المقدمة:
لقد أجمع علماء التفسير منذ القديم – فيما نقله الزركشي – على شروط كثيرة لابد من مراعاتها عند تفسير القرآن أجملوها في أربعة شروط هي :
1- الأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من أحاديث في التفسير .
2- الأخذ بقول الصحابي ، وخاصة فيما لا مجال للاجتهاد فيه ، كالأمور الغيبية والناسخ والمنسوخ .
3- الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى غير معناها الحقيقي، أو إلى غير مرادها .
4- الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع .
واستمر العمل بهذا المنهج كحد يعرف به الرأي الممدوح من الرأي المذموم إلى أواخر القرن الماضي ، حيث سادت العالم مناهج جديدة ، ومع مرور الزمن وتغلغل هذه المناهج وتمكنها من عقول بعض المفكرين داخل العالم الإسلامي ، ظهرت مدرسة فكرية حديثة تدعو إلى تجديد فهم القرآن فهمًا عصريًّا ، متُبنية في ذلك ما توصل إليه العقل البشري من مناهج وعلوم – وخاصة الغربية – على رأسها علم الألسنية الحديثة وغيره . وكان من أهم آراء المدرسة الفكرية الحديثة الدعوة صراحة إلى تجاوز كل الأدوات المنهجية التراثية؛ لأنها – حسب رأيها – تمثل فترة زمنية معينة ، ثم تبنيها الأدوات المنهجية المعاصرة ، مثل المنهج التاريخي والمنهج البنيوي والمنهج الجدلي وغيرها ، وكان من أهم مقولاتها أن : «القرآن معادل موضوعي للوجود الكوني وحركته» ، وأنه ذو بنية أسطورية متعالية ، وأن المصحف الذي بين أيدينا ، أو ما أسماه محمد أركون «بالصحيفة المغلقة» هو نتاج ظروف سياسية وتاريخية معينة، وأنه لا يمثل القرآن الحقيقي، ودعوتها صراحة إلى إعادة النظر في تاريخ المصحف وفق المنهج التاريخي ، وغير هذا من الآراء التى تستوقف الباحث وتدعوه إلى التأمل والبحث وإعطاء الرأي المناسب فيها وفق ما تقتضيه شروط البحث العلمي .
لذا أخذت على نفسي البحث في هذا الموضوع المثير ، واخترت لذلك نموذجًا من أبرز نماذج هذا الاتجاه وهو أبو القاسم حاج حمد الذي صدرت له عدة كتابات في منهجية القرآن من أهمها: كتاب العالمية الإسلامية الثانية، وكتاب : منهجية القرآن المعرفية .
ولقد تعرض الكاتب في هذين الكتابين إلى قضايا منهجية عديدة في فهم القرآن ، وذلك من خلال ما دعا إليه من :
1- تجاوز التفسير التراثي للقرآن من مناهج وأدوات تحليلية بحجة أنها تمثل فترة زمنية معينة أطلق عليها اسم العالمية الإسلامية الأولى .
2- الأخذ بمحددات منهجية جديدة تلائم الفترة الزمنية الحالية ، العالمية الإسلامية الثانية .
إشكالية البحث :
إلى أي حد يمكن لنا أن نعتبر محاولة أبي القاسم حاج حمد محاولة تجديدية أصيلة – بمعنى أنها محاولة تجديدية من الداخل وليست من الخارج – وإلى أي مدى قد أسعفه منهجه المقترح في تجاوز القراءات الأخرى التى يعتبرها الكاتب دلالة واضحة وتعبيرًا عن روح ومصداقية العالمية الإسلامية الثانية؟
سبب اختيار البحث :
لقد دعتني لاختيار هذا البحث أمور منها :
1- أنه بغض النظر عن صواب الكاتب ، أو خطئه فقد تناول القرآن بفهمٍ جديدٍ ، الأمر الذي يدعو إلى دراسة هذا الاتجاه الجديد في التفسير .
2- وضوح رؤيته وموقفه ، مع رفضه للمناهج التفسيرية القديمة وتبنّيه آراءً وأفكارًا مخالفة .
3- عدم وجود دراسات نقدية وتحليلية تناولت أفكار الكاتب بالنقد والتحليل العلمي الدقيق ، فبالرغم من أن الطبعة الأولى لكتاب العالمية الإسلامية الثانية قد صدرت قبل سبع عشرة سنة والثانية قبل سنة تقريبًا إلا أنه لم تظهر – حسب علمي – أي دراسة ، أو أي رد وافٍ حول هذا الكتاب ، في حين أن هناك كتبًا أخرى مشابهة له قد ظهرت بعده إلا أنها قد قتلت بحثًا مثل كتاب : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة لمحمد شحرور ، فقد صدرت حوله عدة دراسات منها كتاب لنشأة الضيفان بعنوان : رد على محمد شحرور ، وكتاب بيضة الديك ، ليوسف حيداوي، وكتاب تهافت القراءة المعاصرة ، لمنير محمد طاهر شواف ، وكتاب الفرقان والقرآن ، للشيخ خالد عبد الرحمن العك ، وكذلك دراسة ماهر المنجد وهي بعنوان : الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن دراسة نقدية.
فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا كل هذه الردود على كتاب محمد شحرور في حين أننا لا نجد شيئًا من ذلك حول كتاب أبي القاسم حاج حمد رغم أن التشابه بين الكتابين كبير؟
4- اهتمامي بالموضوع لطرافته وجدته ، فشغلت نفسي بالبحث فيه محاولاً الالتزام بالموضوعية والمنهجية العلمية؛ إحقاقًا للحق ، وبيانًا لما يمكن أن يؤخذ على الكاتب، ومناقشة أفكاره وتحليلها؛ وذلك للكشف عن خلفيته الثقافية ونقدها .
أهمية البحث :
تكمن أهمية البحث في النقاط الآتية:
1- رغم أن الأفكار التي طرحها الكاتب تعد غريبة إذا ما قارناها بما تعارفت عليه الأمة فقد لقيت هذه الأفكار بعض الرواج داخل الساحة الفكرية الإسلامية، ولا أدل على ذلك من قيام المعهد العالمي للفكر الإسلامي بطبع كتاب منهجية القرآن المعرفية، وعقد ندوة له في القاهرة سنة 1992م بمشاركة عدد كبير من المفكرين .
2- أن هناك أزمة منهجية حقيقية في الفكر الإسلامي، وأن المناهج القديمة بما هي عليه الآن غير قادرة على إنشاء الحلول المناسبة لما يواجه الأمة من مشكلات، فما زال فكرنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره يعاني نقصًا شديدًا بل غيابًا كليًّا في كثير من المجالات .
3- أنه رغم غرابة الأفكار -كما سبق ذكره- وتبرم بعض المحافظين وتحفظهم منها إلا أنني ممن يؤمن إيمانًا عميقًا بأن طريقة التحفظ والتشكيك في كل جديد مخالف ، هي طريقة غير سليمة وغير موافقة لروح شرعنا الحنيف، فكم من آية كريمة تعرض آراء المخالفين وحججهم بأسلوب قد يعجز عنه أصحابها أنفسهم، ثم تعالجها معالجة علمية، فتبقي على ما هو حق وصواب، وتسقط ما هو باطل وخطأ . لذا كان البحث والنظر في مثل هذه الكتابات ذا أهمية بالغة في تلاقح الفكر الإسلامي قديمه وحديثه وتحصينه الحصانة العلمية الهادفة وتهيئته لحمل الأمانة والاستجابة الكاملة للتحديات المفروضة عليه داخليًّا وخارجيًّا .
ولعل من أهم المسائل التى طرحها الكاتب مسألة تجاوز العالمية الإسلامية الأولى وتبني العالمية الإسلامية الثانية، ومسألة البنائية في القرآن الكريم وما تبعه من تجاوز لمسائل يعدها الكاتب تراثية كالنسخ والقراءات واللغة العربية المعهودة ومسائل حدودية أطلق عليها الكاتب : شرعة الإصر والأغلال ، ومسألة اختلاف العالمية الإسلامية الثانية معرفيًّا مع كُل من العالمية الإسلامية الأولى والأبستمولوجيا الوضعية .
حدود البحث :
سيعتمد هذا البحث أساسًا على كتاب «العالمية الإسلامية الثانية»؛ وذلك لأسباب من أهمها :
1- أن كتاب «العالمية الإسلامية الثانية» يمثل عصارة فكر الكاتب، وخاصة في مسألة منهجية فهم القرآن الكريم .
2- أن معظم الأفكار الواردة في كتابه «منهجيّة القرآن المعرفيّة» – السابق الذكر – قد سبق أن وردت في كتاب العالمية الإسلامية الثانية .
وكتاب العالمية هذا – بغض النظر عن صوابه أو خطئه – يعد كتابًا جديدًا في بابه، غريبًا في طرحه عن الحس الإسلامي المعهود ، فقد عرض فيه صاحبه مفهوم العالمية الإسلامية الأولى، والتى بدأت بظهور الإسلام، وانتهت في زماننا هذا بظهور كتاب العالمية الإسلامية الثانية، ومن أهم خصائص العالمية الأولى البساطة والتعلق بظواهر الألفاظ، ثم خلف هذه العالمية الأولى العالمية الإسلامية الثانية التى بشر بها الكاتب، ومن أهم خصائصها الظهور والمعرفة الرمزية ، وبناءً عليه فقد تعرض الكاتب إلى مسائل مثل القرآن والوحدة البنائية والنسخ، ومصطلحات مثل الأمية وغيرها مما هو مفصل في هذا الكتاب .
هذا، ولا أعلم فيما اطلعت عليه أن هناك دراسة تناولت هذا الكتاب أو أفكار هذا الرجل بالدراسة والنقد، اللهم إلا المقال الذي نشرته مجلة التجديد في عددها الأول للدكتور أسامة خليل، وهو كما يقول صاحبه بأنه لم يتمكن بعد من ترتيب نظام هذا الكتاب أو استيعاب معانيه ، وهو عمومًا لم يتناول منهجية المؤلف في فهم القرآن، بل تناول أمورًا فلسفية عامة تتعلق بتخصصه كفلسفي. كذلك تناول أفكار المؤلف والندوة السالفة الذكر التى عقدت في القاهرة لمناقشة كتاب منهجية القرآن المعرفية ، وبعض التعقيبات التى بعث بها بعض الأفاضل مثل الشيخ الغزالي رحمه الله والدكتور أكرم ضياء العمري وغيرهما. وهي عمومًا وبعد الاطلاع عليها لم تتعرض لنقد أفكار المؤلف ودراستها من خلال ما رسمه هو لنفسه من منهجية ومحاولة الربط بين مقدماته ونتائجه، واستبيان ما إذا كان هناك انسجام بينها أو لا، بل تناولتها من خلال تصوراتها ومناهجها الخاصة؛ مما جعل المؤلف يفندها ويستغلها في الاستدلال على صواب ما ذهب إليه .
الدراسات السابقة :
أما الكتب التي تسير في هذا الاتجاه فهي كثيرة ومتنوعة، إلا أنها على كثرتها لم تطرح بنفس الطرح الذي طرح به كتاب : العالمية الإسلامية الثانية، وهي نوعان ، تأسيسية ونقدية ومن أهمها:
1- الكتاب والقرآن قراءة معاصرة للدكتور محمد شحرور:
تناول فيه صاحبه القرآن الكريم بأدوات معاصرة مثل : المنهج البنيوي ، والمنهج الجدلي، وهي أدوات أحسب أنه يشترك فيها مع أبي القاسم حاج حمد ، كما تناول محمد شحرور قضايا تقترب مما تناوله أبو القاسم حاج حمد، مثل قضية تحديد بعض المصطلحات – كتحديد الفرق بين القرآن والفرقان – وكذلك مسألة تطبيقات الرعيل الأول للإسلام ، فكلاهما يرى أن العبرة في جوهرها لا في شكلها – إلا أنه لم يكن موقفه من التراث من الوضوح بالقدر الذي كان عليه أبو القاسم حاج حمد في تناوله لقضية النسخ والقراءات واللغة ، فشحرور يعتبر أن نظرته هي امتداد لابن فارس وغيره ، في حين أن أبا القاسم حاج حمد يرفض اللغة العربية المعهودة ويعتبر أنها لم تعد صالحة لعالميته التى بشر بها .
