، وتوافقا على أخذ قيمة الدينار لفقده أو كساده في البلدة الأخرى، فليس للبائع أن يلزمه بأخذ قيمته التي في بخارى إذا كانت أكثر من قيمته التي في أصفهان، وكما يعتبر مكان العقد، يعتبر زمانه أيضا، كما سيتضح هذا من مناقشة مسألة غلاء النقود ورخصها فيما بعد.
نتائج المبحث الأول
أولا: لم تقتصر النقود على مر العصور -في البلاد الإسلامية- على نوع واحد فقط، وإنما كان منها النقود المطلقة، وهي الدنانير والدراهم، والنقود المقيدة، وهي الدنانير والدراهم المغشوشة، أو الناقصة الوزن، وكذلك الفلوس والنقود الورقية.
ثانيا: تحدد قيمة النقود على أساس الوزن من الذهب والفضة، مع ملاحظة أن الفضة قد انخفضت قوتها الشرائية فيما بعد العهد الأول للإسلام مما يجعلها لا تصلح معيارا لتحديد قيمة غيرها من النقود.
ثالثا: تحدد القيمة الداخلية للنقود المقيدة، إما على أساس نسبة تعادلها مع الذهب، وإما على أساس رواجها أي نسبة تبادلها بالسلع الأخرى.
رابعا: تحدد القيمة الخارجية للنقود المقيدة إما على أساس نسبتها مع الذهب أو على أساس نسبتها مع عملات الدول الأخرى، أي سعر الصرف للعملات المختلفة، على أن يراعى مكان العقد وزمانه عند تحديد هذه القيمة.
خامسا: يتحصل مما تقدم أن قيمة النقود المقيدة -بصفة عامة- يمكن أن تحدد من ثلاث جهات: إما على أساس نسبة التعادل بينها وبين الذهب، وإما على أساس الرواج، وإما على أساس تعادلها بالعملات الأجنبية.
المبحث الثاني: آراء الفقهاء في تغير قيمة النقود
مازال الغلاء والرخاء يتعاقبان في عالم الكون منذ بدء الخليقة، وفي سائر الأقطار وجميع البلدان والأمصار، حتى كانت الحرب العالمية الثانية فنزعت الأسعار إلى الارتفاع، ولا يرجى عودتها إلى ما كانت عليه قبلها. وقد أثار الفقهاء مسألة استيفاء الدنانير بدلا من الدراهم أو العكس، وما إذا كان هذا يجوز، أم لا، وما إذا كان هذا الاستيفاء -عند من أجازه- يتم على أساس القيمة أم على أساس العدد، كما أثاروا مسألة غلاء ورخص الفلوس وما إذا كان استيفاؤها يتم على أساس العدد أو على أساس القيمة. وعلى ذلك فموضوع هذا البحث سيناقش كما يلي:
أولا- استيفاء الدراهم بدلا من الدنانير أو العكس.
ثانيا- غلاء ورخص الفلوس.
استيفاء الدراهم بدلا من الدنانير أو العكس
يقول ابن حزم: “ومن كان له عند آخر دنانير أو دراهم أو قمح أو شعير أو ملح أو تمر أو غير ذلك مما لا يقع فيه الربا، أي شيء كان، لا تحاش (لا تستثن) شيئا، إما من بيع وإما من قرض أو من سلم أو من أي وجه كان ذلك له عنده، حالا كان أو غير حال، فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا من غير ما له عنده أصلا. فإن أخذ دنانير عن دراهم أو دراهم عن دنانير أو شعير عن بر، أو دراهم عن عرض، أو نوعا عن نوع آخر، لا تحاش شيئا، فهو فيما يقع فيه الربا ربا محض، وفيما لا يقع فيه الربا حرام بحت. برهان ذلك (ما روي) من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح إلا مثلا بمثل عينا بعين، ثم قال عليه السلام “فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”. والعمل الذي وصفنا ليس يدا بيد بل أحدهما غائب، ولعله لم يخرج عن معدته بعد، فهو حرام بنص كلامه عليه السلام.
وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في الجديد إلى جواز أخذ الذهب من الورق واحتجوا في ذلك بما يلي:
- روى سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: قلت يا رسول الله أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، وآخذ هذه من هذه؟.. فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها.
