أنموذج الإنسان المرتكز على التوحيد في ضوء القرآن الكريم من منظور وسائل النور للنورسي
العدد 114
بين يدي الموضوع :
الحمد لله الذى خلق الإنسان ،علمه البيان ،جعلنا على الفطرة موحدين ،وهدانا لهذا الدين {فطرت الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }[الروم :30] .
فإن واقع الإنسان اليوم إما موحد أو غير موحد ،لكنه فى أصل خلقته التى فطر عليها مؤمن موحد عالم متعلم على خلاف ما يردده أصحاب الثقافات التى تقوم على أساس من التوحيد والمعرفة المتلقاه عن الوحى ،واقرأ قصة آدم عليه السلام ،كيف فطره الله على الإيمان والتوحيد ،وعلمه وهذبه ورفعه على الكائنات كلها ،قال تعالى : {وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبوئتى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } [البقرة :31 ] .
والإنسان مخلوق مكرم ،خلقه ربه فى أحسن تقويم ،وصوره فأحسن صورته ،ونفخ فيه من روحه ،وأسجد له ملائكته ،قال تعالى : {إذا قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ص : 71 – 73] .
ولأهمية الإنسان فى الكون سخر الله له ربه ما فى الكون قال تعالى :
{ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة }[لقمان:20]
والإنسان فى تكوينه ينزع إلى الشبه بالملائكة من وجهة وبالحيوان من جهة أخرى ،يشبه الملائكة فى العبادة والتطلع إلى السمو الروحي وإحاطة المعرفة …،ويشبه الحيوان فى أنه يبحث فى أعماله عن حظ نفسه وحصة ذاته .
لقد أودع الله فى الإنسان وسائل المعرفة ،وجعل لديه الاستعدادات كلها ليؤدي مهمته التى من أجلها خلق
<< فالإنسان من حيث الصنعة الجامعة المتقنة يملك الأجهزة والجوارح ،بحيث يعرف أنواع النعم التى لا تعد ولا تحصى >>.
إن الإنسان لا يجد قيمته الحقيقية إلا بالتوحيد ،إنه أصفى لذة وأنقى سعادة لحياة الإنسان ،أن يؤمن جازماً بأنه عبد خالص العبودية لإلهٍ واحدٍ متفرد .
ومما يؤهل الإنسان للخطاب الإلهى انتسابه إلى الواحد الأحد فيقوم الإنسان بإظهار جميع آثار الصنعة الكامنة فى الإنسان ،فتتعين بذلك قيمة الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية ،فينال الإنسان الشرف الذى يؤهله لجنة ربه عز وجل ،والإنسان الموحد تصطبغ حياته بسر التوحيد : مشاعره وعقله وجسده وكيانه وواقع حياته ،الأمر الذى يجعله مميزاً على كل شئ ،فيحتل بذلك مكانته المرموقة ،لا بين البشر فحسب ، بل بين مخلوقات الكون كلها .
وسوف أتناول فى بحثي (أنموذج الإنسان المرتكز على التوحيد) النقاط الآتية فى ضوء ما قدمت ومن خلال رسائل النور :
– ماهية الإنسان ومكانته وما فيه من استعدادات فطر عليها .
– غاية حياة الإنسان .
– أثر التوحيد فى حياة الإنسان وانعكاسه عليها .
– تجليات الأسماء الحسنى فى حياة الإنسان .
والله أسأل أن يوقفنا لما يحب ويرضى .
ما الإنسان ؟
ماهية الإنسان :
<<الإنسان >>الاسم الذى تردد في كتاب الله تسعين مرة ،مشتق من الأنس (1)لكون أفراده يأنس بعضهم
ببعض ،فلا يستغنى فرد من الأفراد عن جماعة الناس ،أو هو مشتق من النسيان ،فالنسيان خصلة ورثها البشر من أبيهم آدم عليه السلام {ولقد عهدنا إلى ءادم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً }[طه :115] .
ب- الكائن المميز فى الخلق والخلق :
إن للإنسان طبيعة ازدواجية منسجمة ،يجمع فى تكوينه بين قبضة الطين ونفخة الروح ،خلقه الله من طين أولاً ثم جعل بعد ذلك نطفه فى قرار مكين ،حتى إذا اكتمل بعد التخلق جاء التقرير الإلهى بإنشائه خلقاً آخر فأصبح الكائن المتكامل .
إن خلق الإنسان من طين من متقاضياته الرغائب المتعددة مما يحسه هذا الكائن ويميل إليه ،وكذلك المشاعر المتأججة فى النفس البشرية ما بين مشاعر حميدة وأخرى ذميمة .
لكن خلق الإنسان ،فيه النفخة الروحية وهى القبس المشع واللطيفة النورانية المهداة فى تكوين هذا الكائن قال تعالى : {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى }[الحجر :29] فما أعظم وأجمل متقضياتها الغرائر والأهواء وحظوظ النفس من الشهوات التى تنزل بالنفس إلى الأرض .
أما الروح فطبيعتها العلوية القدسية حيث الإشراق والسطوح والجمال والترفع عن الشرور والمفاسد – ترقى بالإنسان فى عوالم الكمال بما ينعكس على الواقع البشري بكل أوجه الخير والفضيلة .
ويتمحض ذلك عن ولادة الإنسان السليم المميز الحافل بالجمال والحب للناس من غير أثره ولا تعصب ولا استكبار (2) .
هذا التميز فى الخلق بينه الأستاذ النورسى ،وبين انعكاس هذا التميز فى قصر الكون العظيم .
<<هذا الإنسان شبيه بالملائكة فى العبادة الكلية وشمول الإشراق ،وإحاطة المعرفة وكونه داعياً إلى الربوية الجليلة ،بل الإنسان هو أكثر جامعية من الملائكة ؛لأنه يحمل نفساً شريرة شهوية – بخلاف الملائكة – وأمامه نجدان له أن يختار ،إما رقياً عظيماً أو تدنياً مريعاً .
لكن ما وجه شبه الإنسان بالحيوان ؟
يجيب النورسى على ذلك بأن الإنسان يبحث فى أعماله عن حظ لنفسه وحصةٍ لذاته ؛لذا فالإنسان له وجهان:
الأول : جزئى حيوانى معجل ،والثانى : كلي ملائكتي مؤجل >> (3) .
إن الإنسان أكرم المخلوقات يسر النور الذى نفخ فيه ،وبسر التمييز الذى حباه الله به .
ج – الإنسان كائن مفضل :
جعل الله للإنسان منزلة عظيمة ومكانة عالية رفيعة ؛إذا هو فى الذروة بين الخلائق {ولقد كرمنا بنى ءادم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [الإسراء : 70]، ومن مظاهر تكريم الإنسان ،تسليطه على سائر الخلق الذين جعلهم الله مسخرين له ؛ليكون بذلك سيد الكائنات بما يتجلى فيه من المقومات البشرية والكمالات الإنسانية كخصائص العقل والوعى والشعور …
إن من شواهد تفضيل هذا الكائن استخلافه فى الأرض تكريماً له : {وإذا قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة }[البقرة :30 ] ،إنها المشيئة العليا أسلمت لهذا الكائن زمام الأرض ،وأطلقت فيها يديه بما يملك من طاقات كامنة واستعدادات .
إن الإنسان سيد الكائنات المشهودة فى هذا الكون ،وفى تسخير الكائنات له بما تيسر له حسن الاستعمال تحقيق لمقتضيات الاستخلاف فى الأرض : {ألم تروا أن الله سخر لكم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة } [لقمان : 20 ] .
فكأن الإنسان يسر خلافته فى أرض الله ،وبسر تسخير الكون كله ،وبسر حمله الأمانة ،وبسر قيامه بأمر الله وعبادته ،أكرم مخلوقات الله جميعاً .
إن مكانة الإنسان عالية عظيمة لما أودع فيه من الأسرا ر العظيمة .
<<ولما كان الإنسان أجمع ثمرة من ثمرات هذا الكون ،فقد أدرجت فى قلبه الذى هو نواة تلك الثمرة محبة قادرة على الاستحواذ على الكائنات كلها >> (4).
د – الإنسان كائن ذو تكوين جامع متكامل :
الإنسان يتكامل فى تكوينه فهو ذو مقومات ومركبات عضوية ونفسية وعقلية وروحية ،هى مجموعة من الأجهزة يكمل بعضها بعضاً بانسجام لا يطغى أحدها على الآخر .
إن الإنسان تحصيل لجملة متماسكة من المركبات المؤتلفة ،يدعم بعضها بعضاً يؤلف بينها التماسك والترابط المحكم الوثيق ،يقول النورسى :”إن تكوينه جامع متقن ،يملك من الإجهزه والجوارح ما يعرفه أنواع النعم التى لا تحصى ولا تعد >> (5).
لقد خلق الله اللطائف والحواس والمشاعر فى وجود الناس ،وأدرجها فى فطرهم مستنداً إلى أساسين اثنين
هما :
استشعار الشكر تجاه أى نوع من أنواع النعيم التى أسبغها المنعم سبحانه .
والثانى : معرفة أقسام تجليات الأسماء الحسنى التى تعم معرفتها الوجود كله ،وعلى هذين الأساسين تنمو الكمالات الإنسانية (6).
ويجدر بنا ونحن نتناول بالبحث الإنسان صاحب الصنعة الجامعة والأنموذج المرتكز إلى الإيمان ،أن نعرف ماهية الحياة الذاتية له ،فليس الإنسان ذلك الكيان المادى الذى يشارك الحيوان فى حاجاته الأساسية وتطلعاته الآنية ،بل إنه أحسن تقويم للكمالات المبثوثة فى الموجودات والمنشورة على الأوقات ،يقول الأستاذ
النورسى :
<<ماهية حياتك الذاتية أنها فهرس الغرائب التى تخص الأسماء الحسنى .