2- القرآن محاولة لفهم عصري ، الدكتور مصطفى محمود :
وهذا الكتاب أصله مجموعة مقالات نشرت في مجلة «صباح الخير» في ديسمبر 1968م / 1970م بعنوان : تفسير عصري للقرآن ، وقد قامت اعتراضات على هذه المقالات لما تحمله من آراء غريبة، فقام بجمعها في كتيب وزاد عليها بعض التنقيحات ، وسماها القرآن محاولة لفهم عصري، ويتكون هذا الكتاب من أربعة عشر بحثًا، ومن هذه الأبحاث خلق الإنسان، وقد تعرض فيه لنظرية داروين وخالفه في جزئية واحدة وهي أن هذا الترقي حدث بقدرة إلهية خلافًا لداروين الذي يقول بأنه حدث بالحوافز الحياتية وحدها . وغيرها من الآراء التى جلبت على صاحبها انتقادات عنيفة من أهل الفكر والعلم أمثال الدكتورة عائشة عبد الرحمن «بنت الشاطئ» في كتابيها «القرآن والتفسير العصري» ، و«القرآن وقضايا الإنسان» ، والأستاذ توفيق علي وهبة في كتابه : «شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر» ، هذا ومحاولة الدكتور مصطفى محمود لم تكن محاولة شمولية مثل محاولة أبي القاسم حاج حمد.
3- نحو فقه جديد لجمال البنا :
وهو كتاب قسمه صاحبه إلى بابين رئيسيين:
1- منطلقات ومفاهيم .
2- فهم الخطاب القرآني ، وهو الباب الذي له علاقة مباشرة مع ما نحن بصدده ، فقد تعرض فيه الكاتب إلى فهم الخطاب القرآني منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن وصل إل العصر الحديث ، فتعرض فيه لتفسير الشيخ محمد عبده ، وغيره، كما تعرض فيه إلى بيان محاولات المستشرقين وعثراتهم ، ثم يخلص الكاتب إلى تقديم ما يراه فهمًا جديدًا للقرآن على أنه معجزة خالدة ، ويتمثل إعجازه في نظمه الموسيقى ، وتصويره الفني ، ومعالجته السيكولوجية للإنسان ثم قيمه ومبادئه السامية . وبهذه المفردات يخلق القرآن الإنسان خلقًا إيمانيًّا جديدًا .
وهذا الكتاب أيضًا لم يقدم فيه مؤلفه تصورًا عامًّا لفهم القرآن مثلما فعل أبو القاسم حاج حمد في كتابه .
4- الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن ، دراسة نقدية ، لماهر المنجّد:
هذا الكتاب هو عبارة عن دراسة نقدية تحليلية لكتاب – الكتاب والقرآن قراءة معاصرة – لمحمد شحرور ، وهو كتاب حاول فيه صاحبه ضبط القواعد المنهجية التى سار عليها محمد شحرور ومحاولة استخدامها في نقد الكتاب ، وقد وفق إلى حد بعيد في إظهار مواضع القصور التى وقع فيها المؤلف، مثل ضعفه الواضح في اللغة العربية التى تعتبر إحدى المرتكزات الأساسية التى بنى عليها نظريته في فهم القرآن ، كما وفق أيضًا في كشف الخلفية الفكرية التى ينطلق منها الكاتب وهي الفلسفة الماركسية . وأحسب أن هذه الطريقة ستفيدني في دراسة كتاب العالمية الإسلامية الثانية.
5- كتاب الفرقان والقرآن ، للشيخ خالد عبد الرحمن العك :
وهو كتاب حاول فيه صاحبه – كما يقول هو عن نفسه – أن يقدم قراءة إسلامية معاصرة ضمن الثوابت العلمية والضوابط المنهجية، وهي مقدمات للتفسير العلمي للقرآن الكريم – وهذا الكتاب هو عبارة عن رد فعل للتيار المحافظ انطلق فيه صاحبه من ضوابط منهجية تراثية، وحكم على كل من خالفها بالانحراف دون دراسة المنطق الداخلي الذي يحكم هذه الكتابات دراسة علمية ، فانتهى الكاتب إلى إصدار أحكام قيمية مثل الانحراف والضلال – وهذا الكتاب قد تعرض لمعظم الكتابات في هذا الشأن، بدءًا من جمال الدين الأفغاني ، وانتهاءً بمحمد شحرور ، إلا أنه لم يتعرض إلى ما جاء في كتاب العالمية الإسلامية من أفكار لها أهميتها ولما طرحه من قضايا.
منهجية البحث :
أما المنهج الذي سأتبعه في هذا البحث ، إن شاء الله ، فهو المنهج التحليلي المقارن ، والذي من سماته:
1- عرض الأفكار وتحليلها ، وإرجاعها إلى أصولها ، والوقوف على آليات إنتاجها .
2- نقدها وتقويمها في ضوء مناهج ومحاولات أخرى مشابهة .
2- الباب الأول
(2- 1) الفصل الأول
أ – التعريف بالكاتب
– اسمه ونسبه : هو محمد أبو القاسم حاج حمد ، سوداني الأصل . يعود نسبه إلى قبيلة الرباطاب ، وهي من أعرق القبائل في شمال السودان . وهو من أسرة تدين في ولائها للطائفة الختمية.
– نشاطه السياسي والفكري : يعد من أبرز وأنشط الأعضاء في حزب الشعب الاشتراكي ذي التوجهات العربية واليسارية ، وهو الآن يشغل منصب المستشار الخاص للرئيس الأريتري أسياس أفورقي .
أما نشاطه الفكري فيبرز في عدة نواح:
1- نشره عدة كتب أبرزها ، «السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل»، وكتاب «العالمية الإسلامية الثانية» ، و«منهجية القرآن المعرفية» ، و«الأزمة الفكرية والحضارية في الواقع العربي الراهن»، و«الأبعاد الدولية لقضية أرتريا» ، فضلاً عن العديد من المقالات في بعض المجلات .
2- عضويته في المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ومشاركته في العديد من الملتقيات الفكرية .
هذه هي أبرز العناصر المتعلقة بشخصيته، والآن ننتقل إلى أهم المقولات التى سادت عصره .
ب – الإطار المعرفي لكتاب العالمية الإسلامية الثانية :
إن أي دراسة لأي فكرة تتم بمعزل عن مجالها الذي نبتت فيه هي دراسة قاصرة، وما تقدمه للقارئ هو بيع فيه غرر. ومن هذا المنطلق ، سيعمل هذا المبحث على كشف النقاب عن مدى تفاعل الكاتب مع تلك المقولات التى سادت في أيامه ومدى تجلياتها في فكره.
ومن المعلوم أن عالمنا الإسلامي عمومًا والعربي خصوصًا ، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية، قد شُغل بقضيتين أساسيتين هما :
1- قضية الاستقلال .
2- قضية التنمية .
وقد انطلق في علاجهما من رؤى مختلفة، أهمها اثنان :
أ – رؤية تقول بأن سبب تخلفنا راجع في أساسه إلى فقدان الهوية ، ولابد لعلاج ذلك من العودة مجددًا إلى الدين والتمسك بعراه؛ لأنه به تشكلت هويتنا وبه نلنا عزنا .
ب – رؤية تقول بأن أزمتنا سببها يعود أساسًا إلى تخلفنا الفكري والحضاري ، الذي تشكل ضمن موروث لاهوتي شلّ نشاطنا وأقعدنا عن الحراك، وأوقعنا في شراك الفقر والإمبريالية العالمية . وللخلاص من ذلك لابد من ثورة شاملة تحرر العقل العربي من أوهامه وتعيد صياغته صياغةً علميةً عصريّة، ولا يكون ذلك إلا من خلال الفلسفة الاشتراكية التى أثبتت جدارتها في خلاص كثير من شعوب العالم .
وبهذا الوعي شهدت الساحة العربية استقطابات وصراعات عنيفة . وكان السودان بلد الكاتب ميدانًا خصبًا لهذه الصراعات التى سيتعرض لبعض آثارها من خلال كتابه : «السودان – المأزق التاريخي وآفاق المستقبل» الذي يعكس جوانب مهمة من حياة المؤلف الفكرية والسياسية ، ويعتبر تعبيرًا حقيقيًّا لأهم تجاربه الشخصية النضالية على أرض السودان وخارجها .
وانطلاقًا من هاتين المقولتين: الهوية والثورة، انقسم الشعب السوداني إلى قطبين رئيسين تجلّت مظاهر ذلك في الفترة الواقعة بين سنة 1949م و1956م ، في شكل صراع سياسي بين:
1- قطب الجمعية التشريعية الموالي لبريطانيا – حسب رأي الكاتب – ويضم كل من حزب الأمة الذي ينزع نحو تراث المهدية المتمثل في إقامة دولة دينية على غرار دولة محمد أحمد المهدي المؤسس الأول للمهدية ، ورجال القبائل وبعض كبار الخريجين وقوى القيادة الجنوبية التى رأت من مصلحتها الانضمام إلى هذا التكتل . وكان هدف التكتل هو النضال السياسي من أجل الاستقلال الكامل، وذلك عبر تدرج دستوري يطول أمده، ولكن يكفل للجنوبيين حقوقهم . وهذا التيار يمكن أن يطلق عليه إن صح التعبير تيار الهوية.
2- قطب المعارضة الموالي لمصر ، ويمثله المثقفون الاتحاديون ، والطائفة الختمية ، التى تعتبر المهد الحقيقي للتجمعات الاشتراكية الثورية واليسارية عمومًا ، ومن أبرز هذه التجمعات: الحزب الشيوعي ، وحزب الشعب الديمقراطي الذي ينتمي إليه المؤلف ، والذي تشكل بُعيْد الاستقلال .
واستجابة لظروف معينة «طرح حزب الشعب برنامجًا اشتراكيًّا ، وعربيًّا، وصيغًا عدة للتحالف مع القوى اليسارية، وقد كان هو الحزب الذي وقع عليه اختياري واختيار بعض الشباب الديمقراطيين والاشتراكيين العرب» . وهدف هذا التكتل هو قيام حكومة سودانية ديمقراطية حرة مع التأكيد على بقاء الوحدة مع مصر. ويمثل هذا التيار بحكم تركيبته تيار الثورة.
وبعد الاستقلال بدأ الصراع يتضح أكثر فأكثر، وخاصة بعد دخول تيار لا يعترف بغير الدين هوية ، ويجاهر بأن كل دعوة خلافها هي دعوة جاهلية وهدم لعرى الدين والأخوة الإسلامية ، وبتلك الروح خاض اليمينُ حربًا شرسةً ضد اليسار ، انتهت بحل الحزب الشيوعي والسيطرة على الجامعات بعدما كانت بيد اليسار قبل ذلك ، وما حدث ذلك إلا نتيجة لبعض الثغرات التى ما حسب لها بعض اليساريين حسابها «واستطاع الإخوان محاصرة الفكر القومي العربي الثوري عبر الثغرة اللاتراثية واللاتاريخية في تركيب ذلك الفكر مؤكدين علمانيته» وهكذا أصبحت تيارات الهوية «تهيمن على هذا النظـــام بتوجـــه (لاهـــوتي) مضـــاد (لليبرالية)» .
واستمرت الأوضاع تحت سيطرة اليمين ، وفي إطار إعادة إحكام السيطرة انتهز جمال عبد الناصر الفرصة وأوعز لأنصاره في السودان فقاموا بانقلاب عسكرى بقيادة جعفر النميرى في 25 مايو 1969م إلا أن الأمر لم يتم كما خطط له ، فبالرغم من نجاح العسكريين في السيطرة على السلطة ، إلا أن التناقض داخل التيار اليساري وإيثار بعض فصائله الانفراد بالقيادة ، وعدم إدراكهم متطلبات المرحلة وإصرارهم على الثورة الشاملة والحسم الفوري أدى إلى نتائج عكسية «كانوا يعمدون إلى تصور ذاتي لعروبة مستجلبة غير العروبة في السودان، أي خارج تراثيتها وتاريخيتها في السودان نفسه ، ومن هنا تحرق مرحلة كاملة عبر مفهوم عدمي ، ثم لا تلبث هذه المنظمات أن تكشف نفسها في العراء أمام هجمات الإخوان وحزب الأمة» .
