هوامش على النص
أو مقدمات القراءة :
هذه محاولة للتعرف على كتابات الدكتور أبي الوفا التفتازاني ، وهو كما يعلم المتابعون لأعماله ؛ باحث محقق ، وأستاذ عالم ، وصوفي مربٍ يجيد المحاضرة والمناظرة والجدل العلمي والإقناع المنطقي ، صاحب نص عميق بسيط واضح ، هو ما نعرض له في هذه الدراسة . ونقصد بالنص التفتازاني مجمل الكتابات التي قدمها والتي توفرت لنا ، وهي كتابات جلها في وعن التصوف الإسلامي، وبعضها في فروع الفلسفة الإسلامية المختلفة ، معظمها يغلب عليه البحث والدراسة، وقليل منها تحقيق ، كتبها باللغة العربية وبعض اللغات الأخرى . وهي في مجملها تمثل الجهد العلمي للأستاذ الدكتور التفتازاني، وتمثل جزءًا من السياق العام الذي قدم فيه عمله باعتباره أستاذًا أكاديميًّا ونائبًا لرئيس جامعة القاهرة وشيخًا لمشايخ الطرق الصوفية وعضوًا بمجلس الشورى .
تلك هي الصورة العامة للرجل والسياق الذي قدم لنا فيه كتاباته . وقد تكونت صورته في ذهني من محاضرتين متتاليتين بمدرج 74 بآداب القاهرة في يناير 1973 ، حين كان يحاضر طلاب السنة الرابعة قسم الفلسفة ويرد على استفساراتهم في التصوف الإسلامي … حيث قدم لنا في هذه الفترة درسًا لا ينسى، وهو أن الأستاذ ليس هو من يجيب على الطالب بمعلومات جاهزة لديه ، بل هو من يرشده إلى المنهج العلمي الذى يصل به إلى المعرفة ويحدد مصادر موضوع بحثه . ولم تختلف هذه الصورة منذ عام 1950 حين بدأ حياته العملية حتى رحيله في يونيو 1994 : معرفة دقيقة بموضوعه ؛ لغة علمية محددة، حجة منطقية دقيقة ، رحابة صدر ، قدرة على التعليم والتوجيه . وتلك هي نفس الخصائص التي تميز نصه الصوفي .
لقد جمع التفتازاني نزعة روحية صوفية أخلاقية نابعة من تبنيه الاتجاه السني في التصوف المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق ، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة،وسلوكه الإسلامي الذي التزم به في الحياة العامة، وكان تجسيدًا للتصوف بجانبيه النظري والعلمي ، وعند الصوفية هناك علاقة قوية بين هذين الجانبين ؛ فقد كان ورعًا زاهدًا عابدًا عارفًا مطمئنًا كما كان باحثًا فاحصًا محققًا مدققًا مثالاً ونموذجًا وواقعًا حيًّا للخلق الإسلامي(1) محتذيا صورة الغزالي في المنقذ من الضلال مؤكدًا مثل القشيري صاحب الرسالة، والطوسي صاحب اللمع وغيرهما: أن الجانب المهم من التصوف هو الخلق ، وأن هذا الجانب من الحياة الروحية يمثل علم الأخلاق الإسلامي، ويؤصل التفتازاني نصه الصوفي داخل إطار هذا الاتجاه السني المعتدل المرتبط بالكتاب والسنة ، والذي وجد في القرآن وحياة الرسول e وسنته والصحابة والتابعين والزهاد والصوفية الأوائل البداية الحقيقية للتصوف الإسلامي ، والتي عبر عنها بصدق الإمام الغزالي حجة الإسلام ، والتي تحددت في التصوف العملي التربوي لدى أصحاب الطرق، خاصة الشاذلي وتلاميذه، وينطلق الأستاذ من هذه المرجعية في بحثه للتيار المتفلسف من الصوفية لدى ابن مرة وابن عربي وابن سبعين .
والأستاذ من أهم علماء التصوف الإسلامي الذين حددوا مجاله ، ورتبوا موضوعاته ، وكشفوا النقاب عن شخصياته، وصاغوا الأطر النظرية له، وأبان عن تاريخه وأبعاده النظرية والعملية، وعرف بالتجربة الصوفية وخصائصها، وأوضح المنهج العلمي لدراستها، وظل أكثر من خمسة وعشرين عامًا أهم باحثي التصوف الإسلامي – منذ وفاة أبي العلا عفيفي أكتوبر 1966 ومحمد مصطفي حلمي فبراير 1969 – وحتي الآن .
قدم العديد من الدراسات التاريخية والسيكولوجية والابستمولوجية في التصـوف في مقدمتها ثالوثه الشهير : ابن عطاء الله السكندري وتصوفه 1955(1)، وابن سبعين وفلسفته الصوفية 1961(2)، والمدخل إلي التصوف الإسلامي 1973(3)، والتي تعد في تخصصه أقرب إلى ثالوث كانط Kant الشهير : نقد العقل النظري الخالص ، نقد العقل العملي الخالص ، ونقد ملكة الحكم ، أي أنها تشمل مجالات التصوف الثلاثة :
السني العملي ( ابن عطاء الله ) ، الفلسفي النظري ( ابن سبعين ) ، والتصوف العام أو تاريخ التصوف الإسلامي (المدخل)، فقد غطت هذه الابحاث الثلاثة بلغة هيجل الجدلية الموضوع الذي تأسس حوله نص التفتازاني وهو التصوف السني الشاذلي عند ابن عطاء الله ونقيضه الفلسفي عند ابن سبعين، والمركب بينهما التصوف الإسلامي بكل اتجاهاته وتاريخه ومدارسه وأعلامه المدخل الي التصوف الإسلامي .
وسوف نتناول في هذه القراءة النص التفتازاني: موضوعه ومنهجه، لغته وأسلوبه، مقدماته ونتائجه، حججه وبراهينه من خلال تحليل كتاباته المختلفة التي تكون مجمل هذا النص .
المصادر والأساتذة أو مكونات النص:
يحيلنا نص التفتازاني إلي نوعين من الأصول أو المصادر التي نهل منها ودخلت في تكوين هذا النص وصارت جزءًا منه، هي المصادر الكلاسيكية والمقصود بها كتب التصوف الإسلامي الأساسية الأثيرة إليه، والتي نجدها حاضرة حضورًا قويًّا في كل جزئيات نصه مثل : كتب القشيري والطوسي والغزالي والشعراني وكتب الصوفية الذين عرض لهم، مثل : ابن عطاء الله ، وابن سبعين، وابن عباد الرندي، وابن عربي، وغيرهم، بالإضافة إلى كتب الباحثين العرب والمستشرقين، خاصة ماسينيون واسين بلاثيوس ونيكلسون وترمنجهام .
والنوع الثاني المصادر المباشرة أو الأساتذة شيوخه ومعلموه، سواء والده الشيخ الغنيمي التفتازاني ( 1893 – 1936م ) الذي تلقى عليه العلوم الدينية ومعالم الطريق الصوفي، وهو شيخ الطريقة الغنيمية من مواليد كفر الغنيمي شرقية وهي إحدى الطرق الخلوتية، مؤسسها هو الشيخ الغنيمي بن سلامة (ت503هـ) وضريحه في كوم حلين مركز منيا القمح، وقد خلف التفتازاني أباه عليها، أم أساتذته بالجامعة المصرية المباشرون مثل : الدكتور محمد مصطفى حلمي، أو غير المباشرين، مثل : الشيخ مصطفى عبد الرازق ، والدكتور أبي العلا عفيفي ولويس ماسينيون .
وسنبدأ بالمصادر المباشرة وهي الأقرب زمنيًّا في التأثير، والتي لها حضورها القوي في نصه، ونذكر منها : الشيخ مصطفى عبد الرازق، على رغم عدم تتلمذ التفتازاني عليه مباشرة في سنوات دراسته الجامعية، فقد تأثر للغاية وهو يصفه في دراسته مدرسة مصطفى عبدالرازق بأستاذنا خمس مرات ، وشيخنا ثلاث مرات ولفظة شيخنا أكثر دلالة على مدى ارتباط التفتازاني الصوفي بالشيخ الأكبر، ومن هنا فنحن نعده امتدادًا للشيخ المعلم الأول والرائد المعاصر في تدريس الفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية .
ويعـد الشيخ مصطفي عبـــد الــرازق ( 1885 – 1947م ) أستاذا للتفتازاني عن طريقين ، الأول معرفة الأستاذ بالشيخ عن طريق والده السيد الغنيمي التفتازاني معلمه وشيخه ، والثاني تتلمذه على الدكتور محمد مصطفى حلمي ( 1904 ـ 1969م ) أهم تلاميذ الشيخ في مجال الدراسات الصوفية .
يقول موضحًا حميمية العلاقة ومكانة الشيخ في نفسه ؛ والذي صار أستاذنا بمثابة مريد له : لقد عرفت الأستاذ الجليل في السنوات الأخيرة من حياته، وكان المغفور له والدي من أحب أصدقائه إلى نفسه ، جمعهما جهاد مشترك، وتزاملا في الرابطة الشرقية حينًا من الزمان ، ولذا كنت أحس كلما لقيته بحنان الأب، وهو الذي وجهني إلى دراسة الفلسفة بكلية الأداب فالتحقت بها 1946 ، وفي نفسي إجلال عميق له ورغبة أكيدة في السير على منهاجه في الدراسة والبحث، وجعلت منه على حد تعبير الصوفية شيخًا لي أحتذي به في العلم والخلق(1) .
أن أثر مصطفي عبد الرازق يستمر ساريًا عبر تلاميذه في التفتازاني حتى بعد أن تـرك التدريس في الجامعة، يقول التفتازاني: التحقت بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة بعد أن تركه أستاذنا ببضع سنوات، فوجدت بالقسم نخبة ممتازة من تلاميذه الذين أخذوا على عاتقهم آنذاك إكمال رسالته العلمية التي بدأها فأنست إليهم وأحببتهم وشجعوني منذ كنت طالبًا على المضي في دراسة الفلسفة الإسلامية لما لاحظوه من ميلي الواضح اليها(2) .