ومقياس مصغر لمعرفة الشئون الإلهية وصفات تجلياتها .
وميزان للعوالم التى فى الكون ،ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير .
ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية (7).
إن الإنسان المؤمن الموحد المدرك لماهية حياته ،ليعي الشأن العظيم والأهمية الكبيرة التى علمها آدم ، فاختصه الله بها ،وما علمها غيره ،ليقوم بواجب الخلافة والعمارة واستكشاف الكنوز وفتح المغاليق على أتم وجه وأكمله .
غاية الخلق للإنسان .. وغايات حياته :
ذكر الله تعالى غاية خلق الإنسان بقوله : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات :56 ] ،غير أن التفصيل فى غايات حياة الإنسان ،الأنموذج المرتكز على الإيمان ،يستلزم تدبراً عميقاً لتنزلات الوحي ، وصولاً إلى الوقوف على الغايات الجليلة البديعة .
والأستاذ النورسي فى <<كلماته >>النفسية يحدد لنا هذه الغايات فى تسع نقاط ،متدرجاً فى ذكرها ،ابتداءاً من الشكر الكلى الذى يجدر بالإنسان توجيهه إلى بارئه ،وانتهاءً بإدراك درجات القدرة العظمى .
إن مهمة هذا المخلوق الإنسان مهمة – لا شك – عظيمة ،إنها المعرفة بذات الله وصفاته وأفعاله ،وتقديره حق قدرةه .
فتأمل هذه الغايات :
أولاً : القيام بالشكر الكلي ،ووزن النعم المدخرة فى خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة فى جسم الإنسان .
ثانياً : فتح الكنوز المخفية للإسماء الإلهية الحسنى بمفاتيح الأجهزه المودعة فى فطرة الإنسان ،ومعرفة الله بتلك الأسماء .
ثالثاً : إعلان ما ركبت فيك أيها الإنسان الأسماء الحسنى من لطائف تجلياتها ،وبدائع صنعتها ،وإظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلم وشعور .
رابعاً : إظهار عبودية الإنسان – الأنموذج المرتكز على الإيمان – أمام عظمة ربوبية خالقه بلسان الحال والمقال .
خامساً : التجمل بمزايا اللطائف الإنسانية التى وهبتها تجليات الأسماء ،وإبرازها أمام نظر الله تعالى .
سادساً : شهود مظاهر الحياة لذوى الحياة شهود علم وبصيرة ؛إذا دلالاتها بحياتها على بارئها – سبحانه – ورؤية تسبيحاتها لخالقها رؤية تفكر وعبرة .
سابعاً : معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل وشئونه الحكيمة ،ووزنها بما وهب حياتك من علم جزئي وقدرة جزئية ،وإدارة جزئية ،أى بجعلها نماذج مصغرة ،ووحدة قياسية لمعرفة تلك الصفات المطلقة الجليلة .
ثامناً : فهم الأقوال الصادرة من كل موجود فى العالم وإدراك كلماته المعنوية فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه .
تاسعاً : إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقة بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنطوية فى نفسك (8).
إن السعى لبلوغ هذه الغايات واحدة ،وتحقيقها فى نور هدى الوحي الإلهى المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ،يجعل من الإنسان الأنموذج الفريد لتجليات الأسماء والصفات ،حتى إنه لينعكس نوراً جامعاً وضياءً لامعاً لا مثيل له فى الكائنات ،فينكسب فى قلبه ووجدانه نور إلهى ساطع يبدد ظلمة الجهل المتولدة من النسيان أو التغافل عن هذه الغايات جميعاً ؛{الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على يهدى الله لنوره من يشاء .. }[النور : 35] .
وقرأ أبى بن كعب : {الله نور السموات والأرض مثل نوره فى قلب المؤمن } الآية (9).
الله تعالى هو صاحب النور فى السموات والأرض ،ومنورهما بما بث فيهما من كمال النظام وحسن التدبير ، وهو تعالى نور السماء بالملائكة والرض بالشرائع ،وبث نور هدايته فى الفطر السليمة ،فجاءت هدايته جلية ساطعة .
أجهزة الهداية فى الأنموذج المرتكز على التوحيد :
إن تحقيق الغاية التى خلق الله الإنسان لها ،مرهون باستخدام ما أودع فيه من أجهزة استخداماً صحيحاً لائقاً ، وتوجيهها أو قصر فى استعمالها يهوى فى درجات من الانحطاط والضلال ،ذلك ما يؤكه النورسي حين يقول مبيناً أهمية الأجهزه وضرورة استثمارها .
<<إن الإنسان يشبه البذرة ،فلقد وهبت للبذرة أجهزة معنوية من لدن <<القدرة >>لتتمكن من العمل داخل التربة ،ومن النمو والترعرع والانتقال من ذلك العالم المظلم الضيق إلى عالم الهواء الطليق والدنيا الفسيحة ، وأخيراً التوسل والتضرع لخالقها بلسان الاستعداد والقابليات لكى تصير شجرة ،والوصول إلى الكمال اللائق.
ويخلص الأستاذ النورسي إلى القول (10).
<<فكما أن البذرة هكذا فالإنسان كذلك ؛أودعت فى ماهيته أجهزة مهمة من لدن القدرة الإلهية ،ومنح برامج دقيقة وثمينة من لدن القدرة الإلهية . فإذا أخطأ هذا الإنسان التقدير والاختيار ،وصرف أجهزته المعنوية تحت ثرى الحياة الدنيا ،وفى عالم الأرض الضيق المحدود إلى هوى النفس ،فسوف يتعفن ويتفسخ … لأجل ذلذة جزئية ضمن عمر قصير ،وفى مكان محصور وفى وضع متأزم مؤلم ،وستتحمل روحه المسكينة تبعات المسئولية المعنوية فيرحل من الدنيا خاسراً .
أجل ،إنه الخسران العظيم ،لكن لو ربى نفسه بالاستخدام الصحيح للأجهزة المودوعة ووفق الخطة المرسومة ولو أنه سقى البذرة بماء الإسلام ،وغذاها بضياء الإيمان وتحت تراب العبودية موجهاً أجهزتها المعنوية نحو غايتها الحقيقية بامتثال الأوامر القرآنية ،فلابد أنها ستنشق عن أوراق وبراعم وأغصان تمتد فروعها وتتفتح أزاهيرها فى عالم البرزخ ،وتولد فى عالم الآخرة وفى الجنة نعماً ..
عندها يصبح الإنسان بذرة قيمة حاوية على أجهزة جامعة لحقيقة دائمة ولشجرة باقية … >>.
ويتابع النورسىي قائلاً :
<<إن السمو والرقي الحقيقى إنما هو بتوجيه القلب ،والسر ،والروح ،والعقل وحتى الخيال وسائر القوى الممنوحة للإنسان إلى الحياة الأبدية الباقية ،واشتغال كل منها بما يخصها ويناسبها من وظائف معنوية >> (11)
إن الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد ،يمكنه أن يحقق الحياة الخالدة وينعم بسعادة الدنيا ،إلا أن مشكلة الإنسان فى سوء استخدامه لما هو مركوز من أجهزة ،إنه يقيم نفسه بمنزلة الجماد والنبات والحيوان ،بمعنى أنه يريد أن يتهرب من التكليف ،يأبى العبودية لله فيسقط فى العبودية لغيره ،ظناً أنه تحرر من كل عبودية ، والواقع أنه استبدال بالعبودية للخالق العبودية للمخلوق ،واستبدال بالإله الواحد آلهة شتى ،واتخذ أرباباً من دون الله .
فأين هذا من المؤمن الأنموذج المرتكز على التوحيد ،الذى رفض كل الآلهة الزائفة ،وحطم كل الأصنام فى قلبه ،ورضى بالله ربا عليه يتوكل ،وبه يعتصم ،اهتدى بعقله وبنور وحي الله إليه .
إن المؤمن الموحد لا يبذل ما يملكه من قابلية غير محدودة للمحبة إلى نفسه الأمارة بالسوء ؛إذا لا ينبغى اتخاذها محبوباً ومعشوقاً ،إلى درجة العبادة ،يقول النورسي محذراً :
<<ولا تجعل هواها معبودك ،بل اجعل محبوبك من هو أهل لمحبة ٍ غير متناهية ،ذلك القادر على الإحسان إليك إحساناً لا نهاية له ،والقادر على إسعادك سعادة لا منتهى لها ،بل يسعدك كذلك بما يجزل من إحساناته على جميع من ترتبط معهم بعلاقات .. (12).
إن عقيدة التوحيد تجعل الإنسان عبداً لإله واحد فقط ،أما عقيدة الشرك بالله فتجعله عبداً لآلهة متععدة متشاكسة تتنازعه فتمزقه أشلاءً .
{ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعملون }[الزمر : 29] .
إن الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد يوقن بمبدأ الربوبية لله تعالى ،وبمبدأ توحيد الألوهية عبادة الله وحده بما أمرنا أن نعبده به ،وكل حكم على خلاف حكم الله يمثل استنكافاً عن طاعته لغير الله فهو شرك بالله فيما هو من خصائص الألوهية (13).
الوظيفة الفطرية :
أساس التخبط فى حياة الإنسان منذ إنما هو <<الجهل >>بالوظيفة الفطرية ،هذا الجهل يقفد الإنسان البوصلة الموصلة إلى الوجهة الصحيحة ،فيتيه الإنسان ،ولربما أنساه ذاتيته الحقيقة .
إن الوظيفة الأساس للإنسان هى الإيمان بالله والدعء إليه .