ومن أخطر نتائج ذلك الصراع : تصفية الحزب الشيوعي على يد نميري إثر محاولة انقلابهم التى قاموا بها ضده في يوليو سنة 1971م . وبعد هذه الحادثة، وبالرغم من تحذيرات الكاتب من سوء العاقبة، ومحاولته رأب الصدع وتوحيد الصفوف، إلا أن تعنت الشيوعيين وفردية نميري أدت إلى ارتماء هذا الأخير في أحضان اليمين «لهذا كنت ألح على ضـرورة شــرح البرنامج (الوطني الديمقراطي) على مايو مهما كانت ظروف الشقاق والتوترات التى لا تعكس سوى صراعات سطحية في إطار جبهة واحدة بالضرورة ، فسقوط مايو كان يعني أن تسقط معه عمليًّا كافة الشعارات التى طرحها والقوى التى أفرزت هذه الشعارات وتبنتها على مدى تاريخنا النضالي المعاصر الذي يمتد لربع قرن من الزمان» . وبالرغم من كل هذا وما قدمه الاتحاد السوفيتي من مساعدات لتطويق القضية «فـإن واجب الكتلة الشيوعية هو مساعدة الرفاق السودانيين على [الاعتراف بأخطائهم] والتصرف بشكل مختلف» إلا أن الأمر باء بالفشل .
وبعد أن يئس الكاتب من الإصلاح غادر البلاد خفية في أغسطس سنة 1972م واستمرت الأوضاع في تدهور وبدأت تتحقق تحذيرات الكاتب وهي احتواء اليمين للنميري، إلى أن وصل الأمر إلى التحالف بين نميري والإخوان وإعلانهم قوانين سبتمبر 1983م، «وبدأت مسيرة الصلب من خلاف وتقطيع الأطراف … وبجهل تام لخلفيات أو الماورائيات الفلسفية للتشريع الإسلامي الذي جاء لينسخ التشريع التوراتي لا ليثبته» .
وبعد مغادرة الكاتب البلاد جدت مستجدات على المستوى السوداني والعالمي:
1- نماء التيار الديني في العالم الإسلامي وازدياد قوته ، وتمثل ذلك في:
أ – انتصار الثورة الإيرانية في أواخر السبعينات .
ب – قيام الجهاد الأفغاني في نفس الفترة، وتمكن المجاهدين من دحر الزحف الشيوعي ، وما ترتب على هذا من ترسيخ مبدأ أن الإسلام هو الوحيد القادر على حل مشاكلنا .
ج – دخول بعض الإسلاميين البرلمان في عدة دول واستلامهم بعض الحقائب الوزارية .
د – قيام الانتفاضة الفلسطينية بقيادة حركة إسلامية وصمودها في وجه الصهيونية التى عجزت عن مقارعتها حكومات يسارية سابقة .
وفي المقابل نجد تراجع واضح للتيار الاشتراكي الثوري محليًّا وعالميًّا من ذلك:
أ – هزيمة حكومات عربية اشتراكية أمام الصهيونية، وبخاصة في حرب 1967م وما أعقبها من نتائج سلبية ، وفقدان الثقة بالتيار اليساري كمشروع تحرري .
ب – عجز هذه الحكومات عن قيام الثورة التنموية التى بشرت بها في ظل الاشتراكية .
ج – تحالف اليسار مع الغرب الإمبريالي أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
د – سقوط الاتحاد السوفيتي وتحلل الكتلة الشيوعية عمومًا .
هذا على المستوى الخارجي للسودان أما على المستوى الداخلي فأهم الأحداث:
أ – هي استلام الإسلاميين السودانيين للسلطة إثر انقلاب عسكري في 29 يونيو 1989م وقبر حلم الشعب السوداني الذي توصل إلى اتفاقات أصبحت محل إجماع الشماليين والجنوبيين .
ب. وفاة ثلاث شخصيات سودانية، لو قدر لها أن تحيا لكان لها أثر بالغ في مجريات الأحداث بعد إسقاط نميري في 1985 م وهي :
1- بابكر كرار ، الذي عرف بالجمع بين الفكر الإسلامي والقومي وبتوجهاته الاشتراكية ، فقد كان أمة ترتجي في مواجهة التيار الإسلامي .
2- علي عبد الرحمن ، رئيس حزب الشعب الديمقراطي .
3- الشريف حسين الهندي ، الذي «قد ظل مستمسكًا إلى اللحظات الأخيرة من حياته بالتحالف مع القوى اليسارية والوطنية الديمقراطية» .
كل هذه العوامل جميعًا وغيرها ومنذ بداية ظهورها جعلت اليسار العربي يعيد حساباته مجددًا مع مسألة الدين لإدراجه ضمن العوامل المكونة والمحفزة للهوية القومية ، ودفعًا جديدًا للاشتراكية . وإن كان هذا الاتجاه ليس بجديد فقد وجدت نواته عند كبار الشيوعيين القدامي من أمثال اللبناني رئيف الخوئي، وهو من أصل مسيحي، والســوري خالد بكداش ومن بعدهم المؤلف نفسه ، إلا أن الأمر الآن أصبح تيارًا عامًّا «وإلى أن يتدرج تاريخنا الراهن لحل هذه الموضوعة الدقيقة التى سيتبعها تغير في النظرة (الأيديولوجية) للدين والتراث والشخصية، فإن المركزية السودانية هي صيغة التفاعل المحلية بين مختلف هذه القوى . وهي الصيغة الإيجابية الوحيدة التى تحفظ للعروبة استمرارية دورها التاريخي المركزي مع الأطراف إلى أن تصبح العروبة ملهمة للآخرين الذين سيستقبلون تأثيرها الإيجابي . عدا ذلك فإن سقوط المركزية السودانية بشعارات المغالاة القومية، لن يؤدي في الظرف الراهـن إلا إلى تأكيد المصادمات العصبية ».
وغير هذا من النصوص التى تؤكد على تبني اليسار موقفًا جديدًا من الدين، وهي محاولة تبنيه بفهم جديد يتوافق مع الهدف القومي الكبير ، وقطع الطريق أمام التيار التراثي و«المشكلة أكبر من ذلك وأعمق وأخطر . فهناك خطان استراتيجيان يبتدئان الصراع بينهما الآن على مستوى القرن الإفريقي كله ، لكن بشكل جنيني ، والأزمة الإريترية – السودانية مجرد مظهر أولي» وخطورته تكمن في « أن من يتبنى هذا المشروع في السودان يراهن عليه كمشروع – تأسيسي – لإعادة صياغة القرن الإفريقي في (كيان أصولي كامل) يكون قاعدة ومنطلقًا للحركة الأصولية العالمية .
هذه بعض الإضاءات حول تلك المقولات التى سادت ولا تزال تسود عالمنا العربي، وإن اختلفت في التسميات فالغاية من ورائها واحدة . ويستحسن قبل الولوج في المبحث القادم أن نختم بهذا السؤال الذي سألته إحدى الصحف العربية للكاتب، وقد أجاب عليه بعد أن أقر محتواه :
س. إن التساؤل المحير هو كيف أنك تجمع بين انتمائك القومي العربي وتوجهك القومي إلى وحدة القرن الإفريقي ، هذا إذا لم نتسائل عن كيفية الجمع بين منظورك القومي الإسلامي بذات الوقت ، وقد سبق لك أن أوضحت تقبلك للنظام العلماني في إطار توجهك الإسلامي . وهذا ما سنجد إجابته الكافية في كتاب العالمية .
(2-2) الفصل الثاني : إشكالية الكاتب، فرضياته وأجوبتها:
نظرًا للأسلوب الخاص الذي اتبعه المؤلف في كتابه هذا – (العالمية الإسلامية الثانية)، مما جعل مسألة استعراضه وفق هيكله الأصلي أمرًا شبه متعذر، وذلك لتداخل أفكاره وعناوينه- فإن هذا البحث سيعمل على انتهاج طريقة خاصة يُرجى أن تؤدي المقصود بأوجز عبارة وأوضحها، وذلك بالتركيز على أهم الأفكار الأساسية الواردة في هذا الكتاب ومحاولة عرضها بأسلوب منهجيّ مبسّط يسهّل على القارئ متابعتها وفهمها دون جهد.
أ. إشكالية الكتاب :
ما من كتاب إلا وتحكمه غالبًا إشكالية ناظمة تتفرع عنها تصورات الكاتب وأفكاره تجاه موضوع ما، أو قل هي المحور الأساسي الذي يدور حوله باقي الكلام، وبقدر وضوحها وتجذّرها في أعماق الكاتب بقدر إمكانية تعبيره عنها بأنسب عبارة وأوضحها، إذًا فما القضية التي شغلت ذهن المؤلف ردحًا من الزمن مما دعاه إلى كتابة هذا الكتاب؟
بعد التتبع والاستقصاء عثرتُ على بعض الفقرات التي تحدد هذا الأمر، أهمها اثنتان:
أولاهما: «ماذا سيحمل العربي -وهو في قمة تخلفه- الآن للعالم الذي تجاوزه حضاريًّا؟ وكيف سيتحول العربي من دائرة الانفعال السلبي بالعالمية الأوروبية المعاصرة، إلى دائرة الفعل الإيجابي باتجاه عالمية بديلة؟» .
ثانيتهما: «كيف يمكن طرح القرآن على مستوى الحضارة العالمية الراهنة؟ وضمن أفقها؟ ليستطيع أن يقود المسلم أولاً إلى خارج التخلف، ثم يقود معه العالم إلى حيث البديل؟» .
فالفقرة الأولى تضمنت التساؤل عن:
أ. مدى إمكانية مساهمة العربي المتخلف في عالم متجاوز له حضاريًّا.
ب. كيفية تحول العربي من دائرة الانفعال بالغير إلى دائرة الفعل الإيجابي باتجاه البديل.
أما الفقرة الثانية فقد نصت على كيفية طرح القرآن طرحًا جديدًا يتناسب والأفق المعرفي المعاصر ليصبح قادرًا على قيادة المسلمين ثم العالم كله إلى حيث البديل.
إذًا يحصل من دمج الفقرتين السابقتين الصياغة الآتية:
كيفية إمكان فهم القرآن فهمًا جديدًا يتناسب والأفق المعرفي المعاصر ليصبح قادرًا على نقل العربي المسلم أولاً من دائرة التخلف والانفعال السلبي إلى دائرة الفعل الإيجابي ثم قيادة العالم كله إلى عالمية جديدة.
ب. فرضيات الكاتب وأجوبته:
بالنظر والتحقيق في العنوان -العالمية الإسلامية الثانية، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة- الذي اختاره المؤلف لكتابه هذا، يظهر جليًّا فرضياته التي اقترحها لحل الإشكالية التي شغلت فكره وفكر كثير من الباحثين على مدى زمن طويل.
1. فالعنوان بالنظر إليه من الناحية النحوية هو عبارة عن جملة اسمية مبتدؤها العالمية الإسلامية الثانية، وخبرها جملة فعلية أو اسمية على حسب تقدير المحذوف، مفعولها أو خبرها -جدلُ الغيب والإنسان والطبيعة، فالصياغة المقدرة في العنوان هي: – العالمية الإسلامية الثانية – تعادل – هي – جدل الغيب والإنسان والطبيعة.
2. وبالنظر إليه من الناحية البلاغية فهو أسلوب خبري، أي أنه يحتمل الصدق والكذب لذاته. وهنا يكمن جهد المؤلف في البرهنة على صدق ما ذهب إليه، وهذا ما حاول أن يقوم به في كتابه هذا.
3. وبالنظر إليه – بالتعبير الأصولي- بمفهوم المخالفة على رأي من يقول به في كلام البشر، أن هناك عالميّة إسلاميّة أولى لم يتفاعل فيها الفكر البشري وفق جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، وهذا ما ذكره المؤلف نفسه في كتابه.
وإذًا فما العالميّة الإسلامية الأولى وما خصائصها؟ وما العالميّة الإسلاميّة الثانية وما خصائصها؟ وفِيمَ تختلف كل منهما عن الأخرى؟
الفرضية الأولى: العالمية الإسلامية الأولى:
خصائصها: هي عالمية تمتد منذ البعثة النبوية إلى عصرنا الحاضر وقت بداية الهيمنة اليهودية، وهي عالمية تأتت من خلال صراع الحق مع الباطل عبر سياق المراحل التاريخية للتشكلات الدينية، التي بدأت بالعائلة -آدم- في صراعه مع إبليس، ثم تمر بالقبيلة -موسى وقومه في مقابل فرعون وقومه- ثم تصل إلى العالمية الإسلامية عالمية الأميين في مقابل الأمية الفارسية والأمية الرومانية ذات الجذور الهيلينية وإن اتخذت المسيحية بشكل معين .