وحين يتناول أثر الشيخ على تلاميذه ويشير إلى بعض القيم التي آمن بها وتجلت في سلوكه يشعرنا بانطباعين ؛ الأول: أن هذه القيم الإسلامية ثابتة وضرورية وكلية ينبغي على كل منا تمثلها، والثاني: أن هذه القيم نفسها تنطبق أشد الانطباق على التفتازاني نفسه الذي تمثل في نفسه وفي كتاباته ، وهذه القيم هي :
ـ الإيمان بحرية الفكر والقول والعمل، والحرية في هذه المجالات مبدأ لا غنى عنه في تقدم العلم ونهوض الأمم .
ـ الدعوة إلى حب العلم وتقدير العلماء .
ـ حب الوطن .
ـ الدعوة إلى الإسلام بين الشعوب في صدق وحرارة .
ـ محاسبة النفس على الفعل والترك أساس الفضائل الإنسانية كلها .
ـ الايثار والتواضع(3).
وإذا كانت هذه الفضائل تصور سلوك الشيخ الذي تمثله الأستاذ في حياته فإنه في الفقرة الخامسة من دراسته عن المنهج يحدد لنا المبادئ الرئيسية لتفكير مصطفى عبد الرازق التي نجد أثارها بدورنا في نص التفتازاني، وهي :
أولاً : الجمع بين الحديث والقديم في بناء الثقافة وإعادة مجد الأمة .
ثانيًا : تصحيح الأحكام الخاطئة عن التراث الفلسفي الإسلامي والتي يذهب إليها عدد من الباحثين في الغرب .
ثالثًا : البحث دائمًا عن أوجه الاصالة والابتكار في الفلسفة الإسلامية.
رابعًا : الرجوع إلى مصادر الفلسفة الإسلامية ونشر ما لم ينشر من مخطوطاتها ليتبين دورها في التراث الفلسفي العالمي .
خامسًا : البذور الأولي للتفكير الفلسفي الإسـلامي إسلاميـة ، ولابد من الرجوع إلى النظر العقلي في بساطته الأولى وتتبع مـدراجه في ثنـايا العصور وأسرار تطوره(1).
ب ـ يأتي الدكتور محمد مصطفي حلمي في المرتبة الأولى من أساتذة التفتازاني ومن مصادره في التصوف، فهو الأستاذ المباشر وصلة الوصل بينه وبين الشيخ الأكبر، وأشار إليه مرتين في دراسته عن مدرسة مصطفي عبد الرازق، وكتب عنه بعد وفاته في مجلة الفكر المعاصر باعتباره من الرواد الأوائل الذين نهضوا في مصر لإحياء تراث الفلسفة الإسلامية عامة والتصوف الإسلامي خاصة . ويشير إليه بأستاذنا الذى كان من خيرة أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة وإلى صلته الحميمة بمصطفى عبد الرازق، يقول : لقد ظل محمد مصطفى حلمى أكثر من ثلاثين سنة عاكفًا على دراسة التراث الفلسفى الإسلامي بوجه عام والتراث الصوفي بوجه خاص ، وما ذلك إلا بدفعة روحية قوية من أستاذه مصطفى عبد الرازق ، وقد استطاع هو أيضًا أن يحبب التصوف الإسلامي إلى كثير من تلاميذه وأن يجذبهم إلى دراسته واكتشاف مجاهله طيلة هذه الأعـوام التى قضاها في الدراسة والبحث(2) .
وتوضح إشارة التفتازاني ـ إلى أن محمد مصطفى حلمي _ لم يكن في الحقيقة دارسًا للتصوف فحسب ، وإنما كان يؤمن به أيضًا إيمانًا قويًّا كفلسفة حياة _ الاتفاق بينهما في الإيمان بالتصوف ونظرة كل منهما إليه كفلسفة حياة بل إن مقارنة دقيقة بين كتاب محمد مصطفى حلمى الحياة الروحية في الإسلام وكتاب التفتازاني المدخل إلى التصوف توضح تأثير الأول في الثاني فـهذا الكتاب محاولة لها قيمتها في تاريخ التصوف الإسلامي ، وقد تأثر بتأريخ مؤلفه لعصور التصوف المختلفة كثير ممن عالجوا موضوع التصوف بعد ذلك . (= لعل التفتازاني هنا يقصد نفسه ) وهو يعنى فيه ببيان أهمية المصدر الإسلامي المتمثل في القرآن والسنة وما أثر عن حياة الصحابة من الأقوال والأحوال في نشأة التصوف الإسلامي ردًّا على بعض المستشرقين الذين ردوها إلى مصادر أجنبية عن الإسلام (1) ( قارن المدخل إلى التصوف الإسلامي) .
كمـا يتضـح أن الغـاية مـن العملين (الحياة الروحية … والمدخل) واحدة . يقول التفتازاني : ويهدف مؤلف هذا الكتاب الحياة الروحية في الإسلام بوجه عام إلى التنبيه على أهمية التراث الروحي الإسلامي في عصرنا الحاضر في مواجهة غزو المذاهب الفلسفية المعاصرة على اختلاف اتجاهاتها(2) .
ويشير التفتازاني في مقالته ابن الفارض سلطان العاشقين إلى أستاذه بقوله : ولا أذكر ابن الفارض إلا وأذكر معه أستاذنا المغفور له د. محمد مصطفى حلمى، فقد قدم عنه بحثًا علميًّا للدكتوراه 1940 كشف فيه عن حياته ومذهبه في الحب الإلهي . وقد حببني هذا البحث ، وأنا طالب بقسم الفلسفة بكلية الآداب في التصوف الإسلامي . ودفعني بعد تخرجي إلى التخصص فيه ، ولعل هذا نفحة من نفحات الحب سرت إليّ من ابن الفارض وباحثه المتصوف(3).
جـ _ ونشير في هذا المقام إلى أبي العلا عفيفي المفكر الصوفي إلاسلامي الذي كتب عنه التفتازاني موضحًا أنه أحد الرواد الأوائل الذين كرسوا جهودهم للعناية بالتراث الفلسفي الإسلامي في الجامعة المصرية _ وإن كان لم يدرس للتفتازاني _ وجميع أثاره العلمية التى تركها سواء أكانت مصنفات أم ترجمات تدلنا على أن الرجل قد تهيأت له ثقافة فلسفية عميقة ذات مكونات متعددة، وأنه تهيأت له قدرة نادرة من الناحية المنهجية على استجلاء غوامض الموضوعات التى يعالجها وتحديد معالمها(1) . ويحدد لنا المجالات التى تناولها عفيفي في أربعة أقسام هي : التصوف ، وعلم الكلام، والفلسفة الإسلامية (بمعناها الخاص) والفلسفة، والمنطق. ويشير في تناوله لكتاب عفيفي التصوف الثورة الروحية في الإسلام إلى ما يفهم منه علاقته به ، التى لم يشر إليها صراحة.
يقول: وهذا الكتاب في الحقيقة أكثر كتبه أهمية في الإبانة عن آرائه الشخصية، ويمثل تحولاً في حياته الفكرية؛ إذ بدأ حياته كدارس للتصوف من الناحية الأكاديمية فحسب ، ولكنه فيما يبدو لنا تأثر بدراســاته الطويلة للتصوف فيما اتخذه لنـفسه مـن موقـف فلسفي خاص ، فبدا في هذا الكتاب مدافعًا عن الصوفية متبنيًا لبعض وجهات نظرهم(2) .
وتوضح عبارات : فيما يبدو لنا _ موقف فلسفي خاص _ متبنيًا لبعض وجهات نظرهم ، تردد التفتازاني في التصريح بتصوف عفيفي وتحفظه في بيان ذلك، فهو يصفه في عنوان دراسته بالمفكر الصوفي ، وبالتالي فإن علاقته به تختلف عن علاقته بالدكتور محمد مصطفى حلمى الذي ينعته دومًا بأستاذنا على العكس من عفيفي الذي لا يصفه بهذه الصفة إلا في إشارات عابرة في دراساته الأخرى(3)، ولا يذكره بها في دراسته المشارة إليها عنه .
د _ ويتضمن النص التفتازاني أيضًا مصادر استشراقية ، فقد أفاد من عديد من المستشرقين ، إما بشكل مباشر عن طريق تبني بعض آرائهم أو التأكيد على بعض نتائج أبحاثهم ، أو مناقشة بعض نظرياتهم والرد على تحليلاتهم . نشير من بين هؤلاء إلى اثنين؛ أولهما وفي مقدمتهم لويس ماسينيون ( 1883 _ 1962)(3) الذي يظهر أثره في بعض أجزاء المدخل إلى التصوف الإسلامي ومادة تصوف في الموسوعة الفلسفية العربية(1) وماسينيون ودراسة التصوف الإسلامي(2) والثاني آسين بلاثيوس الذي يظهر في ثنايا دراساته عن ابن سبعين وفلسفته التصوفية وابن عطاء الله السكندري وتصوفه وابن عباد الرندي(3) وذلك مقابل غيرهما من المستشرقين الذين يرد على موقفهم من التصوف الإسلامي ومصدره ويحلل آرائهم مفندًا إياها مقدمًا تفسيرات مخالفة لها . ومن الطبيعي أن يتفاوت درجة حضور كل منهما في كتابات التفتازاني إلا أن أكثرهم حضورًا هو ما سينيون الذي عرفه الأستاذ واستمع إليه وأفاد منه . يقول :
ترجع معرفتي بالأستاذ ماسينيون إلى عام 1946 حين كنت طالبًا بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة ، وحضر إلينا يومًا ليلقي محاضرة باللغة العربية عن التصوف الإسلامي . وقد ذكر في محاضرته تلك من شخصيات التصوف الإسلامي البارزة شخصية الصوفي عبد الحق بن سبعين المرسى (ت 669هـ) … فنبهني منذ ذلك الوقت المبكر إلى دراسة هذه الشخصية التى اتخذت منها فيما بعد موضوعًا لرسالتي للدكتوراة … وقد أحسست منذ ذلك الوقت أن ماسينيون رائد لدراسات التصوف الإسلامي، وأن جهوده العلمية في ميدانه جهود بارزة ، وأنه يتميز بحس نقدي غير عادي ، وبذوق لقضايا التصوف يستوقف النظر حقًّا(4) .
كان ما سينون الدافع إذن _ ومنذ وقت مبكر _ وراء اختيار التفتازاني موضوع رسالته للدكتوراة ، كما كانت كتاباته مصدرًا زاخرًا بالتحليلات والنظريات والنتائج بالنسبة للتفتازاني الذي تأثر بالرجل وبأعماله يقول : ولما تخرجت في قسم الفلسفة عام 1950 وتابعت دراساتي في الماجستير والدكتوارة في مجال التصوف الإسلامي، كنت أجد دائمًا فيما كتب الأستاذ ماسينيون من أعمال علمية معينًا لا ينضب فزاد إعجابي بشخصيته وبمنهجه في دراسة التصوف وشدة حرصه على استقصاء مسائله وتحديد معاني اصطلاحاته(1) .