وإذا كان الإيمان يجعل الإنسان مدركاً حقيقة ذاتية وكيانه وأنه السيد المؤتمن الخليفة المصلح ،فإن الكفر يجعل الإنسان يجعل الإنسان حيواناً مفترساً فى غاية العجز .
يقول الأستاذ النورسي :
<<إن الإيمان يجعل الإنسان إنساناً حقاً – بل جعله سلطاناً >> (14).
هذا الإنسان المرتكز على التوحيد ،له بعد الإيمان وظيفة فطرية مكملة هى <<الدعاء >>،ذلك أن الإنسان متعرض لما لا يحصى من أنواع البلايا والمصائب لما يحمل من عجز ،وله فى الوقت ذاته مطالب وحاجات عديدة مع أنه فى فقر مدقع لا نهاية له .
إنه ألطف أنواع الأحياء وأعجزها وأفقرها ،وهو بمنزلة صبى ضعيف لطيف ،فلا بد له من يأوى إلى كنف الرحمن الرحيم ،والانطراح بين يديه إما باكياً معبراً عن ضعفه وعجزه ،أو داعياً بفقره واحتياجاته ، وعندئذ يكون قد أدى شكر تلك الإغاثات والتلبيات .
التعلم :
هذا الأنموذج المرتكز على التوحيد وظيفته الفطرية منصبة على التعلم واكتساب العلم والمعرفة .
ويرى الأستاذ النورسي أن الإنسان إنما جئ به إلى هذا العالم لأجل أمر واحد هو ؛أن يتكامل بالمعرفة والدعاء …
إن أساس كل العلوم الحقيقية ومعدنها ونورها وروحها <<معرفة الله >>،كما أن أس هذا الأساس هو
<< الإيمان بالله وعلا >>.
ونظرة فى كتاب الله تكشف ذلك وتجليه ،اقرأ قوله تعالى : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }
[الذاريات : 56 ] ،وقوله : { وعلم ءادم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } [البقرة : 31] .
وقوله : { قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر : 9] ،وقوله : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر : 28] .
الأسماء الحسنى وأثرها على حياة الموحد :
إن حياة الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد ،ليست إلا ترجمة صادقة رائعة للأسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ، إن حياته لتؤدى وظيفة المرآة لخالق الحياة بثلاثة وجوه – كما قال النورسي :
أولها : هى مرآة عاكسة لقدرة خالق الحياة وقوته وغناه ورحمته .. فعلمت وظيفة العبودية ،وتزودت بالسؤال والدعاء والالتجاء …
ثانيهما : قيام معاني العلم والإدارة والسمع والبصر بوظيفة مرآة عاكسة لصفات كلية محيطة .
ثالثهما : بنور الإيمان يعرف الإنسان الموحد لربه ،أن الذى خلقه ويديم حياته هو فى منتهى الرحمة واللطف وفى غاية القدرة والإبداع (15).
إن السمو للنفس البشرية وتألقها وارتقاءها إنما يكون بالقدر الذى تتعلق به النفس بخالقها وبارئها وبأسماء الله الحسنى ،وتبقى النفس متطلعة إلى ربها … لا تكون مبتذلة بتشبثها بالموجودات الفانية ،وإنما تتعلق النفس البشرية كى تسمو وترتفع فى الارتباط بالله ،فانظر إلى اسم الرحمن إحدى تجليات الله ،السعادة الأبدية إحدى لمعات الله ،وجميع الأرزاق والنعم المبثوثة فى أرجاء الدنيا كافة ،إنما هى إحدى قطراته .
فأنعم النظر وتدبر فى الآيات الكريمة التى تشير إلى هذه الموازنة بيم ماهية أهل الضلالة وأهل الإيمان من حيث الحياة ،ومن حيث الوظفية .
تجليات الأسماء الحسنى :
أجل ،الكون كله يحكي تجليات أسماء الله وصفاته ،فتفيض عليه هذه الأسماء بأعظم النعم وأجل المنن ،أسماء وصفات لله تعالى تشرق بأنوارها البهية ،وتنور بذلك حياة الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد بهذه الأسماء .
اسم الله العادل يشرق من برج الحكيم .
واسم الرحمن يشرق من برج الكريم .
واسم الرحيم يشرق من برج الغفور .
واسم الباعت يشرق من برج الوارث .
واسم المحي يشرق من برج المحسن .
واسم الرب يشرق من برج المالك (16).
والأسماء الإلهية تنور عوالم كثيرة ضمن عالم الإنسان النوحد ،وتفتح نوافذ من عالم الآخرة المنورة ،وتنثر أنواراً ساطعة على دنيا الناس (17).
فما أرقاها وأرفعها حياة الموحد إذا هو تخلق بانعكاسات الأسماء الحسنى ،إذا لصلح وأصلح من حوله ولكان لنا أن نقول :
إن حياة الموحد مرآة لتجلى الأحدية ،ينعكس عليها تجلي الذات تجلياً جامعاً ،وكأن حياة المؤمن نقطة مركزية لجميع أنواع تلك التجليات الإلهية .
يقول النورسي : حظى الإنسان بتجليات أسماء الله الحسنى كلها كما تتجلى فى الكون كله ،وكأنه بؤرة تظهر جميع الأسماء الحسنى دفعة واحدة فى مرآة ماهيته فيعلن بذلك الأحدية الإلهية ،أى تفرد الله ووحدانيته (18) .
وبعد ،فليس بمستغرب ولابعيد عن الفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة ) (19)،إن إحصاءها هو فهمها وتدبرها والعمل بمقتضاها وتطبيقها فى النفس والمجتمع .
لوحة الأسماء الحسنى :
لقد وردت أسماء الله الحسنى فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<إن لله تسعاً وتسعين اسماً – مائة إلا واحد – من أحصاها دخل
الجنة >>وفى رواية <<لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يجب الوتر >> (20).
وعن أبى هريره رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
<<إن لله تسعو وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة : هو الله الذى لا إله إلا هو ،الرحمن ،الرحيم ،الملك ، القدوس ،السلام ،المؤمن ،المهيمن ،العزيز ،الجبار ،المتكبر ،الخالق ،البارئ ،المصور ،الغفار ،القهار ، الوهاب ،الرزاق ،الفتاح ،العليم ،القابض ،الباسط ،الخافض ،الرافع ،المعز ،المذل ،السميع ،البصير ،الحكم ، العدل ،اللطيف ،الخبير ،الحليم ،العظيم ،الغفور ،الشكور ،العلى ،الكبير ،الحفيظ ،المقيت ،الحسيب ،الجليل ، الكريم ،الرقيب ،المجيب ،الواسع ،الحكيم ،الودود ،المجيد ،الباعث ،الشهيد ،الحق ،الوكيل ،القوي ،المتين ،
والولى ،الحميد ،المحصى ،المبدئ ،المحيي ،المميت ،الحي ،القيوم ،الواحد ،الماجد ،الأحد ،الصمد ،القادر ، المقتدر ،المؤخر ،الأول ،الآخر ،الظاهر ،الباطن ،الوالي ،المتعالي ،البر ،التواب ،المنتقم ،العفو ،الرءوف مالك الملك ،ذو الجلال والإكرام ،المقسط ،الجامع ،الغنى ،المغنى ،المانع ،الضار ،النافع ،النور ،الهادي ، البديع ،الباقى ،الوارث ،الرشيد ،الصبور >> (21).
إن السماء الحسنى التسعة والتسعين السابقة ،هى الأسماء الحسنى المشهورة لكن لا تحصر بها ،ودليل ذلك ؛ ما رواه أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال :
<<ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إنى عبدك وابن عبدك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته فى كتابك ،أو عملته أحداً من خلقك ،أو استأثرت به فى علم الغيب عندك ،أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبى ،ونور صدرى ،وذهاب حزنى ،وجلاء همى وغمى ،إلا أذهب الله همه وحزنه ،وأبدله مكانه فرحاً فقيل : يا رسول الله ،ألا نتعلمها ؟ فقال :
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه } [الأعراف : 180 ] >> (22)فهذه الآية مطلقة لم تخصص أسماء الله بعدد .
نماذج من تأثير الأسماء الحسنى فى حياة المؤمن :
فالإنسان الموحد الذى عرف أن الله هو القوى ،المتين ،مالك الملك ،الوارث ،من شأنه أن يرجع فى كل شئ إلى قدرته تعالى متوكلاً عليه سبحانه ،يهون فى نفسه كل أمر جلل ،لأنه ينظر إلى قدرته تعالى متوكلاً عليه سبحانه ،يهون فى نفسه كل أمر جلل ،لأنه ينظر إلى قدرة قادر عظيم يستمد منع العون ،ويعتمد على قدرة الله فى تحقيق ما يرجو من خير وقوة وسعادة .
وإن من يلاحظ صفة العلم لله وأسماءه الحسنى التابعة لها وهى الخبير ،الشهيد ،الحسيب ،المحصى ،الواحد ، السميع ،البصير ،الرقيب ،المهيمن ،الواسع ،المؤمن ،من يحفظ هذه الأسماء حفظ يقين يتحقق لديه أن الله تعالى محيط بكل شئ علماً ،وإن علمه محيط بالبواطن والدقائق يعلم الأسباب والمسببات ،ويعلم العلل والمعلولات ،ويعلم السر وأخفى ،وما تسقط من ورقة إلا يعلمها الله ،ولا حبة فى ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا فى كتاب ،بل ويعلم خلجات القلوب ،وخطرات الأنفس ،وما هو كائن وما سيكون .