ويعطي المؤلف تقسيمًا آخر للمراحل التاريخية للتطور البشري، يعتمد على النمط الفكري، وهذا التقسيم يبدأ بالمرحلة «الإحيائية التي ترى بالكثرة المستقلة، ثم الثنائية التي تجعل الكثرة في متقابلات ثنائية، ثم الجدلية التي تحيط الكثرة والثنائيات في كل واحد» والمؤلف بهذا التقسيم تارة يعبر عن العالمية الإسلامية الأولى بالثنائية وتارة بالإحيائية .
ومن خصائص هذه العالمية أنها خاصّة بالأميين؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُـوا بِهِـــمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَـكِيم} [الجمعة: 2-3]، وتكون مسئوليتها ملقاة على عاتق العرب، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِـــكَ وَسَــوْفَ تُسْـــأَلُونَ} [الزخرف: 44]، وموقع تفاعل العرب -الأمة الوسط- مع غيرهم هو الوسط من العالم القديم ، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُـــــولُ عَلَيْكُــمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
ومن خصائص تلك العالمية أنها تتعامل مع القرآن في إطار بنائه اللفظي؛ لأنه لم يكن ممكنًا لعقلية إنسان تلك المرحلة النفاذ إلى المنهج القرآني عبر التحليل؛ لذلك كانت القدوة الرسولية الحسنة تمثل الصلة الحية ما بين حقائق الوعي القرآني في مطلقها وتصورات الوعي البشري في نسبيتها التاريخية ، لذلك عـرف الرسول بأنه الأسوة الحسنة .
وهذه العالمية هي عبارة عن مرحلة تاريخية انتقالية ما بين مرحلة الدين القومي – التجربة الإسرائيلية – وما بين العالمية الإسلامية الثانية . وقد مرت هذه العالمية في تدهورها بمرحلتين :
1- مرحلة أولى تميزت بعدم البحث عن بدائل خارج الإسلام وتواصل قوى التجديد ضمن ظروف مختلفة .
2- مرحلة ثانية : تعتبر نتيجة للمرحلة السابقة وخاتمة للعالمية الإسلامية الأولى ومن أبرز مظاهرها :
أ – تمزق الكيان …
ب – البحث عن بدائل وضعية …
جـ – الارتداد للأصول الحضارية القديمة …
د – التمايز بين العربي وغير العربي…
هـ – قيام الدولة الإسرائيلية .
الفرضية الثانية : العالمية الإسلامية الثانية :
خصائصها : الآن هو بداية ظهورها؛ إذ كل الشروط الموضوعية قد توفرت لها، فعودة اليهود من وراء التاريخ وسيطرتهم على العالم تعدّ مقدمةً لإنهاء العالمية الإسلامية الأولى وبداية العالمية الإسلامية الثانية التى تتولّد تاريخيًّا من خلال تدافع عربي – إسرائيلي ينتهي بالإنسان العربي شاء أم أبَى إلى تبني الحضارة العالمية البديلة .
ومن خصائص هذه العالمية أنها عالمية شاملة لقوله تعالى : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَـــــرِهَ الْمُشْرِكُون} [التوبة :33] وحامل خصائصها هو العربي الذي حمل خصائص العالمية الأولى . وموقع انطلاقها هو الوسط العربي العالمي لتشمل كل الأنساق الحضارية والدينية لما تبقى من الشعوب الأمية غير الكتابية وتلك الكتابية .
ومن خصائصها أيضًا أنها تتعامل مع القرآن ضمن إطار منهجي عميق ، وعبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة ، وهو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح، يتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث(5). لذلك فهي تستبدل هذا «المنهج» بالقدوة الرسولية الحسنة بفضل ما أتيح لها من «الخصائص العالمية» التى لم تكن متوفرة للعالمية الأمية(6).
وباختصار فإن العالمية الإسلامية الأولى هي عالمية محدودة تركزت في وسط العالم القديم في حدود الشعوب الأمية، وهي عالمية تفتقد المنهج وتهتم بأشكال الألفاظ دون مضامينها، وهي عبارة عن مرحلة انتقالية بين المرحلة القبلية والمرحلة العالمية الإسلامية الشاملة. أما العالمية الإسلامية الثانية فهي شاملة تتجاوز الوضعيتين اللاهوتية والمادية باتجاه الالتزام بمقتضيات السلام والوحدة في التجربة البشرية . وهي عالمية تتولد عبر الصراع العربي اليهودي، فاليهود بما أمدهم الله به من مال وبنين وهيمنة على العالم . والعرب بما أمدهم الله به من موقع وسط وأساس مادي ضخم يختصر الجهود والزمان باتجاه ظهور العالمية الثانية .
وبعد إعطاء فكرة عامة حول إشكالية المؤلف وفرضياته ، وبعد إبراز الإطار العام للكتاب وقبل الانتقال إلى إيراد أهم الأفكار في أطروحة المؤلف . يُستحسن عرض المنهجية التى اتبعها الكاتب في عرض هذه الأفكار .
(2-3) الفصل الثالث : منهجية المؤلف:
وإن كان المؤلف لم يفرد مبحثًا خاصًّا لبيان المنهج الذي اتبعه في كتابه ، إلا أنه بعد استقراء أفكاره وتحليلها ، ظهرت بعض العبارات التى تشير إلى المنهجية التى تبناها المؤلف، وهي تتضح في:
1- المنهج التحليلي :
وهو ما يرى المؤلف أنه تميز به عن الأقدمين في فهم القرآن، حين يقول : «لماذا خصنا الله في هذا العصر بالرؤية المنهجية للقرآن؟ ولماذا يختلف أسلوبنا التحليلي في التعامل مع القرآن عن الأسلوب التفسيري التقليدي؟ وبمعنى آخر لماذا نلجأ نحن إلى الوحدة الناظمة ، في وقت لجأوا فيه هم إلى التعامل مع الكثرة؟ الفارق هنا يكمن في اختلاف أسلوب المعرفة ، فالفكر التحليلي قد يبنىحضاريًّا في عصرنا العلمي الراهن على معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي . ويرى المؤلف أن في «تطبيق هذا الأسلوب الحضاري في فهم القرآن بالبحث في وحدته المنهجية عن الناظم يضعنا في مرحلة متقدمة جدًّا لفهم هذا الكتاب ، ويمكننا من حل العديد من المعضلات الفكرية التى كــانت مستعصية الحــل في الماضي» .
ويفهم مما سبق أن التحليل عنده هو:
1. معالجة الكثرة ارتدادًا بها إلى الوحدة .
2. وربط الظواهر ضمن علاقاتها الجدلية بإطارها الموضوعي .
فالعبارة الأولى تحتمل معنيين أولهما أولى بتعبير المؤلف :
أ. وهو تأليف الكل من أجزائه ، وهو أقرب لفهم المؤلف؛ لأنه ذكر الارتداد إلى الوحدة بعد المعالجة بدون عطفها عليها بما يعني أن العبارة الثانية جاء بها لمزيد من التأكيد والبيان .
ب. أنه يقصد بمعالجة الكثرة تحليل الكل إلى أجزائه ودراستها ، ثم إعادة تركيبها من جديد، وهو ما عبر عنه بقوله : « ارتدادًا بها إلى الوحدة» ، وإن كانت العبارة لا تحتمل كل ذلك.
أما العبارة الثانية فتعني حل التناقض بين البنى الذاتية جدليًّا، وذلك بوصلها بإطارها الواقعي .
وبهذا المنهج يبشر المؤلف بحل معضلات فكرية كانت مستعصية على القدامي .
2- الألسنية المعاصرة :
أو الحفر الألسني على حد تعبير المؤلف، وهذا ما يسمى بالمنهج البنيوي، ويضيف المؤلف بأنه طبق هذا المنهج في دراسته للقرآن قائلاً : «فأخذت بتطبيق المنهج على (نماذج) من هذه الإشكاليات، ومن بينها ، على سبيل المثال ، ضوابط الاستخدام اللغوي في القرآن، وتحديد العائد المعرفي في معنى المفردات بطريقة ألسنية معاصرة تختلف عن الاستخدام الكلامي الشائع في اللسان العربي القديم» . ويقول في موضع آخر : «إن معالجة النص القرآني عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة هو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح – وهو – ما يتعارض مع ما وثقه العرب من لسانهم البلاغي ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث» .
3- المنهج التاريخي :
يقول المؤلف: إنه مَنْهَج لفهم التاريخ – فهمًا إسلاميًّا – منطلقًا من علاقة الغيب المدروسة والمحققة بحركة الواقع البشري، وذلك من خلال منطق التدافع والدورات من لدن آدم عليه السلام وإلى عصرنا الحاضر . وهذا المنهج لا يعمد إلى إلغاء المناهج الأخرى في فهم التاريخ وإنما يستوعبها ثم يتجاوزها بإضافة بُعدِ غـائب وهو بُعدُ التدافع الوضعي – الديني . ويحاول المؤلف أن يبيّن الفرق بين منهجه وبين المنهج الماركسي بقوله: « بمعنى آخر أكثر وضوحًا نقول: إن المنهج القرآني يأخذ بالغائية، ولكن خلافًا لمنطق الفلاسفة الغائيين فإننا لا نقول بالغاية المسبقة كوسيلة تحكم مسار الحركة العامة وتتجه إليها جبريًّا» . ولتوضيح ذلك يقول : « حسابات الجدلية المادية كانت معقولة في أوقات طرحها فهي نوع من إبصار المستقبل بحسابات الحاضر وضمن منهج متطور لعلم السببية ، غير أن الذي فات الجدلية المادية أن كل ظاهرة تتعامل معها ذات عمق كوني ولها امتدادها النهائي إلى عالم الغيب الذي يشكل النتائج ، ليس ارتباطًا بمقدماتها الجدلية ولكن تقديرًا بالحكمة لما يجب أن تكون عليه النتائج. وغالبًا ما تأتي هذه النتائج لتوضح الغائية في التسخير لما يريد أن يوفق الله أو ضدّ التسخير لما لا يريد أن يوفق {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَاب}[النور:39] .
ويرى المؤلف أن مفهوم الحركة في التاريخ البشري من خلال القرآن لا يقوم عبر الصراع الطبقي كما هو الحال في النظرة الغربية وإنما يقوم عبر أشكال دائرية، بدءًا بالشكل الفردي ثم الشكل القومي وانتهاء بالشكل العالمي . وبعبارة أوضح أن هناك جدلاً بين الإنسان والكون يتم عبر أطوار تاريخية ثلاثية، فالانفصال المادي للإنسان من الكون عبر مراحل ثلاث «مواد مختلطة من النسيج الكوني تتحول إلى كائن عضوي ويتحول إلى إنسان» يقابله اندماج الإنسان بالوعي في رحم الكون عبر مراحل ثلاث « الطور العائلي ، الطور القومي ، الطور العالمي» وهي « تماثل ثلاثية الخلق في الرحم» .
هذا وقد نبّه المؤلف إلى أمور منهجية تتعلق بأخلاقيات البحث العلمي جديرة بالذكر ، ومن أهمها :
1. يحذر المؤلف من الإسقاطات الإيديولوجية في فهم القرآن، ويرى أن «التمسك بالحقائق هو الأصالة الحضارية ودلالة النضج العقلي المنهجي وليس تسيبات الحوار السلبي» .
2. يدعو المؤلف إلى احترام التخصصات، ويرى أن مسألة تحليل القرآن «هي محاولة جديدة تتطلب استيعابًا مسبقًا لعدة علوم تخصصية في مجالات : التاريخ ، واللغة ، والطبيعيات، والفلسفة ، إضافة إلى علوم الثقافات القديمة والأديان المقارنة . ولا أعتقد أنه بإمكاني ادعاء هذا النمط من الاستيعاب الموسوعي . لم أطرح – إذًا – سوى مقدمة التحليل المنهجي وكيفيته ، على أمل أن ينهض بالعبء الضروري طائفة من العلماء المتخصصين في مختلف المجالات» .
3. أنه لا بد من معرفة حقيقة منهجية مهمة وهي أننا لا نحاسب الأوائل من خلال متاحات عصرنا، ولا نعد ذلك عائدًا إلى نقص فيهم وكمال فينا « وإنما يعود إلى طبيعة مقومات تجربتهم وخصائص تكوينهم التاريخي والاجتماعي» ، إذًا فالأمر خارج عن نطاقهم فليراع كل ذلك أثناء البحث.
وبعد عرض منهجية المؤلف يُوفّي بما وُعد به من عرض أهم آرائه مع أدلته وبراهينه عليها.