وإذا تساءلنا عما جذب التفتازاني إلى ماسينيون وجدنا أن آراء الأخير في نشأة التصوف الإسلامي ، هي التى أحدثت تحولاً بارزًا في هذه المسألة والتى أشاد بها التفتازاني واعتمد عليها في دراساته ، فقد اتجه ماسينيون في هذه القضية إلى منهج جديد هو البحث في المصطلحات الصوفية والرجوع بها إلى مصادرها الأولى مبينًا العوامل التى ساعدت على نشأة التصوف في الإسلام؛ حتى ليذهب إلى حد القول: إننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التى اختص بها متصوفة المسلمين نشأت في قلب الجماعة الإسلامية نفسها أثناء عكوف المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئهما ..(2) ولا ينكر ماسينيون في الوقت نفسه وجود مؤثرات أجنبية في مجال التصوف، لكنه لا يرد التصوف نفسه إلى وجود مصدر أجنبي . ويمكننا أن نقارن فهم ما سينون للتصوف الإسلامي الذي تبناه التفتازاني بتفسير الشيخ مصطفى عبد الرازق لنشأة الفلسفة الإسلامية بعيدًا عن أية مؤثرات أجنبية ، وبصرف النظر عن أسبقية أحدهما على الآخر فإن هذا الفهم وجد صدى لدى الأستاذ، سواء كان مصدره الشيخ الأكبر أو المستشرق الفرنسي رائد دراسات التصوف الذى أثر كل منهما تأثيرًا كبيرًا في تحديد التفتازاني للنشأة الإسلامية للتصوف .
ويتبنى التفتازاني في مدخله ما انتهى إليه ماسينيون في بحثه عن أصول المصطلح الفنى للتصوف الإسلامي وهو أن مصادر المصطلحات الصوفية أربعة : الأول القرآن وهو أهمها ، الثاني : العلوم العربية الإسلامية من حديث وفقه ونحوها . الثالث : مصطلحات علماء الكلام الأوائل . الرابع : اللغة العلمية التى تكونت في الشرق في القرون الستة المسيحية الأولى من لغات أخرى كاليونانية والفارسية وغيرهما ، وأصبحت لغة العلم والفلسفة(3) .
قضايا التصوف :
كونت المصادر السابقة صورةعامة للتصوف الإسلامي؛ معناه وطبيعته وتعريفه ومراحله واتجاهاته وأسسه السيكولوجية ونظرياته الإبستمولوجية وهذا هو موضوع الفقرة الحالية حول قضايا التصوف، التى نبدأها ببيان تعريف التفتازاني للتصوف الذي شغل به في مراحل متعاقبة من دراساته وفي أجزاء متعددة من نصه .
أ _ يغلب التفسير النفسي على تعريف مبكر قدمه التفتازاني للتصوف، حيث يحده بقوله : هو صفاء النفس البشرية ، وهو تربية روحية ، وفلسفة عملية أساسها المعرفة بالله أولاً وآخرًا . والمتصوف هو ذلك الشخص الذي استطاع أن يروض نفسه ويقاوم شهواته ليتحرر من سلطان البدن وليصل إلى المعـرفـة اليقينية لأسرار الكون وموجده(1) .
وفي دراسة تالية يجعل منه منهجًا كاملاً في الحياة يربط حياة الفرد بالمجتمع؛ حيث تبلور لديه تعريف خاص به يتضح في قوله : والتصوف في رأينا منهج كامل في الحياة ، والصوفي المحقق هو الذي لا يرى تعارضًا بين حياته التعبدية وحياة المجتمع الذي عاش فيه ، بل هو الذي يستعين بحياة التعبد على حياة المجتمع وما فيها من مشقة وكفاح، والتصوف بهذا الاعتبار يعد فلسفة إيجابية تضفى على حياة الإنسان معنى ساميًا(2) .
إن هذا التعريف الذى يطالعنا به في مقدمة الطبعة الأولى من ابن عطاء الله السكندري وتصوفه يختلف عن التعريف الأول الذي قدمه في دراسته المبكرة الإدراك المباشر عند الصوفية 1949م في مسألتين :
الأولى : تتعلق بالموضوع؛ حيث يعالج في الإدراك المباشر عند الصوفية مسألة معرفية ذات طبيعة نفسية في إطار توجهات مجلة علم النفس التى كان يشرف عليه الدكتور يوسف مراد في نهاية الأربعينيات (نشرت المقالة 1949م)، والتعريف الثاني في مقدمة دراسته عن ابن عطاء الله السكندري الذي يقدم لنا التصوف الشاذلي السني الأخلاقي التربوي القائم على العمل والمعاملات والعلاقة بالآخرين.
والمسألة الثانية: تتعلق بتاريخ كتابة كل من الدراستين الأول عام 1949 قبل ثورة يوليو ، والثانية بعدها 1958 حيث ظهرت أهمية المجتمع والحياة العامة للأفراد داخل المجتمع وشعور التفتازاني بذلك وهو العالم الذي شارك بشكل ما في الحياة العامة بعد ذلك من خلال عضويته بمجلس الشورى .
ويقدم لنا في دراسة من أخريات أعماله الأكاديمية المنشورة تعريفًا شاملاً للتصوف محددًا إياه بأنه فلسفة حياة، وطريقة معينة في السلوك يتخذهما الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي، والاتصال بمبدأ أسمى ، وعرفان بالحقيقة، وتحقيق سعادته الروحية والتصوف في هذا التعريف مشترك بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة في عصور مختلفة ، ومن الطبيعي _ كما يقول _ أن يعبر كل صوفى عن تجربته في إطار مايسود مجتمعه من عقائد وأفكار ويخضع تعبيره عنها أيضًا ما يسود عصره من اضمحلال وازدهار(1) .
وفي هذا التعريف يحرص التفتازاني على تعريف التصوف عامة ، وليس فقط التصوف الإسلامي ، وهو يجمع فيه بين الفردية (التجربة الصوفية) والمجتمع والعصر (ما يسود مجتمعه)، وبالإضافة لذلك فالتعريف يحتوى على الخصائص العامة للتصوف التي حددها لنا _ في كتابه المدخل وفي دراسته التصوف _ في خمس خصائص ؛ نفسية وأخلاقية وإبستمولوجية تنطبق على مختلف أنواع التصوف، هي : الترقي الأخلاقي ، الفناء في الحقيقة المطلقة ، العرفان الذوقي المباشر ، الطمأنينة أو السعادة، الرمزية في التعبير .
وإذا كان تعريف التصوف تطور في كتابات التفتازاني المتعددة ، وإن ظل محافظًا على جوهره باعتباره صفاء للنفس وسلوكًا أخلاقيًّا . فإن بناء العلم وموضوعاته كما نجده لدى الأستاذ _ كما في المدخل والذي يتناول التصوف: تعريفه وتسميته ، نشأته ومراحله ، اتجاهاته ومدارسه _ نجد أصوله في كتاب محمد مصطفى حلمى الحياة الروحية في الإسلام وإن كان أستاذنا قد حدد العلم بدقة ، وأضاف إلى موضوعاته، وفصل في مراحله وتوسع في أعلامه ، وناقش كثيرًا من نظريات الفلاسفة الغربيين في التصوف مثل : رسل في دراسته التصوف والمنطق ووليم جيمس في كتابه أنواع مختلفة من الخبرة الدينية ورد على آراء المستشرقين خاصة في الجدل الذي أثير في القرن التاسع عشر حول التصوف الإسلامي وهل هو مردود إلى مصادر أجنبية . وهذا ينقلنا من التعريف إلى الموضوع نفسه ؛ التصوف: نشأته ومراحل تطوره .
ب _ يواجه نص التفتازاني مشكلة أصل التصوف ومصادره، ويتابع جهود الرواد : مصطفى عبد الرازق ومحمد مصطفى حلمى وأبي العلا عفيفي في مناقشة آراء الجيل السابق من مستشرقي القرن التاسع عشر الذين ردوا التصوف الإسلامي جملة إلى مصدر خارجي أو أكثر . ويلاحظ التفتازاني أن المستشرقين المعاصرين يردون نشأة التصوف إلى مصدر إسلامي أساسًا مع التسليم بوجود تأثيرات في عصر متأخر من حضارات سابقة كما يرى ترمنجهام في كتابه الطرق الصوفية في الإسلام . ويرى أن التصوف الذى يذكره ترمنجهام ، الذي وصلته إشعاعات من التصوف المسيحي أو من الأفلاطونية المحدثة أو من الغنوصية هو نوع واحد من التصوف، وهو الذي اصطلح على تسميته بالتصوف الفلسفي، أما التصوف السنى الذي يمثله غالبية صوفية الإسلام فهو إسلامي النشأة والتطور(1) .
ويوضح هذا الرأي الذي يقدمه الأستاذ في تفسير نشأة التصوف سمة مهمة في كتاباته ، وهي السمة السجالية التى تبرز في العديد من أعماله والتى تؤدي به في هذه القضية إلى الـتأكيد على أن نظريات متقدمى المستشرقين في مصدر التصوف لم تكن صحيحة أو منطقية ، وأن الأثر الأجنبي في ميدانه لم يظهر إلا في وقت متأخر من تاريخ الإسلام ، وأنه محدود للغاية وعند طائفة قليلة من رجاله . ونلاحظ أن التفتازاني في موقفه هذا يشيد برأى ماسينيون في كون التصوف الإسلامي ذا مصدر إسلامي، وقد اجتهد الأستاذ في تأكيد هذه الحقيقة .
ويرتبط بالنشأة التطور ، فقد مر التصوف الإسلامي بمراحل متعددة ، وتواردت عليه ظروف مختلفة ، واتخذ تبعًا لكل مرحلة ووفقًا لما مر به من ظروف مفاهيم متعددة .
فالمرحلة الأولى من التصوف وهي مرحلة الزهد _ وإن كنا نميل إلى اعتبارها مرحلة مستقلة سابقة على التصوف بمعناه الاصطلاحي _ التى تقع في القرنين الأول والثاني، وراءها عاملان أساسيان سببا ظهورها هما : القرآن الكريم الذي تضمن آيات كثيرة تدعو إلى الزهد . والعامل الثاني الأحوال السياسية والاجتماعية واضطرابها بعد مقتل عثمان؛ مما دفع كثيرًا من أتقياء المسلمين إلى إيثار العزلة والعبادة .