إن الإنسان الموحد المتصل بهذه الأسماء ،الموقن بها التدبر لها ،يستطيع أن يحدد منهج سلوكه فى حياته ،إنه يعلم أنه مراقب من العليم اللطيف الخبير الشهيد الحسيب … وعليه فهو موقن أن الله لا يضيع عليه ثواب مثقال ذرة من خير ،ولابد أن الله موفيه أجره ؛لذا فإن الموحد بربه المراقب له ،لا يألو جهداً فى عمل الخير والسعى إليه ،كذلك لا يستهين الإنسان الموصول بهذه الأسماء بأى عمل من أعمال الشر مهما صغر ؛لأنه يعلم أن الله به عليم ،وله حسيب ورقيب (23).
ثم إن العبد الموقن الموحد تنعكس هذه الأسماء عليه تواضعاً ،حين يتضح له البون الشاسع بين علم الله تعالى العلم المحيط الواسع ،وبين علم المخلوقات ،فيتصاغر ويتضاءل ويتجلى له معنى قوله تعالى : {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [الإسراء : 85] .
إن المتدبر لأسمائه الحسنى ،الخافض ،الرافع ،المعز ،المذل ،النافع ،الضار ،يقف فى مقام العبودية التامة لله تعالى ،ويخشع أمام قهر الله القاهر فوق عباده {وهو القاهر فوق عباده } [الأنعام : 18] .
ويلتمس منه جلب كل خير ،ودفع كل ضر ،ويرضى بقضائه وقدره ،ويعلم أن الفعال الحقيقى فى كل أمر يحث ،من رفع وخفضٍ ،وعز ٍ وذل ٍ ،ونفعٍ وضرً …
وأن جميع الأفعال التى تباشرها كل المخلوقات إنما هى وسائل وأسباب صورية لا تأثير لها فى الحقيقة (24) هى أسباب جعلية أعطاها الله صورة الفاعلية ،بينما الفاعل الحقيقى الله عز وجل إذا هو الخالق الموجد للأسباب والمسببات (25)والؤمن الموحد يؤمن بالقدر ويعمل بالأسباب ،ويعلم أن الإسباب إنما هى من القدر فلا يتكاسل أو يتخاذل ولا يحتج بالقدر على تقصير أو معصية .
إن المؤمن الموصول بأسماء الله التى هى : الحكيم ،الرشيد ،الخالق ،البارئ ،البديع ،المصور ،الهادى ، المبدئ ،المعيد ،الباعث ،المحيي ،المميت ،الجبار ،القهار ،القيوم ،الحفيظ ،المؤمن ،المهيمن ،تبعث ،فيه هذه الأسماء التبصر والإمعان فى جميع المخلوقات من حوله ،مسترشداً بإشارات هذه الأسماء ،فدلالة الحكيم الرشيد تؤخذ من خلال ما فى المخلوقات من دقائق الحكمة والرشاد ،ودلالة الخالق ،البارئ ،المصور ،البديع الهادى ،تؤخذ من النظر فى خلق الكائنات ،وتأمل الإبداع والتقدير ،والتسوية والتصوير والهداية فيها ، يقرأ المؤمن الموحد ذلك فى كتاب الكون قراءة تأمل وتفكر وبحث علمى دقيق .
إن حفظ هذه الأسماء واليقين بها وفهمها ليدفع بالإنسان الأنموذج الفريد لأن يتمثل كل معانى الإبداع والتقدير من دقة ٍ وإتقان ،وعمل دءوب من أسرار وخفايا ليعمر بها الأرض .
إن المؤمن الموحد المتأمل فى قانون الهداية من الهادى عز وجل يعمد فى كل شأن من شئون حياته دق أو عظم ،إلى وضع النظام الذى يكفل به إنفاذ الأمر على أحسن وجه وأتمه .
والمؤمن كذلك يأخذ بهدى أسماء الله ؛الرزاق ،المقيت ،المغنى ،القابض ،الباسط ،فيرضى ويسلم ويطمئن على رزقه المكتوب له ،ويقنع بما يؤتيه الله من الدنيا فلا يلجأ إلا إليه فى طلب الرزق ،ولا يسعى إلى جلبه حيث أمره الله ،كما يأخذ المؤمن بهدى أسماء ،الرحمن ،الرحيم ،الفتاح ،اللطيف ،الرؤوف ،الودود ،ويرى أن من واجبه التخلق بما تدل عليه هذه الأسماء فهو رحيم بخلق الله ،ناصر للحق ،قامع للظلم ،لطيف فى معاملاته لخلق الله ،رفيق بهم محب لكل من الله ،ولكل ما يحبه الله (26).
مذاق التوحيد :
حياة الإنسان الأنموذج الموحد ،لله ،الذى اعتقد فى قرارة نفسه أن ربه واحد فى ذاته متفرد فى صفاته لا يستحق العبادة إلا هو .
حياة هذا الإنسان تنعم بالأمن والاطمئنان والسكينة والسلام والوئام ،وما أعذب كلمات ابن القيم فى الدلالة على ذلك حين يقول :
فى القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله .
وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله .وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته ،وصدق معاملته .
وفيه قلق نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه .
وفيه فاقة لا يسيرها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره ،وصدق الإخلاص له .
ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً >> (27).
نعم ،ما أعظم لذه الإيمان ،هى اللذة الباقية الصافية النقية ،حين يوقن المسلم المؤمن الموحد بأنه مخلوق الله ، رباه بالنعم وأوجده من العدم وحاجاته إليه لا تنقطع ،وهو الرب الإله الرحيم الرءوف ،هنا يشعر باللذة .
<<إن أصفى لذة وأنقى سعادة لحياتى هذه ،إنما هو فى الإيمان ،أى الإيمان الجازم بأنى مخلوق من خلقنى وربانى ،فإنى مصنوعُهُ وعبدُهُ وتحت رعايته وعنايته ومحتاج إليه ،وهو ربى وإلهى وهو الرحيم والرءوف بي ،فإيماني هذا لذة ما بعد لذة ،كافية وافية دائمة وسعادة خالصة نقية لا يعكرها ألم >> (28).
إن القلب الذي يوحد الله تعالى يتذوق الألم والبلاء حلاوة ً ولذة ً ،يفسر البلاء اختباراً لا بد من النجاح فيه أو هو عقوبة تكفر عنه ذنباً أو تحط خطيئة ،يرضى بقدر الله فلا يجزع إن مسه الشر ،ولا يمنع إن مسه الخير ، ولا يندم على ما فات لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،وما أخطأه لم يكن ليصيبه ،يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : <<عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له ،وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له >> (29).
الطمأنينة وسلام النفس :
المؤمن يعيش موصولاً بالوجود كله ،يحيا فى أنس به ،وشعور عميق بالتناسق معه والارتباط به …
إن الكون الكبير كله يخضع لنواميس الله كما يخضع المؤمن ،ويسبح بحمد الله كما يسبح المؤمن .
إن الإنسان المؤمن الموحد يعيش فى سعة فى نفسه وقلبه ،فطبيعة الإيمان توسع النفس والقلب والحياة لأنه يصل صاحبه بالوجود كله ،فيتسع القلب ،وينفسح وينشرح بنور الإيمان واليقين ،{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [الأنعام : 125] .
وبالتوحيد يسلم المؤمن من الشك والاضطراب ،ويحل ألغاز الوجود الكبيرة : المبدأ والمصير ،الغاية ، والمهمة ،ويعرف أن له رباً ،خلقه وصوره وسواه وكرمه وجعله خليفة فى الأرض ،وكفل له رزوقه وسخر له كونه ،ويعرف أنه لم يخلق فى هذه الحياة عبثاً ولم يترك سدىً …
وبالإيمان يرتفع الإنسان فى تصوره ،ويملك القيمة العالية ،وبالتفسير الصحيح للكون المنبعث من الإيمان ، يسلم الإنسان من النوازع التى تتنازعه ،ويحفظ ماهيته الإنسانية ،وما أجمل كلمات الأستاذ النورسي فى بيانه الأثر الذى يُحدثه الإيمانُ فى الإنسان فيجعل منه الكائن الأهل للخطاب الرباني ،فتأمل كلماته يقول : <<إن الإنسان يسمو بنور الإيمان إلى أعلى عليين فيكتسب بذلك قيمة تجعله لائقاً بالجنة ،بينما يتردى بظلمة الكفر أسفل سافلين ،فيكون فى وضع يؤهله لنار جهنم ؛ذلك لأن الإيمان يربط الإنسان بصانعه الجليل ،ويربطه بوثاق شديد وينسبه إليه ،فالإيمان إنما هو انتساب ؛لذا يكتسب الإنسان بالإيمان قيمة سامية من حيث تجلى الصنعة الإلهية فيه ،وظهور آيات نقوش الأسماء الربانية على صفحة وجوده .
أما الكفر فيقطع تلك النسبة وذلك الانتساب ،وتغشى ظلمته الصنعة الربانية وتطمس على معالمها ،فتنقص قيمة الإنسان حين ينحصر فى مادته فحسب ،وقيمة المادة لا يعتد بها ،فهى فى حكم المعدوم لكونها فانية وزائلة ،وحياتها حياة حيوانية مؤقتة >>..
ويسترسل الأستاذ النورسي مبيناً أن الإنسان بإيمانه يظهر جميع تجليات أسماء الله الحسنى فيقول :
<<وهكذا الإنسان فهو الصنعة الخارقة للخالق الصانع سبحانه ،وهو أرقى معجزة من معجزات قدرته وألطفها حيث خلقه الباري مظهراً لجميع تجليات أسمائه الحسنى ،وجعله مدراراً لجميع نقوشه البديعة جلت عظمته ، وصيره مثالاً مصغراً ونموذجاً للكائنات بأسرها .