- روي عن سعيد مولى الحسن قال: أتيت ابن عمر أتقاضاه، فقال لي: إذا خرج خازننا أعطيناك فلما خرج بعثه معي إلى السوق، وقال: إذا قامت على ثمن فإن شاء أخذها بقيمتها أخذها.
- روى عبد الله البهي عن يسار بن نمير قال: كان لي على رجل دراهم فعرض علي دنانير فقلت: لا آخذها حتى أسأل عمر، فسألته فقال: ائت بها الصيارفة فاعرضها، فإذا قامت على سعر، فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ مثل دراهمك.
وقد صحت إباحة ذلك عن الحسن البصري، والحكم وحماد وسعيد بن جبير باختلاف عنه، وطاووس والزهري وقتادة والقاسم بن محمد، واختلف فيه عن إبراهيم وعطاء.
ومما سبق يتضح أن هناك رأيين فيما يتعلق باستيفاء الدراهم بدلا من الدنانير، وأن الإجماع يكاد ينعقد على جواز ذلك. ومما يؤيد الجواز بالإضافة إلى الأحاديث والآثار التي سبق ذكرها، ما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن من أن على كل حالم (بالغ) دينارا أو عدله (قيمته) من المعافر (ثياب يمنية). رواه أبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الثياب بدلا من الدنانير. وقد كتب عليه الصلاة والسلام إلى أهل نجران أن (عليهم ألفي حلة كل عام أو عدلها من الأواقي يعني الدراهم) وهنا أجاز عليه السلام العكس وكان عمر رضي الله عنه يأخذ الإبل من الجزية وإنما أصلها الذهب والورق، وأخذ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الإبر والحبال والمسال (جمع مسلة) من الجزية.
الرد على من منع ذلك:
يمكن القول بأن ما استدل به ابن حزم على عدم جواز استيفاء الدراهم بدلا من الدنانير أو العكس، وعدم جواز استيفاء الأنواع المثلية بدلا من بعضها، إنما هو وارد في البيع ابتداء وليس في الاستيفاء. فالممنوع شرعا هو بيع المثليات بأجناسها متفاضلة، أو بالأجل لما فيه من الربا، أما الاستيفاء فإسقاط للدين. “ولا ربا في دين سقط، وإنما الربا في دين يقع الخطر في عاقبته”. وإن كان هذا الاستيفاء من قبيل الصلح، فالصلح يكون بيعا إذا كان البدل خلاف جنس المدعى به، فلو على جنسه، فإن كان بأقل منه فهو حط وإبراء، وإن كان بمثله فاستيفاء وقضاء، وإن كان بأكثر منه فهو فضل وربا. والدراهم والدنانير جنسان في البيع، فلا بد من التقايض فيها في مجلس العقد. وإن كان هذا الاستيفاء من قبيل القضاء به، فالدراهم والدنانير جنس واحد في القضاء بإيفاء الدين.
هل يتم الاستيفاء عددا أم قيمة؟
يرى الإمام مالك رضي الله عنه أن يتم الاستيفاء بالعدد، أي بصرف محدود، وذلك بأن ينزل الدينار بعشرة دراهم على ما كانت عليه قديما. أما مذهب الأحناف فالذي يتضح من كلام ابن عابدين أن الثمن إذا كان معينا كالريال الأفرنجي والذهب العتيق فلا يجب إلا عدده غلا أو رخص، أما إذا لم يكن الثمن معينا، وكانت هناك أنواع من النقود الذهبية أو الفضية رائجة في السوق ولكنها مختلفة في القيمة، فالواجب هو القيمة (قيمة الثمن) من أي نوع وقت العقد، والخيار فيه للدافع. ويعلق على ذلك بقوله: “الأول ظاهر سواء أكان بيعا أم قرضا، أما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين” لتفاوت قيم الأنواع المختلفة مما يترتب عليه أن يدفع المشتري الأقل في القيمة وهذا مما لا شك في عدم جوازه”.
وقد تكلم ابن عابدين -كما يذكر- مع شيخه فأفتى بالصلح بين البائع والمشتري على أساس دفع الوسط من النقود الذهبية أو الفضية المختلفة القيمة.