ويبرز نص التفتازاني تحولاً واضحًا طرأ على الزهد منذ أوائل القرن الثالث الهجرى على وجه التقريب ، ولم يعد الزهاد في تلك الفترة يسمون بهذا الاسم وإنما عرفوا بالصوفية، هنا أصبح التصوف متميزًا عن الفقه على أساس منهجي، وأصبح لعلم الشريعة جانبان؛ أحدهما علم الجوارح الظاهرة من العبادات والمعاملات، والآخر علم الجارحة الباطنة وهي القلب .
ويظهرنا نص التفتازاني على حرصه الشديد، سواء في تتبعه لنشأة التصوف أو لتطور مراحله على الربط بينه وبين الشريعة ، ومن هنا تفرقته بين اتجاهين ظهرا في القرنين الثالث والرابع للتصوف الذي أصبح طريقًا للمعرفة بعد أن كان طريقًا للعبادة ، الأول يمثله صوفية معتدلون في آرائهم يربطون بين تصوفهم وبين الكتاب والسنة بصورة واضحة ، والثاني يمثله صوفية انطلقوا من حال الفناء إلى القول شطحًا بالاتحاد أو الحلول . ويؤكد التفتازاني على استمرار الاتجاه الأول السني أثناء القرن الخامس الهجري ، على حين اختفى الثاني أو كاد أثناء هذا القرن .
ويرجع ذلك إلى غلبة مذاهب أهل السنة والجماعة الكلامية ، ويعد القشيري (ت465هـ) والهروي الأنصاري (ت481هـ) من أبرز صوفية هذا القرن الذين نحوا بالتصوف هذا المنحى .
ويبرز نص التفتازاني أهم صوفية هذا القرن أبا حامد الغزالي (ت505هـ) ، والذي يظهر كأكبر مدافع عن التصوف السني في كثير من دراسات الأستاذ، وكتبه هي المصدر الأساسي للحديث عن المعرفة الصوفية المباشرة(1) ، والغزالي يتميز على من سبقه من الصوفية بأنه جعل التصوف طريقًا إلى المعرفة بالله واضح المعالم ، فتحدث عن موضوعات أفاض أستاذنا فيها الحديث مثل : المعرفة الصوفية من حيث أدواتها ومناهجها وغاياتها . وقد كان صوفيًّا إيجابيًّا عنيَ بشئون عصره ، فقد وقف في وجه المذاهب الفكرية المنحرفة بقوة ونقدها نقدًا علميًّا دقيقًا، وكان من الممكن لهذه المذاهب أن تقوض دعائم المجتمعات الإسلامية في عصره ، وبعده لو تركت وشأنها(1) . وهو ما فعله التفتازاني في رده على وجودية سارتر أو في بيانه لمعالم منهج إسلامي في تدريس الفلسفة الأوربية الحديثة والمعــاصرة في الجـامعة(2). وهو ما يمكن أن نعلق عليه الغاية من مجمل النص التفتازاني والتوجه الأساسي لهذا النص .
ويمكن مقارنة هذه الغاية بالمبدأ الأول الذي يحدده لمنهج مصطفى عبدالرازق .
ويمضي نص التفتازاني في تحديد تيارين في التصوف ظهرا في القرنين السادس والسابع؛ أحدهما فلسفي والآخر عملي. يتمثل الأول بوضوح عند متفلسفة الصوفية، والآخر عند أصحاب الطريق، ويعرض لكل منهما موضحًا القضايا الرئيسية التي يدور حولها التصوف الفلسفي الذي خصص لأحد أعلامه رسالته للدكتوراة وهو عبد الحق ابن سبـعين المـرسـي (ت668هـ) وخص أبرز أعلامه محيي الدين بن عربي (ت638هـ) بدراسة مستفيضة عن الطريقة الأكبرية في الكتاب التذكاري الذي صدر عنه(3) .
ويرتبط التيار الثاني (العملي) تيار الصوفية من أصحاب الطرق _ بالغزالي ارتباطًا وثيقًا ويفيض في الحديث عنه ، ويخصص له دراسته في الماجستير عن ابن عطاء الله السكندري وتصوفه ، وابن عباد الرندي(4) ويكتب عن أهم أعلامه في معجم أعلام الفكر الإنساني(5) .
ويتوقف التفتازاني عند بعض شخصيات التصوف الإسلامي التي كان لها أثرها الواضح على التصوف المسيحي في العصر الوسيط ، والفكر الأوربي في عصر النهضة ، خاصة الغزالي الذي ترجمت معظم أعماله إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية ، والذي وصف بأنه أكثر المفكرين الذين أنجبهم الإسلام أصالة ، وأكبر علماء العقائد فيه(1)، يليه ابن عربي الذي كان له أثر كبير على بعض مفكري أوربا ، ويرجع الفضل في بيان هذا الأثر إلى الأسباني بلاثيوس الذي يرى أن جميع الصوفية الذين جاءوا بعد ابن عربي في الشرق والغرب على السواء قد تأثروا به(2) . كذلك من الشخصيات الصوفية التي عرفت في أوربا وعرض لها الأستاذ ، الصوفي الأندلســـــي ابن عبــــاد الرنـــــــدي (ت805هـ)، الذي كتب عنه بلاثيوس تحت عنوان أسباني مسلم سابق على القديس يوحنا الصليبي موضحًا تأثيره على المدرسة الكرملية في التصوف ، كتب عنه التفتازاني دراسة مستقلة، كما كتب عنه في بحثه ابن عطاء الله السكندري موضحًا كل ما يتعلق بحياته الصوفية محللاً مؤلفاته(3) ، وكذلك ابن سبعين الذي راسله الأمبراطور فردريك الثاني وعرفه معاصره ريمون الأول ، وبعد تحليل صورة الصوفية المسلمين في أوربا يؤكد التفتازاني أن التصوف كان الميدان الذي اتصلت فيه مسيحية القرون الوسطى بالإسلام اتصالاً وثيقًا(4) .
تلك هي بنية وموضوعات التصوف الإسلامي التي عرضها التفتازاني، ولنا عليها ملاحظتان : الأولي أنها تناولتا التصوف الإسلامي باتجاهيه السني والفلسفي في العصور الوسطى عند أهم أعلامه دون التطرق إلى التصوف في العصر الحديث، اللهم إلا في بعض مواد معجم أعلام الفكر الإنساني . والملاحظة الثانية: أن الأستاذ من خلال تلاميذه كون مدرسة متميزة من الباحثين استوفت معظم جوانب هذا العلم، سواء في موضوعاته أو تاريخه أو أعلامه، بحيث يمكن القول: إن ما قدمه الأستاذ من خلال دراساته ودراسات تلاميذه يفوق جهد أي باحث آخر في هذا الميدان ، وتلك في نظرى – وإن كانت لا تدخل في متن النص التفتازاني- فهي بلا شك هوامشه المكثفة أو ظلاله الوارفة .
جـ _ ويقدم نص التفتازاني ويتضمن مجموعة من القضايا الإبستمولوجية والسيكولوجية ، يعرض في أحد دراساته لنظرية المعرفة وأداتها ومنهجها وموضوعها عند الصوفية وفي الدراسات الأخرى للجوانب النفسية من التصوف باعتباره حالات وجدانية . وقد قدم لنا التفتازاني هذه الدراسات في فترة مبكرة من حياته وربما قبيل تخرجه وحتى حصوله على درجة الماجستير، وذلك في مجلتي الرسالة وعلم النفس عام 1949_1950م.
يعرض في نظرية المعرفة الصوفية : آداتها ومنهجها وموضوعها وغايتها للموضوعات التالية في ست فقرات :
1_ المقامات والأحوال طريق موصل للمعرفة .
2_ علم الظاهر وعلم الباطن .
3_ أداة المعرفة عند الصوفية .
4_ منهج الكشف عند الصوفية وطبيعة هذا المنهج .
5_ موضوع المعرفة الصوفية .
6_ غاية التحقق بالمعرفة الصوفية .
يحدد التفتازاني موضوعه بدقة موضحًا اتفاق الصوفية على أن غاية السالك إلى الله أن يتحقق بمعرفته سبحانه وتعالى معرفة يقينية، والأحوال والمقامات هي الطريق الموصل إلى المعرفة. وأن الكلام فيما يعرض للنفس والقلب من أحوال وما تكتسبه من مقامات سماها المتصوفة بعلم الباطن أو الحقيقة أو الدراية، وفرقوا بينه وبين علم الظاهر أو النقل أو علم الرواية . ويؤكد اعتمادًا على اللمع للطوسي والرسالة للقشيري أن الصوفية لا يعتمدون على العقل ، إذ إن العقل عاجز عن إدراك حقيقة الذات الإلهية ، التي تدرك إدراكًا مباشرًا لا مدخل للعقل فيه ، وذلك بواسطة أخرى هي القلب، فهم يعتمدون على الذوق ، ويوضح لنا ذلك باستشهادات من الجرجاني، والطوسي، وابن خلدون، والشعراني، وابن عربي، والغزالي في كتبه المتعددة، والجيلاني، وصوفي مصري هو الشيخ حسن رضوان (ت1310هـ) الذي يرى في كتابه روض القلوب المستطاب أن علم الحقيقة لم يتوصل إليه الصوفية عن طريق التفكير أو العقل ، إنما عن طريق الكشف والإلهام(1)، ولكي يبين طبيعة الكشف باعتباره منهجًا من مناهج المعرفة يفرق بين: معرفة استدلالية ومعرفة مباشرة حدسية؛ لينتهي إلى أن المعرفة الصوفية إنما هي من قبيل العرفان المباشر ووسيلتها هي الإدراك الصوفي الوجداني Intuition mystique وهذا هو ما ينطبق على ما يطلق عليه الصوفية كلمة كشف .
وكان التفتازاني قد تناول الموضوع نفسه من قبل 1949م تحت عنوان الإدراك المباشر عند الصوفية مؤكدًا على نفس المعاني، حيث أوضح أن العلوم اللدنية التي تأتي أصحابها عن طريق الكشف وارتفاع حجب الحس هي معرفة مباشرة للذات الإلهية وصفاتها، ثم هي بالتالي معرفة لحقائق كل موجود ، وإدراك لأسرار الكون وبواطن الشريعة وأحكامها ، وهي معرفة يقينية؛ لأنها كشفية .