فلو استقر نور الإيمان فى هذا الإنسان لبين – ذلك النور – جميع ما على الإنسان من نقوش حكيمة ،بل يستقرئها للآخرين ،فيقرآها المؤمن بتفكر ويشعر بها فى نفسه شعوراً كاملاً ،ويجعل الآخرين يطالعونها ويتملونها ،كأنه يقول :
ها أنا مصنوع الصانع الجليل ومخلوقه ،أنظر كيف تتجلى فى رحمته وكرمه <<وبما شابهها من المعانى الواسعة تتجلى الصنعة الربانية فى الإنسان >>.
ثم إن الإيمان الذى هو عبارة عن انتساب إلى الصانع سبحانه – يقوم بإظهار جميع آثار الصنعة الكامنة فى الإنسان ،فتتعين بذلك قيمة الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية ،فيتحول هذا الإنسان إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة حيث يصبح أهلاً للخطاب الإلهي ،وينال شرفاً يؤهله للضيافة
الربانية فى الجنة >>(30) .
أما الكفر فان انعكاسه خطير مدمر للإنسان ،مدمر لهذه الصنعة العظيمة ،يقول النورسي :
<<أما إذا تسلل الكفر الذى هو عبارة عن قطع الانتساب إلى الله – فى الإنسان ،فعندئذ تسقط جميع معانى نقوش الأسماء الحسنى الإلهية الحكيمة فى الظلام ،وتمحى نهائياً ،ويتعذر مطالعتها وقراءتها ؛لذلك لأنه لا يمكن أن تفهم الجهات المعنوية المتوجهة فيه إلى الصانع الجليل بنسيان الصانع سبحانه ،بل تنقلب على
عقبيها >>.
وفلسفة ذلك بينها لنا الأستاذ النورسي قائلاً :
<<غاية المادة وثمرتها هى قضاء حياة قصيرة جزئية يعيشها صاحبها وهو أعجز المخلوقات وأحوجها وأشقاها ،ومن ثم يتفسح فى النهاية ويزول …
وهكذا يهدم الكفر الماهية الإنسانية ويحيلها من جوهرة نفيسة إلى فحمة خسيسة >> (31).
ويبين الأستاذ فى النهاية أن الهداية نور يبدد كل ظلمة فيقول :
<<فالإنسان الذى يعتمد على أنانيته وغروره ،ويقع فى شراك ظلمات الغفلة ويبتلى بأغلال الضلالة القاتلة حيث يرى الزمن الماضى بنور المصباح الناقص الذى هو معرفة ناقصة منحرفة للضلالة ،كمقبرة عظيمة فى ظلمات العدم ،ويصور الزمن من المستقبل موحشاً تبعث فيه الدواهي والخطوب ،محيلاً إياه إلى الصدفة العمياء ،{والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } [البقرة : 257] ،أما إذا أغاثت الإنسانية الهداية الالهية ،ووجد الإيمان إلى قلبه سبيلاً ،وانكسرت فرعونية النفس وتحطمت ،وأصغى إلى كتاب الله … حينها تمتلئ الكائنات بالنور الإلهى وينطق العالم برمته {الله نور السموات والأرض …} الآية . ثم يقول :
<<الحوادث التى تبدو حزينة سمحة ما هى فى الحقيقة والمعنى إلا مدار الحكم اللطيفة حتى يرى الموت مقدمة لحياة أبدية ،ويرى باباً لسعادة خالدة ،وقس على هذا المنوال سائر الجهات بتطبيق الحقيقة
على المثال >> (32).
ثمرة التوكل من أعظم ثمار التوحيد :
القلب الذى يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله فى هذا الكون من أشياء وأحياء ،ويحيا يد الله فى كل ما حوله ،فيعيش فى أنس الله وبدائعه التى تلمسه يداه وتقع عليها عيناه .
وتبدو آثار التوحدي فى التصورات والمشاعر كما تبدو فى السلوك والتصرفات وترسم للحياة كلها منهاجاً كاملاً واضحاً مميزاً .
ومن أعظم آثار التوحدي <<التوكل >>وما يحدثه فى حياة هذا الإنسان الأنموذج من أثره .
ويبين الأستاذ النورسي هذا الأثر العظيم فيقول :
<<الإنسان الذى يظفر بالإيمان الحقيقى (التوحيد ) يستطيع أن يتحدى الكائنات ،ويتخلص من صنف الحوادث مستنداً إلى قوة إيمانه ،فيجر متفرجاً على سفينة الحياة فى فى خضم أمواج الأحداث العاتية ،بكمال الأمانة والسلام ،قائلاً : توكلت على الله ،ويسلم أعباءه الثقيلة أمانةً إلى يد القدرة للقدير المطلق ،ويقطع بذلك سبيل الدنيا ،مطمئن البال فى سهولة وراحة ،حتى يصل إلى البرزخ ويستريح ،ومن ثم يستطيع أن يرتفع طائراً إلى الجنة للدخول إلى السعادة الأبدية .
أما إذا ترك الإنسان التوكل فلا يستطيع التحليق والطيران إلى الجنة فحسب بل ستجذبه تلك الأثقال إلى أسفل سافلين .
فالإيمان إذن يقتضى التوحيد ،والتوحيد يقود التسليم ،والتسليم يحقق التوكل يسهل الطريق إلى سعادة الدارين .
ولا تظن أن التوكل هو رفض الأسباب وردها كلياً ،وإنما هو عبارة عن العلم بأن الأسباب هى حجب بيد القدرة الإلهية ينبغى رعايتها ،أما التشبث بها أو الأخذ بها فهو نوع من الدعاء الفعلى ،فطلب المسببات إذن وترقب النتائج لا يكون إلا من الحق سبحانه .
إن مثل المتوكل على الله وغير المتوكل كمثل رجلين قاما بحمل أعباء ثقيلة حملت على رأسهما وعاتقهما فقطعا التذاكر ،وصعدا السفينة فوضع أحدهما ما على كاهله حالما دخل السفينة آما الآخر فلم يفعل مثله لحماقته وغروره … >>.
أجل ،ذلك الرجل الذى وضع أمتعته وثق بالسفينة واطمأن وأمن ربانها ،أما هذا الرجل فما وثق ولا اطمأن ولا أحسن الظن ،بل لعل من يراه يظن أن به مساً من الجنون .
فيا أيها الإنسان البعيد عن التوكل :
ارجع إلى صوابك وعد إلى رشدك كهذا الرجل ،وتوكل على الله لتتخلص من الحاجة والتسول من الكائنات ، ولننجو من الارتعاد والهلع أمام الحادثات ،ولتنقذ نفسك من اليراء والاستهزاء ومن الشقاء الأبدى ومن أغلال مضايقات الدنيا >> (33).
إن الإيمان يداوي ضعف الإنسان وعجزه وفقره واحتياجه بالتوكل على القدير الرحيم ،مسلماً أثقال الحياة وأعباء الوجود إلى قدرته سبحانه ،وإلى رحمته الواسعة دون أن يحملها على كاهل الإنسان ،بل يجعله مالكاً لزمام نفسه وحياته ،واجداً له بذلك مقاماً مريحاً ،ويعرفه أنه ليس بحيوان ناطق ،بل هو إنسان بحق وضيف عزيز عند الملك الرحمن (34).
أنت لست مالكاً لنفسك بل أنت مملوك للقادر المطلق القدرة والرحيم المطلق الرحمة ،فلا ترهق نفسك بتحميلها مشقة حياتك ،فإن الذى وهب الحياة هو الذى يديرها .
ثم إن الدنيا ليست سائبة دون مالك ،كى تقلق عليها ،وتكلف نفسك حمل أعبائها ،وترهق فكرك فى أحوالها ، ذلك لأن مالكها حكيم ومولاها عليم ،وأنت لست إلا ضيفاً لديه ،فلا تتدخل بفضول فى الأمور ولا تخلطها من غير فهم .
ثم إن زمان أولئك الذين اتخذوا طور العداء معك ابتداء من الكروبات إلى الطاعون والطوفان والقحط والزلازل ،بل زمام كل شئ بيد ذلك الرحيم الكريم سبحانه فهو الحكيم لا يصدر منه عبث ،وهو رحيم واسع الرحمة ،فكل ما يعلمه فيه أثر من لطف ورأفة >> (35).
إن الإيمان يستدعى التوكل ،وأن يفوض العبد أمره كله لله تعالى ،مستقيناً قدرة الله على قضاء الأمور مع بذل الإسباب والتخلى عن التعلق بها ،وإنما التعلق برب الأسباب وموجدها .
إن التوكل فرض وهو شرط فى الإيمان {وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [إبراهيم : 11]
وقال تعالى على لسان موسي :
{ يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين }[يونس : 84] .
قوة الموحد:
إن القلب الذى يوحد الله ،يدين لله وحده ،ولا يحنى هامته لأحد سواه ،ولا يطلب شيئاً من غيره ،ولا يعتمد على أحد من خلقه ،فالله وحده هو القوي عنده ،والعباد كلهم ضعاف مهازيل ،لا يملكون نفعاً ولا ضراً … والله وحده هو المانع فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره ،وهو الغني والخلق كلهم فقراء (36).
أهمية التوحيد وأثره :
التوحيد فى الإسلام هو كل الإسلام ،والقرآن كله يدور حول التوحيد ،فآيات القرآن إما إخبار عن الله وصفاته وخلقه وأفعاله وتدبيره ،وإما بيان للثواب بأنواعه وهو جزاء من أطاعه واتبع رسله الذين أرسلهم بشريعته القائمة على توحيده فى الألوهية والربوبية ،وإما بيان للعقاب بأنواعه وإما إخبار عن أحوال المكذبين الماضين ،وهو بيان لمن خرج عن مقتضى توحيده .