فالحاصل أن الدراهم الخالصة أو المعلومة الغش والدنانير يجب على المشتري مثلها وهو ما وقع عليه العقد في الكساد والانقطاع والرخص والغلاء لأنها ثمن بأصل الخلقة لا يلحقها الكساد أو الرخص والغلاء ولكن الشارع يذكر أنه “مما يكثر وقوعه ما لو اشترى بقطع رائجة (دراهم خالصة أو معلومة الغش) فكسدت بضرب جديد يجب قيمتها يوم البيع من الذهب لا غير” لأنه لا يمكن الحكم بمثلها لكسادها، ولا بقيمتها من الفضة لأن ذلك ربا، إذ لا عبرة بالجودة عند المقابلة بنفس الجنس، ومن ثم تجب قيمتها من الذهب.
وخلاصة مذهب الأحناف في ذلك: أن هناك رأيين فيما يتعلق بأساس الاستيفاء.
الرأي الأول- يتم الاستيفاء بالعدد:
وهذا ما جرى عليه ابن عابدين في جمع مصنفاته، لأن النقود الذهبية والفضية الخالصة أو المعلومة الغش تقود بالخلقة، ولا عبرة برخصها أو غلائها أو كسادها.
الرأي الثاني- يتم استيفاء الدراهم بقيمتها ذهبا:
وهذا ما جرى عليه مؤلف الدر المختار، وتؤيده الأحاديث والآثار التي وردت في هذا الصدد والتي سبق ذكرها، كما يؤيده ما سبق أن ذكره أيضا من أن الدينار بعد أن كان مساويا لعشرة دراهم في العهد الأول للإسلام صار يساوي أكثر من هذا في العصور المتتالية.. ويؤيده أيضا ما رواه أبو داود من “أن الدية كانت في العهد النبوي ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم (قيمة مائة من الإبل)، فلما كان عهد عمر خطب فقال: إن الإبل قد غلت. فقومها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.
ويختار الباحث هذا الرأي للأحاديث والآثار التي وردت في هذا الشأن. ولكن يلاحظ على هذا الرأي أنه يحدد القيمة في تاريخ التعاقد أي يوم البيع أو يوم تمام القرض بيد أن ظاهر الأحاديث السابقة يعتبر أن القيمة تحدد يوم الاستيفاء. ومع هذا فإني أؤيد الرأي الذي ينظر إلى قيمة النقد الحاضر، ولا ينظر إلى قيمة ما كان وقت العقد أصلا. إذ إن قيمة النقد الذي كان وقت العقد تكون قد تلاشت من الأذهان.
غلاء ورخص الفلوس:
الفلوس -كما تقدم- هي نوع من النقود تتخذ من المعادن غير الذهب والفضة. وتتخذ ثمنيتها بالاصطلاح والمواضعة، ويلحق بحكمها النقود الناقصة الوزن والغالبة الغش، والنقود الورقية. ولا خلاف بين الفقهاء حول عدم فساد العقد إذا ما تغيرت قيمتها لقيام الاصطلاح على ثمنيتها، وإنما الخلاف بينهم فيما يجب دفعه، هل عدد ما وقع عليه العقد أم قيمته؟ ومن استقراء آراء الذين تعرضوا لهذه المسألة يتبين أن هناك رأيين فيها:
الرأي الأول- يجب مثل ما وقع عليه العقد عددا:
وهذا هو رأي الإمام أبي حنيفة وجرى عليه في جامع المضمرات والمشكلات، حيث قال: اشترى بدراهم نقد البلد فلم يقبض حتى تغيرت، فإن كانت لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لم يفسد البيع وليس له إلا ذلك. كما جرى عليه في مجمع الأنهر، حيث قال: “ولو اشترى به أي بالذي غلب غشه، وهو نافق فنقصت قيمته قبل القبض، فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع، وعكسه لو غلت قيمتها وازدادت فكذلك البيع على حاله ولا يتخير المشتري”.. كذلك جرى عليه في الفتاوى الحامدية، حيث أجاب عن سؤال بقوله: “إذا غلت الفلوس التي وقع عقد الإجارة عليها، أو رخصت فعليه رد مثل ما وقع عليه عقد الإجارة من الفلوس. “كما سئل فيما إذا استدان زيد من عمرو مبلغا من المصاري المعلومة العيار على سبيل القرض ثم رخصت المصاري ولم ينقطع مثلها، وقد تصرف زيد بمصاري القرض، ويريد رد مثلها، فهل له ذلك؟ الجواب: الديون تقضى بأمثالها. وفي فتاوى قاضي خان يلزمه المثل، وهكذا ذكر الاسبيجاني، قال ولا ينظر إلى القيمة.