ولما كان الادراك الوجداني المباشر هو نوع من الالهام ناشئ عن الكشف والمشاهدة ، وهو نتيجة لتلك الأزمات النفسية والحالات الوجدانية التي يعانيها المتصوف ، وأن الصوفية يطلقون عادة علي هذا النوع من الإدراك كلمة كشف Intuition ، فإن التفتازاني ينتقد ما ذهب إليه الأستاذ محمود الخضيرى في دراسته كيف تترجم الاصطلاح Intuition التي بين فيها أن أقرب الألفاظ العربية لترجمة هذا الاصطلاح في استعمال الصوفية هو لفظ الذوق الذي يقابله بالألمانية Ezlehnis .
ويؤكد التفتازاني في نصه أن هذه الكلمة غير دقيقة، لأن الذوق يدل علي حالة وجدانية من حالات المتصوف، فضلا عن أن الصوفية انفسهم لم يستعملوا هذه الكلمة للدلالة على كونها منهجًا للوصول إلى المعرفة، ويتضمن نصًّا ما يثبت ذلك مما جاء في اصطلاحات محيي الدين بن عربي، والكاشي السمرقندي، والتهانوي والسهروري والقشيري مما يفهم منه أن الذوق حالة وجدانية، أو حال يترقي منه المتصوف إلى غيره، وليست بذلك النوع من الادراك المباشر الذي هو نهاية ما يصل اليه المتصوف، ويؤكد علي ما أورده ابن عربي في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات، والتدبيرات الإلهية، لينتهي إلى أنه من الأدق أن تترجم كلمة Intuitionفي استعمال الصوفية بالكشف(1)، وتظهر هذه الاستشهادات قوة حجج التفتازاني وتوفره علي المصادر الأساسية للاصطلاحات الصوفية _مثل ماسينيون _ واعتماده الكبير على ابن عربي الذي استشهد بالعديد من كتاباته وضمنها نصه .
ويظهر نص التفتازاني الاهتمام الكبير بدراسة الناحية السيكولوجية؛ حيث يعتمد في العديد من دراساته على مراجع علماء النفس، ويذكر ويستشهد بكتابات الباحثين المعاصرين فيه ، ويخضع الصوفية وأقوالهم لتحليلات علم النفس كما نجد في دراستيه عن ابن عطاء الله السكندري و الطريقة الأكبرية ويخصص دراسة مستفيضة نشرها في عددين يمجلة علم النفس عن سيكولوجية التصوف موضحًا أن التصوف رغم أنه _ كمذهب _ يختلف باختلاف الأديان جميعًا، ومن العسير أن نجد له تعريفًا جامعًا مانعًا من نواحيه الدينية والفلسفية والأخلاقية فإنه من الوجهة السيكولوجية من الممكن تعريفه، فهو سلسلة متصلة الحلقات من الحالات الوجدانية الخاصة وإن دراسته تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المنهج الاستبطاني في علم النفس(2) .
ويحاول أن يرسم صورة عامة واضحة المعالم للطريق الذي يسلكه الصوفي بوجه عام ، وأن يصنف هذه الحالات الوجدانية التي ترتبط ببعضها ارتباطًا وثيقًا، بحيث يخضع التصوف لقانون سيكولوجي عام يمكن أن يوحد بين المتصوفة على اختلافهم(3)، ويحلل الأستاذ حالات المتصوف النفسية في أربعة أسس يصيغ لنا من خلالها سيكولوجية التصوف وهي :
(أ) حالة الاستعداد النفسي الصوفي الذي قد ينشأ عن الإيحاء الخارجي أو الذاتي ، وغالبًا ما تكون الصدمات النفسية عاملاً مهمًا في ظهور هذا الاستعداد النفسي للتصوف . وهو هنا يعتمد على تحليل كلام الغزالي في المنقذ من الضلال الذي يقارنه بالقديس أوغسطين موضحًا أن هذه المرحلة تتركب من عدة حالات وجدانية كالشك والقلق النفسي والكآبة ، والحزن العميق، والخوف من أشياء مجهولة ، ومحاولة إدراك حقيقة الكون وكشف المحجوب وإحساسات أخرى مبهمة غامضة تنتهي جميعها بواسطة الإيحاء بالاتجاه نحو الله وسلوك طريق التصوف .
(ب) العاطفة الصوفية وتكوينها ، فالحب الصوفي هو الحالة الوجدانية التي تصدر عنها سائر الحالات الأخرى، وهو المحور الرئيسي الذي تدور حوله موضوعات التصوف الإسلامي والمسيحي على السواء، وأن هذه العاطفة الصوفية من نوع خاص من العواطف التي تتخذ المثل العليا موضوعًا لها .
(جـ) ضرورة وجود شيخ : والشيخ كما يصفه في حقيقة الأمر طبيب نفساني بارع(1) فهو يلجأ إلى التحليل النفسي لتعرف أحوال النفس وتشخيص أمراضها، ويشير إلى التصنيف السيكولوجي الذي ذهب إليه الصوفية فيما يختص بقوي الانسان وملكاته النفسية ويذكر أربع قوى هي: النفس والروح والقلب والسر ولكل منها وظيفة معينة، فالنفس عندهم مركزًا للشهوات والأفعال المذمومة والروح مبدأ للحياة والأفعال الحميدة، والقلب محلاً للمعرفة، والسر محلاً للمشاهدة، ويرى اننا لا نستطيع ان نضع حدودا فاصلة بين هذه القوى إذا إنها ذات تأثير متبادل وانها مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا .
(د) المجاهدة النفسية، وهي سمة التصوف وبداية طريقه وأساسها هو قمع الميول والنزعات التي لا توافق المبادئ الأخلاقية ، وهذا القمع يكون قمعًا شعوريًّا إراديًّا فيما يرى التفتازاني، الذي يؤكد على أن سلوك المتصوف في المجاهدة سلوك إرادي يتميز بالقدرة على الكف وتركيز الانتباه في اتجاه معين مرسوم يرى المتصوف أنه أسمى من غيره، ويرى الأستاذ أن المجاهدة النفسية وسيلة من وسائل الإعلاء للغرائز الإنسانية، ويؤكد التفتازاني إن الصوفية توصلوا من اهتمامهم بالجانب السيكولوجي والأخلاقي إلى قواعد مهمة فيما يتعلق بالسلوك، وأشاروا على مريديهم بالأخذ بها للإتصاف بالكمال الأخلاقي .
ولنا ملاحظات على هذه الدراسة التي أراد فيها التفتازاني أن تكون قانونًا سيكولوجيًّا عامًّا : الأولى أنه لم يستمد مادته إلا من التصوف الإسلامي معتمدًا علي اكبر قدر من اصطلاحات الصوفية في هذا المجال، وإن كان قد أشار إشارتين عابرتين للقديس أوغسطين إلا انه لم يتعرض للتصوف في الديانات الشرقية القديمة والأديان الأخرى . والثانية: إنه طبق هذا البحث النظري على موقف ابن عطاء الله السكندري وكذلك في مقالته عن الطريقة الأكبرية.
وتكتمل هذه المجموعة من الأبحاث بدراسته نظرة إلى الكشف الصوفي التي شارك بها في عدد خاص أصدرته مجلة الفكر المعاصر عن برتراندرسل 1967. فقد نشر الفيلسوف الإنجليزي في يوليو 1914 بحثًا عنوانه التصوف والمنطق، عالج فيه التصوف من حيث هو منهج في المعرفة آثره عديد من الفلاسفة منذ اليونان إلي العصر الحاضر من حيث هو مجموعة اعتقادات، كما ناقش في هذا البحث إمكان وجود علاقة بين التصوف كتجربة ذاتية والعلم بما يدعو إليه في منهجه من موضوعية خالصة، ولفت الأنظار إلى أن بعض كبار الفلاسفة قد أمكنه أن يجمع بين النزعة الصوفية والنزعة العلمية، ورأى في ذلك الجمع والتوفيق سموًّا فكريًّا جعل من اصحابه فلاسفة بالمعني الصحيح(1) .
وينبه على أن محاولة رسل لا يجب أن يفهم منها أنه قد استحال إلى مدافع عن الصوفية، وهو يعلن صراحة أن في التصوف نوعًا من الحكمة يمكن أن يفاد منه، وأن التصوف يمكن أن يمتدح من حيث إنه موقف تجاه الحياة لا من حيث هو عقيدة عن العالم _ وهذا كما يقول التفتازاني ـ هو الذي جعل رسل لا يوافق فلاسفة الصوفية علي الكثير من الآراء التي يذهبون إليها، وهو ينتقدها نقدًا دقيقًا؛ ليبين ما تنطوي عليه من الفساد نتيجة المنهج الخاطئ الذي أدى بهم إليها(2)، ويرى أن ملاحظات رسل على جانب كبير من الأهمية في دراسات التصوف، وهي لا تصدق فقط على التصوف في الغرب، وإنما تصدق أيضًا علي التصوف الإسلامي .
ويعدد لنا التفتازاني الخصائص التي حددها رسل للتصوف ويفيض في تحليلها وإن لم يسع لتطبيقها على الصوفية المسلمين، ففي وصفه كيف بدأت حياة ابن عطاء الله السكندري الصوفية، يصف لنا الحالة النفسية له التي تمثل البداية في سلوكه الطريق الصوفي والتي سببها له تجاذب دوافع متعارضة، فالتمس لنفسه مخرجًا منها بالالتجاء إلى الله، ويحلل هذه الحالة بالاعتماد على دراسة إميل بوترو سيكولوجية التصوف(1) ، فذهابه إلى أستاذه أبي العباس المرسي الذي وجهه إلى الطريق الصوفي . ويعتبر التفتازاني التقاء ابن عطاء بشيخه لأول مرة نقطة التحول من حياته العادية إلى حياة صوفية التي يطلق عليها عالم النفس المعاصر روبرت فوكس التوبة الصوفية Mystical conversion في كتابه المدخل إلى علم النفس الديني(2)، وفي حديثه عن الكرامات يتوقف عند معنى الوارد، وهو حالة نفسية ترد على الصوفي يغيب معها تمامًا عن شعوره بنفسه دون تعمد منه، ويستعين بما جاء في قاموس علم النفس Warren، ليفسر لنا بعض وقائع حياة ابن عطاء وما حـدث له مع أتباعه(3) ، وفي الفصل الثاني من القسم الثاني من كتابه يصنف بواعث السلوك بردها إلى قوى النفس المختلفة موضحًا أن ارتباط علم النفس عند ابن عطاء بعلم الأخلاق ، لا يقلل من قيمة ما توصل إليه الصوفية من آراء نفسية(4) ، وهذا ما يوضحه إميل بوترو الذي أنصف الصوفية كباحثين في مجال علم النفس ، ومن هنا فهو يشبه الشيخ المرشد بالطبيب النفساني(5) .