(3-4) الفصل الرابع : عرض لأهم آراء المؤلف مع ذكر أدلته وبراهينه:
قبل البدء في عرض هذه الأفكار يجب التنبيه على الملاحظات الآتية :
1. معذرة على ما سيجده المطلع على هذا البحث من طول في هذا الفصل ربما يبدو لأول وهلة وكأنه مبالغ فيه، فطبيعة البحث اقتضت ذلك؛ لأنه من الصعب جدًّا أن كتابًا مثل العالمية – اجتمعت فيه خلاصة الفكر البشري مع نقدها وإعطاء بديل لها – يُحشر في صفحات قلائل .
2. أنني سأعمل قدر الإمكان على إيراد عبارة المؤلف كما يوردها هو في كتابه احترامًا للمؤلف أولاً وللمطلع على كلامه من خلال هذا البحث ثانيًا، حتى :
أ. يُناقش المؤلف من خلال ما قاله بعبارته لا بما يُنسب إليه .
ب. يُعطي للمطلع فرصة إبداء رأيه فيما يعرض عليه من ملاحظات.
أما هذه الأفكار الأساسية فتندرج تحت ستة عناصر أساسية وهي :
1. الجمع بين القراءتين :
ينطلق المؤلف في تقرير هذه المسألة من فهمه لقوله تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5] فيرى الكاتب هنا أن الله سبحانه وتعالى قد طلب من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم قراءتين:
الأولى : هي قراءة خالصة لتجليات القدرة الإلهية في الكتاب الكوني المفتوح دون كيفية محددة تتجلى في الكائنات فـ «هي قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلقها للظواهر ذات المعنى وتحديد هدف الخلق» وهي «قراءة تأتي باسم الله المقدس أي بوصفه خالقًا، والخلق صفة يتفرد بها هو وحده» .
الثانية : «قراءة ليست باسمه، ولكن بمعيته؛ لذلك لم تأت الآية في الشطر الثاني على نحو المقدمة، فلم يقل (واقرأ باسم ربك الأكرم) ولكن {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم} فجعل العطف على الربوبية، وأعطى الأمر الثاني {اقْرَأْ} اتجاهًا مستقلاً، والأمر واضح بالنظر إلى حركة الواو في القراءة الثانية . فدليل المعية هنا في {وَرَبُّكَ}» فهذه قراءة تدل على آثار كرم الله في خلق الكون وتسخيره للإنسان؛ لذلك جاءت عبر وسيط خارجي – القلم – للإنسان، وهو ما يسمي بالعلم الوضعي، ويسميه المؤلف بالعلم الموضعي . إذًا فهما قراءتان فريضتان «ربانية وإنسانية» تتم الأولى بالله والثانية بمعيته . فمن عطل الثانية وقع في أسر الكشف الصوفي؛ مما يؤدي إلى انتقاص قيمة الفعل الإنساني والتأثير على مردوده الحضاري مثلما حدث للإنسان العربي . أما تعطيل القراءة الأولى فيؤدي إلى نفي الدور الإلهي في الكون والارتماء في أحضان الحلولية الوضعية التى تطورت وانتهت في شكلها المادي الجدلي ، وربط الإنسان ودمجه بالطبيعة واستغنائه بالقلم عن خالقه، وهذا ما عبر عنه المقطع الثاني للسورة {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْـــتَغْنَى(7)إِنَّ إِلَى رَبِّــكَ الرُّجْعَى} [العلق: 6-8] والرجعى هنا خلافًا لقول المفسرين لا تعنى الإرجاع الأخروى، وإنما هي دلالة العود على الأثر نفسه ؛ لأنها تصريف من الرجع، أي الاسترداد الآني كالسماء ذات الرجع، وهذا الارتداد لا يعني غياب الفعل الإلهي قبلها عن القدرة الإلهية وإنما غيابها من وعي الإنسان المستعلى بالقلم. ومما يؤكد هذا المعنى الدنيوي وضع دعوة الزبانية كمقابل شرطي لـ {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق : 17] دعوة تتم في الدنيا ؛ لأنه ليس في الآخرة هناك جماعة يلوذ بها الإنسان ، وكذلك كلمة {الناصية} رمز الاستعلاء والطغيان فتسفع كرمز للإهانة» .
من هنا يفهم «أن القدرة الإلهية في تداخلها مع الفعل البشري تظل مهيمنة على نتائج الفعل البشري الحضاريةباحتوائه سلبيًّا إن كان فعلاً خاطئًا ، وباحتوائه إيجابيًّا إن كان فعلاً صالحًا .. والمبدأ الخاص بوجود الله في مسيرة الفعل البشري توفيقًا وتضليلاً لا يأتي دومًا ضمن مواصفات حتميّة ، فلله تقدير الأمور وللإنسان تدبيرها في إطارها الموضعي» .
2. القرآن وضوابط الاستخدام اللغوي:
قسم المؤلف هذه المسألة إلى مبحثين، وهما :
أولاً : التمييز بين التوظيف الإلهي للغة والتوظيف العربي :
وهذا المبحث هو من أهم المباحث التي انبني عليها فكر المؤلف، بل قل إنها الركن الأساسي الذي أقام عليها صرحه؛ لذلك سيعمل البحث على إطالة النفس في إيضاح هذه الفكرة وإيراد أمثلتها التى تناثرت في معظم مباحث الكتاب.
يرى المؤلف أن هناك فرقًا بين لغة القرآن وبين لغة العرب ، «فالاستخدام الإلهي للمفردة يرقى بها إلى مستوى المصطلح» « بحيث ينتفي منطق المشترك والمترادف» ؛ لأن القرآن مركب على اللغة كأداة تعبيرية ، وبما أن منهجيته المعرفية ضابطة لكل الموضوعات التى يعالجها، فإن لغته يجب أن تكون منضبطة كذلك ، فلا يعطي للمفردة الواحدة أكثر من معنى مهما اختلف موضعها وسياق توظيفها، وإلا لوقع التضارب بين مفردات القرآن واختلفت التأويلات والتفاسير . كل هذا يتعارض مع ما وثقه العرب في لسانهم البلاغي، ويصطدم كذلك بمرجعية الموروث وتداعيات العرب البلاغية(5) .
وقد أورد المؤلف عدة أمثلة تؤيد وجهة نظره، ومن هذه الأمثلة ما يلي :
أ. الفرق بين اللمس والمس : إن العرب لم يفرقوا بينهما وجعلوهما من قبيل المترادف، في حين أن لمس تعني قرآنيًّا التناول باليد أو الاحتكاك العضوي والحسي، ومس تعني التفاعل العقلي والوجداني؛ لذلك لم يمنع الله لمس المصحف فهو للبشر أجمعين وكيفما كانت حالاتهم . فلهم أن يتناولوه . أما مس القرآن بما يعني التفاعل مع مكنوناته وأعماقه فيتطلب حالة من الاستعداد {إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ(77)فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون} [الواقعة : 77-79]» .
ب. الفرق بين الرؤية والنظر والشهود: يرى المؤلف أن الرؤية تتعلق بالأمور الحسية، وآلتها العين المجردة ، أما النظر فيتعلق بالأمور المعنوية التى تعتمد على التأمل والإدراك، وآلتها العقل، واستدل على ذلك بقوله تعالى : {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] . «وقد طلب موسى رؤية الله عبر النظر، بمعنى أن يرفع عوائق الرؤية الحسية أو حجابها ليمكن النظر، والنظر يرتبط بالمخيال والتأمل، وقوى الإدراك خلاف الرؤية الحسية بالعين المجردة {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام :77] فالنظر عقلي والرؤية حسية. ولهذا قال الله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَـــا نَاظِرَة} [القيامة :22-23] فهنا يتعلق النظر إلى الله بالوجوه، وليس العين المجردة التى ترى، في حين أن العقل هو الذي يدرك قيمة الأمر وينفعل به {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْـــرَةٍ فَنَظِـــــرَةٌ إِلَى مَيْسَــــــرَةٍ } [البقرة:280] {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة :69] ولهذا خاطب إبراهيم ابنه إسماعيل بالنظر في أمر الرؤيا المناسبة ، أي تقليب الرأي فيها ، ثم اتخاذ قرار قاطع كمن يرى الأمر عيانًا في حقيقته {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات :102] . وكذلك ميز القرآن بين البصر والرؤية العينية ، فالبصر إدراك {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُون} [غافر: 58].
فالبصر إدراك والسمع استيعاب {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} [الأعراف: 179] .
وكذلك ميز القرآن بين شهود الأمر بمعنى حضوره وبين رؤية الأمر بالعين . وهكذا قال : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة : 185] فهناك حضور للشهر في الزمان والمكان؛ حيث يكون الإنسان مقيمًا ، ثم استثنيت حالتان ، مقيم مريض ، وغير مقيم مسافر . ولم يطلب الله في هذه الآية رؤية الشهر ؛ وذلك لأن الشهر لا يرى بالعين وإنما الأهلة. ورؤية الأهلة كرؤية إبراهيم لها … {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} والشهور حساب {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه} [التوبة :36] فأن يشهد الإنسان الشهر يعني أن يكون حالاً حين توقيته ، ولا علاقة لذلك برؤية الهلال كما يعتقد الكثيرون .
ج. الفرق بين اللدنية والعندية :
يقول المؤلف: «اللدنية أوثق صلة من العندية، فاللدنية تضمر جوانية الذي يعطي، أما العندية فتضمر ما يكون لديه. فحين يكون الوحي لمحمد فإنه من لدن الله {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيم } [النمل :6] أما أم الكتاب وهي الآيات المحكمات، التى تعتبر أصلاً له من قبل تشيؤه في لغة ما ، فهي لدى الله بالغة ما بلغت من العلو والإحكام بحيث تهيمـن على كل متشابه» {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف :4].
د. الفرق بين الخلق والجعل: يرى المؤلف أن «الخلق من عالم الغيب كما يقتضي الأمر الإلهي إبداع الشيء من غير أصل أو احتذاء ، أم الجعل فهو من عالم الشهادة حيث مجرى الصيرورة، وتحول الشيء من شيء وتصييره على حالة دون أخرى ، فالله قد خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فالخلق أمر إلهي والجعل صيرورة طبيعية، وهكذا يلتقى جدل الغيب بجدل الطبيعة، ولكنه لقاء على غير انفصال، وإنما ضمن قراءة كونية واحدة {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَــنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون: 14]» .
هـ . الفرق بين الإيمان والإسلام :
يقول المؤلف: إن «الإيمان هو القاعدة العامة للتدين، ولكنه نوعان :
1. إيمان حسي يقوم على المرئيات ، مثال ذلك بني إسرائيل الذين هم أقل مرتبة من الأميين العرب الذي رفعوا إلى مرتبة الإسلام .
2. إيمان غيبي يقوم على التسليم بالوعي ويطلق عليه الإسلام . فالإسلام هو إيمان مضاعف {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [النساء :136] فالعرب قد بلغوا مرتبة الإسلام قبل أن يستكملوا مرتبة الإيمان، فحين وصفوا أنفسهم بالإيمان أنبأهم الله بأن صفتهم هي الإسلام ، إسلام الأنبياء {قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًاإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [الحجرات : 14] .
وسبب رفع الأميين العرب إلى مرتبة الإسلام هو ارتباطهم بإمام المسلمين ونبي الأرض المحرمة والرسالة الخاتمة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161)قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْــلِمِين} [الأنعام: 161 – 163] .
فإسلامه من عالم الأمر الإلهي – وبذلك أمرت – وهو فوق عالم الإرادة الذي يتصدره موسي كإمام للمؤمنين {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف : 143] . وفوق عالم المكان والمشيئة الفطرية الأولى بإمامة إبراهيم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فعبر كافة هذه الأبعاد مجتمعة رُفعَ الأميــون العرب الى مرتبــة الإسلام» .
ثانيًا : القرآن وضوابط الاستخدام المنهجي النبوي للغة :
يرى المؤلف أن أي حديث لا يتفق لفظه مع ظاهر ألفاظ القرآن هو حديث مردود وإن صح سنده «فإني أؤكد أيضًا على التوافق والانسجام التامين بين لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القرآن، بحيث لا يحدث التضارب في المعاني والدلالات، واتخذت نموذجًا لذلك الحديث المنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ، وأوضحت تضاربه مع آيتين وردتا في القرآن؛ الأولى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة: 104] وكذلك {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء :46] إن دلالات راعنا التى نهى الله عنها مرتين واستبدلها (بانظرنا) خطيرة جدًا ، فراعنا تحط من قدر الناس بتحويلهم إلى – رعية – من مـرعى حيث يقودها الراعي بعصاه» .