الرأي الثاني- يجب قيمة الفلوس في تاريخ التعاقد:
وهذا هو رأي أبي يوسف، ففي البزازية معزيا إلى المنتفى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول (أبي حنيفة)، والثاني (أبي يوسف) أولا ليس عليه غيرها، وقال الثاني ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وقوله يوم البيع أي في صورة البيع، وقوله يوم القبض أي في صورة القرض. وجرى على هذا ابن عابدين وشيخه. حيث صرحا بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء. لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلَدهما. يقول ابن عابدين رواية عن شيخه العلامة الغزي: وقد تتبعت كثيرا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى في قوله أبي حنيفة رضي الله عنه وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فليكن المعول عليه.
وخلاصة هذا الرأي المعول عليه هو: وجوب قيمة الفلوس لا عددها.
فيلزم قيمتها عند عقد البيع، ويوم القبض في صورة القرض، أي أنها تستوفي قيمة لا عددا. وهذا الرأي هو ما أختاره، حيث إن العلماء رضي الله تعالى عنهم قد جعلوا الفتوى عليه والقضاء به، وحيث إنه يتمشى مع اعتبار القيمة الجارية الحقيقية، بمعنى أنه لا يتجاهل التغيرات في قيمة النقود، بل يأخذها في الحسبان عند معالجة آثار تغيرات مستوى الأسعار العام.. وكما سبق أن ذكرت، فإن القيمة الحقيقية الحاضرة للفلوس لا تختلف عن قيمتها في تاريخ التعاقد، ولكن نظرا لأن القيمة في تاريخ التعاقد تكون قد تبخرت من الأذهان لذا فإنه ينبغي أن ينظر إلى القيمة الحاضرة للفلوس.
نتائج المبحث الثاني
أولا: النقود المطلقة:
- هناك خلاف حول جواز استيفاء الدراهم بدلا من الدنانير أو العكس.
- هناك خلاف أيضا حول أساس هذا الاستيفاء، أهو العدد أم القيمة.
ثانيا: النقود المقيدة:
هناك خلاف حول الواجب دفعه من الفلوس إذا ما تغيرت قيمتها، والرأي المعمول عليه إفتاء وقضاء هو وجوب قيمتها.
المبحث الثالث: معالجة آثار تغير قيمة النقود في الحسابات
تنقسم استخدامات مصادر التمويل -في الفكر الإسلامي- إلى قسمين: أحدهما مجموعة النقود. والثاني مجموعة العروض، ولذا فموضوع هذا البحث سيتعرض بالمناقشة إلى آثار تغير قيمة النقود على كل مجموعة منها على حدة.
أولا- معالجة آثار تغير قيمة النقود على مجموعة العروض:
تنقسم العروض إلى: عروض قنية، وإلى عروض تجارة وتشمل دين التجارة، والمقصود بعروض القنية وعروض التجارة: هو الانتفاع طلبا للربح، ومن ثم فمعالجة آثار تغير قيمة النقود على العروض لا تختلف.
عروض القنية والتجارة:
من دراسة المحافظة على سلامة رأس المال في الفكر الإسلامي -في ظل ثبات قيمة النقود- اتضح أن هذا الغرض يتطلب -من بين ما يتطلب- الاعتراف بالقيمة الاقتصادية للعروض، وأن هذه القيمة تتأثر بثلاث متغيرات هي: حالة الأسواق، والتغيرات في غير العروض، والتغيرات في صفاتها. وهذا اعتراف يتضمن تقويم العروض بالقيمة التبادلية الجارية في تاريخ التقويم.