فالتوحيد هو لب الإسلام وأساسه ،ومنه تنبثق سائر نظمه وأحكامه وأوامره ومناهجه وكل ما فيه من عبادات وأحكام يرسخه ويقويه ويثبته فى قلوب المؤمنين (37).
وكم للتوحيد من أثر فى مسيرة المؤمن ،إنه مجموع الطاقة ،ثابت القدم ،واثق الخطى .
ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره،ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتيقه . وبذلك تتجمع طاقته كذلك وتتوحد ،فينتج بكل طاقته وجهده ،وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد فى النساء (38).
استغراق التوحيد للحياة كلها :
إن توحيد الله وإخلاص الدين له يعد منهج حياة متكامل ،يبدأ من تصور واعتقاد فى الضمير ،وينتهى إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة ،بل يجسد كل علاقة مع كائنات الله تعالى .
إن التوحيد فى هذه الصورة عقيدة للضمير وتفسير للوجود ومنهج للحياة ،وليس كلمة تقال بالسان أو حتى صورة تستقر فى الضمير ،إنما هو الأمر كله والدين كله ،وما بعده من تفصيلات إنما هو ثمرة طبيعية لاستقرار هذه الحقيقة فى القلوب (39).
إن عبودية الإنسان لله تعالى تتكون من جانبين : واقع حتمى يخضع له وينطبع به الناس جميعاً ،وسلوك اختيارى يمتاز به الذين عرفوا الله فآمنوا به وخضعوا لسلطانه وتعاليمه ،والمطلوب من الإنسان أن يجعل سلوكه الاختياي منسجماً مع واقعه الاضطراري ،يسير فى حياته سيرة العبيد لا سيرة الجبابرة (40)إنه سلوك المؤمن الموحد الأنموذج المرتكز على التوحيد .
التحرر الكامل :
العبودية لله وحده تعني التحرر من التبعية لكل من سواه وما سواه ،فلاا خضوع لمخلوق فى الأرض أو فى السماء ،والعبودية لله وحده تعنى الانقياد لحكمه سبحانه مع رضا النفس وتسليم القلب دون أدنى حرج أو ارتياب .. لثقته بتدبير الله برحمته .
والموحد هو الذى عرف للعبودية حقها .. لم يرض غير الله رباً ،ولم يتبع غير الله حكماً … (41).
{ قل إننى هدانى ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتى ونسكى ومحياي ومماتى لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163) قل أغير الله أبغى ربا وهو رب كل شئ }[الأنعام : 161 – 164] .
وبسر التوحيد تتبدى جملة من الحقائق فى حياة الإنسان الأنموذج .
إن الأستاذ النورسي يظهر لنا بدقة ما يحدثه التوحيد فى الإنسان حتى يشكل محوراً للكمالات الإنسانية بحق .
ويظهر سر التوحد فى تميز الإنسان حين يكسبه كمالاً لا يجاريه فيه أحد من الكائنات .
كما يظهر بتحقيق رغبة الإنسان فى خلود لا نهاية له فى الآخرة .
ومن خلال استثمار العقل فى كشف الكنوز وحل الرموز …
نعم ،سر التوحيد يبدو فى كل ناحية من نواحي حياة المؤمن ،فى فكره وشعوره .. حتى فى نظرته إلى الموت
وها أنا أورد فصلاً نفسياً حرره النورسي بعنوان : أثر سر التوحيد على حياة الإنسان وحركته .
سر التوحيد والكمال العظيم :
<<إن الإنسان بسر التوحيد صاحب كمال عظيم بين جميع المخلوقات وهو أثمن ثمرات الكون ،وألطف المخلوقات وأكملها ،وأسعد ذوى الحياة ،ومخاطب رب العالمين ،وأهل ليكون خليله ومحبوبه حتى إن جميع مزايا الإنسانية وجميع مقاصد الإنسان العليا مرتبطة بالتوحيد وتتحقق بسر التوحيد .
فلولا التوحيد لأصبح الإنسان أشقى المخلوقات وأدنى الموجودات وأضعف الحيوانات وأشد ذوى المشاعر حزناً وأكثرهم عذاباً وألماً ؛ذلك لأن الإنسان يحمل عجزاً غير متناه ،وله أعداء لا نهاية لهم وينطوى على فقر دائم لا حدود له وحاجات لا حدود لها ،ومع هذا فإن ماهيته مجهزة بالآت ومشاعر متنوعة وكثيرة إلى درجة يستطيع أن يستشعر بها مائة ألف نوع من الآلام ،وينشد مئات الآلاف من أنواع اللذائذ ،فضلاً عن أن له من المقاصد والرغبات ما لايمكن تلبيتها إلا من قبل من ينفذ حكمه فى الكون بأسره (42).
سر التوحيد ورغبة البقاء :
فمثلاً فى الإنسان رغبة ملحة شديدة للبقاء ،فلا يحقق له هذه الرغبة إلا من يتصرف فى الكون كله بسهولة مطلقة يفتح باب دار الآخرة بعد أن يسد دار الدنيا كفتح باب منزل وغلق آخر …
وكذا فإن جميع أجهزة جميع أجهزة الإنسان ومشاعره تأخذ مكانة رفيعة بسر التوحيد فى حين تسقط إلى هاوية سحيقة بالكفر والشرك .
العقل سر التوحيد :
العقل هو أفضل أجهزة الإنسان وأرقاها إن أستعمل بسر التوحيد فإنه يصبح مفتاحاً ثميناً بحيث يفتح الكنوز الإلهية السامية ،وألوفاً من خزائن الكون بيينما إذا تخبط ذلك العقل فى وحل الضلالة والكفر فإنه آلة تعذيب ووسيلة إزعاج بما يجمع من الآم الماضى الحزينة ومخاوف المستقبل الرهيبة .
الشفقة وسر التوحيد :
الشفقة والحنان وهى ألطف سجية من سجايا الإنسان وأحلاها إن لم يسعفها سر التوحيد تتحول إلى ألم الحرقة وعذاب الفراق ،فتتحول إلى مصيبة كبرى تدوى بالإنسان إلى درك الشقاء ،نعم ،إن الوالدة الغافلة عن الله والفاقدة لوحيدها إلى الأبد تستشعر هذه الحرقة شعوراً كاملاً (43).
سر التوحيد والمحبة :
ومثلاً : المحبة التى هى هى ألذ شعور فى الإنسان وأطيبه وأسماه ،إذا ما أعانها سر التوحيد يجعل الإنسان الصغير واسعاً سعة الكون وعظيماً وكبيراً كبره يجعله سلطاناً محبوباً على المخلوقات كافة .
بينما المحبة نفسها إذا ما تردت إلى الشرك والكفر والعياذ بالله ،فإنما تنقلب إلى مصيبة عظيمة بحيث تمزق قلب الإنسان الضعيف كل حين وآن بفراق أحبته غير المعدودين فراقاً أبدياً ،يمحوهم الزوال والفناء دائماً .
فإذا ما قسمت مئات أجهزة الإنسان ومشاعره على هذه الأمثلة الثلاثة تدرك عندئذ إلى أى مدى يكون التوحيد محوراً للكمالات الإنسانية (44).
سر التوحيد والموت :
حتى نظرة الإنسان – الأنموذج القائم على التوحيد والإيمان – للموت تأخذ طابع التجديد واستكمال المسيرة .. نحو نهاية خالدة ،يقول النورسي :
<< فرأيت كأن الأشياء المضرة التى لاتحد تنفض على انقضاضاً فأغاثنى سر التوحيد من حالتى التى كنت فيها ورفع الستار من أمام بصيرتى ورأنى حقيقة هذه الجهات ،فنظرت إلى وجه الموت المخيف ،ورأيت أن الموت لأهل الإيمان تسريح من الوظيفة ،والأجل هو بطاقته .
فالموت إذن تبديل مكان ،ومقدمة لحياة باقية ،وباب إليها ،وهو انطلاق من سجن الدنيا إلى بساتين الآخرة ، وهو انتظار زمن طويل إلى ديوان الرحمن لاستلام أجرة العمل ،وهو دعوة إلى دار السعادة ،ولما فهمت حقيقة الموت أحببته .
ثم نظرت إلى الزوال والفناء ورأيت أن زوال الأشياء إنما هو تجديد لها ولأمثالها فهو تجديد ممتع ملذ .
لذا علمت يقيناً أن زوال الأشياء وفناءها إنما هو تجديد للتجليات الجميلة للأسماء الحسنى وهو مظاهر حكيمة لمجال الربوبية >>.
نعم ،الموت انتقال من حياة إلى حياة ،انطلاق من قفص الجسد ،إن الله لا يسلب نعمة إلا وهو يعطى نعمة أكبر منها . قال يحيى بن معاذ : لا يكره الموت إلا مريب ،فهو الذى يقرب الحبيب من الحبيب .
إذن بسر التوحيد تتحقق النورانية لكل الجهات ،يقول النورسي :
<<ثم نظرت إلى الجهات الست ورأيت أنها نورانية بسر التوحيد ،بل نورانية إلى حد يكاد سنا نورها يخطف بالأبصار … >> (45).
التجدد الدائم :
الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد لا يصيبه سأم ولا ملل هو متجدد دائماً ومن ثم فلا بد له من تجديد فإن العالم الذى يسكنه سيار لا يبقى على حال فهو فى تنوع .
الإيمان نور لحياة كل فرد من أفراد ذلك الجنس من جهة ،كما أنه ضياء للعوالم التى يدخلها ،وما
(لا اله إلا الله) إلا مفتاح ذلك النور ،ثم إن الإنسان تتحكم فيه النفس والهوى والوهم والشياطين …
لذا فهناك حاجة إى تجديد الإيمان فى كل وقت (46).