ويرى المؤلف أن أسباب الدس على الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت من قبل تأثيرات اليهود «فالعرب كانو أميين، أي غير كتابيين، فالتمس بعضهم لدى اليهود تفصيلات لما أجمله القرآن، وبما يعوض لديه النقص في خلفيات التراث» .
ويقول المؤلف :« إن مجرد البحث في ضرورات التوافق بين متن الأحاديث النبوية ودلالات الألفاظ القرآنية المبنية على ضوابط منهجية ومعرفية ، يقود حتمًا للبحث في علاقة السنة بالقرآن، وليس في قولنا هذا ما يبطل السنة ، بل على النقيض من ذلك فإننا نؤكد على ضرورة الالتزام بمرجعية السنة الصحيحة التزامًا لا لبس فيه ولا غموض ، وذلك لسبب أساسي وجوهري يتعلق بضبط اجتهادات الأمة وعلمائها ومفكريها فيما يأخذونه من منهجية القرآن . فلو لم يكن الرسول بقوله وفعله الصحيحين يشكل المرجعية التطبيقية لمنهجية القرآن لوقع اختلاف كبير بين المجتهدين مثال على ذلك : إنه إذا لم يكن الرسول قد حدد الفجر بركعتين والمغرب بثلاث ركعات والعشاء والظهرين بأربعة ، وجئنا نحن لنقول: إن صلاة الفجر صلاة انفلاق بين خيط أبيض وخيط أسود، وتستوجب الثنائية في ركعتين ، وأن الغروب شفق مركب من ثلاثة ألوان بما يعني التركيب من بعد الانفلاق ، فيكون المغرب في ثلاثة من الركعات ، وأن الغسق ليل واستواء رحماني على العرش، والاستواء على كرسي رباعي القوائم فيكون العشاء أربعة .. لو قلنا كل ذلك، ومهما أتينا من أسانيد ، لكثر الجدل ولاتُّهمنا بالعرفانية ، ولتاهت الأمة بين مجتهد وآخر ، يدعى كل منهم أنه يملك ناصية المنهج القرآني ويستمد منه المعرفة والأحكام . إلى أن يقول : فلا يمكن أن تكون شرعة القرآن هي شرعة (التخفيف والرحمة) ثم نستجيب لروايات تنسب إلى الرسول تطبيق شرعة ( الأصر والأغلال على المسلمين .. أراد اليهود تزييف كل ذلك، فطعنوا في التطبيق الرسولي من الرجم وإلى قطع الأيدي ، وقالوا بأن الإيمان أرفع درجة من الإسلام ، وبرعوا في دس كل ذلك على الأحاديث ، وانصرف المسلمون إلى السند وليس إلى المتن ، وإلى المنسوبات وليس إلى المنهج ، وتلك كارثة لا زالت تلم بنا إلى اليوم» .
وللتأكيد على قيمة السنة ودورها التاريخي يقول : « ضمن خصائص الوعي في تلك المرحلة لم يكن ممكنًا للإنسان التعامل المباشر والنفاذ الواضح للمنهج القرآني عبر التحليل . من هنا اتخذت (النبوة) شكل الصلة الحية والتوسط الفعال ما بين حقائق الوعي القرآني في مطلقها وتصورات الوعي البشري في نسبتها التاريخية ، فعرف الله الرسول بأنه «الأسوة الحسنة» أي القـدوة العمليــة التى يحتذي بها العرب (عمليًّا) في حالة (الغياب النظري) لوعي المنهج» .
3. إشكالية الارتباط بين العرب والعالمية الإسلامية الثانية :
يحاول المؤلف أن يؤصل لمسألة العروبة من خلال القرآن بحيث يبقي للعرب دورهم الريادي والقيادي مع تجنب إثارة حساسية الآخرين يقول : «فالمسألة هنا لا ترجع إلى ذاتية عربية، ولكن إلى سياق دور تاريخي ومضمونه. لابد لكل دور تاريخي من مرتكز اجتماعي ، وعبر منطلق التدافع الذي يولد الخصائص النقيضة ، وإلا أصبحت النظريات والفلسفات أفكارًا تائهة في الفراغ .. فثمة تحليل جدلي لهذا التدافع العربي – الإسرائيلي، والذي سينتهي بالإنسان العربي ، شاء أم أبى إلى تبنّي الحضارة العالمية البديلة ، فالقضية هنا ترتبط بالدور وليس بالذات» .
ويزيد المسألة تعميقًا وتأصيلاً بدراسة بعض المفاهيم وإعطائها بعدًا يخدم مذهبه، فكلمة «الوطن التى وردت في القرآن مرة واحدة بصيغة الجمع تعنى عنده المواضع المختلفة {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة} [التوبة :25] ويقابلها مفهوم الدار الذي ينتقل مع أصحابه إلى حيث يرتحلون في حين أن مفهوم الوطن يعني الاستكانة للمكان والتموضع فيه، فالـوطن لا يرحل وإن رحل أصحابه» .
فالدار سياج بمعنى الحمى والحرم لا يقبل باختراقه ولا الخروج منه ، فهو دائرة محكمة مهما ارتحل بها الإنسان؛ ولذلك تستمد الدار جذرها مما يدرأ عنه تمامًا ، كمن يدرءون بالحسنة السيئة . فأهمية هذا المفهوم «الدار» ، أنه يرتبط بخصائص تكوين الشخصية العربية ، فدارها هو حماها وشرفها ، وكذلك من الحمى تولد مفهوم الحرم حيث حمى الله سبحانه وهو البيت الحرام في مكة.
«ثم إن الدار لا تحمل صفة المكان وخصائص المكان وإنما تحمل صفة أصحابها، فهناك فرق جوهري بين قول الله سبحانه {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِين} [الأعراف:145] ، وقول مثل – سأوريكم مكان الفاسقين – فالمعنى الأول يشير إلى وراثة الصالحين لدار الفاسقين. فصلح الدار بصلاح من سكنها . أما القول الآخر فيعني الآخر جعلهم فاسقين» .
فخروج العرب كشعب قبائل مؤلف بين قلوبها لا يعني تلاشيهم في الآخرين وذوبانهم ، وإنما كان استقطابًا للحضارات التقليدية في وسط العالم القديم. فقد خرجوا كشعب قبائل وليسوا كقومية وحملوا معهم ديارهم – الخطط – فخروجهم لم يكن نفيًا؛ لأن النفـي عقـاب {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْض} [المائدة :33] ، فخروجهم كان مع ديارهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران : 110] أما الخروج من الدار فهو فتنة وفناء للنفس {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُـوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } [الممتحنة :9]» .
فالأمة الوسط التى تعني الشهادة على الناس بالمفهوم القرآني ، هي الأمة العربية التي تعنى استرجاع الذات أو الدار بالمفهوم القومي المعاصر ، وقد أدى الخروج إلى تكوين الأمة الوسط ، ولكن بمنطق مفهوم «الدار» ، الذي لا يشكل وطنًا ولا وحدة قومية، ولكن بمنطق التأليف القبلي {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِم} [الأنفال :63] ، إذًا كيف يمكن أن يوجد الرابط الذي يشد الديار والأمة الوسط خارج معنى القومية والوطنية؟
الرابط هو اتخاذ مكة قبلة جاذبة للأمة الوسط والديار، فالله الذي هيأ الموقع الوسط للأمة الوسط ، هو الذي هيأ مكة قبلةً لها ؛ ولذلك ربط القرآن بينهما {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُـــــولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة : 143] ، ويظهر هذا المعنى بصورة أكثر وضوحًا في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} [البقرة :144] ، فمكة هي المركز الجاذب للشخصية العربية، فما يصيبها يصيب الشخصية العربية، وأما ما يصيب غيرها فيتعلق بالديار مثل ما أصاب الديار الفلسطينية ، فقد أخذ شكلاً تضامنيًّا ولم يتحول إلى انفجار للحمية ، فالمفهومان (الدار والقبلة) حالا دون الحشد القومي ضد إسرائيل» .
4. الخلط في التركيز على النزعة الأخروية :
يرى المؤلف أن أصحاب الفكر التقليدي ، وعلى رأسهم المفسرون ، قد أخطأوا خطأ شنيعًا نتيجة جهلهم بالمنهج واتباعهم الطريقة التجزيئية ، وعدم تبصرهم بأسرار اللسان العربي الدقيق المميز الذي نزل به القرآن قد أوقعهم في فهم خاطئ لآيات القرآن المتعلقة بالدنيا والآخرة ، فجمدوا أوصال الإنسان الفكرية وغلوا كمالاته؛ فلا ينفعل بالطبيعة مستوعبًا لها ، ولا يفعل فيها متحركًا بها ، وذلك بتركيزهم على النزعة الأخروية وجعلها الحقيقة النهائية، والاتهام الدائم للنفس الإنسانية بالحيوانية، هكذا فسروا جملة من الآيات {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَــــــــانُوا يَعْلَمُـــــونَ} [العنكبوت:64] {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُور} [لقمان: 33].
فمن طبيعة الحياة أنها تجذب الإنسان وتغرقه في حركيتها الوضعية، وتغيّبه عن حقائق الغيب المطلقة؛ لهذا جاءت القراءة لترقى بالإنسان وتتجاوز به لهو الحياة ولعبها …
فاللعب ليس مرادفًا للهو – فاللهو هو إحساس فطري يتعلق بأشكال الحركية الوضعية ويلهي صاحبه عن التعلق بالله. وأما اللعب فهو موقف جاد عمليًّا يحكم على نتائجه باللعب متى ما صرف الإنسان لهوًا عن قيام الجدية في زمانها ومكانها .
فالطواف حول الكعبة عمل جاد، فإذا فعل في وقت الصلاة المفروضة يعد لعبًا لوقوعه في غير زمانه ومكانه، ودليل ذلك قوله تعالى : {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُـحًى وَهُمْ يَلْعَبُون} [الأعراف :98] فهنا يلعبون لوصف حياة عملية جادة مقابلها النوم {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونََ} [الأعراف : 97] .
ويؤكد الله على أن علاقته بالدنيا ليست علاقة لهو ولعب {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 16 – 18] .
كان لغياب المنهج الذي فهم به القرآن أثره في إضفاء معانِ عكسية على موقف الإنسان إزاء فعله الذاتي ، وعلى موقفه من الحياة الدنيا فسادت النزعة الأخروية على نحو سلبي ، كما سادت نزعات التعجيز والتجهيل والتواكل ، فأصبحت الدنيا غير مطلوبة لذاتها في وقت خلقها الله بالحق .
5. منهجية القرآن وضوابط التشريع:
يرى المؤلف أن الثابت في التشريع هو مبدأ العقوبة أو الجزاء، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ فموكولة لكل عصر على حسب أوضاعه وأعرافه وقيمه، بهذا يستوعب القرآن الكريم متغيرات العصور، ويبقى كما أراد الله له صالحًا لكل زمان ومكان. وحاول أن يؤصل لهذه الفكرة من خلال فهمه للآية الكريمة التي تقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} [المائدة: 48]، محللاً إيّاها على النحو الآتي: «ولتحليل تركيب هذا النص يمكن إيراده على نواحٍ شتى لاستبانة الفارق في المعنى – لكل منكم شرعةً ومنهاجًا في هذا المبنى المحرف يعني أن الله قد قيّد التشريع به وأنزله أمرًا دينيًّا دون الرجوع إلى أبعاد أخرى. أما النص بـ -لكل جعلنا منكم- فيعني أن الله يرد التشريع إلى -منكم- أي جعلنا التشريع منكم مطابقًا لخصائصكم وتكوينكم وأعرافكم. وبمعنى أكثر تحديدًا أن الله ينزل حكمه متوافقًا مع أخلاقية الواقع وسلوكيته ضمن توافق تام مع الظرف التاريخي، فالشرعة والمنهاج هما استخلاص إلهي مقيد بشخصية الواقع، وقد أراد الله عبر هذا النص -أن يطلعنا على نسبية التشريع المنزل تبعًا للحالات التاريخية والأوضاع الاجتماعية المختلفة … إن عقوبات القطع والرجم والجلد كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي السابق على الإسلام، أما الثابت هو المبدأ وليس الشكل» .