ولما كان هناك التزام اقتصادي في المشروع المستمر أن يحافظ على نفس المستوى من التشغيل. فمن الضروري استبدال وإخلاف عروض التجارة وعروض القنية. وهذا الإحلال يتطلب مزيدا من الأموال في ظل مستويات الأسعار المتزايدة وانخفاض قيمة النقود، ولذا فمن الضروري الأخذ في الحسبان التغيرات في قيمة النقود ومستويات الأسعار العامة، وهذا يتضمن استخدام التكلفة الاستبدالية الجارية عند تقويم العروض، واحتساب عبء إهلاك عروض القنية وتكلفة المبيعات. أي إنه إذا كان استخدام القيمة التبادلية الجارية لتقويم عروض المشروع لازما وضروريا -في ظل ثبات قيمة النقود- للمحافظة على سلامة الطاقات الإنتاجية لرأس مال المنشأة، فإنه في ظل تغير مستويات الأسعار العامة أكثر لزوما، لما تتطلبه عملية الإحلال لعروض القنية وعروض التجارة من مزيد من الأموال لسد العجز الناشئ عن انخفاض قيمة النقود، فضلا عما يتطلبه التقدم الفني من زيادة في تكلفة الحصول على العروض.
ويستلزم استخدام التكلفة الاستبدالية الجارية في تقويم عروض المشروع الحصول على قوائم الأسعار الخاصة بالعروض المماثلة لعروض المشروع في تاريخ التقويم، فإذا تعذر أو تعسر الحصول على هذه القوائم من أسواق الشراء المتعارف عليها، فهل يجيز الفكر الإسلامي وسيلة بديلة للتكلفة الاستبدالية الجارية؟.
يقول ابن رشد الحفيد: “يظهر من الشرع أن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها -أعني لتقديرها-” فإذا أمكن تحقيق العدل في المعاملات وتحديد قيم العروض بواسطة أداة أخرى، فإنه يبدو -لي- أن الفكر الإسلامي لا يمانع في استخدامها، وبناء عليه، ففي حالة تعذر أو تعسر الحصول على القيمة التبادلية الجارية يمكنك استخدام القيمة الجارية لعروض أخرى يمكن أن تعطي طاقة إنتاجية معادلة لطاقة عروض المشروع، أو استخدام رقم قياسي خاص لكل عرض على حدة أو لعدد من العروض المتجانسة، كما يمكن الاستعانة بخبراء التثمين، وفي هذا الصدد يجدر ذكر ما أثاره الفقهاء عما إذا كان يكفي في التقويم خبير واحد أم لا بد من التعدد.
فمذهب الشافعية أنه لا بد -في التقويم- من عدلين لأنها شهادة بالقيمة، والشاهد في ذلك لا بد من تعدده. أما مذهب المالكية فإنه يكفي في تقويم العروض واحد ولا يشترط التعدد، لأن ذلك ليس من قبيل الشهادة، بل من قبيل الحكم، والحاكم لا يجب أن يكون متعددا.
وأعتقد أن مذهب المالكية أيسر في التطبيق، إذ إن الاستعانة بأكثر من خبير قد يكلف المنشأة أعباء تفوق الفائدة المرجوة لا سيما -كما هو معروف- أن التقويم يتم بالنسبة للعديد من العروض المتنوعة التي يملكها المشروع الحديث، مما يتطلب الاستعانة بأكثر من خبير، كل في مجال خبرته فإذا استعان المشروع بأكثر من خبير في المجال الواحد، فلا شك أن هذا سيترتب عليه نفقات باهظة ولذا فإني أختار رأي المالكية في هذا الصدد.
ثانيا- معالجة آثار تغير مستوى الأسعار العامة بالنسبة لمجموعة النقود:
تتمثل مجموعة النقود في النقدية في خزينة المنشأة، وطرف البنك، كما تتمثل في دين النقد، إذ إن حكمه حكم النقود في الفقه الإسلامي.