ويفيض التفتازاني في الحديث عن الجانب النفسي حين تناول ضرورة الشيخ للمريد في دراسته للطريقة الأكبرية، حيث يؤكد أن الشيخ هو الطبيب (النفسي) المعالج للمريد السالك(6) . فالاستعداد النفسي شرطٌ أساسي للتصوف فالمريد كما صوره لنا ابن عربي هو بتعبير علم النفس الحديث خاضع على الدوام لإيحاء شيخه الذي يوجه سلوكه وفق اتجاه مثالي مرسوم(1) . ويرى أن الرياضيات العملية التي كان يستخدمها ابن عربي في سلوكه وينصح بها مريديه، ذات تأثير قوي على تكوين المريد من الناحية النفسية(2) ، والخلوة عند الصوفية تجعل شخصية الصوفي قريبة مما يطلق عليه علماء النفس الشخصية الانطوائية، ويستمر في هذا التحليل المستند إلى أبحاث علم النفس لتوضيح الحالات(3) المختلفة التي يمر بها الصوفي في حياته .
ويتضمن النص التفتازاني عددًا من شخصيات الصوفية مختلفي الاتجاهات ، فمنهم صوفية من أصحاب الاتجاه السني من شيوخ الطرق ، ومنهم متفلسفة، ومنهم شعراء خصص لهم بعض الدراسات الطويلة مثل ابن عطاء الله ، وابن سبعين ، أو أبحاث مستفيضة مثل ابن عباد الرندي، وابن الفارض ، وابن مرة، والبسطامي . مما يجعلنا نتبين نوعين من الأبحاث يقتسمها نص التفتازاني ، الأول يعرض فيه لقضايا صوفية ، والثاني يتناول فيه الأعلام ، وسوف نعرض في هذه الفقرة لأعلام الصوفية الذين حفل بهم نص التفتازاني.
1_ ويأتي في مقدمة هؤلاء الأعلام ابن عطاء الله السكندري الصوفي الشاذلي الذي خصه بأكثر من دراسة ، أولها وأهمها بحثه للماجستير ، والمادة التي كتبها عنه في معجم أعلام الفكر الإنساني , بالإضافة إلى تحليله لحكم ابن عطاء في تراث الإنسانية(4) .
وابن عطاء الله شخصية صوفية مصرية لها خطرها ، ويعد صاحبها بحق ممثلاً للتصوف المصري في أوائل القرن الثامن الهجري ، وتتجاوز أهميته التصوف الإسلامي إلى التصوف المسيحي ، بالإضافة إلى كونه أديبًا بارعًا ذا طريقة في البلاغة ومكانة مرموقة في تاريخ الأدب الصوفي العربي وإمامًا من أئمة المدرسة الشاذلية . ودراسته عنه ابن عطاء الله السكندري وتصوفه تنقسم إلى قسمين: الأول عن ابن عطاء وعصره وحياته التصوفية ومصنفاته في ثلاثة فصول، والقسم الثاني في المذهب العطائي في فصول سبعة تتناول على التوالي : الفكرة الأساسية في المذهب العطائي وهي إسقاط التدبير ، ثم النفس الإنسانية ، ومجاهدة النفس في الفصل الثالث، ثم النفس وآداب السلوك ، والنفس بين المقامات والأحوال ، ثم المعرفة، وأخيرًا شهود الآحدية في الوجود، معقبًا على ذلك بمناقشة بعض تأويلات المذهب العطائي في الآحدية وتفسير الوجود .
وإذا كان بحث ابن عطاء أول أبحاث التفتازاني الأكاديمية 1955م، فقد شغل الأستاذ به فأعاد الكتابة عن الحكم العطائية في المجلد الثالث من تراث الإنسانية إبريل 1965م، حيث عرض لحياته ومصنفاته وللحكم العطائية التي تعد من وجهة نظره أهم ما كتب ابن عطاء في التصوف ، ويمكن اعتبار مصنفاته الأخرى بمثابة شروح لما انطوت عليه الحكم من الآراء . ويتناول موضوعات الحكم وخصائصها وقيمتها من الناحية التصوفية التي يظهر فيها الرمز الصوفي ، ويشير للشروح المختلفة عليها ويقدم مختارات منها . ثم يتناول ابن عطاء مرة ثالثة في معجم أعلام الفكر الإنساني عارضًا لحياته وتصوفه ومؤلفاته وآرائه الصوفية وتأويلاتها .
2_ ويرتبط بابن عطاء الله شخصية صوفية أخرى لها خطر هو شارح الحكم ابن عباد الرندي الصوفي الأندلسي الذي كان ممثلاً للمدرسة الشاذلية الصوفية في أسبانيا في القرن الثامن الهجري ، وإذا كان الفضل يرجع إلى آسين بلاثيوس في الإبانة عن أهمية الرندي في التصوفين الإسلامي والمسيحي ، كما يؤكد التفتازاني في نصه فإن بحث الأستاذ يظهر لنا السمة السجالية التي تتميز بها كتابات شيخنا، فهو يأخذ على المستشرق الأسباني رده اتجاه المدرسة الشاذلية في مذهب الزهد في الكرامات إلى مصدر مسيحي من الرهبانية الشرقية ، وأنه لم يحاول أن يلتمس لهذه النظرية مصدرًا إسلاميًا . بالإضافة إلى أنه لم يعن بدراسة مذهب الرندي دراسة مستقلة تبين أهميته كصوفي له مكانته في التصوف الإسلامي ، ويظهر بحثه عن الرندي وكأنه مجرد وسيط يقوم بنقل آراء المدرسة الشاذلية إلى متصوفي الأسبان من المسيحيين . وأنه أي بلاثيوس اعتمد في دراسته على شرح حكم ابن عطاء الله للرندي الذي _ وإن كانت له قيمـة تصـوفية كـبرى _ إلا أنه لا يظهــرنا على آراء الرندي الشخصية إلا بمقدار ضئيل.
ويقدّم لنا نص التفتازاني عن الرندي حياته بالتفصيل مبينًا مدى ارتباطها بمذهبه الصوفي ، كما يقدم دراسة مستفيضة عن مصنفاته يقول : ومن حق الرندي أن نجلي مذهبه ونبرز شخصيته لا على أنه وسط بين الفكر الإسلامي والفكر المسيحي فحسب وإنما كصوفي له مذهبه الصوفي المتصف بالأصالة وله مكانته في تاريخ التصوف الإسلامي بوجه عام(1) . كذلك يوضح لنا أن مذهب الرندي الصوفي قد أثر بشكل واضح في تصوف المشارقة ، وأنه كانت له مكانة ممتازة في التصوف المغربي ، والتصوف المسيحي في حياته وبعد مماته ، يبحث التفتازاني في القسم الأول حياة الرندي؛ حيث يعرض لنا اسمه ولقبه ونسبه ، مولده ونشأته ، دراسته للعلوم الدينية ، سلوكه طريق التصوف ، دوره في الطريقة الشاذلية ، بعض جوانب من حياته الخاصة وأخلاقه ، توليه الإمامة والخطابة بمسجد القرويين بفاس ، وفاته وقبره ، وتلاميذه . وفي القسم الثاني مصنفات الرندي وقيمتها التصوفية وأهميتها وثبت شامل بها .
ويتناول في هذا السياق عددًا كبيرًا من أعـلام التصـوف السني وأصحاب الطـرق نذكـر منهـم : أحمـد الرفـاعي (ت 573هـ) الذي انتشرت طريقته بمصر عن طريق أبي الفتح الواسطي الذي أقام بالإسكندرية، ودفن بها (580هـ)(2).
وأحمد زروق (846 _ 899هـ) أحد كبار الصوفية على الطريقة الشاذلية الذي ترجع أهميته _ عند التفتازاني _ إلى عنايته بتحديد الصلة بين التصوف والفقه كما يتبين من كتابه قواعد التصوف وهي محاولة أصيلة لا نجدها عند غيره من الصوفية السابقين عليه . يدعو للتوقف عن الحكم على متفلسفي الصوفية . ويرى التفتازاني أن هذا الرأي متصف بالجرأة من صوفي شاذلي(1) ، ويعتبره الأستاذ من دعاة إصلاح التصوف بالمغرب في القرن التاسع الهجري .
كذلــــــــك أحمـــــــد الدرديـــر (1127_1201هـ) أحد كبار الطريقة الخلوتية بمصر في القرن الثاني عشر الهجري الذي عين شيخًا للمالكية ومفتيًا كان شيخًا على أهل مصر بأسرها في وقته حسًّا ومعنى(2) . ويكتب عن أحمد إدريس (1173 _ 1253هـ) من أقطاب الصوفية العمليين من أصحاب الطرق في القرن الثاني عشر الهجري(3) . أسس الطريقة الإدريسية أحد فروع الطريقة الشاذلية وتعتبر السنوسية في ليبيا والميرغينية في السودان فرعين لها .
وأحمد بن الشرقاوي (1250 _ 1316هـ) أحد متأخري الصوفية على طريقة الخلوتية في صعيد مصر ، وهو كما يخبرنا التفتازاني صاحب اتجاه واضح إلى إصلاح أوضاع الطرق الصوفية في عصره(4) .
ومقابل هؤلاء الأعلام من التيار السني الشاذلي ومن أصحاب الطرق يتناول التفتازاني : ابن سبعين وابن مرة وابن عرببي من الصوفية المتفلسفين . يكتب عن أبي يزيد البسطامي الذي اختلفت الآراء فيه اختلافًا بينًا . ورويت عنه أقوال من قبيل الشطحيات وغلب عليه حال الفناء ويفيض في ذكر أقواله وينتهي إلى أن أبا يزيد لا يقصد حقيقة الاتحاد لمخالفته صراحة للعقيدة الإسلامية(5) .