6. معنى الاسترجاع النقدي التحليلي -القرآن بين التصديق والهيمنة-:
يعد هذا المبحث أيضًا من أهم المباحث التي ركّز عليها المؤلف في كتابه يقول: «بنص الآيات فالقرآن مصدق لما قبله من الكتب السماوية، أي أنه مصدق لموروث البشرية الروحي. غير أن التصديق يرتبط -بالهيمنة- على ذلك الموروث. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} [المائدة: 48] فالتصديق، إذًا، ليس عفويًّا، وإلا لما لزمت الهيمنة {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وهذه الهيمنة ترجع إلى أمرين:
الأول: ما أصاب نصوص تلك الكتب من تحريفات {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} [المائدة: 13].
الثاني: النسيج العقلي الأسطوري والتراثي والخرافي المسيطر على ثقافات تلك الحقب، وتلبس معاني النصوص بحيث أعطت في كثير من الأحيان نقيض معانيها» .
«وليستطيع القرآن أن يفعل ذلك يجب أن يكون متميزًا بأمرين:
أولاً: حفظ الله لنصوصه من التحريف.
ثانيًا: حمل القرآن لإطار معرفي ومنهجي يمكنه من الاسترجاع لما سبق من موروث روحي.
والاسترجاع النقدي القرآني لا يتم على مستوى تصحيح الوقائع فقط … فليس هذا هو المقصد النهائي، وإن كان ذلك مدخلاً ضروريًّا له، وإنما يتجه المقصد لما يتضمنه القرآن من محددات منهجية تتضمنها هذه المســائل وغيرها» .
ولقد ضرب المؤلف عدة نماذج تطبيقية يوضح فيها فكرته منها:
أ. استرجــاع قصة آدم عليه السلام(*):
إن الموروث التوراتي يرى أن الله قد خلق آدم عليه السلام فجأة وعلى صورته، ثم سلخ حواء من ضلعه، وأفاض المياه، وخلق الأنفس والأشجار والنجوم، أي بمنطق كن فيكون ، وحشد كل الأشياء ليدعوها آدم عليه السلام بأسمائها، إلا أن القرآن يعطي صورة أخرى معاكسة تمامًا لتحريفات اليهود للمسائل الآتية :
1. كيفية خلق آدم عليه السلام: إن القرآن يميز بين اصطفاء الله لآدم عليه السلام من بين بشر مفسدين في الأرض وجعله خليفة {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَــالَ إِنِّي أَعْـــلَمُ مـا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] وبين خلق البشرية من صلصــال من حمأ مسنون في مبتدأ الخلق .
فهناك فرق بين الخلق والجعل :
أ. فالخلق هو إنشاء من جديد وعلى غير مثال سابق ، وهو من عالم الغيب كما يقتضي الأمر الإلهي في إبداع الشيء من غير أصل ، أو احتذاء ، وهو صادر خارج النسبية ، قائم على العزة التى لا تعرف فرقًا عن الله في عالم الغيب.
ب. أما الجعل فهو صيرورة ضمن خلق كائن ، وهو من عالم الشهادة؛ حيث مجرى الصيرورة وتحول الشيء من شيء وتصييره على حالة دون أخرى، وهو إشارة إلى نسبية العلاقة ما بين ظواهر الخلق وحياة الإنسان ضمن عالم الطبيعة أو الشهادة، وهو جعــل يقوم على الرحمة . والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة منها :
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [الأنعام : 95 – 96] فهذا تعبير عن صيرورة طبيعية نسبية يخاطب بها العقل الإنساني في واقع المتحولات الطبيعية ومعناها للإنسان .. إنها دورة النمو .
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} [الأنعام: 97]، فهذه الآية تبين علاقة الإنسان بمظاهر الخلق، فالله لم يخلق النجوم لنهتدي بها، بل خلقها كظواهر فلكية، ولكنه جعلها لنا لنهتدي بها.
وآية {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون} [النحل: 5] لا تنهض دليلاً على الفرق بين الخلق والجعل، فالآية جاءت ضمن سياق، ولتوضيح ذلك لابد من إيراد ما قبلها من الآيات، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَــافِعُ وَمِنْهَـــا تَأْكُلُون} [النحل: 3-5] ففي آية 4 تكررت كلمة الخلق بدون عطف على خلق قبلها في الآية 3 ، أما الآية 5 فقد عطفت على ما قبلها خلق الإنسان، فمعنى هذا أن الخلق في الآية منصب على ظاهرة الخلق الإلهية نفسها وليس على الدفء والمنافع والأكل، فهذا – (جعلٌ) وزيادة في الدقة، فهناك علامة وقف جائز بين الأنعام خلقها -و- لكم فيها – .
والفعل الإلهي كما هو محدد في القرآن لا يصدر بمحض القدرة الإلهية المطلقة مع قدرة الله على ذلك، ولكنه يصدر عبر توسطات جدلية إذ يبتدئ -أمرًا- ثم يتحقق عبر الإرادة حتى ينتهي إلى التشيؤ، وذلك مما تدل عليه الآية {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82] فأمر الله كن فيكون متحقق عبر إرادة تنتهي إلى تشيؤ .
وهكذا يتناوب الخلق والجعل في سياق صيرورة تاريخية واحدة لتعطي معنى التداخل بين عالمي الغيب والشهادة، ولتربط بينهما بحيث لا يخلد الإنسان إلى جدل الطبيعة – الجعل ولا يتجاوز كليًّا جدل الغيب -الخلق- مثال على ذلك {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَــــنُ الْخَالِقِين} [المؤمنون: 12-14].
2. كيفية هبوط آدم عليه السلام: قبل أن يبدأ المؤلف تحليل القصة وإعطائها الفهم الذي يراه مناسبًا، بدأ بتوضيح الفرق بين مصطلحي: الروح والنفس.
فالروح تمثل قناة اتصال بالوحي والملأ الأعلى وهي من متعلقات عالم الأمر الإلهي المطلق، فحين سأل سائل عن الروح أشير عليه بقلة العلم في هذا المجال {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]، ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية معرفة ذلك، فقد جاء الجواب بعدها {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا} [الإسراء: 86]. أي سلب الروح يستلزم معه سلب قناة الاتصال؛ لذلك جعلها هي الواسطة التي عبرها يلهم بعض عباده للقيام بأمر دعوته {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُون} [النحل: 2].
أما النفس فهي طاقة الحياة في الإنسان، وهي تعود في تركيبها إلى التفاعل الجدلي الكوني، وهي بذلك قابلة للاختيار لطبيعة تركيبها عبر الانقسام الجدلي، وهي القابلة للوفاة والحياة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 1-7] فتركيبها -أي النفس- عائد إلى هذا التفاعل الجدلي الكوني .
إذًا فهبوط آدم عليه السلام هو سلب الروح عنه، وهبوطه من خصائص قوة الروح إلى خصائص النفس الطبيعية، فأصبح يجوع ويعرى ويظمأ، بعد أن كان لا يعتريه شيء منها عندما كان متلبسًا بخصائص الروح؛ لذلك فالصياغة القرآنية واضحة هنا {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} [طه: 118-119] .
3. الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام: عندما خاطب الله الملائكة بقوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30] وقتها لم يكن آدم عليه السلام قد خلق بعد، أما احتجاج الملائكة فكان حول سلوك البهائم البشرية ، التى كانت موجودة حينذاك، فظنت أن الله سيجعل خليفته منهم ، وهم على ذلك السلوك ، وعندما أذن الله بميلاد آدم عليه السلام من أبوين بشريين ونفخ فيه من روحه، علمه الأسماء ووضعه أمام الملائكة {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 31]، فكلمة الصدق هنا تشير إلى ظن الملائكة بإفساد آدم عليه السلام في الأرض، فبين الله لهم بالأسماء أنه مفارق لما عهدوه من السلوك البشري البهيمي.
ولكن ما هي هذه الأسماء ؟
الأسماء هي محمولات الأسماء المذكورة في سورة النساء {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] والدليل على هذا:
أ. أن الضمير في الآية يتعلق بشيء موجود وكائن (عرضهم) ، أي الموجود الحسي والواقعي ، وليس الموجود الذهني، حيث يقال: ثم عرضها بما يشير لذات الأسماء .
ب. أن الأشياء المعروضة لم تكن كائنات بشرية ، أو ظواهر طبيعية ، أو مواد أو أفعال ، فالملائكة تعرف ذلك من قبل وليس هو اسم علم، فالملائكة تعلم الأسماء المتعلقة بالشيئية، بل الاسم الذي لا تعلمه الملائكة هو اسم المحمول الذى يستند على حالة أو قضية، أي أسماء كلية {وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْـــــمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فحواء اسم علم وهي امرأة، ومحمولها زوجة ، واسم المولودة الأنثى علم ومحمولها ابنة ، وكذلك اسم المولود الذكر علم ومحموله ابن، فهذه هي الأسماء التى تعلمها آدم عليه السلام وليس غيرها كما يقول المتكلمون وغيرهم .
ب. استرجاع قصة نوح عليه السلام:
استنتج المؤلف من استرجاع قصة نوح عليه السلام أمورًا وهي:
1. نفي أن يكون لنوح عليه السلام ذرية، وبالتالي نفى تفوق الجنس السامي وأفضليته على بقية الأجناس .
2. تقدم الحضارة البابلية وتفوقها في علوم شتى من فلك وعلم نفس وغيرها من العلوم ، وأنها قامت وازدهرت بتعاون بين الملائكة والإنس .
3. تفوق نوح وقومه في ميادين شتى؛ من علوم فيزيائية وفضائية ورياضية، فهم قد فهموا كيفية الخلق وخصائص كل من القمر والشمس ، ثم فهموا أصل التكوين؛ ومما يدل على إعجازها أن نوحًا قد بنى فلكه في خمسين عامًا ، ولم يكن ذلك بالشيء الغريب عنهم، فهذه كلها حضارات ما زالت تعد لغزًا في تاريخ البشرية .
4. نفى أن يكون لنوح عليه السلام ذرية، وما توهمه أنه ابنه قد بيّن القرآن بطلان ذلك، فالله وعد نوحًا بإنقاذ أهله من الطوفان ، ولكنه لم ينقذ من دعاه نوح عليه السلام ابنًا ، فلما تساءل نوح عن الوعد، أجابه الله بأنه عمل غير صالح، أي أنه نتاج خطيئة امرأته التى أثبتها القرآن {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] .
وخلص من هذه القصة بتحريم التبني وبيان مساوئه، وذلك بربط ثلاث قصص نبوية لتأييد ما ذهب إليه .
أ. قصة ابن نوح ، حيث إنه لم يستجيب لنداء الأبوة ، مع دعوته له قرونًا ، ولو بدافع التعاطف؛ لأنه ليس بينهما رابط وراثي حقيقي .
ب. قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيد وعدم إمكانية التعامل معه نفسيًّا داخل المحيط العائلي إلا بكتمان ما في نفسه .
ج. قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز؛ حيث كانت في مقام أمه بالتبني، ولكنها في النهاية لم تستطع أن تمسك نفسها ، وهَمَّا ببعضهما .
5. علل مسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها بأنها إحياء لذكرى نزول نوح عليه السلام في عرفات ثم إفاضته منها ، وإعطاء معنى لمفهوم الزمان وكماله في القرآن، واستدل على ذلك بأمور:
أ. القرينة اللفظية في قوله تعالى : {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِين} [المؤمنون: 29] فهذا أمر من الله له بالدعاء بطلب منزلاً مباركًا، وهذا ما يتوافق مع المكان المبارك الذي ذكره الله {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} [آل عمران: 96] . وحتى لا يلتبس المكان بغيره من الأماكن المقدسة فقد جاءت قرينة تدفع ذلك الالتباس :
وهي أمر الله لنبيه بالإفاضة في الحج من عرفات مثلما أفاض أناس آخرون منها {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [البقرة: 198-199] فَمَنْ هؤلاء الناس إن لم يكونوا نوحًا عليه السلام وقومه .
ب. وأكثر هذه القرائن دقة هي هذه القرينة، وهي تماثل وقوفنا بعرفات بتوقيت إقلاع نوح عليه السلام ورسوه، فنحن نقف في النصف الثاني من اليوم التاسع من ذي الحجة، فالنصف الثاني نهاية يوم، واليوم التاسع نهاية عقد، يماثلها من قصة نوح عليه السلام أنه لبث ألف سنة إلا خمسين عامًا ، والسر يكمن في فهم مسألة الحساب بالسنة والاستثناء بالعام.