وقد اتضح من بحث قيمة النقود -في الفكر الإسلامي- أنها تحدد، إما على أساس التعادل مع الذهب، وإما على أساس رواجها، أي نسبة تبادلها بالسلع الأخرى. وحيث إن معظم دول العالم قد خرجت على قاعدة الذهب، وحيث إن سعر الذهب يتميز بدرجة من الثبات تجعله لا يمثل التغيرات في أسعار السلع الأخرى بدرجة كافية، فإنه لا مناص من اعتبار الرواج هو أساس تحديد قيمة النقود الآن. ومما يشهد لهذا الأساس ما رواه أبو داود من أن الدية كانت في العهد النبوي ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، فلما كان عهد عمر رضي الله عنه قال: “إن الإبل قد غلت، فقومها (أي الدية) بألف دينار أو اثني عشر ألفا من الدراهم. فهذا الأثر يدل على أن عمر رضي الله عنه اعتبر أن القوة الشرائية للنقود تتأثر بمدى التغير في أسعار السلع الأخرى.
ولقد ذهب الفكر الإسلامي إلى مدى بعيد حين تناول العلاقة بين رخص وغلاء النقود وبين الوفاء بالعقود، وبناء على الرأي المعول عليه إفتاء وقضاء وهي ضرورة النظر بعين الاعتبار إلى القيمة الحقيقية للنقود تمشيا مع القيمة الحقيقية الجارية للعروض، فإنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار آثار تغيرات مستوى الأسعار العام على مجموعة النقود الموجودة في حيازة المنشأة.
وربما يبدو لأول وهلة أن معالجة آثار تغير مستوى الأسعار العام على مجموعة النقود سيكون باستعمال رقم قياسي عام لقياس مدى التغير في القوة الشرائية العامة للنقود، فاستعمال الرقم القياسي العام إنما يقيس التغير في القيمة العامة للنقود، وليس التغير في القوة الشرائية الخاصة لها. ولكن بالنظر إلى أن الفكر الإسلامي لا يمانع في إثبات الشخصية المعنوية للمشروع، ومن ثم فإن مجموعة النقود يتم النظر إليها بعيني المشروع إذ هي في حيازته وتحت تصرف إدارته، ولا يجب أن ينظر إليها بأعين الملاك كمستثمرين أو مستهلكين؛ إذ إن شخصية المشروع -حينئذ- تكون مستقلة عن شخصيات ملاكه وله ذمة مالية مستقلة عن ذممهم.
وبالنظر إلى أن الحسابات التي يعدها المشروع إنما هي حساباته هو، وليست حسابات الملاك، فالملاك لديهم حساباتهم الخاصة، ومن ثم يكون الهدف من النظام المحاسبي في المشروع إنما هو خدمة إدارته باعتبارها ممثلة له، وبالنظر إلى أن مجموعة النقود يقصد منها المساعدة في إجراء المبادلات، ومن ثم فإنها إما نتيجة عمليات المشروع، أو مخصصة لها، فإني -لذلك كله- أرى أن يتم الوصول إلى القيمة الحقيقية للنقود باستعمال رقم قياسي خاص بالقوة الشرائية للمنشأة، أي أن تتضمن العينة التي يتركب منها مجموعة السلع والخدمات التي تتعامل فيها عادة.
نتائج المبحث الثالث
- لم تقتصر النقود في مختلف العصور على نوع واحد فقط، وإنما كان منها النقود المطلقة (الدراهم والدنانير) والنقود المقيدة.
- تتحدد قيمة النقود المطلقة على أساس الوزن والعيار من المعادن النفيسة، وتتحدد قيمة النقود المقيدة، إما على أساس تعادلها مع الذهب، وإما على أساس رواجها. أي نسبة تبادلها بالسلع الأخرى.
- يختار الباحث أن يتم استيفاء النقود المطلقة والمقيدة على أساس القيمة -وليس العدد- في تاريخ الاستيفاء، أي أن يؤخذ في الاعتبار تغير القوة الشرائية للنقود.
- لا مفر -الآن- من تحديد قيمة النقود على أساس الرواج نظرا لحظر التعامل بالذهب، وخروج معظم دول العالم عليه.
- لمعالجة آثار انخفاض قيمة النقود يجب استعمال القيمة التبادلية الجارية أو ما يعادلها، لتقويم العروض، وكذلك استخدام رقم قياسي خاص بالقوة الشرائية للمنشأة لتقويم دين التجارة، ومجموعة التجارة.
- لا تعتبر فروق التقويم خسائر أو أرباحا قابلة للتوزيع، وإنما هي فروق قيم.