ويكتب عن ابن مرة (269 _ 319هـ) ؛ من أوائل فلاسفة الأندلس ذوي النزعة الصوفية ، ويربط بينه وبين المعتزلة ويشير إلى أنه أخذ علومه على أبيه(6)، إلا أن أهم الأعلام الذين يتناولهم بالبحث والدراسة من أصحاب هذا التيار والذين أفسح لهم مكانًا في نصه هما ابن سبعين وابن عربي، خص الأول بأطروحته في الدكتوراه حول ابـن سبـعين وفلســفته الصوفية وبمادة طويلة في معجم أعلام الفكر الإنسـاني بالإضــافة إلى دراسـة مقارنة بينه وبين السهروردي حكيم الإشراق في الكتاب التذكاري عن السهروردي(1)، وكذلك في مدخل إلى التصوف الإسلامي(2) .
وتنقسم دراسته الأساسية عن ابن سبعين إلى قسمين، الأول: يتناول ابن سبعين ومصنفاته ومنزلته وأثره في ثلاثة فصول. والثاني في فلسفته في ستة فصول، تشمل : الوحدة المطلقة ، التحقيق والمحقق ، منطق المحقق ، النفس والعقل ، الأخلاق النظرية ، الأخلاق العملية . فابن سبعين أبرز ممثلي مذهب الوحدة الوجودية المطلقة ، ومن أبرز ما يميزه أنه مفكر ناقد قد استوعب كثيرًا من الآراء والفلسفات . وكانت عناية التفتازاني بالإضافة إلى إبراز الجوانب المجهولة وشبه المجهولة في مذهب ابن سبعين موجهة إلى إظهار علاقة مذهبه بالكتاب والسنة اتفاقًا واختلافًا؛ حيث انتهى إلى كون الفيلسوف الصوفي الأندلسي مسلم مؤمن، رائده أنه يؤيد الشريعة وأنه يدافع عن السنة وأنه يكشف للناس أسرارهما .
ويدور ما كتبه عن ابن سبعين في معجم أعلام الفكر الإنساني في هذا الاتجاه، فهو يتناول حياته ومؤلفاته وتصوفه والوحدة المطلقة، ثم علاقته بالمنطق الأرسطي(3) . ويقارن بينه وبين السهروردي حكيم الإشراق، موضحًا مفهوم ابن سبعين للحكمة الإشراقية، ونقده للسهروردي مع ملحق مجموعة من النصوص التي ينتقد فيها ابن سبعين الحكمة المشرقية وآراء السهروردي .
ويتخذ التفتازاني الموقف نفسه من ابن عربي في دراسته الطريقة الأكبرية . حيث يوضح لنا لماذا سميت طريقة ابن عربي الأكبرية . ويتناول شيوخها وأسانيدها، ويناقش زعم لاشاتليه من أنها فرع من الطريقة القادرية، ويبين منهجها وغايتها ويتوقف بالتفصيل عند أصولها العامة وآدابها، مثل : السلوك والسفر ، ضرورة الشيخ للمريد ، العزلة والخلوة ، الصمت والجوع والسهر ، الذكر، موضحًا أثر الرياضات العملية في نفسية السالك ، ثم يناقش مكانة ابن عربي كشيخ للطريقة الأكبرية ، ولماذا لم تنتشر الطريقة الأكبرية انتشارًا واسعًا. وهو في ذلك يستند إلى الأسس الإسلامية للتصوف المبنية على الكتاب والسنة؛ لذا فهو دائم الإشارة إلى أقطاب الطريقة الشاذلية التي تعد بالنسبة له المعيار الذي يتناول طريقة ابن عربي على أساسها خاصة ابن عطاء الله السكندري ومؤلفاته(1) ، وهو ينطلق في ذلك من التناول النفسي للتصوف ، فمن المفيد كثيرًا في دراسة النظريات الصوفية أن نسأل دائمًا هذا السؤال : ما هي الظروف النفسية التي تحيط بالصوفي حين كان يعبر عن نظريته في هذه المسألة أو تلك(2) .
ويؤكــد التفتـازاني تـأثر ابن عربي _ ليس بالتصوف الفلسفي بل _ برسالة القشيري ومصنفات الغزالي(3) . والمنتمي لهذه الطريقة يجعل أعمالها كلها خالصة من حظ طلب المقامات ، كما يهرب دائمًا من مواضع التهمة(4). وفي حديثه عن السلوك والسفر ، يشير إلى أن ابن عربي يجعل العلم الشرعي نقطة البداية في سلوك السالك ، ويذكر أقواله المتعددة التي تؤكد ذلك(5) ، والذكر عند ابن عربي _ على اختلاف صوره _ من أهم الرياضات العملية التي ينبغي للسالك للطريق الصوفي أن يلتزمها، تستند عنده وعند غيره من صوفية الإسلام على اختلاف نزعاتهم إلى مصدر إسلامي من القرآن والسنة(6) . وهو يورد أدلة مما نقله أبويحيى زكريا الأنصاري شيخ الإسلام والشعراني عنه؛ ليبين مدى احترامهم له ومما له دلالته في الإبانة عن مكانة ابن عربي باعتباره شيخًا من شيوخ الطرق ، أن طرقًا أخرى كالشاذلية ، قد أظهروا احترامهم له كشيخ من شيوخ التربية الروحية . فقد أخذ ابن عطاء الله السكندري أحد أركان الطريقة الشاذلية بكثير من قواعد ابن عربي في السلوك… وكان يعظمه(1) ، وكان الإمام محمد عبده من المدافعين عن ابن عربي .. ويقف التفتازاني عند أتباع الطريقة في مصر . ويستفاد من هذا الكلام أن الطريقة الأكبرية كانت موجودة بمصر في القرن الثالث عشر الهجري وكان أبــرز ممثليها هما الشيخ مصطفي المنادي وتلميذه الشيخ علي مكتسي البولاقي(2)، ويذكر لنا كثيرين غيرهما من مشايخها، ولقي التفتازاني بعض أتباع هذه الطريقة من الصوفية وعلماء الأزهر(3) . وينتهي من ذلك إلى أن ابن عربي قد استطاع رغم ضراوة الحملات التي وجهت إليه في حياته وبعد مماته أن يحيا على مر العصور بآرائه وتوجيهاته الروحية في السلوك الصوفي، وأن ينجح في أن يخلد ذكره كصوفي مرب بوساطة طريقته التي كتب لها البقاء في العالم الإسلامي منذ القرن السابع الهجري إلى العصر الحاضر، وهذا مما لم يتهيأ لكثير من مفكري الإسلام وصوفيته وفلاسفته الكبار، وهو من دلائل عظمة شخصيته، إن لم يكن أكثرها في الدلالة عليه(4) .
وهو موقف فيه تقدير لابن عربي وطريقته . وهو موقف أكثر تسامحًا من حكمه على ابن عربي في مدخل إلى التصوف الإسلامي فرغم الإشادة بأهمية ابن عربي وجهوده وبيان تقدير الغربيين له، وبعد عرض نظريته في الوحدة الوجودية ونظريته في الحقيقة المحمدية ، ووحدة الأديان يرى أن هذا من الغلو الذي لا مبرر له(5) .
ولا يقتصر نص التفتازاني على أعلام الصوفية بل يضم أعلام الفلاسفة والكلام . فمن كتابات الأستاذ المبكرة دراسات في الفلسفة الإسلامية(6) ، يعرض لتياراتها ومدارسها وأعلامها ، وأبحاثه المختلفة في الفكر الفلسفي في مجال العلوم الشرعية(1) ، وابن طفيل وأثره على الغرب(2) ، و إخوان الصـفا ودورهـم في التفـكير الإسلامي(3) ، وابن رشد وموقفه من التصوف(4) . كما كتب عن الوهابية والتصوف(5) و الشيعة والسنة والصوفية . ويهمنا أن نعرض لموقفه من السنة والشيعة والصوفية الذي قدم به كتاب الحر العاملي وسائل الشيعة، وكتاب المستدرك للمحقق الميرزا حسين النوري . وهو يرى في نشر هذين الكتابين ما يحقق غاية التقريب بين السنة والشيعة وإيجاد نوع من الفـهم المتبادل بينهما فينظر كل فريق منهما إلى الآخر نظرة إنصاف وتقدير(6) .
ويتوقف عند أخطاء الباحثين في أحكامهم عن الشيعة والعوامل التي أدت إلى عدم إنصاف الشيعة، منها الجهل الناشئ عن عدم الاطلاع على المصادر الشيعية والاكتفاء بالاطلاع على مصادر خصومهم موضحًا ضرورة الاعتماد على تراث الشيعة أنفسهم أو تحــري الصدق في الروايات التاريخية التي يجدها الباحث في كتب خصوم الشيعة(7). ويرى أن الشيعة عمومًا يستندون في تشيعهم للإمام علي رضي الله عنه إلى شواهد من الكتاب والسنة، ويبين الاتفاق بين السنة والشيعة في أصول العقائد وذلك إذا ما استثنينا مسألة الإمامة والاتفاق بينهما في الأحكام الفقهية باستثناء الخلاف حول بعض الأحكام الفروعية مثل نكاح المتعة الذي ثبت نسخه عند أهل السنة ولم يثبت عند الشيعة ، ومصدر الاتفاق بينهما في أصول العقائد والأحكام الفقهية هو الكتاب والسنة(1) ، وما الخلاف الموجود بينهما بأبعد من الخلاف بين مذهبي الإمام مالك وأتباعه من أهل الحديث والإمام أبي حنيفة وأتباعه من أهل الرأي والقياس . ومن هنا _ كما يرى التفتازاني _ فلا ينبغي أن يغفل المسلمون من غير الشيعة عن قيمة تراث الشيعة في العقائد وفي الفقه، فهذا التراث يروي عن آل البيت وهم أئمة في الفقه والتشريع وسادة لهم فضلهم ومكانتهم في قلوب المسلمين على اختلافهم .
ويتسع نص التفتازاني للشيعة ولا يستبعدهم ويجعل منهم جزءًا أساسيًّا في التراث الإسلامي، فليس التشيع دخيلاً على الإسلام، فشأن الشيعة مثل الصوفية.
إن بين التصوف والتشيع صلات قوية، وللإمام علي عند الصوفية منزلة رفيعة ، فهم يعدونه مثلاً أعلى في الزهد والتقوى . كما أن شيوخ الصوفية من أصحاب الطرق من جلة علماء أهل السنة من الصوفية يرجعون في أسانيد طرقهم إلى أئمة أهل البيت ، وهناك في كتب أهل السنة أنفسهم شواهد كثيرة على خصوصية الإمام على في العلم(2) .