إن مثل الإنسان الأنموذج هذا مثل من تعلق بجسده أدران وأوساخ فيعتاد غسلها والتنظيف منها ،بالانغماس مراراً كل يوم فى نهر عذب جار ،أو كمثل من يتحتم عليه المضى دوماً فى نفق مظلم فهو بحاجة إلى النور الدائم الذى يغذى دائماً ويزداد سطوعاً كلما شحنه بشحنات كهربائية عالية كيما يبدد ما فى النفق من ظلمات .
وثمة فرق شاسع بين ظلمات الضلال ونور الإيمان ،بين الأعمى المتخبط بعماه فى الظلمة ،والبصير المهتدى إلى هدفه وما يصبو إليه القلب المؤمن بحقيقة التوحيد .
الموحد راض وقوى :
إن المؤمن الموحد راض عن نفسه وعن وجوده ،فله أهميته ومكانته ،وراض عن ربه لأنه آمن بكماله وجماله وعدله ورحمته …
فما به من نعمة فمن الله ،وما أصابه من حسنة فمن الله ،وما أصابه عن سيئة فمن نفسه ،يردد دائماً الثناء على الله تعالى { الذى خلقنى فهو يهدين (78) والذى هو يطعمنى ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذى يميتنى ثم يحيين (81) والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين } [الشعراء : 78 – 82] .
ويوقن أن تدبير الله أفضل من تدبيره لنفسه ،ورحمته تعالى أعظم من رحمة أبوية به (46).
إن الموحد صحيح القلب قوى يستمد قوته باتصاله بمصدر القوة والرحمة والاقتدار ،وتأمل كلمات النورسي فى ذلك حين يقول للمؤمن :
<<إن كانت إرادتك واختيارك جزئية ،ففوض أمرك لإدارة مولاك الكلية ،وإن كان اقتدارك ضعيفاً فاعتمد قدرة القادر والمطلق ،وإن كانت حياتك فانية وقصيرة ففكر بالحياة الباقية الأبدية …
وإن كان فكرك خافتاً فادخل تحت نور شمس القرآن وانظر بنور الإيمان كى تمنحك كل آية من الآيات القرآنية نوراً كالنجوم المتلألئة الساطعة بدلاً من ضوء فكرك الباهت ،وإن كانت آمال وألام غير محدودة فإن ثواباً لا نهاية له ورحمة لا حد لها ينتظرانك ،وإن كانت لك غايات ومقاصد لا تحد فلا تقلق متفكراً بها فهى لا تحصر فى هذه الدنيا ،بل مواضعها ديار أخرى ومانحها جواد كريم >> (47).
معية الله والأمن للموحد :
المؤمن لا يعتريه مرض الشعور بالوحدة المقلقة ،هذا المرض الذى يقول الأطباء إنه من أهم العوامل الأساسية للاضطرابات العقلية ،إن اعتقاد الموحد بمعية الله تعالى له يقضى على هذا المرض حين يقرأ الحديث القدسي :
( أنا عند ظن عبدى وأنا معه إذا ذكرنى ).
وقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم }[محمد : 35] .
إن شعور الموحد بمعية الله وصحبته دائماً ،تجعله فى أنس دائم بربه ونعيم موصول بقربه (48).
إن الموحد يتحرر من سيطرة الآخرين لعمله أن الله تعالى معه ،ومن كان الله معه فلا يهون ولا يحزن ولا يضعف ،هذه العقيدة تغرس قناعات أكيدة فى أن النافع والضار والمحيى والمميت هو الله تعالى ،وبهذا يتحرر الإنسان من الخرافات والأوهام ،وتمنعه عن كل ما فيه استعانة بغير الله ولجوء إلى سواه ،وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس :
<<احفظ الله يحفظك ،احفظ الله تجدده تجاهك ،إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ..>>.
والمؤمن الموحد لا يعرف الخوف هو آمن بكل معانى الأمن بمقتضى وعد الله تعالى له حين قال :{الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك الأمن وهم مهتدون } [الأنعام : 82] .
آمن فى الآخرة من المصير المظلم ،وآمن فى الدنيا من الضلال فهو على هدى من ربه ،وآمن من الموت لأنه يعلم حقيقة الموت وأنه النقلة إلى دار الخلود ،وآمن على رزقه فالأرزاق فى ضمان الله الذى لا يخلف وعده ولا يضيع عبده { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } [الذاريات : 58] ،{وفى السماء رزقكم وما
توعدون }[الذاريات : 22] .
والموحد آمن على أجله لأن خالقه ضرب له أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر ،ولا تملك قوة فى الأرض أن تنقص منه دقيقة ،{فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [الأعراف : 34] .
إن هذا الأمن على الرزق والأجل منح المؤمن السكينة والطمأنينة كما منحه القوة فى مواجهة الحياة بما فيها من طغيان وجبروت (49).
الارتفاع لا السقوط :
إن الموحد يحلق فى أفق الإيمان ،يرتفع به إيمانه وعمله الصالح الى أعلى عليين ويبين له الدلائل القاطعة ويبسط أمامه البراهين الدامغة ،ويردم الأغوار العميقة بمراتب رقي معنوى وبأجهزة تكامل روحى (50).
إنه بذلك يملك القاعدة الإيمانية الراسخة ،قاعدة التوحيد ،ويملك المستقر الآمن يثوب إليه ،ويمسك بالعروة الوثقى التى تنجيه من المهالك والفتن ،وهذا عكس المشرك الذى لا يملك شيئاً من ذلك ،وما أعظم وأصدق دلالة القرآن على ذلك ،حين يقول الله تعالى فى حق المشرك {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق } [الحج : 31] .
أنه مشهد الهوى من شاهق ،هى صورة صادقة لحال من يشرك بالله فيهوى من أفق الإيمان السامق ،إلى حيث الفناء والانطواء ،فيفقد كل ما من شأنه أن يؤمنه ،فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح (51).
الإنسان الأنموذج والرؤية للعقل والوحى :
إن الإيمان بوجود إله واحد متفرد قوى مبدع صانع للكون كله متصف بصفات الجلال والجمال والكمال قرار منطقى ينسجم مع قواعد العقل الثابتة الصحيحة ،ليس مطلوباً من المؤمن الموحد أن يتجاهل عقله أو فطرته ، فالعقل يدفع باتجاه الاعتقاد بالوحدانية ،ونداء الفطرة يصرخ عالياً : (يا الله) >>.
لكن هذه القناعة العقلية والاستجابة الفطرية تبقى بحاجة إلى العون ،لأن الإنسان ،عقله وتصوره يوصفان بالمحدودية فأنى له التجاوز ؟ إنه ضعيف فى حاجة إلى العون ،ولا بد للعقل من أن يستعين بطاقة إضافية ، بنور آخر يتمثل فى <<الوحى >>،الخير الوارد عن الله تعالى الذى يجيب عن كثير من التساؤلات ،ويفتح المغاليق ،وينظم للإنسان جوانب الحياة العملية .
إن القضايا الغيبية تحتاج فى معرفتها وفهمها إلى سند آخر مع العقل والحس ،هذا السند أو المصدر هو الخبر الصادق ،وليس اختيار هذا المصدر بمعزل عن العقل هو الذى يختار ذلك ويؤكد عليه .
إن الذى يتساءل عن البلدة التى سيتوجه إليها القطار الذى يركبه ،وعن المحطة الأخيرة التى تنتهى عندها رحلته لابد أن يتوجه بتساؤله إلى القائد الذى يسوق القطار .
والمؤمن الموحد يوقن أن قطار هذه الحياة ،لا ينطلق بشكل عشوائى ،وإنما هو رهن بقيادة فاطر عليم
حكيم (52).
فما دام العقل أوصل الإنسان إلى اليقين بصدق الخير ،فإن مقتضى ذلك ،التسليم بالهدى الذى حمله الخبر الصادق .
وهذا المنهاج والنظام الذى حمله الوحى للإنسان ،إنما هو النظام الصالح المصلح الشامل الكامل هو نور هاد للإنسان ،بعد أن يصل به العقل إلى حد معين ،{قد جاءكم من الله وكتاب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } [المائدة : 15 – 16] .
{ فإما يأتيكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى }[طه : 123 ،124] .
إن الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد ،المهتدى بنور الوحى ،يولى العقل أعلى درجات العناية فى الفهم والدراية لنصوص الوحى ،هذا العقل الذى شهد من قبل بأهمية برهان الوحى وحكم بصدقه .
إن العقل الإنسانى مرآة وجود الله (53)ووحدانيته ،ولا بد لهذه المرآة أن تبقى صافية ،ليشرق عليها باستمرار هذا الوجود الربانى ،وينعم بسر الوحدانية بما لها من آثار ونعم تغمر الإنسان الموكل إليه أداء مهمة جليلة عظيمة هى العبودية لخالق الكون كله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات : 56] .
البديل :
ما أجدر البشرية اليوم وهى تعانى الشقاء والويلات على الرغم مما حققته من مكاسب مادية وقفزات
حضارية – ما أجدرها وهى تبحث عن السعادة المفقودة لدى الإنسان المتحضر الرفه – أن تنظر فى الأنموذج الفريد فى الإنسان المؤمن الموحد .
الإنسان الذى بإيمانه يستجلب السعادة الأبدية ،يحقق سلام النفس ،يغنم ويسلم ،ينجح وينجو ويفلح .