فالسنة لغة تصدر عن تسنّه الأشياء ارتباطًا بتأثير الشمس {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّه} [البقرة: 259] فالسنة دلالة على الشهور الشمسية، أما العام فهو دلالة على الشهور القمرية {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] فكل ثلاثمائة سنة شمسية تعادلها ثلاثمائة وتسع سنوات قمرية، أي بزيادة ثلاث سنوات قمرية على كل مائة سنة شمسية . فالحساب إذن:
950 سنة شمسية + (50 سنة قمرية والتى تعادل 48,5 شمسية ) = 998,5 سنة شمسية، فيبقى على تمام الألف سنة ونصف وقت إقلاع نوح عليه السلام بفلكه، وهذا هو عينه توقيت وقوفنا بعرفات في جمع وقصر صلاتي الظهر والعصر. وفي نهاية هذا التوقيت نزل قوم نوح عليه السلام من الفلك، ثم أفاضوا من مرتفع عرفات باتجاه المشعر الحرام . وهكذا أمرنا من بعدهم {ثُمَّ أَفِيضُــوا مِــنْ حَيْثُ أَفَــــاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] .
ج . استرجاع نموذج القربان الإبراهيمي:
يرى المؤلف أن هناك أخطاءً قد وقعت في فهم مسألة القربان الإبراهيمي.
1. منها ما قد حصل من إبراهيم عليه السلام نفسه :
أ. أنه لم يتأول الرؤيا ويصرفها إلى القربان بحكم قرينة الذبح .
ب. أنه لم يصرف هذا القربان إلى الإبل بحكم تماثلها البنائي مع البناء الكوني المسخر .
ومصدر هذا الالتباس يرجع في أساسه إلى طبيعة التركيب الذهني لإبراهيم عليه السلام ، فعقليته من نوعية العقليات المباشرة التى تتعامل مع صور الأشياء وليس رمزياتها ، فحتى معرفته لله تمت عبر وسائط ، من شمس بازغة وقمر بازغ ، وكوكب بازغ ، أي مكتملة الهيئة، ثم لما اعتراها الانتقاص تخلى عنها واكتشف إلهه الواحد .
2. ومنها ما قد حصل من المفسرين الإسلاميين وهي :
أ. أنهم قد رجعوا في تفسيرهم إلى الموروث اليهودي المحرف .
ب. أن مكوناتهم العقلية قد ارتبطت بالتنسيق العام لِكَم من المعارف المتراكمة، وفق إنتاج ثقافات ذلك العصر ، وغاية ما وصل إليه بعض أفذاذهم هو التحقق من هذا الكم المتراكم، بالجرح والتعديل، أو تحديد أصول لقراءته، كما فعل الشافعي، لكن دون تجاوزه واكتشاف نسقه المعرفي .
والآن إذا كان الله لم يطلب قربانًا بشريًّا فماذا طلب؟ ولماذا؟
للإجابة على هذا يورد المؤلف أمورًا يرى أنها جملة من الحقائق المسترجعة والمخالفة بشكل جازم للموروث .
أولاً : أن الرؤيا كانت منامية ، والرؤيا مناطها التأويل ليفهم ما فيها من دلالات على الواقع، كما أول يوسف رؤيا الملك، ويعقوب رؤيا يوسف عليه السلام . والرؤيا ليست وحيًا، فالوحي يكون يقظة .
ثانيًا : أن إسماعيل عليه السلام هو الذي رأى في رؤيا أبيه أنها أمر إلهي {قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَر} [الصافات: 102] ولم يقل إبراهيم عليه السلام إني أمرت بل قال : {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} [الصافات: 102] فلو كانت رؤياه أمرًا من الله لبطل معنى الآية في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُم} [الأنعام: 137] .
ثالثًا : أن إسماعيل عليه السلام لم يكن طفلاً مسلوب الإرادة ، فقد بلغ السعي مع أبيـه { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّـــــعْي } [الصافات: 102] وكان أهلاً للاستشارة {فَــــانْظُرْ مَـــاذَا تَــرَى} [الصافات: 102] وهنا نفي للجانب المأساوي المزدوج في الابتلاء، بمعنى طلب القربان البشري، وأن يكون المطلوب طفلاً .
رابعًا : أن «أنْ» في النداء الإلهي لإبراهيم عليه السلام ليست زائدة ، فليس في القرآن زوائد، بل فيها لفت نظر بأن إبراهيم عليه السلام قد ابتلي نفسه بنفسه في غير موضع الابتلاء طاعة لله؛ لذلك جازاه الله على ذلك {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْــزِي الْمُحْسِنِين} [الصافات: 105] وفداه بذبح عظيم .
خامسًا : أن الذبح العظيم ليس كبشًا، بل هو غير ذلك فإبراهيم عليه السلام يكرم ضيفه بعجل حنيذ، فكيف يفدى الله ابن إبراهيم عليه السلام بكبش؟
الآن ما هي الدلالة المنهجية من وراء هذا التحليل؟
من الواضح أن الله قد طلب قربانًا، وأنه قد اختص إبراهيم عليه السلام بالذات لتأدية هذا القربان، فلماذا القربان؟ ولماذا إبراهيم عليه السلام ؟
القربان هو شكر لله على الكونية المسخرة للإنسان ، على أن يكون القربان حيوانًا تتماثل مواصفاته البنائية مع بنائية الكونية نفسها، ولا يكون ذلك إلاّ في الإبل سماء مرفوعة كارتفاع الإبل بقوائمها وجبالاً نصبت كسنام الإبل وأرضًا سطحت كخف الإبل {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت} [الغاشية: 17-20] .
د. استرجاع قصة موسي عليه السلام:
اختار الله موسى عليه السلام ضمن تجربة محددة كشف فيها عن التطبيق الفعلي لوجود الغيب في حركة الواقع ، تلك هي قصة موسي والعبد الصالح كما جاءت في سورة الكهف في الآيات 60 إلى 82 ، وهي في عمقها ليست قصة، ولكنها تحليل فلسفي لوجود الله في فعل الإنسان، وكان موسي هو المقصود بالدرجة الأولى بهذه القصة؛ حيث كان إيمانه قبل تلقيه كلمات ربه مشبعًا بقيم الحضارة المصرية {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْــتَ فِينَـا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] .
فبعد أن أصبح موسى عليه السلام نبيًّا وقاد قومـــه نحو منعطفهـــم التاريخي الجديد (الخروج) وبحكم تكوين عقلية تلك المرحلة؛ حيث كان جوهر عقائدها هو تجلى الله بالخارق من أعماله، وتجسيد إرادته بشكل ملموس، فكان لدخول موسى مرحلة التعامل مع الغيب بمعزل عن الخطاب المباشر يستدعى نمطًا جديدًا في الفهم يربط ما يظهر من الحقائق الموضوعية التى يعطيها الإدراك بخلفياتها في عالم الغيب ، وكان لابد لهذا الأمر أن يتم عبر التجربة الحسية؛ حتى يتسنى له إدراك العلاقة بين الغيب والشهادة، وتم هذا الأمر عبر العبد الصالح الذي خاطب موسي أولاً {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] أي فهم الأمور في حقائقها عن الله ، وكان الأمر وتمت التجارب الثلاث؛ خرق المركب، وقتل الغلام، وأخيرًا بناء الجدار . وفي كلها صبر العبد الصالح، واستنكر موسى ولم يصبر.
واستنكار موسى كان على حسب ما بدا له من خرق للسفينة لإغراق أهلها وقتل نفس بغير حق وبناء الجدار لمن لا يستحق . وكان تفسير العبد الصالح بأن ما أحدثه بالسفينة وإن كان ظاهره عيب إلا أنه سيؤدى إلى نجاتها من الملك ، وفي قتل الغلام بأن ذلك كان رحمة بوالديه ، وهذا درس في العناية الإلهية، وفي الثالثة أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين وكان دون شك سينقض وقت وصولهما، فأقامه حفاظًا على ذلك الكنز من أن يتخطفه أصحاب تلك القرية قساة القلوب {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77].
ومما يستفاد من هذه التجارب الثلاث هو إدراك الاحتجاب والوجود في آن واحد، أي احتجاب الله عن الفعل البشري ، وهو موجود فيه وقابض على نتائجه ، وهذا ما كان إدراكه واجبًا على موسى عليه السلام .
ولاشك أن هذا أمر يصعب إيجاد منهج له يحدد كيفية التعامل معه واستيعابه، وإنما يعتمد على قدرة التأمل الخاص لكل إنسان، غير أن فهم حكمة اتجاه الإرادة الإلهية في الفعل وتطبيقها في الحركة، لا ينحصر في نماذج معينة من شأنها أن تعطينا قواعد قياسية مطلقة، ولكن بفهمنا نموذجًا واحدًا يصبح بمقدرونا سحب تعميم مبدئي على سائر النماذج الأخرى، وهذا ما فعله العبد الصالح في اختياره للنماذج التى تطابقت مع مراحل خاصة من حياة موسى ، فما هي هذه التجارب الثلاث التى عاشها موسى عليه السلام ؟
هذه المراحل الثلاث قد ذكرها الله في سورة القصص من آية 7 إلى آية 29.
فالتجربة الأولى هي : تجربة السفينة، فمن ورائها ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، وهي تماثل تجربة حياة موسى عليه السلام الأولى في التابوت حين ألقته أمه في اليم ومن ورائه فرعون آمرًا بقتل كل طفل إسرائيلى .
أما التجربة الثانية فهي : قتل الغلام فيما بدا لموسي عليه السلام بغير نفس، وهي تماثل تجربة المرحلة الثانية من حياة موسى حين وكز أحدهم فقضى عليه. فكما أن العبد الصالح بريء وغير مسئول عن قتل الغلام، فكذلك موسى عليه السلام ، فهو غير مسئول مسئولية حقيقية عن قتله الرجل .
أما التجربة الثالثة فهي : تتمثل في بناء الجدار فهي مماثلة للمرحلة الثالثة من حياة موسى ، عند وروده ماء مدين. فهناك أولاً التوقيت ، فقد ورد موسى عليه السلام ماء مدين ليجد في الحال بنتين تذودان . وفي التجربة المقابلة يصل موسى عليه السلام والعبد الصالح، ليجدا في الحال جدارًا يريد أن ينقض .
إذًا نلاحظ بتركيز شديد أن نتائج الأعمال حين يتحكم الله فيها بقدرة خفية، لا تنتج عنها النتائج المتوقعة شرطيًّا ، كما حدث في مراحل الحياة الموسوية ، وما قابلها من تجارب العبد الصالح.
«أما القيمة الفلسفية لتجربة موسى فتتمثل في نفي المصادفة بما يدفع الإنسان لفهم عنصر التوقيت في الحركة الكونية المنضبطة زمانًا ومكانًا في سياقها. وهذا ما نسميه بـ (حكمة التوقيت) وهو علم دقيق له دلالاته الحية في الحركة الموضوعية، كما أن له دلالاته الحية في التصريف الإلهي» .
المراجع :
- البحث عبارة عن بحث تكميلي مقدم لنيل درجة الماجستير في علوم الوحي والتراث (القرآن والسنة) كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية – الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا – مارس 1998 م.
1- الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت : دار المعرفة للطباعة والنشر، ط 2)، م2، ص 156 – 161.
2- الحاج حمد، محمد أبو القاسم، العالمية الإسلامية الثانية (بيروت : دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1996)، م1، ص 10و 31.
3- أركون، محمد، المفكر الإسلامي : قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح (بيروت : مركز الإنماء القومي، المغرب : المركز الثقافي العربي، ط2، 1996)، ص 130، 174.
4- أركون محمد، العلمنة والدين : الإسلام، المسيحية، الغرب، ترجمة هاشم صالح (لندن : دار الساقي، ط1، 1990)، ص46 – 47و 80-82.
5- أسامة خليل، «قراءة في العالمية الإسلامية الثانية»، مجلة التجديد (الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا : السنة الأولى، العدد الأول، يناير 1997م) ص 156.
6- جريدة المستقلة، السنة الخامسة، العدد 165، 1 ربيع الأول 1418 هـ 7 يوليو (تموز) 1997م.
7- مكسيم رودنسون، الماركسية والعالم الإسلامي، ترجمة كميل داغر (بيروت : دار الحقيقة، ط2)، ص 137 – 138.
8- المفهوم القرآني للعروبة والدار في مقابل القومية والوطن، مجلة قراءات سياسية، 5/1/شتاء 1995، ص 9-35.