وننتقل من قضايا التصوف وتاريخه وأعلامه إلى علم الكلام وللأستاذ إسهامات عديدة فيه منها تحقيقه للجزء الرابع من كتاب القاضي عبد الجبار المعتزلي المغني في أبواب التوحيد والعدل والذي يدور حول الرؤية(3) . وكذلك دراسته عن واصل بن عطاء(4) والفكر الفلسفي في مجال العلوم الشرعية وكتابه علم الكلام وبعض مشكلاته والكلام يمثل عنده الفكر الفلسفي في العلوم الشرعية كما يتضح من مقدمة كتابه .
فالمقصود بالفلسفة الإسلامية يعني الفلسفة التي نشأت وتطورت في ظل الإسلام وحضارته ، وعلماء المسلمين الذين نهضوا للدفاع عن عقائد الإسلام مستندين إلى الأدلة العقلية هم المتكلمون ، والذين شغلوا أنفسهم بالأحكام الشرعية الفروعية وكيفية استنباطها من أدلتها هم الأصوليون(1) . ومن هنا يميز التفتازاني بين نوعين من الفكر الفلسفي في الإسلام: أولهما: الفكر الفلسفي في مجال العلوم الشرعية، وفيه تتجلي قدرة المسلمين على الابتكار، وثانيهما: الفكر الفلسفي الخالص . ويرى أنه من غير الممكن أن نعطي صورة للفكر الفلسفي في الإسلام إذا اقتصرنا على ما كتبه الفلاسفة الخلص وحدهم. ومن هنا يأتي كتابه علم الكلام الذي يتناول الفكر الفلسفي في مجال العلوم الشرعية؛ حيث يعرض لنشأة علم الكلام وموضوعه ومنهجه وغايته وعوامل نشأته في أول فصوله الخمسة، ثم يتناول مشكلات كلامية أربع هي : الإمامة ، والذات والصفات ، والجبر والاختيار ، والسمع والعقل .
ومنهجه في دراسة المشكلات الكلامية قائم على أساس رد كل مشكلة من تلك المشكلات إلى أصلها من الكتاب والسنة . والمهم هنا ، ذكر خاصية أساسية في نص الأستاذ هي خاصية التقريب بين الفرق والمذاهب لتقليل الخلاف بينهم ، يقول : ولم يغب عن بالنا أن نقرب بين المذاهب العقائدية كلما دعت الحاجة إلى ذلك كما فعلنا في التقريب بين مذهبي أهل السنة والجماعة والشيعة الاثنى عشرية، فقد تبين لنا من الدراسة المقارنة للمذهبين أن الخلاف بينهما ليس بذي خطر(2) .
إن موقف التفتازاني من التراث والفكر والفلسفة الإسلامية والعلوم والفرق الإسلامية مهم، وهو يقوِّم إحياء هذا الفكر وتلك العلوم وتحديد العلاقات بينهما في مواجهة العلوم والتيارات والمذاهب الغربية فهذا يجعلنا أكثر تفهمًا لماضينا وأكثر وعيًا بقيمة وأصالة ذلك التراث . واستلهام تراثنا الفكري من شأنه أن ينير أمامنا السبيل ويوضح لنا الرؤية في حاضرنا ومستقبلنا على السواء .. وبذلك تبقى لنا شخصيتنا المستقلة ومقوماتنا الذاتية . وفي سبيل نهضة مجتمعنا الراهن يتعين علينا أن نذكر دائمًا أن الطاقات الروحية التي تستمدها الشعوب من مثلها العليا النابعة من أديانها السماوية أو من تراثها الحضاري قادرة على صنع المعجزات(1) .
هنا يظهر في نص التفتازاني أهمية القيم والعوامل الأخلاقية والروحانية التي نجدها في التصوف والعلوم الشرعية الإسلامية في بناء المجتمع، وهو ما اتضح في تعريفه للتصوف وما أشار إليه في مقدمة دراسته عن علم الكلام . مما دعاه للرد على كثير من التيارات الفلسفية الغربية وفي مقدمتها الوجودية. في دراسته عن الصراع الأيديولوجي بين أصحاب الاتجاهات المختلفة في قضية الهوية العربية ، والتراث وانعكاساته على الثقافة نجد أوضح تعبير على موقف الأستاذ وعلى الهدف والغاية من نصه وأهم توجهاته .
إن الاتجاه التوفيقي هو السمة الأساسية التي تميز نص التفتازاني، ففي مثل واقع الصراع الأيديولوجي الذي يميز عصرنا يشعر المواطن في العالم العربي بحاجة ملحة إلى فهم ثقافات عصره على اختلافها والملائمة بينها وبين تراثه الديني والحضاري حتى لا يفقد هويته أو ذاتيته كما يرى التفتازاني. ومن هنا فهو يعرض للاتجاهات الفكرية المختلفة منذ أوائل القرن الحالي إلى الآن، وما كان بينها من صراعات، وأثر ذلك على محاولة إيجاد هوية عربية إسلامية متميزة . فيعرض أولاً لدعاة الحفاظ على الموروث، وما يطلق عليه دعاة التغريب (القوميين والماركسيين) ودعاة الملاءمة بين القديم والحديث (ونموذجه محمد عبده).
وبعد أن يحدد خريطة الصراعات الأيديولوجية باتجاهاتها المختلفة في قضية الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، فهناك تيار التغريب، ولا يزال له أنصاره، ويدعو إلى الليبرالية الغربية والعلمانية، وإن كان قد ضعف في الوقت الحاضر عما كان عليه من قبل ، وذلك في مواجهة تيارين آخرين، هما تيار التغريب الماركسي . وتيار إسلامي يشمل اتجاهات مختلفة منها تيار عقلاني راشد يدعو إلى الملاءمة بين الجديد والقديم وتيار مغال يدعو إلى الانغلاق ومحاربة كل ما هو وافد إلينا من فكر وثقافة وعلوم(1) . والسؤال الذي يسعى للإجابة عليه الأستاذ هو كيف نعمل على صياغة ثقافة مصرية جديدة تلبي احتياجاتنا الفكرية والروحية في مواجهة أيديولوجيات العصر الوافدة إلينا ؟
ويقدم لنا تصورًا يتسم بالتوفيقية لصياغة ثقافة مصرية جديدة يتمثل في النقاط التالية :
_ النظر إلى مذاهب الفلسفة في عالمنا المعاصر ، والأيديولوجيات السياسية والاجتماعية على أنها اجتهادات قابلة للصواب والخطأ ، ولا يجوز أن نستورد أو نتبع فلسفات هي نتاج عصرها وبيئتها ولا تصلح لغير هذه البيئة وذلك العصر .
_ ليس ثمة تعارض بين العلم الطبيعي والإسلام .
_ المعرفة الموضوعية بالمذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة على أن يمكن في الوقت نفسه من نقدها على أساس منهج العقل، ثم كذلك على أساس من عقائد الإسلام وشريعته وقيمه الخلقية .
_ ضرورة تدريس مذاهب الفلسفة الأوربية الحديثة والمعاصرة في جامعاتنا على أساس مدى نجاحها أو إخفاقها عند التطبيق العملي لها في المجتمعات التي ظهرت فيها .
_ عدم إغفال تراثنا الفكري والثقافي عند تدريس مذاهب الفلسفة الأوربية الحديثة والمعاصرة .
_ التأكيد في تكوين الثقافة على أهمية القيم الدينية في بناء الفرد والمجتمع.
_ التأكيد في تكوين الثقافة على أهمية الإنسان وتكريمه ودوره في هذا الكون الذي نعيش فيه .
_ التأكيد على أهمية الثقافة في إعادة الهوية الحضارية(2) .
الانفتاح على فكر العصر وثقافاته أمر ضروري في نظر الأستاذ، ولكنه لابد من الاعتماد في الوقت نفسه على تراثنا الديني والفكري والحضاري ، وعندئذ تجمع ثقافتنا بين الأصالة من ناحية والمعاصرة من ناحية أخرى . وتكثف موقفه في التأكيد على مجموعة من القيم الأساسية التي تلخص مغزى نصه وهدف كتاباته، وهي أنه لا يمكن لشبابنا أن يستقر نفسيًّا ويتجه إلى الخلق والابتكار في كل المجالات العلمية والثقافية والأدبية والفنية إلا إذا شعر بقيمته وبحريته في التعبير ، وبكرامته في مجتمعه ، وبأن له رسالة في هذه الحياة يحيا من أجلها ، فلا تبعية للغير ولا جمود على قديم في الوقت نفسه . وهنا تتحقق له هويته الحضارية المتميزة التي ألقت عليها الصراعات الأيديولوجية المعاصرة بظلال من الشك فلم يعد يتبينها في وضوح(1) .
وملاحظتنا الأساسية على هذا النص هو أنه بدأ معرفيًا ولم يستطع بحكم طبيعته إلا أن يتحول ليصبح نصًا مشبع بالأيديولوجيا أو على الأقل تتداخل فيه الجوانب العملية مع النظرية بحكم توفيقيته من جهة وطابعه الأخلاقي العملي من جهة ثانية ليكتمل في إطار سياسي عام .
(1) د. أبو الوفا التفتازاني : مدخل إلى التصوف الإسلامي ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، طـ3، القاهرة 1979 ، ص1984 .
(2) د. أبو الوفا التفتازاني : منهج إسلامي في تدريس الفلسفة الأوربية الحديثة والمعاصرة في الجامعة ، مجلة المسلم المعاصر ، بيروت 1979، وكذلك دراسته الإسلام ووجودية سارتر ، العدد الأول من مجلة الجمعية الفلسفية المصرية ، القاهرة ، 1993، ص7 _ 20 .
(3) د. أبو الوفا التفتازاني : الطريقة الأكبرية ، الكتاب التذكاري عن محيي الدين بن عربي ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1969، ص295 _ 353 .
(4) د. أبو الوفا التفتازاني : ابن عباد الرندي حياته ومؤلفاته ، مجلة معهد الدراسات الإسلامية في مدريد ، المجلد السادس، العدد1_2، عام 1958، ص221 _ 258 .
(5) راجع مواد : ابن عطاء الله السـكندري أحمد زروق ( ت846_899هـ ) ، أحمد الدردير( 1127_1201هـ ) ، أحمد بن إدريس(1173_1253هـ)، أحمد بن الشرقاوي (1250_1316هـ) ، معجم أعلام الفكر الإنساني .