إن الإيمان هو أعظم رأس مال الإنسان ،إذا لا يملكه مزرعة فانية … بل يملكه الكون العظيم ،ويجعله لائقاُ ليظفر بملك واسع باقٍ أوسع من الدنيا . <<إن مفعول الإيمان لا يقتصر على عمارة الدنيا بأحسن ما تكون العمارة ،بل يتخطى ذلك حين يوجد للإنسان حياة أبدية خالدة ،فينقذه من النهاية المرعبة ،والإعدام الأبدى ، فاتحاً له خزائن السعادة السرمدية >> (54).
ومتى استقر هذا التصور فى القلب وملك عليه الوجدان ،فإنه يسعى فى تنفيذ الأوامر الربانية المتمثلة فى
<< الهدى النورانى >>فى كافة جوانب الحياة العملية ،عندها فقط يكون الأنموذج المرتكز على التوحيد هو مصدر السعادة وهو القمين بالقيادة وتولى مهام الخلافة بحق .
الخاتمة
وبعد :
فإن الإنسان الذى ينطلق من الإقرار بكلمة التوحيد ،والالتزام بمقتضياتها حتى تغدو << لا إله إلا الله محمد رسول الله >>منهاجاً لحياته وسلوكه ،هذا الإنسان هو الأنموذج الفريد لحياته صورة فريدة ،وحقيقة فريدة ، وسعادة كاملة فريدة ؛صورة حياته كلمة حكيمة مكتوبة بقلم القدرة الإلهية ،يوقن بسر النفخة الروحية فيه ، ويعمل جاهداً للعمل بمتطلبات هذه النفخة من ارتفاع وعلو وتحليق وسمو .
لقد حدد النورسي غايات حياة الإنسان المؤمن تحديداً جلياً ،وبين أن السعى لبلوغ هذه الغايات يجعل الإنسان الأنموذج الفريد صورة لتجليات أسماء الله وصفاته ،بل يجعله مجمع النور الربانى .
إن الإنسان المؤمن بانطلاقه من التوحيد الحق يحقق الحياة الخالدة ،وينعم بسعادة الدنيا إذا أحسن استخدام ما سلحه الله به من أجهزة المعرفة وسبل الهداية .
إن وظيفة الإنسان المؤمن ،إنما هى المعرفة بالله واللجوء إليه واللواذ به ،والاستزادة من العلم بأسمائه وصفاته .
إن حياة الإنسان الأنموذج الموحد هى ترجمة صادقة رائعة للأسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ،وإن سعادة المؤمن تتحقق بتمامها وكمالها حين يحسن فهم الأسماء الحسنى ويدركها ويقيم سلوكه وفقها .
إن القلب المؤمن ليشعر بمذاق خاص للأمور لا يتذوقه غير المؤمن .
المؤمن الموصل بالله يسلم من الاضطراب والتنازع والتنازع وهو أهل للخطاب الإلهى .
أعطى النورسي مفهوماً واضحاً للتوكل وبين تأثيره على سلوك الموحد من حيث تحديه للكائنات كلها باستناده إلى التوكل .
لقد أظهر النورسي <<سر التوحيد >>،وبرهن على أن التوحيد محور للكمالات الإنسانية .
إن الإنسان المؤمن راض ؛لأنه يفوض أمره إلى الله ،قوى لأنه يستمد قوته من التوحيد ،يأنس بمعية الله ويوقن بنصره وتأييده .
إن تحقيق <<السلام >>بمفهومه الحقيقى فى النفوس والواقع والمجتمعات ،مرهون بهذا الإنسان الأنموذج المرتكز على التوحيد ،المؤتمن على أمن البشرية كلها .
الهوامش
(*) بديع الزمان سعيد ميرزا النورسي ،أحد علماء تركيا المعاصرين ،عاش فى الفترة بين
(1873- 1960 م) شهد الحرب العالمية الأولى ،واشترك فيها ضد الروس ،اشتهر بذكائه وقوة حفظه وسعة اطلاعه حتى حفظ أكثر من ثمانين كتاباً من أمهات الكتب الإسلامية ،هز كيانه قول (غلادستون) :
<<مادام هذا القرآن بين المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم ،لذلك لا مناص لنا من أن نزيله … >>فكرس النورسي حياته كلها لإظهار إعجاز القرآن وربط المسلمين بكتاب الله وقال :
<<لأبرهن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ،ولا يمكن إطفاء نورها >>.
وللنورسي رسائل النور أملاها وأراد بها تفسير القرآن ،خاطب بها كافة المستويات كما خاطب جميع لطائف الإنسان ،وامتازت بأن القرآن الكريم هو وحده مصدرها ،وأنها تبرز حقائق القرآن بصفائها الكامل ،وأن صاحبها النورسي كان مخلصاً فيها لله تعالى . وقد تمكن النورسي من تشكيل جماعة لها وجود الواسع فى تركيا تعرف باسم جماعة النور .
(**) جماعة القدس – كلية الدعوة وأصول الدين .
(1) ابن منظور ،جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم ،لسان العرب (6 / 12) .
(2) عبد العزيز ،أمير ،حقوق الإنسان فى الإسلام 1997 – دار السلام – القاهرة (ص 17) .
(3) النورسي ،بديع الزمان 1993 – كليات رسائل النور ،الكلمات الطبعة الثانية (1/ 410) .
(4) النورسي ،بديع الزمان ،كليات رسائل النور ،الكلمات ،(ط2) (1 / 410 – 411) .
(5) النورسي ،بديع الزمان ،كليات رسائل النور ،المكتوبات ،(ط2) (2/ 304 -305) .
(6) النورسي ،بديع الزمان كليات رسائل النور،الكلمات ،(ط2) (1/137) .
(7) النورسي ،بديع الزمان ،كليات رسائل النور ،الكلمات ،(ط2) (1/ 139) .
(8) النورسي ،بديع الزمان ،كليات رسائل النور ،الكلمات ،(ط2) (1/ 138) .
(9) ابن القيم ،محمد بن أبى بكر ،التفسير القيم – 1990 م ،مكتبة الهلال ص 389 .
(10) النورسي ،بديع الزمان ،الكلمات ،ط2 ،(1 / 326 – 363) .
(11) النورسي ،بديع الزمان ،الكلمات ،(1 / 761- 762) .
(12) الميدانى ،عبد الرحمن ،العقيدة الإسلامية وأسسها ،1988 – دار القلم ،دمشق ص 181 .
(13) النورسي ،بديع الزمان ،الكلمات (1/354) .
(14) النورسي ،بديع الزمان ،الكلمات (1 / 139) .
(15) النورسي ،بديع الزمان ،الكلمات (1/ 762) .
(16) النورسي ،بديع الزمان ،المكتوبات (2 / 530) .
(17) النورسي ،بديع الزمان ،المكتوبات (2 / 305) .
(18) آخرجه البخارى (الفتح) (2736) ومسلم (2677) .
(19) البخارى ،دعوات ،رقم الحديث (6410) ،مسلم ،الذكر الدعاء حديث رقم (6809) .
(20) الترمذى ،دعوات ،رقم (3507) .
(21) مسند أحمد (1/ 391) .
(22) الميدانى ،عبد الرحمن ،العقيدة الإسلامية وأسسها (173- 174) .
(23) الميدانى ،عبد الرحمن ،العقيدة الإسلامية – ص 236 – .
(24) البوطى ،محمد سعيد ،مدخل غلى فهم الجذور 1991- دار الفكر ،دمشق – ص 89 – .
(25) الميدانى ،عبد الرحمن ،العقيدة الإسلامية وأسسها 1988 – دار القلم ،دمشق – (220) .
(26) ابن القيم ،مدارج السالكين فى إياك نعبد وإياك نستعين ،1987 ،دار الحديث القاهرة .
(27) النورسي بديع الزمان ،1993 – كليات رسائل النور ،الكلمات ،(4 / 184) .
(28) أخرجه مسلم (ج5 / ص 229) .
(29) النورسي ،الكلمات ،(1 / 350) .
(30) النورسي ،الكلمات ،(1/ 350) .
(31) النورسي ،الكلمات ،(1/352- 354) .
(32) النورسي ،الكلمات ،(1 /759) .
(33) النورسي ،الكلمات ،(1/760) .
(34) سيد ،فى ظلال القرآن (7/ 119) .
(35) زيدان ،عبد الكريم 1976 ،أصول الدعوة (23) الطبعة الثانية .
(36) سيد ،فى ظلال القرآن ،(7 /138) الطبعة 7 ،دار احياء التراث .
(37) سيد ،فى ظلال القرآن ،(8 / 704) .
(38) البوطى ،محمد سعيد رمضان ،مدخل إلى فهم الجذور 1991 – دار الفكر ،دمشق (ص 88) .
(39) القرضاوى ،يوسف ،الإيمان والحياة 1990 – القاهرة ،مكتبة وهبة (ص111- 112) .
(40)النورسي ،الشعاعات (4 / 18) .
(41) النورسي ،الشعاعات (4 / 19) .
(42) النورسي ،الشعاعات (4 / 20) .
(43) النورسي ،الشعاعات ،(4 /20 – 21) .
(44) النورسي ،الكلمات (2/ 428) .
(45) القرضاوى ،يوسف ،الإيمان والحياة (128) .
(46) النورسي ،الكلمات (1/ 761) .
(47) القرضاوى ،يوسف ،الإيمان والحياة (117) .
(48) القرضاوى ،يوسف ،الإيمان والحياة (151) .
(49) النورسي ،الكلمات (1/ 762) .
(50) سيد ،فى ظلال القرآن (5 / 597- 598) .
(51) البوطى ،مدخل إلى فهم الجذور (50) .
(52) البوطى ،مدخل لفهم الجذور (88) .
(51) النورسي ،الشعاعات (4 / 181) .